كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
ائتني بخير إبلى فجاء بناقة مهزولة. فقال: خنتني، قال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وقرأ عبد اللَّه: حتى تنفقوا بعض ما تحبون. وهذا دليل على أنّ «من» في: (مِمَّا تُحِبُّونَ) للتبعيض. ونحوه: أخذت من المال. ومن في مِنْ شَيْءٍ لتبيين ما تنفقوا، أى من أى شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فَإِنَّ اللَّهَ عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 94]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
كُلُّ الطَّعامِ كل المطعومات أو كل أنواع الطعام. والحل مصدر. يقال: حل الشيء حلا كقولك: ذلت الدابة ذلا، وعزّ الرجل عزاً، وفي حديث عائشة رضى اللَّه عنها: كنت أطيبه لحله وحرمه «1» ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال اللَّه تعالى:
لا هنّ حلٌّ لهم. والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق. كان به عرق النسا، فنذر إن شفى أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه. وقيل: أشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من اللَّه، فهو كتحريم اللَّه ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) إلى قوله تعالى (عَذاباً أَلِيماً) وفي قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) إلى قوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا «2» مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بنى إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة اللَّه عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل اللَّه وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل،
__________
(1) . متفق عليه من حديثها. [.....]
(2) . قوله «واشمأزوا منه وامتعضوا» أى غضبوا منه وشق عليهم، أفاده الصحاح. (ع)(1/385)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم، لا تحريم قديم كما يدعونه، فروى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بزعمه أن ذلك كان محرما على بنى إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات.
[سورة آل عمران (3) : آية 95]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ تعريض بكذبهم كقوله: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أى ثبت أن اللَّه صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب اللَّه لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها اللَّه لإبراهيم ولمن تبعه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
وُضِعَ لِلنَّاسِ صفة لبيت، والواضع هو اللَّه عز وجلّ، تدل عليه قراءة من قرأ (وُضِعَ لِلنَّاسِ) بتسمية الفاعل وهو اللَّه. ومعنى وضع اللَّه بيتا للناس، أنه جعله متعبداً لهم، فكأنه قال:
إن أوّل متعبد للناس الكعبة. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما؟ قال: «أربعون «1» سنة» . وعن علىّ رضى اللَّه عنه أن رجلا قال له: أهو أوّل بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى ذر رضى اللَّه عنه قال «سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أول مسجد وضع للناس قال: المسجد الحرام. قلت: ثم؟ قال: بيت المقدس. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاما، ثم الأرض لك مسجد فحيث أدركتك الصلاة فصل» .(1/386)
العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش. وعن ابن عباس: هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان. وقيل: هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته. وقيل: هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض. وقيل: لما أهبط آدم قالت له الملائكة: طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات لَلَّذِي بِبَكَّةَ البيت الذي ببكة، وهي علم للبلد الحرام: ومكة وبكة لغتان فيه، نحو قولهم: النبيط والنميط، في اسم موضع بالدهناء: ونحوه من الاعتقاب: أمر راتب وراتم. وحمى مغمطة ومغبطة «1» . وقيل: مكة: البلد، وبكة: موضع المسجد. وقيل: اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها. وعن قتادة: يبك الناس بعضهم بعضاً الرجال والنساء، يصلى بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة. قال:
إذَا الشَّرِيبُ أَخَذَتْهُ الأَكَّهْ ... فَخَلِّهِ حَتَّي يَبُكَّ بَكَّهْ «2»
وقيل: تبك أعناق الجبابرة أى تدقها. لم يقصدها جبار إلا قصمه اللَّه تعالى مُبارَكاً كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم مَقامُ إِبْراهِيمَ عطف بيان لقوله (آياتٌ بَيِّناتٌ) . فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد «3» ؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللَّه ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) والثاني: اشتماله على آيات «4» لأنّ أثر
__________
(1) . قوله «وحمي مغمطة ومغبطة» في الصحاح: أغمطت عليه الحمى لغة في أغبطت، أى دامت اه. (ع)
(2) . يقول إذا أخذت «الأكة» وهي سوء الخلق «الشريب» الذي يشرب معك، أو الذي يسقى إبله معك، كأنها ملكته واستولت عليه «فخله» أى اتركه حتى يقتطع من الماء قطعة، أو حتى يزدحم بإبله على الماء مرة، من الازدحام. وهذا وصية بمكارم الأخلاق، والحلم عند الغضب، والسماحة.
(3) . قال محمود: «إن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد ... الخ» ؟ قال أحمد: ونظير هذا التأويل ما تقدم لي عند قوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) قال محمود فيما تقدم «والذي صدر منهم أمنية واحدة، فما وجه جمعها» وبينت فيها هذا بعينه، وهو أن الشيء الواحد متى أريد تمكينه وامتيازه عن غيره من صفة جمع، أفاد الجمع فيه ذلك، وقد لاح لي الآن في جمع الأمانى. ثم وجه آخر، وذلك أن كل واحد منهم صدرت منه هذه الأمنية، فجمعها بهذا الاعتبار تنبيها على تعددها بتعددهم، والعجب أن الجمع في مثل هذا هو الأصل، وأن الافراد إنما يقع فيه على نوع ما من الاختصار. ومنه: كلوا في بعض بطنكم تصحوا.
(4) . عاد كلامه. قال: الوجه الثاني اشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة عدوه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية، ويجوز أن يريد مقام إبراهيم وأمن من دخله، وكثيراً سواهما واللَّه أعلم.(1/387)
القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعاء. ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قبل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما. ونحوه في طىِّ الذكر قول جرير:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلَاثاً فَثُلْثُهُمُو ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا «1»
ومنه قوله عليه السلام «حبب إلىّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عينى في الصلاة «2» وقرأ ابن عباس وأبىّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة: آية بينة، على التوحيد. وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان. فإن قلت: كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى، لأن قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) دلّ على أمن داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات: مقام إبراهيم، وأمن داخله. ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، من دخله كان آمنا صحّ، لأنه في معنى قولك: فيه آية بينة، أمن من دخله. فإن قلت: كيف
__________
(1) . لجرير يقول: كانت هذه القبيلة منقسمة أثلاثا، فثلثها من العبيد الأرقاء، وثلثها من عتقى القبيلة أو من عتقى العبيد. وعليه فالاضافة على معنى «من» ولم يذكر الثلث الثالث، لأنه من المعلوم أنه لم يبق إلا السادة الأشراف، بدليل الحصر في الأثلاث، والترقي من العبيد إلى العتقى. وهذا يحتمل الذم، وأن ثلث القبيلة فقط كرام والباقي لئام. ويحتمل المدح وأن خدمهم من العبيد كثير.
(2) . قد تقدم أنه أورده عند قوله تعالى: (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) مختصراً. وقد تقدم أن النسائي أخرجه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان ومن طريق سلام بن مسكين، كلاهما عن ثابت عن أنس.
ومن طريق سيار. رواه أحمد في الزهد والحاكم في المستدرك. ومن طريق سلام أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وابن سعد والبزار وأبو يعلى، وابن عدى في الكامل، وأعله به، والعقيلي في الضعفاء كذلك. وقال الدارقطني في علله.
