وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من أصناف النامي، يعنى أن السبب واحد وهو الماء. والمسببات صنوف مفتنة، كما قال يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ
. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات خَضِراً شيئاً غضا أخضر. يقال أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبل. وقِنْوانٌ رفع بالابتداء. ومِنَ النَّخْلِ خبره. ومِنْ طَلْعِها بدل منه، كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: يخرج منه حب متراكب، كان قِنْوانٌ عنده معطوفا على حب. والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنو وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب، لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير دانِيَةٌ سهلة المجتنى(2/51)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
معرضة للقاطف، كالشىء الداني القريب المتناول، ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتى بالثمر لا تنتظر الطول. وقال الحسن: دانية قريب بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة: لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وقوله وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ فيه وجهان، أحدهما: أن يراد: وثم جنات من أعناب، أى مع النخل. والثاني: أن يعطف على قِنْوانٌ على معنى: وحاصلة، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب، أى من نبات أعناب، وقرئ وَجَنَّاتٍ بالنصب عطفاً على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أى: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ لفضل هذين الصنفين مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يقال اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً. وقرئ: متشابها وغير متشابه. وتقديره: والزيتون متشابها وغير متشابه، والرمّان كذلك كقوله:
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَىَّ بَرِيّا
والمعنى: بعضه متشابها وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليل على التعمد دون الإهمال انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا ضعيفاً لا يكاد ينتفع به. وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال. وقرئ وَيَنْعِهِ بالضم. يقال: ينعت الثمرة ينعاً وينعاً. وقرأ ابن محيصن: ويانعه. وقرئ: وثمره، بالضم.
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
إن جعلت لِلَّهِ شُرَكاءَ مفعولي جعلوا، نصبت الجن بدلا من شركاء، وإن جعلت لِلَّهِ لغوا كان شُرَكاءَ الْجِنَّ مفعولين قدّم ثانيهما على الأول. فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت:
فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك مَن كان ملكا أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك. ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء. وقرئ الجن بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين. والمعنى أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل: هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ وَخَلَقَهُمْ وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق(2/52)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
شريكا للخالق. وقيل: الضمير للجن. وقرئ: وخلقهم، أى اختلاقهم الإفك، يعنى: وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها، وَخَرَقُوا لَهُ وخلقوا له، أى افتعلوا له بَنِينَ وَبَناتٍ وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه، بمعنى: وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها: كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه، أى اشتقوا له بنين وبنات، وقرئ: وخرّقوا بالتشديد للتكثير، لقوله بَنِينَ وَبَناتٍ وقرأ ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما: وحرّفوا له، بمعنى: وزوّروا له أولاداً لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة. من غير فكر وروية.
[سورة الأنعام (6) : آية 101]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
بَدِيعُ السَّماواتِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلان بديع الشعر، أى بديع شعره. أو هو بديع في السموات والأرض، كقولك: فلان ثبت الغدر، أى ثابت فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها. وقيل: البديع بمعنى المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أو فاعل تعالى: وقرئ بالجرّ ردّاً على قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ أو على سُبْحانَهُ. وبالنصب على المدح، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه، أحدها: أن مبتدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والداً. والثاني:
أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة. والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج. وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء.
وإنما جاز للفصل كقوله:
لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سُوءِ «1»
__________
(1) .
لقد ولد الأخيطل أم سوء ... على يأب استه صلب وشام
لجرير يهجو الأخطل. والأخيطل: تصغير الأخطل. وأم سوء- بالاضافة-: فاعل، فكان حق الفعل التأنيث، لكن سوغ تركه الفصل بالمفعول. والاست- بوصل الهمزة- الدبر. والصلب: جمع صليب. والشام اسم جمع شامة، وهي العلامات والنفوش. وكان الأخطل- وهو غياث بن غوث- من نصارى العرب. ويروى «على باب استها» أى الأم. وهو أقعد في المعنى، وأشنع في هتك الحرمة.(2/53)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
[سورة الأنعام (6) : آية 102]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
ذلِكُمُ إشارة إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أى ذلك الجامع لهذه الصفات فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يعنى وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.
[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
البصر: هو الجوهر اللطيف «1» الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات. فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعال أن يكون مبصراً «2» في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا، كالأجسام والهيئات وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك وَهُوَ اللَّطِيفُ يلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.
[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
__________
(1) . قال محمود: «البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله تعالى في حاسة النظر به تدرك ... الخ» قال أحمد:
وقد سلف الكلام على هذه الآية في غير موضعها، لأن المصنف تعجل الكلام عليها قبل، والذي يريده الآن أن الإدراك عبارة عن الاحاطة، ومنه: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أى أحاط به، وإِنَّا لَمُدْرَكُونَ أى محاط بنا، فالمنفى إذاً عن الأبصار إحاطتها به عز وعلا لا مجرد الرؤية، ثم إما أن نقتصر على أن الآية لا تدل على مخالفتنا، أو تزيد فنقول، بدل لنا أن تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك، وأقله مجرد الرؤية، كما أنا نقول: لا تحيط به الأفهام وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكل مؤمن، فالاحاطة للعقل منفية كنفى الاحاطة للحس، وما دون الاحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي. ولم يذكر الزمخشري على إحالة الرؤية عقلا دليلا ولا شبهة فيحتاج إلى القدح فيه ثم معارضته بأدلة الجواز، ولكنه اقتصر على استبعاد أن يكون المرئي لا في جهه، فيقتصر معه على إلزامه استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ اتباع الرهم يبعدهما جميعاً، والانقياد إلى العقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معاً. وهذا القدر كاف بحسب ما أورده في هذا الوضع، والله الموفق.
(2) . قوله «لأنه متعال عن أن يكون مبصراً» استحالة الرؤية مذهب المعتزلة، لظاهر هذه الآية. وجوازها مذهب أهل السنة لقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكل يؤول مستند الآخر. وتحقيقه في التوحيد. (ع)(2/54)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أى جاءكم من الوحى، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر فَمَنْ أَبْصَرَ الحق وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر وإياها نفع وَمَنْ عَمِيَ عنه فعلى نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
وَلِيَقُولُوا جوابه محذوف تقديره. وليقولوا درست تصرّفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت. وقرئ: دارست، أى دارست العلماء. ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا: أساطير الأولين، ودرست بضم الراء، مبالغة في درست، أى اشتدّ دروسها. ودرست- على البناء للمفعول- بمعنى قرئت أو عفيت. ودارست. وفسروها بدارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم. ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أى دارس أهل الآيات وحملتها محمداً، وهم أهل الكتاب. ودرس أى درس محمد. ودارسات، على: هي دارسات، أى قديمات. أو ذات دروس، كعيشة راضية. فإن قلت: أى فرق بين اللامين في لِيَقُولُوا، وَلِنُبَيِّنَهُ؟ قلت: الفرق بينهما أنّ الأول مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه: فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله وَلِنُبَيِّنَهُ؟ قلت: إلى الآيات لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نصرف القرآن. أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيداً. ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست:
درست الكتاب ودراسته، فيرجع إلى الكتاب المقدّر.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكذبه إيجاب اتباع الوحى لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالا من ربك، وهي حال مؤكدة كقوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً.(2/55)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
وَلا تَسُبُّوا الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سببا لسب الله تعالى.
فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهى عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟
قلت: ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهى عن المنكر هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّى إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهى عن ذلك النهى. كما يجب النهى عن المنكر. فإن قلت: فقد روى عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا ممن نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهن يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن.
عَدْواً ظلماً وعدواناً. وقرئ عدوّاً بضم العين وتشديد الواو بمعناه. يقال: هذا فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداء. وعن ابن كثير: عدوّاً، بفتح العين بمعنى أعداء بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم، أو خليناهم وشأنهم «1» ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم: أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم. وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا فَيُنَبِّئُهُمْ فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 109]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وهو قادر
__________
(1) . قوله «أو خليناهم وشأنهم» فسر التزيين بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، ويخلق الشر والخير عند أهل السنة. (ع)(2/56)
عليها، ولكنه لا ينزلها الا على موجب الحكمة «1» . أو إنما الآيات عند الله لا عندي. فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم أَنَّها أن الآية التي تقترحونها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها. فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق على به من أنهم لا يؤمنون به.
ألا ترى إلى قوله كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وقيل: «أنها» بمعنى «لعلها» من قول العرب: ائت السوق أنك تشترى لحماً. وقال امرؤ القيس:
عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام «2»
وتقويها قراءة أبىّ: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرئ بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى:
وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة. ومنهم
__________
(1) . قال محمود: «يعنى أن الله تعالى قادر على أن ينزل الآيات ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة ... الخ» قال أحمد: ومحز النظر في الآية يتضح بمثال، فنقول: إذا قال لك القائل «أكرم فلانا فانه يكافئك» وكنت أنت تعلم منه عدم المكافأة، فإذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أنى إذا أكرمته يكافئنى؟ فأنكرت عليه إثباته المكافأة وأنت تعلم نفيها، فان انعكس الأمر فقال لك: «لا تكرمه فانه لا يكافئك» وكنت تعلم منه المكافأة فأنكرت على المشير بحرمانه قلت: وما يدريك أنه لا يكافئنى؟ تريد: وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى الإنكار على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المفترحة أن يقال: وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، كما تقول في المثال منكراً على من أثبت المكافأة وأنت تعلم خلافها، وما يدريكم أنه يكافئنى؟
بإسقاط «لا» وإن أثبتها انعكس المعنى، إلى أن المعلوم لك الثبوت وأنت تنكر على من نفى، فلما جاءت الآية تفهم ببادئ الرأى أن الله تعالى علم الايمان منهم وأنكر على المؤمنين نفيهم له والواقع على خلاف ذلك، اختلف العلماء، فحمل بعضهم «لا» على الزيادة، وبعضهم أول «أن» بلعل، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف. وقد تفتح «أن» بعد القسم فقال التقدير: والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وأما الزمخشري فتفطن لبقاء الآية على ظاهرها وقرارها في نصابها من غير حذف ولا تأويل فقال قوله السالف، ونحن نوضح اطراده في المثال المذكور ليتضح بوجهيه في الآية، فنقول: إذا حرمت زيداً لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام بناء على أن المشير يظن المكافأة، تلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة نعذره في عدم العلم بما أحطت به علماً، فان أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه يكافئ؟ وإن عذرته في عدم عليه بأنه لا يكافئ قلت: وما يدريك أنه لا يكافئ؟ يعنى ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته وانت لم تخبر أمره خبرى، فكذلك الآية، إنما ورد فيها الكلام قامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى وهو عدم إيمان هؤلاء، فاستقام دخول «لا» وتعين وتبين أن سبب الاضطراب التباس الإنكار باقامة الأعذار. والله الموفق للصواب.
(2) . لامرئ القيس. والعوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجدة إلى صفة البلى، أو الذي أصابه المحل والاقفار. هذا وفي الصحاح: أحال الشيء إذا أتى عليه الحول. ومنه الطلل المحيل، فهو اسم فاعل وهو الوجيه، ولأننا: بفتح اللام والهمزة، بمعنى لعلنا. قال في التسهيل: في لعل عشر لغات، وعد منها أن المفتوحة، ولأن. وابن خذام بمعجمتين أول من بكى الديار من شعراء العرب، وكان طبيبا حاذقا يضرب به المثل في الطب. [.....](2/57)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح وقرئ: وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون. أى يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها. وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها.
[سورة الأنعام (6) : آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ... وَنَذَرُهُمْ عطف على يؤمنون، داخل في حكم وما يشعركم، بمعنى:
وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم: أى نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا. أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أى نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا «1» فيه. وقرئ: ويقلب. ويذرهم بالياء أى الله عزّ وجلّ. وقرأ الأعمش: وتقلب أفئدتهم وأبصارهم، على البناء للمفعول.
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا كما قالوا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا قبلا كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعات. وقيل قُبُلًا مقابلة. وقرئ قُبُلًا أى عيانا «2» إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مشيئة إكراه واضطرار «3» وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيقسمون
__________
(1) . قوله «حتى يعمهوا فيه» أى يتحيروا. (ع)
(2) . قوله «وقرئ قبلا أى عيانا» في الصحاح: رأيته قبلا وقبلا- بالضم- أى مقابلة وعيانا. ورأيته قبلا- بكسر القاف- قال الله تعالى أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أى عيانا. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار ... الخ قال أحمد: بل المراد إلا أن يشاء الله منهم اختيار الايمان، فانه تعالى لو شاء منهم اختيارهم للايمان لاختاروه وآمنوا حتما. ما شاء الله كان. والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في اعتقاده أن الله تعالى شاء منهم الايمان اختياراً فلم يؤمنوا، إذ لا يجب على زعم طائفته نفوذ المشيئة، ولا يطلقون القول كما أطلقه سلف هذه الأمة وحملة شريعتها. من قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل يقولون إن أكثر ما شاءه لم يقع، إذ شاء الايمان والصلاح من جميع الخلق، فلم يؤمن ويعمل الصالح إلا القليل، وقليل ما هم. وهذا كله مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، فإذا صد منهم مثل هذه الآية بالرد تحيلوا في المدافعة بحمل للمشيئة المنفية على مشيئة القسر والاضطرار، وإنما لم يتم لهم ذلك أن لو كان القرآن يتبع الآراء، وأما وهو القدوة والمتبوع، فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فالى النار، وما بعد الحق إلا الضلال، والله الموفق للصواب.(2/58)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات. أو ولكنّ أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرّهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.
[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا وكما خلينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر. وكثرة الثواب والأجر. وانتصب شَياطِينَ على البدل من عدوّا. أو على أنهما مفعولان كقوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس. وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار: إنّ شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجنّ، لأنى إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عنى، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّنى إلى المعاصي عيانا زُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه غُرُوراً خدعا وأخذاً على غرّة وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ ما فعلوا ذلك، أى ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف الفول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
وَلِتَصْغى جوابه محذوف تقديره: وليكون ذلك جعلنا لكل نبىّ عدوّاً، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر. والضمير في إِلَيْهِ «1» يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه، أى ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أَفْئِدَةُ الكفار وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.
[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
__________
(1) . قوله «والضمير في إليه» أى في قوله تعالى وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ. (ع)(2/59)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً على إرادة القول، أى قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكما يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ المعجز مُفَصَّلًا مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء. ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أو فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به. ويجوز أن يكون فَلا تَكُونَنَّ خطاباً لكل أحد، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمترى فيه أحد. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاباً لأمته «1»
[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أى تم كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل. وصدقا وعدلا. نصب على الحال. وقرئ: كلمة ربك، أى ما تكلم به. وقيل: هي القرآن.
[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أى من الناس أضلوك، لأنّ الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدّرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 117 الى 119]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
__________
(1) . قوله «خطابا لأمته» لعله «خطاب» . (ع)(2/60)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وقرئ مَنْ يَضِلُّ بضم الياء أى يضله الله فَكُلُوا مسبب عن إنكار اتباع المضلين، الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال. وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا وأى غرض لكم في أن لا تأكلوا وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ وقد بين لكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مما لم يحرّم وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وقرئ: فصل لكم ما حرّم عليكم على تسمية الفاعل، وهو الله عزّ وجلّ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرّم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ قرئ بفتح الياء وضمها، أى يضلون فيحرّمون ويحللون بِأَهْوائِهِمْ وشهواتهم من غير تعلق بشريعة.
[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السرّ.
[سورة الأنعام (6) : آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهى، يعنى وإنّ الأكل منه لفسق. أو إلى الموصول على: وإنّ أكله لفسق، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقا. فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل «1» ما لم يذكر اسم الله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد ... الخ» قال أحمد: مذهب مالك وأبى حنيفة واه في أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل. سواء كان تهاونا أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك تسميته، والآية تساعد مذهب الإمامين مساعدة بينة، فانه ذكر عقيب غير المسمى عليه قوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وذلك إن كان عبارة عن فعل المكلف وهو إهمال التسمية، أو تسمية غير الله فلا يدخل النسيان، لأن الناسي غير مكلف فلا يكون فعله فسقا ولا هو فاسق، وإن كان نفس الفسق الذبيحة التي لم يسم عليها ولم يكن مصدرا، فإنما تسمى الذبيحة فسقا نقلا لهذا الاسم من المصدر إلى الذات فالذبيحة التي تركت التسمية عليها نسيانا لا يصح أن تسمي فسقا، إذ الفعل الذي ينقل منه هذا الاسم ليس بفسق، فإذا تمهد ذلك فاما أن يقول: لا دليل في الآية على تحريم منسى التسمية، فبقى على أصل الاباحة. أو يقول: فيها دليل على إباحته من حيث مفهوم تخصيص النهى بما هو فسق، فما ليس بفسق ليس بحرام. وهذا النظر يسند إذا لم تكن الميتة متناولة في هذه الآية. وأما إذا أثبت أنها مرادة، تعين صرف الفسق إلى الآكل والمأكول، وكان الضمير من قوله وَإِنَّهُ عائداً إلى المصدر المنهي عنه، أو إلى الموصول. وحينئذ يندرج المنسى في النهى ولا يستقيم، على أن الميتة مندرجة كاندراج المنسى، لأن الوجه الذي به تندرج الميتة هو الوجه الذي به يندرج المنسى، إذ يكون الفسق إما للأكل، وإما للمأكول نقلا من الأكل، ولا ينصرف إلى غير ذلك، لأن الميتة لم يفعل المكلف فيها فعلا يسمى فسقا سوى الأكل، والمنسى تسميتها لا يستقيم أن يسمى الذبح فيها فسقا لأجل النسيان، فيتعين صرفه إلى الأكل. ومن ثم قوى عند الزمخشري تعميم التحريم حتى في المنسى، لأنه يرى أن الميتة مرادة من الآية ولا بد، إذ هي سبب نزول الآية. والتحقق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وإذا ثبت اندراج الميتة لزم اندراج المنسى كما تقدم. وحينئذ يضطر مبيح المنسى إلى مخصص، فيتمسك بقوله عليه الصلاة والسلام «ذكر الله على قلب كل مؤمن من سمى أو لم بسم» وكان الناسي ذاكراً حكما وإن لم يكن ذاكرا وجودا، وهذا عند التحقيق ليس بتخصيص، ولكن منع لاندراج الناسي في العموم وسنده الحديث المذكور. ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوى تناوله للسبب حتى ينهض الظاهر فيه نصا، إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط عن أمالى الظواهر فيه، ويكتفى من معارضته بما لا يكتفى به منه لولا السبب، وهذا البحث متطلع بفنون شتى على نكت بديعة، والله الموفق للصواب.(2/61)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
عليه بنسيان أو عمد. قلت: قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه «1» : كقوله أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَيُوحُونَ ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم: ولا تأكلوا مما قتله الله. وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به. ومن حق ذى البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان، لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله مرخصا في النسيان دون العمد، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدى والضال، بمن كان ميتا فأحياه الله وجعل له نوراً يمشى به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كمن صفته هذه وهي قوله فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ
__________
(1) . قوله «وبما ذكر غير اسم الله عليه» لعله «اسم غير الله» . (ع)(2/62)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
أى صفتها هذه، وهي قوله فِيها أَنْهارٌ. زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ أى زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا على قوله زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ويدل عليه قوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها يعنى: وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه: خليناهم ليمكروا «1» وما كففناهم عن المكر، وخص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله أَمَرْنا مُتْرَفِيها
وقرئ: أكبر مجرميها، على قولك: هم اكبر قومهم، وأكابر قومهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ مكرهم يحيق بهم.
وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم. روى أن الوليدين المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك، لأنى أكبر منك سناً وأكثر منك مالا.
وروى أن أبا جهل قال: زاحمنا بنى عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا:
منا نبىّ يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت.
ونحوها قوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً.
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
اللَّهُ أَعْلَمُ كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفى للنبوّة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا من أكابرها صَغارٌ وقماءة «2» بعد كبرهم وعظمتهم وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
__________
(1) . قوله «ومعناه خليناهم ليمكروا» أو له بذلك لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة ويخلقه كالخير عند أهل السنة، وكذا قوله تعالى وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ... الخ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً. (ع)
(2) . قوله و «قماءة» أى ذل، (ع)(2/63)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أن يخذله ويخليه وشأنه «1» ، وهو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الإيمان. وقرئ ضَيِّقاً بالتخفيف والتشديد حَرَجاً بالكسر، وحرجا- بالفتح- وصفاً بالمصدر كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كأنما يزاول أمراً غير ممكن، لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقرئ: يصعد، وأصله يتصعد. وقرأ عبد الله: يتصعد. ويصاعد. وأصله: يتصاعد ويصعد، من صعد. ويصعد من أصعد يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يعنى الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب. أو أراد الفعل المؤدّى إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب وَهذا صِراطُ رَبِّكَ وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان مُسْتَقِيماً عادلا مطرداً، وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لَهُمْ لقوم يذكرون دارُ السَّلامِ دار الله، يعنى الجنة أضافها إلى نفسه تعظيما لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر عِنْدَ رَبِّهِمْ في ضمانه، كما تقول: لفلان عندي حق لا ينسى، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ مواليهم ومحبهم «أو ناصرهم على أعدائهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاه ما كانوا يعملون.
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ منصوب بمحذوف، أى واذكر يوم نحشرهم، أو ويوم نحشرهم قلنا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان مالا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أى انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات
__________
(1) . قوله «أن يخذله ويخليه وشأنه» فسر الإضلال بذلك، لأنه تعالى لا يفعل الشر عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فيفعله كالخير، وكذا يقال في قوله «يمنعه ألطافه» . (ع)(2/64)
وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل استمتاع الإنس بالجن ما في قوله وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعنى به كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعترف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنون يوم البعث. وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أى يخلدون في عذاب النار الأبد كله «1» ، إلا ما شاء الله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور «2» الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه.
أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر
__________
(1) . قال محمود: «معنى هذا الاستثناء أنهم يخلدون في عذاب النار الأبد كله ... الخ» قال أحمد: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعياً، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة لأنهم لا يخلدون، وهذا تأويل أهل السنة. وقد غلط الزمخشري في إنكاره في آية هود وتناهى إلى ما نعوذ بالله منه، فقدح في عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه راوى الحديث الشاهد لهذا التأويل، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القدح في مثل عبد الله وهو من جلة الصحابة رضوان الله عليهم وفقهائهم وزهادهم. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أى مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك. وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد- والله أعلم- إلا ما شاء من زيادة العذاب، ولم يبين وجه استقامة الاستثناء، والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب- والعياذ بالله- على درجات متفاوتة، فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب، إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد ليس من جنس العذاب وخارجة عنه، والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل برب وقد، وهما موضوعان لضرر الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:
لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم ... إلى المنتهى ومن السرور يكاد
فكان هؤلاء إذا بلغوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير، وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنه ما يؤيده، والله الموفق.
(2) . قوله «قوله الموتور» الموتور: المظلوم. (ع)(2/65)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة عَلِيمٌ بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.
[سورة الأنعام (6) : آية 129]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.
[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله لَمْ يَأْتِكُمْ
لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم. وقولهم هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها. فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ قلت:
تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.(2/66)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 132]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدإ محذوف: أى الأمر ذلك. وأَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى تعليل، أى الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن «أن» هي التي تنصب الأفعال. ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلا من ذلك، كقوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ، بِظُلْمٍ بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالما، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح وَلِكُلٍّ من المكلفين دَرَجاتٌ منازل مِمَّا عَمِلُوا من جزاء أعمالهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن عباده وعن عبادتهم ذُو الرَّحْمَةِ يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم المنافع الدائمة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق المطيع كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
«المكانة» تكون مصدراً يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال:
مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا(2/67)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أى اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إِنِّي عامِلٌ أى عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وهي التخلية، والتسجيل على المأمور «1» بأنه لا يأتى منه إلا الشر، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه. فإن قلت: ما موضع مَنْ؟ قلت الرفع إذا كان بمعنى «أى» وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى «الذي» وعاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدّة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محق والمنذر مبطل.
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله، وأشياء منها لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنىّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها: وقوله مِمَّا ذَرَأَ فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكية بِزَعْمِهِمْ وقرى بالضم، أى قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أى لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك ساءَ ما يَحْكُمُونَ في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
__________
(1) . قوله «والتسجيل على المأمور» في الصحاح «السجل» الصك. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وفيه أيضا: هي مسجلة البر والفاجر. قال الأصمعي: أى مرسلة، يقال أسجلت الكلام أى أرسلته. (ع)(2/68)
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى والآلهة، أو ومثل ذلك التزيين البليغ «1» الذي هو علم من الشياطين. والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم «2» بالوأد، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية
__________
(1) . قوله «ومثل ذلك التزيين البليغ الذي» لعله التزيين الذي. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «المعنى أن شركاءهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: لقد ركب المصنف في هذا الفصل متن عمياء، وتاه في تيهاء. وأنا أبرأ إلى الله وأبرئ حملة كتابه وحفظة كلامه مما رماهم به «فانه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهاداً، لا نقلا وسماعا فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في شركائهم، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب أولادهم بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معاً فقرأه منصوبا، قال المصنف: وكانت له مندوحة عن نصبه إلى جره بالاضافة وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه يعنى ابن عامر من الفصل بين المضاف والمضاف إليه الذي يسمج في الشعر فضلا عن النثر فضلا عن المعجز. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه والفصيح سواه، ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد والفعل بين المضاف والمضاف إليه، بها يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل كما أنزلها عليه كذلك، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها ويقرؤن بها خلفاً عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر فقرأها أيضاً كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم.
فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فان المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين، أعنى علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوى الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وأنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة وزلة منكرة تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة فيها ما ليس متواتراً، فان هذا القائل لم يثبتها بغير النقل.
وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأى غير موقوفة على النقل.
وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالى في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية حتى يرد ما خالفها، ثم إذا تنزل معه على اطراد القياس الذي ادعاه مطرداً، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه وإن كان عسراً، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل، وهو أن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة حتى قال بعض النحاة:
إن إضافته ليست محضة لذلك. فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره. وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره لما بيناه من انفكاكه في التقدير وعدم توغله في الاتصال بأن يفصل بينه وبين المضاف إليه بما ليس أجنبياً عنه، وكأنه بالتقدير فكة بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل وأضافه إلى الفاعل وبقي المفعول مكانه حين الفك، ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر، إذ تارة يضاف إلى الفاعل وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوى به التأخير، فكأنه لم يفصل، كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته، لأن النية به التأخير. وأنشد أبو عبيدة
فداسهم دوس الحصاد الدائس
وأنشد أيضاً:
يفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج
ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقوى عدم توغله في الاضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعاً ونصباً، فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد منظرة. بشواهد من أقيسة العربية. تجمع شمل القوانين النحوية لهذه القراءة، وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربة، بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا القدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما والله الموفق. وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة، إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته، ولا مستبعد من القياس، ولم يفرده في الدلالة المذكورة إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل، فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة، والله الموفق.(2/69)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
يحلف: لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب. وقرئ: زين، على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم، ونصب قَتْلَ أَوْلادِهِمْ وزين، على البناء للمفعول الذي هو القتل، ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين، كأنه قيل: لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟
فقيل: زينه لهم شركاؤهم. وأما قراءة ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج وردّ.
زجّ القلوص أبى مزاده «1»
فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء- لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم- لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وليخلطوا، عليهم ويشبهوه. ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناه وليوقعوهم في دين ملتبس. فان قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر ما فَعَلُوهُ لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل. أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الاشارة وَما يَفْتَرُونَ وما يفترونه من الإفك. أو وافتراؤهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
__________
(1) .
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبى مزاده
الزج: الطعن: والمزجة: الرمح القصير، لأنه آلة للزج. والقلوص: الناقة الشابة، وهو مفعول فاصل بين المضاف والمضاف إليه شذوذاً. يقول: فطعنت الناقة أو الجماعة برمح قصير، كطعن أبى مزادة القلوص في السير.(2/70)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
حِجْرٌ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات: وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء.
وقرأ ابن عباس: حرج، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى:
أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله. فجعلوها أجناسا بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله افْتِراءً عَلَيْهِ أى فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء- تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وانتصابه على أنه مفعول له: أو حال، أو مصدر مؤكد، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء.
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث خالِصَةٌ للحمل على المعنى، لأنّ ما في معنى الأجنة «1» وذكر مُحَرَّمٌ للحمل على اللفظ. ونظيره وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر. وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص، كالعاقبة أى ذو خالصة. ويدل عليه قراءة من قرأ خالِصَةٌ بالنصب على أنّ قوله لِذُكُورِنا هو الخبر، وخالصة مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالا متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس: خالصة على الإضافة.
وفي مصحف عبد الله: خالص. وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرئ: وإن
__________
(1) . قال محمود: «وأنث خالصة للحمل على المعنى لأن ما في معنى الأجنة ... الخ» قال أحمد: ليسا سواء، لأنه في الآية الأولى رجوع إلى اللفظ بعد المعنى وفيه إجمال، وبينهما بون اقتضى أن أنكر جماعة من متأخرى الفن وقوعه في الكتاب العزيز، وادعوا أن جميع ما ورد فيه يعود على المعنى بعد اللفظ، وقد التزم غيرهم إجازة ذلك، وعدوا في الكتاب العزيز منه موضعين يمكن صرف الكلام فيهما إلى غير الموصول. وعلى الجملة فالحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل. وقد ذكر المصنف وجهين آخرين سوى ذلك فقال: ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة مثلها في راوية الشعر، وأن يكون مصدرا وقع موقع الخالص كالعافية أى ذو خالصة. وبدل عليه قراءة من قرأ خالصة بالنصب، على أن قوله لِذُكُورِنا هو الخبر، وخالِصَةٌ مصدر مؤكد. ولا يجوز أن يكون حالا متعدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله، ولقد أحسن في الاحتراز بمنع الحال من المجرور حتى يتعين المصدر.(2/71)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
تكن، بالتأنيث، على: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ أهل مكة: وإن تكن ميتة بالتأنيث والرفع على كان التامّة وتذكير الضمير في قوله فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى، فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أى، زاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ.
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
نزلت في ربيعة ومضر والرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفة أحلامهم، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم، لا هم. وقرئ «قتلوا» بالتشديد ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب وغيرها.
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ من الكروم مَعْرُوشاتٍ مسموكات «1» وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل: المعروشات» ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مما أنبته وحشياً في البراري والجبال. فهو غير معروش. يقال: عرّشت الكرم، إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان. وسقف البيت: عرّشه مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ «أكله» بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. ومختلفاً: حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ. وقرئ «ثمره» بضمتين. فإن قلت: ما فائدة قوله إِذا أَثْمَرَ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: إذا أثمر، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على
__________
(1) . قوله «مسموكات» أى مرفوعات. وفي الصحاح «سمك الله السماء» رفعها. والسمك: السقف. (ع)(2/72)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر، ونصف العشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة. ومعناه: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء وَلا تُسْرِفُوا في الصدقة كما روى عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات. أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل: «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل، «والفرش» الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشاً اثْنَيْنِ زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز- والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمى كل واحد منها زوجاً، وهما زوجان، بدليل قوله خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى والدليل عليه «1» قوله تعالى ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة
__________
(1) . قوله «والدليل عليه» عبارة النسفي: ويدل عليه. (ع)(2/73)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
كأساً بشرط أن يكون فيها خمر. والضأن والمعز جمع ضائن وما عز، كتاجر وتجر. وقرئا بفتح العين. وقرأ أبىّ. ومن المعزى. وقرئ: اثنان، على الابتداء.
الهمزة في آلذَّكَرَيْنِ للإنكار والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من العز.
وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام «1» تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبرونى بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرّمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّ الله حرّمه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة الإنكار، يعنى أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون: الله حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم لِيُضِلَّ النَّاسَ وهو عمرو بن لحى بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبى من المعدود. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس مُحَرَّماً طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أى مصبوباً سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح
__________
(1) . قوله «ذكورة الأنعام» يجمع الذكر على ذكارة كحجارة، وذكور وذكران. هذا ما في الصحاح، لكن عبارة النسفي كعبارة المصنف، فحرر. (ع)(2/74)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
أَوْ فِسْقاً عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق.
ومنه قوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأهل: صفة له منصوبة المحل.
ويجوز أن يكون مفعولا له من أهلّ، أى أهلّ لغير الله به فسقاً. فإن قلت: فعلام تعطف أُهِلَّ؟ وإلام يرجع الضمير في بِهِ على هذا القول؟ قلت: يعطف على يكون، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات غَيْرَ باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته وَلا عادٍ متجاوز قدر حاجته من تناوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 147]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
«ذو الظفر» ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالا لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقوله وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط. والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب «1» وشحوم الكلى.
وقوله إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعنى إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة «2» أَوِ الْحَوايا أو اشتمل على الأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الإلية. وقيل الْحَوايا عطف على شحومهما. و «أو» بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين ذلِكَ الجزاء جَزَيْناهُمْ وهو تحريم الطيبات بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم «3» وَإِنَّا لَصادِقُونَ
فيما أوعدنا
__________
(1) . قوله «الثروب» هي شحوم رقيقة قد غشيت الكرش والأمعاء، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «من السحقة» السحقة: الشحمة الملتزقة بالجلد على الظهر من الكتف إلى الورك، نقله في الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: معناه ذلك الجزاء جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم ... الخ» قال أحمد: هذه الآية وردت فيمن كفر وافترى على الله ووعيد الكافر باتفاق واقع به غير مردود عنه. وأهل السنة وإن قالوا: يجوز العفو عن العاصي الموحد، فلا يقولون إن ذلك حتم، ولا يلزمهم ذلك، لأن الله تعالى حيث توعد المؤمنين العصاة، علق حلول الوعيد بهم بالمشيئة، وأخبر أنه يغفر لمن يشاء منهم، فمن ثم اعتقدنا أن كل موحد عاص في المشيئة، وحيث أطلق وعيدهم في بعض الظواهر فهو محمول على المقيد، فلا يلزمهم حينئذ اعتقاد الخلف في الخبر. والزمخشري إنما يدندن حول إلزامهم ذلك وأنى له.(2/75)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب. فَإِنْ كَذَّبُوكَ في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً فَقُلْ لهم رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لأهل طاعته وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ مع سعة رحمته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 149]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إخبار بما سوف يقولونه، «1» ولما قالوه قال وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعنون بكفرهم وتمردهم «2» . أن شركهم وشرك
__________
(1) . قال محمود: «هذا إخبار بما سوف يقولونه ... الخ» قال أحمد: وفائدته توطين النفس على الجواب ومكافحتهم بالرد وإعداد الحجة قبل أوانها، كما قال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ.
(2) . عاد كلامه. قال: فلما وقع ذلك منهم قال وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعنون بكفرهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله: قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية، وأوضحنا أن الرد عليهم، إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ثم أوضح تعالى أن كل شيء واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون، بقوله فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها، وهم الفرقة المعروفون بالمجبرة. والمصنف يغالط في الحقائق فيسمى أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختياراً وقدرة، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا- إلى قوله- قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين، فلم تقع من أكثرهم. ووجه الرد أن «لو» إذا دخلت على فعل مثبت نفته، فيقتضى ذلك أن الله تعالى لما قال فَلَوْ شاءَ لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم، ولو شاءها لوقعت، فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم، فإذا ثبت اشتمال الاية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها، فان أولها كما بينا يثبت للعبد اختياراً وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الالهية خيراً أو غيره، وذلك عين عقيدتهم، فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة، يسلبون تأثيرها ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضاً وقدرته في أفعال عباده، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز، يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤبدون بالعقل والنقل، والله الموفق.(2/76)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله، بمشيئة الله وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه «1» كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى جاءوا بالتكذيب المطلق، لأنّ الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ لَنا وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في قولكم هذا وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرئ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالتخفيف قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يعنى فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم «2» فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.
[سورة الأنعام (6) : آية 150]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
هَلُمَّ يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين. وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى: هاتوا شهداءكم وقرّبوهم. فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين
__________
(1) . قوله «كمذهب المجبرة بعينه» يعنى أهل السنة، من أن كل كائن فهو مراد له تعالى ولو شراً. وتحقيق الفرق بينه وبين قول المشركين في علم التوحيد، ويكفى فيه أن قولهم من باب التهكم، كما قالوا لما قيل لهم أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. (ع)
(2) . قوله «على قود مذهبكم» لعله من قاد الفرس ونحوه قوداً، إذا جره بسهولة، أى على طبق مذهبكم، أى على مقتضاه وما يؤدى إليه. (ع)(2/77)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت: أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل، ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء، لتساوى أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم وكان واحداً منهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات موحداً لله تعالى. فإن قلت: هلا قيل: قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا؟ «1» وأى فرق بينه وبين المنزل؟ قلت: المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم، وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم، ليهدم ما يقومون به يحق الحق ويبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك، وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم، والدليل عليه قوله تعالى فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ولو قيل: هلم شهداء يشهدون، لكان معناه هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض. ويناقضه قوله تعالى فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ.
[سورة الأنعام (6) : آية 151]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
«تعالى» من الخاص الذي صار عاما. وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. وما حَرَّمَ منصوب بفعل التلاوة، أى أتل الذي حرمه ربكم.
أو يحرم بمعنى: أقل أىّ شيء حرّم ربكم، لأن التلاوة من القول، و «أن» في أَلَّا تُشْرِكُوا مفسرة
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت هلا قيل قل هلم شهداء يشهدون أن الله حرم هذا وأى فرق بينه وبين المنزل ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ووجه مناقضته له أنه لو قيل على خلاف المنزل، وهو قوله: هلم بشهداء يشهدون، يفهم أن الطالب للشهداء ليس على تحقيق من أن ثم شهداء، كما يقول الحاكم للمدعى: هات بينة تشهد بذلك، فهو لا يتحقق أن للمدعى بينة، ثم يكون قوله فَإِنْ شَهِدُوا تحقيقاً لأن ثم شهداء، فالجمع بينهما متناقض كما ترى، والله الموفق. [.....](2/78)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
و «لا» للنهى. فإن قلت: هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلا من ما حَرَّمَ؟
قلت: وجب أن يكون أَلَّا تُشْرِكُوا ولا تَقْرَبُوا ولا تَقْتُلُوا ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ نواهى لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وَأَوْفُوا
، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
. فإن قلت: فما تصنع بقوله وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما؟ قلت: أجعل قوله وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم. فإن قلت: إذا جعلت أَنَّ مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم ربكم، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرما كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهى، فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهنّ جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان. وترك العدل في القول، ونكث عهد الله مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ مثل قوله ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. إِلَّا بِالْحَقِّ كالقصاص، والقتل على الردّة، والرجم.
[سورة الأنعام (6) : آية 152]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه بِالْقِسْطِ
بالسوية والعدل، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك، لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجرى فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوّ عنه وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ(2/79)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وقرئ: وأن هذا صراطي مستقيما، بتخفيف «أن» وأصله: وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش: وهذا صراطي. وفي مصحف عبد الله: وهذا صراط ربكم. وفي مصحف أبىّ: وهذا صراط ربك وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرقكم أيادى سبا عَنْ سَبِيلِهِ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام. وقرئ: فتفرق بإدغام التاء. وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»
، ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب. وقيل: إنهنّ أمّ الكتاب، ومن عمل بهنّ دخل الجنة، ومن تركهنّ دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة. فإن قلت: علام عطف قوله ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قلت: على وَصَّاكُمْ بِهِ. فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بثم- والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل-؟ قلت: هذه التوصية قديمة، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بنى آدم قديماً وحديثاً.
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
ثُمَّ أعظم من ذلك أنَّا آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل:
هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ.
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ تماماً للكرامة والنعمة، على الذي أحسن، على من كان محسنا صالحاً، يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: على الذين أحسنوا: أو أراد به موسى عليه السلام، أى تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته، أى
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى من طريق عاصم وغيره عن أبى وائل.(2/80)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
زيادة على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر: على الذي أحسن، بالرفع، أى على الذي هو أحسن، بحذف المبتدإ كقراءة من قرأ مَثَلًا ما بَعُوضَةً بالرفع أى على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماما، أى تامّاً كاملا على أحسن ما تكون عليه الكتب، أى على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتمَّ له الكتاب على أحسنه
[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 157]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا عَلى طائِفَتَيْنِ يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل وَإِنْ كُنَّا هي إن المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن عَنْ دِراسَتِهِمْ عن قراءتهم، أى لم نعرف مثل دراستهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا، وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرئ: أن يقولوا:
أو يقولوا، بالياء فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تبكيت لهم، وهو على قراءة من قرأ يقولوا على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينة من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك وَصَدَفَ عَنْها الناس فضلّ وأضلّ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ كقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ.
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)(2/81)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
الْمَلائِكَةُ ملائكة الموت، أو العذاب أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أو يأتى كل آيات ربك.
بدليل قوله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يريد آيات القيامة والهلاك الكلى، وبعض الآيات.
أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعن البراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تتذاكرون؟ فقلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمغرب، وخسفا بالمشرق، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطُلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن «1» » لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لقوله نفساً. وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمنت. والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرّة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت «2» في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد. وقرئ: أن يأتيهم الملائكة، بالياء والتاء.
وقرأ ابن سيرين: لا تنفع، بالتاء، لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك: ذهبت بعض أصابعه.
[سورة الأنعام (6) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث: «افترقت اليهود
__________
(1) . لم أجده لكن في مسلم عن حذيفة نحوه.
(2) . قال محمود: «فلم يفرق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت ... الخ» قال أحمد رحمه الله، هو يروم الاستدلال على صحة عقيدته في أن الكافر والعاصي سواء في الخلود بهذه الآية، إذ سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات، ولا يتم له ذلك، فان هذا الكلام اشتمل على النوع المعروف من علم البيان والبلاغة باللف.
وأصل الكلام. يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفساً لم تكسب في إيمانها خيراً قبل ما تكسبه من الخير بعد، إلا أنه لف الكلامين فجعلهما كلاما واحداً بلاغة واختصاراً وإعجازاً:
أراد أن يثبت أن ذلك هو الأصل، فهو غير مخالف لقواعد السنة، فانا نقول: لا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخبر وإن نفع الايمان المتقدم في السلامة من الخلود، فهذا بأن يدل على رد الاعتزال، أجدر من أن يدل له.
والله الموفق.(2/82)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمّتى على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة «1» » وقيل: فرّقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقرئ:
فارقوا دينهم، أى تركوه وَكانُوا شِيَعاً فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أى من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 160]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
عَشْرُ أَمْثالِها على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره عشر حسنات أمثالها، وقرئ: عشر أمثالها، برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الإضعاف.
وقد وعد بالواحد سبعمائة، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 161]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ لأنّ معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً والقيم: فيعل، من قام، كسيد من ساد، وهو أبلغ من القائم.
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من رواية محمد بن عمرو عن أبى هريرة، دون «كلها» إلى آخر ما في المواضع، لكن عند أبى داود في الأخيرة «ثنتان وسبعون في النار. وواحدة في الجنة» وللترمذي «كلهم في النار، إلا ملة واحدة. وهي الناجية، وافترقت النصارى ثنتين وسبعين فرقة. كلها في الهاوية إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابى، وأخرجه ابن حبان والحاكم. ورواه الطبراني من حديث عوف بن مالك كذلك، إلا أنه قال «فرقة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هي؟ قال: الجماعة» ومن حديث أبى أمامة في الأوسط، بلفظ «كلها في النار إلا السواد الأعظم» ولأبى نعيم وابن مردويه من حديث زيد بن أسلم عن أنس نحوه. والبزار والبيهقي في المدخل من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص نحوه. وأخرجه أسلم بن سهل الواسطي في تاريخه من حديث جابر مثله. وبين أن السائل عن ذلك عمر بن الخطاب، وفي إسناده واو لم يسم، وفي الباب عن سعد بن أبى وقاص عند ابن أبى شيبة، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وعن معاوية أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وإسناده حسن، واتفقت هذه الطرق على العدد المذكور أولا: وخالفهم كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده لجعله قوم موسى سبعين فرقة وقوم عيسى إحدى وسبعين وهذه الأمة اثنين وسبعين.
وغير في كل منها كلها فقال «إلا واحدة» وقال في الأخيرة «الإسلام وجماعة» أخرجه الطبراني والحاكم.(2/83)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وقرئ: قيما. والقيم: مصدر بمعنى القيام وصف به. ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان.
وحَنِيفاً حال من إبراهيم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 163]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وعبادتي وتقرّبى كله. وقيل: وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وقيل: صلاتي وحجى من مناسك الحج وَمَحْيايَ وَمَماتِي وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالصة لوجهه وَبِذلِكَ من الإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبىّ متقدّم لإسلام أمّته.
[سورة الأنعام (6) : آية 164]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أى منكر أن أبغى ربا غيره وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها جواب عن قولهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ.
[سورة الأنعام (6) : آية 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فحلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً. أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والرزق لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة، وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغنى بالفقير إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر نعمته وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن قام يشكرها.
ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب.(2/84)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى الله عليه وسلم واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة «1» .
سورة الأعراف
مكية، غير ثمان آيات: واسئلهم عن القرية، إلى: وإذ نتقنا الجبل وهي مائتان وست آيات [نزلت بعد ص] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف، أى هو كتاب. وأُنْزِلَ إِلَيْكَ صفة له. والمراد بالكتاب السورة فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أى شك منه «2» ، كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ
__________
(1) . سبقت طرقه في سورة آل عمران. وله طريق أخرى أخرجها الثعلبي من حديث أبى بن كعب بتمامه.
وفيه أبو عصمة. وهو متهم بالكذب. وأوله عند الطبراني في الصغير في ترجمة إبراهيم بن نائلة من حديث ابن عمر إلى قوله «والتحميد» وفيه يوسف بن عطية، وهو ضعيف، وأخرجه عنه ابن مردويه في تفسيره وأبو نعيم في الحلية.
(2) . قال محمود: «الحرج: الشك ... الخ» قال أحمد: ويشهد له قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ولهذه النكتة ميز إمام الحرمين بين العلم والاعتقاد الصحيح، بأن «العقد» ربط الفكر بمعتقد. و «الاعتقاد» افتعال منه، والعلم يشعر بانحلال العقود وهو الانشراح والتبلج والثقة. وما أحسن تنبيه بقوله: والاعتقاد افتعال منه.
يريد: إذا كان العقد مبايناً للعلم، فما ظنك بالاعتقاد، لأن صيغة الافتعال أبلغ معنى. ومنه الاعتماد والاحتمال.
ومن ثم ورد في الخبر «كسب» وفي نقيضه «اكتسب» لأن النفوس في الشهوات والمخالفات واتباع الأهواء أجدر منها في الطاعات وقمع الأغراض، وعلى ذلك جاء لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وإن كان «العلم» من «الأعلم» المأخوذ من «العلمة» بالتحريك، وهي انشراح الشفة وانشقاقها، فالذي ذكره الامام حينئذ نهاية في نوعه، والله الموفق.(2/85)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
وسمى الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أى لا تشك في أنه منزل من الله، ولا تحرج من تبليغه «1» لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّته الله ونهاه عن المبالاة بهم. فإن قلت: بم تعلق قوله لِتُنْذِرَ؟ قلت: بأنزل، أى أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهى، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار، لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه، متكل على عصمته. فإن قلت: فما محل ذكرى؟ قلت: يحتمل الحركات الثلاث. والنصب بإضمار فعلها. كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيرا لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفاً على كتاب، أو بأنه خبر مبتدإ محذوف. والجر للعطف على محل أن تنذر، أى للإنذار وللذكر. فإن قلت: النهى في قوله فَلا يَكُنْ متوجه «2» إلى الحرج فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم: لا أرينك هاهنا.
[سورة الأعراف (7) : آية 3]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن والسنة وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ من دون الله أَوْلِياءَ أى ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه. وعن الحسن: يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم. والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها. وقرأ مالك بن دينار: ولا تبتغوا، من الابتغاء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً. ويجوز أن يكون الضمير في مِنْ دُونِهِ لما أنزل، على: ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. وقرى: تذكرون، بحذف التاء.
ويتذكرون، بالياء. وقَلِيلًا: نصب يتذكرون، أى تذكرون تذكرا قليلا. وما مزيدة لتوكيد القلة.
[سورة الأعراف (7) : آية 4]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «أو ولا تحرج من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له ... الخ» قال أحمد: ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ الآية.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت النهي في قوله فلا يكن متوجه إلى الحرج، فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم لا أرينك هاهنا» قال أحمد: بريد أن الحرج منهى في الآية ظاهراً والمراد النهى عنه، والله أعلم.(2/86)
فَجاءَها فجاء أهلها بَياتاً مصدر واقع موقع الحال، بمعنى بائتين. يقال: بات بياتاً حسناً، وبيتة حسنة. وقوله هُمْ قائِلُونَ حال معطوفة «1» على بياتا، كأنه قيل: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين. فإن قلت: هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل قَرْيَةٍ أو قبل الضمير في أَهْلَكْناها؟ قلت: إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة، فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها. وإنما قدّرناه قبل الضمير في فَجاءَها لقوله أَوْ هُمْ قائِلُونَ فإن قلت: لا يقال:
جاءني زيد هو فارس، بغير واو، فما بال قوله هُمْ قائِلُونَ؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال: لو قلت جاءني زيد راجلا، أو هو فارس. أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا. لاجتماع حرفى عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حدّه.
وأمّا جاءني زيد هو فارس، فخبيث. فإن قلت: فما معنى قوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت: معناه أردنا إهلاكها كقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وإنما خصّ هذان الوقتان وقت البيات ووقت القيلولة، لأنهما وقت الغفلة والدعة، فيكون نزول
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقوله هُمْ قائِلُونَ حال معطوفة على بياتا كأنه قيل، لجاءهم ... الخ» قال: أحمد:
الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالا ضعيف. والأفصح دخول الواو كما اختاره الزمخشري. وأما الزجاج وغيره فيجعلون أحد الأمرين كافيا في الاسمية، إما الواو وإما الضمير. وأما قول الزمخشري: إن الجملة المعطوفة إنما حذفت منها واو الحال كراهية لاجتماعها وهي واو عطف أيضا مع مثلها، ففيه نظر. وذلك أن واو الحال لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية. ألا تراها تصحب الجملة الاسمية عقيب الفعلية في قولك جاءني زيد وهو راكب، ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين وإن لم يكن قبيحا، فالأصح خلافه، فلما رأينها تتوسط بينهما والكلام حينئذ هو الأفصح أو المتعين، علمت أنها ممتازة بمعنى وخاصية عن واو العطف، وإذا ثبت امتيازها عن العاطفة، فلا غرو في اجتماعها معها، وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية، فاما أن تسلبه حينئذ لاغناء العاطف عنها، أو تستمر عليه، كما تجتمع الواو. ولكن لما فيها من زيادة معنى الاستدراك في مثل قوله وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ فعلى هذا كان من الممكن أن تجتمع واو الحال مع العاطف بلا كراهية، والذي يدل على ذلك أنك لو قلت: سبح الله وأنت راكع، أو وأنت ساجد، لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة فالتحقيق- والله أعلم- في الجملة المعطوفة على الحال: أن المصحح لوقوعها حالا من غير واو، هو العاطف، إذ يقتضى مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحال، فيستغنى عن واو الحال، كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو موقعة في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وفي مثل فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ولو قلت في غير التلاوة: وبالليل إذا عسعس، لجاز، ولكن يستغنى عن تكرار حرف القسم لنيابة العاطف منابه. فهذا والله أعلم سبب استغناء الجملة المعطوفة على الحال عن الواو المصححة للحالية، فالحاصل من هذا أنك إن أتيت بواو الحال مصاحباً للعاطف، لم تخرج عن حد الفصاحة إلى الاستثقال، بل أمدت تأكيداً. وإن لم تأت بها فكذلك في الفصاحة مع إفادة الاختصار، والله الموفق للصواب.(2/87)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
العذاب فيهما أشد وأفظع، وقوم لوط أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شعيب وقت القيلولة.
[سورة الأعراف (7) : آية 5]
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
فَما كانَ دَعْواهُمْ ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ومن قولهم دعواهم: يا لكعب. ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم، دَعْواهُمْ نصب خبر لكان، وأَنْ قالُوا رفع اسم له، ويجوز العكس
[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أُرْسِلَ مسند إلى الجار والمجرور وهو إِلَيْهِمْ ومعناه:
فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم وعما وجد منهم، فإن قلت: فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم؟ قلت معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ يعنى وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. ورفعه على الابتداء. وخبره يَوْمَئِذٍ. والْحَقُّ صفته أى: والوزن يوم يسأل الله الأمم «1» ورسلهم
__________
(1) . قوله «أى والوزن يوم يسأل الله الأمم» هذا إنما ينبنى على أن يومئذ متعلق بالوزن، والحق خبر. أما على ما قاله، فالتقدير: ويوم يسأل الخ، ويمكن أن مراده: والوزن كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، أى الوزن الحق، وكان الأقرب: أى والوزن الحق يوم يسأل ... الخ (ع)(2/88)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
الوزن الحق، أى العدل. وقرئ: القسط. واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيداً للحجة، وإظهاراً للنصفة، وقطعاً للمعارة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب. وقيل: هي عبارة عن القضاء السوىّ والحكم العادل فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع ميزان أو موزون، أى فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن: وحقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل. وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف. بِآياتِنا يَظْلِمُونَ يكذبون بها ظلماً: كقوله فَظَلَمُوا بِها.
[سورة الأعراف (7) : آية 10]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء. وعن ابن عامر: أنه همز، على التشبيه بصحائف.
[سورة الأعراف (7) : آية 11]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعنى خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الآية مِنَ السَّاجِدِينَ، ممن سجد لآدم.
[سورة الأعراف (7) : آية 12]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
أَلَّا تَسْجُدَ «لا» في أَلَّا تَسْجُدَ صلة بدليل قوله: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي. ومثلها لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بمعنى ليعلم: فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب. وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك؟ إِذْ أَمَرْتُكَ لان أمرى لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً وأحتمه عليك حتما لا بدّ لك منه فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت:(2/89)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب. فإن قلت: كيف يكون قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواباً لما منعك، وإنما الجواب أن يقول: منعني كذا؟ قلت: قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أنّ أصله من نار وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، كأنه يقول: من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به.
[سورة الأعراف (7) : آية 13]
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
فَاهْبِطْ مِنْها من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين فَما يَكُونُ لَكَ فما يصح لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصى فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، كما تقول للرجل: قم صاغراً، إذا أهنته. وفي ضدّه: قم راشداً. وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. وعن عمر رضى الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته «1» وقال: انتعش أنعشك الله. ومن تكبر وعدا طوره وهصه «2» الله إلى الأرض «3» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 15]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
__________
(1) . قوله «رفع الله حكمته» في الصحاح: حكمة اللجام ما أحاط بالحنك. (ع)
(2) . قوله: «وهصه الله إلى الأرض» وهصه: أى غمزه إلى الأرض والوهص: كسر الشيء الرخو وشدة الوطء على الأرض، كذا في الصحاح. (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه. حدثنا أبو خالد الأحمر وعبد الله بن إدريس وسفيان بن عتبة عن ابن عجلان عن بكير بن الأشج عن معمر بن أبى حية عن عبيد الله بن عبيد الله بن عدى بن الخيار قال: قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال: انتعش أنعشك الله، فهو في نفسه صغير، وفي أنفس الناس كبير. وإن العبد إذا تعظم وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض. وقال: اخسأ خسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أنفس الناس صغير، لهو أحقر عندهم من خنزير، وأخرجه البيهقي في الشعب من طريق على بن المديني عن سفيان.
وقد روى بعضه مرفوعا، أخرج الدارقطني في العلل من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من آدمى إلا وملك آخذ بحكمته. فإذا رفع نفسه قيل للملك: ضع حكمتك- وإذا وضع نفسه قيل للملك: ارفع حكمتك» قال: لا يثبت. فيه على بن زيد وهو ضعيف.(2/90)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم «1» قلت: لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 16 الى 17]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)
فَبِما أَغْوَيْتَنِي فبسبب إغوائك إياى لأقعدنّ لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغى ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب «2» . وعن الأصم:
أمرتنى بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى: فبسبب وقوعى في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم «3» حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت: بم تعلقت الباء، فإن تعلقها
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ... الخ» قال أحمد: وهذا السؤال إنما يورده ويلتزم الجواب عنه القدرية الذين يوجبون على الله تعالى رعاية المصالح في أفعاله. وأما أهل السنة فقد أصغوا حق الإصغاء إلى قوله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فلا يورد أحد منهم هذا السؤال ولا يجيب عنه من يورده، والله الموفق. [.....]
(2) . قوله «ومن آدم أنفسا ومناصب» هذا عند المعتزلة، أما عند أهل السنه فآدم أفضل منهم. (ع)
(3) . قال محمود: «والمعنى: فبسبب وقوعي في الغى لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي ... الخ» قال أحمد: تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان:
إحداهما: تحريفه الإغواء إلى التكليف، لأنه يعتقد أن الله تعالى لم يغوه، أى لم يخلق له الغى بناء على قاعدة التحسين. والتقبيح والصلاح والأصلح، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود، لأنه كان سبباً في غيه. وكثيراً ما يؤول أفعال الله تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب، ويجعل ذلك من مجاز السببية، لأن الفعل له ملابسات بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب، فاسناده إلى الفاعل حقيقة، وإسناده إلى بقيتها مجاز ويجعل الفعل مسندا إلى الله تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله. وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيداً محبوسا في مال عليه، هذه وضعت القيود في رجليك، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون، أى اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك.
فعلى هذا يروم حمل هذه الآية، يعنى بما كلفتنى من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغى لنفسي لأقعدن، فيجعل إبليس هو الفاعل في الحقيقة. وأما إسناد الفعل إلى الله تعالى فمجاز. هذه إحدى النزغتين.
والأخرى: جعله التكليف من جملة الأفعال، لأنه يزعم أن كلام الله تعالى محدث من جملة أفعاله، لا صفة من صفاته، والتكليف من الكلام، فهاتان زلتان جمع القدرية بينهما. وإبليس لعنه الله لم يرض واحدة منهما، لأنه نسب الإغواء إلى الله تعالى، إذ هو خالق كل شيء، فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفى الشرك ما لم يسبق به إبليس؟ نعوذ بالله من التعرض لسخط الله.(2/91)
بلأقعدنّ يصدّ عنه لام القسم، لا تقول: والله بزيد لأمرّنّ؟ قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتنى أقسم بالله لأقعدنّ، أى فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم، أى: فأقسم بإغوائك لأقعدنّ، وإنما أقسم بالإغواء، لأنه كان تكليفا، والتكليف من أحسن أفعال الله، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً بأن يقسم به. ومن تكاذيب المجبرة «1» ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام، فقام الرجل، فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتنى، وهذا يقول: أنا أغوى نفسي، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين «2» . وقيل «ما» للاستفهام، كأنه قيل: بأى شيء أغويتنى، ثم ابتدأ لأقعدنّ. وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» الاستفهامية، قليل شاذ. وأصل الغىّ الفساد. ومنه: غوى الفصيل، إذا بشم. والبشم: فساد في المعدة لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف، كقوله:
... كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ «3»
__________
(1) . قوله «ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه» يعنى أهل السنة، وسماهم المعتزلة بذلك، لقولهم: إن خالق أفعال العباد ولو قبيحة هو الله تعالى، فيكون العبد مجبوراً فيها. فكيف يصح تكليفه، ولكنهم أثبتوا للعبد الكسب في أفعاله، ولذلك صح تكليفه. أما الجبر المنافى للتكليف، فهو أن لا يكون للعبد دخل في فعله أصلا، بحيث يكون كالريشة المعلقة في الهواء. وبه قالت المجبرة الحقيقية، كما هو مذكور في أواخر المواقف. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «ومن تكاذيب المجبرة: ما حكوه عن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاوس تقوم أو تقام؟ فقام الرجل. فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال رب بما أغويتنى. وهذا يقول: أنا أغوى نفسي. انتهي كلام طاوس على زعمهم. وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه وتعالى أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين» انتهى كلامه. قال أحمد: وإنما أوردت مثل هذا من كلامه وإن كان غير محتاج إلى التنبيه على فساده وحيده عن العقائد الصحيحة لتبلج الحجة في وجوب الرد عليه وتعينه على مر هداه الله إليه. ولقد صدق طاوس رضى الله عنه. وأما قول الزمخشري في أهل السنة الذين سماهم مجبرة أنهم يتهالكون في نسبة القبائح إلى الله تعالى، فحاصله: أنهم يخلصون التوحيد حتى لا يؤمنون بخالق غير الله، ولكي يصدفوا قوله تعالى متمدحا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا كالقدرية الذين هم يتهالكون حتى هم يشركون ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيؤولون الفاعل بالمسبب.
فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، والله الموفق للصواب.
(3) .
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
لساعدة بن جؤية، يصف رمحاً بأنه لين يضطرب صلبه في الكف بسبب هزه، فلا يلبس فيه، كما عسل أى اضطرب الثعلب في الطريق، فحذف الجار من الثاني الضرورة، واغتفر لذكره في الأولى، وفي عسل معنى الدخول بسرعة.(2/92)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وشبهه الزجاج بقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، أى على الظهر والبطن. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة: قعد له بطريق الإسلام فقال له:
تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل «1» » ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات الأربع التي يأتى منها العدوّ في الغالب. وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ. فإن قلت: كيف قيل مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدّى إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس. وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلى من المستعلى عليه. ومعنى «عن يمينه» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له. ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعالى» . ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس، وعلى القوس، ومن القول، لأنّ السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه، لأنهما ظرفان للفعل. ومن بين يديه ومن خلفه: لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول: جئته من الليل، تريد بعض الليل، وعن شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد: من بين يدىّ، ومن خلفي، وعن يمينى، وعن شمالي: أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وأمّا من خلفي، فيخوّفنى الضيعة على مخلفي فأقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وأمّا من قبل يمينى، فيأتينى من قبل الثناء فأقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وأمّا من قبل شمالي فيأتينى من قبل الشهوات فأقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قاله تظنيناً، بدليل قوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 18]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
__________
(1) . أخرجه النسائي وأحمد وابن حبان وأبر يعلى والطبراني من حديث سمرة ابن الفاكه وابن أبى الفاكه به وأتم منه. «تنبيهان» أحدهما: قوله «بأطرقه» ضبطه ثابت في الدلائل بكسر الراء، بمثناة وبضم الراء. وبهاء.
ثانيهما: قوله «بأطرقه» : وقع عند الطيبي، رواه النسائي من حديث سيرة بن معبد. وهو وهم.(2/93)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
مَذْؤُماً من ذأمه إذا ذمّه. وقرأ الزهري: مذوما بالتخفيف، مثل مسول في مسؤل.
واللام في لَمَنْ تَبِعَكَ موطئة للقسم. ولَأَمْلَأَنَّ جوابه، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط مِنْكُمْ منك ومنهم، نغلب ضمير المخاطب، كما في قوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. وروى عصمة عن عاصم: لمن تبعك، بكسر اللام، بمعنى: لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ، على أن لَأَمْلَأَنَّ في محل الابتداء، ولَمَنْ تَبِعَكَ خبره.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 22]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
وَيا آدَمُ وقلنا يا آدم. وقرئ: هذى الشجرة، والأصل الياء، والهاء بدل منها. ويقال:
وسوس، إذا تكلم كلاماً خفيا يكرره. ومنه وسوس الحلىّ، وهو فعل غير متعدّ، كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجل موسوس- بكسر الواو- ولا يقال موسوس بالفتح، ولكن موسوس له، وموسوس إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى وسوس له: فعل الوسوسة لأجله، ووسوس إليه: ألقاها إليه لِيُبْدِيَ جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور «1» وأنه
__________
(1) . قال محمود: «فيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ... الخ» قال أحمد: وفي هذه الكلمات أيضا جنوح إلى قاعدة الاعتزال في أمرين، أحدهما: قوله إن كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول، فانه ينشأ عن اعتقاده أن القبح والتحسين بالعقل وإن جاز أن يصدر هذا الكلام من المعتقد لعقيدة السنة، إلا أنه لا يريد به ظاهره، إذ التحسين والتقبيح إنما يدركان بالشرع والسمع لا بالعقل. ومعنى هذا الإطلاق ولو صدر من سنى:
أن العقل يدرك المعنى الذي لأجله حسن الشرع الستر وقبح الكشف. الأمر الثاني: استدلاله على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقد مضى أن ذلك معتقد المعتزلة وإن كان بعض أهل السنة قد مال إليه والجواب ممن يعتقد تفضيل الأنبياء أنه لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل أن يكون الأمر كذلك في علم الله تعالى. ألا ترى إبليس لعنه الله قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخالدا أولا يكونا ملكين؟ وهو في ذلك كاذب مبطل، فلا دليل فيه، إذ ليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لا بليس على ذلك ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى عنه فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فلعل تفضيله الملكية على النبوة من جملة غروره، والله أعلم.(2/94)
لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول. فإن قلت: ما للواو المضمومة في «وروى» لم تقلب همزة كما قلت في أو يصل؟ قلت: لأن الثانية مدّة كألف وارى. وقد جاء في قراءة عبد الله أورى، بالقلب إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ إلا كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليل على أن الملكية بالمنظر الأعلى، وأن البشرية تلمح مرتبتها كلا ولا. وقرئ: ملكين، بكسر اللام، كقوله وَمُلْكٍ لا يَبْلى. مِنَ الْخالِدِينَ من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ:
من سوأتهما، بالتوحيد. وسوّاتهما، بالواو المشدّدة وَقاسَمَهُما وأقسم لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فإن قلت: المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك «1» تقول: قاسمت فلاناً حالفته، وتقاسما تحالفا. ومنه قوله تعالى تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ. قلت: كأنه قال لهما: أقسم لكما إنى لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمة بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها «2» . أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم فَدَلَّاهُما فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة:
وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضى الله عنه: أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له «3» فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل:
الشجرة هي السنبلة. وقيل: شجرة الكرم بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أى تهافت عنهما اللباس فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضى الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى منى «4» . وعن سعيد بن جبير: كان لباسهما من جنس الأظفار.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك ... الخ» قال أحمد: ويكون في الكلام حينئذ لف، لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان له بلفظ المتكلم، ولكن بالخطاب، فجعل القسم من الجانبين كلاما واحداً مضافا لا بليس.
(2) . عاد كلامه. قال: «أو أقسم لهما على النصيحة وأقسما له على قبولها» قال أحمد، وهذا التأويل يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه. وأما حيث جعل المقسم عليه هو النصيحة لا غير، فيبعد التأويل المذكور، إلا أن يحمل الأمر على أنه سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة، كما قيل في قوله تعالى وَواعَدْنا مُوسى أنه سمى التزام موسى للوفاء والحضور للميعاد، ميعادا، فأسند التعبير بالمفاعلة، والله أعلم.
(3) . أخرجه ابن سعد من رواية نافع قال «كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه- وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه. فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد. فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: - فذكره. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه.
(4) . أخرجه أبو يعلى من رواية كامل أبى العلاء عن أبى صالح- رواه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:
قالت عائشة «ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلا متقنعا مرخى الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه منى- تعنى الفرج» إسناده ضعيف. وروى الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة من رواية عبد الله بن بزيد عن مولى عائشة قالت «ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط» وروى الدارقطني في غرائب مالك عن الزهري ورواه الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة مثله- وزاد «ولا نظر إلى فرجي قط» وفي إسناده زيد بن الحسن عن مالك. وهو ضعيف، وقال لا يصح هذا عن مالك ولا عن الزهري. وروى الطبراني في الصغير من رواية أنس عن عائشة نحوه. وفي إسناده بركة بن محمد الحلبي، وهو متروك.(2/95)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
وعن وهب: كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر. ويقال: طفق بفعل كذا، بمعنى جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السمال: وطفقا بالفتح يَخْصِفانِ ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بها، كما يخصف النعل، بأن تجعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. وقرأ الحسن:
يخصفان، بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري: يخصفان، من أخصف، وهو منقول من خصف أى يخصفان أنفسهما وقرئ: يخصفان، من خصف بالتشديد مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قيل: كان ورق التين أَلَمْ أَنْهَكُما عتاب من الله تعالى وتوبيخ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس وروى: أنه قال لآدم:
ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.
[سورة الأعراف (7) : آية 23]
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلما لأنفسهما «1» وقالا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 24 الى 25]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
__________
(1) . قال محمود: «سميا ذنبهما ظلما وإن كان صغيراً مغفوراً ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا اعتزال خفى، لأنهم يزعمون أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها. فهذا معنى قول الزمخشري: وإن كان صغيرا مغفوراً. وإنما وسمت هذا الاعتزال بالخفاء، لأن هذا الكلام يستقيم وروده عن أهل السنة، لكنهم يعنون بكونه مغفوراً: أن الله تعالى تفضل بغفرانه، ولو شاء لآخذ به وإن كان الأنبياء معصومين من الكبائر، لا كما بزعمه المعتزلة من وجوب مغفرته، والله الموفق.(2/96)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وإبليس. وبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال، أى متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه مُسْتَقَرٌّ استقرار، أو موضع استقرار وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابت البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة، فجعلت حواء تدور حولهم، فقال لها: خلى ملائكة ربى فإنما أصابنى الذي أصابنى فيك، فلما توفى غسلته الملائكة بماء وسدر وترا، وحنطته وكفنته في وتر من الثياب، وحفروا له ولحدوا، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند، وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده.
[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
جعل ما في الأرض منزلا من السماء، لأنه قضى ثم وكتب. ومنه وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ والريش لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أى أنزلنا عليكم لباسين: لباسا يوارى سوءاتكم، ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح، كما قال لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وقرأ عثمان رضى الله عنه. ورياشاً، جمع ريش، كشعب وشعاب وَلِباسُ التَّقْوى ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه على الابتداء وخبره إمّا الجملة التي هي ذلِكَ خَيْرٌ كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وأمّا المفرد الذي هو خير وذلك صفة للمبتدإ، كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارة إلى اللباس المواري للسوأة، لأنّ مواراة السوأة من التقوى، تفضيلا له على لباس الزينة. وقيل: لباس التقوى خبر مبتدإ محذوف، أى وهو لباس التقوى، ثم قيل: ذلك خير. وفي قراءة عبد الله وأبىّ: ولباس التقوى خير. وقيل:
المراد بلباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر «1» وغيرها مما يتقى به في الحروب وقرئ: ولباس التقوى، بالنصب عطفاً على لباساً وريشاً ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته على عباده. يعنى إنزال اللباس لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفوا عظيم النعمة فيه وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأنّ التستر باب عظيم من أبواب التقوى.
__________
(1) . قوله «الجواشن والمغافر» الجواشن: هي ما ينسج من الدروع على قدر الصدر. والمغافر: ما ينسج منها على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. (ع)(2/97)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأنّ أخرجهما منها يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما حال، أى أخرجهما نازعاً لباسهما، بأنه كان سبباً في أن نزع عنهما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ تعليل للنهى وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجى «1» يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون. وعن مالك بن دينار. إنّ عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله وَقَبِيلُهُ وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بين أن الجنّ لا يرون»
ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدّعى رؤيتهم زور ومخرقة إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى خلينا بينهم وبينهم «3» لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول. فإن قلت: علام عطف وقبيله؟ قلت: على الضمير في يراكم المؤكد بهو، والضمير في أنه للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي وَقَبِيلُهُ بالنصب وفيه وجهان: أن يعطفه على اسم إن، وأن تكون الواو بمعنى مع، وإذا عطفه على اسم إن وهو الضمير في أنه، كان راجعاً إلى إبليس.