رواه أبو المنذر سلام. وسلام بن أبى الصهباء وجعفر بن سليمان، فرووه عن ثابت عن أنس، وخالفهم حماد بن زيد عن ثابت مرسلا. وكذا رواه محمد بن ثابت البصري. والمرسل أشبه بالصواب. وقد رواه عبد اللَّه بن أحمد في زيادات الزهد عن غير أبيه من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت مرسلا أيضا. ويوسف ضعيف. وله طريق أخرى معلولة عند الطبراني في الأوسط عن محمد بن عبد اللَّه الحضرمي عن يحيى بن عثمان الحربي عن الهقل بن زياد عن الأوزاعى عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن أنس مثله قلت: ليس في شيء من طرقه لفظ «ثلاث» بل أوله عند الجميع «حبب إلى من دنياكم النساء- الحديث» وزيادة «ثلاث» تفسد المعنى. على أن الامام أبا بكر بن فورك شرحه في جزء مفرد بإثباتها، وكذلك أورده الغزالي في الأحياء واشتهر على الألسنة.(1/388)
كان سبب هذا الأثر؟ قلت: فيه قولان: أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل: انزل حتى يغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر، فبقى أثر قدميه عليه. ومعنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) معنى قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضى اللَّه عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» «1» وعند أبى حنيفة: من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة «2» آمنا» وعنه عليه الصلاة والسلام «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة «3» » وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعن ابن مسعود: وقف رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة، فقال «يبعث اللَّه من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر «4» » وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي «5»
عام» (من)
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق في كتاب الحج من مصنفه وأبو الوليد الأزرقى في تاريخ مكة من طريقه عن ابن جريج، سمعت ابن أبى حسين عن عكرمة بن خالد قال قال عمر بهذا وهذا منقطع.
(2) . قال إسحاق: أخبرنا عيسى ابن يونس حدثنا ثور بن يزيد حدثني شيخ عن أنس به. ورواه البيهقي في الشعب من طريق ابن أبى فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس به وزاد «من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» وأخرجه أبو داود الطيالسي تاما من حديث عمر رضى اللَّه عنه بإسناد فيه ضعف، وهو مجهول، وقال عبد الرزاق في مصنفه، أخبرنا يحيى بن العلاء وغيره، وغالب بن عبيد اللَّه يرفعه، فذكره، ويحيى وغالب ضعيفان جداً وأخرجه الدارقطني من رواية هارون بن أبى قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب بتمامه، وهو معلول «ورواه الطبراني في الأوسط والصغير، من وجهين عن عبد اللَّه بن المؤمل عن أبى الزبير عن جابر دون الزيادة، وأورده ابن عدى في ترجمة عبد اللَّه بن المؤمل: وأخرجه البيهقي في الشعب والطبراني من حديث عبد الغفور ابن سعيد الأنصارى عن أبى هاشم الرماني عن زاذان عن سلمان قال البيهقي عبد الغفور ضعيف، وقد روى بإسناد أحسن من هذا، ثم ذكر طريق عبد اللَّه بن المؤمل، وقد أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من طريق عبد الغفور ونقل عن ابن حبان أنه قال: كان يضع الحديث. قلت: وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه فانه لم يختص بعبد الغفور
(3) . لم أجده.
(4) . لم أجده.
(5) . هكذا ذكره أبو الوليد الأزرقى في تاريخ مكة، لكن بغير إسناد. وقد أخرجه العقيلي في الضعفاء في ترجمة الحسن بن رشيد عن ابن جريج عن عطاه عن ابن عباس رفعه «من صبر في حر مكة ساعة باعد اللَّه منه جهنم سبعين خريفاً، وقال هذا باطل، لا أصل له، والحسن بن رشيد يحدث بالمناكير. وأورده أبو شجاع في الفردوس من حديث أنس، بلفظ «تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائة عام» .(1/389)
استطاع بدل من الناس. وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة «1» ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء. وعن ابن الزبير: هو على قدر القوّة. ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه. وعنه: ذلك على قدر الطاقة، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة، وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع. وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج. والضمير في إِلَيْهِ للبيت أو للحج. وكل مأتىّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد ومنها قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) «2» يعنى أنه حق واجب للَّه في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التأكيد: أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين. ومنها قوله: (وَمَنْ كَفَرَ) مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ولذلك قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» «3» ونحوه من التغليظ «من ترك الصلاة متعمدا
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة، من حديث عمر، بلفظ السبيل الزاد والراحلة» فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي وهو ضعيف والحاكم من حديث أنس، وهو معلول. وأخرجه الدارقطني والحاكم من رواية قتادة عن أنس، لكن قال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلا، وأخرجه ابن ماجة عن عباس، وإسناده ضعيف، والصحيح عنه قوله، كما أخرجه ابن المنذر. وقال: لا يثبت مرفوعا. وفي الباب عن على وابن مسعود. وعائشة وجابر وعبد اللَّه ابن عمر. وأخرجها الدارقطني بأسانيد ضعيفة. [.....]
(2) . قال محمود: «وفي الكلام أنواع من التوكيد منها قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) أى في رقابهم لا ينفكون عنه ...
الخ» قال أحمد: قوله «إن المراد بمن كفر من ترك الحج وعبر عنه بالكفر تغليظا عليه» فيه نظر، فان قاعدة أهل السنة توجب أن تارك الحج لا يكفر بمجرد تركه قولا واحداً، فيتعين حمل الآية على تارك الحج جاحداً لوجوبه، وحينئذ يكون الكفر راجعا إلى الاعتقاد لا إلى مجرد الترك. وأما الزمخشري فيستحل ذلك لأن تارك الحج بمجرد الترك يخرج من ربقة الايمان ومن اسمه ومن حكمه، لأنه عنده غير مؤمن ومخلد تخليد الكفار. وعلى قاعدة السنة يتعين المصير إلى ما ذكرناه، هذا إن كان المراد بمن كفر من ترك الحج. ويحتمل أن يكون استئناف وعيد للكافر، فيبقى على ظاهره واللَّه أعلم.
(3) . أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد اللَّه الباهلي: حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن على رفعه «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» وقال: غريب وفي إسناده مقال.