[سورة الأعراف (7) : آية 28]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)
__________
(1) . قوله «العدو المداجى» في الصحاح «المداجاة» المداراة. يقال: داجيته، إذا، داريته، كأنك ساترته العداوة. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «وفيه دليل بين أنهم لا يرون ... الخ» قال أحمد: أين يذهب به هما ورد في الحديث الصحيح، من اعتراض إبليس رأسهم ومقدمهم للنبي صلى الله عليه وسلم يروم أن يشغله عن صلاته، حتى أمكنه الله منه فأخذه عليه الصلاة والسلام فدغنه وأراد أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد يلعب به الصبيان، حتى ذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. وإذا جاز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام كان جائزا لأولياء الله والمتبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة، لكن الزمخشري يصده عن ذلك جحده لكرامة الأولياء، لأنه عقيدة إخوانه، إذ الكرامة إنما يؤتاها الولي الصادق، فكيف ينالها من يشك في إسلامه، فإنهم لفي عذر من جحدها والتكذيب بها.
رزقنا الله الايمان بالكرامات إن لم نكن لها أهلا، والله الموفق.
(3) . قوله «أى خلينا بينهم وبينهم» فسر الجعل بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة. وعند أهل السنة يخلقة كالخير. (ع)(2/98)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أى: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم وبأنّ الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها. وكلاهما باطل من العذر «1» لأن أحدهما تقليد والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني افتراء على الله وإلحاد في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه. وعن الحسن: إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة «2» يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ
لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه «3» لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.
وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراة.
[سورة الأعراف (7) : آية 29]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
بِالْقِسْطِ بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل: بالتوحيد وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ وقل: أقيموا وجوهكم أى اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة وَادْعُوهُ واعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصاً كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى:
أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.
[سورة الأعراف (7) : آية 30]
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
__________
(1) . قال محمود: «وكلاهما باطل من العذر لأن أحدهما ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من الاعتزال الخفي، وغرضه أن يمهد قاعدة التحسين والتقبيح، ومراعاة الصلاح والأصلح، واستحالة مخالفة ذلك على الله تعالى «ولا يتم من ذلك غرض، لأن المنكر عليهم: دعواهم أن الله تعالى أمرهم بالفحشاء، وهم كاذبون في هذه الدعوى، ولا يلزم من سلب الأمر الارادة، لأن الله تعالى يأمر بما لا يريد، ويريد ما لا يأمر به.
(2) . قوله «وهم قدرية مجبرة» أى كالمجبرة يعنى أهل السنة، لقولهم: إن الله يريد الشر كالخير، والارادة هي الأمر عند المعتزلة، لكنها غيره عند أهل السنة، فالفحشاء بإرادته تعالى، لكنه لا يأمر بها. وتحقيقه في التوحيد.
(3) . قوله «فعل القبيح مستحيل عليه» يريد أن الله لا يريد فعل القبيح وهي عقيدة المعتزلة. أما عند أهل السنة فالله يريد القبيح والحسن «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (ع)(2/99)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
فَرِيقاً هَدى وهم الذين أسلموا، أى وفقهم للإيمان وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أى كلمة الضلالة، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله وَفَرِيقاً بفعل مضمر يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ إنّ الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أى تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
خُذُوا زِينَتَكُمْ أى ريشكم ولباس زينتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ كلما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا:
لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة «1» ويحكى أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني «2» حاذق، فقال لعلى بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان، علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء «3» وأعط
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عطاء وطاوس عنه بهذا، لكن قال «خلتان» . وروى النسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم تخالطوا إسرافا ولا مخيلة» .
(2) . لم أجد لها- أى حكاية الرشيد- إسنادا.
(3) . لم أجده، وروى العقيلي في الضعفاء من رواية إبراهيم بن جريج الرهاوي عن زيد ابن أبى أنيسة عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة- رفعه «المعدة حوض البدن. والعروق إليها واردة: فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم» وقال: حديث باطل لا أصل له. وقال الدارقطني لا يصح ولا يعرف من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لسند إبراهيم بن جريج غير هذا وكان طبيبا، فجعل له إسنادا.(2/100)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
كل بدن ما عوّدته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في من: إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل: كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم، لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشركهم فيها أحد. فإن قلت: هلا قيل: هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت: لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبع لهم، كقوله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وقرئ: خالصة بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر.
[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33)
الْفَواحِشَ ما تفاحش قبحه أى تزايد. وقيل هي ما يتعلق بالفروج وَالْإِثْمَ عام لكل ذنب. وقيل: شرب الخمر وَالْبَغْيَ الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره «1» وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.
[سورة الأعراف (7) : آية 34]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ: فإذا جاء آجالهم. وقال ساعَةً لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه.
__________
(1) . قال محمود: «في هذا تهكم لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره» قال أحمد: وإنما يعنى التهكم منه لأن الكلام جرى مجرى ماله سلطان، إلا أنه لم ينزل، لأنه إنما نفى تنزيل السلطان به ولم ينف أن يكون له سلطان، وكان أصل الكلام: وأن تشركوا بالله ما لا سلطان به فينزل فيكون على طريقة:
على لا حب لا يهتدى بمناره(2/101)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدة لمعنى الشرط. ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة. فإن قلت: فما جزاء هذا الشرط؟ قلت: الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ: تأتينكم، بالتاء.
[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
فَمَنْ أَظْلَمُ فمن أشنع ظلماً ممن تقوّل على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أى مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا حتى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أى إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى» التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، وهي إذا جاءتهم رسلنا قالوا. ويَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرسل، أى متوفيهم. والرسل ملك الموت وأعوانه. «وما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل، لأنها موصولة بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافا منهم بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قالَ ادْخُلُوا أى يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم(2/102)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ وهم كفار العرب فِي أُمَمٍ في موضع الحال، أى كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أى ادخلوا في النار مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ وتقدّم زمانهم زمانكم لَعَنَتْ أُخْتَها التي ضلت بالاقتداء بما حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أى تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ منزلة وهي الأتباع والسفلة لِأُولاهُمْ منزلة وهي القادة والرؤوس. ومعنى لأولاهم: لأجل أولاهم، لأن خطابهم مع الله لا معهم عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا لِكُلٍّ ضِعْفٌ لأنّ كلا من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ قرئ بالياء والتاء فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة لِكُلٍّ ضِعْفٌ أى فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، وأنا متساوون في استحقاق الضعف فَذُوقُوا الْعَذابَ من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعاً.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لا يصعد لهم عمل صالح إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وقيل: إنّ الجنة في السماء، فالمعنى لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين.
وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، ففتحنا أبواب السماء. وقرئ: لا تفتح، بالتشديد.
ولا يفتح بالياء. ولا تفتح، بالتاء والبناء للفاعل ونصب الأبواب، على أنّ الفعل للآيات. وبالياء على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ ابن عباس: الجمل، بوزن القمل. وسعيد بن جبير: الجمل، بوزن النغر. وقرئ: الجمل «بوزن القفل. والجمل، بوزن النصب. والجمل. بوزن الحبل. ومعناها القلس الغليظ «لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، يعنى أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه، إلا أن قراءة العامّة أوقع لأن سم الابرة مثل في ضيق المسلك. يقال: أضيق من خرت الابرة. وقالوا للدليل الماهر: خرّيت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر.
والجمل: مثل في عظم الجرم. قال:(2/103)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
جسم الجمال وأحلام العصافير «1»
إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان الذي لا يلج إلا في باب واسع، في ثقب الإبرة. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل، فقال: زوج الناقة، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. وقرئ فِي سَمِّ بالحركات الثلاث: وقرأ عبد الله: في سم المخيط، والخياط، والمخيط كالحزام والمحزم: ما يخاط به وهو الإبرة وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ليؤذن أن الاجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب، وقد كرره فقال وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لأن كلّ مجرم ظالم لنفسه مِهادٌ فراش غَواشٍ أغطية. وقرئ: غواش. بالرفع، كقوله تعالى: «وله الجوار المنشآت» في قراءة عبد الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 42]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة معترضة بين المبتدإ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الأعمش: لا تكلف نفس.
[سورة الأعراف (7) : آية 43]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
__________
(1) .
حار بن عمرو ألا أحلام تزجركم ... عنا وأنتم من الجوف الجماخير
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير
كأنهم قصب جوف أسافله ... مثقب نفخت فيه الأعاصير
لحسان. و «حار» مرخم حارث، مبنى على الضم لأنه منادى حذف قبله ياء النداء. و «الأحلام» جمع حلم بالضم:
العقول. و «الجوف» بالضم: جمع أجوف، أى واسع الجوف. و «الجماخير» جمع جمخور، أى عظيم الجسم.
يقول: كيف لا يكون لكم أحلام وأنتم عظام الأجرام، ثم بين ذلك بقوله: لا بأس ولا ضرر يعترى هؤلاء من جهة الطول والغلظ، يعنى: لا نقص بهم من ذلك. وفيه تهكم بهم. أو لا يستنكفون من ذلك فهم أحقاء به، أو لا بأس يعتريك بسبب القوم من أجل طولهم وغلظهم فأجسامهم كأجسام الجمال، وعقولهم كعقول العصافير إن كان لها عقول، يعنى أنه لا عقل لهم. ويروى «جسم البغال» وشبههم في فراغ أجوافهم من العقل والشجاعة بالقصب:
إذا انشقت أجواف أسافله فأعاليه أكثر. وشبه منافذ حواسهم بثقوبه الخالية عن الحسن. و «الأعاصير» جمع إعصار، وهي ريح تهب مستديرة ذاهبة نحو السماء. واستعار النفخ لا دخالها الهواء فيه بقوة كالنفخ. وفي القافية الاقواء، لاختلاف حركة الروى بالكسر والضم.(2/104)
من كان في قلبه غل على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادّ والتعاطف. وعن علىّ رضى الله عنه: إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم «1» هَدانا لِهذا أى وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام لتوكيد النفي «2» ويعنون: وما كان يستقيم أن تكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام: ما كنا لنهتدي بغير واو، على أنها جملة موضحة للأولى لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أن مخففة من الثقيلة تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة أُورِثْتُمُوها والضمير ضمير الشأن والحديث أو تكون بمعنى أى، لأنّ المناداة من القول، كأنه قيل: وقيل لهم أى تلكم الجنة أورثتموها «3»
__________
(1) . أخرجه ابن سعد من رواية جعفر بن محمد عن أبيه. والطبري من رواية معمر عن قتادة عن على وكلاما منقطع. وفي ابن أبى شيبة من رواية ربحى عن على. وهو متصل.
(2) . قال محمود: اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم ... الخ» قال أحمد: وهذه تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدى من خلق الله له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا من هدى الله، ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى، فهو إذاً مهتد وإن لم يهده الله، إذ هدى الله العبد خلق الهدى له- وفي زعمهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى، ولا يتوقف ذلك على خلقه- تعالى الله عما يقولون- ولما فطن الزمخشري لذلك، جرى على عادته في تحريف الهدى من الله تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، فأنصف من نفسك واعرض قول القائل: المهتدى من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه الله- أى يخلق له الهدى، على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وانظر تباين هذين القولين، أعنى قول المعتزلي في الدنيا، وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق. واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى به، وما أراك- والخطاب لكل عاقل تعدل بهذا القول المحكي عن أوليا الله في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواء وتعصبه في دار الغرور والزوال، نسأل الله حسن المآب والمآل.
(3) . عاد كلامه. قال: «وقوله تعالى وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ المراد بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة» قال أحمد: يعنى بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل الله وبرحمته. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» فقالوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل السنة. قيل لهم: فما معنى قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ قالوا: الله تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل، فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب العباد وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل، الدال على أن الله تعالى يستحيل أن يجب عليه شيء، فانظر أيها المنصف، هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة؟ وحاكم نفسك إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر، فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على الله تعالى حقا بأعمالهم التي لا ينتفع بوجودها ولا يتضرر بتركها- تعالى وتقدس عن ذلك- ويطلقون القول بلسان الجرأة أن الجنة ونعيمها أقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى لا تفضل له عليهم فيه. بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه. وانظر أى الفريقين المذكورين أحق بلقب المبطلة، والسلام.(2/105)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم لا بالتفضل، كما تقول المبطلة «1»
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)
«أن» في أَنْ قَدْ وَجَدْنا يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت آنفاً، وكذلك أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وزيادة في غمهم، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم:
لعنة الله على الظالمين. وهو ملك يأمره الله فينادى بينهم نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. وقرئ:
أنّ لعنة الله، بالتشديد والنصب. وقرأ الأعمش: إن لعنة الله، بكسر إن على إرادة القول، أو على إجراء فَأَذَّنَ مجرى قال. فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ما وعدنا «2» ربنا؟
قلت: حذف ذلك تخفيفاً لدلالة وعدنا عليه. ولقائل أن يقول: أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة، لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك.
[سورة الأعراف (7) : آية 46]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَبَيْنَهُما حِجابٌ يعنى بين الجنة والنار. أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ. وَعَلَى الْأَعْرافِ وعلى أعراف الحجاب وهو السور المضروب
__________
(1) . قوله «كما تقول المبطلة» يريد أهل السنة القائلين: دخولها بالفضل، واقتسامها بالأعمال، كما في الحديث. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه: قال: فان قلت هلا قيل ما وعدكم ربكم كما قيل ما وعدنا ... الخ» قال أحمد: ولقائل أن يقول:
ولو ذكر المفعول حسب ذكره في الأول فقيل: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، لكان الفعل مطلقا أيضا باعتبار الموعود به، لأنه لم يذكر، فكان يتناول كل موجود من البعث والحساب والعقاب، الذي هو أنواع من جملتها التحسر على نعيم أهل الجنة، فليس ذلك خاصا بحذف المفعول الواقع على الموعودين، فالوجه أن حذفه إيجاز وتخفيف واستغناء عنه بالأول. والله أعلم.(2/106)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
بين الجنة والنار وهي أعاليه، جمع عرف استعير من عرف الفرس وعرف الديك رِجالٌ من المسلمين من آخرهم دخولا في الجنة لقصور أعمالهم، كأنهم المرجون لأمر الله، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة يَعْرِفُونَ كُلًّا من زمر السعداء والأشقياء بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها، يلهمهم الله ذلك: أو تعرّفهم الملائكة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 47 الى 49]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم. ونادرا رجالا من رؤوس الكفرة يقولون لهم أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ إشارة لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون أن الله لا يدخلهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويعرفوهم بسيماهم ويقولوا ما يقولون.
وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدّم والتأخر على حسنها، وأن أحداً لا بسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه. وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحد حتى أقصر الناس عملا. وقوله وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ فيه أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش: وإذا قلبت أبصارهم وقرئ: أدخلوا الجنة، على البناء للمفعول. وقرأ عكرمة: دخلوا الجنة. فإن قلت: كيف لاءم هاتين القراءتين قوله لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ؟ قلت: تأويله: أدخلوا، أو دخلوا الجنة مقولا لهم: لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. فإن قلت: ما محل قوله: لم يدخلوها وهم يطمعون؟ قلت: لا محل له لأنه استئناف، كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل:
لم يدخلوها وهم يطمعون، يعنى حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم(2/107)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
يدخلوها لكونهم محبوسين وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لرجال ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ: تستكثرون، من الكثرة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)
أَفِيضُوا عَلَيْنا فيه دليل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد: أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة. كقوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنا وَمَاءً بَارِدا «1»
وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن.
حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر، كقوله:
حَرَامٌ عَلَى عَيْنَىَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى «2»
__________
(1) .
ما حططت الرحل عنها واردا ... علفتها تبنا وماء باردا
يقول: لما حططت الرجل عن الناقة حال كوني وارداً للماء، علفتها تبنا وسقيتها ماء بارداً، على حذف العامل في ماء. ويحتمل أن المعنى: ناولتها تبنا وماء على التجوز في العلف، وذلك لأن الماء لا يكون معلوفا لها. ويجوز أن يكون مفعولا معه، أى علفتها تبنا مصاحبا للماء، فلا يلزم أن يكون الماء معلوفا، ومنعه لأن الماء لا يصاحب التبن في العلف، فيه نظر، لجواز أنه وضع لها التبن ووضع لها ماء معه، لتتناول ما شاءت. ورواية الفراء هكذا:
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها
وشتوت بموضع كذا: أقمت به زمن الشتاء، أى حتى كانت زمن الشتاء محالة: أى كثيرة الدموع عيناها، همالة:
نصب على الحال، وعيناها: فاعل به. ويروى: حتى غدت، وحتى بدت.
(2) .
حرام على عيني أن تطعم الكرى ... وأن ترقئا حتى ألاقيك يا هند
«الكرى» النعاس، وهو أول النوم. يقال: كرى يكرى كرى، من باب تعب إذا نعس. وشبه بالمطعوم على طريق المكنية. و «أن تطعما» أى تذوقا تخييل. ورقأ الدمع والدم- بالهمز-: سكن. وإسناده للعين مجاز عقلى، لأنه للدمع. ويحتمل أنه استعار ترقئا لتغمضا، لأن فيه سكون الجفون. يقول: ممتنع على عينى النعاس والغموض، أو عدم البكاء امتناعا مؤكداً، كما يمتنع المحرم على المكلف، ففيه استعارة تصريحية حتى ألاقيك يا هند.
وأنال من نوالك. وفي النداء معنى التفجع.(2/108)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيما قيما غير ذى عوج. وقرأ ابن محيصن: فضلناه، بالضاد المعجمة. بمعنى فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهل للتفضيل عليها. وهُدىً وَرَحْمَةً حال من منصوب فضلناه، كما أن على علم حال من مرفوعه إِلَّا تَأْوِيلَهُ إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أى تبين وصحّ أنهم جاءوا بالحق نُرَدُّ جملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء، أو هل نردّ. ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم، كما تقول ابتداء: هل يضرب زيد؟
ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه. فلا يقدّر: هل يشفع لنا شافع أو نردّ. وقرأ ابن أبى إسحاق. أو نردّ، بالنصب عطفاً على فيشفعوا لنا. أو تكون «أو» بمعنى «حتى أنّ» أى يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل، وقرأ الحسن بنصب نُرَدُّ ورفع فَنَعْمَلَ بمعنى: فنحن نعمل.
[سورة الأعراف (7) : آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وقرئ يغشى بالتشديد، أى يلحق الليل النهار، والنهار بالليل يحتملهما جميعاً. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس: يغشى الليل النهار، بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار، أى يدرك النهار الليل ويطلبه حثيثاً، حسن الملاءمة لقراءة حميد بِأَمْرِهِ بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق بمسخرات أى خلقهنّ جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمرا على التشبيه، كأنهنّ مأمورات بذلك. وقرئ: والشمس والقمر(2/109)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
والنجوم مسخرات، بالرفع. ولما ذكر أنه خلقهنّ مسخرات بأمره قال أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أى هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 58]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً نصب على الحال، أى ذوى تضرع وحفية. وكذلك خوفاً وطمعاً.
والتضرع تفعل من الضراعة «1» وهو الذل، أى تذللا وتملقا. وقرئ. وخفية «2» وعن الحسن رضى الله عنه: إنّ الله يعلم القلب التقى والدعاء الخفي، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلى الصلاة الطويلة وعنده الزور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أنّ الله تعالى يقول
__________
(1) . قال محمود: «التضرع تفعل من الضراعة وهي الذل ... الخ» قال أحمد: وحسبك في تعين الاسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية. فالاخلال به كالاخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى «فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه وترى كثيراً من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستد المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد. وربما حصلت للعوام حينئذ رقة، لا تحصل مع خفض الصوت ورعاية سمت الوقار وسلوك السنة الثابتة بالآثار، وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل لكانت عند اتباع السنة في الدعاء وفي خفض الصوت به أوفر وأو في وأزكى، فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من الخلق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
(2) . قوله «وقرئ وخفية» لعل هذه بالكسر. (ع)(2/110)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وقد أثنى على زكريا فقال إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أى المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره. وعن ابن جريح، هو رفع الصوت بالدعاء. وعنه: الصياح في الدعاء مكروه وبدعة. وقيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وحسب المرء أن يقول: اللهمّ إنى أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل «1» ثم قرأ قوله تعالى إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ كقوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً. وإنما ذكر قَرِيبٌ على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أى شيء قريب. أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول كما شبه ذاك به، فقيل قتلاء وأسراء، أو على أنه بزنة المصدر، الذي هو النقيض والضغيب «2» . أو لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقى. قرئ: نشراً وهو مصدر نشر. وانتصابه إمّا لأن أرسل ونشر متقاربان، فكأنه قيل: نشرها نشراً: وإمّا على الحال بمعنى منتشرات. ونشراً جمع نشور.
ونشراً تخفيف نشر، كرسل ورسل. وقرأ مسروق: نشراً، بمعنى منشورات، فعل بمعنى مفعول، كنقض وحسب. ومنه قولهم «ضم نشره» وبشراً جمع بشير. وبشراً بتخفيفه. وبشراً- بفتح الباء- مصدر من بشره بمعنى بشره، أى باشرات، وبشرى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أمام رحمته، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلها وأحسنها أثراً أَقَلَّتْ حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأنّ الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلا سَحاباً ثِقالًا سحائب ثقالا بالماء جمع سحابة سُقْناهُ الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلا لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجل بلد ليس فيه حياً ولسقيه. وقرئ: ميت فَأَنْزَلْنا بِهِ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق. وكذلك فَأَخْرَجْنا بِهِ ... كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
__________
(1) . أخرجه أبو يعلى من رواية شعبة عن زياد بن مهران عن قيس بن عنان عن مولى لسعد بن سعد سمع ابنا له يقول «اللهم إنى أسألك الجنة وغرفها وكذا وكذا. وأعوذ بك من النار وأغلالها وكذا وكذا. فقال: لقد سألت الله خيرا وتعوذت به من شر كثير. وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء وبحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك الجنة- الخبر- وقال في آخره: لا أدرى قوله وبحسبك إلى آخره من قول سعد أو من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه أبو داود الطيالسي والبيهقي في الدعوات من طريقه. عن سعد بسنده، إلا أنه قال «وبحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم وفي الباب عن عبد الله بن معقل أخرجه أبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم.
(2) . قوله «هو النقيض والضغيب» النقيض: هو صوت العقاب وصوت المحمل، والضغيب: صوت الأرنب. (ع)(2/111)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين. إذا كل واحد منهما إعادة للشيء بعد إنشائه وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرض العذاة الكريمة التربة وَالَّذِي خَبُثَ الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به بِإِذْنِ رَبِّهِ بتيسيره وهو في موضع الحال، كأنه قيل: يخرج نباته حسنا وافيا لأنه واقع في مقابلة نَكِداً والنكد الذي لا خير فيه. وقرئ: يخرج نباته، أى يخرجه البلد وينبته. وقوله وَالَّذِي خَبُثَ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى البلد مقامه، إلا أنه كان مجرورا بارزاً، فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدّر: ونبات الذي خبث.
وقرئ: نكداً، بفتح الكاف على المصدر، أى ذا نكد. ونكداً، بإسكانها للتخفيف، كقوله: نزه عن الريب، بمعنى نزه. وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. وعن مجاهد: آدم وذرّيته منهم خبيث وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت. والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّدها ونكرّرها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها. وقرئ:
يصرف، بالياء أى يصرفها الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 59]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً جواب قسم محذوف. فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلا مع «قد» وقلّ عنهم، نحو قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا........ «1» ....
__________
(1) .
فقالت سباك الله إنك فاضحى ... ألست ترى السمار والنار أحوالى
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالى
فأصبحت معشوقا وأصبح يعلها ... عليه قتام كاسف الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمره ليس بقتال
أيقتلنى والمشرفي مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
لامرئ القيس. يقول: ضجرت محبوبتى سلمي حين ترقبتها ليلا مع أن الرقباء حولها. والسمار: جمع سامر، بمعنى المتحدث ليلا. وأحوال: جمع حول، بمعنى جانب، فيفيد كثرة الناس وانتشارهم في جوانبها. والمنقول أنه على صورة الجمع وليس جمعا، وكذا تئنيته، لأنه حول الشيء وحوليه وأحواله وأحواليه وحواله وحواليه، كلها بمعنى جانبه المحيط به، ويمكن أن يراد بالمفرد: مطلق الجانب مجازاً، فيثنى ويجمع حقيقة، والكثير في الماضي المجاب به القسم قرنه بقد، بل قيل: إن لم توجد فيه قدرت قيل، لأن الجواب مظنة للتوقع الذي هو معنى «قد» لسماع القسم أولا. و «إن» و «من» زائدتان للتوكيد، والحديث: بمعنى المتحدث ليطابق ما بعده. والصالي: المصطلى بالنار. وهاهنا حذف دل عليه المقام. أى فسمحت فنلت منها مرادى، فأعجبتها فأصبحت معشوقا وقد كنت عاشقاً، وأصبح زوجها عليه قتام: وهو الغبار وسواد الوجه، كاسف الظن: منعكسه، فهو مجاز. وكاسف البال:
حزين القلب، أو سيئ الحال. والغطيط: ارتفاع صوت النفس عند الخنق والنعاس ونحو ذلك. والبكر: الفتى من الإبل. والخناق: حبل يخنق به كالحزام لما يتحزم به، والاسار لما يربط به الأسير. وقوله: ليس بقتال، أى كما يزعم أنه شجاع. والمشرفي: السيف، نسبة إلى مشارف جمع مشرف كجعفر، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، شبهه بالمضاجع لامتداده بجانبه وملازمته له، والمسنونة النبال: المحددة الأطراف. والزرق:
جمع زرقاء، الصافيات اللون. وشبهها بأنياب الأغوال في حدة الأطراف، واستبشاع كل عند النفوس. وهذا لا يستلزم وجود الغول ورؤية نابها، وإن زعمته العرب.(2/112)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لاتساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها، التي هي جوابها، فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم. قيل:
أرسل نوح عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام. وقرئ: غيره، بالحركات الثلاث، فالرفع على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره. والجر على اللفظ والنصب على الاستثناء، بمعنى: ما لكم من إله إلا إياه، كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيد أو غير زيد. فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله اعْبُدُوا اللَّهَ؟ قلت: الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 60 الى 62]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)
الْمَلَأُ الأشراف والسادة. وقيل: الرجال ليس معهم نساء فِي ضَلالٍ في ذهاب عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية: رؤية القلب. فإن قلت: لم قال لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولم يقل ضلال «1» كما قالوا؟ قلت: الضلالة أخصّ من الضلال، فكانت أبلغ في نفى الضلال
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قال ليس بى ضلالة ولم يقل ضلال ... الخ» ؟ قال أحمد: تعليله كون نفيها أبلغ من نفى الضلال بأنها أخص منه، غير مستقيم والله أعلم، فان نفى الأخص أعم من نفى الأعم، فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم لا يستلزم الأخص، بخلاف العكس. ألا تراك إذا قلت: هذا ليس بإنسان، لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيوانا. ولو قلت: هذا ليس بحيوان، لاستلزم أن لا يكون إنسانا، فنفى الأعم كما ترى أبلغ من نفى الأخص.
والتحقيق في الجواب أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال وأقل، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه. وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، لا من حيث كونه أخص، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، والله أعلم.(2/113)
عن نفسه، كأنه قال: ليس بى شيء من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر، فقلت: مالى تمرة فإن قلت: كيف وقع قوله وَلكِنِّي رَسُولٌ استدراكا للانتفاء عن الضلالة؟ قلت: كونه رسولا من الله مبلغا رسالاته ناصحاً، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصحّ لذلك أن يكون استدراكا للانتفاء عن الضلالة. وقرئ: أبلغكم، بالتخفيف. فإن قلت: كيف موقع قوله أُبَلِّغُكُمْ «1» ؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفاً بيانا لكونه رسول رب العالمين. والثاني: أن يكون صفة لرسول. فإن قلت: كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت: جاز ذلك لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المخاطب وكان معناه، كما قال:
أَنَا الَّذِى سَمَّتْنِ أُمِّى حَيْدَرَهْ «2»
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف موقع قوله أُبَلِّغُكُمْ؟ قلت فيه وجهان ... الخ» قال أحمد: وقد أستدرك
ابن جنى قول أبى الطيب: ... أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبى
عدولا عن لفظ الغيبة لو كان إلى أدبه، وهذه الآية والرجز العلوي كفيلان بتحسين ما ارتكبه أبو الطيب.
(2) .
أنا الذي سمتن أمى حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة
أو فيهم بالصاع كيل السندره ... أضربكم ضربا يبين الفقرة
للإمام على رضى الله عنه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر، فقال مرحب:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
فأجابه على بذلك «وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها، لأن «حيدرة» من أسماء الأسد، فلما حضر أبو طالب سماه علياً. وسمى الأسد «حيدرة» لشدة انحداره على من يصول عليه. والليث: اسم جامد له، واشتقوا منه، لا ينه إذا عامله معاملة الليث. والغابة: بيته الذي يغيب فيه. والسندرة: اسم امرأة كانت تبيع البر وتوفى الكيل، أو مكيال كبير. وكان الظاهر أن يقول: الذي سمته أمه ليطابق الضمير مرجعه وهو الموصول في الغيبة. ولكن أتى بضمير التكلم ذهابا إلى المعنى. وحسنه تقدم ضمير المتكلم، أى أنا الشجاع الذي ظهرت على أمارة الشجاعة من صغرى، فسمتني أمى باسم الأسد، ولا أكذبها في ظنها، وأنا كليث غابات منظرته كريهة لعبوسى في وجه عدوى، ثم قال:
أوفى الأعداء، أى أعطيهم عطاء وافياً. وكيل السندرة: نصب به على المفعول المطلق، أو بمقدر: أى أكيل لهم مثل كيل تلك المرأة في الوفاء، أو أعطيهم بالصاع الصغير كيل المكيال الكبير. ويروى: أو فيهم بالسيف. وهذا من باب الاستعارة التمثيلية التهكمية، شبه هيئة إيصاله الطعان إلى الأعداء بكثرة في مقابلة مكروه يفرط منهم. بهيئة إيصال البر بالكيل في مقابلة ثمنه، وإن كان البر محبوبا والطعن مكروها، والتفت مفسراً ذلك بقوله أضربكم ضرباً يبين، أى يفصل الفقرة: جمعها فقار، وفقرات. وهي عظام الظهر، وقد علمت خيبر، أى أهلها. وشاكي السلاح.
حاده وتلمه. يجوز أنه نعت مرحب. ويجوز أنه خبر بعد خبر. وبطل مجرب: خبر بعد خبر لا غير. واستعار الالتهاب لاشتداد الحروب على طريق التصريح.(2/114)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
رِسالاتِ رَبِّي ما أوحى إلىّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال نصحته ونصحت له. وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعاً ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أى من صفات الله وأحواله، يعنى قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين. وقيل: لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه، أو أراد: وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إلىّ بها.
[سورة الأعراف (7) : آية 63]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل:
أكذبتم وعجبتم أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم ذِكْرٌ موعظة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ على لسان رجل منكم، كقوله ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، يعنون إرسال البشر، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
[سورة الأعراف (7) : آية 64]
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
وَالَّذِينَ مَعَهُ قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: تسعة، بنوه سام وحام ويافث، وستة ممن آمن به. فإن قلت: فِي الْفُلْكِ بم يتعلق؟ قلت: هو متعلق بمعه، كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أى أنجيناهم في السفينة من الطوفان عَمِينَ عمى القلوب غير مستبصرين. وقرئ: عامين. والفرق بين العمّى والعامىّ، أن العمى يدل على عمى ثابت. والعامي على عمى حادث. ونحوه قوله وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ.(2/115)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 69]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
أَخاهُمْ واحداً منهم من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم. وإنما جعل واحداً منهم، لأنهم أفهم عن رجل منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأخاهم: عطف على نوحا. وهُوداً عطف بيان له. فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله قالَ يا قَوْمِ ولم يقل «فقال» كما في قصة نوح «1» ؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك قالَ الْمَلَأُ. فإن قلت: لم وصف الملأ الَّذِينَ كَفَرُوا دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى: وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير فِي سَفاهَةٍ في خفة حلم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز: أرادوا أنه متمكن فيها غير منفك عنها. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام- من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم- أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عزّ وجلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت لم حذف العاطف من قوله تعالى في قصة هود هذه قالَ يا قَوْمِ ولم يقل «فقال» ؟ قلت لأنه أخرج الكلام جوابا عن سؤال سائل، كأنه قيل: فما قال هود حينئذ؟ قيل: يا قوم، وكذلك قال الملأ» قال أحمد: وحذف العاطف من المقاولة. ألا ترى قوله في سورة الشراء حكاية عن تقاول موسى عليه السلام وفرعون، كيف أسقط ذكر العاطف منه على كثرة الأقوال المعددة فيها. والسر في ذلك- والله أعلم- أن العاطف ينتظم الجمل حتى يصيرها كالجملة الواحدة «فاجتنب لارادة استقلال كل واحدة منها في معناها، والله أعلم.(2/116)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
ما يكون منهم ناصِحٌ أَمِينٌ أى عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أُتهم. أو أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أى خلفتموه في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فيما خلق من أجرامكم ذهابا في الطول والبدانة. قيل: كان أقصرهم ستين ذراعا، وأطولهم مائة ذراع فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه. وواحد الآلاء «إلى» نحو إنى وإناه، وضلع وأضلاع، وعنب وأعناب. فإن قلت:
«إذ» في قوله إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعول به وليس بظرف، أى اذكروا وقت استخلافكم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 70 الى 72]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء.. في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشأوا عليه، وألفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله أَجِئْتَنا قلت: فيه أوجه: أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث «1» فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم. وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك، وأن لا يريدوا حقيقة المجيء، ولكن التعرّض بذلك والقصد، كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا استعجال منهم للعذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أى حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع. ونحوه قولك لمن طلب إليك
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها في بدء الوحي «وكان يخلو بغار حراه يتحنث فيه حتى فجأه الوحى وهو بغار حراء.(2/117)
بعض المطالب. قد كان ذلك. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل، فجاء يبكى. فقال له يا بنىّ مالك؟ قال: لسعنى طوير كأنه ملتف في بردي حبرة «1» ، فضمه إلى صدره وقال له: يا بنى، قد قلت الشعر. والرجس: العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة. ومعنى الإلهية فيها معدوم محال وجوده. وهذا كقوله تعالى: ما تدعون من دونه من شيء. ومعنى سَمَّيْتُمُوها سميتم بها من: سميته زيداً. وقطعُ دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.
وقصتهم أن «عاداً» قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها.
صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً نبياً، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم قيل بن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه. فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان.
- قينتان كانتا لمعاوية- فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالى وأصهارى وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحى أن يكلمهم خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا: قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد امسوا ما يبينون الكلاما «2»
__________
(1) . قوله «في بردي حبرة» حبرة- كعنبة-: برد بمانى. اه صحاح. (ع) [.....]
(2) .
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... لها الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عيامى
وإن الوحش يأتيهم جهارا ... فلا يخشى لعادى سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما
لمعاوية بن بكر. وروى أن عادا بعثوا من قومهم: قيل بن عنز ونعيم بن هزالة، ومرثد بن سعد بن عفير، وجلهمة بن الحلس خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد، كل منهم مع نفر من رهطه ليدعوا الله بالسقيا عند الكعبة، فنزلوا عند معاوية بن بكر فأكرمهم وبعث إليهم الجرادتين لتغنيا لهم- وهما قينتان مغنيتان أول من غنى في نساء العرب- فنسوا قومهم من كثرة اللهو والطرب. فقال معاوية: هلك أخوالى، ولو قلت لهم شيئا ظنوا بى بخلا. فأنشأ هذا، وأمر الجرادتين بغنائه لهم. والهينمة: صوت خفى لا يفهم. والمراد بها دعاء الله بالسقيا. ويسقينا غماما: أى ماء غمام. ما يبينون الكلام، لضعفهم من العطش. فليس نرجو» أى ليس نحن نرجو لها أى لعاد. ويروى «به» أى بسبب العطش. وحق الرواية «بها» أى في أرض عاد. الشيخ ولا الغلام. والعيمة، شدة الشهوة إلى اللبن.
والمراد بها مطلق الفاقة. والعيامى: جمع عيم بالتشديد، أى رثيئة الحال، وأصله عيائم، فقلب إلى عيامى، كما روى أيامى، وهو جمع أيم، وأصله أيائم، أى فاقدات الأزواج. فالمعنى على التشبيه. ويجوز أن المراد: نساءكم التي تركتموهن كأنهن بلا أزواج هناك. وتكرير النساء للاستعطاف عليهن. والعادي: نسبة لعاد، وكانوا الغلاظ الشداد. والوحش: اسم جنس جمعى، واحده وحشى، كانس وإنسى، وترك وتركى. فيذكر باعتبار لفظه، ويؤنث باعتبار جمعيته. وروى «بهما» ونهاركم: نصب على الظرف، و «من وقد قوم» تمييز مقترن بمن، والسلام عطف على التحية، وفيه تورية لأنه يشير إلى انقطاع الكلام، كما أن المجتمعين يأتيان به عند المفارقة. فلما سمع القوم ذلك انطلقوا إلى للكعبة، فلحقهم مرثد بن سعد وكان مؤمنا فأخروه، فدعا الله تعالى لنفسه لا للقوم. وقال قيل:
اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا، فأنشأ سحابة بيضاء وسحابة حمراء وسحابة سوداء. ثم نودي: يا قيل، اختر أيها شئت. فقال: أما البيضاء فجفل، وأما الحمراء فعارض. وأما السوداء فهيطل، فاختارها فنودي. قد اخترت رمادا أرمدا، لا يبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. فسارت السوداء إلى عاد فأهلكتهم، وجاء لقمان بن عاد بعد أن فرغوا من دعواتهم فقال: اللهم إنى جئتك وحدي، فأعطنى سؤلي. وسأل عمر سبعة أنسر، وكان عمر النسر ثمانين سنة، فكان يأخذ النسر من وكره فلا يزال عنده حتى يموت، وكان آخر نسوره اسمه لبد، فلما مات مات.
ثم إن ذلك كان قبل وجود مكة وزمزم، لأنهما إنما وجدان في زمن إبراهيم وإسماعيل، فلعل معاوية بن بكر كان سكنه قريبا من موضع مكة، لا في نفس موضعها، لأنه إذ ذاك لم تكن فيه كلأ ولا ماء.(2/118)
فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه، فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء.
يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت:
ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت:
هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين.(2/119)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 74]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قرئ وَإِلى ثَمُودَ بمنع الصرف بتأويل القبيلة، وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحىّ، أو باعتبار الأصل، لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل:
سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الشام والحجاز إلى وادى القرى قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ آية ظاهرة وشاهد على صحة نبوّتى. وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وآية نصب على الحال، والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية. ولكم: بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً، وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحل وطروقة آية من آياته، كما تقول: آية الله. وروى أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالا، حتى أن الرجل كان يبنى المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله تعالى فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم- جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة- أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء- والمخترجة التي شاكلت البحت- فإن فعلت صدّقناك وأجبناك. فأخذ صالح عليه السلام عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ، قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء. كما(2/120)
وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى، وعظماؤهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه، ومنع أعقابهم ناس من رؤسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كلّ ماء فيها، ثم تتفحج «1» فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون. قال أبو موسى الأشعرى: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا. وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أمّ غنم، وصدقة بنت المختار- لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتى المواشي- فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى رقى جبلا اسمه قارة فرغى ثلاثا وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفجت «2» الصخرة بعد رغائه فدخلها. فقال لهم صالح: تصبحون غداً ووجوهكم مصفرّة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه. فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أى الأرض أرض الله والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيء من الأذى إكراماً لآية الله. ويروى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه «لا يدخلنّ أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم «3» » وقال صلى الله عليه وسلم «يا علىّ، أتدري من أشقى الأوّلين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال «عاقر ناقة صالح، أتدرى من أشقى الآخرين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال «قاتلك «4» » وقرأ أبو جعفر في رواية
__________
(1) . قوله «ثم تتفحج» أى تفرج ما بين رجليها. (ع)
(2) . قوله «وانفجت الصخرة» أى انفتحت. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما من طرق.
(4) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خيثم والد يزيد المذكور عن عمار بن ياسر قال «كنت أنا وعلى رفيقين في غزوة العسرة إلى أن قال: فقال يا على، ألا أخبرك بأشقى الناس: رجلين؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا على على هذه وأشار إلى رأسه- حتى يبل هذه- ووضع يده على لحيته» ومن هذا الوجه أخرجه النسائي في الخصائص والحاكم والطبري والبيهقي في الدلائل. وفي الباب عن جابر بن سمرة أخرجه الطبراني وعن صهيب أخرجه أبو يعلى والطبراني. وعن على أخرجه ابن مردويه في تفسير والشمس وضحاها «تنبيه» في رواية المذكورين «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عليا، فقال له في الأول: عاقر الناقة، قال صدقت. وقال في الثانية «لا علم لي» وفي رواية جابر بن سمرة «الله أعلم» .(2/121)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
تأكل في أرض الله، وهو في موضع الحال بمعنى آكلة وَبَوَّأَكُمْ ونزلكم. والمباءة: المنزل فِي الْأَرْضِ في أرض الحجر بين الحجاز والشام مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أى تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص «1» واللبن والآجر. وقرأ الحسن: وتنحتون بفتح الحاء وتنحاتون بإشباع الفتحة، كقوله:
يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ «2»
فإن قلت: علام انتصب بُيُوتاً؟ قلت: على الحال، كما تقول: خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما، وهي من الحال المقدّرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبرى. وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 الى 79]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
__________
(1) . قوله «من الرهص» هو الصخر الثابت في أسفل الحائط. اهـ من الصحاح. (ع)
(2) .
وكان ربا أو كحيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم
ينباع من ذفرى أسيل حرة ... زيافة مثل الفنيق المكرم
لعنترة بن شداد العبسي من معلقته، يصف عرق ناقته من السير، فشبه بالرب، وهو العصير والطلاء. أو بالكحيل وهو القطران المنعقد بالنار على جوانب القمقم. وأعقدت الدواء: أغليته حتى خثر. وحش الوقود: أشعله وأوقده. وهو هنا مبنى للمجهول وأصل «ينباع» ينبع، فتولدت الألف للأشباع، والذفرى: نقرة منخفضة جنب الأذن، إذا طال سير البعير انتفخ من وسطها جلدة وارتفعت وسال منها العرق في النقرة، وهي المشبهة بالقمقم سابقاً. وقيل الذفرى أصل الأذن. والأسيل: الناقة المستقيمة الخلق، من قولهم: خد أسيل، وكف أسيل، وحر كل شيء: خالصه. زيافة: كثيرة الزيف وهو التبختر في السير. والفنيق: فحل الإبل المكرم باعفائه عن العمل لأجل الضراب، فالمكرم: نعت مفسر. ويروى المكدم بالدال. ويقال: كدمه إذا عضه. وأما أكدمه فلم أقف عليها، ولعلها لغة قليلة. والمكدم اسم مفعول منها، أى الذي كدمته الفحول وعضته فأثرت فيه لتنقب جلدها من أثر الرحل والركض. وروى: من ذفرى غضوب جسرة، أى شديدة الغضب صلبة موثقة الخلق. وقيل «ينباع» وزنه «ينفعل» من البوع، وهو طى المسافة البعيدة، ولا معنى له في البيت.(2/122)
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، ولِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا. فان قلت: الضمير في منهم راجع إلى ماذا «1» ؟ قلت: إلى قَوْمِهِ أو إلى لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا. فإن قلت: هل لاختلاف المرجعين أثر في اختلاف المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن الراجع إذا رجع إلى قومه فقد جعل لِمَنْ آمَنَ مفسراً لمن استضعف منهم، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، وإذا رجع إلى الذين استضعفوا لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ شيء قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة: أتعلمون أن الله فوق العرش.
فان قلت: كيف صحّ قولهم إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جوابا عنه «2» ؟ قلت: سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه «3» ولا شبهة يدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «4» فوضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ رداً لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلماً فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربهم: ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوّهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو عن هذه ما في قوله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت الضمير في منهم راجع إلى ماذا؟ قلت: إلى قومه ... الخ» قال أحمد: فقوله لِمَنْ على الأول بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. وعلى الثاني بدل بعض من كل.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف وقع قولهم إنا بما أرسل به مؤمنون جوابا ... الخ» قال أحمد:
وقولهم إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ليس إخباراً عن وجوب الايمان به، بل عن امتثال الواجب والعمل به، ونحن قد امتثلنا.
(3) . قوله «ما لا كلام فيه» لعله: مما لا كلام فيه. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال محمود: «ولذلك كان جواب الكفرة إنا بالذي ... الخ» قال أحمد: ولو طابقوا بين الكلامين لكان مقتضى المطابقة أن يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، ولكن أبوا ذلك حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها. وقد يصدر مثل ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فأثبت إرساله تهكما، وليس هذا موضع التهكم، فان الغرض إخبار كل واحد من الفريقين المؤمنين والمكذبين عن حاله، فلهذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الايمان بالرسالة احتياطاً للكفر وعلواً في الإصرار.(2/123)
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ائْتِنا بِما تَعِدُنا أرادوا من العذاب. وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوما.
واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين الرَّجْفَةُ الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها فِي دارِهِمْ في بلادهم أو في مساكنهم جاثِمِينَ هامدين لا يتحركون موتى. يقال: الناس جثم، أى قعود لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة. ومنه المجثمة التي جاء النهى عنها «1» ، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى. وعن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه «2» » وروى أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروى أنه عليه السلام مرّ بقبر أبى رغال فقال: «أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبى رغال، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصن من ذهب» فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن «3» . فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الظاهر أنه كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولى مغتمّ متحسر على ما فاته من إيمانهم يتحزن لهم ويقول يا قَوْمِ لَقَدْ بذلت فيكم وسعى ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم ولكنكم لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وروى أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروى أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكى، فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروى أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
فإن قلت: كيف صحّ خطاب الموتى وقوله وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ؟ قلت: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة: يا أخى، كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل منى؟ وقوله وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية.
__________
(1) . أما النهى فرواه أصحاب السنن وابن حيان والحاكم من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من في السقاء، وعن ركوب الجلالة، وعن المجثمة» ورواه البزار من طريق الوراق عن قتادة عن أنس مثله. وكذا قال، وأخرجه البزار وقال: إسناده حسن. ومن حديث العرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة، أخرجه الترمذي وحسنه من رواية سعيد بن المسيب عن أبى الدرداء قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل المجثمة وهي التي تضرب بالنبل» .
(2) . أخرجه ابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والطبري من رواية عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبى الزبير عن جابر- وزاد «في غزوة تبوك» ، فقام فخطب الناس.
(3) . أخرجه أبو داود وابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من رواية بجير بن أبى بجير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ولفظه «فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن» وأما قوله «فبحثوا عنه بأسيافهم» فأخرجه عبد الرزاق عن معمر مرسلا. [.....](2/124)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وَلُوطاً وأرسلنا لوطا. وإِذْ ظرف لأرسلنا. أو واذكر لوطا، وإذ بدل منه، بمعنى: واذكر وقت قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أتفعلون السيئة المتمادية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها ما عملها قبلكم، والباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه السلام «سبقك بها عكاشة «1» » مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ «من» الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة مستأنفة، أنكر عليهم أوّلا بقوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أوّل من عملها. أو على أنه جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان لقوله: أتأتون الفاحشة. والهمزة مثلها في أَتَأْتُونَ للإنكار والتعظيم. وقرئ: إنكم، على الإخبار المستأنف لتأتون الرجال، من أتى المرأة إذا غشيها شَهْوَةً مفعول له، أى للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، أنه لا داعى لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه أو حال بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين إلى السماجة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعوا إلى اتباع الشهوات وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ. وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا يعنى ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام، من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث ابن عباس في قصته. ولمسلم من حديث أبى هريرة نحوه. ومن حديث عمران بن حصين رضى الله عنه.(2/125)
بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم. وقولهم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف «1» ، وأريحونا من هذا المتزهد وَأَهْلَهُ ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين «2» مِنَ الْغابِرِينَ من الذين غبروا في ديارهم، أى بقوا فهلكوا. والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. وروى أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. وقيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروى أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. فإن قلت:
أى فرق بين مطر وأمطر؟ قلت: يقال مطرتهم السماء وواد ممطور «3» . وفي نوابغ الكلم: حرى غير ممطور. حرى أن يكون غير ممطور «4» ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، كقولهم. غاثتهم وو بلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى أرسلته عليهم إرسال المطر فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. ومعنى وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيباً يعنى الحجارة. ألا ترى إلى قوله فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
__________
(1) . قوله «أبعدوا عنا هذا المتقشف» المنقشف: هو الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع، من القشف: وهو التغير من الشمس أو الفقر اهـ. (ع)
(2) . قوله «من ذويه أو من المؤمنين» يعنى أقاربه وامرأته. (ع)
(3) . قال محمود: «يقال مطرتهم السماء وواد ممطور ... الخ» قال أحمد: مقصود المصنف الرد على من قول:
مطرت السماء في الخير، وأمطرت في الشر. ويتوهم أنها تفرقة وضعية، فبين أن أمطرت: معناه أرسالات شيئاً على نحو المطر وإن لم يكن ماء، حتى لو أرسل الله من السماء أتواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن والسلوى، لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرات، أى أرسلتها إرسال المطر. فليس الشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا، فظن الواقع اتفاقا مقصودا في الوضع فنبه على تحقيق الأمر فيه وأحسن وأجمل.
(4) . قوله «حرى غير ممطور حرى أن يكون غير ممطور» حرى الأول بمعنى ناحية وجانب. والثاني بمعنى جدير وحقيق. وممطور الأول بمعنى مصاب بالمطر. والثاني بمعنى مذهوب فيه. كذا يؤخذ من الصحاح. (ع)(2/126)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)
كان يقال لشعيب عليه السلام خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة شاهدة بصحة نبوّتى أوجبت عليكم الإيمان بى والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا. فإن قلت:
ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزة، لقوله قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ.
ولأنه لا بدّ لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئاً لا نبيا غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه. ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روى من محاربة عصى موسى عليه السلام التنين «1» حين دفع إليه غنمه. وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصى آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات، لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزات لشعيب. فإن قلت: كيف قيل الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هود عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل وهو المكيال. أو سمى ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به. أو أريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان. ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر، ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخس. وقيل أَشْياءَهُمْ لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوة كما يفعل أمراه الحرمين. وروى أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطاعا، ثم أخذوها بنقصان ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفا بَعْدَ إِصْلاحِها بعد الإصلاح فيها، أى لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم. وإضافته كإضافة قوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بمعنى بل مكركم في الليل والنهار، أو
__________
(1) . قوله «التنين» هو ضرب من الحيات والدرع سود الرؤوس بيض سائر الأبدان اهـ. (ع)(2/127)
بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه. ومعنى خَيْرٌ لَكُمْ يعنى في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم مصدقين لي في قولي ذلكم خير لكم وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ولا تقتدوا بالشيطان في قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فتقعدوا بكل صراط أى بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومحل تُوعِدُونَ وما عطف عليه: النصب على الحال أى:
ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً. فإن قلت: صراط الحق واحد، وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فكيف قيل: بكل صراط؟
قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أو عدوه وصدّوه. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في آمَنَ بِهِ؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه. وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد، فيقولون لمن مرّ بهم: إن شعيباً كذاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريش بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق.
وقيل: كانوا عشارين وَتَبْغُونَها عِوَجاً وتطلبون لسبيل الله عوجا، أى تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها: أو يكون تهكما بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأنّ طريق الحق لا يعوج وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذ مفعول به غير ظرف. أى: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم فَكَثَّرَكُمْ الله ووفر عددكم.
قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا. ويجوز إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم: فجعلكم مكثرين موسرين. أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فَاصْبِرُوا فتربصوا وانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أى بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أو هو عظة للمؤمنين وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم.
ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أى ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب وَهُوَ خَيْرُ(2/128)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
الْحاكِمِينَ
لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
أى ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم، وإمّا عودكم في الكفر. فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود «1» في الكفر في قولهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وكيف أجابهم بقوله إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر؟ قلت: لما قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا: لتعودنّ، فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعا، إجراء للكلام على حكم التغليب. وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال:
إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف خاطبوا شعيباً بصيغة العود ... الخ» قال أحمد: والزمخشري بنى هذا الكلام على أن صيغة العود تستدعى رجوع العائد إلى حال كان عليها قبل. والتحقيق في الجواب عن السؤال المذكور مع اقتضاء العود لذلك: أن هذا الفعل وإن استعمل كذلك، إلا أنه كثيراً ما يرد بمعنى صار. وحينئذ يجوز أن يكون أخا لكان ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة، بل عكس ذلك وهو الانتقال من حال سابقة إلى حالة مؤتنفة مثل صار، وكأنهم قالوا- والله أعلم-: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفاراً مثلنا، وحينئذ يندفع السؤال. أو يسلم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق. ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الناشئ في الايمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها وكذلك الكافر الأصلى لم يدخل قط في نور الايمان ولا كان فيه، ولكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسراً لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله عنه إلى الايمان إخباراً بالإخراج من الظلمات إلى النور.
توفيقاً من الله له ولطفا به. وبالعكس في حق الكافر، وقد مضى نظير هذا النظر عند قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وهو من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لاقامة حجة الله على عباده، والله أعلم.(2/129)
وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب، فإن قلت: فما معنى قوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ والله تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين «1» وعودهم في الكفر «2» ؟ قلت: معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه انها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حسما لطمعهم «3» في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة «4» أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. وما يكون لنا، وما ينبغي لنا، وما يصح لنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا احكم بيننا. والفتاحة، الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا وَبَيْنَ قَوْمِنا وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ كقوله وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. فإن قلت: كيف أسلوب قوله قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ؟ قلت: هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام، لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على الله الكذب، حيث يزعم أنّ لله نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفى عليه من التمييز
__________
(1) . قوله «والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين» أى تنزه عن أن يشاء ... الخ، على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر. أما عند أهل السنة فيريده كالخير. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت الله تعالى مقدس عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر ... الخ» . قال أحمد: وهذا السؤال كما ترى مفرع على القاعدة الفاسدة، في اعتقاد وجوب رعاية الصلاح والأصلح، وهو غير موجه على قاعدة السنة، فظاهر الآية هو المعول عليه لا يجوز تأويله ولا تبديله. وأما استدلال الزمخشري على صحة تأويله بقوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فمن احتيالاته في التأويلات الباطلة، يعضدها ويتبع الشبه ويلفقها. وموقع قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة، فان العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم والخوف لازم، ولكن لمن وفقه الله تعالى للعقيدة الصحيحة والايمان السالم، والله الموفق. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة بحد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات، والله أعلم.
(3) . عاد كلامه. قال: ويجوز أن يكون المراد حسم طمعهم ... الخ» قال أحمد: وهذا من الطراز الأول، فألحقه به، وسحقا سحقا.
(4) . قوله «محال خارج عن الحكمة» مبنى على مذهب المعتزلة أيضا. (ع)(2/130)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
بين الحق والباطل. والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذبا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 92]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أى أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية. فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وجواب الشرط؟ قلت: قوله إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ سادّ مسدّ الجوابين الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا وكذلك كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم، لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغة في ردّ مقالة الملإ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 93]
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
الأسى: شدّة الحزن. قال العجاج:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى
اشتدّ حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال: فكيف يشتدّ حزنى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ويجوز أن يريد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فكيف آسى عليكم يعنى أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى. وقرأ يحيى بن وثاب: فكيف إيسى، بكسر الهمزة.(2/131)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 95]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)
إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ بالضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أى أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة كقوله وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «وأعفوا اللحى» «1» وقال الحطيئة:
بِمُسْتَأسِدِ القرْيَانِ عَافَ نَبَاتُهُ «2»
وقال:
ولكنّا نعضّ السّيف منها ... بأسوق عافيّات الشّحم كوم «3»
__________
(1) . تقدم في البقرة.
(2) .
فان نظرت يوما بمؤخر عينها ... إلى علم في الغور قالت أبعد
بأرض ترى فرخ الحبارى كأنها ... بها راكب موف على ظهر قردد
بمستأسد القريان عاف نباته ... تساقطنى والرحل من صوت هدد
لحطيئة. ومؤخر العين- كمؤمن-: جانبها. والعلم: الجبل والعلامة في الطريق. والغور: الموضع الغائر المنخفض.
وقالت له «ابعد» مجاز عن تركها إياه بسرعة، فيبعد عنها. والحبارى: طير يهوى الجبال، وفرخها يسمى النهار.
وفرخ الكروان يسمي الليل. والموفى: المشرف. والقردد- كهدهد- المكان الغليظ المرتفع. والمستأسد: النبات القوى الغليظ الطويل، كما سمى السبع أسداً لقوته. والقريان- بالضم- جمع قرى كفعيل: مجرى الماء الذي يجمعه إلى الروض. والعافي الكثير، يصف ناقته بسرعة السير وأنها لخوفها في ذلك الطريق لا نتمكن من تمام النظر إلى أعلامه، فإذا لمحت فيه شبحاً أسرعت مبعدة عنه في أرض مجهل، كأن فرخ الحبارى فيها راكب مشرف فوق مكان مرتفع. وقوله «بمستأسد» بدل من قوله «بأرض» أو متعلق بتساقطنى. والمعنى: أنه لا فرق عندها بين الحزن والسهل في نبات الغدران حال كثرته، ترديني مع رحلها لسرعة سيرها من خوفها من صوت هدهد واحد. وعلى الأول، تساقطني حال من فاعل «قالت» أو جواب الشرط، وقالت له: ابعد، صفة علم. وعبر بالتساقط، لأن المعنى:
كلما تمكنت حركتنى، حتى أكاد أسقط.
(3) .
إذا ما درها لم يقر ضيفا ... ضمن له قراه من الشحوم
فلا تتجاوز العضلات منها ... إلى البكر المعازب والكروم
ولكنا لعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
البيد بن ربيعة العامري. يقول: إذا لم يكف در النوق في قرى الضيف، كان قراء من شحومها، فأسند القرى إلى اللبن لأنه آلته أو سببه. وإسناد الضمان إلى نوق الإبل مجاز أيضاً، لأنها محل المضمون. والفعلان في الحقيقة لمالك الإبل. والمراد: أنها معدة لذلك إما بلبنها أو شحمها. والعضلة: الحسنة السمينة. والبكر: الفتى من الإبل ذكراً أو أنثى. والمعازب المهزول، من عزب إذا أبعد. والمعزابة والمعزاب: الذي طالت عزوبته وبعده لعدم نسله أو لبعده عن البيوت، فكأنه بمعنى المباعد في الأصل، ثم أريد به المهزول مجازاً. والكزم بالزاي القصير. ومنه كزم ككتف. وأكزم وكزما، فالكزوم كصبور القصيرة. وقيل المسنة التي قصر مشفرها الأسفل عن الأعلى. أو التي لم يبق لها سن من الهرم. وكزمه أيضا إذا كسره بمقدم فمه. ويجوز أن المعازب بالفتح جمع معزاب أو معزابة، فيكون البكر مستعملا في معنى الجمع، أى لا تترك الوسط السمان من الإبل ذاهبين إلى الصغار المهازيل والمسنات البالغات في الهرم، ولكنا نجعل السيف يعض منها، بأسوق جمع ساق مضاف إلى عافيات، أى كثيرات الشحم لتركها من العمل سنة أو سنتين. والكوم جمع كوماء، أى عظيمات الأسنمة مرتفعاتها. [.....](2/132)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعنى وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء. وقد مس آباؤنا نحو ذلك، وما هو بابتلاء من الله لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلا أن نأخذهم بالعذاب فَأَخَذْناهُمْ أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 96]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)
اللام في القرى: إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ كأنه قال:
ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمَنُوا بدل كفرهم وَاتَّقَوْا المعاصي مكان ارتكابها لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لآتيناهم بالخير من كل وجه. وقيل أراد المطر والنبات وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في القرى للجنس. فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 98]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
البيات يكون بمعنى البيتوتة. يقال: بات بياتاً. ومنه قوله تعالى فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. يقال: بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين، أو وقت بيات، أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى تبييتاً، كأنه قيل:
أن يبيتهم بأسنا بياتاً. وضُحًى نصب على الظرف. يقال: أتانا ضحى، وضحيا، وضحاء(2/133)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
والضحى- في الأصل- اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في أَفَأَمِنَ وأَ وَأَمِنَ حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار. فإن قلت: ما المعطوف عليه؟ ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وقوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى إلى يَكْسِبُونَ وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه. وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ وقرئ: أو أمن، على العطف بأو وَهُمْ يَلْعَبُونَ يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون.
[سورة الأعراف (7) : آية 99]
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ قلت: هو تكرير لقوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ومكر الله: استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر. ولاستدراجه. فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة. وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: مالى أرى الناس ينامون ولا أراك تنام، فقال: يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً
[سورة الأعراف (7) : آية 100]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
إذا قرئ أَوَلَمْ يَهْدِ بالياء كان أَنْ لَوْ نَشاءُ مرفوعاً بأنه فاعله، بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين. وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كما أصبنا من قبلهم. وإنما عدّى فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين. فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ «1» ؟ قلت: فيه أوجه، أن يكون معطوفا على ما دلّ عليه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت بم يتعلق قوله وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ ... الخ» قال أحمد: بل يجوز والله عطفه عليه، ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع، ولا يضرهم إن كانوا كفارا أو مقترفين للذنوب، فليس الطبع من لوازم اقتراف الذنب ولا بد، إذ الطبع هو التمادي على الكفر والإصرار والغلو في التصميم، حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق. ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المنابة. بل إن الكافر يهدد من تماديه على كفرهم بأن يطبع الله على قلبه، فلا يؤمن أبداً، وهو مقتضى العطف على أصبناهم، فتكون الآية قد هددتهم بأمرين، أحدهما:
الاصابة ببعض ذنوبهم، والآخر الطبع على قلوبهم. وهذا الثاني أشد من الأول، وهو أيضا نوع من الاصابة بالذنوب أو العقوبة عليها، ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب. وكثيرا ما يعاقب الله على الذنب بالإيقاع في ذنب أكبر منه وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه، كما قال تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم. وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه، فثواب الايمان إيمان وثواب الكفر كفر. وإنما الزمخشري يحاذوا من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى. وذلك عنده محال، لأنه قبيح والله عنه متعال، وأنى يتم الفرار من الحق. وكم من آية صرحت بوقوع الطبع من الله، فضلا عن تعلق المشيئة به.(2/134)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
معنى أَوَلَمْ يَهْدِ كأنه قيل: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم. أو على يرثون الأرض أو يكون منقطعاً بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون وَنَطْبَعُ بمعنى وطبعنا، كما لَوْ نَشاءُ بمعنى: لو شئنا، ويعطف على أصبناهم؟ قلت: لا يساعد عليه المعنى؟ لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها. وهذا التفسير يؤدى إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها.
[سورة الأعراف (7) : آية 101]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101)
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها كقوله هذا بَعْلِي شَيْخاً في أنه مبتدأ وخبر وحال ويجوز أن يكون الْقُرى صفة لتلك ونَقُصُّ خبرا، وأن يكون الْقُرى نَقُصُّ خبرا بعد خبر.
فإن قلت: ما معنى تِلْكَ الْقُرى حتى يكون كلاما مفيدا؟ قلت: هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت: معناه أنّ تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، أى استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد: هو كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. كَذلِكَ مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
[سورة الأعراف (7) : آية 102]
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)(2/135)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضمير للناس على الإطلاق، أى وما وجدنا لأكثر الناس من عهد يعنى أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى وَإِنْ وَجَدْنا وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين، خارجين عن الطاعة مارقين. والآية اعتراض. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضرّ ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمننّ، ثم نجاهم نكثوا كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، إلى قوله إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدت زيداً ذا الحفاظ، بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة. ولا يسوغ ذلك إلا في المبتدإ والخبر. والأفعال الداخلة عليهما.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 105]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)
مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير للرسل في قوله وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أو للأمم فَظَلَمُوا فكفروا بآياتنا. أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من واد واحد إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أو فظلموا الناس بسببها حين او عدوهم وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فلذلك قيل: فظلموا بها، أى كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان. يقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال:
يا ملك مصر وكان اسمه قابوس. وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فيه أربع قراآت، المشهورة: وحقيق علىّ أن لا أقول «1» ، وهي قراءة نافع وحقيق أن لا أقول
__________
(1) . قال محمود: «فيه أربع قراآت، المشهورة: وحقيق علىّ أن لا أقول ... الخ» قال أحمد: القلب يستعمل في اللغة على وجهين، أحدهما: قلب الحقيقة إلى المجاز لوجه من المبالغة كقوله:
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
وكقوله:
قد صرح السر عن كتمان وابتذلت ... وضع المحاجن بالمهرية الدقن
فالحقيقة أن الضياطرة تشقى بالرماح، والمهرية تبتذل بالمحاجن، فعدل عن ذلك تنبيهاً على أن الرماح قد تنفصل وتنقصف في أجوافهم، فعبر عن ذلك بالشقاء، وأن المحاجن كثيرا ما ترفع وتوضع وتستعمل في ضرب المهرية، وربما تمزقت عن ذلك فجعل ذلك ابتذالا لها، وقد حام أبو الطيب حول هذا النوع كثيراً في أمثال قوله:
والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به ... وللسيوف كما للناس آجال
والمراد بشقاء السيف: انقطاعه في أضلاع المضروب، كما صرح بذلك في قوله:
طوال الردينيات يقصفها دمى ... وبيض السريجيات يقطعها لحمى
الوجه الثاني: قلب معرى عن هذا المعنى البليغ، ولذلك لا يستفصح، كقولهم: خرق الثوب المسمار وأشباهه، وعلى الوجه الأول الأفصح جاءت الآية على هذه القراءة، وهو الوجه الرابع من وجوه الزمخشري، وفي طيه من المبالغة ما نبهت عليه. وأما الوجه الثاني وهو «أن ما لزمك فقد لزمته» ففيه نظر من حيث أن اللزوم قد يكون من أحد الطرفين دون الآخر، ولزوم موسى عليه السلام لقول الحق من هذا النمط، وأما الوجه الثالث فلا يلائم بين القراءتين، وقد ذكر لها وجه خامس: وهو أن يكون «على» بمعنى الباء، ونقل «رميت على القوس» بمعنى رميت بالقوس، وهو وجه حسن ملائم، والله أعلم. ويشهد له قراءة أبى: حقيق بأن لا أقول.(2/136)
وهي قراءة عبد الله وحقيق بأن لا أقول وهي قراءة أبىّ وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوه، أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله:
وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ «1»
ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح، وحقيق علىّ أن لا أقول، وهي قراءة نافع. والثاني: أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق، أى لازماً له.
والثالث: أن يضمن حَقِيقٌ معنى حريص، كما ضمن «هيجنى» معنى ذكرني في بيت الكتاب.
والرابع- وهو الأوجه- الأدخل في نكت القرآن: أن يعرق موسى «2» في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدو الله فرعون قال له- لما قال إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
__________
(1) .
كذبتم وبيت الله حين تعالجوا ... قوادم حرب لا تلين ولا نمرى
نزلت بخيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
لخداش بن زهير، يقول لقومه: كذبتم وحق بيت الله: في دعواكم إمكان الصلح، وهذا يعلم ضمنا من قوله «حين تعالجوا، أو استعار الكذب للخطأ في الظن أو الرأى، أى أخطأتم في ممارستكم الجماعات القادمات الحرب لأجل الصلح. ويشبه أن يكون قوله «تعالجوا» محرفا، وأصله بالصاد والحاء بدل العين والجيم، وعلى كل فحذف نونه للوزن أو للتخفيف، و «لا تلين» صفة قوادم. وأمرت الناقة: در لبنها، شبه الرضاء بالصلح بأمر الناقة. على طريق التصريح، ثم نفاه وبين ذلك بقوله «نزلت بخيل» أى في أصحاب خيل. ويحتمل أن الخيل مجاز عن الفرسان، أو كناية عنهم. وروى «وتلحق خيل» فهو عطف على «لا تلين» أى: وتسرع خيل منها. والهوادة:
الصلح والبقية من القوم يرجى بها صلاحهم، والمعنى أنهم لا يرجى صلحهم. وتشقى: أى تتعب الرماح بسبب الضياطرة، وهو من باب القلب لا من اللبس. والمعنى: وتشقى الضياطرة بالرماح. والضيطر: الضخم الجبان.
وقياس جمعه ضياطير، إلا أنه عوض الهاء من الياء. والحمر عند العرب: كناية عن العجم، لأنها تصف الحسن بالأخضر، والقبيح بالأحمر. والمعنى: تتعب ضياطرتهم من حمل رماحهم. ويجوز أن المراد من طعن رماحنا.
ويحتمل أن لا قلب، وأنه بالغ في ضخمهم، حتى كأن الرماح تتعب من طعنهم، لكن الأول هو المنقول.
والمعنى: لا تصالحوهم بل نحاربهم.
(2) . قوله «أن يعرق موسى» لعله: يغرق بالمعجمة. وفي الصحاح. أغرق النازع في القوس، أى استوفى مدها. (ع)(2/137)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
كذبت، فيقول: أنا حقيق على قول الحق أى واجب علىّ قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فخلهم حتى يذهبوا معى راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفى وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام
[سورة الأعراف (7) : الآيات 106 الى 107]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
فإن قلت: كيف قال له فَأْتِ بِها بعد قوله إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ؟ قلت: معناه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأتنى بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان. وروى أنه كان ثعبانا ذكراً أشعر فاغراً فاه «1» بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى، خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بنى إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصى. فإن قلت: بم يتعلق لِلنَّاظِرِينَ؟ قلت يتعلق ببيضاء. والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجا عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، وذلك ما يروى أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟
قال: يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 112]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
__________
(1) . قوله «فاغراً فاه» أى فاتحا فاه. (ع)(2/138)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أى عالم بالسحر ماهر فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعة من خدعه، حتى خيل إليهم العصى حية، والآدم أبيض. فإن قلت قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملإ وعزى هاهنا إليهم. قلت: قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم هاهنا. أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك، يرى الواحد منهم الرأى فيكلم به من يليه من الخاصة، ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وقرئ سحار، أى يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة. أو بخير منه.
وكانت هذه مؤامرة مع القبط. وقولهم فَماذا تَأْمُرُونَ من أمرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى. وقيل: فماذا تأمرون؟ من كلام فرعون، قاله للملإ لما قالوا له: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم، كأنه قيل: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه، ومعنى أرجئه وأخاه أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل: احبسهما.
وقرئ: أرجئه، بالهمزة. وأرجه، من أرجأه وأرجاه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 114]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
فإن قلت: هلا قيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا؟ قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أى جعلا على الغلبة: وقرئ: إن لنا لأجراً، على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه: كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب: إنّ له لإبلا، وإنّ له لغنما، يقصدون الكثرة. فإن قلت: وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجابا لقولهم: إن لنا لأجراً: نعم إن لكم لأجراً، وإنكم لمن المقرّبين، أراد: إنى لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة.
وروى أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروى أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به. وروى أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وقيل: سبعين ألفاً وقيل: بضعة وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر. وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل: قال فرعون: لا نغالب موسى إلا بما هو منه، يعنى السحر.(2/139)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 115 الى 122]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع. وقولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أروها بالحيل والشعوذة «1» وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. روى أنهم ألقوا حبالا غلاظاً وخشبا طوالا، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وأرهبوهم إرهابا شديداً، كأنهم استدعوا رهبتهم بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في باب السحر. روى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل: جعلوا فيها الزئبق ما يَأْفِكُونَ ما موصولة
__________
(1) . قال محمود: «معناه أروها بالحيل والشعوذة ... الخ» قال أحمد: معتقد المعتزلة إنكار وجود السحر والشياطين والجن في خبط طويل لهم. ومعتقد أهل السنة إقرارها الظواهر على ما هي عليه، لأن العقل لا يحيل وجود ذلك.
وقد ورد السمع بوقوعه، فوجب الإقرار بوجوده، ولا يمنع عند أهل السنة أن يرقى الساحر في الهواء، ويستدق فيتولج في الكوة الضيقة، ولا يمنع أن يفعل الله عند إرشاد الساحر ما يستأثر الاقتدار عليه، وذلك واقع بقدرة الله تعالى عند إرشاد الساحر. هذا هو الحق والمعتقد الصدق، وإنما أجريت هذا الفصل لأن كلام الزمخشري لا يخلو من رمز إلى إنكاره، إلا أن هذا النص القاطع بوقوعه يلجمه عن التصريح بالدفاع وكشف القناع، ولا يدعه التصميم على اعتقاد المعتزلة من التنفيس عما في نفسه، فيسميه شعوذة وحيلة. وبالقطع يعلم أن الشعوذة لا تعلم في يد ابن عمر رضى الله عنه حتى بكوعها، ولا تؤثر في سيد البشر حتى يخيل اليه أنه يأتى نساءه وهو لا يأتيهن.
وقد ورد ذلك وأمثاله مستفيضا واقعا، فالعمدة أن كل واقع فبقدرة الله تعالى، فلا يمتنع أن يوقع تعالى بقدرته عند إرشاد الساحر أعاجيب يضل بها من يشاء ويهدى من يشاء، والله الموفق.(2/140)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
أو مصدرية، بمعنى: ما يأفكونه أى يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه. أو إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك، روى أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصى كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرّقها أجزاء لطيفة قالت للسحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فَوَقَعَ الْحَقُّ فحصل وثبت. ومن بدع التفاسير: فوقع قلوبهم، أى فأثر فيها من قولهم. قاس وقيع وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وصاروا أذلاء مبهوتين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ وخرّوا سجدا: كأنما ألقاهم ملق لشدّة خرورهم. وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا. وعن قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة، وفي آخره شهداء بررة. وعن الحسن. تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشأوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 124]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
آمَنْتُمْ بِهِ على الإخبار، أى فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخا لهم وتقريعاً. وقرئ:
أآمنتم، بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء قد تواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بنى إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروى أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بى إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر.
وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد أجمله ثم فصله بقوله لَأُقَطِّعَنَّ وقرئ لأقطعن بالتخفيف، وكذلك ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا. وقيل: إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 125 الى 126]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ فيه أوجه، أن يريدوا: إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد(2/141)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
القطع والصلب، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله، فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أرادوا: وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان. ومنه قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم «1»
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغا. وعن بعض السلف: إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً ثم يقول: قد مازحتك، أى يغمره بالحياء والخجل. أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.
[سورة الأعراف (7) : آية 127]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)
وَيَذَرَكَ عطف على لِيُفْسِدُوا لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، وكان ذلك مؤدّيا إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك. أو هو جواب للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودّة والإخاء «2»
والنصب بإضمار «أن» تقديره: أيكون منك ترك موسى، ويكون تركه إياك وآلهتك. وقرئ:
ويذرك وآلهتك بالرفع عطفا على أتذر موسى، بمعنى: أتذره وأ يذرك، يعنى: تطلق له ذلك.
أو يكون مستأنفا أو حالا على معنى: أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن: ويذرك بالجزم،
__________
(1) .
على عرفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب
إذا استنزلوا للطعن عنهن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
النابغة الذبياني يصف فرسانا على أفراس عارقات صابرات عوابس كوالح، فيهن جروح رطبة بالدم، وأخر يابسة، عليها جلبة، أى قشرة. وإذا التحم القتال واقتضى الحال نزولهم عن الخيل، أسرعوا نازلين عنهن بائعين أعمارهم، كاسراع الجمال المصاعب، جمع مصعب. تقول: أصعبت الجمل إذا تركته عن العمل حتى صار صعبا شديدا. والفلول انثلامات في حد السيف. والقراع: المضاربة. والكتائب: الجماعات، والبيت من استتباع المدح بما يشبه الذم، أى إن كانت فلول السيف من ذلك عيباً، فأثبته، وهي ليست عيبا فلا عيب فيهم قط، وهو مبالغة في المدح.
(2) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 578 فراجعه إن شئت اهـ مصححه(2/142)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
كأنه قيل: يفسدوا، كما قرئ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ كأنه قيل: أصدّق. وقرأ أنس رضى الله عنه: ونذرك، بالنون والنصب، أى يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وقرئ: ويذرك وإلاهتك، أى عبادتك. وروى أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك، وقيل: صنع فرعون لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام، ويقولون: ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك قال: أنا ربكم الأعلى سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ يعنى سنعيد عليهم ما كنا محناهم به من قتل الأبناء، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه، وأنه منتظر بعد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 128 الى 129]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ قال لهم ذلك- حين قال فرعون: سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا- يسكنهم ويسلبهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بنى إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم. فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على التي قبلها؟ قلت: هي جملة مبتدأة مستأنفة. وأمّا وَقالَ الْمَلَأُ فمعطوفة على ما سبقها من قوله قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وقوله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يجوز أن تكون اللام للعهد ويراد أرض مصر خاصة، كقوله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ وأن تكون للجنس فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة: إنما المرء بأصغريه، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولا أوليا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم. وقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بالنصب: أبىّ وابن مسعود، عطفا على الأرض.
أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئ، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع(2/143)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
الخدم والمهن ويمسون به من العذاب عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل. وكشف عنه، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان، فطلب زيادة لعمرو فلم توجد، فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي فينظر كيف تعملون.
[سورة الأعراف (7) : آية 130]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
بِالسِّنِينَ بسنى القحط. و «السنة» من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم، بمعنى أقحطوا. وقال ابن عباس رضى الله عنه: أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم. وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب: يأتى على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر «1» وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدودا وألين أعطافا وأرق أفئدة.
وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.
[سورة الأعراف (7) : آية 131]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والرخاء قالُوا لَنا هذِهِ أى هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك. الجل للفرس وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من ضيقة وجدب يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا: هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه من عندك. فإن قلت: كيف. قيل: فإذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة «2» ، وإن تصبهم
__________
(1) . قال محمود: «معنى لعلهم يذكرون: يتنبهون لأن ذلك كان لاصرارهم ... الخ» قال أحمد: دلت اللام على دعواهم استحقاق الحسنة. وأما دعوى اختصاصها بهم حتى لا يشركهم فيها أحد فدل عليه تقدير الخبر الذي هو لنا، وقد علمت طريقة المصنف في إسناده الحصر من تقديم ما حقه أن يؤخر كالمفعول والخبر ونحوه.
(2) . عاد كلامه. قال: فان قلت: «كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة ... الخ» قال أحمد: وقد ورد: إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فلم يراع فرق ما بينهما، ولعل بين سياق الآيتين اختلافا أوجب في كل واحد منهما ما ذكر فيه.(2/144)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
سيئة بإنّ وتنكير السيئة؟ قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه. وأمّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا شيء منها. ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء، فهل عددت أيام الرخاء طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أى سبب خيرهم وشرهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليهم ما يسوءهم لأجله، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها الآية. ولا طائر أشأم من هذا. وقرأ الحسن: إنما طيركم عند الله، وهو اسم لجمع طائر غير تكسير، ونظيره: التجر، والركب. وعند أبى الحسن:
هو تكسير.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)
مَهْما هي «ما» المضمنة معنى الجزاء «1» ، ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في
__________
(1) . قال محمود: «مهما هي «ما» المضمنة معنى الجزاء ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء ... الخ» قال أحمد:
والذي عده أولا من كلام سيبويه، وسنذكره: قال سيبويه: وسألت الخليل عن مهما فقال: هي «ما» أدخلت معها «ما» ، بلغو بمنزلتها مع متى، إذا قلت: متى ما تأتنى حدثتك. انتهى كلام سيبويه. وكأن هذا القائل- والله أعلم- اغتر بتشبيه الخليل لها بمتى ما، فظنها في معناها. وإنما شبه الخليل بالثانية من مهما في لحاقها زائدة مؤكدة للأولى بما اللاحقة لمتى. عاد كلام سيبويه قال: ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ واحد، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى انتهى نقله عن الخليل. قال سيبويه: ويجوز أن تكون كذا ضمت اليها ما انتهى كلامه. قال أحمد: ومعنى تشبيه سيبويه لها بإذما أن الجزاء بجملة الكلمة لا بالجزء الأول منها خاصة وإلا لكان عين مذهب الخليل. والذي يحقق ذلك أن سيبويه قال أول هذا الباب: وأما «حيث» و «إذ» فلا يجازى بهما حتى بضم اليهما ما، فتصير إذ مع ما بمنزلة إنما وكأنما، وليست ما فيهما بلغو، ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف واحد، فانظر قوله: وليست ما فيهما بلغو، يعنى ليست زائدة مؤكدة، ولكن لها حظ في اقتضاء الجزاء حتى لا يفيده إلا اجتماع جزئى الكلمة ويبقى وراء ذلك نظر في أن سيبويه هل أراد أن «ما» ضمت إلى «مه» التي هي الصوت، أو إلى «ما» الجزائية.
والظاهر من مراده أن انضمامها إلى الصوت، لأنها لو كانت منضمة إلى «ما» الجزائية، لكانت مستقلة بافادة الجزاء قبل انضمام «ما» إليها، ولا تكون مثل إذا وحيث، ولا يكون تنظير سيبويه مطابقا. وهذا الذي فهمه ابن طاهر وتبعه فيه تلميذه ابن خروف. وعزا ابن خروف هذا المذهب إلى سيبويه، ورد قول ابن بابشاذ أن هذا المذهب للخليل خاصة، وقد تواطأ ابن بابشاذ والزمخشري على نفى هذا المذهب عن سيبويه، وإعزائه إلى غيره.
وأظهر ما قوى به مذهب الخليل- والله أعلم- أن هذه الكلمة استعملت في الاستفهام حسب استعمالها في الجزاء وأنشدوا:
مهما لي الليلة مهما ليه ... أودى بنعلي وسر ماليه
أراد: مالى الليلة، ولا إشكال هاهنا أنها «ما» الاستفهامية كررت تأكيداً، كما يقولون: لا لا، ونعم نعم، ثم استكره تكرار اللفظ بعينه، فقلبت ألف الأولى هاء. وقد جاء قلب الاستفهامية وإن لم يكن تكرار، فهو معه أجدر. وإذا وضح أن «مهما» الواقعة في الاستفهام أصلها «ما» مكررة، كان ذلك أوضح دليل على أن الواقعة في الجزاء كذلك، والاستشهاد بالنظائر أمين حجج العربية، والله أعلم. وأما رد الزمخشري على من زعم أنها بمعنى «متى ما» فرد صحيح، والآية أصدق شاهد على رده، فان الضمير المجرور فيها عائد إلى مهما حتما، وقد اتصل به مفسراً له قوله مِنْ آيَةٍ دل على أن الضمير واقع على الآية، فلزم وقوع «مهما» عليها ضرورة إيجاد المرجع في المضمر ومظهره، فذهاب هذا القائل إلى إيقاع «مهما» على الوقت زاعما أنها بمعنى «متى ما» ذهاب عن الصواب.
وعذر الزمخشري واضح في الرد على تسجيله وإغلاظ النكير عليه، وتفويق سهام التشنيع إليه. فتأمل هذا الفصل، ففيه إنارة للسبيل، وشفاء للغليل، والله الموفق.(2/145)
قولك: متى ما تخرج أخرج، أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ إلا أنّ الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري، ومن الناس من زعم أن «مه» هي الصوت الذي يصوت به الكاف، و «ما» للجزاء، كأنه قيل: كف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فإن قلت: ما محل مهما؟ قلت: الرفع بمعنى: أيما شيء تأتنا به. أو النصب، بمعنى: أيما شيء تحضرنا «1» تأتنا به. ومن آية: تبيين لمهما. والضميران في بِهِ وبِها راجعان إلى مهما، إلا أنّ أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أنث على المعنى، لأنه في معنى الآية. ونحوه قول زهير:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم «2»
وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى ما، ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثوّ بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. فإن قلت: كيف سموها آية، ثم قالوا لتسحرنا بها؟ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى، وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي الطُّوفانَ ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل. قيل: طغى الماء فوق حروثهم، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يرون
__________
(1) . قوله «أيما شيء تحضرنا» لعله تحضر فقط. (ع)
(2) . لزهير بن أبى سلمى من معلقته. ومهما: اسم شرط بمعنى أى شيء على المختار، فلذلك يعود عليه الضمير، ثم إن كان المراد به مؤنثا كما هنا، فتارة يعود عليه الضمير مذكراً باعتبار اللفظ كما في قوله «يكن» وتارة مؤنثا باعتبار المعنى كما في قوله «وإن خالها» ولم يجعل هذا عائداً على الخليقة، لأن «مهما» هو المحدث عنه، و «من خليقة» بيان له. ولما بين بالمؤنث حسن تأنيث ضميره بعد بيانه. يقول: أى طبيعة وسجية تكون في الإنسان تعلم الناس بأماراتها، وإن ظنها خافية عليهم.(2/146)
شمساً ولا قمراً، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره. وقيل أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بنى إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق، ولم تدخل بيوت بنى إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، ودام عليهم سبعة أيام. وعن أبى قلابة:
الطوفان الجدري، وهو أوّل عذاب وقع فيهم، فبقى في الأرض. وقيل: هو الموتان «1» وقيل:
الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهراً، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام: خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهراً، فسلط الله عليهم القمل وهو الحنان في قول أبى عبيدة كبار القردان. وقيل: الدبا وهو أولاد الجراد. قيل:
نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث. وعن سعيد بن جبير: السوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلئ قملا، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا يسيرا. وعن سعيد ابن جبير. أنه كان إلى جنبهم كثيب أعفر، فضربه به موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا، فأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحد شيئا من ثوب ولا طعام ولا شراب إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلى، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً، فشكوا إلى فرعون فقال:
إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلى ماء
__________
(1) . قوله «وقيل هو الموتان» في الصحاح: الموتان- بالضم: موت يقع في الماشية. وفيه أيضا: الطاعون الموت الوحى من الوباء. وفيه. الوحي، على فعيل: السريع. (ع) [.....](2/147)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
وما يلي القبطي دماً، ويستقيان من ماء واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلى الماء، حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك ثم مجيه في فىّ، فيصير الماء في فيها دماً.
وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجا. وعن سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دما. وقيل: سلط الله عليهم الرعاف وروى أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات، وروى أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال: يا رب، إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم. وقرأ الحسن: والقمل، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال. ومعنى مفصلات: مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة لهم ونقمة على كفرهم. أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون إلزاماً للحجة عليهم؟
[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ما مصدرية. والمعنى بعهده عندك وهو النبوّة والباء إمّا أن تتعلق بقوله ادْعُ لَنا رَبَّكَ على وجهين: أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة. أو ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. وإمّا أن يكون قسما مجاباً بلنؤمنن، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حدّ من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب لما، يعنى: فلما كشفناه عنهم فاجئوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم فَأَغْرَقْناهُمْ. واليهم: البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أى كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها.(2/148)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
[سورة الأعراف (7) : آية 137]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هو بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. والأرض:
أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاءوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى قوله وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله ما كانُوا يَحْذَرُونَ والحسنى: تأنيث الأحسن صفة للكلمة. ومعنى تمت على بنى إسرائيل: مضت عليهم واستمرت من قولك: تمَّ على الأمر إذا مضى عليه بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالا على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله. وتلا الآية.
ومعنى خف: طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن رزانة أولى الصبر. وقرأ عاصم في رواية: وتمت كلمات ربك الحسنى. ونظيره مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ أو وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. كصرح هامان وغيره.
وقرئ: يعرشون، بالكسر والضم. وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح. وبلغني أنه قرأ بعض الناس. يغرسون، من غرس الأشجار. وما أحسبه إلا تصحيفا منه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 140]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)
وهذا آخر ما اختصّ الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم ثم أتبعه اقتصاص نبأ بنى إسرائيل وما أحدثوه- بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر- من عبادة البقر وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك(2/149)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه ظلوم كفار جهول كنود، إلا من عصمه الله وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وليسلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأى من بنى إسرائيل بالمدينة. وروى أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه، فصاموه شكراً لله تعالى فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ فمرّوا عليهم يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يواظبون على عبادتها ويلازمونها. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر: وذلك أوّل شأن العجل وقيل: كانوا قوماً من لخم. وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم وقرئ: وجوّزنا، بمعنى أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه وجاوزه بمعنى جازه، كقولك:
أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ: يعكفون، بضم الكاف وكسرها اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعكف عليه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها. «وما» كافة للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها وعن على رضى الله عنه أنّ يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه. فقال: قلتم اجعل لنا إلها قبل أن تجفّ أقدامكم إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع إِنَّ هؤُلاءِ يعنى عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ مدمّر مكسر ما هم فيه، من قولهم إناء متبر، إذا كان فضاضا «1» . ويقال لكسار الذهب: التبر، أى يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدىّ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله كما قال تعالى وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وفي إيقاع هؤُلاءِ اسما لإن، وتقديم خبر المبتدإ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره. ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم- مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 141]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يبغونكم شدّة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت: ما محل
__________
(1) . قوله «فضاضا» أى فتاتا كالرضاض. أفاده الصحاح. (ع)(2/150)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يسومونكم؟ قلت: هو استئناف لا محلّ له. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين أو من آل فرعون.
وذلِكُمْ اشارة إلى الإنجاء أو إلى العذاب. والبلاء: النعمة أو المحنة. وقرئ: يقتلون. بالتخفيف.
[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وروى أن موسى عليه السلام وعد بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذى القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، وفصلها هاهنا. ومِيقاتُ رَبِّهِ ما وقته له من الوقت وضربه له. وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً نصب على الحال أى تمَّ بالغاً هذا العدد. وهارُونَ عطف بيان لأخيه. وقرئ بالضم على النداء اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ وكن مصلحاً. أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بنى إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
[سورة الأعراف (7) : آية 143]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
لِمِيقاتِنا لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدنا. ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة «1» كما يكلم
__________
(1) . قال محمود: «معناه كلمه من غير واسطة ... الخ» قال أحمد: وهذا تصريح منه يخلق الكلام، كما هو معتقد المعتزلة، والذي يخص به هذه الآية من وجره الرد عليه: أنها سيقت مساق الامتنان على موسى باصطفاء الله له وتخصيصه إياه بتكليمه، وكذلك قال تعالى بعد آيات منها إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فلو كان تكليم الله له بمعنى خلق الحروف والأصوات في بعض الأجرام واستماع موسى لذلك، لكان كل أحد يساوى موسى عليه السلام في ذلك، بل كان آحاد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام آثر بهذه المزية وأحق بالخصوصية من موسى عليه السلام، لأنهم سمعوا الكلام على الوجه المذكور من أفضل الأجرام وأزكاها خلقاً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مزيتهم أظهر وخصوصيتهم أوفر. ونحن نعلم ضرورة من سياق هذه الآية تمييز موسى عليه الصلاة والسلام بهذه المزية، فلا يحمل لذلك إلا اعتقاد أنه سمع الكلام القديم القائم بذات الله سبحانه وتعالى بلا واسطة دليل عليه من حروف ولا غيرها، وكما أجزنا من المعقول أن ترى ذات الباري سبحانه وتعالى وإن لم يكن جسما، فكذلك نجيز أن يسمع كلامه وإن لم يكن حرفا ولا صوتا.
والكلام في هذه العقيدة طويل، والشوط بطين. وهذه النكتة هي الخاصة بهذه الآية، والله الموفق.(2/151)
الملك، وتكليمه: أن يخلق الكلام «1» منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح وروى: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كلمه أربعين يوما وأربعين ليلة، وكتب له الألواح. وقيل إنما كلمه في أول الأربعين أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ثانى مفعولي أرنى محذوف «2» أى أرنى نفسك أنظر إليك. فإن قلت:
__________
(1) . قوله «وتكليمه أن يخلق الكلام» هذا على مذهب المعتزلة: أن كلامه تعالى ألفاظ يخلقها الله في بعض الأجرام. أما على مذهب أهل السنة، فان كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته، فتكليمه لعبده أن يكشف له عنها، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «وقوله أرنى أنظر إليك محذوف المفعول الأول مذكور الثاني، والتقدير أرنى نفسك أنظر إليك ... الخ» قال أحمد: ما أشد ما اضطرب كلامه في هذه الآية، لأن غرضه أن يدحض الحق بالضلالة، ويشين بكفه وجه الغزالة، هيهات قد تبين الصبح لذي عينين، فالحق أبلج لا يمازجه ريب إلا عند ذى رين. أما حظ المعقول من إجازة رؤية الله تعالى فوظيفة علم الكلام، وأخصر وجه في إجادة ذلك: أن الوجود مصحح الرؤية، بدليل أن جواز الرؤية حكم يستدعي مصححاً. وقد شمل الجواز الجوهر والعرض، ولا جامع بينهما يمكن جعله مصححاً سوى الوجود، وإذا كان الوجود هو المصحح فقد صحت رؤيته تعالى لوجوده. وأما استبعاد أن يرى ما ليس في جهة فأمر وهمى مثله عرض للمعطلة فعميت بصائرهم، حتى أنكروا موجوداً لا في جهة، ومن اتبع الأوهام اغتسق مهامه الضلال وهام، ولو كانت الرؤية تتوقف على جهة المرئي لكانت المعرفة تتوقف على جهة المعروف، ولا خلاف أنه سبحانه يعرف لا في جهة، فكذلك يرى لا في جهة، فالحق أن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه، لعلمه بجواز ذلك على الله تعالى، والقدرية يجبرهم الطمع ويجرؤهم حتى يروموا أن يجعلوا موسى عليه السلام كان على معتقدهم، وما هم حينئذ إلا ممن آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها «وأما قوله عليه السلام:
أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا تبريا من أفاعيلهم وتسفيها لهم وتضليلا لرأيهم، فلا راحة للقدرية في الاستشهاد به على إنكار موسى عليه السلام لجواز الرؤية، فان الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين ثم. وإن كان السبب طلبهم الرؤية، فليس لأنها غير جائزة على الله. ولكن لأن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا والخبر صدق، وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوا وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها، كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيباً للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع ثم، ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها، فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة، وتوقيفهم الايمان عليها حيث قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ألا ترى أن قولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إنما سألوا فيه جائزاً، ومع ذلك قرعوا به لاقتراحهم على الله مالا يتوقف وجوب الايمان عليه، فهذه المباحث الثلاثة توضح لك سوء نظر الزمخشري بعين الهوى وعمايته عن سبيل الهدى، والله الموفق.(2/152)
الرؤية عين النظر، فكيف قيل: أرنى أنظر إليك؟ قلت: معنى أرنى نفسك، اجعلنى متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، فإن قلت: فكيف قال لَنْ تَرانِي ولم يقل لن تنظر إلىّ، لقوله أَنْظُرْ إِلَيْكَ؟ قلت: لما قال أَرِنِي بمعنى اجعلنى متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطلبة هي الرؤية «1» لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل: لن تراني، ولم يقل لن تنظر إلىّ. فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك- وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة. وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة. ومنعُ المجبرة إحالته «2» في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال- حين أخذت الرجفة الذين قالوا أرنا الله جهرة- أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إلى قوله تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالا-؟ قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا. وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله لَنْ تَرانِي ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال:
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. فإن قلت: فهلا قال: أرهم ينظروا إليك «3» ؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسماعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادة مبنية على قياس فاسد. فلذلك قال موسى:
__________
(1) . قوله «أن الطلبة هي الرؤية» في الصحاح «الطلبة» بكسر اللام: ما طلبته من شيء. (ع)
(2) . قوله «ومنع المجبرة إحالته» يعنى أهل السنة، حيث ذهبوا إلى جواز رؤيته تعالى ومنعوا اشتراط كون المرئي في جهة. قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ والجائز قد ينتفي في بعض الأوقات ويقع في بعض.
والحديث كما سيأتى «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» ومحل الكلام علم الكلام. (ع)
(3) . عاد كلامه. قال: فان قلت: هلا قال أرهم ينظروا إليك ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا الكلام الآخر من الطراز الأول، وأقرب شاهد على رده أنه لو كان طلب الرؤية لهم حتى إذا سمعوا منع الله تعالى لها أيقنوا أنها ممتنعة لكان طلبها عبثا غير مفيد لهذا الغرض، لأن هؤلاء لا يخلو أمرهم. إما أن يكونوا مؤمنين بموسى، أو كفاراً به، فان كانوا مؤمنين به، فاخباره إياهم بأن الله تعالى لا يرى ولا يجوز عليه ذلك، كان في حصول المقصود من غير حاجة إلى أن يسأل موسى عليه السلام من الله أن ير به ذاته، على علم بأن ذلك محال. وإن كانوا كفاراً بموسى عليه السلام فلا يحصل الغرض من ذلك أيضا، لأن الله تعالى إذا منعه مسؤله من الرؤية، فإنما يثبت ذلك لهم بقول موسى عن الله تعالى أنه منعه ذلك، وهم كفار بموسى عليه السلام، فكيف يفيدهم غيره عن الله بامتناع ذلك؟ فهذا أوضح مصداق، لأن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه اعتقاداً لجوازها على الله تعالى، فأخبره الله أن ذلك لا يقع في الدنيا وإن كان جائزاً.(2/153)
أرنى أنظر إليك، ولأنه إذا زجر عما طلب، وأنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له: لن يكون ذلك: كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعاً إليهم. وقوله أَنْظُرْ إِلَيْكَ وما فيه من معنى المقابلة «1» التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم، وجل صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلا بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبى الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين؟ فإن قلت: ما معنى لَنْ؟ قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» «2» وذلك أن «لا» تنفى المستقبل. تقول: لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى: أنّ فعله ينافي حالى، كقوله لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ نفى للرؤية فيما يستقبل. ولن تراني تأكيد وبيان، لأنّ المنفي مناف لصفاته. فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله؟ قلت: اتصل به على معنى أنّ النظر إلىّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر: وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد «3» إليه في قوله وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ
__________
(1) . عاد كلامه. قال: و «قوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة ... الخ» قال أحمد: ودعواه أن النظر يستلزم الجسمية قد سلف ردها. وأما تنزيهه موسى عليه السلام بنسبة اعتقاد استحالة الرؤية إليه فهو غنى عنه.
وأما إقناعه في تفصيله برجحانه عليه السلام في العلم بالله وبصفاته على واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبى الهذيل والشيخين، فهو نقص عن منصبه العلى، وأقل العوام المقلدين لأهل السنة، راجح عند الله على أصحاب البدع والأهواء، وإن ملؤوا الأرض نفاقا، وشحنوا مصنفاتهم عناداً لأهل السنة وشقاقا، فكيف بكليم الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى لن؟ قلت تأكيد النفي الذي تعطيه لا ... الخ» قال أحمد. «لن» كما قال تشارك «لا» في النفي وتمتاز بمزية تأكيده. وأما استنباط الزمخشري من ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عز وجل، ثم إطلاق الحال على الله تعالى مما يستحرز عنه، واستشهاده على أن «لن» تشعر باستحالة المنفي بها عقلا، مردود كثيراً بكثير من الآي، كقوله تعالى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً فذلك لا يحيل خروجهم عقلا، ولَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، لَنْ تَتَّبِعُونا. فهذه كلها جائزات عقلا، لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «ثم حقق تعالى عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد ... الخ» قال أحمد: نسبة جواز الرؤية إلى الله تعالى عند الزمخشري كنسبة الولد إليه، وهذا مفرع على المعتقد السالف بطلانه، وليس له في هذا الفصل وظيفة إلا تتبع الشبه لامتناع الرؤية، تلقفها من كل فج. والحق أن دك الجبل إنما كان لأن الله عز وجل أظهر له آية من ملكوت السماء. ولا تستقر الدنيا لإظهار شيء من ملكوت السماء. وهذا هو المأثور عن السلف في هذه الآية. ومعناه عند أبى الحسن رحمه الله فعل فعلا سماه تجليا، وكان الغضب إما لأنهم طلبوا رؤية جسمانية في جهة، وإما لأنهم كتموا الخبر. بأنه لا يرى في الدنيا، وإما لأنهم كفروا بالاقتراح أو بالمجموع.(2/154)
كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً «1» في جهاته فَسَوْفَ تَرانِي تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض، وهذا كلام مدمج بعضه في بعض، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع. ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعنى قوله فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جَعَلَهُ دَكًّا أى مدكوكا مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير. والدكّ والدقّ أخوان، كالشك والشق. وقرئ دكاء. والدكاء: اسم للرابية الناشزة من الأرض، كالدكة أو أرضاً دكاء مستوية. ومنه قولهم: ناقة دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي: قال لي الربيع بن خثيم: ابسط يدك دكاء، أى مدّها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب: دكا، أى قطعاً دكا جمع دكاء وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً من هول ما رأى. وصعق من باب: فعلته ففعل. يقال صعقته فصعق. وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة، من صقعه إذا ضربه على رأسه ومعناه: خرّ مغشياً عليه غشية كالموت، وروى أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشى عليه «2» فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة؟ فَلَمَّا أَفاقَ من صعقته قالَ سُبْحانَكَ أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئىّ ولا مدرك بشيء من الحواس. فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فممّ تاب «3» ؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «ومعنى فان استقر مكانه: فان ثبت كما كان ذاهبا ... الخ» قال أحمد: وهذا من حيل القدرية في إحالة الرؤية يقولون: قد علقها الله على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكه، والمعلق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة، فان المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار، وذلك ممكن جائز، وتعلق العلم بأنه لا يستقر له، لا يرفع إمكان استقراره، وتعلق العلم لا يغير المعلوم ولا ينقل حكمه من إمكان إلى امتناع ولا العكس. وحينئذ يتوجه دليلا لأهل السنة فنقول: استقرار الجبل ممكن، وقد علق عليه وقوع الرؤية، والمعلق على الممكن ممكن، والمعتزلة يعتقدون أن خلاف المعلوم لا يجوز أن يكون مقدوراً ونحن نقول مقدور، ولكن ما تعلقت المشيئة بإيجاده. وقولنا أقعد بالآداب، وأسعد بالإجلال في الخطاب.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومعنى وخر موسى صعقا: وخر مغشيا عليه غشية كالموت وروى أن الملائكة مرت عليه ... الخ» قال أحمد، وهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهراً على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى كليم الله بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب.
(3) . عاد كلامه. قال: «فان قلت إن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ... الخ» ؟ قال أحمد:
أما دك الجبل، فقد سلف الكلام على سره. وأما تسبيح موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله وقدس علمه وخبره عن الخلف. وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب، لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرا من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية عن الاذن كان أكمل. وقد ورد: سيئات المقربين حسنات الأبرار.(2/155)
كان لغرض صحيح على لسانه، من غير إذن فيه من الله تعالى، فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكا، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان «1» ذلك مبالغة في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال أنا أول المؤمنين، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة «2» كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا. ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم! والقول ما قال بعض العدلية «3» فيهم:
لجماعة سموا هواهم سنّة ... وجماعة حمر لعمري موكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ... شنع الورى فتستّروا بالبلكفه «4»
وتفسير آخر: وهو أن يريد بقوله أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ عرّفنى نفسك تعريفاً واضحاً جلياً، كأنها إرادة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك أَنْظُرْ إِلَيْكَ أعرفك معرفة اضطرار، كأنى أنظر إليك، كما جاء في الحديث «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» «5»
__________
(1) . قوله «ولم يخل كليمه من نفيان ذلك» قوله «نفيان» هو ما يتطاير من قطر المطر، وقطر الدلو، ومن الرمل عند الوطء، ومن الصوف عند النفش، ونحو ذلك. كذا في شرح المعلقات العلامة الزوزنى. (ع) [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد انتقل الزمخشري في هذا الفصل إلى ما تسمعه من هجاء أهل السنة. ولولا الاستناد بحسان بن ثابت الأنصارى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية وبالناجين سلاما، ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم فنقول:
وجماعة كفروا برؤية ربهم ... حقاً ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهمو سفه
وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه
(3) . قوله «والقول من قال بعض العدلية» غفر الله للمصنف ما لوث به لسانه وقلبه في ذكر هذه الأبيات. (ع)
(4) . الزمخشري في أهل السنة، أى هم جماعة سموا هوى أنفسهم سنة، ولكن من عرف أن مستند المعتزلة العقل، ومستند الجماعة النقل عرف الهوى من الهدى. وحمر أى كالحمر. موكفة: أى موضوع عليها الاكاف، مبالغة في التشبيه.
قد شبهوه: أى الله عز وجل بخلقه حيث قالوا: إنه يرى بالعين، فخافوا تشنيع الناس عليهم فتستروا بقولهم: إنه يرى بلا كيف. فالبلكفة منحوتة من ذلك.
(5) . متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر- الحديث» وللبخاري من رواية «إنكم سترون ربكم عيانا» واتفقا عليه من حديث أبى سعيد وأبى هريرة بمعناه.(2/156)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى قالَ لَنْ تَرانِي أى لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة ولكن انظر إلى الجبل، فإنى أورد عليه وأظهر له آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطبيقها، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً لعظم ما رأى فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ مما اقترحت وتجاسرت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك، وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك.
[سورة الأعراف (7) : آية 144]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم بِرِسالاتِي وهي أسفار التوراة وَبِكَلامِي وبتكليمى إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خرّ موسى صعقاً يوم عرفة، وأعطى التوراة يوم النحر. فإن قلت: كيف قيل: اصطفيتك على الناس وكان هرون مصطفى مثله ونبيا؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعاً له وردآً ووزيراً. والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 145 الى 147]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة. وقيل: لوحين، وأنها(2/157)
كانت من زمرّد جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل: من زبر جدة خضراء وياقوتة حمراء. وقيل:
أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له، فقطعها بيده وشقها بأصابعه. وعن الحسن:
كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع. وقوله مِنْ كُلِّ شَيْءٍ في محل النصب مفعول كتبنا. ومَوْعِظَةً وتفصيلا بدل منه. والمعنى: كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزإ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى عليهم السلام. وعن مقاتل: كتب في الألواح: إنى أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بى شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإنّ من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين فَخُذْها فقلنا له: خذها، عطفاً على كتبنا. ويجوز أن يكون بدلا من قوله فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والضمير في فَخُذْها للألواح، أو لكل شيء، لأنه في معنى الأشياء، أو الرسالات، أو للتوراة. ومعنى بِقُوَّةٍ بجدّ وعزيمة فعل أولى العزم من الرسل يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها
أى فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص، والعفو، والانتصار، والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد: يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك: الصيف أحرّ من الشتاء سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم. وقيل: دار الفاسقين: نار جهنم. وقرأ الحسن: سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أورنى كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه. وقرئ: سأورثكم، وهي قراءة حسنة يصححها قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهما كا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم. وعن الفضيل بن عياض: ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عظمت أمّتى الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حرمت بركة الوحى «1» . وقيل: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون
__________
(1) . لم أجده من هذا الوجه. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادره من حديث أبى هريرة مثله، وزاد «وإذا تسابت أمتى سقطت من أعين الناس» ذكره في الخامس والسبعين يعد المائة، وفي إسناده البختري بن عبيد.
وهو ضعيف.(2/158)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
أن يبطل آية موسى، بأن جمع لها السحرة، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل. ويجوز:
سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها. وتسميتها سحراً بإهلاكهم. وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه وجهان: أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين، لأنّ التكبر بالحق لله وحده. وأن يكون صلة لفعل التكبر، أى يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم لا يُؤْمِنُوا بِها وقرأ مالك بن دينار: وإن يروا بضم الياء. وقرئ: سبيل الرشد والرشد والرشاد، كقولهم: السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقاً مستقيما أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفا مرديا أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه ذلِكَ في محل الرفع أو النصب على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه. وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أى ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الآخرة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 149]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه إياهم إلى الطور. فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلا، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلا منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني: أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. وقرئ مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد، جمع حلى، كثدي وثدىّ، ومن حليهم- بالكسر- للإتباع كدلى. ومن حليهم، على التوحيد. والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. فإن قلت: لم قال: من حليهم، ولم يكن الحلىّ لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت:
الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ، جَسَداً بدناً ذا لحم ودم كسائر(2/159)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
الأجساد. والخوار: صوت البقر، قال الحسن: إنّ السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في في العجل، فكان عجلا له خوار. وقرأ على رضى الله عنه. جؤار، بالجيم والهمزة، من جأر إذا صاح. وانتصاب جسدا على البدل من عِجْلًا أَلَمْ يَرَوْا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقال اتَّخَذُوهُ أى أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر وَكانُوا ظالِمِينَ واضعين كل شيء في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم، ولا أوّل مناكيرهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها، لأن فاه قد وقع فيها. وسُقِطَ مسند إلى فِي أَيْدِيهِمْ وهو من باب الكناية. وقرأ أبو السميقع: سقط في أيديهم، على تسمية الفاعل، أى وقع العض فيها. وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أى في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالا أن يكون في اليد، تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا وتبينوا ضلالهم تبينا كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ: لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا، بالتاء. وربنا، بالنصب على النداء، وهذا كلام التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام: وإن لم تغفر لنا وترحمنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 150 الى 151]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
الأسِف: الشديد الغضب فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ وقيل: هو الحزين خَلَفْتُمُونِي قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجوه بنى إسرائيل وهم هرون عليه السلام والمؤمنون منه. ويدل عليه قوله اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد(2/160)
غير الله. فان قلت: أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت: الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني. والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم. فإن قلت: أى معنى لقوله مِنْ بَعْدِي بعد قوله خَلَفْتُمُونِي؟ قلت: معناه من بعد ما رأيتم منى، من توحيد الله، ونفى الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو من بعد ما كنت أحمل بنى إسرائيل على التوحيد، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه. ونحوه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أى من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته، فيقال عجلت الأمر، والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدَّثتم أنفسكم بموتى، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروى أنّ السامري قال لهم- حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى-: إن موسى لن يرجع، وإنه قد مات وروى أنهم عدّوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا ولذلك كان أحب إلى بنى إسرائيل من موسى. وروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أى بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ بذؤابته، وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه فرط في الكف ابْنَ أُمَّ قرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة. وابن أمى، بالياء. وابن إمِّ، بكسر الهمزة والميم. وقيل: كان أخاه لأبيه وأمّه، فإن صح فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطن واحد. وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدّ بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي يعنى أنه لم يأل جهدا في كفهم بالوعظ والإنذار. وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بى ما هو أمنيتهم من الاستهانة بى والإساءة إلىّ، وقرئ. فلا يشمت بى الأعداء، على نهى الأعداء عن الشماتة. والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ولا تجعلني في موجدتك علىّ وعقوبتك لي قرينا لهم(2/161)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
وصاحبا. أو ولا تعتقد أنى واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ليرضى أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة. وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.
[سورة الأعراف (7) : آية 152]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم. والذلة: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية الْمُفْتَرِينَ المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى. ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد: سينالهم غضب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 153]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي كلها ثُمَّ تابُوا ثم رجعوا مِنْ بَعْدِها إلى الله واعتذروا إليه وَآمَنُوا وأخلصوا الإيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد تلك العظائم لَغَفُورٌ لستور عليهم محاء لما كان منهم رَحِيمٌ منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظم جنايتهم «1» أولا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة: وهي وجوب التوبة «2» والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة «3» ، لا يلتفت إليها حازم.
__________
(1) . قال محمود: «عظم جناية متخذي العجل أولا، ثم أردفها بحكم عام ... الخ» قال أحمد: يعرض بوجوب وعيد الفساق وأن مغفرة الذنب بدون التوبة منه من المحال الممتنع، وقد تقدم عد ذلك من الأهواء والبدع، بل الحق أن المغفرة لما عدا الشرك موكوله إلى المشيئة، غير ممتنعة عقلا، ثم واقعة نقلا، والله الموفق.
(2) . قوله: «من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة» مذهب المعتزلة أن الكبيرة لا تغفر إلا بالتوبة. ومذهب أهل السنة أنها قد تغفر بمجرد الفضل. (ع)
(3) . قوله «وأشعبية باردة» خصلة منسوبة إلى أشعب، وهو رجل كان طماعا. ويضرب به المثل في الطمع، كما في الصحاح. (ع)(2/162)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه «1» على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذى طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة. وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: ولما سكن عن موسى الغضب، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهمزة، وطرفا من تلك الروعة. وقرئ: ولما سكت. وأسكت:
أى أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ منها، أى كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ وتقول: لك ضربت.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
__________
(1) . قال محمود: «هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك ... الخ» قال أحمد: وهو من النمط الذي قدمته من قلب الحقيقة إلى المجاز، وكان الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، ولذلك عده بعض أهل العربية من المقلوب، وسلكه في نمط خرق الثوب المسمار. والتحقيق أنه ليس منه وأن هذا القلب أشرف وأفصح، لأنه بماله على معنى بليغ وهو أن الغضب كان متمكنا من موسى حتى كان كأنه يصرفه في أوامره، وكل ما وقع منه حينئذ فعن الغضب صادر، حتى كأنه هو الذي أمره به. ومثل هذه النكتة الحسناء لا تلفى في خرق الثوب المسمار، بل هي موجودة في قوله تعالى حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ على خلاف قراءة نافع. وقد تقدم ذلك آنفا، والله الموفق.(2/163)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أى من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:
ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحة «1»
قيل اختار من اثنى عشر سبطا، من كل سبط ستة حتى تناموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروى أنه لم يصب إلا ستين شيخنا، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخا. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بنى إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل.
ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة قالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكنى قبل هذا أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يعنى أتهلكنا جميعاً. يعنى نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفها وجهلا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أى محنتك وابتلاؤك حين كلمتنى وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدى العالمين
__________
(1) .
ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
المعنى: ومنا الذي اختاره الناس من بين الرجال، فالرجال نصب على نزع الخافض. وسماحة: تمييز لبيان جهة الاختيار. ووجوداً عطف عليه، إذا هب الرياح، كناية عن دخول الشتاء، فتهيج الرياح الزعازع، أى الشديدة المحركة للأشياء، وإذا جاد زمن انقطاع الميرة، فكيف بالصيف.(2/164)
بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سبباً «1» لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أَنْتَ وَلِيُّنا مولانا القائم بأمورنا وَاكْتُبْ لَنا وأثبت لنا واقسم فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة وَفِي الْآخِرَةِ الجنة هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك. وهاد اليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:
يا راكب الذّنب هدهد ... واسجد كأنّك هدهد «2»
وقرأ أبو وجرة السعدي: هدنا إليك، بكسر الهاء، من هاده يهيده إذا حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين، ان يكون مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة. ويجوز: عدت بالإشمام.
وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون هُدْنا بالضم فعلنا من هاده يهيده عَذابِي من حاله وصفته أنى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أى من وجب علىّ في الحكمة «3» تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا رَحْمَتِي فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي. وقرأ الحسن: من أساء، من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكافرون بشيء منها الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحى إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن النَّبِيَّ صاحب المعجزات الَّذِي يَجِدُونَهُ يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بنى إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ...... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى يحبسه من الحراك لثقله
__________
(1) . قوله «لأن محنته لما كانت سببا» صرف الكلام عن ظاهره، لأنه تعالى لا يخلق الشر عندهم. أما على مذهب أهل السنة فلا حاجة إلى ذلك. (ع)
(2) . للزمخشري، شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب. وهاد يهود، إذا تاب ورجع. وهد: أمر منه، وكرر للتوكيد. ثم قال: واسجد كأنك هدهد، فشبهه به لكثرة ما يطرق برأسه إلى الأرض لا في السرعة، فالمعنى: اسجد كثيراً.
(3) . قوله «أى من وجب على في الحكمة» هذا عند المعتزلة. وأما أهل السنة فلا يجب على الله تعالى عندهم شيء. (ع)(2/165)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم. وكذلك الأغلال، مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب.
وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلى لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ آصارهم، على الجمع وَعَزَّرُوهُ ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر: المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسمية الحدّ، والحدّ هو المنع. والنُّورَ القرآن. فإن قلت: ما معنى قوله أُنْزِلَ مَعَهُ وإنما أنزل مع جبريل؟
قلت: معناه أنزل مع نبوّته، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعا به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أى: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه.
أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه. فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبنى إسرائيل، أجيب بما هو منطو على توبيخ بنى إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرّض بذلك في قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين، لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله «1» التي وسعت كل شيء.
[سورة الأعراف (7) : آية 158]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن. وجميعاً: نصب على الحال من إليكم. فإن قلت: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما محله؟ قلت: الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار أعنى، وهو الذي يسمى النصب على المدح. ويجوز أن يكون جرا على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله إليكم. إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بدل من الصلة التي هي له ملك
__________
(1) . قوله «عن رحمة الله» لعله «في رحمة الله» . أو ضمن التفريق معنى الابعاد، فعدى بعن. (ع) [.....](2/166)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
السموات والأرض، وكذلك يُحيِي وَيُمِيتُ وفي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بيان للجملة قبلها، لأنّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة. وفي يحيى ويميت: بيان لاختصاصه بالإلهية، لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره وَكَلِماتِهِ وما أنزل عليه وعلى من تقدّمه من الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ وكلمته على الإفراد وهي القرآن. أو أراد جنس ما كلم به. وعن مجاهد: أراد عيسى ابن مريم.
وقيل: هي الكلمة التي تكوّن منها عيسى وجميع خلقه، وهي قوله كُنْ وإنما قيل إن عيسى كلمة الله، فخص بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تهتدوا. فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبى، بعد قوله: إنى رسول الله إليكم؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجرى عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمى الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيرى، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه.
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ هم المؤمنون التائبون من بنى إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم. وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون. أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم. وقيل: إنّ بنى إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثنى عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الاسراء نحوهم، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمى، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه منى السلام فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت. وعن مسروق. قرئ: بين يدي عبد الله فقال رجل: إنى منهم. فقال عبد الله: يعنى لمن كان في مجلسه من المؤمنين: وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً من يهدى بالحق وبه يعدل. وقيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين.(2/167)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وهذا من باب الفرض والتقدير وإلا فقد طار الخبر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق، وتغلغل في كل نفق، ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا برّ ولا بحر في مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائلهم عنه يوم القيامة.
[سورة الأعراف (7) : آية 160]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَقَطَّعْناهُمُ وصيرناهم قطعا، أى فرقا وميزنا بعضهم من بعض لقلة الألفة بينهم. وقرئ وقطعناهم بالتخفيف اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كقولك اثنتي عشرة قبيلة. والأسباط: أولاد الولد، جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثنى عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام. فإن قلت:
مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعا؟ وهلا قيل: اثنى عشر سبطا؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا لأنّ المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطا موضع قبيلة. ونظيره:
بين رماحى مالك ونهشل «1»
__________
(1) .
تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل
في حبة حرف وحمض هيكل ... مستأسد ذبانه في عيطل
يقلن للرائد أعشبت انزل لأبى النجم، يصف رمكة باعتيادها الحروب واقتحامها المكاره من أول أمرها. يقال: تبقلت الغنم وغيرها: رعت البقل وهو النبات الرطب. شبه اقتحام تلك الفرس للحروب من صغرها حتى اعتادتها برعي الدابة للكلأ واعتيادها عليه، يجامع التمرن والاعتياد والسهولة، بل والاستلذاذ، ثم استعار التبقل لذلك على طريق التصريحية، وبلغ في ذلك حيث أسند الفعل إليها، كأنه لا دخل له فيه. ويروى: من أول التبقل، بين رماحى مالك ونهشل: أى بين رماح مالك بن ضبعة ورماح نهشل بن دارم من أمراء العرب، فثنى الرماح دلالة على التنويع والتمايز. وقال أبو حنيفة: الحبة بالكسر اليبس المنكسر المتراكم. وقال الأزهرى: هي البذور الساقطة مع الأوراق في آخر الصيف والحرن: اليابسة الدقيقة. والحمض نوع من النبات. والهيكل: الطويل الضخم. والمستأسد: الطويل الغليظ أيضا.
وذبان جمع ذباب، كغربان وغراب. والعيطل- بالعين المهملة-: الأصوات المختلطة. والرائد: هو الذي يتقدم القوم لطلب الخصب. يقلن، أى الذبان. وأعشب الرجل: وجد العشب، وصف النبات بالكثرة والالتفاف حتى كثر ذبابه وصارت له أصوات مختلطة، فكان يدعو الرائد ويحمله على النزول في هذا المكان عند سماع صوته، فاستعار القول لذلك على سبيل التصريح. وروى: مستأسد أذنابه في عيطل. تقول للرائد، فالأذناب جمع ذنب، أى أطرافه تصوت بالريح بقول ذلك النبات والمجاز كما تقدم. هذا، وحق الرواية: بين رماكى مالك ونهشل.
والرمكة: الأنثى من البراذين والخيل، وجمعها رماك وأرماك ورمكات، كثمرة وثمار وأثمار وثمرات. يصف فرسه بأنها رعت البقل حقيقة مع تلك الخيول والبراذين، فلا مجاز هنا.(2/168)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وأُمَماً بدل من اثنتي عشرة. بمعنى: وقطعناهم أمما لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد، وكل واحدة كانت تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ اثنتي عشرة بكسر الشين فَانْبَجَسَتْ فانفجرت. والمعنى واحد، وهو الانفتاح بسعة وكثرة: قال العجاج:
وكيف غربي دالج تبجّسا «1»
فإن قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الإلباس، وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. من قوله كُلُّ أُناسٍ نظير قوله: اثنتي عشرة أسباطاً، يريد كل أمّة من تلك الأمم الثنتى عشرة. والأناس، اسم جمع غير تكسير، نحو. رخال وتناء وتوام «2» وأخوات لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسرة والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في نحو. سكارى وغيارى «3» من الفتحة وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وجعلناه ظليلا عليهم في التيه، وكُلُوا على إرادة القول وَما ظَلَمُونا وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
__________
(1) .
وانحلبت عيناه من فرط الأسى ... وكيف غربي دالج تبجسا
فرط الاسى: شدة الحزن. والوكيف: مصدر نصب بانحلبت، لأن معناه: وكفت. والغرب: الدلو العظيم.
والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والتبجس. اتساع الانفجار. يقول: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن، كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض تفجرا بسعة. وفيه تشبيه العينين بالغربين.
(2) . قوله: «نحو رخال وتناء وتؤام» رخال: هي الإناث من أولاد الضأن. والتناء: القاطنون بالبلد.
والتؤام- بالمد- واحدة توأم، وزان كوكب. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله: «نحو سكارى وغيارى» غار الرجل على أهله فهو غيور. وجمعه غير وغيران. وجمعه غيارى وغيارى، كذا في الصحاح. (ع)(2/169)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ واذكر إذ قيل لهم. والقرية: بيت المقدس. فإن قلت: كيف اختلفت العبارة هاهنا وفي سوره البقرة؟ قلت: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله، اسكنوا هذه القرية وكلوا منها، وبين قوله فكلوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها. وسواء قدّموا الحطة على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك ذكر الرغد لا يناقض إثباته، وقوله نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ موعد بشيئين: بالغفران، وبالزيادة، وطرح الواو لا يخلّ بذلك، لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفران؟ فقيل له: سنزيد المحسنين، وكذلك زيادة مِنْهُمْ زيادة بيان، وأرسلنا، وأنزلنا. ويَظْلِمُونَ ويفسقون من واد واحد. وقرئ: يغفر لكم خطيئاتكم، وتغفر لكم خطاياكم. وخطيئاتكم، وخطيئتكم، على البناء للمفعول.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
وَسْئَلْهُمْ وسل اليهود. وقرئ: واسألهم. وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتاب أو وحى، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحى. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك: أعدوتم في السبت؟ والقربة أيلة. وقيل: مدين. وقيل: طبرية. والعرب تسمى المدينة قرية. وعن أبى عمرو بن العلاء. ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعنى رجلين من أهل المدن حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه راكبة لشاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ: يَعدّون بمعنى يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا(2/170)
يعدّون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. والسبت:
مصدر سبتت اليهود، إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، فمعناه: يعدون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت. ويدل عليه قوله وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ قراءة عمر بن عبد العزيز: يوم إسباتهم. وقرئ: لا يسبتون، بضم الباء.
وقرأ على: لا يسبتون بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن: لا يسبتون على البناء للمفعول، أى لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا، فإن قلت: إذ يعدون، وإذ تأتيهم، ما محلهما من الإعراب؟ قلت: أمّا الأوّل فمجرور بدل من القرية، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوباً بكانت، أو بحاضرة. وأمّا الثاني فمنصوب بيعدون. ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل. والحيتان السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أى مخترمهم ومطهر الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لتماديهم في الشر. وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أى موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا نسب في النهى عن المنكر إلى بعض التفريط وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ مَعْذِرَةً بالنصب، أى وعظناهم معذرة إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرة فَلَمَّا نَسُوا يعنى أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الظالمين الراكبين للمنكر. فإن قلت: الأمة الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ من أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين؟ قلت:
من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين. وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضا صحيحاً لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهى لا يؤثر فيه، سقط عنه النهى. وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث. ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر «1» والجلادين المرتبين للتعذيب لتعظهم وتكفهم عما هم فيه،
__________
(1) . قوله «على المآصر» المآصر هي المحابس، من أصره الله حبسه. كذا في الصحاح. (ع)(2/171)
كان ذلك عبثا منك، ولم يكن إلا سببا للتلهى بك. وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ وقيل: الأمة هم الموعوظون، لما وعظوا قالوا للواعظين: لم تعظون منا قوما تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم؟ وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: لم تعظون قوما؟ قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا، لم تعظون قوما الله مهلكهم، فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا. وعن الحسن:
نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان. وروى أنّ اليهود أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا يوم السبت، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يستبون لا تأتيهم، فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها. وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال له: إنى أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثا، ثلث نهوا وكانوا نحواً من اثنى عشر ألفاً، وثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة. فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب. ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتى نسيبه فيشم ثيابه ويبكى، فيقول: ألم ننهك فيقول برأسه: بلى. وقيل: صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير. وعن الحسن: أكلوا والله أو خم أكلة أكلها أهلها، أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وايم الله، ماحوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعدا، والساعة أدعى وأمرّ بَئِيسٍ شديد. يقال: بؤس يبؤس بأسا، إذا اشتدّ، فهو بئيس. وقرئ: بئس، بوزن حَذِر. وبئس على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء، كما يقال: كبد في كبد. وبيس على قلب الهمزة ياء، كذيب في ذئب، وبيئس على فيعل، بكسر الهمزة وفتحها. وبيس، بوزن ريس، على قلب همزة بيئس ياء وإدغام الياء فيها،(2/172)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
وبيس على تخفيف بيس، كهين في هين. وبائس على فاعل فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم قردة، كقوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ والمعنى: أنّ الله تعالى عذبهم أوّلا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل: فلما عتوا، تكرير لقوله فَلَمَّا نَسُوا والعذاب البئيس: هو المسخ.
[سورة الأعراف (7) : آية 167]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
تَأَذَّنَ رَبُّكَ عزم ربك، وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجرى مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله لَيَبْعَثَنَّ والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثنّ عليهم ليسلطنّ عليهم، كقوله: بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 169]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وفرقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة. فإن قلت: ما محل دون ذلك؟ قلت:
الرفع، وهو صفة لموصوف محذوف، معناه: ومنهم ناس منحطون عن الصلاح، ونحوه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ بمعنى: وما منا أحد إلا له مقام وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بالنعم والنقم لَعَلَّهُمْ ينتهون فينيبون فَخَلَفَ من بعد المذكورين خَلْفٌ وهم الذين كانوا في زمن رسول الله(2/173)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
صلى الله عليه وسلم وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرءونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أى حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله هذَا الْأَدْنى تخسيس وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وفاعل سَيُغْفَرُ الجار والمجرور، وهو لَنا ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال، أى يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصر لا غفران له أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ يعنى قوله في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وَدَرَسُوا ما فِيهِ في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة «1» هو مذهب اليهود بعينه كما ترى. وعن مالك بن دينار رحمه الله، يأتى على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئا، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الخسيس لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الرشا ومحارم الله. وقرئ: ورّثوا الكتاب. وألا تقولوا، بالتاء. وادّارسوا، بمعنى تدارسوا. وأفلا تعقلون، بالياء والتاء. فإن قلت: ما موقع قوله أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ؟ قلت: هو عطف بيان لميثاق الكتاب. ومعنى ميثاق الكتاب. الميثاق المذكور في الكتاب. وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله.
وتقوّل عليه ما ليس بحق. وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أَنْ لا يَقُولُوا مفعولا له. ومعناه: لئلا يقولوا. ويجوز أن تكون إِنْ مفسرة، ولا يَقُولُوا نهياً، كأنه قيل: ألم يقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ فإن قلت: علام عطف قوله وَدَرَسُوا ما فِيهِ؟ قلت: على أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.
[سورة الأعراف (7) : آية 170]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لأنّ المصلحين في معنى الذين يمسكون
__________
(1) . قوله «في غفران الذنوب والذي عليه المجبرة» يعنى أهل السنة، ومذهبهم تجويز المغفرة بمجرد الفضل، لا الطمع فيها مع الإصرار على المعصية. (ع)(2/174)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
بالكتاب، كقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا والثاني:
أن يكون مجروراً عطفاً على الذين يتقون، ويكون قوله إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراضا. وقرئ:
يمسكون، بالتشديد. وتنصره قراءة أبىّ. والذين مسكوا بالكتاب. فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهارا لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه. والذين استمسكوا بالكتاب.
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ قلعناه ورفعناه، كقوله: ورفعنا فوقهم الطور. ومنه: نتق السقاء، إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. والظلة: كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أهل عليه إذا أشرف وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا.
أن يقبلوا أحكام التوراة. لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ. وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله. لم يبق جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه «1» خُذُوا ما آتَيْناكُمْ على إرادة القول. أى: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب بِقُوَّةٍ وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه.
أو واذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّة إن كنتم تطيقونه، كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانفذوا. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود: وتذكروا. وقرئ: واذّكروا، بمعنى. وتذكروا.
__________
(1) . قوله «وأنغض لها رأسه» أى حرك رأسه كالمتعجب. أفاده الصحاح. (ع)(2/175)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بنى آدم بدل البعض من الكل. ومعنى أخذ ذرّياتهم من ظهورهم:
إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا من باب التمثيل والتخييل «1» ! ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب.
ونظيره قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وقوله:
إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ «2»
قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا قَرْقَارِ «3»
__________
(1) . قال محمود: «هذا من باب التمثيل والتخييل ... الخ» قال أحمد: إطلاق التمثيل أحسن، وقد ورد الشرع به. وأما إطلاقه التخييل على كلام الله تعالى فمردود، ولم يرد به سمع، وقد كثر إنكارنا عليه لهذه اللفظة. ثم إن القاعدة مستقرة على أن الظاهر ما لم يخالف المعقول يجب إقراره على ما هو عليه، فلذلك أقره الأكثرون على ظاهره وحقيقته ولم يجعلوه مثالا. وأما كيفية الإخراج والمخاطبة فالله أعلم بذلك.
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 181 فراجعه هناك إن شئت اه مصححه.
(3) .
قالت له ريح الصبا قرقار ... واختلط المعروف بالإنكار
لأبى النجم العجلى. و «قرقار» اسم فعل بمعنى قرقر: أمر للسحاب لتنزيله منزلة العاقل، أى: صوت بالرعد.
هذا قول سيبويه. وقال المبرد تبعاً للمازنى: هو حكاية صوت الرعد، وهو على كل مبنى على الكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين، لكنه على الأول متحمل للضمير، فهو مركب. وعلى الثاني: لا ضمير فيه، فهو مفرد، لكن فيه أن حكاية الأصوات لا تفيد حثا ولا زجراً. وهنا يفيد الحث لقرينة المقام ولا فعل لها، وهذا له فعل. يقال: قرقرت الدجاجة إذا صوتت، إلا أن يقال إن المعنى: صوت يا رعد قرقار. وقولهم. قرقرت الدجاجة، مأخوذ من قرقار، كما أخذوا العياط من عيط بكسرتين بينهما سكون، حكاية لصوت المتلاعبين. واختلط يحتمل أنه أمر وهو أنسب بما قبله. ويحتمل أنه ماض. والمراد بالإنكار المنكر، ولا قول للريح. وإنما شبهها حيث تسوق السحاب بمن يصح منه القول، على طريق المكنية والقول تخييل. ويجوز أن يستعار القول لصوب السحاب، على طريق التصريح. ويجوز أنه من باب الكناية. وعلى هذا النحو قوله في ناقة صالح: فأتاها أحيمر كأخى السهم بغضب، فقال كوني عقيراً. وصرف الممنوع الضرورة. وأضاف الملقى لغير الملقى، ليدل على الملازمة لوجه شبه العاقر بالمبهم. أى قالت الصبا للسحب: قرقر بالرعد. واختلط الأماكن التي اعتدت سقيها بالتي كنت لا تبلغها بالسقى، أى سو بين الجميع فيه. ويحتمل أن المعروف المطر والمنكر الرعد والبرق والصواعق، أى افعل الجميع على أنه ماض، فهو عطف على قالت. وليس من قول الريح. وعليه فيجوز أيضاً رفع المعروف، ويكون الفعل لازما. وهذا البيت من أبيات الكتاب.(2/176)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ومعلوم أنه لا قول ثم، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى أَنْ تَقُولُوا مفعول له، أى فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبه عليه أَوْ كراهة أن تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. كما لا عذر لآبائهم في الشرك- وأدلة التوحيد منصوبة لهم- فإن قلت: بنو آدم وذرّياتهم من هم «1» ؟ قلت: عنى ببني آدم: أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبذرّياتهم: الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم. والدليل على أنها في المشركين وأولادهم:
قوله أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ، إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ أى كانوا السبب في شركنا، لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنة لنا وَكَذلِكَ ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ لهم وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها. وقرئ: ذريتهم، على التوحيد. وأن يقولوا: بالياء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 176]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت بنو آدم وذرياتهم من هم ... الخ» ؟ قال أحمد: والأظهر أنها شاملة لجملة بنى آدم فتدخل اليهود في عمومها، لأن كل واحد من بنى آدم يصدق عليه الأمران جميعاً أنه ابن آدم وأنه ذريته، ولا يخرج من هذا إلا آدم عليه السلام، وإنما لم يذكر لظهوره، ولا يخلو الكلام عن النوع المسمى في فن البلاغة باللف اختصاراً وإيجازاً.(2/177)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها هو عالم من علماء بنى إسرائيل. وقيل: من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله فَانْسَلَخَ مِنْها من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له. أو فأتبعه خطواته. وقرئ: فاتبعه، بمعنى فتبعه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين الكافرين. روى أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة. فإن قلت:
كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى: ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها. وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعة له ومسببة عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون وَلَوْ شِئْنا في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث «1» به واتصاله، سواء حمل عليه- أى شدّ عليه وهيج فطرد- أو ترك غير متعرّض له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرّك، وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ موضع حططناه أبلغ حط، لأنّ تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه، الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يجمل عليه. وقيل: معناه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث. فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثاً في الحالتين. وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود بعد ما قرءوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة،
__________
(1) . قوله «دوام اللهث به» في الصحاح لهث الكلب إذا خرج لسانه من التعب أو العطش. وقوله تعالى إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا. وإن تتركه شد عليك ونبح، فيتعب نفسه في الحالين فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. (ع)(2/178)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به فَاقْصُصِ قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحى فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 177]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أى مثل القوم. أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري ساء مثل القوم. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما أن يكون معطوفا على كذبوا، فيدخل في حيز الصلة بمعنى:
الذين جمعوا بين التكذيب، بآيات الله وظلم أنفسهم. وإما أن يكون كلاما منقطعا عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل:
وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.
[سورة الأعراف (7) : آية 178]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)
فَهُوَ الْمُهْتَدِي حمل على اللفظ. وفَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حمل على المعنى.
[سورة الأعراف (7) : آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسماعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم- لإعراقهم «1» في الكفر وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتى منهم إلا أفعال أهل النار- مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضى الله عنه إلى خالد بن الوليد: بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكا «2» عجن
__________
(1) . قوله «لاعراقهم» يقال أعرق الشجر والنبات- بالعين المهملة- إذا امتدت عروقه في الأرض. وأغرق النازع في القوس- بالمعجمة- أى استوفى مدها اه من الصحاح. (ع)
(2) . قوله «دلوكا» في الصحاح: الدلوك ما يدلك به من طيب وغيره. (ع) [.....](2/179)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
بخمر وإنى لأظنكم آل المغيرة ذره النار «1» . ويقال لمن كان عريقا في بعض الأمور: ما خلق فلان إلا لكذا. والمراد وصف حال اليهود «2» في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود. وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة. وقيل: الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار.
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي هي أحسن الأسماء «3» ، لأنها ندل على معان حسنة من تمجيد وتقديس وغير ذلك فَادْعُوهُ بِها فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم «4» : يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخىّ. أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى، نحو أن يقولوا: يا الله، ولا يقولوا: يا رحمن وقد قال الله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى «5» ، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في غريبه: حدثني إسماعيل بن عياش عن حميد بن ربيعة عن سليمان بن موسى: أن عمر كتب إلى خالد- فذكره منقطعا.
(2) . قوله «والمراد وصف حال اليهود» إنما فسره بذلك لأنه تعالى يجب عليه الأصلح العبد عند المعتزلة، وخلقه لجهنم ليس أصلح له. وعند أهل السنة لا يجب عليه شيء. (ع)
(3) . قال محمود: «معنى الحسنى التي هي أحسن الأسماء ... الخ» قال أحمد: أى مما يجوز عليه وإن لم يرد إطلاقه شرعا، كالشريف والعارف، ونحو ذلك.
(4) . قال محمود: «كما سمعنا البدو يقولون يجهلهم ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التأويل بعد، لأن ترك الدعاء ببعض الأسماء لا يطلق عليه إلحاد في العرف، وإنما يطلق على فعل لا على ترك، ولكن يتميز عن الوجه السالف بأنه أضاف الأسماء الملحد فيها إلى ذاته، وهذا أدل على الرحمن منه على مثل أبيض الوجه ونحوه، فان هذا ليس من أسمائه، إلا أن يقال: أضافه إليه تنزيلا على زعمهم.
(5) . قال محمود: «ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير ... الخ» قال أحمد:
لا يدع حشو العقائد الفاسدة في غير موضع يسعها، فان يكن المراد الأوصاف، فالحسنى منها وصف الله بعموم القدرة والانفراد بالمخلوقات، حتى لا يشرك معه عباده في خلق أفعالهم. ويعظم الله تعالى بأنه لا يسأل عما يفعل، وأن كل قضائه عدل، وانه لا يجب عليه رعاية ما يتوهمه الخلق مصلحة بعقولهم، وأن وعده الصدق وقوله الحق، وقد وعد رؤيته فوجب وقوعها، إلى غير ذلك من أوصافه الجليلة، وذروا الذين يلحدون في أوصافه فيجحدونها، ثم يزعمون أنه لا تشمل قدرته المخلوقات، بل هي مقسومة بينه وبين عباده، ويوجبون عليه رعاية ما يتوهمونه مصلحة، ويحجرون واسعاً من مغفرته وعفوه وكرمه على الخطائين من موحديه، إلى غير ذلك من الإلحاد المعروف بالطائفة المتلقبين عدلية، المزكين لأنفسهم وهو أعلم بمن اتقى.(2/180)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
فصفوه بها، وذروا الذين يلحدون «1» في أوصافه فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها وقيل: إلحادهم في أسمائه: تسميتهم «2» الأصنام آلهة، واشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز.
[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
لما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها «3» » وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وعنه صلى الله عليه وسلم «إنّ من أمتى قوما على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام «4» » وعن الكلبي:
هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 185]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
__________
(1) . قوله «وذر الذين يلحدون» يريد أهل السنة القائلين: كل كائن فهو مراد ومخلوق له تعالى ولو شرا، وتجوز رؤيته، خلافا للمعتزلة في كل ذلك، كما تقرر في محله. (ع)
(2) . قال محمود: «وقيل إلحادهم في أسمائه: تسميتهم ... الخ» قال أحمد: وهذا تفسير حسن ملائم، والله أعلم.
(3) . ذكره الثعلبي عن قتادة وابن جريج. وإسناده إليها مذكور في أول كتابه.
(4) . ذكره الثعلبي عن الربيع بن أنس، وإسناده إليه في أول كتابه. رواه أحمد من حديث عمران بن حصين بلفظ «لا تزال طائفة من أمتى على الحق حتى يأتى أمر الله، وينزل عيسى ابن مريم» وفي تاريخ البخاري عن عبد الطغاوى عن جابر نحوه، ورواه أبو يعلى من وجه آخر، وزاد «فيقول إمامهم: تقدم يا روح الله فيقول: أنتم أحق أمر كرم به هذه الأمة» .(2/181)
الاستدراج: استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة.
قال الأعشى:
فلو كنت في جبّ ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السّماء بسلّم
ليستدر جنك القول حتّى تهرّه ... وتعلم أنّى عنكم غير مفحم «1»
ومنه: درج الصبى إذا قارب بين خطاه. وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء. ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض. ومعنى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنستدنيهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما يراد بهم. وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغىّ، فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أنّ مواترة النعم أثرة من الله وتقريب، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه وَأُمْلِي لَهُمْ عطف على سَنَسْتَدْرِجُهُمْ وهو داخل في حكم السين إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد، من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان ما بِصاحِبِهِمْ بمحمد صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ من جنون، وكانوا يقولون شاعر مجنون. وعن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يهوّت «2» إلى الصباح «3» أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيما تدلان عليه من عظم الملك. والملكوت: الملك العظيم وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء، من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف وَأَنْ عَسى أن مخففة من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن. والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم. قبل مغافصة الأجل «4» وحلول العقاب. ويجوز أن يراد باقتراب الأجل: اقتراب الساعة، ويكون من «كان» التي فيها ضمير الشأن. فإن قلت: بم يتعلق قوله فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قلت: بقوله عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ كأنه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 395 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «بات يهوت» أى يضيح. (ع)
(3) . أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى قتادة قال «ذكر لنا- فذكره. فأنزل الله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ الآية
(4) . قوله «قبل مغافصة الأجل» أى أخذه إياهم على حين غفلة. اه من الصحاح. (ع)(2/182)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ، وبأىّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا.
[سورة الأعراف (7) : آية 186]
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قرئ وَيَذَرُهُمْ بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، ويذرهم، بالياء والجزم عطفا على محل فَلا هادِيَ لَهُ كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)
يَسْئَلُونَكَ قيل إن قوما من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً، فإنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحاناً منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل: السائلون قريش. والسَّاعَةِ من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا. وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. أَيَّانَ بمعنى متى. وقيل: اشتقاقه من أىّ فعلان منه، لأن معناه أىّ وقت وأى فعل، من أويت إليه، لأن البعض آو إلى الكل متساند إليه، قاله ابن جنى، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان، «وأين» مكان. وقرأ السلمى: إيان، بكسر الهمزة «1» مُرْساها إرساؤها، أو وقت إرسائها، أى إثباتها وإقرارها. وكل شيء ثقيل رسوّه ثباته واستقراره. ومنه: رسى الجبل وأرسى السفينة. والمرسى: الأنجر الذي ترسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمعنى: متى يرسيها الله إِنَّما عِلْمُها أى علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، لم يخبر به أحداً من ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ أى لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة، لا يجليها «2» بالخبر عنها قبل مجيئها أحد من خلقه، لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى كل من أهلها من الملائكة
__________
(1) . قوله «وقرأ السلمى إيان بكسر الهمزة» في الصحاح «أيان» سؤال عن زمان و «إيان» بكسر الهمزة لغة سليم. وبه قرأ السلمى أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. (ع) [.....]