وهلال بن عبد اللَّه مجهول. والحارث يضعف. وأخرجه البزار من هذا الوجه. وقال: لا نعلمه عن على إلا من هذا الوجه وأخرجه ابن عدى والعقيلي في ترجمة هلال ونقلا عن البخاري أنه منكر الحديث. وقال البيهقي في الشعب:
تفرد به هلال. وله شاهد من حديث أبى أمامة، أخرجه الدرامى بلفظ «من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانيا» أخرجه من رواية شريك عن ليث ابن أبى سليم عن عبد الرحمن بن سابط عنه. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في الشعب. وقد أخرجه ابن أبى شيبة عن أبى الأحوص عن ليث عن عبد الرحمن مرسلا، لم يذكر أبا أمامة. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق ابن عدى. وابن عدى أورده في الكامل في ترجمة أبى المهزوم يزيد بن سفيان عن أبى هريرة مرفوعا ونحوه. ونقل عن الفلاس أنه كذب أبا المهزم وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه. لأن الطريق إلى أبى أمامة ليس فيه من اتهم بالكذب، فضلا عمن كذب.(1/390)
فقد كفر» «1» ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان، ومنها قوله (عَنِ الْعالَمِينَ) وإن لم يقل عنه، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه. وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود، فإنهم قالوا: الحج إلى مكة غير واجب وروى أنه لما نزل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) جمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أهل الأديان كلهم «2» فخطبهم فقال، إن اللَّه كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه، فنزل (وَمَنْ كَفَرَ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «حجوا قبل أن لا تحجوا، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» «3» وروى «حجوا قبل أن لا تحجوا، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» «4» وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت
__________
(1) . أخرجه الدارقطني في العلل. من رواية أبى النضر هاشم بن القاسم عن أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس قال: رواه على بن الجعد عن أبى جعفر عن الربيع مرسلا. وهو أشبه بالصواب. ورواه البزار من حديث أبى الدرداء قال «أوصانى ابو القاسم صلى اللَّه عليه وسلم أن لا أشرك باللَّه شيئاً وإن حرقت، ولا أترك صلاة مكتوبة متعمداً. فمن تركها متعمداً فقد كفر، ولا أشرب الخمر، فإنها مفتاح كل شر» أخرجه من رواية راشد الحنانى عن شهر بن حوشب. وقال: راشد بصرى ليس به بأس. وشهر مشهور. والحديث عند الترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث بريدة دون قوله «متعمداً» ولفظه «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» قد تقدم في البقرة حديث جابر عند مسلم «بين العبد والكفر ترك الصلاة» وروى الترمذي من طريق عبد اللَّه بن شقيق قال «كان أصحاب محمد النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة» وإسناده صحيح. الحاكم من حديث أبى هريرة رضى اللَّه عنه
(2) . أخرجه الطبري من طريق جويبر عن الضحاك قال: «لما نزلت- فذكره» وهو معضل. وجويبر متروك الحديث ساقط
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة أخبرنا يزيد بن هارون عن حميد عن بكر بن عبد اللَّه المزني عن عبد اللَّه بن عمر قال «تمتعوا من هذا البيت، فانه- فذكره موقوفا» وقد روى مرفوعا: أخرجه ابن حبان والحاكم والبزار والطبراني من طريق سفيان بن حبيب عن حميد بهذا.
(4) . لم أره هكذا. والذي في الدارقطني في آخر كتاب الحج من السنن من رواية عبد اللَّه بن عيسى الجندي عن محمد ابن أبى محمد عن أبيه عن أبى هريرة- رفعه «حجوا قبل أن لا تحجوا. قالوا: وما شأن الحج يا رسول اللَّه، قال: يفعله أعرابها على أذناب أوديتها، فلا يصل إلى الحج أحد» وعبد اللَّه ومحمد مجهولان، قاله العقيلي.(1/391)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت «1» . وعن عمر رضى اللَّه عنه: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا «2» . وقرئ حج البيت بالكسر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
وَاللَّهُ شَهِيدٌ الواو للحال. والمعنى: لم تكفرون بآيات اللَّه التي دلتكم على صدق محمد صلى اللَّه عليه وسلم والحال أن اللَّه شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته. قرأ الحسن: تصدّون، من أصدّه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين حق علم أنه سبيل اللَّه التي أمر بسلوكها وهو الإسلام، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدّهم عنه، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم. وقيل: أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله تَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون لها اعوجاجاً «3» وميلا عن القصد والاستقامة. فإن قلت: كيف تبغونها عوجا «4» وهو محال؟ قلت فيه معنيان: أحدهما أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنّ فيها عوجا بقولكم: إن شريعة موسى لا تنسخ، وبتغييركم صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك. والثاني: أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أنها سبيل اللَّه لا يصدّ عنها إلا ضال مضل، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ وعيد، ومحل تبغونها نصب على الحال.
[سورة آل عمران (3) : آية 100]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)
__________
(1) . لم أجده.
(2) . لم أجده. وفي مصنف عبد الرزاق من رواية سالم بن أبى حفصة عن ابن عباس قال «لو ترك الناس زيارة هذا البيت عاما واحداً ما مطروا» وهو منقطع.
(3) . قال محمود: «أى تطلبون لها اعوجاجا ... الخ» قال أحمد: وفي تقديره الجار مع ضمير المفعول حيث قال: تطلبون لها اعوجاجا، تنقيص من المعنى، وأتم من إعرابه معنى أن تجعل الهاء هي المفعول به وعوجا حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجا موقع الاسم. وفي هذا الاعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم، واللَّه أعلم.
(4) . قوله «فان قلت كيف تبغونها عوجا» لعله: كيف قال تبغونها. أو لعله: كيف يبغونها. (ع)(1/392)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قيل مرَّ شاس بن قيس اليهودي «1» - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث «2» وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار، وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس. ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: أتدعون الجاهلية «3» وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللَّه بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أوّلا وأحسن آخراً من ذلك اليوم.
[سورة آل عمران (3) : آية 101]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب، والمعنى: من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات اللَّه وهي القرآن المعجز تُتْلى عَلَيْكُمْ على لسان الرسول غضة طرية «4» وبين أظهركم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ومن يتمسك بدينه. ويجوز أن يكون حثا لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم فَقَدْ هُدِيَ فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا. ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأنّ المعتصم
__________
(1) . أخرجه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه بلفظه وأخرجه ابن إسحاق في المغازي، من طريق الطبري أيضا قال: حدثنا الثقة عن زيد بن أسلم مطولا. وذكره ابن هشام فلم يذكر إسناد إسحاق. وزاد في آخره «وكان يومئذ على الأوس حضير بن سماك والداً سيد، وكان على الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعا. وأنزل اللَّه في شاس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) - الآية وذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن زيد بن أسلم بغير إسناد.
(2) . قوله «يوم بعاث» بعاث بالضم يوم وقعة للأوس والخزرج. (ع)
(3) . قوله «فقال أتدعون الجاهلية» في الشهاب على البيضاوي أنه محرف والرواية أبدعوى الجاهلية أى أتأخذون بها (ع)
(4) . قوله «على لسان الرسول غضة طرية» في الصحاح: شيء غض، أى طرى، وكل ناضر غض، نحو الشباب وغيره. وفيه شيء طرى، أى غض بين الطراوة. (ع) [.....](1/393)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
باللَّه متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
حَقَّ تُقاتِهِ واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم، ونحوه (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) يريد: بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا. وعن عبد اللَّه:
هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى «1» » وروى مرفوعا. وقيل:
هو أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه. وقيل: لا يتقى اللَّه عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد وَلا تَمُوتُنَّ معناه:
ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ: لا تأتنى إلا وأنت على حصان، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان. قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى:
واجتمعوا على استعانتكم باللَّه ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه. أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده وهو الإيمان والطاعة أو بكتابه لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم «القرآن حبل اللَّه المتين لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الردّ، من قال به صدق ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم» «2» . وَلا تَفَرَّقُوا ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف
__________
(1) . قال المصنف وروى مرفوعا انتهى. فأما الموقوف فأخرجه الحاكم من طريق مسعر عن زيد عن مرة عنه، وكذلك أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الطبري وابن أبى حاتم والطبراني، وقال أبو نعيم في ترجمة مسعر من الحلية:
حدثنا سليمان بن أحمد، وهو الطبراني- فذكره. ثم قال: هكذا رواه الناس عن زيد موقوفا. ورفعه النضر عن محمد بن طلحة عن زيد ثم ساقه مرفوعا. وأخرجه ابن مردويه من طريق ابن وهب عن سفيان الثوري عن زيد مرفوعا أيضا. وله شاهد عن ابن عباس مرفوعا. أخرجه البيهقي في الشعب من رواية ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس. لكنه من نسخة عبد الغنى بن سعيد الثقفي عن موسى بن عبد الرحمن الصنعاني. وهي ساقطة.