(2) . قوله «بغتة لا يجليها» لعله: وقيل لا يجليها، بل لعله «أو لا يجليها» . (ع)(2/183)
والثقلين أهمه شأن الساعة، ويودّه أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها وثقل عليه. أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها. أو لأن كل شيء لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلة فيها إِلَّا بَغْتَةً إلا فجأة على غفلة منكم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه «1» والرجل يسقى ماشيته، والرجل يقوّم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه «2» » كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها كأنك عالم بها. وحقيقته: كأنك بليغ في السؤال عنها «3» ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن «4» وهذا التركيب معناه المبالغة. ومنه: إحفاء الشارب. واحتفاء البقل: استئصاله. وأحفى في المسألة، إذا ألحف «5» . وحفى بفلان وتحفى به: بالغ في البرّ به. وعن مجاهد: استحفيت عنها
__________
(1) . قوله «والرجل يصلح حوضه» في البخاري: يليط حوضه. وروى «يلوط» أى يصلحه اه (ع)
(2) . أخرجه الطبري بالإسناد المذكور إلى قتادة قال ذكر لنا- فذكره، وفي الصحيحين عن أبى هريرة رفعه «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه- الحديث» .
(3) . قال محمود «معناه كأنك بليغ في السؤال عنها ... الخ» قال أحمد وفي هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلا في الكتاب العزيز، وهو أجل من أن يشارك فيها، وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بنى على مقصد، واعترض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول وقد بعد عهده، طرى بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدم لذلك في الكتاب العزيز أمثال، وسيأتى وهذا منها، فانه لما ابتدأ الكلام بقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي إلى قوله بَغْتَةً أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده فطري ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال كالتذكرة للأول مستغنى عن تفصيله بما تقدم، فمن ثم قيل يَسْئَلُونَكَ ولم يذكر المسئول عنه وهو الساعة، اكتفاء بما تقدم، فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ويلاحظ هذا في تلخيص الكلام بعد بسطه. ومن أدق ما وقفت عليه العرب في هذا النمط من التكرير لأجل بعد العهد تطرية للذكر قوله:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال ... الشحم إنا قد مللناه يجل
أى فقط، فذكر الألف واللام خاتمة للأول من الرجزين، ثم لما استفتح الرجز الثاني استبعد العهد بالأولى، فطري ذكرها وأبقى الأولى في مكانها. ومن ثم استدل ابن جنى على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء فهو بيت كامل وليس بنصف، كما ذهب إليه أبو الحسن، قال: ولو كان بيتا واحدا لم يكن عهد الأولى متباعدا، فلم يكن محتاجا إلى تكريرها. ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل، لم يعدها أول المصراع الثاني، لأنها بيت واحد، فلم ير عهدها بعيدا، وذلك قوله:
يا خليلي أربعا واستخبرا ال ... منزل الدارس من أهل الحلال
مثل سحق البرد عنى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشمال
ثم استرسل فيها كذلك بضعة عشر بيتا، فانظر هذه النكتة كيف بالغت العرب في رعايتها حتى عدت القريب بعيدا والمتقاصر مديدا، فتأملها فإنها تحفة إنما تنفق عند الحذاق الأعيان في صناعتي العربية والبيان، والله المستعان.
(4) . قوله «ورصن» أى: ثبت وتمكن اه. (ع)
(5) . قوله «إذا ألحف» أى ألح وعنف اه. (ع)(2/184)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود: كأنك حفىّ بها، أى عالم بها بليغ في العلم بها. وقيل عَنْها متعلق بيسئلونك: أى يسئلونك عنها كأنك حفىّ أى عالم بها. وقيل: إن قريشاً قالوا له إن بيننا وبينك قرابة، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل: يسئلونك عنها كأنك حفىّ تتحفى بهم فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة وتزوى علمها عن غيرهم، ولو أحبرت بوقتها لمصلحة عرفها الله في إخبارك به، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص، كسائر ما أوحى إليك.
وقيل: كأنك حفىّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعنى أنك تكره السؤال عنها لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به ولم يؤته أحداً من خلقه. فإن قلت: لم كرر يسئلونك وإنما علمها عند الله؟
قلت: للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رحمهما الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها.
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي هو إظهار للعبودية والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب:
أى أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك والعبيد إِلَّا ما شاءَ ربى ومالكى من النفع لي والدفع عنى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لكانت حالى على خلاف ما هي عليه، ومن استكثار الخير، واستغزار المنافع، واجتناب السوء والمضارّ، حتى لا يمسني شيء منها. ولم أكن غالباً مرة ومغلوبا أخرى في الحروب، ورابحا وخاسرا في التجارات، ومصيبا مخطئا في التدابير إِنْ أَنَا إِلَّا عبد أرسالات نذيراً وبشيراً، وما من شأنى أنى أعلم الغيب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق بالنذير والبشير جميعاً، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم.
أو يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير محذوفا أى إلا نذير للكافرين، وبشير لقوم يؤمنون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 190]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)(2/185)
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي نفس آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه. أو من جنسها كقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.
لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه. وقال لِيَسْكُنَ فذكر بعد ما أنث في قوله: واحدة. منها زوجها، ذهابا إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم. ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى. والتغسى: كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته فَمَرَّتْ بِهِ فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق «1» وقيل حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً يعنى النطفة فَمَرَّتْ بِهِ فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه:
فاستمرت به، وقرأ يحيى بن يعمر: فمرت به، بالتخفيف. وقرأ غيره: فمارت به، من المرية، كقوله أَفَتُمارُونَهُ وأ فتمرونه. ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، فارتابت به فَلَمَّا أَثْقَلَتْ حان وقت ثقل حملها كقولك: أقربت «2» . وقرئ: أثقلت، على البناء المفعول: أى أثقلها الحمل دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا لَئِنْ آتَيْتَنا لئن وهبت لنا صالِحاً ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء «3» . وقيل. ولداً ذكراً، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ. لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما «4»
__________
(1) . قوله «من غير إخداج ولا إزلاق» إخداج: أى نقصان. ولا إزلاق: أى إسقاط. (ع)
(2) . قوله «كقولك أقربت» أى قرب ولادها. (ع)
(3) . قوله «وبريء» لعله: وبريء من الآفات. (ع)
(4) . قال محمود: «الضمير في آتَيْتَنا ولَنَكُونَنَّ لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما ... الخ» قال أحمد وأسلم من هذين التفسيرين وأقرب- والله أعلم- أن يكون المراد جنسى الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكان المعنى- والله أعلم- خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الآخر الذي هو الأنثى جرّى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون، لأن المشركين منهم أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ كما أنه كذلك على التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء وهو واقع من بعضهم وعلى التفسير الثاني أضافه إلى قصى وعقبه، والمراد البعض، فهذا السؤال وارد على التأويلات الثلاثة، وجوابه واحد ويسلم هذا الثالث من حذف المضاف المضطر إليه في التأويل الأول. ومما ينصرف إلى التأويل الثاني من استبعاد تخصيص قصى بهذا الأمر المشترك في الجنس، وهو جعل زوجته منه وكون المراد بذلك أن يسكن إليها لأن ذلك عام في الجنس، والله أعلم.(2/186)
فَلَمَّا آتاهُما ما طلباه من الولد الصالح السوىّ جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أى جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيما آتاهُما أى آتى أولادهما، وقد دلّ على ذلك بقوله فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير. وآدم وحواء بريئان من الشرك. ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة «1» وعبد شمس وما أشبه ذلك، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصى ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد «2» :
فَيَا لَقُصَىّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُودَدِ «3»
ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصىّ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوىّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما
__________
(1) . قوله «وعبد مناة» في النسفي: وعبد مناف (ع)
(2) . هذا طرف من حديث أم معبد في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرجه الحاكم مطولا. من حديثها وحديث أخيها حبيس بن خالد. ومن حديث زوجها أبى معبد، وطريق أم معبد رويناها في الغيلانيات. وفي الطبراني وفي الدلائل لأبى نعيم والبيهقي.
(3) .
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فيا فوز من أمسى رفيق محمد
فيالقصى ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسؤدد
ليهن بنى سعد مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
لرجل من الجن، سمعوا صوته بمكة ولم يروا شخصه، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مع أبى بكر مهاجراً وجهل أهلها خبرهما بعد خروجهما من الغار. ويروى «جزاية» بالتاء كهداية. ويروى «قالا» بدل «حلا» والمعنى متقارب، إلا أن الثاني خاص بالاستراحة في منتصف النهار. و «خيمتي» نصب على التوسع بحذف حرف الجر و «أم معبد» امرأة من بنى سعد نزلا عندها بالبر والخير. ذكر بعضهم أن اسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية و «يالقصى» أصله «يا آل قصى» فخفف وقد اختلف فيها، فقيل: أصلها يا آل قصى أيضاً. وقيل: هي حرف جر، فقيل زائد. وقيل أصلى متعلق بيا عند سيبويه، وبالفعل الذي نابت عنه عند ابن جنى «وما» استفهامية، والمعنى: يا آل قصى، أتدرون ما قبضه الله ومنعه بخروج رسول الله من بينكم من فخار لا يضاهي ومن شرف عظيم؟
وفي هذا الاستفهام معنى التعجب والاستعظام، حتى كأن المستفهم عنه لا يعرف كنهه. ويجوز أن اللام للتعجب، و «ما» موصول بدل من «قصى» . ويجوز أن اللام للاستغاثة، كأنه استغاث بهم لعلهم يتداركون ما فاتهم. وساد في قومه: شرف، ومصدره السؤدد، بالهمز وضم الدال، وبالواو فتفتح داله كما هنا. والأصل: السود- بالضم- كالحسن، فزيدت الدال للإلحاق بيرفع وجندب. «وليهن» مجزوم بلام الأمر، والمقصود الدعاء. و «مقام» فاعل، و «بنى» مفعول. يقال: هنأه الطعام ونحوه، بالهمز: إذا نفعه وحمدت عاقبته عنده، وهو من بابى نفع وضرب، ويبدل همزه بما يناسب ما قبله، وقد يحذف البدل كما هنا، كأنه أصلى، لكن الحذف عامي. والمرصد والمرصاد: الطريق يرصد فيه الرصد. وقوله «للمؤمنين» فيه حث على الهجرة.(2/187)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصىّ وعبد الدار، وجعل الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه. وقرئ: شركاء أى ذوى شرك وهم الشركاء، أو أحدثا الله شركا في الولد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 الى 193]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
أجريت الأصنام مجرى أولى العلم في قوله وَهُمْ يُخْلَقُونَ بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيء كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم. أو لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يخلقون، لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ وإن تدعوا هذه الأصنام إِلَى الْهُدى أى إلى ما هو هدى ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. ويدل عليه قوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم. فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، كقوله وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 195]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)(2/188)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ وقوله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ استهزاء بهم، أى قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم. ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها وقيل: عباد أمثالكم مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير: إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم بتخفيف إن ونصب عباداً أمثالكم، والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ واستعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ جميعاً أنتم وشركاؤكم فَلا تُنْظِرُونِ فإنى لا أبالى بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال لهم: أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 197]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أى ناصري عليكم الله الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ الذي أوحى إلىّ كتابه وأعزنى برسالته وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 198]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهم لا يدركون المرئىّ
[سورة الأعراف (7) : آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
الْعَفْوَ ضد الجهد: أى خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا» «1» قال:
خذي العفو منى تستديمى مودّتى ... ولا تنطقى في سورتي حين أغضب «2»
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس أتم منه. [.....]
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 362 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/189)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
وقيل: خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً. والعرف: المعروف والجميل من الأفعال وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم. وقيل:
لما نزلت الآية سأل جبريل فقال: لا أدرى حتى أسأل «1» ، ثم رجع فقال: يا محمد، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وعن جعفر الصادق:
أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
[سورة الأعراف (7) : آية 200]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ وإما ينخسنك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولا تطعه. النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل جدّ جدّه. وروى أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف يا رب والغضب «2» » فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب، كقول أبى بكر رضى الله عنه: إنّ لي شيطاناً يعتريني «3»
[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
__________
(1) . أخرجه الطبري من طريق سفيان بن عيينة عن أبى المرادي قال لما أنزل الله فذكره وهذا منقطع. وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر ومن حديث قيس بن سعد، وزاد في أوله «لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة قال: والله لأمثلن بسبعين منهم. فجاء جبريل بهذه الآية، فذكر الحديث» وفي مسند أحمد عن عقبة بن عامر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا: أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وغفل الطيبي فقال في حديث الأصل: رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر.
(2) . أخرجه الطبري من رواية ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم «لما نزلت» فذكره مفصلا.
(3) . أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده. وابن سعد في الطبقات قالا: حدثنا وهب بن جرير حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن يقول «خطب أبو بكر رضى الله عنه يوما، فقال: أما والله، ما أنا بخيركم ولقد كنت لمقامى هذا كارها. ولوددت أن فيكم من يكفيني أفرط، وأن أعمل فيكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ؟؟؟؟ أقوم لها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي. وكان معه ملك. وإن لي شيطانا يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني الحديث» رواه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن الحسن نحوه. ورويناه في جزء الأنصارى من طريق أبى هلال عن الحسن قال «لما استخلف أبو بكر بدأ بكلام والله ما تكلم به أحد غيره» فذكر نحوه.(2/190)
طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ لمة منه مصدر، من قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفاً. قال:
أنَّى ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ بَطِيفُ «1»
أو هو تخفيف طيف فيعل، من طاف يطيف كلين. أو من طاف يطوف كهين. وقرئ: طائف، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم: إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته تَذَكَّرُوا ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم. وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين يمدونهم في الغى، أى يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: يمُدّونهم من الامداد. ويمادّونهم، بمعنى يعاونونهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا. وقوله وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ كقوله:
قَوْمٌ إذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِى كَوَاثِبِهَا «2»
في أنّ الخبر جار على ما هو له. ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جاريا على ما هو له، والأوّل أوجه، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا. فإن قلت: لم جمع الضمير في إخوانهم والشيطان مفرد؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ.
__________
(1) .
أنى ألم به الخيال يطيف ... ومطافه بك ذكرة وشغوف
لكعب بن زهير. وأنى: استفهام تعجبي بمعنى كيف، أو من أين. وألم: أى نزل للزيارة. والخيال: ما يراه النائم. وطاف به الخيال يطيف طيفا ومطافا: أقبل عليه. وطاف حوله يطوف طوافا وطوفانا: حام عليه ودار حوله، ويكنى به عن اللمس. وقوله «يطيف» جملة حالية مؤكدة أو مؤسسة. ومطافه: أى طيفه هو سبب التذكر ووصول الحب لشغاف القلب، فأقام المسبب مقام السبب، وعبر عن نفسه أولا بضمير الغيبة، وثانيا بالخطاب. على طريق الالتفات فرارا من شبهة التكرار. وروى بك بالخطاب.
(2) .
قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قدم
«الخيل» الأفراس. و «الكاثبة» الفرس القربوس، وللبعير الغارب، والرجل الكاهل. والحمار السيسيا.
و «الميل» جمع أميل، وهو الذي لا يثبت على ظهر فرسه. والقدم: جمع أقدم، وهو اللئيم الضعيف. أو جمع قدم بالسكون بمعناه. وضمير «جالوا» للقوم، فجرى الخبر على غير ما هو له. أى إذا الخيل جالوا هم في سروجها وما يبرز الضمير هكذا، لأن محل وجوبه في الصفة لا الفعل، أو لأمن اللبس، لأن الواو ضمير العقلاء. فان قيل:
إن «إذا» لا تضاف إلا الجملة الفعلية، فالخيل فاعل فعل محذوف. أجيب بمنع أنها لا تضاف إلا للفعلية، وبأن ذلك في الشرطية لا الظرفية كما هنا. وقيل: يحتمل على بعد أن الخيل بمعنى الفرسان، وضمير كواثبها للأفراس المدلول عليها بذكر الخيل: أى قوم إذا الفرسان جالوا في كواثب الأفراس، فوارس الخيل، ثابتون عليها لا مائلون عن ظهورها، ولا عاجزون كأن أيديهم مغلولة.(2/191)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أى جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جبى إليه فاجتباه: أى أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى لَوْلا اجْتَبَيْتَها هلا اجتمعتها، افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أو هلا أخذتها منزّلة عليك مقترحة؟ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها هذا بَصائِرُ هذا القرآن بصائر مِنْ رَبِّكُمْ أى حجج بينة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.
[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له. وقيل: معنى فاستمعوا له: فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.
[سورة الأعراف (7) : آية 205]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ هو عامّ في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعاً وخائفاً وَدُونَ الْجَهْرِ ومتكلما كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ لفضل هذين الوقتين. أو أراد الدوام. ومعنى بالغدوّ: بأوقات الغدوّ، وهي الغدوات. وقرئ:
والإيصال، من آصل إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم «1» وهو مطابق للغدوّ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.
[سورة الأعراف (7) : آية 206]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
__________
(1) . قوله «كأقصر وأعتم» أقصر: أى دخل في القصر أى العشى، وأعتم: دخل في العتمة، أى وقت العشاء. أفاده الصحاح. (ع)(2/192)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى عِنْدَ دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته وَلَهُ يَسْجُدُونَ ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» «1»
سورة الأنفال
مدنية، [إلا من آية 30 إلى غاية آية 36 فمكية] وهي خمس وسبعون آية [نزلت بعد البقرة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ «2»
__________
(1) . ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران وسيأتى في آخر الكتاب.
(2) .
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثى وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
للبيد بن ربيعة العامري، شبه الثواب الذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل- بالتحريك- وهو ما يعده الامام المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب فاستعار النفل له على طريق التصريحية وأخبر به عن التقوى لأنها سببه. ويجوز استعارة النفل التقوى يجامع النفع، وبإذن الله وتسهيله. ريثى: أى بطئى، وعجل: أى سرعتي، فحذفت ياء الاضافة للوزن، فلا ند: أى لا مثل له، بيديه: أى بقدرته التي هي كالآلة في أفعاله تعالى كاليدين لأفعالنا. ويحتمل أنه شبه خزائنه سبحانه باليد فيها شيء، لسهولة تصرفه فيما فيها واختصاصه به، فالباء بمعنى في. وتثنية اليد للمبالغة في التشبيه، ولا مانع من جعله ترشيحا للاستعارة على الوجهين. «ما شاء فعل» أى ما أراده فعله، وبين ذلك بقوله «من هداه طرق الخير اهتدى» حتما حال كونه طيب الشأن. ومن شاء إضلاله أضله حتما، أى تركه ونفسه ومنعه لطفه، حتى يضل حال كونه كاسف البال أى حزين القلب في العاقبة، فهي حال منتظرة «أو سيء الحال والشأن، وهذا محذوف معلوم من المقابلة بما قبله.(2/193)
والنفل ما ينفله الغازي، أى يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: من قتل قتيلا فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟
فقيل له: قل لهم هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان:
نحن المقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردآ لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم «2» وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبى وقاص: قتل أخى عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص «3» وأخذت سيفه فأعجبنى، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت: إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف فقال:
ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض «4» فطرحته وبى مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخى وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت
__________
(1) . أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والحاكم من حديث أبى أمامة عن عبادة بن الصامت. قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه بدرا. فالتقى الناس. فهزم الله العدو. فذكر الحديث في اختلافهم في قسمة الغنائم. قال: فنزلت ويسألونك عن الأنفال- الآية. فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين.
(2) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتى مكان كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا. فتسارع إليه الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات- الحديث» قلت: وأما قوله «حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين» فليس في هذا الحديث.
(3) . «قوله فقتلت به سعيد بن العاص» في حواشي البيضاوي: أنه العاص بن سعيد. (ع)
(4) . قوله «في القبض- كسبب-: المال المقبوض. (ع)(2/194)
سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتنى السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه «1» وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين «2» . وقرأ ابن محيصن:
يسألونك علنفال، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: يسألونك الأنفال، أى يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فان قلت:
ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضا إلى رأى أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم. وعن عطاء: كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال: ليردّ بعضكم على بعض. فان قلت: ما حقيقة قوله ذاتَ بَيْنِكُمْ؟ قلت: أحوال بينكم، يعنى ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله بِذاتِ الصُّدُورِ وهي مضمراتها.
لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم كاملى الإيمان. واللام في قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إشارة إليهم. أى إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فزعت. وعن أمّ الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة «3» ، أما تجد له قشعريرة؟ قال. بلى، قالت: فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه، يعنى فزعت لذكره استعظاما له، وتهيبا من جلاله وعزّة
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو شيبا وأبو عبيد في الأموال: وسعيد ابن منصور كلهم قال: حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد بن أبى عون عنه قال أبو عبيد: كذا يقول: سعيد بن العاصي. والصواب العاص بن سعيد. وفي روايتهم فقلت سعيد بن العاصي لم يقولوا به. [.....]
(2) . أخرجه أحمد وإسحاق والطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن الحارث عن سليمان بن مكحول- عن أبى أمامة عنه به.
(3) . قوله «كاحتراق السعفة» أى غصن النخلة، كما في للصحاح. (ع)(2/195)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ: وجلت، بالفتح، وهي لغة نحو «وبق» في «وبق» «1» .
وفي قراءة عبد الله: فرقت زادَتْهُمْ إِيماناً ازدادوا بها يقينا وطمأنينة في نفس، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان «2» . وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: إن للإيمان سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة حَقًّا صفة للمصدر المحذوف، أى أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كقولك: هو عبد الله حقا، أى حق ذلك حقا.
وعن الحسن أنّ رجلا سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنسار والبعث والحساب، فأنا مؤمن.
وإن كنت تسألنى عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لا أدرى أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنه، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه، يعنى كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا، فلا يقطع بأنه مؤمن حقا، وبهذا تعلق من يستننى في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضى الله عنه ممن لا يستثنى فيه. وحكى عنه أنه قال لقتادة:
لم تستثنى في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فقال له: هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى؟ دَرَجاتٌ شرف وكرامة وعلوّ منزلة وَمَغْفِرَةٌ وتجاوز لسيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ نعيم الجنة. يعنى لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.
[سورة الأنفال (8) : آية 5]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)
__________
(1) . قوله «نحو وبق في وبق ... الخ» وبق: أى هلك. وفرقت: خافت. (ع)
(2) . أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن حبان برواية أبى صالح عن أبى هريرة، وهو في البخاري باختصار.(2/196)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه وجهان «1» أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أى الأنفال استقرّت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. ومِنْ بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه بِالْحَقِّ أى إخراجاً ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في موضع الحال، أى أخرجك في حال كراهتهم، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة «2» معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إنى رأيت عجبا رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير. في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمداً لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه «3» ، فمضى
__________
(1) . قال محمود: «في «كما» وجهان، أحدهما: أن يرتفع محل الكاف ... الخ» قال أحمد: وكان جدي أبو العباس أحمد الفقيه الوزير رحمه الله يذكر في معنى الآية وجها أوجه من هذين، وهو أن المراد تشبيه اختصاصه عليه السلام بالأنفال، وتفويض أمرها إلى حكمه من حيث الاثابة والجزاء، بإخراجه من بيته مطيعا لله تعالى سامعا لأمره راضيا بحكمه على كراهة المؤمنين لذلك في الطاعة، فشبه الله تعالى ثوابه بهذه المزية بطاعته المرضية، فكما بلغت طاعته الغاية في نوع الطاعات، فكذلك بلغت إثابة الله له الغاية في جنس المثوبات. وجماع هذا المعنى هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام «الأجر على قدر النصب» ولك على هذا المعنى أن تجعل الكاف مرفوعة ومنصوبة على حسب التقدير، والله الموفق.
(2) . هذه القصة منتزعة من سيرة ابن هشام إلا قوله «إن في أهل العير عمرو بن هشام فان عمرو بن هشام هو أبو جهل ولم يكن في العير، وإنما كان في النفير وأخرجه الطبري من قول ابن إسحاق، وبعضه عن ابن عباس وعن عروة وعن السدى بتقديم وتأخير وزيادة ونقس وفي مغازي الواقدي عن محمود بن لبيد بعضه. وعن سعيد بن المسبب بعضه.
(3) . قوله «وإنا قد أعضضناه» في الصحاح: أعضضته الشيء فعضه. وفي الحديث «فأعضوه بهن أبيه» ويقال:
أعضضته سيفي، أى ضربته به. وأعض القوم. أكلت إيلهم العض، وهو بالضم علف الأمصار، وبالكسر الشوك الصغير. (ع) .(2/197)
بهم إلى بدر- وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة- فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير، وإمّا قريشا، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ردّد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال:
انظر أمرك فامض. فو الله لو سرت إلى عدن أبين «1» ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنما معكما مقاتلون، ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى «2» عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس
__________
(1) . قوله «إلى عدن أبين» في الصحاح: أبين اسم رجل نسب إليه عدن، فقيل: عدن أبين. (ع)
(2) . قوله «يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى» لعله «أن تكون» أو لعله «الأنصار ترى» وبالجملة فأحد الحرفين يغنى عن الآخر. (ع)(2/198)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح «1» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟
قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.
[سورة الأنفال (8) : آية 6]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يعتل إلى القتل «2» ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل:
كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة. وروى أنه ما كان فيهم إلا فارسان.
[سورة الأنفال (8) : آية 7]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7)
إِذْ منصوب بإضمار اذكر. وأَنَّها لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين. والطائفتان:
العير والنفير. غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم: والشوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا لشباها «3» . ومنها قولهم: شائك السلاح، أى تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أن يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر: فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف
__________
(1) . أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار وابن حيان والحاكم من رواية إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(2) . قوله «بحال من يعتل إلى القتل» أى يجذب جذبا عنيفا. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «شوك القنا لشباها» شباه كل شيء: حد طرفه، والجمع شبا وشبوات، كذا في الصحاح. مشياها جمع مضاف لضمير القنا. (ع)(2/199)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
الأمور «1» وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم «2» والله عز وجلّ يريد معالى الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ: بكلمته، على التوحيد.
[سورة الأنفال (8) : آية 8]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
فإن قلت: بم يتعلق قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه.
فإن قلت: أليس هذا تكريراً؟ قلت: لا، لأنّ المعنيين متباينان، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى: وقيل: قد تعلق بيقطع.
[سورة الأنفال (8) : آية 9]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
فإن قلت: بم يتعلق إِذْ تَسْتَغِيثُونَ؟ قلت: هو بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ وقيل بقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون: أى ربنا انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض- فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك «3» أَنِّي مُمِدُّكُمْ
__________
(1) . قال محمود: «يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور ... الخ» قال أحمد: والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكر الارادة فيه مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة، كأنه قيل: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق، ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة، فبين الكلامين عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد. وفي ذلك مالا يخفى من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين: إطلاق، وتقييد. والله أعلم.
(2) . قوله «وأحوالكم» لعله وأموالكم. (ع) [.....]
(3) . أخرجه مسلم من روآية ابن عباس عن عمر رضى الله عنه.(2/200)
أصله بأنى ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بالكسر، على ارادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى «قال» لأنّ الاستجابة من القول. فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل:
نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علىّ بن أبى طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم. فقالت. وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين.
وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروى أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين: إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشقّ وجهه، فحدث الأنصارى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذاك من مدد السماء «1» . وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه «2» سيفي، وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ مُرْدِفِينَ بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه إذا تبعه. ومنه قوله تعالى رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بمعنى ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته. ويقال: أردفته، كقولك أتبعته، إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين، أو متبعين، فإن كان بمعنى متبعين «3» فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أى يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم. أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة: ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ومن قرأ مُرْدِفِينَ بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين. وقرئ: مردّفين، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال: وأصله مرتدفين، أى مترادفين أو متبعين، من ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال
__________
(1) . هذا طرف من حديث ابن عباس رضى الله عنهما في الذي قبله.
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني أبى عن رجال من بنى مازن عن أبى داود المازني- فذكره، ومن طريقه أخرجه إسحاق والطبري وغيرهما.
(3) . قوله «فان كان بمعنى متبعين» يقرأ هذا بالتسكين، ولم يذكر مقابله وهو ما كان بمعنى متبعين بالتشديد. (ع)(2/201)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
في الدال، فالتقى ساكنان فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال. وبالضم على إتباع الميم. وعن السدى: بآلاف من الملائكة. على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران.
فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأنّ المراد بالألف من قاتل منهم. أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.
[سورة الأنفال (8) : آية 10]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في وَما جَعَلَهُ؟ قلت: إلى قوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ لأن المعنى:
قاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول. ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدّكم إِلَّا بُشْرى إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكيناً منكم، وربطا على قلوبكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة. أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله.
[سورة الأنفال (8) : آية 11]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بالنصر، أو بما في مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من معنى الفعل، أو بما جعله الله، أو بإضمار اذكر. وقرئ: يغشيكم بالتخفيف والتشديد «1» ونصب النعاس
__________
(1) . قال محمود: «وقرئ إِذْ يُغَشِّيكُمُ بالتخفيف والتشديد ... الخ» قال أحمد: ومثل هذا النظر يجرى عند قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً لأن فاعل الارادة هو الله عز وجل، وفاعل الخوف والطمع هم، وقد انتصبا مفعولا لهما فالجواب: أنه لما كان الله تعالى إذا أراهم البرق رأوه، كانوا فاعلين في المعنى وكان المعنى وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطعما، فهذا مثل آية الأنفال، فان المفعول في المعنى فاعل. وسيأتى مزيد بحث في هذه النكتة. وقد جرى القلم بتعجيلها هاهنا، وذلك أن لقائل أن يقول: فاعل يغشى النعاس إياهم هو الله تعالى، وهو فاعل الأمنة أيضا وخالقها وحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد السنة التي تقتضي نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها، ولمورد السؤال أن يقول المعتبر أن يكون فاعل الفعل متصفا بالعلة كما هو متصف بالفعل، والباري عز وجل. إن كان خالق الأمنة العبد وكان بها آمنا فالعبد هو الفاعل اللغوي وإن كان الله تعالى هو الفاعل حقيقة وعقيدة، وحينئذ يفتقر السؤال إلى الجواب السالف والله الموفق.(2/202)
والضمير لله عزّ وجل. وأَمَنَةً مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس. تنعسون، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا، أى لأمنكم، ومِنْهُ صفة لها: أى أمنة حاصلة لكم من الله عزّ وجلّ. فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة «1» قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أى ينعسكم إيماناً منه. أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً، فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم؟ أى يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال:
يهاب النّوم أن يغشى عيونا ... تهابك فهو نفّار شرود «2»
وقرئ «أمنة» بسكون الميم. ونظير «أمن أمنة» «حيي حياة» ونحو «أمن أمنة» «رحم رحمة» والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طامن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضى الله عنه: النعاس في القتال: أمنة من الله، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان «3» وَيُنَزِّلُ قرئ بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الشعبي: ما ليطهركم به: قال ابن جنى:
ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور. ورِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ: رجس الشيطان مم؟؟؟؟
وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء «4» ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت فعلى غير هذه القراءة قلت كذلك ... الخ» قال أحمد: وجه حسن بشرط الأدب في إسقاط لفظة التخييل، وقد تقدمت له أمثالها.
(2) . للزمخشري، يقول: يخالف النوم أن يغزو عيونا تخافك فالنوم كثير النفار والشرود، شبهه بحيوان يصح منه الخوف على طريق المكنية. وقوله فهو نفار شرود: تفريع للترشيح. ونسبة الخوف للعيون مجاز عقلى.
(3) . لم أجده عن ابن عباس. والظاهر أنه تحرف وإنما هو ابن مسعود. كذا ذكره الثعلبي. وأخرجه عبد الرزاق والطبري. وكذا ابن أبى شيبة والطبراني كلهم من حديث ابن مسعود موقوفا.
(4) . الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس مطولا وفي هذا ما ليس فيه وهو عند أبى نعيم والبيهقي في الدلائل من هذا الوجه.(2/203)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس. والضمير في بِهِ للماء. ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال.
[سورة الأنفال (8) : آية 12]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)
إِذْ يُوحِي يجوز أن يكون بدلا ثالثاً من إِذْ يَعِدُكُمُ وأن ينتصب بيثبت أَنِّي مَعَكُمْ مفعول يوحى وقرئ: إنى، بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء يوحى مجرى يقول، كقوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله سَأُلْقِي ... فَاضْرِبُوا يجوز أن يكون تفسيراً لقوله أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة. وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتى فيقول: إنى سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنّ، ويمشى بين الصفين فيقول: أبشروا، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه. وقرئ «الرعب» بالتثقيل فَوْقَ الْأَعْناقِ أراد أعالى الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييراً للرءوس. وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعنى ضرب الهام. قال:
وَأضْرِبُ هَامَةَ الْبطَلِ الْمُشِيحِ «1»
غشّيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة (409) فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهة صدقا
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
لبلعاء بنى قيس الكناني والغمر الماء الكثير فشبه الموت بسيل عظيم على سبيل الكناية. والغمار والانغماس فيه تخييل.
ويجوز أن تستعار الغمار لأهوال الموت على طريق التصريحية. ويحتمل أن تستعار لجيش ذلك الفارس على طريق التصريحية أيضا. وأضافه للموت لأنه ينشأ عنها والانغماس ترشيح. «إذا تألى» أى حلف «على مكروهة» أى حرب «صدق» أى بر في يمينه «غشيته» ألحقت به والحال أنه «في جأواء» أى كتيبة عظيمة اسودت أو اخضرت بكثرة السلاح والدروع، من الجوة مثل الحوة، أو من الجؤوة مثل الحمرة، وهي هي بشرط أن يرهقها سواد.
وقيل السواد يرهقه خضرة لصدإ دروعها «باسلة» أى مانعة عابسة. ويجوز أن الجأواء الدرع الصدئة. وعضبا:
مفعول غشيته، أى سيفا قاطعا «أصاب» أى طلب ونال «سواء» أى وسط الرأس «فانفلق» الرأس أو وسطه، مدح قرنه مع ظفره به، ليدل على بلوغه غاية الشجاعة.(2/204)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
والبنان: الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى، لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ويجوز أن يكون قوله سَأُلْقِي إلى قوله كُلَّ بَنانٍ عقيب قوله فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟
فقيل: قولوا لهم قوله سَأُلْقِي فالضاربون على هذا هم المؤمنون.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 الى 14]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
ِكَ
إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء وأَنَّهُمْ
خبره، أى ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت: لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة، كما قيل: المخاصمة والمشاقة، لأن هذا في خصم أى في جانب، وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق. والكاف في لِكَ
لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي ذلِكُمْ للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل ذلِكُمْ الرفع على ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم فَذُوقُوهُ ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلكم في وجهيه، أو نصب على أن الواو بمعنى مع. والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن: وإن للكافرين بالكسر.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 16]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)(2/205)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
زَحْفاً حال من الذين كفروا. والزحف: الجيش الدهم «1» الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أى يدب دبيباً، من زحف الصبى إذا دبّ على استه قليلا قليلا، سمى بالمصدر والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلا أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أى إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنى عشر ألفاً، وتقدمة «2» نهى لهم عن الفرار يومئذ. وفي قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أمارة عليه إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها أَوْ مُتَحَيِّزاً أو منحازاً إِلى فِئَةٍ إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضى الله عنه: خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا «3» فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله نحن الفرّارون، فقال: بل أنتم العكارون «4» وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضى الله عنه فقال:
يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضى الله عنه: أنا فئتك «5» . وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر. فإن قلت: بم انتصب إِلَّا مُتَحَرِّفاً؟
قلت: على الحال، وإلا لغو. أو على الاستثناء من المولين، أى: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيزاً، وقرأ الحسن دُبُرَهُ بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوّز.
[سورة الأنفال (8) : آية 17]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت
__________
(1) . قوله «الجيش الدهم» هو العدد الكثير، والدهمة: السواد، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله و «تقدمة نهى لهم» لعله عطف على المعنى، أى: إشعاراً وتقدمة نهى. (ع)
(3) . أخرجه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من رواية يزيد بن أبى زياد عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى الله عنهما. وكذا أخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من رواية يزيد بن أبى زياد. [.....]
(4) . قوله «بل أنتم العكارون» من عكر إذا عطف وكر. أفاده الصحاح. (ع)
(5) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية منصور عن إبراهيم. قال: فر رجل فذكره.(2/206)
وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قريش قد جاءت «1» بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال- لما التقى الجمعان- لعلى رضى الله عنه: أعطنى قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم «2» ، فقيل لهم فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أنت يا محمد إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى يعنى أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا. وقرئ: ولكن الله
__________
(1) . قال محمود: «ولما جاءت قريش قال عليه الصلاة والسلام: هذه قريش جاءت ... الخ» قال أحمد رحمه الله:
أوضح مصداق في التمييز بين الحقيقة والمجاز. ألا تراك تقول للبليد: ليس بحمار، ويصدق عليه مع صدق قولك فيه على سبيل التجوز إنه حمار، فإذا ثبت لك أن من مميزات المجاز صدق سلبه بخلاف الحقيقة، فافهم أن هذه الآية تكفح وجوه القدرية بالرد، وذلك أن الله تعالى أثبت الفعل للخلق ونفاه عنهم، ولا محمل لذلك إلا أن ثبوته لهم مجاز، والفاعل والخالق حقيقة هو الله تعالى، فأثبته لهم مجازاً، ونفاه عنهم حقيقة. وإياك أن تعرج على تنكيس الزمخشري في تأويل الآية، فانه نظر أعوج، وباطل مخلج، والحق أبلج، والله الموفق بكرمه.
(2) . قال الطيبي: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت ببدر، ثم حديث سلمة بن الأكوع.
قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فذكر القصة، وهو تعقيب غير مرضى فقد روى الواقدي في المغازي عن ابن أبى الزهري عن الزهري عن عروة بن الزبير قال «لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فذكر نحوه إلى قوله: ما وعدتني» وروى الطبري من وجه آخر عن هشام بن عروة عن عروة قال «لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال: فزعموا أنه قال، هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فلما أقبلوا استقتلوا فحثا في وجوههم فهزمهم الله تعالى» وروى الطبري من رواية على بن أبى طلحة قال «رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر «فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن نعبد في الأرض أبدا. فأمره جبريل فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم. فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخره وفمه تراب. فولوا مدبرين» وعنده أيضا من طريق أسباط عن السدى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى يوم بدر: أعطنى حصباء من الأرض. فناوله حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه من ذلك التراب، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم. وأنزل الله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ- الآية. وروى الواقدي في المغازي أيضاً من طريق حكيم بن حزام في قصة بدر قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ كفاً من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه. فما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه فانهزم أعداء الله، والمسلمون يقتلون ويأسرون. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن حكيم بن حزام نحوه دون ما في آخره.(2/207)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قتلهم. ولكن الله رمى، بتخفيف «لكن» ورفع ما بعده وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ وليعطيهم بَلاءً حَسَناً عطاء جميلا. قال زهير:
فَأبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِى يَبْلُو «1»
والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعائهم عَلِيمٌ بأحوالهم.
[سورة الأنفال (8) : آية 18]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع: أى الغرض ذلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ معطوف على ذلك. يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين. وقرئ: موهن، بالتشديد. وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال.
[سورة الأنفال (8) : آية 19]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعانى، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروى أنهم قالوا:
اللهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروى أنّ أبا جهل قال يوم بدر:
اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أى فأهلكه. وقيل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمؤمنين وَإِنْ تَنْتَهُوا خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأسلم وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصرته عليكم وَأَنَّ اللَّهَ قرئ بالفتح على: ولأنّ الله معين المؤمنين كان ذلك. وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود: والله مع المؤمنين. وقرئ: ولن يغنى عنكم، بالياء للفصل.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
__________
(1) .
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
يقول: كافأ الله بإحسانه إليهما ما فعلاه بكم من الإحسان. وأبلى: مضمن معنى أعطى. يقال: بلاه الله وأبلاه وابتلاء، بمعنى اختبره. والاسم: البلاء. ويجيء بمعنى النقمة وبمعنى النعمة كما هنا. وأعطاهما خير نعمته التي يبلوها الناس ويختبرهم بإعطائها(2/208)
وَلا تَوَلَّوْا قرئ بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في عَنْهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ المعنى: وأطيعوا رسول الله كقوله: الله ورسوله أحق أن يرضوه، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، كقولك: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان. ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أى: ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه. أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أى تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أى ادّعوا السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لأنهم ليسوا بمصدّقين فكأنهم غير سامعين. والمعنى: أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. ثم قال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أى إنّ شر من يدب على وجه الأرض. أو إنّ شرّ البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرّها وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أى انتفاعا باللطف لَأَسْمَعَهُمْ للطف بهم «1» حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عنه.
يعنى: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه. أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا
__________
(1) . قال محمود «يعنى: ولو علم الله أن اللطف ينفع في هؤلاء ... الخ» قال أحمد رحمه الله: إطلاق القول بأن الله تعالى يلطف بالعبد فلا ينفع لطفه مردود، فان اللطف هو إسداء الجميل والالطاف به، واسمه اللطيف من ذلك، فإذا أسدى الجميل إلى العبد بأن أسمعه إسماع لطيف به، فتلك الغاية المرجوة ومعنى اللطف به على هذا: أن يخلق في قلبه قبول الحق وحسن الإصغاء إليه والاهتداء به، ولكن لا يتم ذلك على عقيدة الاعتزال والرأى الفاسد في خلق الأفعال، لأن مقتضاها أن العبد هو الذي يخلق لنفسه قبول الحق والهداية وحسن الاستماع والإصغاء، وأن الله تعالى لا يشارك العبد في خلق ذلك، بل الذي ينسب إلى الله تعالى إرادة الهداية من جميع الخلق، ولا يلزم حصول مراده على العموم- تعالى الله عما يقولون- ثم ولو تنزيل متنزل على هذه القاعدة لما استقام تأويل الزمخشري أيضا، فان حاصله: ولو علم الله فيهم خيراً للطف بهم، ولو لطف بهم لما انتفعوا باللطف، فيلزم عدم انتفاعهم باللطف على تقدير علم الله الخير فيهم، وهذا غير مستقيم لما يلزم عليه من وقوع خلاف المعلوم لله تعالى، وذلك محال عقلا، فلا يرتفع الاشكال إلا بتقدير الاسماع الواقع جوابا أولا وخلاف الاسماع الواقع شرطا ثانيا، كيلا يتكرر الوسط فيلزم المحال المذكور. وأقرب وجه في اختلاف الاسماعين: أن يراد بالأول: ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول، ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء، بل إسماعا مجرداً من ذلك، لتولوا وهم معرضون. فهذا هو الوجه في تأويل الآية، والله الموفق.(2/209)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة: كانوا يقولون: نحن صم بُكم عُمى عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. وعن ابن جريج: هم المنافقون.
وعن الحسن: أهل الكتاب.
[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
إِذا دَعاكُمْ وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال.
وبالدعوة: البعث والتحريض. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبىّ ابن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتى؟ قال: كنت أصلى. قال: ألم تخبر فيما أوحى إلىّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك «1» . وفيه قولان، أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته لِما يُحْيِيكُمْ من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم:
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ ... فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ «2»
وقبل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ وقيل للشهادة، لقوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها «3» وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل:
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي دون قوله: لا جرم إلى آخره وأخرجه ابن مردويه من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي وفي آخره قال «انى لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك هو إن كنت أصلى» وفي الباب عن أبى سعيد ابن الحكم، أخرجه البخاري بغير هذا السياق واقتصر عليه الطيبي.
(2) . للزمخشري، نهي للجهول عن العجب والخيلاء بثيابه، لأنه كالميت في عدم النفع وعدم الإدراك، ويلزم من ذلك أن ثوبه الذي يعجب به كالكفن، حيث اشتمل على جسم لا إدراك فيه ولا نفع. والميت هنا بالتخفيف.
(3) . قال محمود: «معناه أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ... الخ» قال أحمد رحمه الله: نعم، هذا عقد أهل السنة الذي استعار لهم لقب المجبرة، وهو العقد الحق المؤسس على التقوى وتفويض المخلوقات كلها إلى الواحد الحق خالق الخلق، فان كان ذلك ظلما فأنا بريء من الطائفة المتسمية بالعدلية، إصراراً على هذا الرأى الباطل والمعتقد الماحل، والله الموفق.(2/210)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى.
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب «1» من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً. وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: بين المر، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 25 الى 26]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
فِتْنَةً ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل فِتْنَةً عذاباً. وقوله: لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً «2» فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل:
واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ، ونظيره قوله:
حَتَّي إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ ... جَاؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ «3»
__________
(1) . قوله «فأما ما يثاب العبد عليه ... الخ» المسألة هنا من فروع مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية، فعند المعتزلة أن المريد الخالق لها هو العبد، وإذا صح تكليفه لظهور اختياره. وعند أهل السنة أن المريد الخالق لها هو الله تعالى. وإنما صح تكليف العبد لما له فيها من الكسب، وهو اختيار بعضها على بعض بشهادة الوجدان، خلافا للجبرية القائلين بالجبر المحض، ومحله التوحيد.
(2) . قوله نهوا عن المنكر تعذيراً التعذير في الأمر: التقصير فيه اه صحاح. (ع)
(3) .
بتنا بحسان ومعزاه يئط ... يلحس أذنيه وحينا يمتخط
ما زلت أسعى فيهمو وأختبط ... حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذيب قط
لأحمد الرجاز. وقيل: إنه للعجاج، يصف رجلا بالبخل. وبات بالقوم: إذا نزل بهم ليلا. والأط: صوت الجوف. والمعز- محركة ومسكنة- والمعيز، والأمعوز، والمعزى: خلاف الضأن من الغنم. فهو اسم جمع، وتأنيث المعزى لغة. والاختباط: تطلب المعروف من غير اهتداء. يقول: نزلنا عند حسان ليلا، والحال أن معزاه جائعة هزيلة، فالأطيط كناية عن الأول، والامتخاط كناية عن الثاني، ويجوز أن ذلك كناية عن كثرة المعز عنده، وليخله قراهم بالمذق بعد مدة كان يمكنه أن يذبح لهم فيها شاة، وهذا أنسب بما بعده، وضمير أذنيه يحتمل عوده على المعزى لأنه مذكر عند الأكثر، ويجوز أنه عائد لحسان، وهو ذم شنيع. وفيهم: أى في حيه. وجن النبت: طال. والليل: أظلم. والذباب: كثرت أصواته. والظلام: كثر واختلط وتراكم بعضه فوق بعض بحيث لا يتخلله نور. والمذق: المزج. والمراد به لبن مخلوط بماء. ويروى: بمذق- بالكسر-: وهو ذلك اللبن.
ويروى: جاءوا بضيح، بمعجمة فمثناة تحتية فمهملة، بمعنى المذق، إلا أنه رقيق، و «هل رأيت» استفهام تقريرى والجملة صفة لمذق، أى مذق مقول فيه ذلك، والمراد تشبيه المذق بالذيب في الكدرة، فكنى بالاستفهام عن ذلك، لأن من أراد إخطار الشيء بالبال ورسمه في الخيال يستفهم عنه، فكأنه قال له هل رأيته؟ فقال نعم، قال: إن اللبن مثله، لكن حذف هذا كله واستغنى بالاستفهام عنه. وقط: ظرف مبنى على الضم، وسكن الوقف.(2/211)
أى بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة «1» التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: لتصيبنّ، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في علىّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدى: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروى «أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، إذ أقبل علىّ رضى الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف حبك لعلّى؟ فقال يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إنى أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله» «2» فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم. فإن قلت: فما معنى «من» في قوله الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ؟ قلت: التبعيض على الوجه الأوّل، والتبيين على الثاني، لأنّ المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس «3» .
__________
(1) . قوله «لأنه سمار فيه لون الورقة» قوله «سمار» هو- بالفتح- لبن رقيق. وتسمير اللبن. ترقيقه بالماء.
والورقة: بياض يضرب إلى سواد وإلى خضرة اه صحاح. (ع)
(2) . لم أجده هكذا وإنما رواه ابن أبى شيبة من طريق الأسود بن قيس حدثني من رأى الزبير يعقص الخيل فناداه على: يا أبا عبد الله فأقبل حتى التقت أعناق دوابهما فقال له على: أنشدك الله، أتذكر يوم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه؟ والله ليقاتلنك وهو لك ظالم قال: فضرب الزبير وجه دابته فانصرف «وروى البيهقي في الدلائل من طريق أبى حرب بن أبى الأسود الديلمي عن أبيه قال: «لما دنا على وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج على فنادى: ادعوا لي الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما فقال على رضى الله عنهما يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا وكذا فقال: يا زبير، أتحب عليا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمّتى وعلى قريبي؟ قال: أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم؟ قال، بلى، ولكنى نسيته وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال «لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان يعلم أنه على حق ما ولى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في سقيفة بنى ساعدة فقال: أتحبه يا زبير؟ قال: وما يمنعني؟ قال: فكيف بك إذا قاتلته» . [.....]
(3) . قوله «أقبح منكم من سائر الناس» لعله منه من سائر الناس. (ع)(2/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
إِذْ أَنْتُمْ نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف: أى اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين فِي الْأَرْضِ أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادّين فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: كان هذا الحىّ من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكا.
[سورة الأنفال (8) : آية 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه: تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب «1» لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له.
ومنه قوله تعالى وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأَماناتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. وروى أن نبى الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بنى قريظة إحدى وعشرين ليلة «2» فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم
__________
(1) . قوله «خان الدلو الكرب وخان المشتار السبب. قوله «الكرب» حبل يشد في رأس الدلو. والمشتار مجتنى العسل. والسبب: الحبل اه صحاح (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند، لكن سنده إليه في أول الكتاب. وقد روى ابن إسحاق في المغازي:
حدثنا إسحاق بن يسار عن عبد بن كعب السلمى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم- يعنى قريظة- خمساً وعشرين ليلة- فذكر القصة بطولها- إلى أن قال: ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر فذكر قصة مختصرة. وأخرجها البيهقي في الدلائل من طريق سعيد بن المسبب في قصة طويلة- فذكر نحو ما هنا. وهكذا ذكرها عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك. فربط نفسه بسارية فذكر القصة» وأخرجه الواقدي عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك مثله.
«تنبه» تسمية أبى لبابة مروان لم أره إلا من هذه الرواية. ومدة حصار بنى قريظة المحفوظ فيها ما قاله ابن إسحاق.(2/213)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
بنى النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علىّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالى. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدّق به. وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه. وقيل أَماناتِكُمْ ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت: وَتَخُونُوا جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى «وأن يكون نصباً بإضمار «أن» كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وقرأ مجاهد:
وتخونوا أمانتكم، على التوحيد.
[سورة الأنفال (8) : آية 28]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله الْمالُ وَالْبَنُونَ الآية. وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.
[سورة الأنفال (8) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
فُرْقاناً نصراً، لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ أو بياناً وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم «بتّ أفعل كذا» حتى سطع الفرقان: أى طلع الفجر. أو مخرجا من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة.(2/214)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
[سورة الأنفال (8) : آية 30]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك وذلك أن قريشا- لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره «1» ، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا، فقال أبو البختري: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأى، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم: فقال هشام بن عمرو: رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأى يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ- لعنه الله-: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً.
فتفرقوا على رأى أبى جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضى الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم «2» لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم:
ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعاً. وقرئ: ليثبتوك، بالتشديد. وقرأ النخعي: ليبيتوك، من البيات، وعن ابن عباس: ليقيدوك، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق
__________
(1) . قوله «فرقوا أن يتفاقم أمره» أى خافوا أن يعظم أمره. اه صحاح. (ع)
(2) . القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: حدثني من لا أنهم عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال «لما اجتمعت قريش في دار الندوة وتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترضهم إبليس في هيئة شيخ فذكره مطولا» وأخرجه الطبري وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح. وليس في أوّله أن ذلك بسبب الأنصار. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة قال «لما كثر المسلمون- فذكر معناها. ووصلها الواقدي عن معمر بذكر عائشة قال: وعن ابن أبى خيثمة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس نحوه.(2/215)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
وَيَمْكُرُونَ ويخفون المكايد له وَيَمْكُرُ اللَّهُ ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أى مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 34]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا نفاجة منهم وصلف «1» تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه «2» . وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفى كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك:
إن كان الباطل حقا، فأمطر علينا حجارة. وقوله: هُوَ الْحَقَّ تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش «هو الحق» بالرفع، على أن هو مبتدأ غير
__________
(1) . قوله «نفاجة منهم وصلف الخ» «نفاجة» أى تكبر. و «الصلة» مجاوزة الحد كيرا. «والراعدة» السحابة. وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم به. والقدح المعلى: أحد سهام الميسر يخرج للغالب اه صحاح (ع)
(2) . قوله «على أن يغمروه» يقال للرجل: غمره القوم، إذا علوه شرفا، كذا في الصحاح. (ع)(2/216)
فصل. وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت «1» ومطرت، كقولك: هتنت وهتلت. وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله مِنَ السَّماءِ؟ والأمطار لا تكون إلا منها. قلت: كأنه يريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع حِجارَةً مِنَ السَّماءِ موضع السجيل، كما تقول:
صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً بِعَذابٍ أَلِيمٍ أى بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال. ومعناه نفى الاستغفار عنهم: أى ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل: معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرّهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين، وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وأى شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعنى:
لاحظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برا تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.
__________
(1) . قوله «أنجمت وأسبلت الخ» أنجمت: أى انكشفت نجومها. وأسبلت: أمطرت. وهتنت وهتلت:
تتابع مطرها. اه صحاح (ع)(2/217)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
[سورة الأنفال (8) : آية 35]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
المكاء: فعال بوزن الثغاء والرغاء «1» من مكا يمكو إذا صفر: ومنه المكاء، كأنه سمى بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ: مكا بالقصر. ونظيرهما:
البكى والبكاء. والتصدية: التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ «2» إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقرأ الأعمش: وما كان صلاتهم، بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا «3»
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته يخلطون عليه فَذُوقُوا عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)
قيل نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر. وقيل:
__________
(1) . قوله «بوزن الثغاء والرغاء» الثغاء: صوت الغنم. والرغاء: صوت الإبل. والمكا- بالتشديد-: طائر وجمعه مكاكى اه صحاح (ع)
(2) . قوله «أو من صد يصد» في الصحاح: صد يصد ويصد صديداً: أى ضج (ع)
(3) . للفرزدق «والأدهم» في الأصل الأسود، ثم غلب على الحية السوداء، ثم سمى به القيد الحديد.
«والمحدرج» المفتول: أى ما كنت. أظن أن يكون عطاؤه قيوداً سوداً، أو سياطاً مفتولة سمرا حقيقة، أو وصفها بذلك لقبحها، كما يصفون الحسن بالأخضر. ويروى «حمرا» فوضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضع الشاعر الرجاء موضع الظن، وأطلق العطاء على العقاب مجازا، وعرض بذلك إلى أنه كان يرجو العطا، ويروى «أخاف زيادا أن يكون» .(2/218)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل: نزلت في أبى سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أى تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأنّ ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء «1» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. وَالَّذِينَ كَفَرُوا والكافرون منهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ الفريق الخبيث من الكفار مِنَ الفريق الطَّيِّبِ من المؤمنين، فيجعل الفريق الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعنى لفرط ازدحامهم أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبى بكر وعثمان في نصرته فَيَرْكُمَهُ فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به، كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ ... الآية، واللام على هذا متعلقة بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وعلى الأوّل بيحشرون، وأولئك: إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ: ليميز على التخفيف.
[سورة الأنفال (8) : آية 38]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أبى سفيان وأصحابه. أى قل لأجلهم هذا القول وهو إِنْ يَنْتَهُوا ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود. ونحوه:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أى إن ينتهوا عماهم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لهم من العداوة وَإِنْ يَعُودُوا لقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن
__________
(1) . قوله «فيرجعون طلقاء» في الصحاح «الطليق» الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله. (ع)(2/219)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجب ما قبله» «1» وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين.
وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه الله في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة. وقبلها، وفسر وَإِنْ يَعُودُوا بالارتداد. وقرئ يُغْفَرْ لَهُمْ على أن الضمير لله عز وجل
[سورة الأنفال (8) : الآيات 39 الى 40]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: تعملون، بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام بَصِيرٌ يجازيكم عليه أحسن الجزاء وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أى ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
[سورة الأنفال (8) : آية 41]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
__________
(1) . أخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن بن أسامة عن عمرو بن العاص في قصة. وفيها هذا لكن بلفظ «يهدم ما قبله» قال النووي: غلط كثير من الفقهاء فذكره بلفظ «يجب ما قبله» ويروى «يحت» بالمهملة والمثناة اه. وقد رواه الطبري من هذا الوجه، بلفظ «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي من طريق حبيب بن أبى أويس الثقفي حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى في قال «لما جئت أريد الإسلام فذكر القصة. وفيها يا عمرو، إن الإسلام يجب ما قبله. والهجرة تجب ما كان قبلها» ومن هذا الوجه أخرجه أحمد وإسحاق والبيهقي في الدلائل. وأخرجه ابن سعد في خالد بن الوليد من طريق المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قال خالد ابن الوليد ... فذكر قصة إسلامه وفيها «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وفي ترجمة المغيرة بن شعبة من رواية يعقوب ابن عتبة عن المغيرة. فذكر قصة إسلامه. وفيها ذلك. وفي ترجمة هبار بن الأسود من حديث جبير بن مطعم في قصة إسلام هبار. وفيه «والإسلام يجب ما كان قبله» وفي أسانيد الثلاثة الواقدي.(2/220)
أَنَّما غَنِمْتُمْ ما موصولة. ومِنْ شَيْءٍ بيانه. قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، فَأَنَّ لِلَّهِ مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق، أو فواجب أن الله خمسه. وروى الجعفي عن أبى عمرو، فإن الله بالكسر. وتقويه قراءة النخعي: فلله خمسه. والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت واجب حق لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ: خمسه بالسكون فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبى حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بنى هاشم وبنى المطلب، دون بنى عبد شمس وبنى نوفل، استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة، لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم رضى الله عنهما، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة: فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه «1» وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين، وابن السبيل. وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوى القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين: كعدّة الغزاة من السلاح والكراع «2» ونحو ذلك. وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين. والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك ابن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه «3» قلت: يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول، لرسول الله
__________
(1) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم بتمامه وهو في الصحيح دون قوله «لم يفارقونى» . [.....]
(2) . قوله «من السلاح والكراع» الكراع: هو اسم جمع الخيل اه صحاح. (ع)
(3) . قال محمود «إن قلت ما معنى ذكر الله وعطف الرسول وغيره عليه ... الخ» قال أحمد: لأن مالكا رضى الله عنه لا يرى ذكر الوجوه المذكورة لبيان أنه لا يصرف فيما سواها، وليس لأن يتملكاها ولا على التحديد حتى لا يجوز الاقتصار على بعض الوجوه دون بعض، بل الأمر عنده موكول إلى نظر الامام فيصرف الخمس في مصالح المسلمين ومن جملتها قرابته عليه الصلاة والسلام، ولا تحديد عنده في ذلك البتة، وهذا التأويل الثالث ينطبق على مذهبه، وبيان ذلك أن المراد حينئذ بذكر الله تعالى بيان أن الخمس يصرف في وجوه التقربات لله تعالى غير مقيد، ثم تخصيص الوجوه المذكورة بعد ليس تحديداً، ولكن تنبيها على فضلها والتخصيص لقصد التفصيل بعد التعميم لا يرفع حكم العموم الأول، بل هو قار على حاله، كما أن العموم ثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكال، بعده، والله تعالى أعلم.(2/221)
صلى الله عليه وسلم، كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب. وأن يراد بقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة، تفضيلا لها على غيرها. كقوله تعالى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين. وعلى الثاني ما قال أبو العالية:
أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة «1» . وعنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى، ثم يقسم ما بقي على خمسة «2» . وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر رضى الله عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروى أنّ أبا بكر رضى الله عنه منع بنى هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغنى منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنىّ لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر. وعن زيد بن على رضى الله عنه: كذلك قال، ليس لنا أن نبنى منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة. وعن على رضى الله عنه أنه قيل له: إنّ الله تعالى قال وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فقال: أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن رضى الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولى الأمر من بعده.
وعن الكلبي رضى الله عنه أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بنى قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة. فإن قلت:
بم تعلق قوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ؟ قلت: بمحذوف يدل عليه وَاعْلَمُوا المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى،
__________
(1) . قوله «يصرف إلى رتاج الكعبة» في الصحاح «الرتج» بالتحريك: الباب العظيم، وكذلك الرتاج. ومنه.
وتاج الكعبة، (ع)
(2) . أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل من طريق الربيع بن أنس عن أبى العالية. قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالغنيمة قسمها خمسة أقسام، ثم يقبض بيده قبضة من الخمس أجمع ثم يقول: هذه الكعبة. ثم يقول لا تجعلوا لله نصيباً فان لله الآخرة والدنيا ثم يأخذ سهما لنفسه وسهما لذي القربى وسهما اليتامى، وسهما لمساكين، وسهما لابن السبيل، أخرجه أبو عبيدة في الأموال، والطبري من هذا الوجه.(2/222)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر وَما أَنْزَلْنا معطوف على بِاللَّهِ أى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل عَلى عَبْدِنا وقرئ عبدنا كقوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضمتين يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر. والْجَمْعانِ الفريقان من المسلمين والكافرين. والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.
[سورة الأنفال (8) : آية 42]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
إِذْ بدل من يوم الفرقان. والعدوة: شط الوادي بالكسر والضم والفتح. وقرئ بهنّ وبالعدية، على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية.
والدنيا والقصوى: تأنيث الأدنى والأقصى. فإن قلت: كلتاهما «فعلى» من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كالعليا. وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل. وقد جاء القصيا، إلا أنّ استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» «1» والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. وأسفل: نصب على الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل، لأنه خبر للمبتدإ. فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم «2» ؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم «3» وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلا على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار «4»
__________
(1) . قوله «وأغيلت مع أغالت» أغيلت: أى أرضعت وهي موطوءة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت ما فائدة ذكر مركز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
(3) . قوله «والتياث أمرهم» أى اختلاط أمرهم اه صحاح. (ع)
(4) . قوله «وهي خبار» أى رخوة ذات جحرة. اه صحاح (ع)(2/223)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذلك جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضى أمراً كان مفعولا من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا الغير راغبين في الخروج، وشخص بقريش «1» مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له لِيَقْضِيَ متعلق بمحذوف، أى ليقضى أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله لِيَهْلِكَ بدل منه. واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أى ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.
وقرئ: ليهلك، بفتح اللام. وحيي، بإظهار التضعيف لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم. أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
[سورة الأنفال (8) : آية 43]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ نصبه بإضمار اذكر. أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بقوله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أى يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك فِي مَنامِكَ في رؤياك. وذلك أن الله عزّ وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وعن
__________
(1) . قوله «وشخص بقريش» يقال للرجل إذا ورد عليه أمرا أقلقه: شخص به. اه صحاح. (ع)(2/224)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
الحسن: في منامك في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة «1» : المنامة، لأنه ينام فيها.
وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وهبتم الإقدام وَلَتَنازَعْتُمْ في الرأى، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أى عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع.
[سورة الأنفال (8) : آية 44]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولان. يعنى: وإذ يبصركم إياهم. وقَلِيلًا نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضى الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال.
ألفاً «2» وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت:
قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده ليجترءوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم «3» حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلا وكثرتهم آخراً. فإن قلت: بأى طريق يبصرون الكثير قليلا «4» ؟ قلت بأن يستر الله عنهم
__________
(1) . قوله «للقطيفة» هي دثار مخمل. اه صحاح. (ع)
(2) . قال إسحاق في مسنده: أخبرنا عمرو بن محمد، ويحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل. عن أبى إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود. فذكره، ومن هذا الوجه أخرجه الطبري وابن أبى حاتم.
(3) . قوله «وتفل شوكتهم» أى تكسر. أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت بأى طريق يبصرون الكثير قليلا ... الخ» قال أحمد: وفي هذا دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك، فعلى هذا يجوز أن يخلق الإدراك مع اجتماعها، فلا ربط إذا بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا، وأنها تستلزم الجسمية، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم، فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم، ولكنهم يمرون عليها. وهم عنها معرضون، والله الموفق.(2/225)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الوحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال:
مالى لا أرى هذين الديكين أربعة؟
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 46]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفرّوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج- من البلاغة والبيان ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح- دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقهم الأمر وَلا تَنازَعُوا قرئ بتشديد التاء فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: ويذهب ريحكم، بالياء والجزم. والريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل:
هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
يَا صَاحِبَىَّ ألَا لَاحَىَّ بِالْوَادِى ... إلّا عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَادِ
أتُنْظِرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِى «1»
__________
(1) . لسليك بن سلكة، مر مع صاحبيه بجوف مراد واد باليمن فوجدوا إبلا قد ملأته، فقال لهما: أتنظراني هنا حتى آتى الرعاء فأعلم خبر الحي أقريب أم بعيد، فلم يزل يلاطفهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد، فقال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فتغنى بأعلى صوته بالبيتين، فأتاه صاحباه فاستاقوا الإبل. وآم بالمد. قيل: جمع إماء جمع أمة. وقيل: هو أيضا جمع أمة، فأصله أأمو كأذرع جمع ذراع. وعلى الثاني أأمو أيضا، كآكم جمع أكمة، لأن أمة أصله أموة، فأبدلت الهمزة الثانية في الجمع ألفا وقلبت الواو ياء لتطرفها. والهمزة كسرة لمناسبتها، ثم أعل إعلال قاض. وروى بدله «قعود» والذود من الإبل: من ثلاثة إلى عشرة. وأ تنظران، من أنظرته إذا أخرته. والريث: التأخر والتواني، وهو نصب على البدلية من قليلا. أو على الظرفية. ويجوز قراءة «أتنظران» من نظره إذا انتظره. فريث. يجوز أنه مفعول به. و «وتعدوان» من العدو، وهو السرعة السير، أو من العدوان، وهو تعدى الحد. واستعار الريح الدولة والأمر النافذ بجامع النفوذ من كل. ويروى «تغدوان» و «للغادى» بالغين المعجمة: أى أم تسرعان إلى، فان الظفر للمسرع. وفيه دلالة على أن السرعة أرجح من التأخر. [.....](2/226)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
وقيل لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» «1»
[سورة الأنفال (8) : آية 47]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
حذرهم- بالنهى عن التنازع واختلاف الرأى- نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هم أهل مكة حين خرجوا الحماية العير، فأتاهم رسول أبى سفيان وهم بالجحفة: أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان «2» ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى «3» والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.
[سورة الأنفال (8) : آية 48]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)
وَاذكر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أى بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بنى كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس
__________
(1) . متفق عليه من طريق مجاهد عن ابن عباس.
(2) . قوله «وتعزف علينا القيان» تلعب بالملاهي وتغنى والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية والجمع القيان والقين الحداد والجمع القيون وكل عبد هو عند العرب قين وقان الشيء يقينه قينا إذا أصلحه وزينه أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وأن يكونوا من أهل التقوى» لعله: وأن لا يكونوا. أو لعله بأن يكونوا. (ع)(2/227)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- وكان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإنى مجيركم من بنى كناية. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إنى أرى مالا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث: وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر «1» ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر «2» . فإن قلت: هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال: لا ضاربا زيداً عندنا؟ قلت: لو كان لَكُمُ مفعولا لغالب، بمعنى: لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت: لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم.
[سورة الأنفال (8) : آية 49]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتى الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوى.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)
وَلَوْ تَرى ولو عاينت وشاهدت، لأن «لو» تردّ المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن»
__________
(1) . قوله «ولا أدحر» الدحور: الطرد والابعاد، اه صحاح، (ع)
(2) . أخرجه مالك في الموطأ من رواية طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق والطبري، والبيهقي في الشعب وانفرد أبو النضر بن إسماعيل بن إبراهيم العجلى عن مالك. فقال عن طلحة عن أبيه قال ابن عبد البر: الصواب مرسل «تنبيه» هو طلحة بن عبد الله بن بكير، وكريز مصغر، ووقع في المناسك للنووي طلحة بن عبد الله أحد العشرة، وهو وهم بين.(2/228)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
الماضي إلى معنى الاستقبال. وإِذْ نصب على الظرف. وقرئ: يتوفى. بالياء والتاء.
والْمَلائِكَةُ رفعها بالفعل ويَضْرِبُونَ حال منهم، ويجوز أن يكون في يَتَوَفَّى ضمير الله عز وجل، والْمَلائِكَةُ مرفوعة بالابتداء، ويَضْرِبُونَ خبر. وعن مجاهد: وأدبارهم:
أستاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب. لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر، ثم يعطى الرجل القوى البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض، فيضربه على دبره ضربة واحدة بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر وَذُوقُوا معطوف على يَضْرِبُونَ على إرادة القول: أى ويقولون ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ أى مقدمة عذاب النار. او وذوقوا عذاب الاخرة: بشارة لهم به. وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب لَوْ محذوف: أى لرأيت أمراً فظيعاً منكراً ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، وذلِكَ رفع بالابتداء وبِما قَدَّمَتْ خبره وَأَنَّ اللَّهَ عطف عليه، أى ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد «1» أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
الكاف في محل الرفع: أى دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه: أى داوموا عليه وواظبوا. وكَفَرُوا تفسير لدأب آل فرعون. وذلِكَ إشارة
__________
(1) . قال محمود: «وقيل ظلام للتكثير لأجل العبيد ... الخ» قال أحمد: وبهذه النكتة يجاب عن قول القائل نفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، فلم عدل عن الأبلغ. والمراد تنزيه الله تعالى وهو جدير بالمبالغة، فهذان الجوابان عتيدان في هذا السؤال.(2/229)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
إلى ما حل بهم، يعنى ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بهم من الحال. فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقول مكذبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد. وفي قوله بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 57]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أى أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الذين كفروا، أى الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود وَهُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: فشرذ، بالذال المعجمة، بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب «شذر» من قولهم «ذهبوا شذر مذر «1» » ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن لتفرّقه. وقرأ أبو حيوة: من خلفهم. ومعناه: فافعل
__________
(1) . قوله «وكأنه مقلوب شذر، من قولهم ذهبوا «شذر مذر» بفتحات، أى في كل وجهة. اه صحاح. (ع)(2/230)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه، لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفا للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.
[سورة الأنفال (8) : آية 58]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً ونكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ على طريق مستو قصد، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل على استواء في العداوة. والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً.
[سورة الأنفال (8) : آية 59]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
سَبَقُوا أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم. وقرئ: أنهم، بالفتح، بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح وقرى:
يعجزون، بالتشديد. وقرأ ابن محيصن: يعجزون، بكسر النون. وقرأ الأعمش: ولا تحسب الذين كفروا، بكسر الباء وبفتحها، على حذف النون الخفيفة. وقرأ حمزة: ولا يحسبن بالياء على أن الفعل للذين كفروا. وقيل فيه: أصله أن سبقوا، فحذفت أن، كقوله وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: أنهم سبقوا. وقيل: وقع الفعل على أنهم لا يعجزون، على أن «لا» صلة، وسبقوا في محل الحال، بمعنى سابقين أى مفلتين هاربين. وقيل معناه: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوما. وقيل: ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة. وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.(2/231)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال (8) : آية 60]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)
مِنْ قُوَّةٍ من كل ما يتقوّى به في الحرب من عددها. وعن عقبة بن عامر «1» : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ألا إن القوة الرمي «2» » قالها ثلاثا. ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله. وعن عكرمة: هي الحصون، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. وقرأ الحسن: ومن ربط الخيل، بضم الباء وسكونها جمع رباط. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وعن ابن سيرين رحمه الله أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون، فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى «3»
تُرْهِبُونَ قرئ بالتخفيف والتشديد. وقرأ ابن عباس ومجاهد رضى الله عنهما تخزون والضمير في بِهِ راجع إلى ما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ هم أهل مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم اليهود وقيل المنافقون «وعن السدى هم أهل فارس، وقيل كفرة الجن، وجاء في الحديث. إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق» وروى أنّ صهيل الخيل يرهب الجن «4»
__________
(1) . قال محمود: «القوة الرمي، روى عقبة بن عامر أنها الرمي ... الخ» قال أحمد: والمطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدراً، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(2) . أخرجه مسلم أتم منه.
(3) .
ولقد علمت على تجنبى الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
لأشعر الجعفي، يقول: ولقد تيقنت مع أنى متجنب للردى أن الحصون المانعة منه هي الخيل وآلات الحرب لا البناء، كالقلاع التي في القرى. وأتى بقوله «على تجنبى الردى» لدفع توهم أنه رجل يلقى بنفسه إلى التهلكة فلذلك يحب الحرب، فهو من باب الاحتراس. ويروى: على توقى الردى- بتشديد الياء- أى: مع أنى أتوقى الهلاك.
قال رجل لعبيد الله بن الحسن: إن أبى أوصى بثلث ماله للحصون. قال: اذهب فاشتر به خيلا. قال: إنما ذكر الحصون. فقال: أما سمعت قول الأشعر، فأنشد البيت.
(4) . لم أجده هكذا، وروى ابن سعد والطبراني وابن عدى من رواية سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله ابن عريب عن أبيه عن جده. رفعه في قوله عز وجل وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ- الآية قال: هم الجن، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق وأهله ابن عدى، بسعيد بن سنان وضعفه عن أبى معين، وغيره، وله شاهد من رواية الوضين بن عطاء عن سليمان بن موسى مرسلا، ولابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو الشيطان، لا يقرب ناصية فرس وإسناده واه. وقوله: «روى أن صهيل الخيل يطرد الجن» لم أجده.(2/232)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
[سورة الأنفال (8) : آية 61]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
جنح له وإليه: إذا مال. والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال:
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ «1»
وقرئ بفتح السين وكسرها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وعن مجاهد بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الامام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً. وقرأ الأشهب العقيلي. فاجنح بضم النون وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد، يريد قريظة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 63]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فإن محسبك الله: قال جرير:
إنِّى وَجَدْتُ مِنَ الْمَكارِمِ حَسْبَكُمْ ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا «2»
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، لأنّ العرب- لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا- لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 252 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) .
إنى وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا
لجرير، أى: إنى وجدت كافيكم من المكارم ليس الخز من الثياب والشبع من الطعام والشراب، وجعلهما من المكارم تهكما بهم. أو على زعمهم، أو المعنى: مغنيكم عنها هاتان الخصلتان، فمن للبدل، أو المعنى: إن كان ذلك من المكارم فهو كافيكم لمبالغتكم فيه. ويروى: حر الثياب، بمهملتين، أى جيدها. وتذوكرت: مبنى للمجهول، أى: فإذا تذاكر الناس بالمكارم ولو مرة واحدة فغطوا وجوهكم حياء كالنساء فلستم من المكارم في شيء.(2/233)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد، وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته
[سورة الأنفال (8) : آية 64]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
وَمَنِ اتَّبَعَكَ الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيداً درهم، ولا تجرّ، لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال:
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ «1»
والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع: أى كفاك الله وكفاك المؤمنون، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضى الله عنه نزلت في إسلام عمر رضى الله عنه، وعن سعيد بن جبير أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر، فنزلت.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
__________
(1) .
إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهتد
يقول: إذا وجدت الحرب وافترقت العصبة ووقع الخلاف وظهر الشر فيكفيك مع الضحاك سيف مطبق من حديد الهند، فانشقاق العصا تمثيل لوقوع الخلاف وظهور الشر. وحسب: اسم فعل بمعنى يكفى. والكاف مفعوله.
والضحاك مفعول معه. وسيف فاعله. والجمهور على أنه صفة مشبهة بمعنى كافى مبتدأ، والكاف مضاف إليه.
وسيف خبره. والضحاك مفعول لمحذوف، أى يكفى لأن الصفة المشبهة لا تنصب المفعول معه. وروى الضحاك بالجر، أى: وحسب الضحاك، وبالرفع على إنابته مناب «حسب» المحذوف. والواو للمعية على الأول، والعطف على غيره ويروى: عضب مهند. والعضب: السيف القاطع. [.....](2/234)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
التحريض: المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضا: وتقول له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه، ليهيجه ويحرّك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه، بمعنى، وقرئ حرص، بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش، من الحرص، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أى بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى. وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضى الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقى أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف. وقرئ: ضعفاً، بالفتح والضم، كالمكث والمكث، والفقر والفقر. وضعفاً: جمع ضعيف. وقرئ الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين، والمراد بالضعف: الضعف في البدن. وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت: لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 68]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)
وقرئ: للنبي، على التعريف. وأسارى. ويثخن، بالتشديد. ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة. وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعنى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل(2/235)
في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر. ثم الأسر بعد ذلك. ومعنى ما كانَ ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبى طالب، فاستشار أبا بكر رضى الله عنه فيهم «1» فقال: قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك. وقال عمر رضى الله عنه: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثلك يا عمر مثل نوح، قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق. وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا «2» بأحد: وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية، والأوقية أربعون درهما وستة دنانير «3» . وروى أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله
__________
(1) . أخرجه مسلم عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل، وقد تقدم طرف منه في أوائل السورة، وفي الباب عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه كما سيأتى قريبا.
(2) . قوله «وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم: فقالوا: بلى. نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد» أخرجه الطبري من طريق أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن عبيدة هو ابن عمرو قال «أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، فتتقووا به على عدوكم ويقتل منكم سبعين، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم ويقتل منا سبعون، قال فأخذوا منهم الفدية، وقتل سبعون ورواه ابن مردويه موصولا من طريق ابن عون. عن ابن سيرين عن عبيدة عن على وزاد فيه: قال «وكان آخر السبعين ثابت بن قيس بن شماس» وروى الواقدي في المغازي من طريق يحيى ابن أبى كثير. عن على. قال «أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيره في الأسرى. أن يضرب أعناقهم.
أو يأخذ منهم الفداء ويستشهد منكم في قابل عدتهم. الحديث مع ضعفه وهو منقطع.
(3) . قوله «وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير» أما كون الفداء كان عشرين أوقية. فروى الطبري من طريق عبيدة بن عمر قال «كان فداء أسارى بدر مائة أوقية والأوقية أربعون درهما ومن الدنانير ستة دنانير. وأما فداء العباس رضى الله عنه. فروى ابن مردويه من طريق على وابن عباس، قال كان العباس يوم بدر أسيرا فافتدى نفسه بأربعين أوقية ذهب» وروى ابن مردويه. من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «لما كان يوم بدر أسر سبعون فجعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين أوقية ذهبا وجعل على عمه العباس مائة أوقية: وعلى عقيل ثمانين، فقال القرابة صنعت هذا. الحديث.(2/236)
صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان «1» فقال: يا رسول الله أخبرنى، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- وروى أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمرو سعد بن معاذ، رضى الله عنهما، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إلىّ «2» عَرَضَ الدُّنْيا حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعنى ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل. وقرئ:
يريدون، بالياء. وقرأ بعضهم والله يريد الآخرة، بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله، كقوله:
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِالَّليْلِ نَارَا «3»
ومعناه والله يريد عرض الآخرة. على التقابل، يعنى ثوابها وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلا وأسراً ويطلق لهم الفداء، ولكنه حَكِيمٌ يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطإ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأنّ فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم. وقيل كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل: إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهى، ولم يتقدم نهى عن ذلك فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم
__________
(1) . أخرجه أحمد والطبري. من رواية الأعمش عن عمر بن سمرة عن أبى عبيدة عن عبد الله فذكره مطولا.
(2) . أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق قال «لم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر بدراً إلا أحب الغنائم غير عمر بن الخطاب فانه جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ» ورواه الواقدي في المغازي من وجه آخر منقطع بمعناه. وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر رفعه «لو نزل العذاب. ما أفلت منه إلا ابن الخطاب» .
(3) . لأبى دواد. وقيل لحارثة بن حمران الأيادي، وهو من أبيات الكتاب. والهمزة للاستفهام الإنكاري، يخاطب امرأة، أو نفسه، أى: لا تحسبي أن كل رجل رجل كامل، ولا تحسبي أن كل نار تتوقد في الليل نار متوقدة لقرى الضيفان، يعنى أن الرجل هو الكريم الشجاع، والنار هي نار القرى لا غير. وحذف المضاف مع بقاء المضاف إليه على حالة الاضافة مطرد، إذا عطف على مثله ليدل عليه كما هنا، وإلا فهو سماعي، بل مطرد عند الكوفيين ولو بغير عطف. ونار مجرور بمضاف محذوف، ولا يصح عطفه على امرئ. وعطف المنصوب على المنصوب لئلا يلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين، وهما «كل» و «تحسبين» وهو ممنوع عند سيبويه ومن وافقه.(2/237)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه.
[سورة الأنفال (8) : آية 69]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
فإن قلت: ما معنى الفاء؟ قلت: التسبيب والسبب محذوف، معناه: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم. وحلالا: نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أى أكلا حلالا. وقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم.
[سورة الأنفال (8) : آية 70]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
فِي أَيْدِيكُمْ في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم. وقرئ: من الأسرى فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص إيمان وصحة نية يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. وفي قراءة الأعمش: يثبكم خيراً. وعن العباس رضى الله عنه أنه قال: كنت مسلماً، لكنهم استكرهوني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك» فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا «1» وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: «افد ابني أخيك عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت. فقال له: فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها:
لا أدرى ما يصيبني في وجهى هذا، فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس وما يدريك؟ قال «أخبرنى به ربى» قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأمّا إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. قال العباس رضى الله عنه: فأبدلنى الله خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطانى زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربى «2» . وروى أنه قدم على رسول الله
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والحاكم من طريقه- حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت:
لما بعث أهل مكة في فداء أسرهم وبعثت زينب في فداء أبى العاص قال العباس يا رسول الله إنى كنت مسلما. فذكره
(2) . هو الذي قبله بتمامه بالإسناد المذكور. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن مقسم عن ابن عباس. بمعناه مطولا. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بمعناه، وفيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، وقوله «وكان العباس أحد الذين ضمنوا إطعام بدر، وخرج بالذهب لذلك» لم أجد هذا.(2/238)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ منى وأرجو المغفرة «1» وقرأ الحسن وشيبة: مما أخذ منكم، على البناء للفاعل.
[سورة الأنفال (8) : آية 71]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.
[سورة الأنفال (8) : آية 72]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
الذين هاجروا: أى فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وقرئ: من ولايتهم، بالفتح والكسر، أى من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملا فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين إِلَّا عَلى قَوْمٍ منهم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك.
[سورة الأنفال (8) : آية 73]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73)
__________
(1) . أخرجه الطبري حدثنا بشرين بن معاذ حدثنا يزيد. حدثنا سعد بن أبى عروبة. عن قتادة هكذا. وروى الحاكم في فضائل العباس من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال. عن أبى موسى «أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفا فأمر بها فنثرت على الحصير ونودي بالصلاة ... الحديث»(2/239)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا ثم قال:
إِلَّا تَفْعَلُوهُ أى إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار.
ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً. وقرئ كثير بالثاء.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 74 الى 75]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم «1» مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا وَأُولُوا الْأَرْحامِ أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة فِي كِتابِ اللَّهِ تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه الله على توريث ذوى الأرحام.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» «2»
__________
(1) . قوله «والشهادة لهم» لعله: والشهادة لهم بالايمان. (ع)
(2) . ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران.(2/240)
سورة التوبة
(مدنية [إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان] وآياتها 130 وقيل 129 [نزلت بعد المائدة] ) لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب، لأنّ فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أى تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث «1» عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة رضى الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه. فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور؟ قلت: سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضى الله عنهما فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال: اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، «2» فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين «3» . وعن أبى كعب: إنما توهموا ذلك، لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود. وسئل ابن عيينة رضى الله عنه فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قيل: فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب: بسم الله الرحمن الرحيم. قال: إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «4» فمن دعى إلى الله عزّ وجلّ فأجاب ودعى «5» إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى، وأمّا النبذ فإنما هو البراءة
__________
(1) . قوله «تبحث» لعله أى تبحث. (ع)
(2) . قوله «شبيهة بقصتها» هذا الضمير للأنفال، بدليل التشبيه، وإن لم يجر لها ذكر هنا. وعبارة الخازن ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها ... الخ. (ع)
(3) . أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار. من طريق يوسف بن مهران.
ويزيد الفارسي. عن ابن عباس. قال «سألت عثمان بن عفان، ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما فذكر الحديث بطوله سوى قوله وكانتا تدعيان القرينتين، فلم يذكرها إلا إسحاق [.....]
(4) . هو في حديث ابن عباس الطويل عن أبى سفيان. وهو متفق عليه. وفيه فقرأ الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هر قل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. الحديث.
(5) . قوله «ودعى» لعله: أو دعى. (ع)(2/241)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس «1» ولا بأس:
هذا أمان كله. وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدّان السابعة من الطول «2» وهي سبع وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر، لأنهما معاً مائتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 2]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
بَراءَةٌ خبر مبتدإ محذوف أى هذه براءة ومِنَ لابتداء الغاية، متعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين. والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما يقال: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما تقول: رجل من بنى تميم في الدار. وقرئ «براءة» بالنصب، على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه «3» منبوذ إليهم. فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلا فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون
__________
(1) . قوله «ومترس» بفتح الميم والتاء وسكون الراء: فارسى، معناه: أمان. (ع)
(2) . قوله «من الطول» الطول- بكسر ففتح- بمعنى الطويلة. أفاده الصحاح. وعبارة غيره: الطوال.
(3) . قال محمود معناه: «أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ... الخ» قال أحمد:
ورواه ما ذكره سر آخر هو المرعي، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا التزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم»(2/242)
بما نجدّد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرّض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً رضى الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبى بكر رضى الله عنه؟ فقال: لا يؤدى عنى إلا رجل منى، فلما دنا علىّ سمع أبو بكر الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. وروى أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك، فأرسل علياً، فرجع أبو بكر رضى الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أشىء نزل من السماء قال: نعم، فسر وأنت على الموسم، وعلىّ ينادى بالآى. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه وحدثهم عن مناسكهم، وقام على رضى الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس، إنى رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية «1» . وعن مجاهد رضى الله عنه ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل
__________
(1) . «قلت» هذا ملفق من مواضع. فصدره مذكور في مغازي ابن إسحاق. وقوله «وهم بنو ضمرة وبنو كنانة أى الذين نكثوا إلا من استثنى منهم كما يفهم من ظاهره. وسيأتى بيان ذلك قريبا بعد أحاديث. وذلك أن العهد كان في سنة ست والنكث ونزولها والفتح في سنة ثمان كما سيأتى بعد قليل: أن المدة التي بلا نكث كانت ثمانية عشر شهرا. فعلى هذا كان أول النكث. في شهر ربيع الآخر سنة ثمان هذا هو التحقيق في النقل، وأما قوله «وكان الأمير بها أى في سنة ثمان على مكة وعلى الحج. فهذا ذكره الواقدي في المغازي. وأما قوله «فأمر أبو بكر على موسم سنة تسع إلى آخره» فهو في الصحيح من حديث أبى هريرة بمعناه. وأما قوله وأتبعه عليا فرواه أحمد، وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن يزيد بن منيع عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة. فذكر الحديث وفيه فسار ثلاثا ثم قال لعلى الحقه ورد على أبا بكر وبلغها قال ففعل، فلما قدم أبو بكر بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء؟ قال: ما حدث فيك إلا خير. لكنني أمرت أن لا يبلغ إلا أنا أو رجل منى» وفي المستدرك من طريق جميع بن عمير «أتيت ابن عمر فسألته عن على فانتهرنى ثم قال، ألا أحدثك عن على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة فانطلقا فإذا هما براكب فقالا من هذا؟
فقال: أنا على بن أبى طالب فقال: يا أبا بكر هات الكتاب، الحديث، وروى.
«كذا بأحد الأصلين بياض قدر أسطر. وفي الأصل الآخر سقط الكلام ولم يترك بياضاً. اه مصححه»(2/243)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذى عهد عهده: فقالوا عند ذلك يا على، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل:
إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه، لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر رضى الله عنه لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضى الله عنه. فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت: عن الزهري رضى الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر:
شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل هي عشرون من ذى الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر. وكانت حرما، لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم. أو على التغليب، لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها. وقيل: لعشر من ذى القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذى الحجة. فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت: قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم: أى مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
[سورة التوبة (9) : آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
وَأَذانٌ ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال: عمرو معطوف على زيد، في قولك: زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان: بمعنى الإيذان وهو الإعلام، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم عرفة. وقيل: يوم النحر، لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، من الطواف. والنحر، والحلق، والرمي. وعن على رضى الله عنه: أن رجلا أخذ(2/244)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا. خل عن دابتي «1» . وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر «2» » ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج- فهو الحج الأكبر. وعن الحسن رضى الله عنه: سمى يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً. وقرئ «إن الله» بالكسر، لأنّ الأذان في معنى القول وَرَسُولِهِ عطف على المنوي في بَرِيءٌ أو على محل «إن» المكسورة واسمها: وقرئ بالنصب، عطفاً على اسم «إن» أو لأنّ الواو بمعنى مع: أى بريء معه منهم، وبالجرّ على الجوار. وقيل: على القسم، كقوله: لعمرك. ويحكى أن أعرابياً سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابى قراءته، فعندها أمر عمر رضى الله عنه بتعلم العربية «3» فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه.
[سورة التوبة (9) : آية 4]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فإن قلت: مم استثنى قوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ «4» ؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية شعبة عن الحاكم عن يحيى بن الجزار عن على «أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر فقال: هو يومك هذا خل سبيلها
(2) . أخرجه البخاري تعليقا وأبو داود والحاكم من رواية هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر مطولا ورواه الطبراني والطبري وأبو نعيم في الحل؟؟؟؟ ببة وابن أبى حاتم مختصراً من طريق سعيد بن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر. وقال: هذا يوم الحج الأكبر» وفي الباب عن على رضى الله عنه، أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا. وعن ابن أبى أو في عند الطبراني. وعن ابن مسعود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم في ترجمة عمر بن هارون.
(3) . لم أجده بإسناده وذكره القرطبي في التذكرة عن ابن أبى مليكة قال «قدم أعرابى في زمن عمر فذكره أتم منه، وزاد في آخره: وأمر بأبى الأسود، فوضع النحو اه والمشهور أن الذي أمر أبا الأسود بوضع النحو على بن أبى طالب رضى الله عنه.
(4) . قال محمود: «إن قلت مم هذا الاستثناء قلت وجهه أن يكون مستثنى ... الخ» قال أحمد: ويجوز أن يكون قوله فسيحوا خطابا من الله تعالى المشركين غير مضمر قبله القول، ويكون الاستثناء على هذا من قوله إلى الذين عاهدتم، كأنه قيل براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في قوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلى خطاب المشركين في قوله فَسِيحُوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأن الله وأصله واعلموا أنكم غير معجزي وأنى، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى خطاب المسلمين بقوله: إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا، وكل هذا من حسنات الفصاحة وإنما بعث الزمخشري على تقدير القول قبل فَسِيحُوا مراعاة أن يطابق قوله فأتموا، إذا المخاطب على هذا التقدير المسلمون أولا وثانيا ولا يكون فيه شيء من الالتفاتات المبنية على التأويل الذي ذكرناه، وكلا الوجهين ممتاز بنوع من البلاغة وطرف من الفصاحة، والله أعلم.(2/245)
قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا عليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفىَّ كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعنى أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وَلَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ عدوّا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:
لَاهُمَّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا
إن قُرَيْشا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعا وَسُجَّدَا «1»
__________
(1) .
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... وتقضوا ذمامك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجي أحدا ... وهم أذل وأقل عدداً
هم بيتونا في الحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصراً اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلق كالبحر يجرى مزيدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا ... إن شيم خطب وجهه تربدا
لعمرو بن سلام الخزاعي. لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أعانت قريش بنى بكر على حرب بنى خزاعة، ففزع عمرو إليه بالمدينة وأنشده ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم. و «لاهم» أصله اللهم، خفف وأظهر في مقام الإضمار للدلالة على التعظيم والتهييج لما أراده. والحلف: العهد. والأتلد:
الأقدم. والتفت إلى الخطاب للاستعطاف. وجعله كالأب لهم لمراعاته مصالحهم. وعطف بثمة للترتيب في الاخبار ونزع إليه كناية عن نقض العهد. و «الذمام» العهد. وقيل: مع ذمة بمعنى العهد أيضا. وروى «ميثاقك» .
وأذل، وأقل، بمعنى أذلاء قليلون، فليس مفيدا للزيادة. ويجوز أنه على بابه بالنظر لزعمهم، أى: أذل وأقل مما زعموا فيك وفي قومك. و «الحطيم» معروف، كانوا في الجاهلية يحلفون فيه فيحطم الكاذب. ويروى «بالأتير» والأتير: الطريق، وواحدة وتيرة. وهو هنا اسم ماء لخزاعة بأسفل مكة. و «الهجد» جمع هاجد، وهو المتيقظ من النوم العبادة. و «العتيد» الحاضر، يقال: عنده تعتيدا، وأعتده إعتاداً: هيأه وأحضره، فهو عتيد وأعتد.
وفيه جعل اسم التفضيل بمعنى المفعول، فلعله من عند إذا حضر. والأصل أعده إعداداً فأبدلت الدال تاء، و «هداك الله» جملة اعتراضية دعائية. و «المدد» الزيادة: أى يأتوا زيادة لنا تعيننا على أعدائنا. وفي الاضافة إلى الله تهييج لهم. و «الفيلق» الجيش المزدحم المتكاثف. كالبحر في الكثرة وسرعة السير. و «المزيد» المخرج للرغوة من شدة السير والغليان. «يسمو» يعلو «صعداً» أى صعوداً. «إن شيم» أى رئي. وروى بالمهملة: أى أحق، «تريد» أى تغير وصار مغيراً كلون الرماد. والغضب عند نزول المكروه أمارة الشجاعة. وهذا كان سبب فتح مكة.(2/246)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
فقال عليه الصلاة والسلام: لا نصرت إن لم أنصركم» «1» وقرئ: لم ينقضوكم، بالضاد معجمة أى لم ينقضوا عهدكم. ومعنى فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ فأدّوه إليهم تامّاً كاملا. قال ابن عباس رضى الله عنه: بقي لحىّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
[سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
انسلخ الشهر، كقولك انجرد الشهر، وسنة جرداء. والْأَشْهُرُ الْحُرُمُ التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعنى الذين نقضوكم وظاهروا عليكم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حلّ أو حرم وَخُذُوهُمْ وأسروهم. والأخيذ: الأسير وَاحْصُرُوهُمْ وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضى الله عنه: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام كُلَّ مَرْصَدٍ كلّ ممرّ ومجتاز «2» ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف كقوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقة. قال حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا «كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فذكر القصة مطولة وفيها الشعر. وفيها فنكثوا في الهدنة نحو سبعة أو ثمانية عشر شهرا. وروى الطبراني من طريق على بن الحسين حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت «كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فذكرت القصة والشعر.
وأوردها الواقدي في المغازي مطولا من طرق ثم قال. حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبى أنس عن ابن عباس. قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر طرف ردائه ويقول «يا عمرو لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب مما أنصر منه نفسي» .
(2) . قال محمود: «المرصد المجاز والممر ... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه دون جره من الاتساع، لأن المرصد ظرف مختص، والأصل قصور الفعل عن نصبه، ويكون مثل قوله في الاتساع:
كما عسل الطريق الثعلب
ويحتمل- والله أعلم- أن يكون مرصد مصدراً، لأن صيغة اسم الزمان والمكان والمصدر من فعلة واحدة، فعلى هذا يكون منصوبا نصبا أصلياً، لأن اقعدوا في معنى ارصدوا، كأنه قيل: وارصدوهم كلّ مرصد، إلا أن الظرفية يقويها قوله حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فيقتضيها قصد المطابقة بين ظرفى المكان، والله أعلم.(2/247)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ «1»
وعن ابن عباس رضى الله عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
أَحَدٌ مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر، تقديره: وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، وتبين «2» ما بعثت له فأمّنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضى الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضى الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأنّ الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ... الآية وعن السدّى والضحاك
__________
(1) .
خل السبيل لمن يبنى المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
قد خفت يا ابن التي ماتت منافقة ... من خبث بردة أن لا ينزل المطر
لجرير يهجو عمر بن لجأ التميمي. ويروى: خل الطريق. ومنار الطريق: حدوده. يقول له: اترك سبيل المعالي لمن يبنى الأعلام فيه ويقيم شعائره ويبين حدوده. شبه الخصال الحميدة بالطريق الجادة بجامع الوصول بكل إلى المراد وعدم الميل عن كل على سبيل التصريحية، وبناء المنار ترشيح: والمراد به: إقامة الشعائر الجميلة وتحسين شأنها لتتبعها الناس. أو نصب دلائل على الكرم لتهتدى إليه العفاة. وبرزة هي أم عمر، وقيل: الأرض الواسعة. وعليه فمنع صرفه ضرورة، ولكن البيت الثاني يؤيد ما قلنا، أى اخرج بأمك القبيحة إلى ما ألجأك إليه القدر الأزلى، وهو ما انطبعت عليه من الخصال الخسيسة. والمراد بالأمر في الموضعين: بيان حاله التي هو عليها لا حقيقة الأمر. ويحتمل أن الأول أمر بترك التفاخر، فتكون صورة الأمر الثاني للمشاكلة، أو بمعنى طلب اعترافه بحال نفسه. وجعله النحويون من قبيل التحذير ومثلوا به لذكر عامل المحذر منه، وهو يزيد على مجرد الأمر بالتخلية بأن بينه وبين ذلك السبيل منافرة حتى صح تحذيره منه. وخفت بضم التاء، ولكن فتحها أبلغ في الهجو. وتكرير اسم برزة للتنكير والتعيير بها، أى أنها شؤم على الناس يخاف منها الجدب. [.....]
(2) . قوله «وتبين» لعله و «يتبين» عطفاً على يسمع. (ع)(2/248)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
رضى الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. ذلِكَ أى ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله فَأَجِرْهُ. بسبب بِأَنَّهُمْ قوم جهلة لا يَعْلَمُونَ ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
[سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 8]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
كَيْفَ استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم «1» ، يعنى: محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أى ولكن الذين عاهدتم منهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبنى ضمرة، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على مثله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد «2» ، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال:
وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ «3»
يريد: فكيف مات، أى: كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ بعد
__________
(1) . قوله «وغرة صدورهم» أى ملتهبة من الغيظ. (ع)
(2) . قال محمود: «كيف تكرار لاستبعاد ثبات ... الخ» قال أحمد السر في تكرار كيف- والله أعلم- أنه لما ذكره أولا لاستبعاد ثبات عهدهم عند الله ولم يذكر إذ ذاك سبب البعد للغاية باستثناء الباقين على العهد وطال الكلام، أعيدت «كيف» تطرية للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض، فلم يقصد مجرد التكرار، بل هذا السر الذي انطوى عليه، وقد تقدمت له أمثال، والله الموفق.
(3) .
لعمر أبى إن البعيد الذي مضى ... وإن الذي يأتى غداً لقريب
وخبرتمانى أنما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب
لكعب الغنوي في مرثية أخيه. و «الهضبة» الصخرة العظيمة. وجعل الخطاب لاثنين على عادة العرب ولو لم يوجدا. وإنما بالكسر على الحكاية، أو بالفتح على المفعولية: أى وأخبرتمانى أن الموت والوباء في القرى فقط، فكيف تدعيان ذلك وقد مات أخى في هذه البرية. أو كيف مات أخى فيها. والقليب: البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض إلى ظهرها. وهاتا: إشارة للبرية. ويجوز أنها للهضبة: أى وهذا قليب.(2/249)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا لا يراعوا حلفاً. وقيل: قرابة. وأنشد لحسان رضى الله عنه:
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ «1»
وقيل إِلًّا إلها. وقرئ: إيلا، بمعناه. وقيل: جبرئيل، وجبرئيل، من ذلك. وقيل: منه اشتق الآل بمعنى القرابة، كما اشتقت الرحم من الرحمن، والوجه أن اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الأول وهو الجؤار، وله أليل:
أى أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها: إذا ولولت «2» ، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إلّ. وسميت به القرابة، لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم «3» ، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادى عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.
[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 10]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
اشْتَرَوْا استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن والإسلام ثَمَناً قَلِيلًا وهو اتباع الأهواء والشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.
[سورة التوبة (9) : آية 11]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
__________
(1) . لحسان بن ثابت. والال- بالكسر- الحلف والعهد والقرابة. والسقب: حوار الناقة. والرأل: ولد النعام. يقول: وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة، كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. ويروى:
كآل السيف. والوجه أنه تحريف.
(2) . قوله «ودعت اليها إذا ولولت» في الصحاح: وأما قول الكميت يمدح رجلا:
وأنت ما أنت في غبراء مظلمة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
فيجوز أن يريد الألل، ثم ثنى كأنه يريد صوتا بعد صوت. اه (ع)
(3) . قوله «لا مروءة تزعهم» أى تكفهم. اه صحاح (ع)(2/250)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
فَإِنْ تابُوا عن الكفر ونقض العهد فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ فهم إخوانكم على حذف المبتدإ، كقوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ ونبينها. وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
[سورة التوبة (9) : آية 12]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ وثلبوه وعابوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغيانا وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدّم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الدمى في دين الإسلام طعنا ظاهراً، جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين. وقرئ: لا إيمان لهم، أى لا إسلام لهم. أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه. فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ثم نفاها عنهم؟
قلت: أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يمينا. وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين. وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أى ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أى: بين مخرج الهمزة والياء «1» . وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف.
[سورة التوبة (9) : آية 13]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
__________
(1) . قوله «بين مخرج الهمزة والياء: لعله «مخرجي الهمزة والياء» . (ع)(2/251)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
أَلا تُقاتِلُونَ دخلت الهمزة على لا تُقاتِلُونَ تقريراً بانتفاء المقاتلة. ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب، حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها أَتَخْشَوْنَهُمْ تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فتقاتلوا أعداءه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعنى أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ
[سورة التوبة (9) : الآيات 14 الى 15]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال قاتِلُوهُمْ ووعدهم- ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلا، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم وَيَشْفِ صُدُورَ طائفة «1» من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضى الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فيعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال: أبشروا فإن الفرج قريب وَيُذْهِبْ غَيْظَ قلوبكم «2» لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ:
__________
(1) . قوله «ويشف صدور طائفة» هذا لفظ التلاوة، والأنسب ويشفى، عطفاً على يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ لأنه من جملة الوعد. (ع)
(2) . قوله «ويذهب غيظ قلوبكم» التلاوة غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ولعل بعض الناسخين فهم أنه من البشرى، فغيره بلفظ الخطاب. والمتجه غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا، ثم قوله وَيُذْهِبْ بالرفع عطف على يعذبهم بأيديكم، لأنه من جملة الوعد كما سيشير إليه. (ع)(2/252)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
ويتوب بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة
[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أى بطانة، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم وَلَمَّا معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله.
والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل فىّ، يريد: ما وجد ذلك منى.
[سورة التوبة (9) : آية 17]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم وما استقام أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ يعنى المسجد الحرام، لقوله وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. وشاهِدِينَ حال من الواو في يَعْمُرُوا والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون:
لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون(2/253)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس:
تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجراً: إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال «1» الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله شاهِدِينَ حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.
[سورة التوبة (9) : آية 18]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ وقرئ بالتوحيد، أى: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتى في آخر الزمان ناس من أمتى يأتون المساجد فيقاعدون فيها حلقاً «2» ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة «3» » وفي الحديث «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «4» » وقال عليه السلام: «وقال الله تعالى: إن بيوتي في أرضى المساجد، وإنّ زوّارى فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم «5» زائره. وعنه
__________
(1) . قال محمود: «إذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال ... الخ» قال أحمد: كلام صحيح إلا قوله «إن الكبيرة تهدم الأعمال، فانه تفريع على قاعدة المعتزلة، والحق خلافها.
(2) . قوله «فيقاعدون فيها حلقا» في نسخة: فيعدون. وفي أخرى: فيغدون. وليحرر. (ع)
(3) . أخرجه الطبراني من رواية أبى وائل عن ابن مسعود رفعه «سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا، مناهم الدنيا لا تجالسوهم. فليس لله فيهم حاجة» وفيه بديع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه.
وهو متروك وقال الدارقطني: إنه تفرد به، وفيه نظر. فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة» وفي الباب عن أنس رفعه «يأتى على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم، وليس همتهم إلا الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة» أخرجه الحاكم من طريق الثوري عن عوف عن الحسن عنه.
(4) . يأتى في لقمان. [.....]
(5) . لم أجده هكذا وفي الطبراني عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء.
ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم زائره» وروى عبد الرزاق ومن طريقه الطبري عن معمر عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون. قال «وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها» ومن هذا الوجه. أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد.(2/254)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
عليه السلام «من ألف المسجد ألفه الله «1» » وقال عليه السلام «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان «2» » وعن أنس رضى الله عنه: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه «3» » . فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فان قلت: كيف قيل وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران:
أحدهما حق الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفى تلك الخشية عنهم فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء «4» وحسم لأطماعهم من الانتفاع «5» بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.
[سورة التوبة (9) : آية 19]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
__________
(1) . أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن دراج بن الهيثم عن أبى سعيد به.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان. والحاكم من رواية أبى الهيثم عن أبى سعيد.
(3) . رواه الحارث بن أسامة من رواية الحكم بن سفلة العبدى. عن أنس رضى الله عنه. من أسرج في مسجد سراجا لم يزل مرفوعا ومن طريق الحارث أخرجه سليم الرازي في كتاب الترغيب وفي الطبراني في مسند الشاميين من حديث على بن أبى طالب رفعه «من علق قنديلا في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك- الحديث بمعناه» .
(4) . قال محمود: «في هذه الآية تبعيد للمشركين ... الخ» قال أحمد: وأكثرهم يقول: إن «عسى» من الله واجبة بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين، والحق فيما قال الزمخشري، ولكن الخطاب مصروف إليهم أى فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
(5) . قوله «من الانتفاع» لعله «في» كعبارة النسفي. (ع)(2/255)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
السقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بد من مضاف محذوف تقديره أَجَعَلْتُمْ أهل سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي «1» - وكان من القراء-: سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروى أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل. وقيل: إن عليا رضي الله عنه قال للعباس: يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألست في أفضل من الهجرة: أسقى حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أرانى إلا تارك سقايتنا. فقال عليه السلام «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً «2»
[سورة التوبة (9) : الآيات 20 الى 22]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
هم أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من أهل السقاية والعمارة عندكم وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم. قرئ: يُبَشِّرُهُمْ بالتخفيف والتثقيل. وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي في المهاجرين خاصة «3»
[سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
__________
(1) . قوله «وأبى وجزة السعدي» في الصحاح: أنه شاعر ومحدث. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن الحسن بغير إسناد لكن سنده إليه في أول الكتاب في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن عمر، وهو ابن عبيد عن الحسن قال «نزلت في على والعباس، وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك. فقال العباس: ما أرانى إلا تاركا سقايتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره.
(3) . أخرجه الثعلبي من رواية جويبر عن الضحاك عنه.(2/256)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة «1» فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله: حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» «2» . وقرئ: عشيرتكم، وعشيراتكم.
وقرأ الحسن: وعشائركم فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وعيد. عن ابن عباس: هو فتح مكة. وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟
[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
__________
(1) . ذكره الثعلبي أيضا عن مقاتل، وسنده إليه في أول الكتاب.
(2) . لم أجده بهذا اللفظ وفي الطبراني عن عمرو بن الحمق أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يجد العبد صريح الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، وفي إسناده رشد بن سعد. وهو ضعيف، وفي الباب عن أبى أمامة رواه أبو داود، وعن معاذ بن أنس رواه أبو يعلى وغيره.(2/257)
مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها «1» قال:.
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَاىَ طُحْتَ كَمَا هَوَي ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِى «2»
__________
(1) . قال محمود: «مواطن الحرب مقاماتها ومواقفها ... الخ» قال أحمد: لا مانع- والله أعلم- من عطف الظرفين المكاني والزمانى أحدهما على الآخر، كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد، إذ يجوز أن تقول ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة، كما تقول: ضربت زيداً وعمرا، ولا يحتاج إلى إضمار فعل جديد غير الأول، هذا مع أنه لا بد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الحقيقة، فإنك إذا قلت: أضرب زيدا اليوم وعمراً غداً، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة. فعلى هذا يجوز في الآية- والله أعلم- بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول إلى الآخر، على أن الزمخشري أوجب تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول. وإن كانا عنده جميعاً زمانين، لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن.
يريد: ولو ذهبت إلى اتحاد الناصب للزم ذلك، وهذا غير لازم. ألا تراك لو قلت: أضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، لكان الناصب للظرفين واحداً وهما متغايران، وإنما يمتنع عمل الفعل الواحد في ظرفى زمان مختلفين عند عدم العطف المتوسط بينهما، والله أعلم.
(2) .
تكاشرنى كرها كأنك ناصح ... وعينك تبدى أن صدرك لي دوى
لسانك ماذي وعينك علقم ... وشرك مبسوط وخيرك منطوى
فليت كفافاً كان خيرك كله ... وشرك عنى ما ارتوى الماء مرتوى
وكم موطن لولاى طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوى
جمعت وفحشا غيبة ونميمة ... ثلاث خصال لست عنها بمرعوى
ليزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى. والمكاشرة: المضاحكة، واختارها في التعبير إشارة إلى أنها ليست مضاحكة حقيقة يوافقها القلب، وإنما هي إظهار الأسنان فقط أمامه ليريه أنه ناصح الرجل كمرض فسد قلبه، ودوى أى خالص المودة. ودوى صدر «أيضاً حقد، فهو دوى بالتخفيف كعمي، أو التشديد كغنى، على فعل أو فعيل، وعلى التشديد فتخفيفه للوزن.
و «الماذي» عسل النحل لأنه يمذى منها، وتسمى الخمرة ماذية لسهولتها. و «العلقم» الحنظل وكل شجر مر وكل شيء مر، أى لسانك كالعسل في حلاوة الكلام. وعينك كالعلقم في كراهية النفس ونفرتها عن كل، حيث تنظر لي نظر الحسود المغتاظ، وشبه الشر والخير ببساطين على سبيل المكنية، والبسط والطى تخييل. واسم ليت ضمير الشأن أو ضمير المخاطب محذوفا، وخيرك اسم كان، وكفافا خبرها. وشرك عطف على خيرك. ويجوز أنه من باب التنازع عن من أجازه في الحروف، لأن «ليت» مقتضية للعمل في خيرك، و «كان» مقتضية للعمل فيه، فأعمل فيه الثاني وحذف ضميره من الأول، لأنه وإن كان عمدة، مشبهة للفضلة في نصبه، وكما أجاز حذفه الكوفيون في باب كان وباب ظن، نعلمه من مفسره، أى: فليت الحال والشأن كان خيرك كله وشرك، كفافا:
بالفتح، أى مغنيا كافياً لك عنى، ولو كسر «كفافا» على أنه مفاعلة من الكف لجاز، ويكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، مبالغة: أى كافا لك، أو منكفا عنى ما دام «مرتو» يرتوى الماء، أى: يستقيه، يعنى دائما، وكم:
خبرية للتكثير، أى كثير من مواطن الحرب لولا وجودى لطحت بكسر الطاء وضمها من باب باع، وقال:
أى هلكت فيها كما هوى منهو، أى سقط ساقط من قلة النيق. ويروى: قنة النيق، والمعنى واحد، أى: من رأس الجبل العالي، ومذهب سيبويه أن «لولا» حرف جر إذا وليها ضمير نصب، ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء، وأنكر المبرد وروده، وهو محجوج بهذا. وقال أبو على الفارسي: الفعل ومطاوعه قد يكونان لازمين معا، كهوى وانهوى، وغوى وانغوى، بدليل نحو هذا البيت. وحمله الجمهور على الضرورة. والقياس: هاو وغاو. وبعضهم على أنهما مطاوعان لأهديته وأغويته، لكن مطاوعه: انفعل لا فعل شاذة، ولو قيل: انهوى مطاوع لهوى به لجاز. لكنه ليس قياسياً، ثم قال له: جمعت غيبة ونميمة وفحشا، فقدم المعطوف للضرورة. وجعله ابن جنى مفعولا معه، وأجاز تقديمه على مصاحبه ممسكا بذلك، ويمكن أن يكون ضرورة أيضاً. وفيه إشارة من أول وهلة إلى إرادة التعدد والتكثير وثلاث خصال بدل مما قبله، ولست عنها: أى لست بمنزجر عنها، فقدم المعمول للاهتمام، والياء في القافية للإطلاق.(2/258)
وامتناعه من الصرف لأنه جمع، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان وهو يَوْمَ حُنَيْنٍ على المواطن؟ قلت: معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. وموجب ذلك أنّ قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن «1» ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقى أن يكون ناصبه فعلا خاصاً به، إلا إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين: واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضما إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكان الجمّ الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين:
لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل قائلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقيل أبو بكر رضى الله عنه «2» وذلك قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فاقتتلوا قتالا شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس رضى الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهى
__________
(1) . قوله «لم تعجبهم في جميع تلك المواطن» إنما يلزم كون كثرتهم أعجبتهم في جميعها، مع أنه خلاف الواقع لو جعل إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدلا من المواطن أيضاً، فتدبر. (ع) [.....]
(2) . لم أجده بهذا السياق وقوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها: قد ورد أنه قال «لن تغلب اثنا عشر ألفا عن قلة» في حديث غير هذا. وأما هذا فان كان المصنف وقع على شيء من ذلك فما كان قوله «وأدركتهم كلمة الاعجاب بالكثرة ونزل عنهم إلى آخره بلائق. وأما قوله «وقيل قالها أبو بكر» فلم أقف عليه وقوله «ومن هوازن وثقيف وفي أربعة آلاف غلام مسح» والصواب أن هوازن وثقيفا كانوا من المشركين والذي في مسلم من حديث العباس «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين- فذكرت القصة، وفيها تغير ونقص عما ساقه المصنف وليس فيها «فخذا فخذا» وإنما فيه «أن عباسا نادى أصحاب السمرة ونادى أصحاب الشجرة. قال فعطوا عطف البقرة على أولادها، وروى يونس بن بكر في زيادة المغازي عن أبى جعفر الرازي بن الربيع يعنى ابن أنس «أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله- وذكر الآية قال الربيع وكانوا اثنى عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة.(2/259)
شجاعته ورباطة جأشه «1» صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا من آيات النبوّة، وقال: يا رب ائتني بما وعدتني. وقال صلى الله عليه وسلم للعباس- وكان صيتا: صيح بالناس، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً «2» وهم يقولون:
لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمى الوطيس، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به ثم قال:
انهزموا ورب الكعبة فانهزموا، قال العباس: لكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض. خلفهم على بغلته بِما رَحُبَتْ ما مصدرية، والباء بمعنى مع، أى مع رحبها «3» وحقيقته ملتبسة برحبها، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أى ملتبسا بها لم أحلها، تعنى مع ثياب السفر. والمعنى: لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثم انهزمتم سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين انهزموا. وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب وَأَنْزَلَ جُنُوداً يعنى الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل خمسة آلاف، وقيل ستة عشر ألفا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر، وسبى النساء والذراري ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ أى يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل: سى يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى، فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا:
إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إنى لا أدرى لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا «4» .
__________
(1) . قوله «ورباطة جأشه» الجأش: رواع القلب عند الفزع. ورابط الجأش: من يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(2) . قوله «عنقا واحدا» ويقال هم عنق إليك أى مائلون إليك كذا في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «مع رحبها» في الصحاح «الرحب» بالضم: السعة. (ع)
(4) . ذكره الثعلبي بغير سند وهذه القصة قد ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بطوله، وذكرها البخاري من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان، ورواها الطبري وغيره من رواية زهير ابن حرد، وفيه الشعر الذي أنشده زهير.(2/260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
النجس: مصدر، يقال: نجس نجساً، وقذر. قذراً. ومعناه ذو ونجس، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن: من صافح مشركا توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ: نجس، بكسر النون وسكون الجيم، على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل، إنما المشركون جنس نجس، أو ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعا لرجس وهو تخفيف نجس، نحو: كبد، في كبد فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية بَعْدَ عامِهِمْ هذا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه، ويدل عليه قول علىّ كرم الله وجهه حين نادى ببراءة: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء رضى الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام: الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه «1» وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أى فقرا بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدرارا، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل تبالة وجرش «2» فحملوا إلى
__________
(1) . قال محمود: «هذا النهى راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه» قال أحمد: وقد يستدل به من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وخصوصا بالمناهى، فان ظاهر الآية توجه النهى إلى المشركين، إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهى، والمقصود تطهير المسجد الحرام بابعادهم عنه، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه، ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمين، تصدير الكلام بخطابهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وتضمينه نصا بخطابهم بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وكثيرا ما يتوجه النهى على من المراد خلافه، وعلى ما المراد خلافه إذا كانت ثم ملازمة، كقوله: لا أرينك هاهنا، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والله أعلم.
(2) . قوله «وأكثر ميرهم ... الخ» المير: إطعام الطعام. ويقال: بلد باليمن. وجرش: موضع منه أيضا، أفاده الصحاح. (ع)(2/261)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية. وقيل: بفتح البلاد والغنائم. وقرئ: عائلة، بمعنى المصدر كالعافية، أو حالا عائلة. ومعنى قوله إِنْ شاءَ الله. إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ لا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرم الله ورسوله، لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة. وعن أبى روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية، لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أى يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل عَنْ يَدٍ إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ «1» فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يد: أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة «2» لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى، بيده، إذا انقاد وأصحب «3» . ألا ترى إلى قولهم. نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثا على يد أحد. ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها «4» عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يراد يد المعطى أو الأخذ ... الخ» قال أحمد: فيكون كاليد في قوله عليه السلام «لا تبيعوا الذهب ... إلى قوله إلا يدا بيد» .
(2) . قوله «أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة» في الصحاح: آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته.
والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(3) . قوله «وأصحب» أى سهل بعد صعوبة. انتهى صحاح. (ع)
(4) . عاد كلامه قال: وإن أريد به الآخذ فمعناه حتى يعطوها ... الخ» قال أحمد: وهذا الوجه أملأ بالفائدة، والله أعلم.(2/262)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
لهم نعمة عظيمة عليهم وَهُمْ صاغِرُونَ أى تؤخذ منهم على الصغار والذل. وهو أن يأتى بها بنفسه ما شياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم- والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة «1» ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه. وتسقط بالإسلام عند أبى حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبى حنيفة: تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابئ وحربى، إلا على مشركي العرب وحدهم. روى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان من العرب «2» وقال لأهل مكة: هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبى حنيفة في أوّل كل سنة من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهما. ومن المتوسط في الغنى: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له. وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنيا، كان له كسب أو لم يكن.
[سورة التوبة (9) : آية 30]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، كقوله: المسيح ابن الله، وعزير: اسم أعجمى كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه. ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأما قول من قال:
سقوط التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ «أحد الله» أو لأنّ الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا، فتمحل عنه مندوحة، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضى الله عنه: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاش بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام: فقال له إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة. فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلا لأنه ابنه «3» . والدليل على أن هذا القول كان
__________
(1) . قوله «وأن يتلتل تلتلة» أى يزعزع ويزلزل. وقوله «يزخ» أى يدفع كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن الزهري بهذا، وزاد «وقيل الجزية من البحرين وكانوا مجوسا» .
(3) . قلت أورد المخرج منضما إلى الذي قبله ولم يذكر من أخرجه والصواب أنه حديث آخر أخرجه. [.....](2/263)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
فيهم: أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب. فإن قلت:
كل قول يقال بالفم فما معنى قوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. ومالا معنى له مقول بالفم لا غير، والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبى حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد يُضاهِؤُنَ لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعا.
والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعنى أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أى يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم. وقرئ يضاهؤن بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ على فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها «1» مزيدة كما في غرقئ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أى هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق؟
[سورة التوبة (9) : آية 31]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
اتخاذهم أربابا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، بل كانوا يعبدون الجن يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ وعن عدىّ بن حاتم رضى الله عنه: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلون ما حرّمه فتحلونه» ؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم «2» . وعن فضيل رضى
__________
(1) . قوله «أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة» هذا لا يناسب قوله «على فعيل» فلعله «أو همزة ... الخ» . (ع)
(2) . الواقدي من طريق عامر بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن عطاء ابن يسار عن عدى بن حاتم، ورواه الترمذي من طريق مصعب بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا وأتمم منه، إلا قوله «فتلك عبادتهم» وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين، وعطيف ليس بمعروف، وأخرجه ابن أبى شيبة والطبراني والطبري وأبو يعلى من هذا الوجه رواه البيهقي في المدخل كذلك وزاد «فتلك عبادتهم» .(2/264)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
الله عنه: ما أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام: أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة سُبْحانَهُ تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في وَما أُمِرُوا للمتخذين أرباباً، أى: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 32 الى 33]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه لِيُظْهِرَهُ ليظهر الرسول عليه السلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين. فإن قلت: كيف جاز، أبى الله إلا كذا، ولا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيداً «1» ؟ قلت: قد أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ألا ترى كيف قوبل يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا بقوله وَيَأْبَى اللَّهُ وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره.
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
__________
(1) . قال: محمود «إن قلت كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت ... الخ» قال أحمد: ولا يقال على هذا إن الاباء عدم الارادة، فكما صح الإيجاب بعد نفى الارادة، فينبغي أن يصح بعد ما هو في معناها مطلقا، لأنا نقول لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجيء حرف الإيجاب بعد فلا يلزم ذلك، والله أعلم.(2/265)
معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم: أخذ الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأموال يؤكل بها فهي سبب الأكل. ومنه قوله:
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا ... يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكافَا «1»
يريد: علفاً يشترى بثمن إكاف. ومعنى أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل.
وكنز الأموال، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنافقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظا ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطى منكم طيب ماله: سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل: هي ثابتة، وإنما عنى بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً» «2» وعن عمر رضى الله عنه أنّ رجلا سأله عن أرض له باعها فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز «3» وعن عمر رضى الله عنه: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 216 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . أخرجه البيهقي من طريق محمد بن جبير عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا بلفظ «كل ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكل مالا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا» قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن سفيان بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قوله. ورواه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عدى من طريق سويد بن عبد العزيز عن عبيد الله بسنده مرفوعا، ولفظه «كل مال وإن كان تحت سبع أرضين يؤدى زكاته فليس بكنز، وكل مال لا يؤدى زكاته وإن كان ظاهرا فهو كنز» قال ابن عدى: وفيه سويد وغيره يرويه موقوفا والموقوف رواه عبد الرزاق عن عبيد الله العمرى موقوفا والشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع نحوه، وفي الباب عن أم سلمة قالت «جئت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ الذي يؤدى زكاته فليس بكنز» أخرجه أبو داود والحاكم.
(3) . أخرجه عبد الرزاق من طريق بشر بن سعيد أن رجلا باع رجلا حائطا أو مالا بمال عظيم فقال له عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: أحسن موضع هذا المال- الحديث» ورواه ابن أبى شيبة من طريق أخرى عن سعيد ابن أبى سعيد أن عمر سأل رجلا- فذكره.(2/266)
يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض «1» فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن الجعد رضى الله عنه أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تباً للذهب تبا للفضة» قالها ثلاثاً. فقالوا له: أىّ مال نتخذ؟ قال «لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه «2» وبقوله عليه الصلاة والسلام «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» «3» وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفى آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال «كيتان» «4» قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدّى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضى الله عنهم يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل، وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ. وما روى عن علىّ رضى الله عنه:
__________
(1) . تقدم الكلام عليه.
(2) . كذا ذكره مرسلا، وهو معروف من رواية سالم بن ثوبان أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط من طريق موثل بن إسماعيل عن الثوري عن الأعمش ومنصور وعمرو بن مرة عن سالم بن أبى الجعد عن ثوبان بهذا، ورواه الترمذي وأحمد في الزهد من رواية إسرائيل عن منصور ومده به، وليس فيه «تبا الذهب تبا الفضة» بل فيه: فقال بعض أصحابه «لو علمنا أى المال خير فنتخذه» قال البخاري وغيره: سالم لم يسمع من ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان قال «لما نزلت قالوا: فأى المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في أثره فقال:
يا رسول الله أى المال نتخذ؟ - الحديث» وفي الباب عن على أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن أبى حصين عن أبى الضحى عن جعدة بن سبرة عنه، وعن بريدة أخرجه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. وعن بعض الصحابة أخرجه أحمد من رواية سعيد عن سالم بن عطية عن عبد الله بن عطية عن عبد الله بن أبى الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تبا للذهب تبا للفضة» فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر، فقال: يا رسول الله. فذكر نحوه.
(3) . أخرجه البخاري في التاريخ والطبري وابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد الواحد الثقفي عن أبى النجيب الشامي «كان نعل سيف أبى هريرة من فضة، فنهاه عنه أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» وفي الباب عن أبى أمامة، أخرجه الطبراني بلفظ «ما من عبد يموت فيترك صفراء أو بيضاء إلا كوى بها» وعن ثوبان أخرجه ابن مردويه والطبراني في مسند الشاميين من رواية أرطاة بن المنذر عن ابن عامر عنه، بلفظ «ما من أحد يترك صفراء أو بيضاء من ذهب أو فضة إلا جعل صفائح ثم كوى بها» .
(4) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والطبري من طريق شهر بن حوشب عن أبى أمامة، بلفظ مروه في الموضعين. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني.(2/267)
أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز «1» : كلام في الأفضل. فإن قلت: لم قيل: ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ: لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وقيل: ذهب به إلى الكنوز. وقيل: إلى الأموال. وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، «2» كما أن معنى قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ «3»
وقيار كذلك. فإن قلت: لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما، فإن قلت: ما معنى قوله يُحْمى عَلَيْها؟ وهلا قيل: تحمى، من قولك: حمى الميسم «4» وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه أن النار تحمى عليها، أى توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله نارٌ حامِيَةٌ ولو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل: يحمى عليها، لانتقال الاسناد عن النار إلى عليها، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ: تحمى، بالتاء. وقرأ أبو حيوة:
فيكوى بالياء. فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراضَ الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب أهل الدثور بالأجور» «5» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس زوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل: معناه
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبري بإسناده الماضي عن على رضى الله عنه قبل بحديثين.
(2) . قوله «والذهب» لعله و «الذهب كذلك» . (ع)
(3) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 629 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(4) . قال محمود: «إن قلت: هلا قيل تحمى، كما يقال: حمى الميسم وأحميته ... الخ» قال أحمد: وفي هذا الفصل دقائق إعراب يشوب حسنها إغراب، والله الموفق. [.....]
(5) . أخرجه مسلم من طريق أبى الأسود عن أبى ذر «أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا:
يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى- الحديث.(2/268)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول.
وقوله لِأَنْفُسِكُمْ أى كنزتموه لننتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وقرئ: تكنزون، بضم النون، أى وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.
[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
فِي كِتابِ اللَّهِ فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل في اللوح أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض «1» . السنة اثنا عشر شهراً: منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذى الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر رضى الله عنه قبلها في ذى القعدة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعنى أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وسموا رجبا: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ في الحرم أَنْفُسَكُمْ أى لا تجعلوا حرامها حلالا. وعن عطاء. تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا، وما نسخت، وعن عطاء الخراساني رضى الله عنه: حلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن، بيانا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ... الآية وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور كَافَّةً حال من الفاعل أو المفعول مَعَ الْمُتَّقِينَ ناصر لهم، حثهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى بكرة وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما أخرجه الطبري من رواية موسى ابن عبيدة عن صدقة بن يسار عنه بلفظ المصنف. وهو ضعيف. وعن ابن عباس أخرجه ابن مردويه.(2/269)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً يعنى من غير زيادة زادوها. والضمير في: يحلونه، ويحرمونه للنسيء. أى إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاما، رجعوا فحرموه في العام القابل. وروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، فزادتهم رجساً إلى رجسهم، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقرئ «يضل» على البناء للمفعول، و «يضل» بفتح الياء والضاد، ويُضَلُّ على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ الزهري:
ليوطئوا بالتشديد. والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك:
مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ النسى، بوزن الندى. والنسى بوزن النهى، وهما تخفيف النسيء والنسيء. فإن قلت: ما معنى قوله فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ؟ قلت: معناه فيحلوا بمواطأة العدّة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَاللَّهُ لا يَهْدِي أى لا يلطف بهم بل يخذلهم. وقرئ: زين لهم سوء أعمالهم، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)(2/270)
اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم. وبه قرأ الأعمش، أى تباطأتم وتقاعستم. وضمن معنى الميل والإخلاد فعدى بإلى. والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم: وقرئ اثاقلتم؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ. فإن قلت: فما العامل في «إذا» وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه «1» ؟ قلت: ما دلّ عليه قوله اثَّاقَلْتُمْ أو ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائماً، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشق عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك «2» ليستعدّ الناس تمام العدة مِنَ الْآخِرَةِ أى بدل الآخرة كقوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً
. فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا تَنْفِرُوا سخط عظيم على المتثاقلين «3» حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غنى عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً: وقيل: الضمير للرسول: أى ولا تضروه، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل يريد بقوله قَوْماً غَيْرَكُمْ أهل اليمن. وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن
__________
(1) . قوله «وحرف الاستفهام» لعله: وأحرف الاستفهام، بدليل قوله «مانعة» . وقوله «أن يعمل فيه» لعله: أن يعمل فيه «اثاقلتم» . (ع)
(2) . متفق عليه من حديث كعب بن مالك.
(3) . قال محمود: «في هذه الآية سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم عذابا أليما ... الخ» قال أحمد: ويقرب إعادة الضمير إلى الرسول أن الضمير في قوله إِلَّا تَنْصُرُوهُ عقيب ذلك عائد إليه اتفاقا، والله أعلم.(2/271)
للتخصيص. فإن قلت: كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني:
أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت:، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج، فكأنهم أخرجوه ثانِيَ اثْنَيْنِ أحد اثنين، كقوله ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. يروى أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال: من يخرج معى؟ قال أبو بكر، وانتصابه على الحال: وقرئ ثانى اثنين، بالسكون. وإِذْ هُما بدل من إذ أخرجه. والغار: ثقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا إِذْ يَقُولُ بدل ثان. قيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله «1» فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» : وقيل: لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه «2» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم «3» » : فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا: من أنكر صحبة أبى بكر رضى الله عنه فقد كفر، لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة سَكِينَتَهُ ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه. والجنود الملائكة يوم بدر، والأحزاب وحنين. وكلمة الذين كفروا: دعوتهم إلى الكفر وَكَلِمَةُ اللَّهِ دعوته إلى الإسلام. وقرئ «كلمة الله» بالنصب، والرفع أوجه. وهِيَ فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم خِفافاً وَثِقالًا خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالا لكثرتها. أو خفافا من السلاح وثقالا منه. أو ركبانا ومشاة. أو شبابا وشيوخا. أو مهازيل
__________
(1) . لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه قال «نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار. فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
(2) . أخرجه البزار من طريق عوف بن عمرو عن أبى مصعب المكي: سمعت أنس بن مالك وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله تعالى صخرة فثبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه فسترته. وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار- الحديث» .
(3) . لم أجده(2/272)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
وسمانا. أو صحاحا ومراضا. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلىّ أن أنفر؟ قال: نعم، حتى نزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ. وعن ابن عباس: نسخت بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وعن صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخى استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة
[سورة التوبة (9) : آية 42]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أى لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال وَسَفَراً قاصِداً وسطا مقاربا الشُّقَّةُ المسافة الشاطة الشاقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشقة، بكسر العين والشين.
ومنه قوله:
يَقُولُونَ لَا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... وَلَا بُعْدَ إلّا مَا تُوَارِى الصَّفَائِحُ «1»
بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون. أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين، أى سيحلفون يعنى المختلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أو سيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا، وقوله لَخَرَجْنا سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات.
ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ: لو استطعنا،
__________
(1) . يقال «بعد» ككرم وتعب، ومصدرهما: البعد بفتحتين، وبضم فسكون. وقد اشتهر باب تعب في معنى الهلاك، ولا تبعد- بالفتح- كلمة جارية على لسانهم عند المصيبة، دالة على تناهى الجزع، ولا بعد: معناه لا بعد إلا بعد ما تواريه الصفائح. أو ولا ذو بعد إلا ما تواريه. أو لا بعيد إلا ما تواريه، على أن المصدر بمعنى الوصف.
واستعمل «ما» في العاقل، لأن المراد بها الوصف. أو المراد بها الأجسام والأشباح مجردة عن الإدراكات والأرواح. والصفائح: أحجار عراض يسقف بها القبر، أى البعيد، حقيقته هو ما يستره القبر، كناية عن موته.(2/273)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع في قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله لَخَرَجْنا أى لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا. يقال: حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.
[سورة التوبة (9) : آية 43]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها «1» . ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت «2» . ولِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى.
[سورة التوبة (9) : آية 44]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
لا يَسْتَأْذِنُكَ ليس من عادة المؤمنين «3» أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص
__________
(1) . قال محمود: «هذا كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها ... الخ» قال أحمد رحمه الله: ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير، وهو بين أحد أمرين: إما أن لا يكون هو المراد. وإما أن يكون هو المراد، ولكن قد أجل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب، وخصوصا في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالزمخشرى على كلا التقديرين ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام. ولقد أحسن من قال في هذه الآية:
إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداء: لم أذنت لهم؟ لتفطر قلبه عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام.
(2) . قوله «ومعناه أخطأت وبئس ما فعلت» خاطب الله رسوله خطاب الرقة والرأفة، وفسره المصنف بخطاب الغلظة والقسوة، وشتان ما بينهما. (ع)
(3) . عاد كلامه. قال: وقوله لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إلى قوله- إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... الآية قال: معناه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ... الخ» قال أحمد: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى إليه معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه، أنه كان لا يتعاطى شيأ من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تعالى فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أى ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو الفتوة، وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، وأسوأ أحوال المتثاقل- وقد دعى الناس إلى الغزاة- أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق نعوذ بالله من التعرض لسخطه.(2/274)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبدا، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا.
ومعنى أَنْ يُجاهِدُوا في أن يجاهدوا، أو كراهة أن يجاهدوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
[سورة التوبة (9) : الآيات 45 الى 48]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا يَتَرَدَّدُونَ عبارة عن التحير، لأن التردّد ديدن المتحير، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قرئ: عدّه، بمعنى عدّته، فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا «1»
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها. وقرئ: عدّة، بكسر العين بغير إضافة، وعدّه بإضافة. فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معطياً معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلىّ زيد، ولكن أساء إلىّ فَثَبَّطَهُمْ فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وَقِيلَ اقْعُدُوا جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل: هو قول الشيطان
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 323 فراجعه إن شئت اه مصححه(2/275)
بالوسوسة. وقيل: هو قولهم لأنفسهم. وقيل: هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود.
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح «1» ؟ قلت: خروجهم كان مفسدة، لقوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. فإن قلت: فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب. ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة.
ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ؟ «2» قلت: هو ذمّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ. إِلَّا خَبالًا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيراً إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالا. والخبال، الفساد والشرّ وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ولسعوا بينكم بالتضريب «3» والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأنّ الراكب أسرع من
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يوقع الله في نفوسهم كراهة الخروج للغزو ... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه مبنى على قاعدتين فاسدتين: إيجاب مراعاة المصالح على الله تعالى، والتحسين والتقبيح. وقد تكرر بطلان ذلك فاحذره. واعلم أن معتقد أهل السنة أن الله تعالى ألقى كراهة الخروج في قلوبهم، لأنه أراد شقاوتهم، وانضاف إلى ذلك إرادة راحة المخلصين من مرافقتهم، إذ الأمر ليس شرطا في نفوذ المشيئة، والله الموفق. [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت فما معنى قوله مع القاعدين ... الخ» قال أحمد: وهذا من تنبيهاته الحسنة، ونزيده بسطاً فنقول: لو قيل اقعدوا مقتصراً عليه، لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك: كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة مع إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، الموسومين بهذه السمة، إلا من عبارة الآية، ولعن الله فرعون: لقد بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: لأجعلنك من المسجونين، ولم يقل: لأجعلنك مسجونا، لمثل هذه النكتة من المبالغة
(3) . قوله «بالتضريب» أى بالإغراء. (ع)(2/276)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
الماشي. وقرأ ابن الزبير رضى الله عنه: ولأرقصوا، من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها. قال:
وَالرَّاقِصَات إلَى مِنْى فَالغَبْغَبِ
وقرئ: ولأوفضوا. فإن قلت: كيف خطّ في المصحف: ولا أوضعوا، بزيادة ألف؟ قلت:
كانت الفتحة تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحو:
أو لا أذبحنه. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يحاولون أن يفتنوكم. بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أى نمامون يسماعون حديثكم فينقلونه إليهم. أو فيكم قوم يسماعون للمنافقين ويطيعونهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ أى العنت ونصب الغوائل والسعى في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبىّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضى الله عنه: وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به مِنْ قَبْلُ من قبل غزوة تبوك وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ: وقلبوا بالتخفيف حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو تأييدك ونصرك وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وغلب دينه وعلا شرعه.
[سورة التوبة (9) : آية 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإنى إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإنى إذا خرجت معك هلك مالى وعيالي وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء «1» فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركنى. وقرئ: ولا تفتني، من أفتنه أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أى إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف. وفي مصحف أبىّ رضى الله عنه: سقط، لأنّ «من» موحد اللفظ مجموع المعنى لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعنى أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.
[سورة التوبة (9) : آية 50]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
__________
(1) . قوله «إنى مستهتر» أى مولع لا أبالى بما يقال في شأنى انتهى. (ع)(2/277)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
إِنْ تُصِبْكَ في بعض الغزوات حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، ويَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أى أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم مِنْ قَبْلُ من قبل ما وقع. وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون. وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة التوبة (9) : آية 51]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قرأ ابن مسعود رضى الله عنه: قل هل يصيبنا. وقرأ طلحة رضى الله عنه: هل يصيبنا، بتشديد الياء. ووجهه أن يكون «يفيعل» لا «يفعل» لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب «1» في جمع مصيبة، فحق «يفعل» منه «يصوّب» ألا ترى إلى قولهم:
صوّب رأيه، إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب. ومن قوله «2» أسهمى الصائبات والصيب، واللام في قوله إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله هُوَ مَوْلانا أى الذي يتولانا ونتولاه، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.
[سورة التوبة (9) : آية 52]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب، وهما النصرة والشهادة وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوأتين «3» من العواقب، إمّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود أَوْ بعذاب بِأَيْدِينا وهو القتل على الكفر فَتَرَبَّصُوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
__________
(1) . قوله «ومصاوب» في الصحاح: أجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو كأنهم شبهوا الأصلى بالزائد، ويجمع أيضا على مصاوب، وهو الأصل. (ع)
(2) . قوله «ومن قوله» لعله: ومنه. أو لعله: ومنها. وفي الصحاح: صاب السهم القرطاس يصيبه صيبا لغة في أصابه. (ع)
(3) . قوله «إحدى السوأتين» لعله: السوأيين. (ع)(2/278)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه
[سورة التوبة (9) : آية 53]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
أَنْفِقُوا يعنى في سبيل الله ووجوه البر طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال، أى طائعين أو مكرهين. فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وقوله:
أسِيئِى بِنَا أوْ أحْسِنِى لَا مَلُومَةً «1»
أى لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك- أسأت إلينا أم أحسنت.
فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك رحم الله زيداً وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أنّ كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة. والإحسان، وانظري هل بتفاوت حالى معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل:
أخُوكَ الَّذِى إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِى الْوَدِّ «2»
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت: ما الغرض في نفى التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول
__________
(1) .
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
لكثير صاحب عزة، يقول: امتحنيني في المحبة، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتغير حالى، وافعلي ما يجبرك زوجك عليه من شتمي، كما يأتى في كلامه، ولا تتحرجى عنه فانه مثل إحسانك، ولهذا ذكر الإحسان والمعنى: لا لوم ولا بغض، سواء أسأت أو أحسنت، فالأمر بمعنى الخبر، ثم التفت وقال: ليست عزة ملومة عندنا ولا مبغضة إن تبغضت، أى تكلفت البغض لنا وأظهرته. ويجوز أن المعنى: لا ملومة أنت ولا مقلية، فالالتفات في قوله «إن تبغضت، فقط.
(2) .
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً ... لتضربه لم يستفثك في الود
ولو جئت تبغى كنفه لتبيتها ... تبادر إشفاقا عليك من الرد
يرى أنه في الود وان مقصر ... على أنه قد زاد فيه عن الجهد
روى يستفشك «بالشين بدل الثاء. والمعنى متقارب. والسين والتاء للعد، أى لم يعدك خائنا مضراً. وتبينها تقطعها. والإشفاق: الخوف. والوانى: المتوانى. يقول: إن أخاك الصدق هو الذي لو قصدته بالمكاره لم يعدها غشا منك في المودة، بل يبادرك بكل ما طلبته خوفا عليك من أذى المنع، يظن أو يعتقد أنه مقصر في الود، مع أنه جاوز فيه الحد، وتكلف غير طاقته.(2/279)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً. وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين. وسمى الإلزام إكراها، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروى أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مالى أعينك به فاتركنى إِنَّكُمْ تعليل لردّ إنفاقهم. والمراد بالفسق:
التمرّد والعتو.
[سورة التوبة (9) : آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
أَنَّهُمْ فاعل منع. وهم، وأن تقبل: مفعولاه. وقرئ: أن تقبل، بالتاء والياء على البناء للمفعول. ونفقاتهم، ونفقتهم، على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمى: أن يقبل منهم نفقاتهم، على أن الفعل لله عزّ وجلّ كُسالى بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وقرأت في بعض الأخبار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول: كسلت، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإنّ الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه. فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله طَوْعاً ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون. قلت:
المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.
[سورة التوبة (9) : آية 55]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه. والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرّضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف(2/280)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. فإن قلت: إن صح تعليق التعذيب «1» بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وَهُمْ كارِهُونَ؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون، ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
لَمِنْكُمْ لمن جملة المسلمين يَفْرَقُونَ يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية مَلْجَأً مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أَوْ مَغاراتٍ أو غيرانا. وقرئ بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل:
هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا، يعنى: أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. ويجوز أن يكون من:
أغار الثعلب، إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفارّ أَوْ مُدَّخَلًا أو نفقا يندسون فيه وينجحرون، وهو مفتعل من الدخول. وقرئ مدخلا من دخل، ومدخلا من أدخل: مكانا يدخلون فيه أنفسهم. وقرأ أبى بن كعب رضى الله عنه: متدخلا وقرئ: لو ألوا إليه لالتجؤا إليه يَجْمَحُونَ يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام. وقرأ أنس رضى الله عنه: يجمزون. فسئل فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدّون «2» واحد.