(2) . أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، من حديث الحارث الأعور عن على رضى اللَّه عنه مطولا. وفيه قصة وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات. وإسناده مجهول انتهى. وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والدارمي والبزار من طريق الحارث. قال البزار: لا نعلمه إلا من طريق على. ولا نعلمه رواه عنه إلا الحارث انتهى. وله شاهد عن معاذ بن جبل. أخرجه الطبراني من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن ابن إدريس بلفظ «ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الفتن فشددها. قال على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه: ما المخرج منها؟
قال: كتاب اللَّه- فذكر الحديث بطوله. ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود مرفوعا أيضا «إن هذا القرآن حبل اللَّه والنور المبين، والشافع، عصمة لمن تمسك به ... الحديث» أخرجه من طريق صالح بن عمر عن إبراهيم البحري عن أبى الأحوص عنه. وإبراهيم ضعيف.(1/394)
بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادى بعضكم بعضا ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام. كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف اللَّه بين قلوبهم بالإسلام. وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا إِخْواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في اللَّه: وقيل: هم الأوس والخزرج، كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ اللَّه ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ وكنتم مشفين «1» على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإسلام. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا «2» وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة وهو منها كما قال:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ «3»
__________
(1) . قوله «وكنتم مشفين» أى مشرفين. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «الضمير للشفا وهو مذكر وإنما أنثه للاضافة ... الخ» قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الحفرة فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها. والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتن بالانقاذ منها حقيقة. وأما الامتنان بالانقاذ من الشفا فلا يستلزمه الكون على الشفا غالبا، من الهوى إلى الحفرة، فيكون الانقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهوى فيها، فاضافة المنة إلى الانقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع، مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو على في التعاليق من ضرورة الشعر.
خلاف رأيه في الإيضاح. نقله ابن يسعون. وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالانقاذ منها، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالانقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبا لولا الانقاذ الرباني. ألا ترى إلى قوله عليه السلام «المرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وإلى قوله تعالى: (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله: (هارٍ) واللَّه أعلم.
(3) .
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أنى عندكم غير مفحم
وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
للأعشى ميمون بن قيس وفيه وجهان: الأول أنه يصف رجلا بإفشاء السر، وأنه لو تحيل لكتمه لم يقدر، أى لو بالغت في الكتمان حتى كأنك كنت في بئر عميق. فالعدد كناية عن ذلك، ثم رقيت من قعره وبلغت أسباب السماء، أى أبوابها. وقوله «بسلم» مبالغة في التشبيه، كأنه صعد حقيقة على سلم «ليستدرجنك» بالنون المخففة، أى ليستنزلنك «القول» من السماء درجة درجة إلى قعر البئر كما كنت ويفسد تحيلك، فتهره أى تقوله. ودرج الصبى:
إذا قارب بين خطاه. ودرج القوم: مات بعضهم إثر بعض. وهر الكلب هريراً إذا صوت. وفيه إشعار بتشبيهه بالكلب النابح. وتعلم، أى وأجيب أنا عن قولك فتعلم انى غير عاجز عن الجواب فيما بينكم. وروى «عنكم» بدل «عندكم» وهي هي. ورجع إلى بيان استدراج القول له فقال: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ونشرته عنى.
وشرق: إذا غص بريقه أو نحوه. وذاع الخبر ذيعا وذيوعا: انتشر. وأذاعه: نشره. أى لم تقدر على ابتلاعه وكتمانه كما لم يبلغ صدر القناة أى الرمح الدم الذي يكون عليه من القتيل. وشبه القول الذي لم يقدر على كتمانه بالشيء الذي لم يقدر على ابتلاعه، فاستعار الشرق للعجز عن الكتمان على طريق التصريحية. وشبه الشرق الأول بالثاني ليفيد ضمنا أن قوله كالدم للمبالغة في عدم إمكان الكتمان. الوجه الثاني أن معناه لو كنت متباعداً عنى كأنك في قعر البئر ورقيت منه إلى السماء ليقربنك القول إلى شيئا فشيئا حتى تهره، أى تكرهه وتبغضه، وتعلم أنى عندكم غير عاجز عن الكلام الذي يقربك إلى، وتشرق بالقول الذي قد أذعته أنا عنك فالتاء على هذا للمتكلم، أى لم تقدر على استماعه ودخوله أذنك كما لم تقدر صدر القناة على ابتلاع الدم. وصدر القناة مذكر. ولكن اكتسب التأنيث من المضاف إليه، فلذلك أنث فعله وقال شرقت، وقيل القناة هنا مجرى الماء، وأين هي من الدم.(1/395)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة. فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تزدادوا هدى.
[سورة آل عمران (3) : آية 104]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ من للتبعيض «1» ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على مَن الإنكار عليه عبث،
__________
(1) . قال محمود «من للتبعيض ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) فإنما وجه الخطاب على نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر في معاده، وكذلك قوله: (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
حتى ورد في التفسير أن المراد أذن واحدة مخصوصة وهي أذن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه.(1/396)
كالإنكار على أصحاب المآصر «1» والجلادين وأضرابهم. وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمّة تأمرون، كقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ) . وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم للَّه وأوصلهم «2» » . وعنه عليه السلام:
«من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللَّه في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه «3» » وعن على رضى اللَّه عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ومن شنئ الفاسقين وغضب للَّه، غضب اللَّه له «4» . وعن حذيفة: يأتى على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وعن سفيان الثوري. إذا كان الرجل محببا في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب. وأما النهى عن المنكر فواجب كله، لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح. فإن قلت: ما طريق الوجوب؟ قلت: قد اختلف فيه الشيخان، فعند أبى على: السمع والعقل، وعند أبى هاشم: السمع وحده. فإن قلت: ما شرائط النهى؟
قلت: أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح، لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن، وأن لا يكون ما ينهى عنه واقعا، لأن الواقع لا يحسن النهى عنه، وإنما يحسن الذم عليه والنهى عن أمثاله، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد في منكراته، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث.
فإن قلت: فما شروط الوجوب؟ قلت: أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب
__________
(1) . قوله «المآصر» جمع مأصر، وهو المحبس أى السجن، أفاده الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبري والبيهقي في الشعب من رواية شريك عن سماك عن عبد اللَّه بن عميرة عن زوج درة بنت أبى لهب قالت «كنت عند عائشة، فجيء برجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان ناداه وهو على المنبر فقال: يا رسول اللَّه، أى الناس خير؟ فذكره» .
(3) . أخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة كادح بن رحمة من روايته عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب عن مسلم بن جابر عن عبادة بن الصامت. وكادح ساقط. وله شاهد مرسل أخرجه على بن معبد في كتاب الطاعة عن بقية عن حسان بن سليمان عن أبى نضرة عن الحسن البصري. ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي.
(4) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة على مطولا، من رواية خلاس بن عمرو قال: كنا جلوسا عند على ابن أبى طالب رضى اللَّه عنه إذ أتاه رجل من خزاعة فقال: يا أمير المؤمنين هل سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ينعت الإسلام؟ قال: سمعته يقول: بنى الإسلام على أربعة أركان: الصبر واليقين والجهاد والعدل- فذكره- إلى أن قال: والجهاد أربع شعب: الأمر بالمعروف: والنهى عن المنكر. والصدق في مواطن الصبر. وشنآن الفاسقين.
فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن. ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الكافر. ومن صدق في مواطن الصبر أحرز دينه. وقضى ما عليه. ومن شنئ الفاسقين فقد غضب للَّه. ومن غضب للَّه غضب اللَّه له» وهو من طريق إسحاق ابن بشر عن مقاتل. وهما ساقطان. قال: ورواية العلاء بن عبد الرحمن عن قبيصة بن جابر عن على رضى اللَّه عنه.(1/397)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة. فإن قلت: كيف يباشر الإنكار؟ قلت: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب، لأنّ الغرض كف المنكر. قال اللَّه تعالى: فأصلحوا بينهما، ثم قال: فقاتلوا، فإن قلت: فمن يباشره؟ قلت:
كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الإنكار، لأنه معلوم قبحه لكل أحد. وأما الإنكار الذي بالقتال، فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها. فإن قلت: فمن يُؤمر ويُنهى؟ قلت: كل مكلف، وغير المكلف إذا همَّ بضرر غيره مُنع، كالصبيان والمجانين، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعوّدوها، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها. فإن قلت: هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه قلت: نعم يجب عليه، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد اللَّه يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر. فإن قلت. كيف قيل (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ؟ قلت: الدعاء إلى الخير «1» عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر خاص، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله، كقوله: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 105 الى 107]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
__________
(1) . (عاد كلامه) قال: «وقوله يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صدر الكلام بالدعاء ... الخ» قال أحمد: عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام، كقوله: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وكقوله: (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وكقوله: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وشبه ذلك، لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر يفيده تمييزاً عن غيره من بقية المتناولات. وأما هذه الآية، فقد ذكر بعد العام فيها جميع ما يتناوله، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهى، لا يعدو واحدا من هذين، حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات، فالأولى في ذلك أن يقال: فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما، ثم مفصلا. وفي تنبيه أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية واللَّه أعلم، إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ببعض أنواع الخير، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري، وما أرى هذا العرف ثابتا، واللَّه أعلم.(1/398)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وهم اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق. وقيل: هم مبتدعو هذه الأمة، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية «1» وأشباههم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ نصب بالظرف وهولهم، أو بإضمار اذكر، وقرئ:
تبيض وتسود، بكسر حرف المضارعة. وتبياض وتسوادّ، والبياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت، وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسودّت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ باللَّه وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله أَكَفَرْتُمْ فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم.
والظاهر أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه. وعن عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسودّ وجوه بنى قريظة والنضير. وقيل هم المرتدون. وقيل أهل البدع والأهواء، وعن أبى أمامة: هم الخوارج، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء. وخير قتلى تحت أديم السماء: الذين قتلهم هؤلاء، فقال له أبو غالب: أشىء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال: بل سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غير مرة.
قال: فما شأنك دمعت عيناك، قال: رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية، ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيراً. فأعاذك اللَّه منهم «2» . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ففي نعمته وهي الثواب المخلد، فإن قلت: كيف موقع قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ بعد قوله: (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ) ؟ قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
__________
(1) . قوله «وهم المشبهة والمجبرة والحشوية» إن أراد بهم أهل السنة ومن وافقهم كعادته، فقد أفرط في التعصب للمعتزلة. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة بن عمار عن شداد عن أبى أمامة هكذا. ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة، وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبراني كلهم من طريق أبى غالب. بتمامه. وله إسناد آخر أخرجه الطبراني من رواية شهر بن حوشب عن أبى أمامة.(1/399)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة في الوعد والوعيد نَتْلُوها عَلَيْكَ ملتبسة بِالْحَقِّ والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً فيأخذ أحداً بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ثواب محسن. ونكر ظلما وقال لِلْعالَمِينَ على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، فسبحان من يحلم عمن يصفه بإرادة القبائح «1» والرضا بها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 111]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
«كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) ومنه قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كأنه قيل: وجدتم خير أمّة، وقيل: كنتم في علم اللَّه خير أمّة. وقيل: كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمّة، موصوفين به أُخْرِجَتْ أظهرت، وقوله تَأْمُرُونَ كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة، كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا باللَّه، لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن باللَّه (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) والدليل عليه قوله تعالى وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم باللَّه لَكانَ خَيْراً لَهُمْ
لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه، لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرئاسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد اللَّه بن سلام وأصحابه وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ المتمرّدون في الكفر لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً
__________
(1) . قوله «فسبحان من يحلم عمن يصفه بارادة القبائح» يريد أهل السنة القائلين: ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، كما أجمع عليه السلف. (ع) [.....](1/400)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم. وفيه تثبيت لمن أسلم منهم، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل. فإن قلت: هلا جزم المعطوف في قوله: (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ؟ «1» قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فأى فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت:
لو جزم لكان نفى النصر مقيداً بمقاتلتهم، كتولية الأدبار. وحين رفع كان نفى النصر وعدا مطلقا، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر وكان كما أخبر من حال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع ويهود خيبر. فإن قلت: فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت: جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون. فإن قلت: فما معنى التراخي في ثمَّ؟ قلت: التراخي في المرتبة لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار. فإن قلت: ما موقع الجملتين أعنى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) و (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) ؟ قلت: هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: وعلى ذكر فلان فإنّ من شأنه كيت وكيت، ولذلك جاءا من غير عاطف.
[سورة آل عمران (3) : آية 112]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسين بحبل من اللَّه وهو استثناء من أعم عام الأحوال. والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا جزم المعطوف في قوله ثم لا ينصرون ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقاتلة، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقاً. ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو، فإنها تستعار هاهنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان وأسمح في رتب الإحسان، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة، واللَّه أعلم.(1/401)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
حال اعتصامهم بحبل اللَّه وحبل الناس، يعنى ذمّة اللَّه وذمّة المسلمين، أى لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ استوجبوه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ كما يضرب البيت على أهله، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة اللَّه وغضبه ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب اللَّه أى ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات اللَّه وقتلهم الأنبياء، ثم قال ذلِكَ بِما عَصَوْا أى ذلك كائن بسبب عصيانهم للَّه واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط اللَّه، وأنّ سخط اللَّه يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر. ونحوه (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) ، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 116]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
الضمير في لَيْسُوا لأهل الكتاب، أى ليس أهل الكتاب مستوين. وقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ كلام مستأنف لبيان قوله: (لَيْسُوا سَواءً) كما وقع قوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بيانا لقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ، أمّة قائمة: مستقيمة عادلة، من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام، وهم الذين أسلموا منهم. وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، لأنه أبين لما يفعلون وأدل على حسن صورة أمرهم. وقيل عنى صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها.
وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه: أخر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللَّه في هذه الساعة غيركم «1» ، وقرأ هذه الآية. وقوله يَتْلُونَ ويُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لأمّة، أى أمّة قائمة تالون مؤمنون، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات اللَّه بالليل
__________
(1) . أخرجه النسائي وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار، كلهم من رواية عاصم عن زرعة.(1/402)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
ساجدين، ومن الإيمان باللَّه، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض. ومن الإيمان باليوم الآخر، لأنهم يصفونه بخلاف صفته. ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهم كانوا مداهنين. ومن المسارعة في الخيرات، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها. والمسارعة في الخير: فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي وَأُولئِكَ الموصوفون بما وصفوا به مِنَ جملة الصَّالِحِينَ الذين صلحت أحوالهم عند اللَّه ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم. ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين فَلَنْ يُكْفَرُوهُ لما جاء وصف اللَّه عز وعلا بالشكر في قوله: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) في معنى توفيه الثواب نفى عنه نقيض ذلك. فإن قلت: لم عدى إلى مفعولين. وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت: ضمن معنى الحرمان، فكأنه قيل: فلن تحرموه بمعنى فلن تحرموا جزاءه. وقرئ يفعلوا، ويكفروه، بالياء والتاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ بشارة للمتقين بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى.
[سورة آل عمران (3) : آية 117]
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
الصرُّ: الريح الباردة «1» نحو: الصرصر. قال:
لَا تَعْدِلَنَّ أَتَاوِيِّينَ تَضْرِبُهُمْ ... نَكْبَاءَ صِرً بِأصْحَابِ الْمَحَلَّاتِ «2»
__________
(1) . قال محمود: «الصر الريح الباردة ... الخ» قال أحمد: كلها أوجه وجيهة، وهذا الأخير أحسنها وأوجهها، لكن لم يبين الزمخشري وجه الظرفية في الأمثلة المذكورة، ونحن نبينها فنقول: إذا قلت مثلا: إن ضيعتي زيد ففي عمرو بعد اللَّه كاف، فقولك «كاف» أثبت به منكراً مجرداً من القيود المشخصة المخصصة، ثم جعلت المعين الذي هو عمرو محلا له، فشخصت ذلك المطلق المجرد بهذا المعنى، فهي ظرفية صحيحة، إذ كل مقيد ظرف لمطلقه، إذ المطلق بعض المقيد، فتنبه لهذه النكتة فإنها لطيفة، واللَّه الموفق.
(2) . الأتاوى: الغريب البعيد، كأنه منسوب إلى الأتاوة وهي الرشوة والخفالة، لأنه قد يبذلها على إقامته في غير وطنه. والنكباء: الريح الشديدة. والصر الحارة، وقيل الباردة. وقال الزجاج: صوت النار في الريح. وقيل:
صوت الريح. وقيل: الجو. وقيل: البرد. وعلى هذا لو روى بالجر على الاضافة لكان وجيها. والمحلات قيل هي أدوات البيت كالفأس والقدر والغربال والدلو. ويجوز أنها البيوت وهو الظل من البيت. يقول: لا تسو بين الغرباء وبين أصحاب البيوت. وروى: لا يعدلن أتاويون، بالبناء للمجهول، وما بعده نائب فاعل. ورواه الجوهري بالبناء الفاعل، وقال: أى لا يعدلن أتاويون أحداً بأصحاب المحلات، فحذف المفعول وهو مدان، وفسر المحلات فحذف الموصول وهو مدان، وفسر المحلات فيه بالأدوات كافة، لأن الأتاوي يستعيرها من أصحابها. وعلى كل فالنون للتوكيد.(1/403)
كما قالت ليلى الأخيلية:
وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلَإِ ... الْجِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ «1»
فإن قلت: فما معنى قوله مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
؟ قلت: فيه أوجه: أحدهما أنّ الصرٌّ في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ، كما تقول: برد بارد على المبالغة. والثاني:
أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله. والثالث: أن يكون من قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ومن قولك: إن ضيعني فلان ففي اللَّه كاف وكافل. قال:
وَفِى الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِى «2»
__________
(1) .
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع من المتغور
ولم يغلب الخصم الألد ويملأ ... الجفان سديفا يوم نكباء صرصر
لليلى الأخيلية ترثى صاحبها توبة بن الحمير وتتذكر أحواله وتعد مناقبه. وفتى الفتيان: أى هو الفتى من بينهم وليسوا فتيانا بالنسبة له وإن كانوا فتيانا في أنفسهم، وتوبة بدل. ولم ينخ من أناخ بعيره، خبر كأن، أى كأنه لم ينخ بعيره بمحل مرتفع. ويروى: لم يسر بنجد، ولم يطلع من أطلع بمعنى طلع، أو لم يطلع بعيره من المتغور على اسم المفعول، أى المكان المنخفض ما فيه، وكأنه لم يغلب الخصم الشديد الخصومة. ويروى الخصم الصحاح بفتح الصاد، بمعنى الصحيح، وكأنه لم يملأ الجفان سديفاً، أى قطعاً بيضا من السنام في زمن الريح الشديدة الباردة، أو كثيرة الصرير وهو التصويت تعنى أنه كان يفعل ذلك كله، ثم كأنه اليوم لم يفعل لموته.
(2) .
لقد زاد الحياة إلى حبا ... بنانى إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صاف
وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولولا هن قد سويت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كافى
لأبى خالد الخارجي. وقيل: لمحمد بن عبد اللَّه الأزدى. وقيل: لعمران بن حطان. وقيل غير ذلك لامه قطري ابن الفجاءة عن التخلف عن الحرب فاعتذر بذلك. وبناتي فاعل زاد. وأحاذر أى أخاف أن يدركهن الفقر بعد موتى، وكنى عن ذلك برؤيتهن له مبالغة، لأنه إذا خاف الرؤية خاف اللحوق. ويروى مخافة أن يذقن البؤس، أى الشدة، فشبهه بمطعوم على سبيل المكنية والذوق تخييل. ورنق الماء كدر، وترنق تكدر، ورنقه وأرنقه كدره، والرنق بالتحريك مصدر كالكدر فسكن وأريد منه الماء الكدر. وروى «زيفا» أى مغشوشا مكدرا، فالمراد واحد، فشبه العيش المنغص به، وشبه العيش الناعم بالماء الصافي على طريق التصريح والشرب ترشيح، وكسى بوزن فرح لازم ضد عرى. ويجوز هنا بناؤه للمجهول، من كسى المتعدي كدعا. وإن للشرط المجرد عن الشك أو بمعنى إذ. وتنبو ترتفع عنهن، كناية عن عدم التزوج بهن. والكرم بالسكون، وقيل- بالكسر- وصف من الكرم يقع على الواحد والمتعدد مذكراً ومؤنثا. ويروى «عن رم» أى باليات، وهو أشبه بالسياق. والعجاف جمع عجفاء، أى مهزولة، أى لا يلتفت إليهن مع كونهن كريمات لهزالهن ورثاثة حالهن. وسويت مهري: وضعت عليه آلات الحرب ومهدته وهيأته لها. ويروى «قد سموت مهري» ولعله بتخفيف الميم بمعنى علوت عليه وركبته وقيل: بمعنى وضعت عليه سمات الحرب، فلعله مقلوب. و «سمت» وروى سومت بالتشديد، وهو الذي يصلح أنه بمعنى جعلت عليه علامات الحرب لا ذاك، وجود من جانب اللَّه عز وجل شخصا كافيا، ولا حجر في المبالغة لا سيما على العرب. وفيه نوع استرجاع إلى اللَّه وتفويض إليه وتوكل عليه، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين.(1/404)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه اللَّه، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى اللَّه مع كفرهم. وقيل: ما أنفقوا في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضاع عنهم، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله. وشبه بحرث وْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ. فإن قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه «1» وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلا بالريح.