[سورة التوبة (9) : آية 58]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
يَلْمِزُكَ يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك. قيل: هم المؤلفة قلوبهم. وقيل هو ابن ذى الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال:
اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ «3» وقيل:
هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال: ألا ترون إلى صاحبكم! إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم،
__________
(1) . قوله «فان قلت إن صح تعليق ... الخ» مبنى على أنه تعالى لا يريد الشر، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهلى السنة: أنه يريده كالخير. (ع)
(2) . قوله «ويجمزون ويشتدون» فيقال: جمز بالجيم يجمز بالكسر: أسرع، وحمز بالحاء يحمز يضمها:
اشتد اه صحاح فتدبر. (ع)
(3) . متفق عليه من حديث أبى سعيد واللفظ للبخاري. ولهما: «إذ جاء ذو الخويصرة» وهو المحفوظ(2/281)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
وهو يزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» »
وقرئ: يلمزك بالضم، ويلمزك ويلامزك. التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز.
ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه. وإذا للمفاجأة: أى وإن لم يعطوا منها فاجئوا للسخط.
[سورة التوبة (9) : آية 59]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
جواب «لو» محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم. والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها «2» لا يتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك. إنما الخلافة لقريش. تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه. وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أنهم قالوا: في أى صنف منها وضعتها أجزأك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فأبرتهم بها
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قال محمود: «هذا قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها الخ» قال أحمد: وهو مذهب مالك رضى الله عنه، والقول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار اللام بالتمليك كما ذهب إليه الشافعي لا يساعده السياق فان الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على أن غيرهم لا يستحق فيها نصيباً فهذا هو الغرض الذي سبقت له فلا اقتضاء فيها لما سواء والله أعلم.(2/282)
كان أحب إلىّ. وعند الشافعىّ رضى الله عنه، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية. وعن عكرمة رضى الله عنه. أنها تفرّق في الأصناف الثمانية. وعن الزهري أنه كتب لعمر ابن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية وَالْعامِلِينَ عَلَيْها السعاة الذين يقبضونها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة. والرقاب: المكاتبون يعانون منها. وقيل:
الأسارى. وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق وَالْغارِمِينَ الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنىّ حيث ماله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في معنى المصدر المؤكد، لأنّ قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم. وقرئ فريضة بالرفع على: تلك فريضة. فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة «1» ؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير «في» في قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دل بكون هذه الأصناف مصارف
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة ... الخ» قال أحمد: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم. وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم. ولكن في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصاً لذممهم لا لهم. وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك. وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته، مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً، وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لما لك على أن الغرض بيان المصرف، واللام لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف، فيتعين تقديره، فاما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة لفقراء، كقول مالك: أو مملوكة للفقراء، كقول الشافعي، لكن الأول متعين، لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعاً يصح تعلق اللام به وفي معا، فيصح أن تقول: هذا الشيء مصروف في كذا وكذا، بخلاف تقديره مملوكة، فانه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى «في» يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها، فتقديره من اللام عام التعلق، شامل الصحة، متعين، والله الموفق. [.....](2/283)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟.
[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع «1» ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع، كأنّ جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «2» . عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه هُوَ أُذُنٌ. وأذن خير، كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة وَرَحْمَةٌ بالجرّ عطفاً عليه أى: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم، أى أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، لا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة.
وقيل: إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم:
لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم. وقرئ: أذن خير لكم، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف، وخير كذلك، أى هو أذن هو خير لكم يعنى إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل
__________
(1) . قال محمود: «الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ... سمى الرجل بالجارحة التي هي آلة السماع ...
الخ» قال أحمد: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم واعقبهم في تنقصه باليأس منه، ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء: القول بالموجب، لأن في أوله إطماعا للحصم بالتسليم، ثم بتا الطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الاطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه، والله الموفق.
(2) . قوله «الربيئة» في الصحاح: الربيئة الطليعة. (ع)(2/284)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم «1» . وقرأ نافع بتخفيف الذال. فإن قلت: لم عدّى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّى بالباء وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه، لكونهم صادقين عنده، فعدّى باللام ألا ترى إلى قوله وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ما أنبأه «2» عن الباء. ونحوه: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. فإن قلت: ما وجه قراءة ابن أبى عبلة: ورحمة بالنصب؟ قلت: هي علة معللها محذوف تقديره: ورحمة لكم يأذن لكم، فحذف لأنّ قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يدل عليه.
[سورة التوبة (9) : آية 62]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضىّ واحد، كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشنى وجبر منى. أو والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك.
[سورة التوبة (9) : آية 63]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
المحادّة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ فَأَنَّ لَهُ على حذف الخبر، أى. فحق أن له نارَ جَهَنَّمَ وقيل. معناه فله، وأنّ: تكرير، لأن في قوله أَنَّهُ تأكيداً، ويجوز أن يكون فَأَنَّ لَهُ معطوفا على أنه، على أن جواب مَنْ محذوف تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ: ألم تعلموا بالتاء
__________
(1) . قوله «على سوء دخلتكم» أى مذمتكم. وفي الصحاح أن دخلة الرجل بالضم: باطن أمره اه، ولعلها غلبت في المذمة. (ع)
(2) . قوله «ما أنباه عن الباء ونحوه» أى: ما أبعده. (ع)(2/285)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
[سورة التوبة (9) : آية 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا شر خلق الله، لوددت أنى قدمت فجلدت مائة جلدة، وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين. وفي قلوبهم: للمنافقين. وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم، كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها. وقيل: معنى يحذر:
الأمر بالحذر، أى ليحذر المنافقون. فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ فما معنى قوله مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ؟ قلت: معناه محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أى تحذرون إظهاره من نفاقكم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشأم وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال: احبسوا علىّ الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، فقالوا:
يا نبى الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر «1» أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته لا تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم قَدْ كَفَرْتُمْ قد ظهر كفركم باستهزائكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعد إظهاركم الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ
__________
(1) . ذكره الواحدي عن قتادة بغير سند، ووصله الطبري.(2/286)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
مصرين على النفاق غير تائبين منه. أو إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزءوا فلم نعذبهم في العاجل، نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين. وقرأ مجاهد: إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير، لأن المسند إليه الظرف، كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن ترحم طائفة «فأنث لذلك وهو غريب، والجيد قراءة العامّة: إن يعف عن طائفة، بالتذكير. وتعذب طائفة، بالتأنيث. وقرئ: إن يعف عن طائفة يعذب طائفة، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 68]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68)
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير قوله وَما هُمْ مِنْكُمْ ثم وصفهم بما يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان والطاعات وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ شحا بالمبارّ والصدفات والإنفاق في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ فتركهم من رحمته وفضله هُمُ الْفاسِقُونَ هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت «1» ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله كُسالى
فما ظنك بالفسق خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود هِيَ حَسْبُهُمْ دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وأهانهم من التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة «2» المكرمين وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ولهم نوع من العذاب سوى الصلى بالنار، مقيم دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد:
__________
(1) . تقدم في أواخر البقرة.
(2) . قوله «وألحقهم بالملائكة» مبنى على مذهب المعتزلة، من تفضيل الملك على البشر. (ع)(2/287)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدأ من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
[سورة التوبة (9) : آية 69]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
الكاف محلها رفع على: أنتم مثل الذين من قبلكم. أو نصب على: فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا. ونحوه قول النمر:
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلَا طَلبَا «1»
بإضمار «لم أر» وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم.
والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أى قدّر من خير، كما قيل له «قسم» لأنه قسم.
ونصيب، لأنه نصب، أى أثبت. والخوض: الدخول في الباطل واللهو كَالَّذِي خاضُوا كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوه. فإن قلت: أى فائدة في قوله فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه كما أغنى قوله كَالَّذِي خاضُوا عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله. وأما وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن
__________
(1) .
حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوباً ولا طلباً
لأوس بن حجر. وقيل: للنمر بن تولب، وفيه حذف لا يستقيم إلا به، أى قال لها: لم أنظر كاليوم مطلوباً، والضمير لكلبة الصيد. والكلاب: معلم الكلاب أو الصياد بها، أى ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلهما في غيره بل أعظم، ولعل المراد بالطلب الطالب، ثم يحتمل أن هذا مقول القول، ويحتمل أنه جواب إذا ومقول القول محذوف، إشارة إلى سرعتها: أى قال لها: اذهبي مثلا.(2/288)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
باستناده إليه عن تلك التقدمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ نقيض قوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
[سورة التوبة (9) : آية 70]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وأهل مدين وهم قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ مدائن قوم لوط. وقيل:
قريات قوم لوط وهود وصالح، وائتفاكهنّ: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله في المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. عَزِيزٌ غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب حَكِيمٌ واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق وَمَساكِنَ طَيِّبَةً عن الحسن قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. وعَدْنٍ علم، بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ ويدل عليه ما روى أبو الدرداء رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء. يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» «1» وقيل: هي مدينة
__________
(1) . أخرجه البزار من طريق زيادة بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عنه، وقال: لا نعلمه إلا من هذا الوجه وزيادة لا يعلم وروى عنه غير الليث وأخرجه الطبراني والدارقطني في المؤتلف وابن مردويه من هذا الوجه.(2/289)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
في الجنة. وقيل: نهر جناته على حافاته وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة «1» من مشايخنا يقول: لا تطمح عينى ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده ذلِكَ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان:
أى هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً. وروى «أن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأى شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «2»
[سورة التوبة (9) : آية 73]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة «3» وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه «4» فإن لم يستطع فبقلبه «5» . يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
[سورة التوبة (9) : آية 74]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
__________
(1) . قوله «والنفس المرة» أى القوية الشديدة العقل، من المرة بالكسر، وهي القوة وشدة العقل، كما في الصحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من حديث أبى سعيد.
(3) . قال محمود: «معناه جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة ... الخ» قال أحمد: والحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا في إغلاظنا عليه أحيانا، والله الموفق.
(4) . قوله «فليكفهر في وجهه» في الصحاح «اكفهر الرجل» إذا عبس. (ع)
(5) . أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمرو بن أبى جندب عنه. [.....](2/290)
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجلاس: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس: أجل، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال: فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق «1» فنزلت يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا فقال الجلاس:
يا رسول الله، لقد عرض الله علىّ التوبة. والله لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت «2» توبته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله «3» ، فهربوا. وقيل:
__________
(1) . قوله «تصديق الكاذب وتكذيب الصادق» لعله تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. ويمكن أنه جعل نفسه كاذبا، والجلاس صادقا، لأنه مقتضى ظاهر الحلف. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند لكن سنده إليه أول الكتاب. وروى ابن سعد وعبد الرزاق والطبري من رواية هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت أم عمير بنت سعيد عند الجلاس بن سويد. فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس الأنصارى، وهو ابن عمه- فذكره. وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ليس فيه كانت أم عمير إلى آخره، بل أوله في قصة تبوك إلى أن قال:
وقال الجلاس حين سمع ما أنزل الله في المنافقين.
(3) . أخرجه أحمد من حديث أبى الطفيل قال «لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا ينادى لا يأخذن العقبة أحد، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير وحده، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به، وعمار رضى الله عنه يسوق به. فأقبل رهط متلثمين على الرواحل حتى غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عمار فضرب وجوه الرواحل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة: قد قد- فلحقه عمار فقال: سق سق حتى أناخ. فقال لعمار: هل تعرف القوم فقال: لا، كانوا متلثمين. وقد عرفت علمة الرواحل. فقال: أتدري ما أرادوا برسول الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: أرادوا أن يمكروا برسول الله فطرحوه من العقبة. فلما كان بعد ذلك وقع بين عمار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء مما يكون بين الناس.
فقال: أنشدكم الله، كم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ترى أنهم أربعة عشر، فان كنت فيهم فهم خمسة عشر» ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزار وقال روى من طريق عن حذيفة وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى البختري عن حذيفة بن اليمان. قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به. وعمار رضى الله عنه يسوق الناقة حتى إذا كنا بالعقبة وإذا اثنى عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال:
فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين.(2/291)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبىّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وَما نَقَمُوا وما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشر ألفاً فاستغنى فَإِنْ يَتُوبُوا هي الآية التي تاب عندها الجلاس فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالقتل والنار.
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 77]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)
روى أنّ ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ثعلبة، قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه «1» » فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كل ذى حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد. قال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا حتى أرى رأيى، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة مرّتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال: إنّ الله منعني أن
__________
(1) . أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل والشعب وابن أبى حاتم والطبري وابن مردويه كلهم من طريق على بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أمامة. وهذا إسناد ضعيف جدا. فقال السهيلي عن ابن إسحاق ثعلبة بن حاطب قمر البدريين. وعن ابن إسحاق أيضا في المنافقين وذكر هذه الآية التي نزلت فيه. فلعلهما اثنان.(2/292)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
أقبل منك، فجعل التراب على رأسه فقال: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضى الله عنه فلم يقبلها، وجاء بها إلى عمر رضى الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضى الله عنه. وقرئ «لنصدقن ولنكونن» بالنون الخفيفة فيهما مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس رضى الله عنه: يريد الحج فَأَعْقَبَهُمْ عن الحسن وقتادة رضى الله عنهما: أنّ الضمير للبخل. يعنى: فأورثهم البخل نِفاقاً متمكنا فِي قُلُوبِهِمْ لأنه كان سببا فيه وداعياً إليه. والظاهر أن الضمير لله عزّ وجل. والمعنى: فخذلهم حتى نافقوا «1» .
وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين. ومنه: جعل خلف الوعد ثلث النفاق. وقرئ: يكذبون، بالتشديد.
وأ لم تعلموا، بالتاء. عن علىّ رضى الله عنه.
[سورة التوبة (9) : آية 78]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها.
[سورة التوبة (9) : آية 79]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ محله النصب أو الرفع على الذمّ. ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلا من الضمير في سرهم ونجواهم. وقرئ: يلمزون، بالضم الْمُطَّوِّعِينَ المتطوّعين المتبرعين.
روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب. وقيل: بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت «2» فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً،
__________
(1) . قوله «والمعنى فخذلهم حتى نافقوا» فسره بذلك على مذهب المعتزلة، من أنه تعالى لا يخلق الشر. (ع)
(2) . أخرجه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- الآية قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية. من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء رجل من الأنصار بصاع من تمر. فقال بعض المنافقين والله ما جاء عبد الرحمن بن عوف بما جاء به إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع. ومن طريق عطية العوفى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى الناس، فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم. وجاء رجل بصاع من تمر. فقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير- الحديث. وجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف، فأربعة آلاف لي، وأربعة آلاف أقرضها ربى- فذكره» وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتادة قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله. وكان له ثمانية آلاف دينار. فتصدق بأربعة آلاف دينار. فقال أناس من المنافقين: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء. فقال الله عز وجل الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ وكان لرجل من الأنصار صاعان من تمر. فجاء بأحدهما. فقال أناس من المنافقين: إن كان الله لغنيا عن صاع هذا.
فقال الله عز وجل إِلَّا جُهْدَهُمْ وروى البزار من رواية عمر بن أبى مسلمة عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تصدقوا فانى أريد أن أبعث بعثا فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف درهم ألفان أقرضها ربى وألفان لعيالي- الحديث» وفيه «وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من نمر» أخرجه عن طالوت بن عبادة عن أبى عوانة عنه وقال: تفرد طالوت بوصله ثم رواه عن أبى كامل عن أبى عوانة ومن طريقه ابن مردويه وفي المغازي بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدى فتصدق بمائة وسق من تمر فألقاه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» انتهى وقصة أبى عقيل أخرجها إبراهيم الحربي والطبراني والطبري من رواية خالد بن يسار عن ابن أبى عقيل عن أبيه قال «بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر- الحديث» وفي إسناده موسى بن عبدة وهو ضعيف قلت: قصة أبى عقيل أخرجها البخاري من حديث أبى مسعود الأنصارى باختصار وفيه «جاء إنسان آخر بأكثر من ذلك» وفي رواية: بشيء كثير.(2/293)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
وتصدّق عاصم بن عدىّ بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصارى رضى الله عنه بصاع من تمر فقال: بت ليلتي أجرّ بالجرير «1» على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت إِلَّا جُهْدَهُمْ إلا طاقتهم. قرئ بالفتح والضم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ كقوله: الله يستهزئ بهم في أنه خبر غير دعاء. ألا ترى إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : آية 80]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
سأل عبد الله بن عبد الله بن أبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان رجلا صالحا- أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين» «2» فنزلت سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وقد ذكرنا
__________
(1) . قوله «بالجرير» هو حبل البعير. ويروى: أجر بالجرير الماء كذبها، من أجر. (ع)
(2) . لم أجده بهذا السياق وأصله في المتفق عليه عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلى عليه، فقام يصلى عليه فأخذ عمر رضى الله عنه بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلى عليه فقال إنما خيرنى فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية وسأزيده على السبعين فصلى عليه فأنزل الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فتركت الصلاة عليهم- لفظ مسلم(2/294)
أن هذا الأمر في معنى الخبر، «1» كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علىّ بن أبى طالب عليه السلام:
لَأَصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِى ... سَبْعِينَ ألْفاً عَاقِدِى النَّوَاصِى «2»
فإن قلت: كيف خفى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام «3» وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا ... الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: «قد رخص لي ربى فسأزيد على السبعين» قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية
__________
(1) . قال محمود: «قد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ... الخ» قال أحمد: وما يدعيه الزمخشري في هذا وأمثاله من محذوف هو المقصود بالأمر وهذا واقع موقعه، كقول كثير عزة. أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة.
كأنه يقول لها: امتحنى محلك عندي وقوة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالى معك مسيئة أو محسنة؟ وكذلك معنى الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وانظر هل يغفر لهم في حالتي الاستغفار وتركه؟
وهل يتفاوت الحالان أولا؟ قال أحمد: وقد ورد بصيغة الخبر في الآية الأخرى في قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
(2) .
لأصبحن العاصي وابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدى النواصي
مستحقبين حلق الدلاص ... قد جنبوا الخيل مع القلاص
آساد محل حين لا مناص
لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه في عمرو بن العاص. وصبحه: سقاء الصبوح وقت الصباح. ويروى «لأصحبن» من الصحبة ولعله تحريف. شبه إنالة المكروه بانالة المحبوب على سبيل التهكم، فهو استعارة تصريحية تهكمية. ويجوز أنه شبه الفرسان لإتيانهم صباحا بالصبوح على سبيل المكنية التهكمية. ولأصبحن: تخييل. وسبعين ألفاً: مفعول ثانى. والمراد به الكثرة. والعاقدين: جمع عاقد، والمراد: نواصي خيلهم أو أطراف عمائمهم من خلفهم أو شعور رؤوسهم. وعقد الناصية من أمارات الشجاعة والاشاحة في القتال. والحقاب: ما تلفه المرأة على وسطها، ويطلق على ذات وسطها. والحقيبة: خرج صغير خلف الراكب. والحلق- بالكسر-: جمع حلقة. والدلاص: الدرع الملساء المضيئة، يوصف به الواحد والجمع. فالمعنى: أنهم لابسون الدروع. أولا شيء في حقائبهم غيرها. والقلاص فتيات الإبل: أى جمعوا بين النوعين، وجعلهم كآساد المحل، أى الجدب، ليفيد أنهم جياع وعطاش إلى لحوم الأعداء ودمائهم، وحق اسم «لا» أن يبنى على الفتح، فيجوز أنه كسره القافية. والأوجه أنه الاسم بمعنى غير كما في الصحاح، أو حين غير مناص، أو بنى على الكسر لنية الاضاقة. وشبهه بنزال، أو هو مجرور بمن الاستغراقية مقدرة كما مر في «ولات أوان» ويجوز- على بعد- أن يكون في الكلام مضاف محذوف، أى لا حين لا وقت مناص، أى تأخر عن الحرب، ويمكن أن «لا» زائدة بين المتضايفين، كافى «بثرلا حور سرى» أى حين مناص الفرسان وفرارهم.
(3) . عاد كلامه. قال: فان قلت كيف خفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح من نطق بالضاد ...
الخ» قال أحمد: وقد أنكر القاضي رضى الله عنه حديث الاستغفار ولم يصححه، وتعالى قوم في قبوله حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفى الغفران بالسبعين ثبوت الغفران بالزائد عليه، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم.(2/295)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة: لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.
[سورة التوبة (9) : آية 81]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)
الْمُخَلَّفُونَ الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ خلفه. يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة: خلف رسول الله. وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض.
وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الايمان وداعى الإيقان قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل: ولبعضهم:
مَسَرَّةُ أحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ أرْيُهَا شِبْهُ الصَّابِ
فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسرَّةَ سَاعَةٍ ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةُ أحْقَابِ «1»
[سورة التوبة (9) : آية 82]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا جَزاءً إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
__________
(1) . للزمخشري. و «الأحقاب» الأزمان الكثيرة المتتابعة، جمع حقب بالضم بمعنى الدهر. و «الأرى» العسل. و «الشبه» المثل. و «الصاب» نبت مر الطعم. وقيل: هو الحنظل يقول إن مسرة أزمان كثيرة ترى بعدها مساءة يوم واحد، حالها الشبيه بالعسل هو في الحقيقة شبيه بالحنظل، فكيف الحال بعكس ذلك؟.(2/296)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
[سورة التوبة (9) : آية 83]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
وإنما قال إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك. وأَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين مَعَ الْخالِفِينَ قد مرّ تفسيره. قرأ مالك بن دينار رحمه الله. مع الخلفين، على قصر الخالفين. فإن قلت مَرَّةٍ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ. ثم إنّ قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه. ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 85]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
روى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم «1» فلما
__________
(1) . لم أجده هكذا فأما أوله وهو «كان يقوم، إلى آخره» وأما قصة عبد الله ففي الجائز من المستدرك من طريق ابن إسحاق حدثني الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله ابن أبى ليعوده في مرضه الذي مات فيه. فلما عرف فيه الموت قال له: أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود فقال: قد أبغضتهم، أسعد بن زرارة. فما نفعه، فلما مات أتاه ابنه فقال: قد مات فأعطنى قميصك أكفنه فيه فنزع عليه الصلاة والسلام قميصه فأعطاه إياه» وأما قوله «بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخنى» فزاده الطيراني من طريق معمر عن قتادة قال «أرسل عبد الله ابن أبى وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حب يهود. قال: يا رسول الله، أرسالات إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخنى، وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه فاستغفر له ومات فكفنه في قميصه، ونفث في جلده ودلاه في قبره، فأنزل الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وفي الدلائل البيهقي من طريق الواقدي بإسناده في هذه القصة قال:
فقال «ليس هذا بحين عتاب، هو الموت، فان مت فاحضر غسلي وأعطنى قميصك أكفن فيه فأعطاه ثم قال: وصل على واستغفر لي» وفي رواية له فقال له ابنه- وكان يقال له الحباب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله يا رسول الله أعطه قميصك الذي يلي جلدك» وأما قوله الحباب اسم شيطان فرواه ابن سعد والطبري من طريق عروة وغيره قال «لما ثقل عبد الله بن أبى انطلق ابنه فقال: إن أبى احتضر وأحب أن تشهده وتصلى عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله قال: بلى، أنت عبد الله، إن الحباب اسم شيطان، قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وصلى عليه وأما قول عمر فقد قدمنا أنه في الصحيحين.(2/297)
مرض رأس النفاق عبد الله بن أبىّ بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب اليهود.
فقال: يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبنى «1» وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه فقال: أنت عبد الله ابن عبد الله. الحباب اسم شيطان. فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدوّ الله، فنزلت وقيل: أراد أن يصلى عليه فجذبه جبريل «2» . فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس رضى الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ اسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلا طوالا «3» ، فكساه عبد الله قميصه «4» وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد «5» ولكنا نأذن لك، فقال:
لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة «6» فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك، وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام، وإكراماً لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له: أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء «7» ، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفاً
__________
(1) . قوله «لا لتؤنبنى» أى تعنفني باللوم. [.....]
(2) . أخرجه أبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلى على عبد الله بن أبى فأخذ جبريل بثوبه وقال وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ويزيد ضعيف.
(3) . قوله «وكان رجلا طوالا» في الصحاح: الطوال- بالضم: الطويل. (ع)
(4) . أخرجه البخاري من رواية عمرو بن دينار سمع جابراً «لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصا. فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. قال ابن عتبة كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث جابر وأدرج فيه الكلام الأخير.
(5) . قوله «إنا لا نأذن لمحمد» أى في دخوله مكة. (ع)
(6) . أخرجه الوافدى في المغازي: حدثنا جابر بن سليم عن صفوان بن عثمان قال «كانت قريش يوم الحديبية أرسالات إلى عبد الله بن أبى: إن أحببت أن تدخل فتطوف فافعل. وابنه جالس عنده. فقال له ابنه: يا أبت اذكر الله أن تطوف بالبيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى ابن أبى وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه فسر» .
(7) . لم أجده. وأصل سؤال ابنه في الصحيح كما تقدم.(2/298)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: «إنّ قميصي لن يغنى عنه من الله شيئاً، وإن أؤمل في الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» «1» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه. فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع «3» ماتَ صفة لأحد. وإنما قيل: مات، وماتوا بلفظ الماضي- والمعنى على الاستقبال- على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة إِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهى، وقد أعيد قوله وَلا تُعْجِبْكَ لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
__________
(1) . لم أره هكذا، وأصله أخرجه الطبري من رواية معمر عن قتادة قال ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه في ذلك. فقال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإنى لأرجو أن يسلم به ألف من قومه» .
(2) . لم أره هكذا إلا في مرسل قتادة الذي قبله.
(3) . أخرجه سعيد بن داود في تفسيره من طريقه. قال حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرنى الحكم بن أبان سمع عكرمة عن عباس قال «لما مرض عبد الله بن أبى مرضه الذي مات فيه قال للنبي صلى الله عليه وسلم امنن علي فكفني في قميصك وصل علي قال: فكفنه في قميصه وصلى عليه. قال ابن عباس: والله ما أدرى ما هذه الصلاة كانت: فالله أعلم، وما خادع محمدا إنسان قط» .(2/299)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها في قوله وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه. وقيل هي براءة، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد أَنْ آمِنُوا هي أن المفسرة أُولُوا الطَّوْلِ ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولا مَعَ الْقاعِدِينَ مع الذين لهم علة وعذر في التخلف فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك لكِنِ الرَّسُولُ أى إن تخلف هؤلاء فقد نهد «1» إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً، كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ. الْخَيْراتُ تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور، لقوله فِيهِنَّ خَيْراتٌ.
[سورة التوبة (9) : آية 90]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
الْمُعَذِّرُونَ من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له: أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم. ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم وقرئ. المعذرون، بالتخفيف:
وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان. قالوا: إن لنا عيالا: وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طىّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم: سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد.
نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى: وعن قتادة: اعتذروا بالكذب: وقرئ:
المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاى والصاد، في المطوّعين، وأزكى وأصدق. وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضى الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبىّ: كذبوا، بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار
__________
(1) . قوله «فقد نهد» أى نهض، كما في الصحاح. (ع)(2/300)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)
الضُّعَفاءِ الهرمى والزمنى. والذين لا يجدون: الفقراء. وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. والنصح لله ورسوله: الإيمان بهما، وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه عَلَى الْمُحْسِنِينَ على المعذورين الناصحين، ومعنى: لا سبيل عليهم: لا جناح عليهم. ولا طريق للعاتب عليهم قُلْتَ لا أَجِدُ حال من الكاف في أَتَوْكَ وقد قبله مضمرة، كما قيل في قوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أى إذا ما أتوك قائلا لا أجد تَوَلَّوْا ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل «المستحملون» أبو موسى الأشعرى وأصحابه. وقيل البكاءون، وهم ستة نفر من الأنصار تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كقولك. تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و «من» للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز أَلَّا يَجِدُوا لئلا يجدوا. ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً.
[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
فإن قلت: رَضُوا ما موقعه؟ قلت: هو استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعنى أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم. فإن قلت: فهل يجوز أن(2/301)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
يكون قوله قُلْتَ لا أَجِدُ استئنافاً مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: قلت لا أجد ما أحملكم عليه. إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض «قلت» نعم ويحسن لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال «1» وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عز وجلَّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أتنيبون أم تثبتون على كفركم ثُمَّ تُرَدُّونَ إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسر وعلانية، فيجازيكم على حسب ذلك.
[سورة التوبة (9) : آية 95]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ فأعطوهم طلبتهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليل لترك معاتبتهم، يعنى أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار.
وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعنى وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم.
[سورة التوبة (9) : آية 96]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ أى غرضهم في الحلف بالله طلب رضاهم لينفعهم ذلك في دنياهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها. وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا الله عنهم.
قيل: هم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلا منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، لا تجالسوهم ولا تكلموهم. وقيل: جاء عبد الله ابن أبىّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً.
__________
(1) . قوله «وجب عليه الإخلال» أى الترك. يقال: أخل الرجل بمركزه، إذا تركه. (ع)(2/302)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
[سورة التوبة (9) : آية 97]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
الْأَعْرابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنة وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا وأحق بجهل حدود الدن وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «1» «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» «2» وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 98 الى 99]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
مَغْرَماً غرامة وخسراناً. والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان: دوله وعقبه «3» لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دعاء معترض، دعى عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عز وجل وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وقرئ السوء بالضم وهو العذاب، كما قيل له سيئة. والسوء بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأنَّ من دارت عليه ذامّ لها وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة عَلِيمٌ بما يضمرون. وقيل هم أعراب أسد وغطفان وتميم قُرُباتٍ مفعول ثان ليتخذ. والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في أثناء حديث فيه «وإن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل» كذا البخاري ولمسلم «إن القسوة وغلظ القلوب» .
(2) . قوله «والقسوة في الفدادين» الفدادين: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. ورجل فداد:
شديد الفديد. وهو الصوت: أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «دوائر الزمان: دوله، وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ... الخ» قال أحمد: وفي آية براءة مزيد على مناسبة الدعاء الحال المدعو عليهم ولقولهم، وذلك أن الذي نسب إليهم تربص الدوائر مطلقاً والذي دعى عليهم به دائرة السوء على التقييد بأسوإ الدوائر لا على الإطلاق، والله الموفق. [.....](2/303)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
عند الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله «اللهم صل على آل أبى أو في «1» » وقال تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات أَلا إِنَّها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف، مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك سَيُدْخِلُهُمُ وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان «2» إذا خلصت النية من صاحبها. وقرئ قُرْبَةٌ بضم الراء. وقيل: هم عبد الله وذو البجادين ورهطه.
[سورة التوبة (9) : آية 100]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقيل الذين شهدوا بدراً.
وعن الشعبي: من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين وَمن الْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. وقرأ عمر رضى الله عنه: والأنصار بالرفع عطفا على السابقون «3» . وعن عمر أنه كان يرى أنّ قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد: إنه بالواو، فقال: ائتوني بأبىّ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وأوسط الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وآخر الأنفال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ. وروى أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك؟ قال: أبىّ، فدعاه فقال:
أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم «4» . ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا
__________
(1) . متفق عليه من حديث عبد الله بن أبى أو في قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليه فأتى أبو أوفى بصدقة. فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى» .
(2) . قال محمود: «ما أدل هذا الكلام على أن الصدقة من الله بمكان ... الخ» قال أحمد: وللقدرية كما علمت مذهب في أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، وأنه مخلد في النار وإن كان موحداً، وغرض الزمخشري أن يجعل الفسق الذي وسم به المنافق هو الذي يوسم به الموحد، حتى يكون استحقاقهما الخلود واحداً. فاحذره، والله أعلم.
(3) . لم أره هكذا.
(4) . لم أره هكذا، وفي الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب قال «مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فأخذ عمر بيده. وقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبى بن كعب فقال:(2/304)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، وارتفع السابقون بالابتداء، وخبره رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه: رضى عنهم لأعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة: تجرى من تحتها، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف:
تحتها، بغير من.
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ يعنى حول بلدتكم وهي المدينة مُنافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدّرت: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أنّ مَرَدُوا صفة موصوف محذوف، كقوله:
أنَا ابْنُ جَلَا.. «1» ....
وعلى الوجه الأوّل لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودلّ على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله لا تَعْلَمُهُمْ
__________
(1) .
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا تبتغى الشعراء منى ... وقد جاوزت حد الأربعين
لسحيم بن وثيل الرياحي، كان عبداً حيشياً، فاتهم ببنت مولاه. فقتله. وقيل للمثقب العبدى، ونسب البيت الأول العرجى. وجلا: صفة لمحذوف، أى ابن رجل جلا واتضح أمره بالشجاعة، فالفعل لازم. أو جلا غمة الحرب وكشف همها، فهو متعد، وحذف المنعوت هنا ضرورة، لأنه لا يطرد إلا إذا صلح النعت لمباشرة العامل، أو كان المنعوت بعض اسم مجرور بمن، أو في كما مر، وإضافة «طلاع» لما بعده لفظية، فلا تفيده تعريفا. وتوسيط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والثنايا: العقبات الصعبة. استعارها لعظائم الأمور على سبيل التصريح، والطلوع ترشيح «متى أضع» بيضة الحرب على رأسى «تعرفوني» كناية عن نزول الحرب فنثبت شجاعته. وروى «تدرى» بدل «تبتغى» وهو افتعال من الدراية، أى: ماذا تستعلم الشعراء منى، والحال أنى جاوزت حد الأربعين سنة، وكسر نون الجمع لغة. ويجوز أنه جر بالكسر على لغة من يعربه كالحين.(2/305)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
أى يخفون عليك مع فطنتك «1» وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنؤقهم «2» في تحامى ما يشكك في أمرهم، ثم قال نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أى لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قيل: هما القتل وعذاب القبر. وقيل الفضيحة وعذاب القبر. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» خطيبا يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق «4» » فأخرج ناسا وفضحهم، فهذا العذاب الأوّل، والثاني عذاب القبر. وعن الحسن: أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ إلى عذاب النار.
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أى لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة. أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام «5» . وقيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم أو ثقوا أنفسهم: بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين- وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم، فقال: وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، فنزلت،
__________
(1) . قال محمود: «معناه أنه مع شهامتك وفطنتك وصدق فراستك يخفون حالهم عليك ... الخ» قال أحمد:
وكأن قوله تعالى مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه عليه الصلاة والسلام لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به والله أعلم.
(2) . قوله «لفرط تنوقهم» أى تأنفهم. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «فقال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم» ظاهره أن القائل هو ابن عباس. (ع)
(4) . أخرجه الطبري وابن مردويه والطبراني في الأوسط من طريق السدى عن أبى مالك عن ابن عباس بهذا إلى قوله «وفضحهم» وزاد «ولم يكن عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم عمر فاختبأ منهم، ثم دخل المسجد فقال له رجل: يا عمر أبشر، فقد فضح الله المنافقين اليوم. فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر» .
(5) . قوله «روى أن الذين اعترفوا بذنوبهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام» لم أجده.(2/306)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال:
ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فنزلت: خذ من أموالهم «1» عَمَلًا صالِحاً خروجا إلى الجهاد وَآخَرَ سَيِّئاً تخلفا عنه. عن الحسن وعن الكلبي: التوبة والإثم. فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به «2» ؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، ثريد: خلطت كل واحد منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، بمعنى شاة بدرهم. فإن قلت: كيف قيل أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما ذكرت توبتهم؟ قلت: إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم.
[سورة التوبة (9) : آية 103]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
تُطَهِّرُهُمْ صفة لصدقة. وقرئ: تطهرهم، من أطهره بمعنى طهره. وتطهرهم، بالجزم جوابا للأمر. ولم يقرأ وَتُزَكِّيهِمْ إلا بإثبات الياء. والتاء في تُطَهِّرُهُمْ للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه. أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدّق لصاحب الصدقة «3» إذا أخذها. وعن الشافعي رحمه الله: أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت. وقرئ: إنّ صلاتك، على التوحيد «4» سَكَنٌ لَهُمْ
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل وابن مردويه من طريق على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ- الآية كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما حضر رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد- الحديث» .
(2) . قال محمود: «إن قلت قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به ... الخ» قال أحمد: والتحقيق في هذا أنك إذا قلت خلطت الماء باللبن فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء المخلوط واللبن مخلوط به، والمدلول عليه لزوما لا تصريحا كون الماء مخلوطا به واللبن مخلوطا، وإذا قلت: خلطت الماء واللبن، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا. وأما ما خلط به كل واحد منهما فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما مخلوط به. ويحتمل أن يكون قرينة أو غيره، فقول الزمخشري: «إن قولك خلطت الماء واللبن يفيد ما يفيده مع الباء وزيادة» ليس كذلك، فالظاهر في الآية- والله أعلم- أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل، كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به، والله أعلم.
(3) . قوله «يدعو المصدق لصاحب الصدقة» المصدق اسم فاعل: الذي يأخذ الصدقات، أفاده الصحاح. (ع)
(4) . قوله «وقرئ إن صلاتك على التوحيد» بدل قراءة صلواتك على الجمع. (ع) [.....](2/307)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
يسكنون إليه وتطمئنّ قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم، والغم من الندم لما فرط منهم.
[سورة التوبة (9) : آية 104]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قرئ أَلَمْ يَعْلَمُوا بالياء والتاء، وفيه وجهان، أحدهما: أن يراد المتوب عليهم، يعنى:
ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ إذا صحت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، وهو للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين. وقيل: معنى التخصيص في هو: أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها، فاقصدوه بها ووجهوها إليه.
[سورة التوبة (9) : آية 105]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وَقُلِ لهؤلاء التائبين اعْمَلُوا فإن عملكم لا يخفى- خيراً كان أو شراً- على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم. والثاني: أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. فإن قلت: فما معنى قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل «1» والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله فَسَيَرَى اللَّهُ وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.
[سورة التوبة (9) : آية 106]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قرئ مرجون ومرجؤن من أرجيته. وأرجأته: إذا أخرته. ومنه المرجئة، يعنى:
وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق والطبراني من طريق عبد الله بن قتادة المحاربي عنه. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما تصدق أحد بصدقة من طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه ... الحديث.(2/308)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
إن تابوا، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله «1» وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وفي قراءة عبد الله: غفور رحيم. وإمّا للعباد: أى خافوا عليهم «2» العذاب، وارجوا لهم الرحمة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 108]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
في مصاحف أهل المدينة والشام: الذين اتخذوا بغير واو، لأنها قصة على حيالها. وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم. روى أنّ بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف «3» وقالوا: نبنى مسجداً ونرسل إلى
__________
(1) . لم أجده بهذا السياق. والقصة في الصحيحين من حديث كعب بن مالك: وهو حديث ابن عباس الذي قبله باختصار.
(2) . قوله «وإما للعباد أى خافوا عليهم» عبارة النسفي: وإما الشك وهو راجع إلى العباد. (ع)
(3) . لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد، وليس صدره بصحيح فان مسجد قباء كان قد أسس والنبي صلى الله عليه وسلم بقباء أول ما هاجر، وبنى مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك فبينهما تسع سنين لكن روى ابن مردويه من طريق محمد بن سعد العوفى عن أبيه عن عمه عن أبيه عن جده عطية بن سعد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال منهم عرج جد عبد الله بن حنيف، ووديعة ابن حزام، ومشجع بن حارثة، فبنو مسجدا- الحديث» من قوله «فبنوا مسجدا إلى مسجد قباء إلى آخره «ذكره ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز لغزوة تبوك- الحديث» ولم يذكر في الذين أرسلوا إلى هدمه سوى مالك بن الدخشم، ومعن بن عدى لم يذكر وحشيا قاتل حمزة وعامر بن السكن ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق قال: ذكر الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخى وهم أنه سمع أبا رهم الغفاري فذكر نحوه. وأما كونهم بنوه بسبب أبى عامر، فرواه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما.(2/309)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيه، ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين.
أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن يصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم: إنى على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدى وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين ضِراراً مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد فباء ومعازة وَكُفْراً وتقوية للنفاق وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص «1» بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم وَإِرْصاداً وإعداداً «ل» أجل لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو الراهب: أعدوه له ليصلى فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بنى عامر، فقيل له: مسجد بنى فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلى فيه، فإنه بنى على ضرار، وكل مسجد بنى على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهى إلى المسجد الذي بنى ضراراً. وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضى الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه. فإن قلت: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ما محله من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الاختصاص. كقوله الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، معناه: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فإن قلت: بم يتصل قوله مِنْ قَبْلُ؟ قلت. باتخذوا، أى اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة. وذكر الله والتوسعة على المصلين
__________
(1) . قوله «فيغتص» أى يمتلئ اه. (ع)(2/310)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى قيل هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى، لأنّ الموازنة بين مسجدى قباء أوقع. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وعن أبى سعيد الخدري: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد «1» المدينة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أول يوم من أيام وجوده فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثم أعادها: فقال عمر:
يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم: أترضون بالقضاء؟ قالوا:
نعم. قال: أتصرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. قال:
صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط، فقالوا يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا «2» وقرئ: أن يطهروا، بالإدغام. وقيل: هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل:
كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم. فإن قلت: ما معنى المحبتين؟ قلت: محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهى له على إيثاره. ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.
[سورة التوبة (9) : آية 109]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قرئ أَسس بنيانه، وأُسس بنيانه، على البناء للفاعل والمفعول. وأسس بنيانه، جمع أساس.
__________
(1) . رواه مسلم بلفظه.
(2) . لم أجده هكذا: وكأنه ملفق من حديثين: ذكر المخرج أولهما من الطبراني في الأوسط قال: حدثنا الهيثم ابن خلف الدوري بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر. ومعه أناس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا، ثلاث مرات، فقال عمر رضى الله عنه يا رسول الله، نؤمن بما أتيتنا به ونحمد الله في الرخاء، ونصبر في البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال مؤمنون ورب الكعبة» انتهى، وهذا فيه من المخالفة بين السياقين ما لا يخفى، وأما الثاني، فروى ابن مردويه من طريق ابن عباس نحوه(2/311)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
على الإضافة، وأساس بنيانه، بالفتح والكسر: جمع أس، وآساس بنيانه على أفعال، جمع أس أيضا. وأس بنيانه. والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه «1» على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شَفا جُرُفٍ هارٍ في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى. فإن قلت: فما معنى قوله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. والشفا: الحرف والشفير. وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا. والهار: الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. ووزنه فعل، قصر عن فاعل، كخلف من خالف. ونظيره: شاك وصات، في شائك وصائت. وألفه ليست بألف فاعل، إنما هي عينه. وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره. وقرئ: جرف. بسكون الراء.
فإن قلت: فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر: على تقوى من الله، بالتنوين؟ قلت:
قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى فيمن نوّن، ألحقها بجعفر. وفي مصحف أبىّ:
فانهارت به قواعده. وقيل: حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤى الدخان يخرج منه. وروى أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فو الله لقد صليت بهم والله يعلم أنى لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤن من القرآن شيئا. فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه.
[سورة التوبة (9) : آية 110]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
رِيبَةً شكا فى الدين ونفاقا، وكان القوم منافقين. وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ ضِراراً وَكُفْراً فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا
__________
(1) . قوله «فمن أسس بنيان دينه» هذا كما في الحديث «بنى الإسلام على خمس» . (ع)(2/312)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
- لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم- تصميما على النفاق ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعاً وتفرّق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه. وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع «1» تصويراً لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقرئ: يقطع، بالياء. وتقطع، بالتخفيف. وتقطع، بفتح التاء بمعنى تتقطع.
وتقطع قلوبهم، على أن الخطاب للرسول أى إلا أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن:
إلى أن. وفي قراءة عبد الله: ولو قطعت قلوبهم. وعن طلحة: ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفاً على تفريطهم.
[سورة التوبة (9) : آية 111]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى «2» . وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضى الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً. وعن الحسن أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. وروى أن الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت «3» . قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة.
قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابىّ وهو يقرؤها فقال: كلام من؟ قال كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد «4» يُقاتِلُونَ فيه معنى الأمر، كقوله تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
__________
(1) . قوله «فيجوز أن يكون ذكر التقطيع» على قراءة تَقَطَّعَ بالتشديد، مبنيا للمفعول. (ع)
(2) . قوله «في سبيله بالشروى» كالجدوى. في الصحاح والوشاح هي المثل. والظن أنها هنا اسم للاشتراء. (ع)
(3) . أخرجه الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قال «لما بايعت الأنصار ليلة العقبة- فذكره
(4) . ذكره الثعلبي هكذا بلا سند عن البصري مرسلا لكن سنده إلى الحسن البصري أول كتابه. قلت: أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق أبى شيبة عن عطاء الخراساني عن جابر «نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى فكبر الناس في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار. فقال:
أنزلت هذه الآية؟ فقال: نعم، فقال بيع رابح. لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه عبد بن حميد: حدثنا إبراهيم هو ابن عبد الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة «لما نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى ... قال رجل من الأنصار يا لها بيعة، ما أربحها. والله لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب وغيره قالوا: قال عبد الله ابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم «اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا فإذا فعلتا ذلك فما لنا؟ قال الجنة قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل» .(2/313)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
وقرئ: فيقتلون ويقتلون على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس وَعْداً مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ كما أثبته في القرآن، ثم قال وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
[سورة التوبة (9) : آية 112]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
التَّائِبُونَ رفع على المدح. أى: هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين. ويدل عليه قراءة عبد الله وأبىّ رضى الله عنهما: التائبين، بالياء إلى: والحافظين، نصباً على المدح. ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين. وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أى: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا، كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر، أى: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق. والْعابِدُونَ الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. والسَّائِحُونَ الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم. وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه.
[سورة التوبة (9) : آية 113]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)
قيل قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب: أنت أعظم الناس علىَّ حقاً، وأحسنهم عندي(2/314)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي، فأبى، فقال: لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه «1» ، فنزلت.
وقيل: لما افتتح مكة سأل أى أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبراً فقال: إنى استأذنت ربى في زيارة قبر أمى فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزلت. وهذا أصح لأنّ موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه ما كانَ لِلنَّبِيِّ ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك.
[سورة التوبة (9) : آية 114]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قرأ طلحة وما استغفر ابراهيم لأبيه، وعنه: وما يستغفر إبراهيم، على حكاية الحال الماضية إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أى وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية: وعدها أباه. فإن قلت كيف خفى على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه: لأستغفرنّ لك ما لم أنه. وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يستغفر لآبائه المشركين، فقال: ونحن نستغفر لهم فنزلت «2» وعن على رضى الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم «3» فإن قلت: فما معنى قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ؟ قلت:
معناه: فلما تبين له من جهة الوحى أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره فهو كقوله مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. لَأَوَّاهٌ فعال، من أوه كلئال من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه. ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه «4» وقوله لأرجمنك.
__________
(1) . متفق عليه من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في حديث، وغفل الحاكم فاستدركه.
(2) . لم أجده. [.....]
(3) . أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من طريق أبى الخليل عن على قال «سمعت رجلا يستغفر لأبويه- الحديث» .
(4) . قوله «مع شكاسته عليه» أى صعوبته. وفي الصحاح: رجل شكس- بالتسكين- أى صعب الخلق. (ع)(2/315)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 116]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
يعنى ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أنّ المهدىَّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال.
والمراد بما يتقون: ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل «1» كالصدق «2» في الخبر، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف.
[سورة التوبة (9) : آية 117]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)
تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ كقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم:
__________
(1) . قال محمود: «فأما ما يدرك حظره بالعقل ... الخ» قال أحمد: هذا تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح، وأن العقل حاكم، والشرع كاشف لما غمض عليه، تابع لمقتضاه. وهذه القاعدة قد سبق بطلانها في غير ما موضع، والله الموفق.
(2) . قوله «فأما ما يعلم بالعقل كالصدق» مبنى على مذهب المعتزلة أن الحكم قد يعلم بالعقل وعند أهل السنة لا حكم قبل الشرع. (ع)(2/316)
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ «1»
وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ... عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا «2»
إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِى يَبْتَغِى الْغِنَى ... يَجِدْ جُمْعَ كَفّ غَيْرَ مَلْأَى وَلَا صِفْرِ «3»
__________
(1) .
غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعاجت صدور الخيل شطر تميم
المراد بالغداة مطلق الزمن ليناسب المدح. طفت- بالفاء- علت وارتفعت. ويروى بالغين، والمراد: العلو أيضاً. وعلماء: أصله على الماء، والمراد: ارتفع قدرهم في العز والمجد وانخفض غيرهم، كما يرتفع الشيء على وجه الماء ويرسب الآخر. أو المعنى: أنهم طغوا بالغين على أطغى شيء كالماء، فالماء طاغ على الناس وهم طاغون عليه. وفيه دلالة على الشجاعة. وبكر بن وائل: اسم أبى قبيله سميت هي باسمه. والوائل: أصله السابق الملتجئ.
وعاجت: أى أمالت صدور خيلها. وإيقاع الموج على الصدور، لأن السير والتحول من جهة إلى أخرى يظهران بها.
وشطر: أى جهة قبيلة تميم.
(2) .
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية قارعنا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
لزفر بن الحرث الكلابي من التابعين شهد وقعة صفين وغيرها. ويقال في المثل: ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة فما هنا تلميح له. والمراد بالعشية: مطلق الزمن لا آخر النهار فقط، لدلالة المقام على ذلك. والمقارعة: المضاربة بالرماح والسيوف. ويروى: ليالي لاقينا. وجذام: اسم قبيلة سميت به، وهي من اليمن كانت تنزل جبال حسمى، يقال: هي أول ما انحسر عنه الطوفان لارتفاعها. وحمير: أبو قبيلة أيضا سميت باسمه. ويروى: جذاما، بالتنوين للضرورة.
والنبع: شجر تتخذ منه الرماح. يقول: كنا ظننا أنهم ضعفاء نظفر بهم كغيرهم، فقوله «كل بيضاء شحمة» استعارة تمثيلية لذلك. وعشية: نصب بحسبنا، فلما التقت الرماح بيننا أبت أن تتكسر. وشبهها بما يصح منه الاباء على طريق الكناية. وأبت تخييل، وبعد ذلك فهو كناية عن قوة القبيلتين وعدم انخذالهما. وقيل: إنه يصفهما بالكرم وحسن القرى. فيكون الكلام كله بما فيه من المجاز والكناية، منقول من هيئة التقاء الصفوف في الحرب إلى هيئة التقاء الضيفان مع المضياف وعدم عجزه عن قراهم على طريق التمثيل، لكن العشية على حقيقتها. ومع توجيهنا له بذلك، يبعده قوله «حسبنا كل بيضاء شحمة» وهو قول من لم يقف على بقية القصيدة، فإنها مصرحة بأن المعنى محاربتهم إياهم ومكافأتهم لهم.
(3) .
إذا جاء يوما وارثي يبتغى الغنا ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصار ما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر
لحاتم الطائي. والمراد باليوم: مطلق الزمن، بخلاف النهار فانه خاص بالمحدود الطرفين، وهكذا غالب استعمال العرب، والمراد بالغنى: التركة، لأنها سببه. وجمع الكف- بالضم-: الكف المقبوضة، فهو من إضافة الصفة للموصوف. والملأى: الممتلئة. وصفر الرجل- بالكسر- وأصفر فهو مصفر: افتقر. والصفر- بالضم، وقيل بالكسر-: الخالي. والصارم: السيف القاطع. وحسم الشيء: قطعه بالحسام الشديد القطع. ويطلق على الحديد الحد. والهبر: قطع بضعة كثيرة من اللحم. والسمرة: لون بين البياض والأدمة. والخط: موضع تنسب له الرماح الجيدة. والكعب: ما بين العقدتين. والقسب: نوع من التمر صلب النوى. وريا الشيء وأربى: زاد، وقد تقلب باؤه ميما، كما روى: قد أرمى. وذراعا: تمييز، أى زاد ذراعا على العشر الأذرع، فيكون مقداره أحد عشر ذراعا، والجملة وصف لأسمر. ويحتمل أنها حال من النوى، أى: زاد النوى حال كونه مقدار ذراع على العشر من النوى، فذراعا حال في ضمن الحال وإذا أشبهت كعوبه النوى في هذه الحالة، فكل ذراع منه يزيد على عشرة كعوب. ويجوز أن ذراعا تمييز محول عن الفاعل، أى: زاد كل ذراع من هذا الأسمر على عشرة كعوب. يقول:
إذا طلب وارثي تركتي يجد أشياء حقيقة بأن يقبض عليها بالكف حرصا عليها، فقوله «جمع كف» كناية عن ذلك غير ممتلئة عند من يحب المال، وغير خالية عند ملاقى الأبطال، ويجد الثاني بدل من الأول. وشبه فرسه بالعنان في الضمور والمكانة إذا هز أى حرك، كناية عن الضرب به، وشبهه بمن يصح منه الرضا على طريق الكناية ولم يرض تخييل: أى يجد فرسا ضامراً وسيفا قاطعا ورمحا طويلا أو صلبا. وجزم المضارع في جواب إذا وهو قليل.(2/317)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر: يعتقب العشرة على بعير واحد.
وفي عسرة من الزاد: تزودوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة «1» ، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء. وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها. وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي «كاد» ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق الله مثله. وقرئ: يزيغ، بالياء. وفي قراءة عبد الله: من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبى لبابة وأمثاله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتوكيد. ويجوز أن يكون الضمير للفريق: تاب عليهم لكيدودتهم.
[سورة التوبة (9) : آية 118]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
الثَّلاثَةِ كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. ومعنى خُلِّفُوا خلفوا عن الغزو. وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم. وقرئ خُلِّفُوا أى خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم «2» . وقرأ جعفر الصادق رضى الله عنه:
خالفوا. وقرأ الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين بِما رَحُبَتْ برحبها، أى: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعا مما هم فيه وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أى قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ
__________
(1) . قوله «والاهالة الزنخة، أى الدهن المنتن. وحمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره اه من الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم» الخالفة: الذي لا خير فيه. وخلوف الفم: تغيره: اه من الصحاح. (ع)(2/318)
وَظَنُّوا وعلموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ سخط اللَّهِ إِلَّا إلى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. روى أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به. عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفنى إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفنى إلا الضنّ بك لا جرم، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال، فقال يا نفس ما خلفنى إلا حب الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله، فتأبط زاده ولحق به. قال الحسن: كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها. وعن أبى ذرّ الغفاري: أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده: كن أبا ذرّ، فقال الناس: هو ذاك، فقال: «رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» «1» وعن أبى خيثمة «2» أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال:
ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح «3» : ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب فقال: كن أبا خثيمة فكأنه. ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له. ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة قال كعب:
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي في الدلائل، قال: حدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال «لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف- فذكره مطولا»
(2) . أخرجه ابن سعد بهذا بغير سند. وذكره الواقدي في المغازي حدثنا محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبى مالك عن أبيه عن جده قال سألت زيد بن ثابت عن غزوة تبوك. فذكر القصة الطويلة وفيه وكان أبو خيثمة ويسمى عبد الله ابن خيثمة- السالمى رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام، حتى دخل على امرأتين له في يوم حار- فذكره وأخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي من طريقه قال حدثني عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم «أن أبا خيثمة سالم- فذكره. وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق إبراهيم بن سعد بن خيثمة حدثنا أبى عن أبيه قال: تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حتى مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطا- فذكر الحديث نحوه» وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك الطويل «فلما بلغ تبوك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل كعب بن مالك فذكر الحديث وفيه: فبينما هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة.
(3) . قوله «في الضح والريح» الضح الشمس. ويزهاه السراب: يرفعه اه من الصحاح. (ع)(2/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ علىّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال: ليت شعري ما خلف كعباً؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاماً «1» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع «2» : أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربى ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر: «أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ثم تلا علينا الآية. وعن أبى بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال:
إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 121]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
مَعَ الصَّادِقِينَ وقرئ: من الصادقين وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وقيل: هم الثلاثة، أى كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وعن ابن عباس
__________
(1) . متفق عليه من حديث عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك مطولا، وقال فيه فقال رجل من بنى سلمة حبسه برداه فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت- الحديث» قال المخرج: الوهم فيه من المصنف. وأخرجه أحمد وفيه: فقال رجل من قومي يا رسول الله خلفه برداه والنظر في عطفيه» وأفاد الواقدي في المغازي: أن الذي قال ذلك عبد الله بن قيس.
(2) . قوله «من ذروة سلع» سلع هو جبل بالمدينة، اه من الصحاح. (ع) [.....](2/320)
رضى الله عنه: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أى كونوا مع المهاجرين والأنصار، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضى الله عنه «1» : ولا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه. اقرموا إن شئتم: وكونوا مع الصادقين. فهل فيها من رخصة؟
وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أمروا بأن يصحبوه على البأساء. والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعزُ نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت «2» فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا «3» بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله: ما كان لهم أن يتخلفوا، من وجوب مشايعته، كأنه قيل ذلك الوجوب «ب» سبب بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ شيء من عطش، ولا تعب. ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ولا يرزءونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام «4» : «آخر وطأة وطئها الله بوج «5» » والموطئ إمّا مصدر كالمورد، وإمّا مكان. فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار: يغيظهم وطؤه. والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، وأن يكون بمعنى المنيل. ويقال: نال منه إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكيهم ويلحق بهم ضرراً. وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية وهب بن جرير عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن أبيه، موقوفا وكذا أخرجه إسحاق في مسنده عن وهب ورواه البيهقي في الشعب مختصراً. ورواه الحاكم مرفوعا بما من رواية أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه «لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجزه» .
(2) . قوله «تتهافت» أى تتساقط. (ع)
(3) . قوله «يربئوا» أى يرتفعوا. اه من الصحاح. (ع)
(4) . أخرجه أحمد وابن سعد والطبراني والبيهقي في الأسماء من حديث يعلى بن مرة الثقفي في أثناء حديث وأخرجه إسحاق والبيهقي أيضاً والطبراني من رواية عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم.
(5) . قوله «بوج» هي بلد بالطائف اه صحاح. (ع)(2/321)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
ومشى وكلام وغير ذلك، وكذلك الشر. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضى الحرب «1» ، وأمدّ أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه المهاجر بن أبى أمية وزياد بن أبى لبيد بعكرمة بن أبى جهل مع خمسمائة نفس، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم «2» . عند الشافعي: لا يشارك المدد الغانمين. وقرأ عبيد ابن عمير: ظماء بالمدّ. يقال: ظمئ ظماءة وظماء وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة ولو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أى أرضاً في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال. ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض.
يقولون: لا تصلّ في وادى غيرك إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك من الإنفاق وقطع الوادي: ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلق بكتب أى أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن «3» .
__________
(1) . لم أره هكذا. وقد عزاه الطيبي لأبى داود والترمذي. وفي الصحيحين عن أبى موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي. أنا أصغرهم- الحديث قال: فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا أصحاب سفينتنا» .
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب «أن أبا بكر بعث عكرمة بن أبى جهل ممدا للمهاجر بن أبى أمية، وزياد بن أسد. فانتهوا إلى القوم وقد فتح عليهم. قال:
فأشركهم في الغنيمة» رواه الواقدي في المغازي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عقبة عن الحرث بن فضيل قال: لما جاء كتاب زياد بن لبيد- فذكر نحوه.
(3) . قال محمود: «معناه أن نفير الكافة لطلب العلم غير ممكن ... الخ» . قال أحمد: قوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً على التفسير الأول: أمر لا نهى. وعلى الثاني: خبر والمراد به النهى، لأنه في الأول راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزاً أو واجبا، وإن لم يمكن وجب على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية. وأما في الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد أجمعين وكان ذلك ممكنا بل واقعا، فنهوا عن إطراح التفقه بالكلية وأمروا به أمر كفاية والله أعلم. قال أحمد: ولا أجد في تأخرى عن حضور الغزاة عذراً إلا صرف الهمة لتحذير هذا المصنف، فانى تفقهت في أصل الدين وقواعد العقائد مؤيداً بآيات الكتاب العزيز مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع ذلك أرجو من الله حسن التوجه بلغنا الله الخير، ووفقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.(2/322)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فَلَوْلا نَفَرَ فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّداء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم «1» إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شر ذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً. ووجه آخر: وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثا- بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد- استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحى والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله لِيَتَفَقَّهُوا الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
[سورة التوبة (9) : آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
يَلُونَكُمْ يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم «2» ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشأم. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك
__________
(1) . قوله «وانقلاب حماليق أحدهم» الحماليق: هي ما يسوده الكحل من باطن الجفن. وقيل: ما غطته الأجفان من بياض المقلة. اه من الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ... الخ» قال أحمد: يتعين القتال على أحد فريقين: إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه، ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا. وإما من عينهم الامام لذلك وإن بعدت بهم الدار. وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره، فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.(2/323)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
وخيبر. وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى.
وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم. وقرئ غِلْظَةً بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطه، والغاظة كالسخطة ونحوه وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَلا تَهِنُوا وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ. مَعَ الْمُتَّقِينَ ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه
[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به.
وأيكم: مرفوع بالابتداء. وقرأ عبيد بن عمير: أيكم، بالفتح على إضمار فعل يفسره زادَتْهُ تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفراً مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحى كفراً ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 126 الى 127]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)
قرئ: ولا يرون، بالياء والتاء يُفْتَنُونَ يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى «1»
__________
(1) . قال محمود: «معناه تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى ... الخ» قال أحمد: يحتمل الدعاء كما فسره. ويحتمل الاخبار بأن الله صرف قلوبهم أى منعها من تلقى الحق بالقبول، ولكن الزمخشري يفر من جعله خبرا لأن صرف القلوب عن الحق لا يجوز على الله تعالى عنده، بناء على قاعدة الصلاح والأصلح، ولا يزال يؤول الظاهر إذا اقتضى ذلك كما مر له في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلما احتملت هذه الآية الدعاء والخبر على حد سواء، تعين عنده جعلها دعاء، ثم في هذا الدعاء مناسبة الفعل الصادر منهم وهو الانصراف، كقوله وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وكقوله وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.(2/324)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وسخرية به قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد. وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يتدبرون حتى يفقهوا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم ومن نسبكم عربى قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أى شديد عليه شاق- لكونه بعضاً منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وقرئ: من أنفسكم، أى من أشرفكم وأفضلكم. وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضى الله عنهما. وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه، فهو كافيك معرّتهم «1» ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم.
وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن ابن عباس رضى الله عنه: العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبىّ ابن كعب: آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما نزل علىّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا علىّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» «2»
__________
(1) . قوله «فهو كافيك معرتهم» المعرة: الإثم، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من حديث عائشة بإسناد واه.(2/325)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
سورة يونس
(مكية، [إلا الآيات 40 و 94 و 95 و 96 فمدنية] وهي مائة وتسع آيات [نزلت بعد الإسراء] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)
الر تعديد للحروف على طريق التحدي. وتِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة. والْحَكِيمِ ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها.
أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى:
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِى المُلُوكَ حَكِيمَة ... قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا «1»
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه. وأَنْ أَوْحَيْنا اسم كان، وعجباً: خبرها. وقرأ ابن مسعود: عجب، فجعله اسماء وهو نكرة وأَنْ أَوْحَيْنا خبراً وهو معرفة، كقوله:
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاء «2»
__________
(1) . للأعشى. أى: ورب قصيدة غريبة حكيمة ناطقة بالحكمة دالة عليها، أو حكيم قائلها، فهو من الاسناد للسبب، لأنها سبب في وصف قائلها بالحكمة. قد قلتها ليتعجب الناس ويقولوا من هذا الشاعر البليغ الذي قالها. وذا: اسم إشارة في لغة الحجاز، واسم موصول في لغة طيئ، وهي أقرب هنا، فجملة «قالها» صلة الموصول. [.....]
(2) .
كأن سلافة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غصن ... من التفاح هصره اجتناء
لحسان بن ثابت قبل تحريم الخمر. والسلافة: أول ما يسيل من ماء العنب. ويروى «سبيئة» أى مشتراة. يقال:
سبأ الخمر كنصر، إذا اشتراها. ويروى خبيئة: أى مصونة في الخابية. وبيت رأس: قرية بالشام. وقيل:
المراد بالرأس الرئيس، وشرابها أطيب من غيره، و «مزاجها» خبر يكون مع أنه معرفة. و «عسل» اسمها مع أنه نكرة، وكان القياس العكس فقلب للضرورة. وجوزه ابن مالك في معمول «كان» و «إن» فلا قلب. وقال الفارسي:
إن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية. وروى برفع الكلمات الثلاث، على أن اسم كان ضمير الشأن. وقول ابن السيد: بزيادة «كان» هنا: غير مرضى، لأن زيادة المضارع لا ترتكب إلا عند الضرورة، ويروى بنصب العسل فقط، فهو خبر ورفع ماء. بتقدير: وخالطها ماء. وجملة الكون صفة سلافة. وعلى أنيابها: خبر «كأن» الشدة. والمزاج: ما يمزج به غيره. والمراد بالأنياب: الثغر كله. والغض: الطري الرطب. والهصر: عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجنى ثمره. والتهصير: مبالغة فيه. وروى «الجناء» بدل «الاجتناء» .
وهو بالقصر مصدر. لكن مد هنا ضرورة. وإسناد التهصير إلى ذلك مجاز عقلى، من باب الاسناد للسبب.
وإيقاعه على التفاح على تقدير مضاف، أى: هصر غصنه. ويروى: أو طعم غصن، فلا تجوز في تهصيره. لكن إضافة طعم إليه على تقدير مضاف. أى طعم ثمر غصن، شبه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصته الجاني ليجتنيه، إشارة إلى أنه مجنى الآن لم يمض عليه شيء من الزمان، وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرفة واللين والميلان.(2/326)
والأجود أن تكون «كان» تامّة، وأن أوحينا بدلا من عجب. فإن قلت: فما معنى اللام في قوله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجباً؟ قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في عند الناس هذا المعنى، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم «1» دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم. وقال الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً، لأنّ الله تعالى إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة. والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن هي المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر الناس، على معنى: أن الشأن قولنا أنذر الناس. وأَنَّ لَهُمْ الباء معه محذوف قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة «2» . فإن قلت: لم سميت السابقة
__________
(1) . قوله «من أفناء رجالهم» في الصحاح: يقال هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(2) . قال محمود: «أى سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ... الخ» قال أحمد: ولم يرد في سابقة السوء تسميتها قدما، إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا ولكن غلب العرف على قصرها كما يغلب في الحقيقة، والله أعلم.(2/327)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قدما؟ قلت: لما كان السعى والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد، وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة وقيل: مقام صدق إِنَّ هذا إن هذا الكتاب وما جاء به محمد لَساحِرٌ ومن قرأ: لساحر، فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً. وفي قراءة أبىّ: ما هذا إلا سحر.
[سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 4]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
يُدَبِّرُ يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً. والْأَمْرَ أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت:
قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ دليل على العزة والكبرياء، كقوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وذلِكُمُ إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أى ذلك العظيم «1» الموصوف بما وصف به هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة فَاعْبُدُوهُ وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع أَفَلا تَذَكَّرُونَ فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أى لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وحَقًّا مصدر مؤكد لقوله وَعْدَ اللَّهِ. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وقرئ: أنه يبدؤ
__________
(1) . قوله «ذلك العظيم» لعله ذلكم. (ع)(2/328)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
الخلق، بمعنى لأنه. أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله: أى وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته. والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه. وقرئ: وعد الله، على لفظ الفعل. ويبدئ، من أبدأ. ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقا، أى حقّ حقا بدأ الخلق، كقوله:
أَحَقَّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِياً ... وَلَا ذَاهِباً إلّا عَلَىَّ رَقِيبُ «1»
وقرئ: حق أنه يبدؤ الخلق، كقولك: حق أنّ زيداً منطلق بِالْقِسْطِ بالعدل، وهو متعلق بيجزى. والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم. أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم. قال الله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والعصاة ظلام أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (10) : آية 5]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
الياء في ضِياءً منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها. وقرئ: ضئاء بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق: عقا. والضياء أقوى من النور وَقَدَّرَهُ وقدّر القمر. والمعنى وقدّر مسيره مَنازِلَ أو قدّره ذا منازل، كقوله تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ. وَالْحِسابَ وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ذلِكَ إشارة إلى المذكور أى ما خلقه إلا ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً. وقرئ: يفصل، بالياء.
[سورة يونس (10) : آية 6]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
__________
(1) .
أحقا عباد الله أن لست جائياً ... ولا ذاهبا إلا على رقيب
ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب
لعبد الله بن الدمينة الخثعمي. وقيل: لقيس بن الملوح. قال المرزوقي: أحقاً انتصب عند سيبويه على الظرفية، كأنه قال: أفى الحق ذلك، لأنهم كثيراً ما يقولون: أفى الحق كذا. وعند المبرد على المفعولية المطلقة، أى أحق ذلك حقاً، لأنه مصدر. وعباد الله: منادى. وروى: أن لست وارداً ولا صادراً. والمعنى واحد. والرقيب:
المانع من لقاء الحبيب. ويجوز أن يراد به ما في قوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أى مناظر حاضر.
أو قوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ.(2/329)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
[سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ. وَاطْمَأَنُّوا بِها وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً.
[سورة يونس (10) : الآيات 9 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة «1» على سلوك السبيل المؤدّى إلى الثواب، ولذلك جعل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بيانا له وتفسيرا، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. ويجوز أن يريد: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ومنه الحديث: «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار «2» » فإن قلت: فلقد دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة، هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح.
__________
(1) . قال محمود: «معناه يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة ... الخ» قال أحمد: هو يقرر بذلك زعمه في أن شرط دخول الجنة العمل الصالح، وأن من لم يعمل مخلد في النار كالكافر، وأنى له ذلك وقد جعل الله سبب الهداية إلى الجنة مطلق الايمان، فقال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ وقول الزمخشري «أن المراد إضافة العمل» لا ينتهض عن حيز الدعوى، فان الله لم يعلل بغير الايمان وإن جرى لغيره ذكر أولا فلا يلزم إجراؤه ثانياً ولا محوج إليه. وشبهته أن الايمان المجهول سبباً مضاف إلى ضمير الصالحين، فيلزم أخذ الصلاح قيداً في التسبب، وهو ممنوع، فان الضمير إنما يعود على الذوات لا باعتبار الصفات وقد تقدمت لهذه المباحثة أمثال وأشكال، والله الموفق.
(2) . أخرجه الطبري من طريق سعيد عن قتادة قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن المؤمن إذا خرج من قبره- فذكره» وروى ابن أبى شيبة من طريق عمرو بن قيس عن عطية عن ابن عمر قال «يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره عمله في أحسن صورة. فذكر نحوه بتمامه.(2/330)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. قلت: الأمر كذلك. ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال: إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ثم قال: بإيمانهم، أى بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه دَعْواهُمْ دعاؤهم، لأن «اللهمّ» نداء لله ومعناه: اللهمّ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: اللهمّ إياك نعبد ولك نصلى ونسجد. ويجوز أن يراد بالدعاء: العبادة وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ على معنى أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة، كقوله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. وَآخِرُ دَعْواهُمْ وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أَنِ يقولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ومعنى وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أنّ بعضهم يحيى بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول. وقيل: تحية الله لهم. وأن هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن، كقوله:
أَنْ هالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ «1»
وقرئ: أنّ الحمد لله، بالتشديد ونصب الحمد.
[سورة يونس (10) : آية 11]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أصله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضع تعجيله لهم الخير «2» إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير
__________
(1) .