قلت: هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله: (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ويجوز أن يراد: مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ:
تنفقون، بالتاء ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
الضمير للمنفقين على معنى: وما ظلمهم اللَّه بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أى: وما ظلمهم اللَّه بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ (ولكن) بالتشديد، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم. ولا يجوز أن يراد:
ولكن أنفسهم يظلمون، على إسقاط ضمير الشأن، لأنه إنما يجوز في الشعر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 119]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
__________
(1) . قال محمود «فان قلت: الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه ... الخ» قال أحمد: أما إيراد السؤال فلا ترتضي صيغته لما فيها من حيف بالأدب، إذ جزم السائل المقدر بأن كلام اللَّه تعالى غير مطابق لمراده، واللائق بالسؤال الوارد عن كتاب اللَّه تعالى أن يذكر بصيغة الاسترشاد الصريحة، لا بصيغة الاعتراض المحضة والعبارة الصحيحة أن يقال: فما وجه مطابقة الكلام للغرض. ولا ينبغي التساهل في ذلك، فان أحدنا لو أورد سؤالا على كلام إمام معتبر بمرأى منه ومسمع، تحيل في أنواع التلطف في إيراده وبعد عن أمثال هذه العبارة. ولعل الاعتراض على ذلك الامام يكون وارداً لا يمكن عنه جواب، فكيف يليق التسامح في إيراد الأسئلة على كتاب اللَّه تعالى بصيغ الاعتراضات، وإنما يسئل عن كتاب اللَّه تعالى بمرأى منه ومسمع على علم بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فما أجدره أن يتوفر في الاسترشاد وأن يتأدب في الإيراد ثم نعود إلى جواب الزمخشري الثاني وهو قوله «إن المراد مثل إهلاك ما ينفقون» فنقول: لم يكشف الغطاء بهذا الجواب عن المطابقة المسئول عنها، والسؤال باق. وذلك أن الريح المشبه بها ليست الإهلاك وإنما هي المهلكة. ولا مطابقة بين المصدر والاسم إلا بتأويل آخر، وحينئذ يبعد هذا الوجه. وأقرب معه أن يقول: أصل الكلام واللَّه أعلم: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صر فأهلكته. ولكن خولف هذا النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهو تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها واعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. ومثل هذا في تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله تعالى: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما ... ) الآية ومثله أيضاً: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه. والأصل: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وأن أدعم بها الحائط إذا مال، وأمثال ذلك كثيرة، واللَّه الموفق.(1/405)
بطانة الرجل وولجيته: خصيصه وصفيه الذي يفضى إليه بشقوره «1» ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال: فلان شعاري. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «الأنصار شعار والناس دثار «2» » مِنْ دُونِكُمْ من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز تعلقه بلا تتخذوا، وببطانة على الوصف، أى بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، ولا آلوك جهدا، على التضمين.
والمعنى: لا أمنعك نصحا ولا أنقصكه. والخبال: الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ودّوا عنتكم، على أنّ «ما» مصدرية. والعنت: شدّة الضرر والمشقة. وأصله انهياض العظم بعد جبره، أى تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين.
وعن قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضا على ذلك.
وفي قراءة عبد اللَّه قد بدأ البغضاء قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء اللَّه ومعاداة أعدائه إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بين لكم فعملتم به. فإن قلت: كيف موقع هذه الجمل؟ قلت يجوز أن يكون لا يَأْلُونَكُمْ صفة للبطانة وكذلك قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم. وأما قَدْ بَيَّنَّا فكلام مبتدأ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة ها للتنبيه. وأَنْتُمْ مبتدأ. وأُولاءِ خبره. أى أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب. وقوله تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء. وقيل أُولاءِ موصول (تُحِبُّونَهُمْ) صلته. والواو في وَتُؤْمِنُونَ للحال، وانتصابها من لا يحبونكم
__________
(1) . قوله «بشقوره» في الصحاح الشقور بالضم الأمور اللاصقة بالقلب المهمة له الواحد شقر (ع)
(2) . متفق عليه من حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني في أثناء حديث طويل، أوله «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما فتح جنينا قسم المغانم» .(1/406)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
أى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم مع ذلك يبغضونكم. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. ونحوه (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام. قال الحرث بن ظالم المري:
فَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئَاماً أَذِلَّةً ... يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُؤُسَ الْأبَاهِمِ «1»
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوّة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء، وما يكون منهم في حال خلوّ بعضهم ببعض، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها. فإن قلت: فكيف معناه على الوجهين؟ قلت: إذا كان داخلا في جملة المقول فمعناه: أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا، وقل لهم إنّ اللَّه عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أنّ شيئا من أسراركم يخفى عليه. وإذا كان خارجا فمعناه: قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعى إياك على ما يسرون فإنى أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم. ويجوز أن لا يكون ثمَّ قول، وأن يكون قوله: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أمراً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد اللَّه أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدث نفسك بذلك.
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الحسنة: الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع. والسيئة: ما كان ضدّ ذلك.
وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة. فإن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ «2» قلت: المس
__________
(1) . للحرث بن ظالم المري. وعض الأنامل من الغيظ: كناية عن شدته، وأطلق الأباهم وأراد مطلق الأصابع مجازاً مرسلا لأنه لا داعى للتخصيص المخالف للواقع عادة. ويحتمل أنها حقيقة.