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
للأعشى ميمون بن قيس. والحانوت: محل البيع والشراء. والمراد: محل بيع الطعام والشراب. يتبعني شاو:
أى غلام يشوى اللحم. مشل: أى مسرع. شلول: خفيف في العمل: شلشل: بالضم، أى ماض في الخدمة وقضاء الحوائج: شول- ككتف- خفيف في العمل. وقيل: مخرج للحم من القدر. في فتية: أى حال كوني مع فتيان كسيوف الهند في إنفاذ العزائم في المكارم. أو في بياض الوجوه وتهللها. والأول أنسب بقوله: قد علموا أنه، أى الحال والشأن. هالك وفان كل حاف: غير لابس للنعل، ومنتعل: لابس له، وهما كناية عن الفقير والغنى، وإذا استويا في الغنى فلا معنى للبخل الذي لا يوجب البقاء. ويجوز أنهما كناية عن جميع الناس مبالغة في التعميم.
(2) . قال محمود: «فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضاً من تنبيهات الزمخشري الحسنة التي تقوم على دقة نظره شاهدة وبينة، ولا يكاد وضع المصدر مؤكداً أو مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من مثل هذه الفائدة الجليلة. والنحاة غايتهم أن يقولوا في قوله تعالى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنه اجرى المصدر على الفعل مقدراً عدم الزيادة. أو هذا المصدر لفعل دل عليه المذكور تقديره: نبتم نباتا، ولا يزيدون على ذلك، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فسكرته، هل قرن المصدر في كتاب الله بغير فعله لفائدة أو لا- تسور بلطف النظر على مثل هذه الفوائد العلية مراتبها، فالفائدة- والله أعلم- في اقتران قوله نَباتاً بقوله أَنْبَتَكُمْ التنبيه على تحتم نفوذ القدرة في المقدور، وسرعة إمضاء حكمها حتى كان إنبات الله لهم نفس نباتهم أى إذا وجد من الله الانبات وجد لهم النبات حتما فكان أحد الأمرين عين الآخر فقرن به والله أعلم.(2/331)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا. وقرئ:
لقضى إليهم أجلهم، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، وتنصره قراءة عبد الله: لقضينا إليهم أجلهم فإن قلت، فكيف اتصل به قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وما معناه؟
قلت: قوله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم فِي طُغْيانِهِمْ أى فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.
[سورة يونس (10) : آية 12]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)
لِجَنْبِهِ في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه أى دعانا مضطجعاً أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً. فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها- إن كان منبطحاً عاجز النهض «1» متخاذل النوء «2» أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب- إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة «3» بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس مَرَّ أى مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد. أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا، كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن قال:
__________
(1) . قوله «عاجز النهض» نهض نهضاً ونهوضاً: قام. (ع)
(2) . قوله «متخاذل النوء» في الصحاح: ناء ينوء نوآ إذا نهض يجهد ومشقة. (ع)
(3) . قوله «والمسحة» في الصحاح: وعلى فلان مسحة من جمال. (ع)(2/332)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ «1»
كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.
[سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 14]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
لَمَّا ظرف لأهلكنا: والواو في وَجاءَتْهُمْ للحال، أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً، تأكيداً لنفى إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء يعنى الإهلاك نَجْزِي كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ. يجزى، بالياء ثُمَّ جَعَلْناكُمْ الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أى استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا لِنَنْظُرَ أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. وكَيْفَ في محل النصب بتعملون لا ينتظر، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة «2»
__________
(1) .
ونحر مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان
أى: ورب نحر ويروى بالرفع عطفا على شيء تقدم، أى ولها. والنحر: موضع القلادة من الصدر. ويروى:
وصدر مشرق، أى أبيض مضيء. ويروى: وصدر مشرق النحر. ويروى: ووجه مشرق اللون، وكأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقال أبو حيان: لا حاجة للاضمار عند الإهمال. وروى: كأن ثدييه بالأعمال مع التخفيف وهو قليل. وإضافة الثديين لضمير النحر للملابسة ولضمير الوجه على تقدير مضاف، أى: ثديا صاحبته. والحقان: تثنية حق وهو ما يعمل من العاج ونحوه، يوضع فيه أعز الأشياء. وقيل تثنية حقة، وحذفت منه التاء.
(2) . قال محمود: «إن قلت كيف جاز النظر على الله تعالى ... الخ» قال أحمد: وكنت أحسب أن الزمخشري يقتصر على إنكار رؤية العبد لله تعالى، فضم إلى ذلك إنكار رؤية الله، والجمع بين هذين النزغتين عقيدة طائفة من القدرية، يقولون: إن الله لا يرى ولا يرى، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا. وتقدم إبطال دعواهم أن النظر يستلزم المقابلة والجسمية فلا نعيده، والله الموفق. [.....](2/333)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.
[سورة يونس (10) : آية 15]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا ائْتِ بِقُرْآنٍ آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي. وقرئ بفتح التاء: من غير «1» أن يأمرنى بذلك ربى إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ لا آتى ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلا متبعاً لوحى الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل والنسخ من عند نفسي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون: افترى على الله كذبا، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله. مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت: لعلهم أرادوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، من جهة الوحى كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله: ما يَكُونُ لِي ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت:
يردّه قوله إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي. فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل، فإمّا أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.
__________
(1) . قوله «من غير» لعله «أى من غير» . (ع)(2/334)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
[سورة يونس (10) : آية 16]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أُمىّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم «1» أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به وَلا أَدْراكُمْ بِهِ ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ الحسن: ولا أدراتكم به، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس:
ولا أنذرتكم به. ورواه الفراء: ولا أدرأتكم به، وبالهمز. وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت «2» السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد. ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا. والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤوننى بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير: ولأدراكم به، بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً وقرئ عُمُراً بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعلموا أنه ليس إلا من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.
[سورة يونس (10) : آية 17]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
__________
(1) . قوله «ظهرانيكم» في الصحاح: ظهرانيهم- بفتح النون. (ع)
(2) . قوله «وحلأت» أى جعلته حلوا. (ع)(2/335)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.
[سورة يونس (10) : آية 18]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة وَكانوا يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وعن النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيأ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ: أتنبئون، بالتخفيف. وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم يُشْرِكُونَ قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية، أى عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 19 الى 20]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ(2/336)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل عليه آية قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغىّ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أى هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
[سورة يونس (10) : آية 21]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحيا، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه، و «إذا» الأولى للشرط، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة، والمكر: إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى مَسَّتْهُمْ خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله أَسْرَعُ مَكْراً؟ قلت: بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ: يمكرون، بالتاء والياء. وقيل: مكرهم قولهم سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: إنّ الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا «1» .
[سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
__________
(1) . أخرجه إسحاق والطبري: والثعلبي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم اليمنى عن أبى سلمة عن أبى هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى ليصبح عباده بالنعمة أو ليمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرون، يقولون:
مطرنا بنوء كذا وكذا» قال محمد فذكرت الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن سمعناه من أبى هريرة. ولمسلم من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا «قال الله تعالى: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين، يقولون: الكوكب وبالكوكب مطرنا» .(2/337)
قرأ زيد بن ثابت: ينشركم. ومثله قوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ.
فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر»
، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك «2» والدعاء بالإنجاء. فإن قلت:
ما جواب «إذا» ؟ قلت: جاءتها. فإن قلت: فدعوا؟ قلت: بدل من ظنوا، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟
قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: في الفلكي، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمرى. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف جعل الكون في الفلك غاية ... الخ» قال أحمد: وهذه أيضا من نكتة التي لا يكتنه حسنها، وقد مر لي قبل الوقوف عليها مثل هذا النظر بعينه في توأمتها، وذلك عند قوله تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وقد استدل الزمخشري بها لأبى حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ بأن يسلم إليه قدر من المال يمتحن فيه، خلافا لمالك، فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ قال الزمخشري: ووجه الاستدلال أن الله تعالى جعل البلوغ غاية الابتلاء، فيلزم وقوع الابتلاء قبله ضرورة كونه مغيا به. واعترضت هذا الاستدلال فيما سلف بأن المجعول غاية هو حمله ما في حيز «حتى» من البلوغ مقرونا بإيناس الرشد، وهذا المجموع هو الذي يلزم وقوعه بعد الابتلاء، ولا يلزم من ذلك أن يقع كل واحد من مفرديه بعد الابتلاء، بل من الممكن أن يقع أحدهما قبل والآخر بعد، فلا يحصل المجموع إلا بعد الابتلاء. ويوضح ذلك هذه الآية، فانه تعالى جعل غاية تسييرهم في الفلك كونهم فيها، مضافا إلى ما ذكر معه. ونحن نعلم أن كونهم في الفلك- وذلك أحد ما جعل غاية- متقدم على التسيير وإن كان المجموع واقعا، كوقوع الحادثة بجملتها بعد الكون في الفلك والله أعلم. وإنما بسطت القول هاهنا لفواته ثم، فجدد بما مضى عهدا.
(2) . قوله «والظن للهلاك» عبارة النسفي: بالهلاك. (ع)(2/338)
والضمير في جَرَيْنَ للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخى فعل «1» . وفي قراءة أمّ الدرداء: للفلك، أيضاً، لأنّ الفلكي يدلّ عليه جاءَتْها جاءت الريح الطيبة، أى تلقتها.
وقيل: الضمير للفلك مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع أمكنة الموج أُحِيطَ بِهِمْ أى أهلكوا جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه لَئِنْ أَنْجَيْتَنا على إرادة القول. أو لأن دَعَوُا من جملة القول يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك:
بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت: فما معنى قوله بِغَيْرِ الْحَقِّ والبغي لا يكون بحق؟ قلت:
بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم «2» كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قرئ: متاع الحياة الدنيا، بالنصب. فإن قلت:
ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو بَغْيُكُمْ وعَلى أَنْفُسِكُمْ صلته، كقوله فَبَغى عَلَيْهِمْ ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت عَلى أَنْفُسِكُمْ خبر غير صلة، معناه. إنما بغيكم وبال على أنفسكم، ومَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً» «3» وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة» «4» وروى: «ثنتان يعجلهما الله
__________
(1) . قوله «كالأسد في فعل» أى كما جاء «فعل» بالضم في «فعل» بفتحتين، كأسد في أسد، جاز مجيء «فعل» بالضم في فعل «بالضم» كفلك في فلك، وذلك لأن «فعلا» بفتحتين و «فعلا» بالضم أخوان، لأنهما يشتركان في الشيء الواحد، كالعرب والعرب والعجم والعجم، والرهب والرهب. فما جاز في أحدهما لا يمنع في الآخر، وقد جاز «فعل» بالضم في «فعل» بالفتح، فليجز «فعل» بالضم في «فعل» بالضم، لأنهما أخوات. كذا في الصحاح، فتأمله. (ع)
(2) . متفق على معناه من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.
(3) . أخرجه ابن المبارك في الزهد: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري: قال «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تمكر ولا تعن ماكرا، فان الله تعالى يقول وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولا تبغ ولا تعن باغيا، فان الله تعالى يقول إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «ولا تنكث ولا تعن ناكثا» فان الله تعالى يقول فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وفي مستدرك الحاكم بعضه من حديث أبى بكرة مرفوعا «لا تبغ ولا تعن باغيا فان الله تعالى يقول إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
(4) . أخرجه إسحاق في مسنده عن جرير عن برد بن يسار عن مكحول رفعه «أعجل الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، تدع الديار بلاقع» ولأبى يعلى من حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رفعته «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم. وأسرع الشر عقوبة البغي» .(2/339)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
تعالى في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين» «1» وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي «2» . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يَا صَاحِبَ الْبَغْىِ إنَّ الْبَغْىَ مَصْرَعَةٌ ... فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَلٍ ... لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ «3»
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى:
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.
[سورة يونس (10) : آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف ونكائف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه «4» فَاخْتَلَطَ بِهِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل ازَّيَّنَتْ تزينت،
__________
(1) . أخرجه إسحاق في مسنده والطبراني من حديث عبد الله بن أبى بكرة عن أبيه. والبخاري في الأدب المفرد من رواية بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن جده رفعه «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين، فانه يعجل لصاحبه في الدنيا قبل الموت» .
(2) . أخرجه البخاري في الأدب حدثنا أبو نعيم حدثنا قطر بن خليفة عن أبى يحيى القتات سمعت مجاهدا عن ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا. ورواه ابن المبارك في الزهد عن قطر عن يحيى عن مجاهد مرسلا. ورواه البيهقي في الشعب من طريق الأعمش عن أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس. ورواه ابن مردويه عن أنس رضى الله عنه أخرجه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة أحمد بن الفضل. وقال: إنه كان يضع الحديث.
(3) . كان المأمون بن الرشيد يتمثل بهما في بغى أخيه عليه، وكرر لفظ البغي تنفيرا عنه، وشبهه بالمصرعة لأن صاحبه يرتبك فيه في العاقبة وربما هلك. وربع يربع، إذا لم يتجاوز قدر نفسه. فاربع: أى الزم قدرك واعدل في فعلك. والفعال- بالفتح-: غالب في فعل الخير. والمراد هنا مطلق الفعل، أى: فخير عمل المرء أقومه، فلو بغى جبل على جبل يوما من الأيام لعوقب واندك منه أعاليه. ويلزم منه اندكاك أسافله. وهذا عقد قول ابن عباس رضى الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي.
(4) . قوله «ورفيفه» أى يرفقه وتلألؤه. وشجر رفيف: إذا تندت أوراقه، كذا في الصحاح. (ع) [.....](2/340)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
فأدغم. وبالأصل قرأ عبد الله. وقرئ: وأزينت، أى أفعلت، من غير إعلال الفعل كأغيلت أى صارت ذات زينة. وازيانت، بوزن ابياضت قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها أَتاها أَمْرُنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها حَصِيداً شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم يغن زرعها، أى لم ينبت «1» على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلا لم يستقم المعنى. وقرأ الحسن: كأن لم يغن، بالباء على أنّ الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع. وعن مروان أنه قرأ على المنبر: كأن لم تتغن بالأمس، من قول الأعشى:
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّى «2»
والأمس مثل في الوقت القريب «كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً.
[سورة يونس (10) : آية 25]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
دارِ السَّلامِ الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها. وقيل السلام السلامة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً وَيَهْدِي ويوفق مَنْ يَشاءُ وهم الذين علم أنّ اللطف يجدى عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون.
__________
(1) . قوله «أى لم ينبت» لعله لم يثبت. وفي الصحاح: غنى بالمكان أى أقام، وغنى أى عاش. (ع)
(2) .
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... طويل الثواء طويل التغن
فأثبت قيسا ولم آته ... على نأيه ساد أهل اليمن
فجئتك مرتاد ما أخبروا ... ولولا الذي خبروا لم ترن
للأعشى، يستمنح قيس بن معديكرب ويقول: وكنت رجلا طويل الثواء في العراق، طويل التغني فيه دهراً طويلا، فزمنا: ظرف. ويجوز قراءته: زمنا، كحذر: أى هرم، والثواء: الاقامة. وغنى بالمكان يغنى، كرضى يرضى:
أقام ومكث. وقد يقال: تغنى تغنيا كترضى ترضيا، إذا تمكث وتلبث. فالتغنى- بالتشديد-: مصدر حذفت لامه عند الوقف وإن كان حذفها قليلا، فأنبئت قيسا والحال أنى لم أجئه: مع أنه ناء أى بعيد عنى» أى مع بعده ساد أهل اليمن بجوده وكرمه على أهل الأرض، فجملة «ساد» في محل المفعول الثاني، ثم بعد ما قدم المدح التفت إلى خطابه بقوله: فجئتك مرتادا ومتعرفا ومتطلبا لما أخبروا به من كرمك وجودك، وإضافة مرتاد للموصول لا تفيده التعريف، لأنها إضافة الوصف لمعموله لفظيا، فصح وقوعه حالا، ولولا الذي خبروني به لم تنظرني عندك ولم أجئ إليك. وروى: ولم أبله، من بلاه يبلوه إذا اختبره. وروى خبر أهل اليمن أى أنبئته والحال أنى لو أختبره أفضل أهل اليمن، فجئتك مختبراً لحالك.(2/341)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
[سورة يونس (10) : آية 26]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)
الْحُسْنى المثوبة الحسنى وَزِيادَةٌ وما يزيد على المثوبة وهي التفضل. ويدل عليه قوله تعالى وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وعن علىّ رضى الله عنه: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحسنى: الحسنة، والزيادة: عشر أمثالها. وعن الحسن رضى الله عنه:
عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد رضى الله عنه: الزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وعن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة «1» أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى «2» وجاءت بحديث مرقوع «3» «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه» «4» وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ ولا أثر هوان وكسوف بال. والمعنى لا يرهقهم ما يرهق
__________
(1) . قوله «وزعمت المشبهة والمجبرة» يريد أهل السنة القائلين بجواز رؤيته تعالى ووقوعها في الآخرة، خلاف المعتزلة في ذلك. (ع)
(2) . ذكر محمود في الزيادة تفاسير كثيرة، ثم قال: وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ... الخ، قال أحمد: نسبة تفسير الزيادة برؤية الله تعالى إلى زعم أهل السنة الملقبين عنده بالمشبهة والمجبرة:
مرور على ديدنه المعروف في التكذيب بما لم يحط به علما، وهذا التفسير مستفيض منقول عن جملة الصحابة، والحديث المروي فيه مدون في الصحاح متفق على صحته، وقد جعل أهل السنة جاءوا به من عند أنفسهم، ومن قبل قال المصرون على الكفر لسيد البشر وصاحب السنة: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، حملا له على أنه جاء به من عنده، فلأهل السنة إذاً أسوة بصاحبها، ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فابتلاء الحق بالباطل قديم، والله الموفق. وإن في قوله تعالى على أثر ذلك وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ مصداقا لصحة هذا التفسير، فان فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى فجدير بهم أن لا يرهق وجوههم قتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين فان وجوههم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد. نسأله الله الكفاية. فأولئك يغشى وجوههم أنوار المشاهدة، وهؤلاء يغشى وجوههم كقطع الليل المظلم، منهم شقى وسعيد.
(3) . قوله «بحديث مرقوع بالقاف، أى مفترى، كذا قيل. وهو في مقابلة المرفوع بالفاء، أى المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (ع)
(4) . قال الطيبي: قوله «مرقوع» هو عنده بالقاف أى مرقع معدى. وهو عند أهل السنة بالفاء اه. وقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب. ورواه الترمذي وقال: كذا رفعه حماد بن سلمة. وقد رواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قوله. انتهى. وفي الباب عن أبى موسى مرفوعا أخرجه الطبراني في مسند الشاميين. وللطبري. وعن ابن عمر وأنس أخرجهما ابن مردويه باسنادين ضعيفين. وعن أبى بكر الصديق أخرجه إسحاق في مسنده من رواية عامر بن سعد عنه. وعن ابن عباس وعلى أخرجهما ابن مردويه أيضا.(2/342)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
أهل النار إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
[سورة يونس (10) : آية 27]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)
فإن قلت: ما وجه قوله وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وكيف يتلاءم؟ قلت:
لا يخلو، إمّا أن يكون وَالَّذِينَ كَسَبُوا معطوفاً على قوله الَّذِينَ أَحْسَنُوا كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.
وقرئ: يرهقهم ذلة، بالياء مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أى لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه. ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين مُظْلِماً حال من الله. ومن قرأ قِطَعاً بالسكون من قوله بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ جعله صفة له. وتعضده قراءة أبىّ بن كعب:
كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. فإن قلت: إذا جعلت مظلماً حالا من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يكون أُغْشِيَتْ من قبل إن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقوله قِطَعاً فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ.
[سورة يونس (10) : آية 28]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)
مَكانَكُمْ الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وأَنْتُمْ أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله الزموا وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه. وقرئ وَشُرَكاؤُكُمْ على أنّ الواو بمعنى مع، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم. والوصل «1» التي كانت بينهم في الدنيا. أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في
__________
(1) . قوله «أقرانهم» مفرده «قرن» بالتحريك وهو حبل يقرن به البعيران، كما في الصحاح. وقوله «والوصل» مفرده «وصلة» أى اتصال وذريعة، كما في الصحاح أيضا. (ع)(2/343)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
الموقف. وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا. وقرئ: فزايلنا بينهم، كقولك: صاعر خدّه وصعره، وكالمته وكلمته. ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم.
[سورة يونس (10) : الآيات 29 الى 30]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
إِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولى العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم هُنالِكَ في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ تختبر وتذوق ما أَسْلَفَتْ من العمل فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله. ومنه قوله تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وعن عاصم: نبلو كلَّ نفس، بالنون ونصب كل: أى نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنعرف حالها بمعرفة حال عملها: إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان سيئاً فهي شقية. والمعنى: نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر. وقرئ: تتلو، أى تتبع ما أسلفت، لأنَّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شر مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم الصادق ربوبيته، لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً. وقرئ: الحق، بالفتح على تأكيد قوله رُدُّوا إِلَى اللَّهِ كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل. أو على المدح كقولك: الحمد لله أهل الحمد وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله. أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.(2/344)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أى يرزقكم منهما جميعاً، «1» لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال فَذلِكُمُ إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ يعنى أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء كَذلِكَ مثل ذلك الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أى كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أى تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة أى حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن. أو أراد بالكلمة: العدة بالعذاب، وأنهم لا يؤمنون تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون.
[سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 35]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
__________
(1) . قال محمود: «معناه أى من يرزقكم منهما جميعا ... الخ» قال أحمد: وهذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة، فمنها ما رزقه الله العبد وهو الحلال، ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام وهذه الآية ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ.(2/345)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
فإن قلت: كيف قيل لهم هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن رفعه دافع كان مكابراً رادّا للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم. يقال: هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى اشترى. ومنه قوله أَمَّنْ لا يَهِدِّي «1» وقرئ لا يهدّى بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال. والأصل: يهتدى، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. وقرئ: إلا أن يهدى من هداه وهدّاه للمبالغة.
ومنه قولهم: تهدى. ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدى للحق، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أندادا لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير، يهدى إلى الحق مثل هداية الله. ثم قال: أفمن يهدى إلى الحق هذه الهداية أحق بالاتباع، أم الذي لا يهدى أى لا يهتدى بنفسه، أو لا يهدى غيره إلا أن يهديه الله وقيل: معناه أم من لا يهتدى من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إِلَّا أَنْ يُهْدى إلا أن ينقل، أو لا يهتدى ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بالباطل، حيث تزعمون أنهم أندادا لله.
[سورة يونس (10) : آية 36]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في إقرارهم بالله إِلَّا ظَنًّا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم شَيْئاً وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن. والمراد بالأكثر: الجميع إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وتقليد الآباء. وقرئ: تفعلون، بالتاء.
__________
(1) . قوله «أم من لا يهدى» من قولهم: هدى بنفسه. أم من لا يهدى، كيرمى. وقوله: بفتح الهاء ... الخ:
بقيت القراءة بكسرها مع التشديد، وقد أشار إليها بقوله «أو كسرت» والقراءة كيرمى لحمزة وعلى. وبالفتح مع التشديد للمكي والشامي. وبالكسر معه لعاصم. والأصل: يهتدى. وهي قراءة عبد الله، أفاده النسفي. (ع)(2/346)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
[سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 40]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ افتراء مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها، كقوله تعالى هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وقرئ: ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب، على:
ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى وما صحّ وما استقام، وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فإن قلت: بم اتصل قوله لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قلت: هو داخل في حيز الاستدراك. كأنه قال: ولكن كان تصديقاً وتفصيلا منتفياً عنه الريب كائنا من رب العالمين. ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب في ذلك، فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقاً بتصديق وتفصيل، أو يكون لا رَيْبَ فِيهِ اعتراضاً، كما تقول: زيد لا شكّ فيه كريم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل أيقولون اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم. أو إنكار لقولهم واستبعاد، والمعنيان متقاربان قُلْ إن كان الأمر كما تزعمون فَأْتُوا أنتم على وجه الافتراء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فأنتم مثلي في العربية والفصاحة. ومعنى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أى شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ: بسورة مثله، على الإضافة، أى: بسورة كتاب مثله وَادْعُوا من دون الله مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله، يعنى: أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتى بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه افتراء بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية،(2/347)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه- وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة- أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت:
ما معنى التوقع في قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؟ قلت: معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل «1» ، تقليداً للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّى، ورازوا قواهم «2» في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً كَذلِكَ أى مثل ذلك التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أى عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعنى أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرّعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أى: ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين، أو المصرين.
[سورة يونس (10) : آية 41]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ وإن تموا على تكذيبك «3» ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلقهم فقد أعذرت، كقوله تعالى فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 43]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43)
__________
(1) . قال محمود: «معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ... الخ» قال أحمد: وكان التكذيب قبل الاحاطة بعلمه ربما يوهم عذرا ما للمكذب، فجاءت كلمة لما مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه حتى تنحسم أعذارهم ويتحقق شقاؤهم، والله أعلم.
(2) . قوله «ورازوا قواهم» أى جربوها وخبروها. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «وإن تموا على تكذيبك» أى مضوا عليه ولم يرجعوا عنه، أفاده الصحاح. (ع)(2/348)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوّة ولكنهم لا يصدقون. ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأنّ الأصم العاقل ربما تفرّس واستدل إذا وقع في صماخه دوىّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر. وأ تحسب أنك تقدر على هداية العمى ولو انضم إلى العمى- وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأنّ الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن «1» . وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمى الذين لا بصائر لهم ولا عقول. وقوله أَفَأَنْتَ ... دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبى العقل حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده.
[سورة يونس (10) : آية 44]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أى لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب. ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين، يعنى: أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستيجاب، ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سببا فيه.
[سورة يونس (10) : آية 45]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقربون وقت لبثهم في الدنيا. وقيل في القبور، لهول ما يرون يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضاً، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم. فإن قلت: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا ويَتَعارَفُونَ كيف موقعهما؟ قلت أما الأولى فحال من «هم» أى يحشرهم مشهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف، وإما أن تكون مبينة، لقوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكرا قَدْ خَسِرَ على إرادة القول، أى يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم «2»
__________
(1) . قوله «ويتظنن» أى يعمل ظنه. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وضعوا في تجارتهم» في الصحاح: وضع الرجل في تجارته وأوضع- على ما لم يسم فاعله- وضعا فيهما، أى خسر. (ع) [.....](2/349)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
وبيعهم الإيمان بالكفر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم!
[سورة يونس (10) : آية 46]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)
فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة. فإن قلت:
الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم؟ قلت: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبى عبلة: ثم، بالفتح، أى هنالك. ويجوز أن يراد: أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
[سورة يونس (10) : آية 47]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق فَإِذا جاءَ هم رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين النبي ومكذبيه بِالْقِسْطِ بالعدل، فأنجى الرسول وعذب المكذبون، كقوله وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ.
[سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 49]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
مَتى هذَا الْوَعْدُ استعجال لما وعدوا من العذاب استبعادا له لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من مرض أو فقر وَلا نَفْعاً من صحة أو غنى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع: أى ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعنى أن عذابكم له أجل مضروب عند الله، وحدّ محدود من الزمان إِذا جاءَ ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا. وقرأ ابن سيرين: فإذا جاء آجالهم.(2/350)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
[سورة يونس (10) : الآيات 50 الى 52]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
بَياتاً نصب على الظرف، بمعنى. وقت بيات. فإن قلت: هلا قيل ليلا أو نهاراً؟ قلت:
لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت. والبيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله نَهاراً معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب. ونحوه بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ، ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ الضمير في مِنْهُ للعذاب. والمعنى: أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأى شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال. ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل:
أى شيء هول شديد «1» يستعجلون منه، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه. وقيل:
الضمير في مِنْهُ لله تعالى. فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق ب أرأيتم، لأنّ المعنى: أخبرونى ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو:
تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه «2» .
قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فضلا أن يستعجله. ويجوز أن يكون ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة ب أرأيتم، وأن يكون أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ جواب الشرط، وماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ اعتراضاً. والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على ثم، كدخوله على الواو والفاء في قوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى.
آلْآنَ على إرادة القول، أى: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ يعنى: وقد كنتم به تكذبون، لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب
__________
(1) . قوله «أى شيء هول شديد» لعله أى شيء أتى هو لا شديدا. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل ماذا تستعجلون منه ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا النوع البليغ نكتتان، إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر. والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر، وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة، والله أعلم.(2/351)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
والإنكار. وقرئ: آلان، بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على «قيل» المضمر قبل آلآن.
[سورة يونس (10) : آية 53]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك فيقولون أَحَقٌّ هُوَ وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء. وقرأ الأعمش: آلحق هو، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل. وذلك أنّ اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق، والضمير للعذاب الموعود. وإِي بمعنى «نعم» في القسم خاصة، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. وسمعتهم يقولون في التصديق: إيوَ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب، وهو لا حق بهم لا محالة.
[سورة يونس (10) : الآيات 54 الى 56]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
ظَلَمَتْ صفة لنفس على: ولو أنّ لكل نفس ظالمة ما فِي الْأَرْضِ أى ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها. يقال:
فداه فافتدى. ويقال: افتداه أيضاً بمعنى فداه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدّة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة «1» ويبقى جامداً مبهوتاً. وقيل أسرّ رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم، حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وقيل: أسروها أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سرّ الشيء، لخالصه. وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وليس هناك تجلد وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الظالمين والمظلومين، دل على ذلك ذكر الظلم. ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه
__________
(1) . قوله «لا ينبس بكلمة» أى لا يتكلم. أفاده الصحاح. (ع)(2/352)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون.
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ أى قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد وَهو شِفاءٌ أى دواء لِما فِي صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق وَرَحْمَةٌ لمن آمن به منكم. أصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا.
والتكرير للتأكيد والتقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل:
إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا. ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك: فبمجيئها فليفرحوا. وقرئ فليفرحوا، بالتاء وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى. وعنه «1» «لتأخذوا مضاجعكم «2» » قالها في بعض الغزوات.
وفي قراءة أبىّ: فافرحوا هُوَ راجع إلى ذلك. وقرئ: مما تجمعون، بالياء والتاء. وعن أبىّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فقال «بكتاب الله والإسلام «3» » وقيل «فضله» الإسلام «ورحمته» ما وعد عليه.
[سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
__________
(1) . هذا طرف من حديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل قال «أبطأ عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر حتى كادت الشمس تطلع ثم خرج فأقيمت الصلاة فصلى بنا صلاة تجوزها فلما سلم قال: فما أنتم على مصافكم- الحديث» .
(2) . قوله «لتأخذوا مضاجعكم» لعل الرواية «مصافكم» . (ع)
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ فذكره. وعن أبى سعيد كذلك أخرجه الطبري، وروى ابن مردويه من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قل بفضل الله وبرحمته» قال: بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعلكم من الملة» .(2/353)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى. وما أَنْزَلَ اللَّهُ «ما» في موضع النصب بأنزل، أو ب أرأيتم، في معنى: أخبرونيه فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أى أنزله الله رزقا حلالا كله فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام وكقولهم هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ متعلق ب أرأيتم. وقل: تكرير للتوكيد.
والمعنى: أخبرونى الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء. وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام. وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب بالظنّ، وهو ظنّ واقع فيه، يعنى: أى شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى بن عمر: وما ظنّ، على لفظ الفعل. ومعناه: وأى ظنّ ظنوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.
[سورة يونس (10) : آية 61]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن:
الأمر، وأصله الهمز بمعنى القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في مِنْهُ للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو لله عزّ وجل. وما تَعْمَلُونَ أنتم جميعاً مِنْ عَمَلٍ أىّ عمل كان(2/354)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين رقباء نحصي عليكم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه وَما يَعْزُبُ قرئ بالضم والكسر: وما يبعد وما يغيب، ومنه: الروض العازب وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ القراءة بالنصب والرفع، والوجه النصب على نفى الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه، وفي العطف على محل مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أو على لفظ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف: إشكال، لأنّ قولك «لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب» مشكل. فإن قلت: لم قدّمت الأرض على السماء، بخلاف قوله في سورة سبأ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ قلت:
حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله لا يَعْزُبُ عَنْهُ لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية.
[سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ فهو توليهم إياه هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: من أولياء الله؟
فقال: «هم الذين يذكر الله برؤيتهم «1» يعنى السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله. وعن عمر رضى الله عنه: سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول «إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله» قالوا يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: «هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس»
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبى المغيرة عنه به وابن مردويه من طريق يحيى الحمامي عن يعقوب السهمي عن جعفر كذلك ووصله النسائي والبزار من رواية محمد بن سعيد بن سابق عن يعقوب بذكر ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولياء الله قال: الذين إذا رأوا ذكر الله. قال البزار: رواه غير محمد عن يعقوب بغير ذكر ابن عباس.(2/355)
ثم قرأ الآية «1» الَّذِينَ آمَنُوا نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له «2» » وعنه عليه الصلاة والسلام: ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات: وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن. وعن أبى ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال «تلك عاجل بشرى المؤمن «3» » وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال الله تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤن منها، وغير ذلك من البشارات
__________
(1) . أخرجه إسحاق بن راهويه والطبري وأبو نعيم في أوائل الحلية والبيهقي في الشعب من رواية جرير عن عمارة بن غزية عن أبى زرعة عن عمر به. قال البيهقي: أبو زرعة عن عمر مرسل. ورواه ابن مردويه من وجه آخر يذكر أبى هريرة بين أبى زرعة وعمر ورواه النسائي وابن حبان من وجه آخر عن أبى زرعة عن أبى هريرة. فلم يذكر عمر. وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عدى والعقيلي والبيهقي في الشعب أيضا في العاشر منه وفيه واقد بن سلامة عن يزيد الرقاشي. وهما ضعيفان. وعن أبى الدرداء أخرجه الطبراني وفيه فرج بن فضالة وهو ساقط. وعن أبى مالك الأشعرى. أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبراني والبيهقي وفيه شهر بن حوشب وعن ابن عمر أخرجه الحاكم من رواية زياد بن خيثمة عنه. وعن العلاء بن زياد مرسلا. أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه.
(2) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وأحمد وإسحاق من طريق أبى سلمة عن عبادة بن الصامت قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» رجاله ثقات: إلا أنه معلول، فان أبا سلمة لم يسمع من عبادة، وقد أخرجه الترمذي والحاكم أيضا عن أبى سلمة قال: نبئت عن عبادة، وله طريق أخرى عند ابن مردويه من رواية حميد بن عبد الرحمن المرسى عن عبادة. وأخرجه الترمذي أيضا وأحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والبيهقي من طريق عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر: سألت أبا الدرداء عن قول الله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، زاد بعضهم «وفي الآخرة الجنة» قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الرجل لا يعرف. وفي الباب عن ابن مسعود أخرجه ابن مردويه بلفظ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثل حديث عبادة، وعن جابر بن عبد الله بن رباب أخرجه البزار وابن عدى ومن طريق الكلبي عن أبى صالح عنه مرفوعا في قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى
- الحديث. وعن جابر أخرجه ابن مردويه من رواية جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر. قال: جابر هذا هو ابن رباب. كذا قال فأخطأ. وقد أخرجه من وجه آخر عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمار بن محمد عن الأعمش عن أبى صالح عنه. قيل: انفرد به عمار. لكن أخرجه النسائي في الكنى من رواية إسحاق بن عبد الرحمن بن عمر:
أن الأعمش حدثه، فذكره. وقال: أبو إسحاق لا أعرفه. والحديث خطأ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه النسائي وأبو يعلى من رواية دراج عن عبد الرحمن بن جبير عنه. وزاد «الرؤيا جزء من تسعة وأربعين جزآ من النبوة.
(3) . أخرجه مسلم بلفظ «فتحبه وتحمده الناس عليه» .(2/356)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ولِكَ
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض،
[سورة يونس (10) : آية 65]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
وَلا يَحْزُنْكَ وقرئ: ولا يحزنك، من أحزنه قَوْلُهُمْ تكذيبهم لك، وتهديدهم، وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: مالى لا أحزن؟ فقيل، إنّ العزة لله جميعاً، أى إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وقرأ أبو حيوة. أن العزة، بالفتح بمعنى: لأن العزة على صريح التعليل. ومن جعله بدلا من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون. ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه. وهو مكافئهم بذلك.
[سورة يونس (10) : آية 66]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يعنى العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم، ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى، ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكا، وليدلّ على أنّ من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسى فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى: وما يتبعون شركاء، أى: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا ظنهم أنها شركاء وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلا. ويجوز أن يكون وَما يَتَّبِعُ في معنى الاستفهام، يعنى: وأى شيء يتبعون. وشُرَكاءَ على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع. وكان حقه. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أى:
وله شركاؤهم. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه: تدعون، بالتاء، ووجهه أن يحمل وَما يَتَّبِعُ على الاستفهام، أى: وأى شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعنى:(2/357)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبيون من الحق.
[سورة يونس (10) : آية 67]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع معتبر مدّكر.
[سورة يونس (10) : آية 68]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68)
سُبْحانَهُ تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ علة لنفى الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفيا لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله:
إِنْ عِنْدَكُمْ على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك. ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس يعلم.
[سورة يونس (10) : الآيات 69 الى 70]
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بإضافة الولد إليه مَتاعٌ فِي الدُّنْيا أى افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.(2/358)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم عليكم وشق وثقل. ومنها قوله تعالى وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ ويقال: تعاظمه الأمر مَقامِي مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ بمعنى خاف ربه. أو قيامي «1» ومكثي بين أظهركم مدداً طوالا ألف سنة إلا خمسين عاماً. أو مقامي «2» وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ من أجمع الأمر وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال:
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِى مُجْمعُ «3»
والواو بمعنى «مع» يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: وشركاؤكم بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيداً وعمرو. وقرئ: فاجمعوا من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبىّ: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم. فإن قلت:
كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ. فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته وثقته بما وعده
__________
(1) . قوله «أو قيامي ومكثي» لعله أو مقامي بالضم. (ع)
(2) . قوله «أو مقامي وتذكيري» لعل هذا أو قيامي. (ع)
(3) .
يا ليت شعري والحوادث جمة ... هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة. جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. وأمرى مجمع: أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون. أو خبرها. وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.(2/359)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما:
أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى:
ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أى غما وهما. والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة السترة من غمه إذا ستره.
ومنها قوله عليه السلام «ولا غمة في فرائض الله» «1» أى لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى:
ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا «2» عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهروننى به ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بى، أى: أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أو أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكى كما يقضى الرجل غريمه وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني. وقرئ: ثم أفضوا إلىّ، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أى أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أى: ما نصحتكم إلا لوجه الله، لا لغرض من أغراض الدنيا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير فَكَذَّبُوهُ فتموا على تكذيبه «3» وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالغرق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.
[سورة يونس (10) : آية 74]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ يعنى هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
__________
(1) . هو طرف من حديث وائل بن حجر في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقيال، وفيه: «ولا يوصم في الدين ولا غمة في فرائض الله» وقال: الغمة السترة، أى لا تستر في فرائض الله، بل ظاهر بها. [.....]
(2) . قوله «مستورا عليكم» لعله أراد ملتبسا، فلذا قال عليكم، كما أشار إليه النسفي. (ع)
(3) . قوله «فتموا على تكذيبه» أى استمروا. أفاده الصحاح. (ع)(2/360)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ نَطْبَعُ مثل ذلك الطبع المحكم نطبع عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
[سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 78]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد الرسل بِآياتِنا بالآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفاراً ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهرون قالُوا لحبهم الشهوات إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا. فإن قلت: هم قطعوا بقولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ على أنه سحر، «1» فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ثم قال أَسِحْرٌ هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنه قيل. أتقولون ما تقولون، يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ كما قال
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هم قطعوا بقولهم إن هذا لسحر مبين على أنه سحر ... الخ» قال أحمد: وفي الفرق بين الوجهين غموض، وإيضاحه أن القول على الوجه الأول وقع كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على أنه يطلب مفعولا والله أعلم.(2/361)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
موسى للسحرة: ما جئتم به السحر، إنّ الله سيبطله لِتَلْفِتَنا لتصرفنا. واللفت والفتل:
أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعنون عبادة الأصنام وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أى الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك:
الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ «1»
ينفى ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام: إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أى مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرئ: يطبع، ويكون لكما، بالياء.
[سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
ما جِئْتُمْ بِهِ ما موصولة واقعة مبتدأ. والسِّحْرُ خبر، أى الذي جئتم به هو السحر «2»
__________
(1) . لعبد الله بن قيس الرقيات. وقيل: لقيس الرقيات يمدح مصعبا، سمى قيس الرقيات لأنه اتفق له أنه تزوج عدة نسوة، كل منهن تسمى رقية. وملك: وصف كحذر، فلذلك نصب «ملك رأفة» على المصدر. وروى «ملكه ملك» على المبتدأ والخبر. وضمير «فيه» للمصدر، أى: ليس في ملكه جبروت منه، أى من مصعب.
ويحتمل أن الضميرين له. والجبروت: مبالغة في الجبر والقهر، أى: ليس فيه ذلك كغيره، فهو أعظم الملوك.
(2) . قال محمود: «ما موصولة مبتدأ، والسحر خبر أى الذي جئتم به ... الخ» قال أحمد: وليس المراد في القراءة الأولى الاخبار بأن ما جاءوا به سحر خاصة، ولكن مع تنزيه ما جاء به عن كونه سحراً. وإنما يستفاد ذلك مما في هذا النظم المخصوص من إفادة الحصر، ولو مرت بخاطر الامام أبى المعالي في مسألة تحريمة التكبير لم بعدل عن الاستشهاد بها على إفادة هذا النظم الحصر، فانا نعلم أن موسى عليه السلام حيث أطلقه فإنما أراد إضافة السحر إلى ما جاءوا به محصوراً فيه، حتى لا يتعدى إلى الحق الذي جاء به هو منه شيء. وأما القراءة الثانية ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى عليه السلام أولا أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا حكاية لقولهم، ويكون أَسِحْرٌ هذا هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعاً: بدءوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقاً، والاستهزاء بالحق إنكار له، بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبت من الاخبار.
ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أم سالم، أبلغ في البت من قوله: مخبرا أنت أم سالم؟ ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة بيت الإنكار ودعوى أنه سحر فقالوا: إن هذا لسحر مبين، فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد. وإما أن لا يكونوا قالوا سوى أَسِحْرٌ هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله، لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار وبت القول أنه سحر. وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث: أن قول موسى عليه السلام أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما، فقال: ما جئتم به آلسحر؟ على قراءة الاستفهام قرضاً بوفاء على السواء، والذي يحقق لك أن الاستفهام والاخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد: أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ على الوجهين: الخبر والاستفهام، على ما اقتضته القراءتان، وهو قول واحد دل على أن مؤدى الأمرين واحد ضرورة صدق الخبر. وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب، أو إضمار مفعول تقولون. استشكالا لوقوع الاستفهام محكياً بالقول، والمحكي أولا عنهم الخبر. وقد أوضحنا أنه لا تنافر ولا تنافى بين الأمرين، فشد بهذا الفصل عرى التمسك، فانه من دقائق النكت. والله الموفق.(2/362)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ: آلسحر، على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية، أى: أىّ شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله: ما جئتم به سحر.
وقرأ أبىّ: ما أتيتم به سحر. والمعنى: لا ما أتيت به إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ويثبته بِكَلِماتِهِ بأوامره وقضاياه. وقرئ: بكلمته، بأمره ومشيئته.
[سورة يونس (10) : آية 83]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
فَما آمَنَ لِمُوسى في أوّل أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ إلا طائفة من ذراري بنى إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في قومه لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله وَمَلَائِهِمْ؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أى على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدل عليه قوله أَنْ يَفْتِنَهُمْ يريد أن يعذبهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ لغالب فيها قاهر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ، بادعائه الربوبية.(2/363)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
[سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 86]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أى يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه، إن كانت بك قوّة فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا إنما قالوا ذلك، لأنّ القوم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة لهم، أى: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
[سورة يونس (10) : آية 87]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته «1» مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أى مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة. فإن قلت:
كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلا، ثم جمع، ثم وحد آخراً. قلت: خوطب موسى وهرون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها.
[سورة يونس (10) : آية 88]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)
__________
(1) . قوله «بمصر بيوتا من بيوته» لعل الضمير لمصر. (ع)(2/364)
الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت: ما معنى قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؟ قلت: هو دعاء بلفظ الأمر «1» ، كقوله رَبَّنَا اطْمِسْ، وَاشْدُدْ، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكرّرا وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة «2» إلا نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغى والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله- اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون «3» فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال.
وليكونوا ضلالا، «4» وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما علىّ منهم، هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحرداً «5» عليه، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهى، وقد
__________
(1) . قال محمود: «قلت هو دعاء بلفظ الأمر ... الخ» قال أحمد: وهذا من اعتزاله الخفي الذي هو أدق من دبيب النمل، يكاد الاطلاع عليه أن يكون كشفا. ووجه ذلك أنه علم أن الظاهر بل والباطن أن اللام التعليل، وأن الفعل منصوب بها، ومعنى ذلك إخبار موسى عليه السلام بأن الله إنما أمدهم بالزينة والأموال وما يتبعهما من النعم استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة، كما أخبر تعالى عن أمثالهم بقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وهذا المعنى منتظم على جعل اللام التعليل، والزمخشري بنى على القاعدة الفاسدة في استحالة ذلك على الله تعالى، لاعتقاده أن من الجور أن يملى لهم في الضلالة ويعاقبهم عليها، فهو متبتل لما يرد من الآيات بعمل الحيلة في تأويلها وردها إلى معتقده وجعلها تبعا له، كما تقدم له في تأويل قوله لِيَزْدادُوا إِثْماً وكأين من آية غراء رام أن يسترغرتها ويطفئ نورها بأمثال هذه التأويلات الرديثة لفظاً وعقداً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ثم لا يسعه إلا أن يحمل موسى عليه السلام على أمثال هذه المعتقدات، ولقد برأه الله وكان عند الله وجيها.
(2) . قوله «وعن النصيحة» لعله وعلى (ع)
(3) . قوله «يتسكعون» في الصحاح: «التسكع» التمادي في الباطل. (ع)
(4) . قوله «وليكونوا ضلالا» هذا على قراءة «ليضلوا» بفتح الياء. والقراءة المشهورة لِيُضِلُّوا بضمها.
وعبارة النسفي: ليضلوا الناس عن طاعتك اه (ع)
(5) . قوله «وحرداً عليه» في الصحاح: الحرد- بالتحريك: الغضب. (ع)(2/365)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
حملت اللام في ليضلوا على التعليل، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا. وقوله فَلا يُؤْمِنُوا عطف على ليضلوا. وقوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي: أإنك آتيت؟
على الاستفهام، واطمس بضم الميم.
[سورة يونس (10) : آية 89]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
قرئ: دعواتكما. قيل: كان موسى يدعو وهرون يؤمّن. ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان.
والمعنى: إنّ دعاء كما مستجاب، وما طلبتما كائن ولكن في وقته فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا ولا تستعجلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح عليه السلام إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وقرئ: ولا تتبعان، بالنون الخفيفة، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية، وبتخفيف التاء من تبع.
[سورة يونس (10) : آية 90]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قرأ الحسن: وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى:
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالَ قَبِيلَةٍ «1»
__________
(1) .
وإذا تجوزنا حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالا
للأعشى. وشبه عهود الأمان التي يأخذها من القبيلة يتوثق ويتوصل بها إلى أخرى بالحبال، يجامع التوثق بكل على طريق التصريحية. أى: وإذا تجشمنا مجاوزة عهود قبيلة وتكلفنا مجاوزة محل أمانها، فايقاع التجوز على الحبال:
مجاز عقلى، أخذت ناقتي من القبيلة الأخرى حال كونها ذاهبة إليك حبالا، أى عهوداً للتوصل القبيلة الأخرى، وهكذا. وإسناد الأخذ لها مجاز عقلى، ويكفى في الملابسة مجاورتها له حين الفعل. وإنما أسنده إليها للمبالغة، وتخييل أنها تعرف الممدوح وفضله، فهي المسافرة إليه بنفسها. وروى يجوزها. وجبال بالجيم، فمعنى أخذت:
قطعت من أرض القبيلة الأخرى بالسير إليك جبالا غير تلك. وعلى كل، ففيه دليل على صعوبة الطريق.(2/366)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بنى إسرائيل في البحر كما قال:
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّىَّ فِى الْبَابِ فَيْتَقُ «1»
فَأَتْبَعَهُمْ فلحقهم. يقال: تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن: وعدوّا «2» . وقرئ: أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلا من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.
[سورة يونس (10) : الآيات 91 الى 92]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)
آلْآنَ أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق «3» وأيست من نفسك.
قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق يعنى حين أوشك أن يغرق. وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه.
والذي يحكى أنه حين قال آمَنَتْ أخذ جبريل من حال البحر «4» فدسه في فيه، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه. وأمّا ما يضم إليه من قولهم: خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين «5» لله وملائكته: وفيه جهالتان، إحداهما: أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر
__________
(1) .
ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوز السكى في الباب فيتق
للأعشى يصف مفازة الغزل فيها المحلق عن بنى عكاظ كما يأتى قريباً. يقول: ولا بد لمريد قطعها من جار: أى قريب منها يعين المسافر على سلوك سبيلها. وجازه يجوزه: سلكه. وأجازه يجيزه: أسلكه. وكذا جوزه يجوزه بالتشديد فيهما. والسكى: المسمار، نسبة السك، وهو تضبيب الباب وتسميره. والفيتق: النجار، لأنه يفتق الخشب بالمسمار. ويروى: كما سلك السكى، أى: لا يعد من معين، ينفذه فيها كما أنفذ النجار المسمار في الباب.
وعبر بالماضي ليدل على أن المشبه به معهود للسامع.
(2) . قوله: «وقرأ الحسن وعدوا» في الصحاح: عدا عدوا وعدوا وعداء اه. وقد مر في قوله تعالى فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً (ع) [.....]
(3) . قال محمود: «معناه أتؤمن الساعة في وقت اضطرارك حين أدركك الغرق ... الخ» قال أحمد: ولقد أنكر منكراً، وغضب لله ولملائكته كما يجب لهم، والله الموفق.
(4) . قوله «من حال البحر فدسه» أى طينه الأسود. أفاده الصحاح. وفي الحديث «قال جبريل يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه» كذا في الخازن. (ع)
(5) . قوله «الباهتين لله» في الصحاح «بهته» إذا قال عليه ما لم يفعله. (ع)(2/367)
لأن الرضا بالكفر كفر «1» مِنَ الْمُفْسِدِينَ من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وروى أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه نُنَجِّيكَ بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ ننحيك، بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أى:
في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير.
أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب:
__________
(1) . قوله «والذي يحكى» ... إلى قوله «لأن الرضا بالكفر» هذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله. فان الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان والحاكم وإسحاق والبزار وأبو داود والطيالسي كلهم من رواية شعبة عن عدى بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن جبريل كان يدس في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله» لفظ الترمذي والباقين نحوه، وله طريق أخرى أخرجها أحمد وإسحاق وعبد بن حميد والبزار والطبراني من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، بلفظ «لما أغرق الله فرعون قال:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل: يا محمد فلو رأيتنى وأنا آخذ الطين من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة، وله طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحمائى في مسنده عن أبى خالد الأحمر عن عمرو بن يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم: وذكر فرعون «فلقد رأيتنى وأنا لأكبر فمه بالحمأة مخافة أن تدركه الرحمة، وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه الطبري وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب في السادس والخمسين وابن مردويه من طريق عتية بن سعيد عن كثير بن زاذان عن أبى حازم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال لي جبريل «لو رأيتنى وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن يقول ربى الله، فتدركه رحمة الله» وعن ابن عمر رضى الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال لي جبريل: يا محمد ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال: ما علمت لكم من إله غيرى. وإذ نادى فقال: أنا ربكم الأعلى. فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت أحشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة» أخرجه الطبراني وابن مردويه من رواية محمد بن سليمان بن أبى ضمرة عن عبد الله بن أبى قيس عنه، قلت: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري، فالحديث توجيه وجيه، لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافراً كفر عناد، ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفرداً وأظهر أنه مخلص، فأجرى له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا فيستمر على غيه وطغيانه فدس في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضى ذلك، هذا وجه الحديث. ولا يلزم منه جهل ولا رضا بكفر بل الجهل كل الجهل ممن اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد وأيضاً فايمانه في تلك الحالة على تقدير أنه كان صدقا بقلبه لا يقبل لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب في الآية بقوله تعالى آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وفيه إشارة في قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.(2/368)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
أَعَاذِلُ شكَّتِى بَدَنِى وَسَيْفِى ... وَكُلُّ مُقَلّصٍ سَلِسُ الْقِيَادِ «1»
وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: بأبدانك وهو على وجهين:
إما أن يكون مثل قولهم: هوى بأجرامه، يعنى: ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد: بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروى أنهم قالوا: ما مات فرعون ولا يموت أبداً. وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بنى إسرائيل حتى قيل: لمن خلفك. وقيل: لِمَنْ خَلْفَكَ لمن يأتى بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل، فما الظنّ بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ: لمن خلقك، بالقاف: أى لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين- لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا- لادعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت- آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك.
[سورة يونس (10) : آية 93]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا صالحاً مرضيا وهو مصر والشام فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلا من بعد ما قرأُوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بنى إسرائيل، وهم أهل الكتاب، اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ.
__________
(1) . لعمرو بن معديكرب، وكانت له درع من ذهب تعرفه بها العرب. يقول: يا عاذلة، إن سلاحي درعي وسيفي وفرسي المكتنز اللحم المدبج الخلق. وقيل: المقلص الطويل القوائم الهين القود. ويروى: سهل القياد.
والمعنى واحد. وإطلاق البدن على الدرع في الأصل مجاز علاقته المجاورة أو المحلية، وأتى بأداة العموم في الفرس لأنه الذي يكثر تغييره.(2/369)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 95]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)
فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ مع قوله في الكفرة وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ «1» قلت: فرق عظيم بين قوله إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خبالا منه تقديراً فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ والمعنى: أن الله عز وجل قدم ذكر بنى إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديراً- وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق- فسل علماء أهل الكتاب، يعنى: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساآتهم فضلا عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشك فيه، ثم قال لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أى ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أى فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق «2» » وعن ابن عباس رضى الله عنه: لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف قال له عليه السلام: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مع قوله في الكفرة وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ... الخ؟ قال أحمد: ولو قال هذا المفسر: إن نفى الشك عنه عليه الصلاة والسلام توطئة لأمره بالسؤال لتقوم حجته على المسئولين لا ليستفيد بسؤالهم علما لمزيد تعين الإبراء بقوله له قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ فأمر بالسؤال والجواب جميعا- لكان أقوم وأسلم، والله أعلم.
(2) . أخرجه عبد الرزاق، ومن طريقه الطبري عن معمر عن قتادة في هذه الآية، قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أشك ولا أسأل» .(2/370)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
أحداً منهم، وقيل خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. ومعناه: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، كقول العرب: إذا عز أخوك فهن. وقيل: «إن» للنفي، أى: فما كنت في شك فاسأل، يعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى. وقرئ: فاسأل الذين يقرؤن الكتب.
[سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد «1» تعالى الله عن ذلك.
[سورة يونس (10) : آية 98]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
فَلَوْلا كانَتْ فهلا كانت قَرْيَةٌ واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبىّ.
وعبد الله: فهلا كانت إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء من القرى، لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روى عن الجرمي والكسائي. روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح، وعجوا»
أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا:
إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى
__________
(1) . قوله «لا كتابة مقدر ومراد» مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يريد الشر. وذهب أهل السنة إلى أنه تعالى يريد كل كائن خيرا كان أو شرا. (ع)
(2) . قوله «وعجوا» أى رفعوا أصواتهم. أفاده الصحاح. (ع)(2/371)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا «يا حىّ حين لا حىّ، ويا حىّ محيى الموتى، ويا حىّ لا إله إلا أنت» فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: قالوا: «اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله» .
[سورة يونس (10) : آية 99]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مشيئة القسر «1» والإلجاء «2» لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ على وجه الإحاطة والشمول جَمِيعاً مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يعنى إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.
[سورة يونس (10) : آية 100]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
__________
(1) . قوله «مشيئة القسر» هذا مذهب المعتزلة، وذلك أنهم أوجبوا على الله الصلاح والأصلح، وإيمان الكل أصلح، لكن الآية تخالف مذهبهم فقالوا: إنه تعالى أراد إيمان الكل إرادة تخيير العباد، فلم يلزم وقوع المراد، ولو أراده إرادة إجبار لوقع، وأهل السنة لم يوجبوا على الله شيئا، ولزوم وقوع المراد لا ينافي تخيير العباد، لما لهم من الكسب في أفعالهم الاختيارية وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله، كما تقرر في التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «المراد مشيئة القسر والإلجاء» قال أحمد: وهذا من دسه الاعتزال مخلسا، وخلط الباطل بالحق مدلسا. ولما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله تعالى لايمان الخلق بصيغة الكلية، وأنه إنما شاء ذلك ممن آمن لا ممن كفر- إذ مقتضى «لولا» امتناع، وكان ذلك راد لمعتقده الفاسد، إذ يزعمون أن الله تعالى شاء الايمان من جميع أهل الأرض، فلم يؤمن إلا بعضهم- أخذ يحرف مشيئة الايمان إلى مشيئة القسر والإلجاء، ليتم له أن المشيئة المرادة في الآية لم تقع، إلا أنا نوافقه على أن الله تعالى ما قسر الخلق ولا سلب اختيارهم، بل أمرهم بالايمان وخلق لهم اختيارا له وقصداً، وهذا كما ترى لا يعد في التأويل. بل هو أجدر بالتعطيل، فوجب رده وإقرار الظاهر على حاله، نعوذ بالله من زيغ الشيطان وإضلاله، والله الموفق.(2/372)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
وَما كانَ لِنَفْسٍ يعنى من النفوس التي علم أنها تؤمن إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أى بتسهيله وهو منح الألطاف وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان «1» ، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر، كقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ: الرجز، بالزاي. وقرئ ونجعل، بالنون.
[سورة يونس (10) : آية 101]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)
ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الآيات والعبر وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ والرسل المنذرون، أو الإنذارات عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون وقرئ: وما يغنى، بالياء، و «ما» نافية، أو استفهامية.
[سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 103]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وقائع الله تعالى فيهم، كما يقال «أيام العرب» لو قائعها ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية وَالَّذِينَ آمَنُوا ومن آمن معهم، كذلك نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين.
وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض، يعنى: حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ: ننجّ، بالتشديد.
[سورة يونس (10) : آية 104]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي وصحته وسداده، فهذا دينى فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين
__________
(1) . قوله «وهو الخذلان» تأويل الرجس بالخذلان على مذهب المعتزلة، وعلى مذهب أهل السنة لا حاجة إلى تأويله. (ع)(2/373)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
لا مدخل فيه للشك، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وإنما وصفه بالتوفى، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبد دون مالا يقدر على شيء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعنى أنّ الله أمرنى بذلك، بما ركب فىّ من العقل، وبما أوحى إلىّ في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم في شك من دينى ومما أنا عليه- أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم- فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمرى، واقطعوا غنى أطماعكم، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى، كقوله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أصله:
بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع «إن» و «أن» . وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.
[سورة يونس (10) : آية 105]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
فإن قلت، عطفُ قوله وَأَنْ أَقِمْ على أَنْ أَكُونَ فيه إشكال، لأنّ «أن» لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا يساعد عليه لفظ الأمر، وهو أَقِمْ لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنهى، وشبه ذلك بقولهم:
أنت الذي تفعل، على الخطاب، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال أَقِمْ وَجْهَكَ استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا. وحَنِيفاً حال من الدين، أو من الوجه.
[سورة يونس (10) : آية 106]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
فَإِنْ فَعَلْتَ معناه: فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فكنى عنه بالفعل إيجازاً فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
[سورة يونس (10) : آية 107]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)(2/374)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
أتبع النهى عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ. فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.
[سورة يونس (10) : آية 108]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه، واللام وعلى: دلا على معنى النفع والضر. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
[سورة يونس (10) : آية 109]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
وَاصْبِرْ على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لك بالنصرة عليهم والغلبة. وروى أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال «إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني «1» » يعنى أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتنى الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر. وروى أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند. والقصة المذكورة متفق عليها من حديث عبد الله بن زيد في أثناء حديث، ومن حديث أسيد بن حضير، ليس فيه كون الآية سبب ذلك، بل سببه قسمة غنائم حنين.(2/375)
في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثره. قال معاوية: فماذا قال؟ قال: قال «فاصبروا حتى تلقوني» قال فاصبر. قال: إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان «1» :
أَلَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... أمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلَامِى
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُمْ ... إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ «2»
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون «3»
__________
(1) . أخرجه إسحاق بن راهويه. ومن طريقه الحاكم والبيهقي عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصارى: فقال معاوية تلقانا الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما يمنعكم أن تلقوني؟
قال: لم تكن لنا دواب. فقال معاوية: فأين النواضح. قال أبو قتادة. عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر.
ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنكم سترون بعدي أثرة. قال معاوية: فما أمركم؟ قال:
أمرنا أن نصبر حتى تلقاه. قال: فاصبروا حتى تلقوه. فقال عبد الرحمن بن حسان حين بلغه ذلك- فذكر البيتين.
وقال: يا أمير المؤمنين. [.....]
(2) . لعبد الرحمن بن حسان، حين دخل معاوية بن أبى سفيان بن حرب المدينة، فتلقته الأنصار وتخلف أبو قتادة، ثم دخل عليه فقال له: مالك تخلفت؟ فقال: لم يكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ستلقون بعدي أثرة. قال معاوية، فماذا قال؟ قال: فاصبروا حتى تلقوني. قال: فاصبروا. قال: إذا نصبر. والثناء يقال للخير، وقد يقال الشر. والنثا:
خاص بالشر. وروى «نثا كلامى» ومنظروكم: ممهلوكم. أى أنت وقومك. والتغابن: ظهور الغبن العمال في تجارات الأعمال. والخصام: المخاصمة والمجادلة، أى إلى يوم القيامة.
(3) . تقدم إسناده في آل عمران. ويأتى في آخر القرآن.(2/376)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
سورة هود عليه السلام
(مكية [إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية] وهي مائة وثلاث وعشرون آية [نزلت بعد سورة يونس] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة هود (11) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف.
ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة، من «حكم» بضم الكاف، إذا صار حكيما: أى جعلت حكيمة، كقوله تعالى آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وقيل: منعت من الفساد، من قولهم: أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. قال جرير:
أبَنِى حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّى أخَافُ عَلَيْكُمُ أنْ أغْضَبَا «1»
وعن قتادة: أُحكمت من الباطل ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد بالفرائد، من دلائل التوحيد، والأحكام، والمواعظ، والقصص. أو جعلت فصولا، سورة سورة، وآية آية. وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة. أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد: أى بين ولخص. وقرئ:
أحكمت آياته ثم فصلت: أى أحكمتها أنا ثم فصلتها. وعن عكرمة والضحاك: ثم فصلت، أى فرّقت بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل. وكتاب: خبر مبتدإ محذوف. وأحكمت: صفة له. وقوله مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت، أى: من عنده إحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأنَّ المعنى: أحكمها حكيم وفصلها: أى بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
__________
(1) . لجرير، يقول: يا بنى حنيفة «امنعوا سفهاءكم عنى كما تمنع الدابة بالحكمة، فان غضبى عليكم شديد. وفيه ضرب من التهديد، فخوفه عليهم كناية عن ذلك. وأن أغضب: مفعول أخاف، أى أخاف عليكم غضبى.(2/377)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
[سورة هود (11) : الآيات 2 الى 4]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلَّا تَعْبُدُوا مفعول له على معنى: لئلا تعبدوا. أو تكون «أن» مفسرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا أى أمركم بالتوحيد والاستغفار. ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعاً عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة. ويدل عليه قوله إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ كأنه قال: ترك عبادة غير الله، إننى لكم منه نذير، كقوله تعالى فَضَرْبَ الرِّقابِ والضمير في مِنْهُ لله عز وجل، أى: إننى لكم نذير وبشير من جهته، كقوله رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أو هي صلة لندير، أى: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.
فإن قلت: ما معنى ثم في قوله ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ؟ قلت: معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. أو استغفروا، والاستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها، كقوله ثُمَّ اسْتَقامُوا. يُمَتِّعْكُمْ يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، من عيشة واسعة، ونعمة متتابعة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن يتوفاكم، كقوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه.
أو فضله في الثواب، والدرجات تتفاضل في الجنة على قدر تفاضل الطاعات وَإِنْ تَوَلَّوْا وإن تتولوا عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة، وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وبين عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء، فكان قادراً على أشدّ ما أراد من عذابهم لا يعجزه. وقرئ: وإن تولوا، من ولى.
[سورة هود (11) : آية 5]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يزورّون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ يعنى:(2/378)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون- لقود المعنى «1» إلى إضماره- الإضمار في قوله تعالى اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ معناه فضرب فانفلق. ومعنى أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ويزيدون الاستخفاء «2» حين يستغشون ثيابهم أيضاً، كراهة لاستماع كلام الله تعالى، كقول نوح عليه السلام جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ثم قال يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يعنى. أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء، والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده. روى أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة وله منطق حلو وحسن سياق للحديث، فكان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالسته ومحادثته، وهو يضمر خلاف ما يظهر. وقيل: نزلت في المنافقين. وقرئ: تثنونى صدورهم، واثنونى «افعوعل» من الثني، كاحلولى من الحلاوة، وهو بناء مبالغة، قرئ بالتاء والياء. وعن ابن عباس لتثنونى. وقرئ تثنونّ وأصله تثنونن «تفعوعل» من الثن «3» وهو ما هش وضعف من الكلأ، يريد: مطاوعة صدورهم للثنى، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. وقرئ: تثنئن، من اثنأن «أفعال» منه، ثم همز كما قيل: ابيأضت، وأدهأمت وقرئ: تثنوى، بوزن ترعوى.
[سورة هود (11) : آية 6]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)
فإن قلت: كيف قال عَلَى اللَّهِ رِزْقُها بلفظ الوجوب «4» وإنما هو تفضل؟ قلت: هو تفضل إلا أنه لما ضمن أن يتفضل به عليهم، رجع التفضل واجباً كنذور العباد. والمستقرّ:
مكانه من الأرض ومسكنه. والمستودع حيث كان مودعا قبل الاستقرار، من صلب، أو رحم،
__________
(1) . قوله «لقود المعنى» أى لتأدية المعنى. (ع)
(2) . قوله «ويزيدون الاستخفاء» الظاهر أن هذا هو الخبر عن قوله: ومعنى ألا حين الخ، كما قال أولا، يعنى ويريدون. (ع)
(3) . قوله «من الثن» في الصحاح «الثن» بالكسر: يبس الحشيش. (ع)
(4) . قال محمود «إن قلت كيف قال على الله رزقها بلفظ الوجوب ... الخ» قال أحمد: كل ما يسديه الله تعالى من رزق لبهيمة أو مكلف في الدنيا أو ثواب في الآخرة، فذلك كله فضل ولا واجب على الله تعالى، وإن ورد مثل هذه الصيغة فمحمول على أن الله عز وجل لما وعدهم فضله- ووعده خبر، وخبره صدق- وجب وقوع الموعود: أى يستحيل في العقل أن لا يقع، للزوم الخلف في خبر الصادق، فعبر عن ذلك بما يعبر به عن وجوب التكليف، وبينهما هذا الفرق المذكور. هذه قاعدة أهل الحق. وقد مر الكلام عليها عند قوله تعالى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ، والله الموفق.(2/379)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
أو بيضة كُلٌّ كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها في اللوح، يعنى ذكرها مكتوب فيه مبين.
[سورة هود (11) : آية 7]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أى ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض. وارتفاعه فوقها إلا الماء. وفيه دليل على أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض.
وقيل: وكان الماء «1» على متن الريح، والله أعلم بذلك، وكيفما كان فالله ممسك كل ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بخلق، أى خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم. يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعملون. فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق إليه فهو ملابس له، كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتا، لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه، وليكون ذلك لطفاً للسامعين، وترغيباً في حيازة فضلهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله «2» » قرئ: ولئن قلت إنكم مبعوثون، بفتح الهمزة.
ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق عنك تشترى لنا لحماً، وأنك تشترى بمعنى علك، أى:
ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون، بمعنى: توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره، لقالوا:
__________
(1) . قوله «وقيل: وكان الماء» لعله «كان» بدون واو. ويمكن أن المعنى كان عرشه على الماء وكان الماء. (ع)
(2) . أخرجه داود بن المجبر في كتاب العقل والحرث في مسنده عنه، والطبري وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن زيد عن كليب بن وائل عن ابن عمر. وداود ساقط. وأخرجه ابن مردويه أيضا من طريق محمد ابن أمرس عن سليمان بن عيسى عن الثوري عن كليب كذلك، وإسناده أسقط من الأول.(2/380)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ باتين القول ببطلانه. ويجوز أن تضمن «قلت» معنى «ذكرت» ومعنى قولهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أنّ السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به. أو أشاروا «1» بهذا إلى القرآن لأنّ القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. وقرئ: إن هذا إلا ساحر، يريدون الرسول، والساحر: كاذب مبطل،
[سورة هود (11) : آية 8]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)
الْعَذابَ عذاب الآخرة. وقيل عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين إِلى أُمَّةٍ إلى جماعة من الأوقات ما يَحْبِسُهُ ما يمنعه من النزول استعجالا له على وجه التكذيب والاستهزاء. ويَوْمَ يَأْتِيهِمْ منصوب بخبر ليس، ويستدل به من يستجيز تقديم خبر ليس على ليس، وذلك أنه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها، كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلا حيث يقع العامل وَحاقَ بِهِمْ وأحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ العذاب الذي كانوا به يستعجلون. وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء. والمعنى: ويحيق بهم إلا أنه جاء على عادة الله في أخباره.
[سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
الْإِنْسانَ للجنس رَحْمَةً نعمة من صحة وأمن وجدة ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ثم سلبنا تلك النعمة إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة. قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع كَفُورٌ عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نَسَّاءٌ له ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أى المصائب التي ساءتني إِنَّهُ لَفَرِحٌ أشر
__________
(1) . قوله «أو أشاروا بهذا» لعله: وأشاروا. (ع)(2/381)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
بطر فَخُورٌ على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر إِلَّا الَّذِينَ آمنوا، فإنّ عادتهم إن نالتهم رحمة أن يشكروا، وإن زالت عنهم نعمة أن يصبروا.
[سورة هود (11) : آية 12]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى إليهم مالا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أى لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ بأن تتلوه عليهم أَنْ يَقُولُوا مخافة أن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أى هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، ثم قال إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أى ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحى إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحى بقلب فسيح وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم. فإن قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجواد الثابتين المستقرّين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد ونحوه كانوا قوماً عامين في بعض القراآت، وقول السمهري العكلي:
بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللّئِيمُ فَسَامِنٌ ... بِهَا وَكِرَامُ النّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا «1»
[سورة هود (11) : آية 13]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)
__________
(1) . العكلي. والشحوب تغير اللون. وأنشده أبو زيد شاهدا على أن الشحوب في لغة بنى كلاب الهزال، وهو أنسب بالمقابلة لقوله بمنزلة مجدبة صفتها أنها. أما اللئيم الذي همه بطنه، فهو سامن فيها لكثرة أكله. وأما كرام الناس فهم متغيرون فيها مهازيل، لأنهم يطعمون ولا يطعمون. و «فاعل» من سمن شاذ، وقياسه «فعيل» .(2/382)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
أَمْ منقطعة. والضمير في افْتَراهُ لما يوحى إليك. تحداهم أوّلا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد مِثْلِهِ بمعنى أمثاله، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له مُفْتَرَياتٍ صفة لعشر سور. لما قالوا: افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، قاودهم «1» على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال: هبوا أنى اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلىّ وأنّ الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. فإن قلت:
كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.
[سورة هود (11) : آية 14]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
فإن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله لَكُمْ فَاعْلَمُوا بعد قوله قُلْ؟
قلت: معناه: فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، وقد قال في موضع آخر: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:
فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ «2»
ووجه آخر: وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن استطعتم، يعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أى أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه وَاعلموا عند ذلك أَنْ لا إِلهَ إِلَّا الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد.
ومعنى فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فهل أنتم مخلصون؟
__________
(1) . قوله «قاودهم» ضمن معنى وافقهم وسايرهم. (ع)
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 294 فراجعه إن شئت. اه مصححه.(2/383)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
[سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)
نُوَفِّ إِلَيْهِمْ نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحمن وتصدّق: فعلت حتى يقال، فقيل. ولمن قاتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل: وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحماً، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم. وقرئ: يوفّ، بالياء على أن الفعل لله عزّ وجلّ. وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء، على البناء للمفعول. وفي قراءة الحسن:
نوفى، بالتخفيف وإثبات الياء، لأنّ الشرط وقع ماضياً، كقوله:
يَقُولُ لَا غائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ «1»
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، يعنى: لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى كان عملهم في نفسه باطلا، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له.
وقرئ: وبطل على الفعل. وعن عاصم: وباطلا بالنصب، وفيه وجهان: أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون، ومعناه: وباطلا، أىّ باطل كانوا يعملون. وأن تكون بمعنى المصدر على:
وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون.
[سورة هود (11) : آية 17]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ معناه: أمّن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة «2» أى لا يعقبونهم في المنزلة
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 537 فراجعه إن شئت. اه مصححه. [.....]
(2) . قوله «فمن كان على بينة» عبارة النسفي: كمن كان يريد ... الخ. (ع)(2/384)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
ولا يقاربونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة مِنْ رَبِّهِ أى على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل وَيَتْلُوهُ ويتبع ذلك البرهان شاهِدٌ مِنْهُ أى شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن مِنْهُ من الله، أو شاهد من القرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً وَمِنْ قَبْلِهِ ومن قبل القرآن كِتابُ مُوسى وهو التوراة، أى: ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ: كتابَ موسى بالنصب، ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أنّ القرآن حق، وَيَتْلُوهُ: ويقرأ القرآن شاهِدٌ مِنْهُ شاهد ممن كان على بينة، كقوله وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى ويتلو من قبل القرآن والتوراة إِماماً كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه وَرَحْمَةً ونعمة عظيمة على المنزل إليهم أُولئِكَ يعنى من كان على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ يؤمنون بالقرآن وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعنى أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ وقرئ: مُرية، بالضم وهما الشك مِنْهُ من القرآن أو من الموعد.
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 22]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم الْأَشْهادُ من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكا، ويقال أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فوا خزياه ووا فضيحتاه. والأشهاد: جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف وَيَبْغُونَها عِوَجاً يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوجوا(2/385)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
بالارتداد، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أى ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ وقرئ: يضعف ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع «1» ولعل بعض المجبرة «2» يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع «3» به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي. ويحتمل أن يريد بقوله وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفى كونهم أولياء بقوله ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فكيف يصلحون للولاية. وقوله يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ اعتراض بوعيد خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم مالا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم وَضَلَّ عَنْهُمْ
وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ فسر في مكان آخر هُمُ الْأَخْسَرُونَ لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم.
[سورة هود (11) : آية 23]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23)
__________
(1) . قال محمود: «أراد أنهم لفرط تصامهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم ... الخ» قال أحمد: أهل الحق وإن نفوا تأثير استطاعة العبد وخلصوا الخلق لقدرة الخالق عز وجل، لا ينفون استطاعة العبد نفسها ولا ما يجده من نفسه من الفرق حالة الحركات القسرية والاختيارية، وإنما الذي ينفى الاستطاعة جملة هم المجبرة حقيقة لا أهل السنة. والحق مع الزمخشري في هذا الموضع إلا في غفلته حيث يقول: فيوعوع بها على أهل العدل، يعنى الآية المذكورة. وهذه سقطة عظيمة، وهب أن المجبر غلط في الاستدلال بالآية على معتقده، فكيف يستجيز أن يطلق على إيراده الآية وعوعة، وإنما تلا كتاب الله تعالى غير أن خطأه في تصحيح معتقده الباطل به. وما الزمخشري إلا يتسامح كثيراً فيما يجب من الآداب للكتاب العزيز، وإنما يليق التسامح إذا كان يفسر شعر امرئ القيس أو الحارث بن حلزة. وأما أدب القرآن فيضيق عن أسهل من ذلك، والله الموفق.
(2) . قوله «ولعل بعض المجبرة» إن كان مراده بهم أهل السنة كعادته، فهم لا يسلبون عن العبد الاستطاعة في الفعل، بل يثبتون له الكسب والاستطاعة مع الفعل، وإن كان مراده القائلين بالجبر المحض وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء فلا ضير. ونقل الخازن عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: أخبر الله تعالى أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فانه قال: ما كانوا يستطيعون السمع، وهو طاعته. وما كانوا يبصرون. وأما في الآخرة فانه قال لا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ. (ع)
(3) . قوله «فيوعوع به» في الصحاح: الوعوعة صوت الذئب. (ع)(2/386)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة. ومنه قولهم للشيء: الدنىء الخبيت. قال:
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ وَلَا يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ «1»
وقيل: التاء فيه بدل من الثاء.
[سورة هود (11) : آية 24]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع «2» وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع «3» . على أن تكون الواو في وَالْأَصَمِّ وفي وَالسَّمِيعِ لعطف الصفة على الصفة، كقوله:
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ «4»
هَلْ يَسْتَوِيانِ يعنى الفريقين مَثَلًا تشبيهاً.
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
أى أرسلنا نوحاً بأنى لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في كَأَنْ والمعنى على الكسر،
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 543 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قال محمود: «شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع إلى قوله أن تكون الواو ... الخ» قال أحمد: بخلافها على الوجه الأول، فإنها لعطف الموصوف على الموصوف. وأما تنظيره الآية بتشبيه امرئ القيس في كونه شبه تشبيهين اثنين ففيه نظر. فان امرأ القيس شبه كل واحد من الرطب واليابس تشبيهاً واحداً، والآية على التفسير الأول شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين، وإنما ينظر ببيت امرئ القيس على الوجه الثاني، فان مقتضاه أن كل واحد منهما شبه تشبيهاً واحداً، ولكن في صفتين متعددتين، والأمر في ذلك قريب، والله أعلم.
(3) . قوله «أو الذي جمع بين البصر والسمع» لعله: والذي. (ع)
(4) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص 41 فراجعه إن شئت اه مصححه.(2/387)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
وهو قولك: إنّ زيدا كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول أَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أى أرسلناه بأن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو تكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازى لوقوع الألم فيه. فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازى مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجدّ جدّه.
[سورة هود (11) : آية 27]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)
الْمَلَأُ الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملؤوا بالأمر، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالئون أى يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملئون القلوب هيبة والمجالس أبهة «1» أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة «2» وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشر. والأراذل جمع الأرذل، كقوله أَكابِرَ مُجْرِمِيها «أحاسنكم أخلاقاً» وقرئ: بادى الرأى، بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأى أو ظاهر الرأى، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم
__________
(1) . قوله «والمجالس أبهة» كسكرة: عظمة. (ع)
(2) . قال محمود: «هو تعريض بأنهم كانوا أحق منه بالنبوة ... الخ» قال أحمد: ويحتمل في الوجهين أن يكون المراد أول الرأى. ولكنه ترك الهمز استثقالا، إلا أن يكون القارئ بها ياء ليس من مذهبه تسهيل الهمز، والمعنيان متقاربان، وقد زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين، أحدهما: أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة. والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه. ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية. وغرض هؤلاء أن لا يقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به، والله أعلم(2/388)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله مِنْ فَضْلٍ من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة. بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فيما تدّعونه.
[سورة هود (11) : الآيات 28 الى 32]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
أَرَأَيْتُمْ أخبرونى إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ على برهان مِنْ رَبِّي وشاهد منه يشهد بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة. فإن قلت: فقوله فَعُمِّيَتْ ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ:
فعميت بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبى: فعماها عليكم. فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت:
فما معنى قراءة أبىّ؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله «1» وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ يعنى
__________
(1) . قوله «فخلاهم الله» لم يفسره بمعنى أخفاها، لأن الله لا يفعل الشر عند المعتزلة، وعند أهل السنة يفعل كل ممكن. (ع)(2/389)
أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك:
أنلزمكم إياها. ونحوه فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكى عن أبى عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكونا. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ راجع إلى قوله لهم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وقرئ: وما أنا بطارد الذين آمنوا، بالتنوين على الأصل. فإن قلت:
ما معنى قوله إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ؟ قلت: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم.
أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به «1» من بناء إيمانهم على بادىء الرأى من غير نظر وتفكر.
وما علىّ أن أشق عن قلوبهم وأ تعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون.
ونحوه وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية. أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة تَجْهَلُونَ تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا «2»
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من انتقامه إِنْ طَرَدْتُهُمْ وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء أَعْلَمُ الْغَيْبَ معطوف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أى لا أقول عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعى فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ولا أدعى علم الغيب حتى تنسبونى إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعى وضمائر قلوبهم وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولا على هواكم إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئاً من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه.
وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.
__________
(1) . قوله «ذلك مما تقرفونهم به» أى ترمونهم وتعيبونهم. أفاده الصحاح. (ع)
(2) .
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
لعمرو بن كلثوم من معلقته، و «ألا» استفتاحية تفيد التوكيد- و «لا» ناهية. والنون لتوكيد النهى. أى: لا يسفهن أحد علينا ويبدأنا بالشر، ونجهل: نصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنه بعد النهى. وسمى جزاء الجهل جهلا مشاكلة، أى: فنجازيه فوق فعله بنا، أو فوق جهل كل جاهل وزيادة عليه.(2/390)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك:
جاد فلان فأكثر وأطاب فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل.
[سورة هود (11) : الآيات 33 الى 35]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أى ليس الإتيان بالعذاب إلىّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه إِنْ شاءَ يعنى إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: فأكثرت جدلنا. فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ «1» قلت: قوله إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جزاؤه ما دلّ عليه قوله لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إلىّ أحسنت إليك إن أمكننى. فإن قلت:
فما معنى قوله «2» إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالا، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوى فلطف به:
سمى إرشاداً وهداية. وقيل أَنْ يُغْوِيَكُمْ أن يهلككم من غوى الفصيل غوى، إذا بشم فهلك «3» . ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين ... الخ» قال أحمد: ونظير هذه الآية من مسائل الفقهاء قول القائل: أنت طالق إن شربت إن أكلت. وهي المترجمة بمسئلة اعتراض الشرط على الشرط.
والمنقول عن الشافعية أنها إن شربت ثم أكلت لم يحنث. وإن أكلت ثم شربت حنث. وهذا الفرق مبناه على جعل الجزاء للشرط الآخر، أى الذي يليه، ثم جعلهما معا جزاء للشرط المتوسط، ولذلك سر في العربية لا نطول بذكره وعليه أعرب الزمخشري هذه الآية كما رأيت، والله أعلم. [.....]
(2) . قوله «فان قلت فما معنى ... الخ» السؤال وجوابه مبنى على مذهب المعتزلة: أن الله لا يخلق الشر. أما على مذهب أهل السنة فالاغواء على ظاهره: خلق الغى- أى الضلال- في القلب. (ع)
(3) . قوله «إذا بشم فهلك» في الصحاح «البشم» التخم. يقال: بشمت من الطعام- بالكسر. وبشم الفصيل من كثرة شرب اللبن. (ع)(2/391)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحى؟ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وإجرامى بلفظ المصدر والجمع، كقوله: والله يعلم إسرارهم وأسرارهم. ونحو: جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامى. والمعنى: إن صح وثبت أنى افتريته، فعلىّ عقوبة إجرامى أى افترائى. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عنى وتتألبوا علىّ «1» وَأَنَا بَرِيءٌ يعنى ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى مِمَّا تُجْرِمُونَ من إجرامكم في إسناد الافتراء إلىّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.
[سورة هود (11) : الآيات 36 الى 37]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
لَنْ يُؤْمِنَ إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن حزن بائس مستكين. قال:
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ الْبَالِ «2»
والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم بِأَعْيُنِنا في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظا، وحقيقته: ملتبساً بأعيننا، كأن لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه «3» وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا: وأنا نوحى إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضى الله عنه:
لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضى به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله:
__________
(1) . قوله «وتتألبوا على» أى تتجمعوا. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . لحسان، يقال: ابتأس إذا حزن من كثرة وقوع البأس والمكاره به. والبال القلب أو الشأن. يقول:
ما يقسمه الله لك من نعمة أو نقمة فاقبله حال كونك غير متحزن منه، أى مما قسمه الله لك. واقعد كريما غير مهان طيب الحال والشأن، أو مستريح القلب من نصب الدنيا. وروى: وأقعد بقطع الهمزة، من أقعد المتعدي، فكريما حال على الأول، ومفعول على الثاني، وفيه تجريد.
(3) . قوله «وأن لا يحول بينه» لعله: وأن يحول. (ع)(2/392)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
[سورة هود (11) : الآيات 38 الى 39]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية سَخِرُوا مِنْهُ ومن عمله السفينة، وكان يعملها في برية بهماء «1» في أبعد موضع من الماء، وفي وقت عزَّ الماء فيه عزة شديدة، فكانوا يتضاحكون ويقولون له: يا نوح، صرت نجاراً بعد ما كنت نبيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ يعنى في المستقبل كَما تَسْخَرُونَ منا الساعة، أى: نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. وقيل: إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعرّض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وروى أنّ نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل: الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط:
الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفاً ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة. وقيل: إنّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب بن حام. قال:
فضرب الكثيب «2» بعصاه فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه السلام: هكذا أهلكت؟ قال لا، مت وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمت شبت. قال: حدّثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: طبقة للدواب والوحوش، وطبقة للإنس، وطبقة للطير.
ثم قال له: عد بإذن الله كما كنت، فعاد تراباً مَنْ يَأْتِيهِ في محل النصب بتعلمون. أى:
__________
(1) . قوله «برية بهماء» أى لا يهتدى فيها الطريق. ويقال: الممر أبهم، وكذا الرجل الشجاع أبهم، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «قال فضرب الكثيب» أى راوى هذه القصة، لكنه غير معلوم. (ع)(2/393)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه، ويعنى به إياهم، ويريد بالعذاب: عذاب الدنيا وهو الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه عَذابٌ مُقِيمٌ وهو عذاب الآخرة.
[سورة هود (11) : الآيات 40 الى 41]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط والجزاء. فإن قلت:
وقعت غاية لماذا؟ قلت: لقوله: ويصنع الفلك، أى: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
فإن قلت: «فإذا اتصلت «حتى» بيصنع فما تصنع بما بينهما من الكلام؟ قلت: هو حال من يصنع، كأنه قال: يصنعها والحال أنه كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه. فإن قلت: فما جواب كلما؟
قلت: أنت بين أمرين: إما أن تجعل سَخِرُوا جواباً وقالَ استئنافا، على تقدير سؤال سائل. أو تجعل سَخِرُوا بدلا من مَرَّ أو صفةل مَلَأٌ وقالَ جوابا. وَأَهْلَكَ عطف على اثنين، وكذلك وَمَنْ آمَنَ يعنى: واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم. واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار، وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر، لا لتقديره عليه «1» وإرادته به- تعالى الله عن ذلك- قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته إِلَّا قَلِيلٌ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانوا ثمانية: نوح وأهله، وبنوه الثلاثة، ونساؤهم» «2» وعن محمد بن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال وخمس نسوة. وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث، ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون: نصفهم رجال ونصفهم نساء. ويجوز أن يكون كلاما واحداً وكلامين، فالكلام الواحد: أن يتصل بِسْمِ اللَّهِ باركبوا حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله. أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم خفوق النجم، ومقدم الحاج.
ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في بِسْمِ اللَّهِ من معنى الفعل، أو بما فيه
__________
(1) . قوله «يختار الكفر لا لتقديره عليه» هذا على مذهب المعتزلة من عدم سبق القضاء والقدر على الشر وعدم إرادته، ولكن مذهب أهل السنة أن كل ممكن مسبوق بالقضاء والقدر والارادة ولو شراً. (ع)
(2) . لم أره مرفوعا. وذكره الطبري بإسناد عن قتادة قال: ذكر لنا أن لم يتم في السفينة إلا نوح وامرأته وبنوه الثلاثة ونساؤهم. فجميعهم ثمانية.(2/394)
من إرادة القول. والكلامان: أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها جملة من مبتدإ وخبر مقتضبة، أى بسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجرى قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم «1» ، كقوله:
ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا «2»
ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أى بقدرته وأمره. وقرئ مَجْراها وَمُرْساها بفتح الميم، من جرى ورسى، إما مصدرين أو وقتين أو مكانين. وقرأ مجاهد: مجريها ومرسيها، بلفظ اسم الفاعل، مجرورى المحل، صفتين لله. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضية؟ قلت: معناه أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضية بأن تكون في موضع الحال كقوله:
وَجَاؤُنَا بِهِمْ سَكَرٌ عَلَينَا «3»
فلا تكون كلاما برأسه، ولكن فضلة من فضلات الكلام الأوّل، وانتصاب هذه الحال عن
__________
(1) . قال محمود: «ويجوز أن يقحم الاسم ... الخ» قال أحمد: نفور من اعتقاد أن الاسم هو المسمى، ولو اعتقد ذلك لما جعله مقحما، والله أعلم.
(2) .
تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فان حان يوما أن يموت أبو كما ... فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أهان ولا خان الأمين ولا غدر
إلى الحول تم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
للبيد بن ربيعة العامري، يوصى ابنتيه أسماء ويسرة. وتمنى: ماض، أو مضارع حذف منه إحدى التاءين، والاستفهام إنكارى وهو كناية عن تحتم الموت. ويوما: ظرف لحان. والمراد به: مطلق الزمن. وأن يموت: فاعل. وخمش وجهه خمشا: جرحه بأظفاره، أى: لا تبالغا في الجزع حتى تفعلا ذلك، ووقف على شعر منصوب بصورة المرفوع على لغة، نهاهما عن الجزع وأمرهما بعد مناقبه. وصديقه: مفعول مقدم، وإلى الحول: متعلق بقولا، ولفظ «اسم» مقحم بين ثم ولفظ السلام، لأنه أراد تحيتهما بهذا اللفظ بخصوصه وإن أفاد غيره معناه. وقيل: أقحمه إشارة إلى أنه لا أمان لهما بعد موته، وفي «ثم» إيماء إلى أنه لم يسلم الآن، وإنما ذلك بعد الحول، والمراد أنه لا يخطر ببالهما ولا يحزنا عليه بعد ذلك، فعبر عنه بسلام الموادعة الذي يلزمه الافتراق، والافتراق يلزمه عدم التذكر عادة. ويحتمل أن المراد الدلالة على أن الوصية قد تمت، ثم قال: ومن يبك مصابه حولا كاملا فقد أبلغ في العذر، كأنه يعتذر عن سكوته بأنه أدى ما عليه، أى: وأنتما كذلك.
(3) .
وجاءونا بهم سكر علينا ... فأجلى القوم والسكران صاحى
السكر والسكر: كالبعد والبعد، و «بهم سكر» جملة حالية. و «علينا» متعلق بسكر: أى جاءنا القوم غضابا علينا، فانكشفوا عن مكان الحرب ومضوا عنه. والحال أن السكران منهم مفلق من سكره. ويروى «فأجلى اليوم» أى زال ومضى، أو انكشفت ظلمة الحرب في ذلك اليوم: أى لم يلبثوا إلا هو والحال أن الذي كان سكران صاح من سكره، لعلمه أنه ليس أهلا لذلك، فأجلى هنا لازم.(2/395)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله بمعنى التقدير، كقوله تعالى ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لولا مغفرته لذنوبكم ورحمته إياكم لما نجاكم.
[سورة هود (11) : الآيات 42 الى 43]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
فإن قلت: بم اتصل قوله وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ؟ قلت: بمحذوف دل عليه ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون: بسم الله، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ أى تجرى وهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ يريد موج الطوفان، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها. فإن قلت:
الموج: ما يرتفع فوق الماء عند اضطرابه وزخيره «1» وكان الماء قد التقى وطبق ما بين السماء والأرض، وكانت الفلك تجرى في جوف الماء كما تسبح السمكة، فما معنى جريها في الموج؟
قلت: كان ذلك قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الطوفان الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوى إلى جبل يعصمني من الماء. قيل: كان اسم ابنه: كنعان. وقيل: يام. وقرأ على رضى الله عنه:
ابنها، والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن على وعروة بن الزبير: ابنه، بفتح الهاء، يريدان ابنها، فاكتفيا بالفتحة عن الألف، وبه ينصر مذهب الحسن. قال قتادة: سألته فقال: والله ما كان ابنه، فقلت: إنّ الله حكى عنه إن ابني من أهلى، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل بقوله مِنْ أَهْلِي ولم يقل: منى، ولنسبته إلى أمّه وجهان، أحدهما: أن يكون ربيباً له، كعمر بن أبى سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون لغير رشدة، وهذه غضاضة عصمت منها الأنبياء عليهم السلام. وقرأ السدى: ونادى نوح ابناه، على الندبة والترثى. أى: قال يا ابناه. والمعزل:
مفعل، من عزله عنه إذا نحاه وأبعده، يعنى: وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: كان في معزل عن دين أبيه «يا نبىّ» قرئ بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة، وبالفتح اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: يا بنيا، أو سقطت
__________
(1) . قوله «عند اضطرابه وزخيره» في الصحاح «زخر الوادي» إذا امتد جداً وارتفع. ومنه يقال: بحر زاخر.(2/396)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
الياء والألف لالتقاء الساكنين، لأنّ الراء بعدهما ساكنة إِلَّا مَنْ رَحِمَ إلا الراحم وهو الله تعالى «1» ، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله. أى إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وكان لهم غفورا رحيما في قوله إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وذلك أنه لما جعل الجبل عاصما من الماء قال له: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم يعنى السفينة. وقيل لا عاصم، بمعنى: لا ذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله ماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ راضِيَةٍ وقيل: إِلَّا مَنْ رَحِمَ استثناء منقطع، كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم، كقوله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وقرئ إِلَّا مَنْ رَحِمَ على البناء للمفعول.
[سورة هود (11) : آية 44]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز «2» على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله يا أَرْضُ، وَيا سَماءُ ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله ابْلَعِي ماءَكِ وأَقْلِعِي من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته
__________
(1) . قال محمود: «المراد إلا الراحم وهو الله تعالى أو لا عاصم اليوم ... الخ» قال أحمد: والاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. وزاد الزمخشري خامسا، وهو لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم. والمارد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض، والله أعلم. [.....]
(2) . قال محمود: «نداء الأرض والسماء بما ينادى به العاقل ... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط في السكوت عن ذكر الموصوف اكتفاء بصفاته لانفراده بها السكوت عن ذكر الأوصاف أحيانا، اكتفاء بذكر الموصوف لتبينه بها وتوحده فيها، وأنه متى ذكر مكانها قد ذكرت بذكره في مثل قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ الآية.
والمراد: وهو الله الموصوف بصفات الكمال المشهور بها في العالمين. ومنه:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ولقد تحيل الشعراء على التعلق بأذيال هذه المعاني اللطيفة، فقال أبو الطيب يمدح عضد الدولة:
لا تحمدنها واحمدن هماما ... إذ لم يسم حامد سواكا
يعنى لا تمنح نفسك فإنك المنفرد بالممادح، حتى إذا ذكرت ولم يسم المعنى بها لم يسبق إلى ذهن أحد غيرك لتفردك بها.(2/397)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
على الفور من غير ريث، فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا إبطاء. والبلع:
عبارة عن النشف. والإقلاع: الإمساك. يقال: أقلع المطر وأقلعت الحمى وَغِيضَ الْماءُ من غاضه إذا نقصه وَقُضِيَ الْأَمْرُ وأنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه وَاسْتَوَتْ واستقرّت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالموصل وَقِيلَ بُعْداً يقال بعد بعدا وبعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء ومجيء أخباره على الفعل المبنى للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأنّ فاعلها فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى، ولا أن يقضى ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أن تستوي السفينة على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره، ولما ذكرنا من المعاني والنكت استفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤسهم، لا لتجانس الكلمتين، وهما قوله ابْلَعِي وأَقْلِعِي وذلك وإن كان لا يخلى الكلام من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب وما عداها قشور. وعن قتادة: استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرّت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء. وروى أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا، وقد أعتقه الله من الغرق. وروى أنّ نوحا صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكراً لله تعالى.
[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 46]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
نداؤه ربه: دعاؤه له، وهو قوله رَبِّ مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله.
فإن قلت: فإذا كان النداء هو قوله رَبِّ فكيف عطف فَقالَ رَبِّ على نادى بالفاء؟
قلت: أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ بغير فاء إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أى بعض أهلى، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلى، فما بال ولدى؟ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ
أى أعلم الحكام وأعدلهم «1» ، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل
__________
(1) . قال محمود: «قال أى أعلم الحكام وأعدلهم، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم ... الخ» قال أحمد:
ثم حدث بعد الزمخشري ترفع عن أقضى القضاة إلى قاضى القضاة، والذي تلاحظوا به في ارتفاع هذه الثانية على الأولى:
أن الأولى تقتضي مشاركة القضاة لأقضاهم في الوصف، وأن يزاد عليهم، فترفعوا أن يشركهم أحد في وصفهم ممن دونهم في المنصب، فعدلوا عما يشاركه فيه إلى ما ليس كذلك، فأفردوا رئيسهم بتلقيبه بقاضى القضاة: أى هو الذي يقضى بين القضاة ولا يشاركهم منهم أحد في وصفه، وجعلوا الذي يليه في الرتبة أقضى القضاة إلا أنهم إنما يعنون قاضى قضاة زمانه أو إقليمه. وإذا جاز أن يطلق على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه أقضى قضاة الصحابة في زمانه كما أطلقه عليه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال «أقضاكم على» فدخل في المخاطبين القضاة وغيرهم، فلا حرج إن شاء الله أن يطلق على أعدل قضاة الزمان أو الإقليم وأعلمهم: قاضى القضاة، وأقضى القضاة، أى قضاة زمانه وبلده، وكل قرن ناجم في زمن فهو شبيه زمن فيه بدا هذا اللقب.(2/398)
والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر. ويجوز أن يكون من الحكمة، على أن يبنى من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب «1» وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك- وإن كان أمس أقاربك رحماً- فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملا غير صالح، مبالغة في ذمّه، كقولها:
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ «2»
وقيل: الضمير لنداء نوح، أى: إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك- فإن قلت:
فهلا قيل: إنه عمل فاسد «3» ؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وقرئ: عمل غير صالح أى عمل عملا غير صالح. وقرئ:
فلا تسئلنّ، بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعنى فلا تلتمس منى ملتمساً أو التماساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. وذكر المسألة
__________
(1) . قوله «من الأباعد في المنصب» لعله تحريف، وأصله في النسب. (ع)
(2) . مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 218 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . قال محمود: «فهلا قيل: إنه عمل فاسد قلت لما نفاه عن أهله نفى عنه ... الخ» قال أحمد. ولهذا المعنى والله أعلم قيل له عليه الصلاة والسلام وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وإن كان مأموراً بالإنذار على العموم، ولكن لما كانت أهلية النبي عليه الصلاة والسلام مظنة الاتكال والفتور عن العمل، خص أهله بالإنذار إيذانا بذلك، والله أعلم. ولهذا لما نزلت أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنى لا أملك لكم من الله شيئاً، أو قال ذلك ولكل واحد منهم بخصوصه.(2/399)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت: لم سمى نداؤه سؤالا ولا سؤال فيه؟ قلت: قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. فإن قلت: قد وعده أن ينجى أهله، وما كان عنده «1» أن ابنه ليس منهم ديناً، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمى سؤاله جهلا؟ قلت: إن الله عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.
[سورة هود (11) : آية 47]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)
أَنْ أَسْئَلَكَ من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط منى من ذلك وَتَرْحَمْنِي بالتوبة علىّ أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا.
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت قد وعده الله أن ينجي أهله وما كان عنده ... الخ» قال أحمد: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك، وليس الأمر كما تخيله الزمخشري، ونحن نوضح الحق في الآية منزلا على نصها مع تنزيه نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد نوح أولا تنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعاً على باطن أمره بل معتقداً بظاهر الحال أنه مؤمن، بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين، فسأل الله فيه بناء على ذلك، فتبين له أنه في علمه من المستثنين، وأنه هو لا علم له بذلك، فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إبانة عذر أولى منه أن يكون عتباً، فان نوحا عليه السلام لا يكلفه الله علما استأثر به غيبا. وأما قوله إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فالمراد منه النهى عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره، وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين. والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب، بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال، ولذلك مثل عليه الصلاة والسلام ذلك، واستعاذ بالله أن يقع منه ما نهى عنه والله أعلم.(2/400)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
[سورة هود (11) : آية 48]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)
وقرئ: يا نوح اهبط، بضم الباء بِسَلامٍ مِنَّا مسلماً محفوظاً من جهتنا أو مسلماً عليك مكرّماً وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ ومباركا عليك، والبركات الخيرات النامية. وقرئ: وبركة، على التوحيد وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ يحتمل أن تكون من للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم أمم، لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لإبداء الغاية أى:
على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله وَأُمَمٌ رفع بالابتداء. وسَنُمَتِّعُهُمْ صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأنّ قوله مِمَّنْ مَعَكَ يدل عليه. والمعنى: أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وعن كعب بن محمد القرظي:
دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر.
وعن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب.
وقيل: المراد بالأمم الممتعة: قوم هود وصالح ولوط وشعيب.
[سورة هود (11) : آية 49]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أى تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا من قبل إيحائى إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت فَاصْبِرْ على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه إِنَّ الْعاقِبَةَ في الفوز والنصر والغلبة لِلْمُتَّقِينَ. وقوله وَلا قَوْمُكَ معناه: إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده.(2/401)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 52]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
أَخاهُمْ واحداً منهم، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا. وهُوداً عطف بيان. وغَيْرُهُ بالرفع: صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ: غيره، بالجرّ صفة على اللفظ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأنّ شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع أَفَلا تَعْقِلُونَ إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، قيل اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ آمنوا به ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، والمدرار: الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حرّاصاً عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين «1» بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية. وقيل: أراد القوّة في المال.
وقيل: القوّة على النكاح وقيل: حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إنى رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئاً لعلّ الله يرزقني ولداً، فقال: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممَّ قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السلام وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح عليه السلام وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ.
وَلا تَتَوَلَّوْا ولا تعرضوا عنى وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه مُجْرِمِينَ مصرّين على إجرامكم وآثامكم.
[سورة هود (11) : آية 53]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
__________
(1) . قوله «وكانوا مدلين» من الدل. وفي الصحاح: الدل قريب من الهدى، وهما من السكينة والوقار. (ع)(2/402)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لولا أُنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطاً له من الإجابة.
[سورة هود (11) : الآيات 54 الى 55]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)
اعْتَراكَ مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أى خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين «1» . وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنوناً وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنونا والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة، وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة «2» أراد أن يطلع رأسه.
وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت «3» ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد، فيقول الرجل:
الله شهيد على أنى لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أنى لا أفعله. فإن قلت:
هلا قيل: إنى أشهد الله وأشهدكم؟ «4» قلت: لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد
__________
(1) . قوله «المبرسمين» في الصحاح «البرسام» علة معروفة. (ع)
(2) . قوله «وضب من الزندقة» في الصحاح «الضب» الحقد. والضب: واحد ضباب النخل، وهو طلعه. (ع)
(3) . قوله «لا يبالون بالبهت» رمى الشخص بما ليس فيه. (ع)
(4) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل أشهد الله وأشهدكم ... الخ» قال أحمد: وتلخيص ما قاله أن صيغة الخبر لا تحتمل سوى الاخبار بوقوع الاشهاد منه، فلما كان إشهاده لله واقعا محققا عبر عنه بصيغة الخبر، لأنه إشهاد صحيح ثابت، وعبر في جانبهم بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم وقلة المبالاة به، وهو مراده في هذا المقام معهم. ويحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة، والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما عدل إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر، التمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر، والله الموفق الصواب.(2/403)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد على أنى لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أى أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطانا فَكِيدُونِي جَمِيعاً أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار، فإنى لا أبالى بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرّتكم وإن تعاونتم علىّ وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم منى إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلنى وتذهب بعقلي.
[سورة هود (11) : الآيات 56 الى 57]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا. فإن قلت:
الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسالات به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول وَيَسْتَخْلِفُ كلام مستأنف، يريد: ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم وَلا تَضُرُّونَهُ بتوليكم شَيْئاً من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد الله: ويستخلف، بالجزم.
وكذلك: ولا تضروه، عطفاً على محل فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قوماً غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أى رقيب عليه مهيمن، فما تخفى(2/404)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم.
[سورة هود (11) : آية 58]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟
قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى:
وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.
[سورة هود (11) : الآيات 59 الى 60]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
وَتِلْكَ عادٌ إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأنه قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف وصف أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يريد رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.
ومعنى اتباع أمرهم: طاعتهم. ولما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله. وأَلا وتكرارها مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم، تهويل لأمرهم وتفظيع له، وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.
فإن قلت: بُعْداً دعاء بالهلاك، فما معنى الدعاء به عليهم بعد هلاكهم؟ قلت: معناه الدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له: ألا ترى إلى قوله:
إخْوَتِى لَا تَبْعَدُوا أبَداً ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا «1»
__________
(1) .
إخوتى لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد يعدوا
ما أمرّ العيش بعدكم ... كل عيش بعدكم نكد
ليت شعري كيف شربكم ... إن شربى بعدكم ثمد
لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. وتقول العرب: بعد بالضم في ضد القرب، وبالكسر في الهلاك، ومضارع الأول مضموم، ومضارع الثاني مفتوح. وما في البيت منه. وما أمر: تعجب، وشبهت العيش وهو الحياة أو ما يعاش به بشيء مر على طريق المكنية، وإثبات المرارة تخييل، أو استعارتها للنقص على طريق التصريحية. والنكد:
العسر الضيق المنغص. والثمد: الماء القليل الذي لا مادة له فينقطع سريعاً. ورجل مثمود، إذا كثر عليه السؤال من العلم أو المال حتى نفد ما عنده. والمعنى: أن سروري بعدكم منقطع كالماء القليل، وعبرت بذلك لمشاكلة ما قبله.
ويروى لها بعد البيت الأول:
لو تملتهم عشيرتهم ... لاقتناء العز أو ولدوا
هان من بعض الرزية أو ... هان من بعض الذي أجد
كل ما حى وإن أمروا ... وارد والحوض الذي وردوا
ومعنى تملتهم: عاشوا معهم مليا من الزمان، وأقحمت «من» مع إغباء «بعض» عنها، للدلالة على تبغيض البغض.
و «ما» مقحمة، بنى كل حى مبالغة في العموم. وأمروا بالكسر: كثروا. والحوض: تمثيل للموت.(2/405)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد: فإن قلت: ما الفائدة في هذا البيان «1» والبيان حاصل بدونه؟
قلت: الفائدة فيه أن يوسموا بهذه الدعوة وسما، وتجعل فيهم أمراً محققاً لا شبهة فيه بوجه من الوجوه، ولأنّ عاداً عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم، والأخرى إرم.
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما الفائدة في هذا البيان وجعل قوم هود عطف بيان على عاد ... الخ» قال أحمد:
فيه أيضا فائدتان جليلتان، إحداهما: النسبة بذكر هود الذي إنما استحقوا الهلاك بسببه على موجب الدعاء عليهم، وكأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه، والأخرى تناسب الآي بذلك، فان قبلها وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وقبل ذلك حفيظ وغليظ، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القوافي، والله أعلم.(2/406)
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبى من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. وعن معاوية بن أبى سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل:
لَيْسَ الفَتَى بِفَتيً لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَلَا تَكُونُ لَهُ فِى الأَرْضِ آثَارُ «1»
وقبل: استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون استعمر في معنى أعمر، كقولك استهلكه في معنى أهلكه، ومعناه: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره قَرِيبٌ دانى الرحمة سهل المطلب مُجِيبٌ لمن دعاه وسأله فِينا فيما بيننا مَرْجُوًّا كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. وعن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدّمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه يَعْبُدُ آباؤُنا حكاية حال ماضية مُرِيبٍ من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من «أراب الرجل» إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازى. قيل إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي بحرف الشك وكان على
__________
(1) . قوله «بفتى» خبر ليس. و «لا يستضاء به» صفته. ويجوز أنه حال من الفتى الأول، شبهه في حسن الرأى وهداية المستشير بسراج منير. ويمكن أن شبهه بكوكب في السماء، ليقابل الأرض بعده. والجامع ما مر. ويجوز أن الجامع أنه يكشف غمة الفقر، كما أن المشية به يكشف ظلمة الليل، وعلى كل حال فالاستضاءة تخييل. روى أنه قيل لمعاوية: لم أكثرت من حفر الأنهار وغرس الأشجار وإحياء القفار؟ فقال: ما حملني عليه إلا هذا البيت، فالآثار هي ما كان يفعله. ويحتمل أنها المكارم الموجبة للثناء بعد الفناء. [.....](2/407)
يقين أنه على بينة، لأنّ خطابه للجاحدين، فكأنه قال: قدّروا أنى على بينة من ربى، وأنى نبىّ على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربى في أوامره، فمن يمنعني من عذاب الله؟ فَما تَزِيدُونَنِي إذن حينئذ «1» غَيْرَ تَخْسِيرٍ يعنى تخسرون أعمالى وتبطلونها. أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوننى عليه غير أن أخسركم، أى أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون آيَةً نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل. فإن قلت:
فبم يتعلق لَكُمْ قلت: بآية حالا منها متقدّمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأجر عن مسكم لها بسوء إلا يسيراً، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم تَمَتَّعُوا استمتعوا بالعيش فِي دارِكُمْ في بلدكم. وتسمى البلاد الديار، لأنه يدار فيها أى يتصرف. يقال: ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالى مكة:
نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت غَيْرُ مَكْذُوبٍ غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله:
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ. «2» ....
أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفى بك، فإذا وفي به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا «3»
__________
(1) . قوله «إذن حينئذ» لعل إحداهما مزيدة. (ع)
(2) .
ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى الطعن النهال نوافله
يقول: ورب يوم شهدنا فيه، فحذف الجار وأوصل الضمير بالفعل، فصار الفعل كأنه متعد لمفعولين: الأول الضمير، والثاني: سليما، أى قبيلتيهما «قليل» صفة ليوم. و «نوافله» فاعل به، وقلة الغنائم لأن قومه لا تراعى حيازتها. أو المعنى أن أعداءه لا ينالون من قومه إلا الطعن، تهكما بهم، فالاستثناء متصل. ويجوز أنه منقطع.
ووصف المفرد بالجمع باعتبار أنواعه أو مراته، فهو متعدد أيضا. والنهال: جمع ناهل، أى ريان أو عطشان على التشبيه هنا، فهو من الأضداد، ووصف الطعن بأنه ناهل مجاز عقلى، لأن الذي يوصف به الرمح أو الفارس.
والمعنى: أنهم يتشفون من غيظ قلوبهم بذلك الطعن.
(3) .
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت ألما أصح والشيب وازع
النابغة الذبياني، وبنى حين على الفتح لاضافته إلى مبنى، وشبه المشيب بمن يصح معه العتاب على طريق المكنية والعتاب تخييل، ويحتمل أن إيقاع العتاب على المشيب مجاز عقلى. والمعنى: عاتبت نفسي زمن الشيب على الصبا، أى الميل إلى الهوى كما يفعل الشبان. وقوله «فقلت» بيان العتاب، أى: إلى الآن لم أفق من سكرة الصبا، والحال أن الشيب زاجرا لي عن موجب العتاب، والاستفهام توبيخي: أى لا ينبغي ذلك، ووزعته فاتزع: كففته فامتنع، فالوازع الذي يصلح الصف ويمنعه عن الاعوجاج، وأوزعنى: ألهمنى ما يصلح شأنى.(2/408)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على نجينا، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزى يومئذ، كما قال وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على: وكانت التنجية من خزى يومئذ، أى من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزى أعظم من خزى من كان هلاكه يغضب الله وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. وقرئ أَلا إِنَّ ثَمُودَ ولِثَمُودَ كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحىّ أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة.
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
رُسُلُنا يريد الملائكة. عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل:
جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة. وعن السدى: أحد عشر بِالْبُشْرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد سَلاماً سلمنا عليك سلاما سَلامٌ أمركم سلام. وقرئ: فقالوا سلما قال سلم، بمعنى السلام. وقيل: سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ «1»
فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه. أو فما لبث مجيئه. والعجل: ولد البقرة، ويسعى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام
__________
(1) . لذي الرمة غيلان بن عقبة، يقول: مررنا بديار المحبوبة مىّ، فقلنا إيه، أى حدثى واستأنسى، فأسرنا سلم، أى سلامة وأنس، فسلمت علينا ولمعت ثناياها وغابت بسرعة، كما لمع الغمام بلمعان البرق. وغاب البرق بسرعة.
واكتل اكتلالا: لمع لمعانا واللوائح الظواهر: صفة الغمام، لتعدده معنى.(2/409)
البقر حَنِيذٍ مشوىّ بالرضف «1» في أخدود. وقيل حَنِيذٍ يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقا، ويدل عليه بِعِجْلٍ سَمِينٍ. يقال: نكره وأنكره واستنكره، ومنكور قليل في كلامهم، وكذلك: أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى:
وَأَنْكَرَتْنِى وَمَا كَانَ الَّذِى نَكِرَتْ ... مِنَ الْحَوَادِثِ إلّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا «2»
قيل: كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها «3» . وقيل: كانت عادتهم أنه إذا مسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا وَأَوْجَسَ فأضمر «4» . وإنما قالوا لا تَخَفْ لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه.
أو عرفوه بتعريف الله. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ قيل: كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد الله: وامرأته قائمة وهو قاعد فَضَحِكَتْ سروراً بزوال الخيفة «5» أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد
__________
(1) . قوله «مشوى بالرضف» أى الحجارة المحماة، كما في الصحاح. (ع)
(2) . للأعشى. ويقال: أنكره ونكره: جهله ونفر منه: أى جهلتنى المحبوبة، وما كان الذي أنكرته من الحوادث إلا الشيب والصلع وهو انحسار شعر الرأس. وقيل: إن أبا عبيدة سمع بشارا ينكر نسبة هذا البيت للأعشى ويقول: إنه مصنوع عليه لا يشبه كلامه، فتعجب أبو عبيدة من فطنته، كأنه صح عنده إنكاره.
(3) . قال محمود: «قيل إنه كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها ... الخ» قال أحمد:
وقد وردت قصة إبراهيم هذه في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، وهو دال على أنه إنما أوجس منهم خيفة لعلمه أنهم ملائكة وعدم علمه فيم جاءوا. الثاني: في الحجر قوله وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إلى قوله لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ فلم يطمئنوا بإعلامه أنهم ملائكة، ولكن بأنهم يبشرون له، فدل على استشعارهم أنه علم كونهم ملائكة ووجل مما جاءوا فيه. الثالث: في الذاريات فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ فهو أيضا كذلك. وأما لوط فلم يشعر أنهم ملائكة حتى أعلموه بذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فأول ما أعلموا به أنهم رسل، فالفرق بين هذه الآية وبين آي إبراهيم، مصداق لأن إبراهيم علم كونهم ملائكة ولوطا لم يعلم ذلك، ولا يبعد من فضل إبراهيم على لوط أن يبعد على فراسته أن يعلم أنهم ملائكة دون لوط عليهما السلام.
(4) . عاد كلامه. قال: «ومعنى أوجس أضمر وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف ... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل وهم فيه الزمخشري والله أعلم، لأنهم إنما علموا خوفه ووجله باخباره إياهم بذلك، ويدل عليه قوله تعالى في آية أخرى قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ والقصة واحدة، والله الموفق للصواب.
(5) . عاد كلامه. قال: «وضحك زوجته لأنها سرت بذهاب الخيفة ... الخ» قال أحمد: ويبعد هذا التأويل أنها قالت بعد يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ فلو كان حيضها قبل بشارتها لما تعجبت، إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة مهماز على إمكان الحمل، والله الموفق.(2/410)
أظلهم العذاب. وقيل: كانت تقول لإبراهيم: اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإنى أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سروراً لما أتى الأمر على ما توهمت. وقيل ضحكت فحاضت.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابى فَضَحِكَتْ بفتح الحاء يَعْقُوبَ رفع بالابتداء، كأنه قيل:
ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أى من بعده. وقيل الوراء: ولد الولد، وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرئ يَعْقُوبَ بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
... لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلَا نَاعِبٍ «1» ...
الألف في يا وَيْلَتى مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في «يا لهفاً» و «يا عجباً» وقرأ الحسن:
يا ويلتى، بالياء على الأصل. وشَيْخاً نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة. وقرئ شيخ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أى: هذا بعلى هو شيخ. أو بعلى: بدل من المبتدأ، وشيخ:
خبر، أو يكونان معاً خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها الله. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها «2» ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. وأمر الله: قدرته وحكمته: وقوله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بنى إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده مَجِيدٌ كريم كثير الإحسان إليهم. وأهل البيت: نصب على النداء أو على الاختصاص، لأن أَهْلَ الْبَيْتِ مدح لهم: إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.
__________
(1) . تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة 381 فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . قوله «ولا يزدهيها» في الصحاح: زهاه وازدهاه: استخفه وتهاون به. (ع)(2/411)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 75]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
الرَّوْعُ ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف ومليء سرورا بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: هو محذوف كما حذف قوله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا وقوله يُجادِلُنا كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت:
ثم ابتدأ فقال يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ وقيل في يُجادِلُنا: هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال: وقيل: إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا.
حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا.
فعند ذلك قال إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ. فِي قَوْمِ لُوطٍ في معناهم. وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وعن قتادة:
ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير «1» . وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على كل من أساء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الذنوب مُنِيبٌ تائب راجع إلى الله بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.
[سورة هود (11) : آية 76]
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول: أى قالت له الملائكة أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بحدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
__________
(1) . قوله «عشرة فيهم خير» لعله عشرة يصلون. (ع)(2/412)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
[سورة هود (11) : آية 77]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
كانت مساءة لوط وضيق ذرعه «1» لأنه حسب أنهم إنس، فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم. روى أنّ الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا:
وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها. يقال: يوم عصيب، وعصبصب، إذا كان شديداً من قولك: عصبه، إذا شدّه.
[سورة هود (11) : الآيات 78 الى 79]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79)
يُهْرَعُونَ يسرعون كأنما يدفعون دفعاً وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل معناه: وقد عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك هؤُلاءِ بَناتِي أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم، وأراد: هؤلاء بناتي فتزوّجوهنّ وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبى لهب وأبى العاص بن وائل قبل الوحى وهما كافران «2»
__________
(1) . قوله «وضيق ذرعه» في الصحاح: يقال ضقت بالأمر ذرعا، إذا لم تطقه ولم تقو عليه. وأصل الذرع إنما هو بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله. (ع)
(2) . قلت: قوله «أبو العاص بن وائل» غلط فاحش وإنما هو أبو العاص بن الربيع، ليس في نسبته من اسمه وائل. وكأنه انتقل ذهنه إلى العاص بن وائل السهمي والد عمرو، وليس له في هذه القضية مدخل، وأما قصة تزويج أبى العاص بن الربيع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا عتبة بن أبى لهب فذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبراني من طريقه قال: كان أبو العاص بن الربيع من رجال مكة مالا وأمانة وكانت خديجة خالته. فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بزينب وكان لا يخالفها. وذلك قبل أن ينزل عليه فلما أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة آمنت خديجة وبناته وثبت أبو العاص على شركه. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبى لهب بنته رقية. فلما دعا قريشا إلى أمرين قال بعضهم لبعض: قد فرغتم محمدا من همه ببناته. فردوهن عليه فمشوا إلى أبى العاص. فأبى عليهم. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب. ففارق رقية. وزوجوه بنت سعيد بن العاص. فتزوجها بعده عثمان بن عفان. فذكر قصة أبى العاص وأسره ببدر» وروى البيهقي في الدلائل من طريق قتادة «أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنته أم كلثوم في الجاهلية عتبة ابن أبى لهب. ورقية أخاه. فلما جاء الإسلام أمر أبو لهب ولديه فطلقا البنتين. [.....](2/413)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وقيل كان لهم سيدان مطاعان، فأراد أن يزوجهما ابنتيه: وقرأ ابن مروان: هنّ أطهر لكم، بالنصب، وضعفه سيبويه وقال: احتبى ابن مروان في لحنه. وعن أبى عمرو بن العلاء: من قرأ هُنَّ أَطْهَرُ بالنصب فقد تربع في لحنه، وذلك أنّ انتصابه على أن يجعل حالا قد عمل فيها ما في هؤلاء من معنى الفعل، كقوله هذا بَعْلِي شَيْخاً أو ينصب هؤلاء بفعل مضمر، كأنه قيل:
خذوا هؤلاء، وبناتي: بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال، وهُنَّ فصل، وهذا لا يجوز لأنّ الفصل مختص بالوقوع بين جزأى الجملة، ولا يقع بين الحال وذى الحال، وقد خرّج له وجه لا يكون هُنَّ فيه فصلا، وذلك أن يكون هؤلاء مبتدأ وبَناتِي هُنَّ جملة في موضع خبر المبتدإ، كقولك: هذا أخى هو، ويكون أَطْهَرُ حالا فَاتَّقُوا اللَّهَ بإيثارهنّ عليهم وَلا تُخْزُونِ ولا تهينونى ولا تفضحوني، من الخزي. أو ولا تخجلوني، من الخزاية وهي الحياء فِي ضَيْفِي في حق ضيوفى فإنه إذا خزى ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ رجل واحد يهتدى إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء. وقرئ: ولا تخزون، بطرح الياء. ويجوز أن يكون عرض البنات عليهم مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدّة امتعاضه «1» مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا له ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم، ومن ثمّ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مستشهدين بعلمه ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ لأنك لا ترى مناكحتنا، وما هو إلا عرض سابرىّ «2» . وقيل: لما اتخذوا إتيان الذكران مذهبا ودينا لتواطؤهم عليه، كان عندهم أنه هو الحق، وأنّ نكاح الإناث من الباطل، فلذلك قالوا: ما لنا في بناتك من حق قط، لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الذي نحن عليه. ويجوز أن يقولوه على وجه الخلاعة، والغرض نفى الشهوة لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة.
[سورة هود (11) : آية 80]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
__________
(1) . قوله «لشدة امتعاضه» امتعض من الأمر: غضب منه وشق عليه، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وما هو إلا عرض سابري» عرض سابري بفتح العين: نوع من الثياب رقيق، منسوب إلى سابور من الأكاسرة، كذا بهامش. وفي الصحاح: عرضت له الشيء. أى أظهرته له وأبرزته إليه. يقال: عرضت له ثوبا مكان حقه. وفي المثل: عرض سابري، لأنه ثوب جيد يشترى بأول عرض ولا يبالغ فيه. (ع)(2/414)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
جواب «لو» محذوف، كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ يعنى لو أنّ لي بكم قوّة لفعلت بكم وصنعت. يقال: مالى به قوّة، وما لي به طاقة. ونحوه لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ومالى به يدان، لأنه في معنى لا اضطلع به ولا أستقلّ به. والمعنى لو قويت عليكم بنفسي، أو أويت إلى قوىّ أستند إليه وأ تمنع به فيحمينى منكم. فشبه القوىّ العزيز بالركن من الجبل في شدّته ومنعته، ولذلك قالت الملائكة- وقد وجدت عليه-: إنّ ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخى لوطاً، كان يأوى إلى ركن شديد» «1» وقرئ «أو آوى» بالنصب بإضمار «أن» كأنه قيل: لو أن لي بكم قوّة أو أويا، كقولها:
لَلبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِى «2»
وقرئ «إلى ركن» بضمتين. وروى أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل يرادّهم ما حكى الله عنه ويجادلهم، فتسوّروا الجدار.
[سورة هود (11) : آية 81]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فلما رأت الملائكة ما لقى لوط من الكرب قالوا: يا لوط، إن ركنك لشديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه- وله جناحان وعليه وشاح من درّ منظوم وهو براق الثنايا- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال الله تعالى فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط قوماً سحرة لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ جملة موضحة للتي قبلها، لأنهم إذا كانوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة في أثناء حديث.
(2) .
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلى من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عينى ... أحب إلى من لبس الشفوف
لميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية، ضاق صدرها من عشرة معاوية فقال: أنت اليوم في ملك لا تدرين قدره، وكنت قبله في العباءة، فقالت ذلك، أى: لبيت من الشعر تضطرب الرياح فيه، أحب إلى من قصر عال مرتفع، من أناف إنافة: ارتفع. ومن العرب من يقول: أرياح في جمع ريح، خوف الاشتباه بجمع روح، كأعياد في عيد، خوف الاشتباه بالعود. ولبس: عطف على ما قبله، ورواية «للبس» على أنه هو المبتدأ تحريف وأن كثرت. ولبس عباءة خشنة من الصوف وقرة عيني مع ذلك. وسروري، أحب إلى من لبس الشفوف وسخونة عينى وحزنى. والشفوف- جمع شف-: الرقيق من الثياب، كأنه لا يحجب ما وراءه. وشف يشف شفوفا. نحل جسمه. وشفه يشفه بالكسر شفا: نحله.(2/415)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره. قرئ: فَأَسْرِ بالقطع والوصل. وإِلَّا امْرَأَتَكَ بالرفع والنصب. وروى أنه قال لهم: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال:
أريد أسرع من ذلك. فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ وقرئ «الصبح» بضمتين. فإن قلت:
ما وجه قراءة من قرأ إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب؟ قلت: استثناها من قوله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ والدليل عليه قراءة عبد الله: فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك. ويجوز أن ينتصب عن لا يلتفت، على أصل الاستثناء وإن كان الفصيح هو البدل، أعنى قراءة من قرأ بالرفع، فأبدلها عن أحد. وفي إخراجها مع أهله روايتان: روى أنه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماء، فأدركها حجر فقتلها.
وروى أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فإن هواها إليهم، فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
[سورة هود (11) : الآيات 82 الى 83]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها جعل جبريل جناحه في أسفلها، ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم مِنْ سِجِّيلٍ قيل هي كلمة معربة من سنككل، بدليل قوله حجارة من طين. وقيل: هي من أسجله، إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين. ويدل عليه قوله لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان مَنْضُودٍ «1» نضد في السماء نضداً معدّاً للعذاب. وقيل يرسل بعضه في أثر بعض متتابعاً مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب وعن الحسن كانت معلمة ببياض وحمرة. وقيل عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض. وقيل: مكتوب على كل واحد اسم من يرمى به وَما هِيَ من كل ظالم ببعيد. وفيه وعيد لأهل مكة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنه سأل جبريل عليه السلام؟ فقال: يعنى ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة «2» . وقيل الضمير للقرى، أى هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم بِبَعِيدٍ بشيء بعيد. ويجوز أن يراد: وما هي بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد، إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.
__________
(1) . قوله «منضود» في الصحاح: نضد متاعه ينضده بالكسر نضداً، أى: وضع بعضه فوق بعض. (ع)
(2) . ذكره الثعلبي عن أنس بغير سند.(2/416)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 86]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا يَوْمٍ مُحِيطٍ مهلك من قوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. فإن قلت: النهى عن النقصان أمر بالإيفاء «1» فما فائدة قوله أوفوا؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعياً على المنهي وتعييراً له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحاً بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيداً بالقسط: أى ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمراً بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط، لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.
البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت النهى عن النقصان أمر بالإيفاء ... الخ» قال أحمد: ولمن قال إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده أن يستدل بهذه الآية، فان الأمر لو كان عين النهى عن الضد، لكان وروده عقيبه تكراراً. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه وهم، فاعتقد أن النهى في الآية قبل الأمر، وذلك سهو وغفلة، وكل مأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم: وأما قوله: إن الإيفاء حسن في العقول، فتفريع على قاعدة التحسين والتقبيح، وقد سبق بطلانها، وبينا أن التحسين والتقبيح موظفان من الشرع، ولا مجال العقل في حكم سمعي.(2/417)
وَفِى كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ بَخْسُ دِرْهَمِ «1»
وروى: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئاً، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثى في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض بَقِيَّتُ اللَّهِ ما يبقى لكم من الحلال «2» بعد التنزه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية الله خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس «3» والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت: لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر.
وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند الله من الطاعات خير «4» لكم،
__________
(1) .
أفى كل أسواق العراق إتاوة ... وما كل ما باع امرؤ مكس درهم
ألا تستحي منا ملوك وتتقى ... محارمنا لا تتقى الدم بالدم
لزهير. وقيل: لجابر بن حيي التغلبي، والاستفهام للتعجب أو للتوبيخ، والاتاوة كالكتابة: الرشوة والجعالة:
يقال: أتوته أأتوه أتوا وإتاوة: أعطيته الخراج، فهي في الأصل مصدر. والمكس: ما يأخذه العشار. ويروى «بخس درهم» أى نقص درهم» وكان أهل العراق يفعلون ذلك في أسواقهم مع العرب وغيرهم، فقال زهير: لا ينبغي ذلك. و «ألا» في الأصل مركبة من همزة الاستفهام التوبيخي ولا النافية، فصارت أداة تحضيض. ويقال: استحيا واستحى كما هنا، بنقل حركة الياء إلى الحاء وحذفها، أى: لتستح منا الملوك، وتتوقى عقوبة التعرض لمحارمنا وأموالنا، لئلا تتوقى القتل منا لهم بقتلنا لبعضهم، أى لئلا ترجع إلا بذلك، أو لئلا تتوقى أخذ الدم بدل الدم.
وروى «ألا يستحى منا المليك ويتقى» إلى آخره، وهو لغة في الملك، والمراد به ملك العراق.
(2) . قال محمود: «بقية الله ما يبقى لكم من الحلال ... الخ» قال أحمد: المنقول عن المعتزلة أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، لا نهيا ولا أمرا، وقد جوز بعضهم خطابهم بالنهى. وهذه الآية تدل على أنهم مخاطبون في حال الكفر بشرط الايمان، وقد قررها الزمخشري على ذلك.
(3) . عاد كلامه. قال: «فان قلت بقية الله خير للكفرة لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من إقرار الزمخشري للآية على ظاهرها، ومعنى السؤال: أن الكفار إذا قدرنا خطابهم بالفروع، انتفعوا باجتناب المنهيات في الدار الآخرة، لأن ثمرة الخلاف في مسألة خطاب الكفار إنما تظهر في الدار الآخرة، وإذا كانوا ينتفعون بذلك فلا معنى لاشتراط الايمان والحال مع وجوده وعدمه في الانتفاع بالامتثال سواء. ومعنى الجواب: أن ظهور الانتفاع بالامتثال إنما يتحقق مع الايمان، وأما مع الكفر فهم مخلدون في العذاب، فإنما تظهر الفائدة على خفاء في تحقيق مأمن العذاب، والله الموفق.
(4) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يراد ما يبقى لكم من الطاعات عند الله ... الخ» قال أحمد: قد تقدم أن عقيدة أهل السنة: أن لا خالق ولا رازق إلا الله، إيمانا بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ وإذا كان الرزق عبارة عن كل ما يقيم به الخلق بنيتهم، لزم اندراج الحرام في هذا الإطلاق عقداً وحقيقة. وأما إطلاق القول بإضافته على الخصوص إلى الله تعالى، فأمر خارج عن الاعتقاد راجع إلى الاتباع، والله الموفق.(2/418)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
كقوله وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ولا يسمى رزقاً «1» ، وإذا أريد بها الطاعة فكما تقول: طاعة الله. وقرئ: تقية الله، بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغاً ومنبهاً على الخير وناصحاً، وقد أعذرت حين أنذرت.
[سورة هود (11) : آية 87]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ السخرية والهزء- والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وأن يقال:
إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه- إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز «2» وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعى عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى تأمرك أَنْ نَتْرُكَ تأمرك بتكليف أن نترك «3» ما يَعْبُدُ آباؤُنا لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ أَصَلاتُكَ بالتوحيد. وقرأ ابن أبى عبلة: أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء، بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير.
__________
(1) . قوله «ولا يسمى رزقا» هذا مذهب المعتزلة وأما مذهب أهل السنة فالرزق ما ينتفع به ولو حراماً. (ع)
(2) . قوله «مساق الطنز» في الصحاح: الطنز السخرية. وطنز يطنز فهو طناز، وأظنه مولداً أو معربا اه. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه تأمرك بتكليف أن نترك ما يعبد آباؤنا إلى قوله بتاء الخطاب فيهما» قال أحمد: فعلى هذه القراءة يكون أَنْ نَفْعَلَ معطوفا على أن نترك، وعلى المشهور: لا يجوز ذلك والله أعلم لاستحالة المعنى، فيتعين العطف فيها على ما يَعْبُدُ كأنهم قالوا: أصلواتك تأمرك أن نترك عبادة آبائنا أو معبود آبائنا، على أنها مصدرية أو موصولة، ثم قالوا: أو أن نفعل، أى أو أن نترك فعلنا في أموالنا ما نشاء، هذه لطيفة فتنبه لها، ولا حاجة إلى إضمار الزمخشري لمضاف تقديره: تأمرك بتكليف أن نترك، واحتجاجه لذلك بأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره إذاً والمسألة فرع من فروع خلق الأفعال، ومع ذلك كله فتقدير المضاف في الآية متوجه ليس بناء على القراءة المذكورة، ولكن لأن عرف التخاطب في مثله يقتضى ذلك، والله أعلم. [.....](2/419)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وقيل: كان ينهاهم عن حذف الدراهم «1» والدنانير وتقطيمها، وأرادوا بقولهم إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ نسبته إلى غاية السفه والغىّ، فعكسوا ليتهكموا به، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره «2» فيقال له: لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل: معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به.
[سورة هود (11) : آية 88]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَرَزَقَنِي مِنْهُ أى من لدنه رِزْقاً حَسَناً وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة. وقيل رِزْقاً حَسَناً حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف. فإن قلت: أين جواب أَرَأَيْتُمْ وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادى عليه. والمعنى: أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربى وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه؟
فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً. ومنه قوله تعالى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتى ونصيحتي وأمرى بالمعروف ونهي عن المنكر مَا اسْتَطَعْتُ ظرف، أى: مدّة استطاعتي «3» للإصلاح،
__________
(1) . قوله «عن حذف الدراهم» الذي في الصحاح: حذفت من شعري ومن ذنب الدابة، أى: أخذت اه (ع)
(2) . قوله «لا يبض حجره» في الصحاح: بض الماء بضيضاً: سال قليلا قليلا. وفي المثل: ما يبض حجره، أى ما تندى صفاته. (ع)
(3) . قال محمود: «ما استطعت ظرف أى مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه، ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو يكون مفعولا للمصدر كقوله: «ضعيف النكاية أعداءه» قال أحمد: والظاهر أنه ظرف. كهو في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وأما جعله مفعولا للمصدر وقد عرف بالألف واللام فبعيد، لأن إعمال المصدر المعرف في المفعول الصريح ليس بذاك. قالوا: ولم يوجد في القرآن عاملا في مفعول صريح ولا في غيره إلا في قوله لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ فأعمله في الجار والعدول عن إقفاء الاعراب إلى وجوعه وهي ممكنة عنيدة متعين خصوصا في أفصح الكلام. والله أعلم،(2/420)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
وما دمت متمكنا منه لا آلو فيه جهداً. أو بدل من الإصلاح، أى: المقدار الذي استطعته منه.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت.
أو مفعول له كقوله:
ضَعِيفُ النِّكايِة أَعْدَاءَهُ «1»
أى ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتى وأذر، ووقوعه موافقاً لرضا الله إلا بمعونته وتأييده. والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه.
[سورة هود (11) : الآيات 89 الى 90]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
«جرم» مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول: جرم ذنباً وكسبه، وجرمته ذنباً وكسبته إياه، قال:
جَرِمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا «2»
ومنه قوله تعالى لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ أى لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب.
وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنباً، إذا جعلته جار ما له، أى كاسباً، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل: أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظاً، كما إن كسبته مالا أفصح من أكسبته.
__________
(1) .
ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخى الأجل
نكأ القرح نكأ بالهمز: جرحه بعد اند ماله، ونكى العدو نكاية: قتله وجرحه. وأعداءه: مفعول النكاية. وعمل المصدر المقرون بأل كما هنا نادر. يخال: أى يظن الهرب من العدو بطيل الأجل من جبنه.
(2) .
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
لزيادة بن أسماء. ويقال: جرم ذنبا إذا اكتسبه. وجرم النخل: قطعه. وجرمته كذا: إذا أكسبته إياه او حملنه عليه. يقول: طعنت ذلك الرجل الفزاري طعنة قتلته. «جرمت فزارة» أى حق لها بعدها الغضب، أو اكتسبت فزارة بعدها الغضب فقط، واشتهر الرفع عنهم، لكن قال الجوهري «فزارة» مفعول أول، أى: أحقتهم الغضب، أو أكسبتهم إياه، أو حملتهم على أن يغضبوا بعدها، فهو على إسقاط الخافض.(2/421)
والمراد بالفصاحة: أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالا. وقرأ أبو حيوة، ورويت عن نافع: مِثْلُ ما أَصابَ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله:
لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَتْ «1»
وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت:
ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه «2» ؟ قلت: إما أن يراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما رَحِيمٌ وَدُودٌ عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه، من الإحسان والإجمال.
__________
(1) .
ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا ... فيها فصرت إلى وجناء شملال
تعطيك مشيا وإرقالا ودأدأة ... إذا تسربلت الآكام بالآل
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة فوق غصن ذات أو قال
لأبى قيس بن رقاعة يصف ناقته. وقوله «فيها» أى في دار المحبوبة. وللوجناء: الشديدة الصلبة. والشملال:
الخفيفة السريعة. والإرقال والدأدأة: نوعان من السير، وقد شبه استتار الآكام وهي الجبال الصغيرة بالآل، وهو السراب الذي يرى في الهاجرة أبيض يشبه الماء في جريانه على وجه الأرض، بالتسربل وهو لبس السرابيل: أى الثياب على طريق التصريحية، ثم وصفها بحدة الفؤاد وهو محمود عندهم، أو بحنينها إلى وطنها، وعطفها لما سمعت صوت الحمامة. والشرب- بالكسر: - النصيب من الماء. وبالضم المصدر. والأوقال: جمع وقل كجبل وهي الحجارة، أو البقايا التي بقيت في جذع الشجرة بعد تقليم بعض أغصانها، بارزة يمكن الارتقاء عليها. يقول: لم يمنع نصيبها من الماء عنها، أو لم يمنعها من شربها الماء. ففيه قلب على الثاني وغير فاعل لأنه تضرع إليه العامل» وبنى على الفتح لاضافته إلى مبنى، واستعار النطق لتغريد الحمامة على سبيل التصريحية، وكأنها كانت داخل الغصون فسمعت الناقة صوتها ولم ترها ففزعت. أو كانت على غصن من الشجرة فكان تغريدها مطربا لذيذا، فحنت الناقة إلى وطنها. وذات أو قال: وصف لغصن، لأنه جمع غصن كما قيل في فلك، المفرد والجمع باعتبار التغير التقديري.
ويجوز أن يقرأ باضافة غصن إلى ذات، والمعنى: غصن أرض أو شجرة ذات أو قال، لكن الأول أحسن في الوزن.
وقد روى: في غصون ذات أو قال، أى: ذات قطع بارزة بعد التعليم، فتكون مشوهة المنظر توجب النفرة والوحشة، أو صاحبه أحجار، فتكون أنضر حيث ترى مخضرة وسط أرض قفرة، أو لتكون في غير محلها فتوجب حنين الناقة إلى محلها أو فزعها لغرابة ذلك. وقيل: إنه جمع «وقل» بالسكون، وهو شجر المقل. وقيل: يجوز أنه من وقل كوعد إذا صعد، أى ذات ارتفاعات.
(2) . قوله «على ما يقتضيه قوم من عمله» وذلك بأن بعامل معاملة المؤنث، نحو كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أو معاملة جمع الذكور، نحو إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ لأن الأول مقتضى حمله على لفظه، كما سيأتى في سورة الشعراء، من أن القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة، والثاني مقتضى حمله على معناه وهو ظاهر. (ع)(2/422)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
[سورة هود (11) : الآيات 91 الى 95]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه:
ما أدرى ما تقول. أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء، وقيل: كان ألثغ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا عز فيما بيننا «1» ، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن ضَعِيفاً مهيناً. وقيل ضَعِيفاً أعمى. وحمير تسمى المكفوف: ضعيفاً، كما يسمى ضريراً، وليس بسديد، لأنّ فِينا يأباه.
ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاما، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطا. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة.
وإنما قالوا: ولولاهم، احتراما لهم واعتدادا بهم، لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم لَرَجَمْناكَ لقتلناك شرّ قتلة وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أى لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع
__________
(1) . قال محمود: «معنى قولهم ضعيفاً، أى: لا قوة لك ولا عز فيما بيننا ... الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكتة الدالة على أنه كان مليا بالحذاقة في علم البيان والله المستعان.(2/423)
في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ولو قيل: وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب.
فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ قلت: تهاونهم به- وهو نبىّ الله- تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهرىّ: منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس:
أمسىّ بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علماً، فلا يخفى عليه شيء منها عَلى مَكانَتِكُمْ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدراً من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها إِنِّي عامِلٌ على حسب ما يؤتينى الله من النصرة والتأييد ويمكنني مَنْ يَأْتِيهِ يجوز أن تكون مَنْ استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقىّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.
فإن قلت: أى فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سَوْفَ تَعْلَمُونَ؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفى تقديرىّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه وَارْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أى منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت:
قد ذكر عملهم على مكانتهم «1» وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم،
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت قد ذكر عملهم على مكانتهم ... الخ» قال أحمد: والظاهر- والله أعلم- أن الكلامين جميعا لهم، فالأول وهو قوله مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ مضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، ويكون من باب عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد، كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وإنما يعنى المخاطب في الكلامين، فإذا ثبت صرف الكلامين إليهم لم يخل ذلك من دلالة على ذكر عاقبته هو، لأن أحد الفريقين إذا كان مبطلا فالآخر هو المحق قطعا، فذكره لإحدى العاقبتين صريحا يفهم ذكر الأخرى تعريضا:
والتعريض كما علمت في كثير من مواضعه أبلغ وأوقع من التصريح، وهذا منه، والذي يدل على أن الكلامين لهما وأن عاقبة أمر شعيب لم تذكر، استغناء عنها بذكر عاقبتهم، كما بيناه في الآية التي في أول هذه السورة، وهي قوله تعالى قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ألا تراه كيف اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، وكذلك قوله في سورة الأنعام قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فذكر هناك أيضا إحدى العاقبتين، لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير، ومتى أطلقت فلا يعنى إلا ذلك، كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ واستغنى عن ذكر مقابلتها، والله أعلم. فتأمل هذا الفصل فانه تحفة لمن همه نظم درر الكتاب العزيز، وضم بعضها إلى بعض، والله الموفق للصواب.(2/424)