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالاصابة ... الخ» قال أحمد: يمكن أن يقال: المس أقل تمكنا من الاصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام واللَّه أعلم: إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها، وإن تمكنت الاصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثى الشامت عنده منها فهم لا يرثون لكم ولا ينفكون عن حسدهم ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون، واللَّه أعلم.(1/407)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحداً. ألا ترى إلى قوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) ، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) . وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم. أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتنقوا اللَّه في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف اللَّه فلا يضركم كيدهم. وقرئ (لا يَضُرُّكُمْ) من ضاره يضيره. ويضركم على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد، كقولك مدّ يا هذا. وروى المفضل عن عاصم (لا يَضُرُّكُمْ) بفتح الراء، وهذا تعليم من اللَّه وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء:
إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من الصبر والتقوى وغيرهما مُحِيطٌ ففاعل بكم ما أنتم أهله. وقرئ بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
وَاذكر إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ بالمدينة وهو غدوّه إلى أحد من حجرة عائشة رضى اللَّه عنها. روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار النبي صلى اللَّه عليه وسلم أصحابه ودعا عبد اللَّه بن أبىّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال عبد اللَّه وأكثر الأنصار:
يا رسول اللَّه، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو اللَّه ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم: يا رسول اللَّه، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: إنى قد رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي، فأوّلتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأنى أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم اللَّه بالشهادة يوم أحد:
اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا:
بئسما صنعنا، نشير على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والوحى يأتيه، وقالوا: اصنع يا رسول ما رأيت، فقال: لا ينبغي لنبىّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل، فخرج يوم الجمعة بعد صلاة(1/408)
الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما بقوّم بهم القدح «1» . إن رأى صدراً خارجا قال: تأخر، وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمّر عبد اللَّه بن جبير على الرماة وقال لهم: «انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» «2» تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم. وقرأ عبد اللَّه للمؤمنين، بمعنى تسوى لهم وتهيئ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ مواطن ومواقف. وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار. واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه قوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) من مجلسك وموضع حكمك وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم إِذْ هَمَّتْ بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . والطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ألف، وقيل في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل عبد اللَّه بن أبىّ بثلث الناس وقال: يا قوم، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصارى فقال: أنشدكم اللَّه في نبيكم وأنفسكم، فقال عبداك:
لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الحيان باتباع عبد اللَّه فعصمهم اللَّه فمضوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «3» . وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: أضمروا أن يرجعوا، فعزم اللَّه لهم على الرشد فثبتوا.
والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه، كما قال عمرو بن الأطنابة:
أَقُولُ لَهَا إذَا جَشَأتْ وَجَاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِى أوْ تَسْتَرِيحِى «4»
__________
(1) . قوله «كأنما يقوم بهم القدح» في الصحاح: القدح- بالكسر- السهم قبل أن يراش ويركب نصله. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني محمد بن شهاب وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين ابن عبد الرحمن وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث عن غزوة أحد. وكان من حديثهم قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم للمسلمين يوم أحد «إنى رأيت بقراً وأولتها خيراً. ورأيت في ذباب سيفي ثلماً- فذكر الحديث بطوله وفيه: ومات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو. وفيه: ذكرا للأمة وغير ذلك. ومن طريق ابن إسحاق أخرجه البيهقي في الدلائل وأورد منه الطبري من طريقه قطعة. وساقه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة مطولا وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بلفظ المصنف، إلى قوله «وأصبح بالشعب» وبقية ذلك هو من كلام ابن إسحاق «قوله فيه حتى يقوم بها القداح» وقع في رواية الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة، وقد ساقه الواقدي بهذا الاسناد مطولا.
(3) . هو في الذي قبله. وذكره ابن هشام في تهذيب السيرة بتمامه عن ابن إسحاق. [.....]
(4) .
أبت لي عفتي وأبى تلادى ... وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وإقحامى على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صحيح
لعمرو بن الأطنابة وهي أمه، وأبوه يزيد بن مناة بن ثعلبة من باهلة. والتلاد: المال القديم الموروث. ويروى بلائي أى بأسى في الحروب. واستعار الثمن لما يبذله في المكارم على طريق التصريح. والربيح: الزائد. والاقحام:
تكليف الدخول في المكروه. ويروى: وإقدامى. ويروى «وأضرب» بدل «ضربي» وفيه دلالة على تجدد الضرب وإبرازه في صورة إلى أمر المشاهد وهو من عطف المصدر المؤول على المصدر الصريح. ويحتمل أنها جملة حالية والتقدير: وأنا أضرب. والهامة أعلى الرأس. والمشيح: الجاد في القتال، من أشاح إذا جد واجتهد.
وجشأت: تحركت واضطربت، وجاشت: غلت وارتفعت، وكل شيء يغلى فهو يجيش. ومكانك: اسم فعل.
أى الزمى يا نفس مكانك، يحمدك الناس إن ظفرت، أو تستريحي إن مت. ولأدفع: متعلق بالقول أو باسم الفعل أو بأبت لي، أى منعتني عفتي وما عطف عليها من الفرار. وإسناد الفعل لذلك مجاز عقلى من الاسناد للسبب.
وشبه سلامة العرض من الطعن بسلامة البيضة مثلا من الكسر فاستعار لها الصحة على طريق التصريح.(1/409)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
حتى قال معاوية: عليكم بحفظ الشعر، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين، فما ثبت منى إلا قول عمرو بن الأطنابة. ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، واللَّه تعالى يقول وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ويجوز أن يراد: واللَّه ناصرهما ومتولى أمرهما، فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على اللَّه فإن قلت، فما معنى ما روى من قول بعضهم عند نزول الآية. واللَّه ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا اللَّه بأنه ولينا؟ قلت: معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء اللَّه وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها- لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم- كانت سببا لنزولهما. والفشل: الجبن والخور. وقرأ عبد اللَّه: واللَّه وليهم كقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 127]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
أمرهم بألا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوّضوا أمورهم إلا إليه ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل(1/410)
مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة. والأذلة: جمع قلة والذلان جمع الكثرة، وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم: ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد. وقلتهم أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوّهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة «1» . وبدر: اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمى به فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. أو لعلكم ينعم اللَّه عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له إِذْ تَقُولُ ظرف لنصركم، على أن يقول لهم ذلك يوم بدر، أو بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) على أن يقوله لهم يوم أحد. فإن قلت. كيف يصح أن يقول لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا، حيث خالفوا أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر اللَّه. ومعنى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة. وإنما جيء بلن الذي هو لتأكيد النفي، للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوّهم وشوكته كالآئسين من النصر. وبَلى إيجاب لما بعد لن، بمعنى: بل يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية ثم قال إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسوّمين للقتال وَيَأْتُوكُمْ يعنى المشركين مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من قولك: قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبى حنيفة رحمه اللَّه: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها- ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث. والمعنى: أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد: أنّ اللَّه يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم.
وقرئ (منزلين) بالتشديد. ومنزلين بكسر الزاى، بمعنى: منزلين النصر. و (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو وكسرها، بمعنى: معلمين. ومعلمين أنفسهم أو خيلهم. قال الكلبي: معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها. وعن مجاهد:
مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة: كانوا على حيل بلق. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة
__________
(1) . قوله «والشكة والشوكة» في الصحاح: الشكة- بالكسر- السلاح. والشوكة: شدة البأس. (ع)(1/411)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الزبير يوم بدر صفراء، فنزلت الملائكة كذلك، وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لأصحابه «تسوّموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت» «1» وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الهاء لأن يمدكم. أى: وما جعل اللَّه إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة، ولكن ذلك مما يقوى به اللَّه رجاء النصرة والطمع في الرحمة، ويربط به على قلوب المجاهدين الْعَزِيزِ الذي لا يغالب في حكمه الْحَكِيمِ الذي يعطى النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ غير ظافرين بمبتغاهم.
ونحوه (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) ويقال: كبته، بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة. وقيل في قول أبى الطيب:
لِأَكْبِتَ حَاسِداً وَأرِى عَدُوًّا «2»
هو من الكبد والرئة، واللام المتعلقة بقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ) أو بقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . أَوْ يَتُوبَ عطف على ما قبله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 129]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا أبو أمامة عن ابن عون. عن ابن عمير، وابن إسحاق بهذا. وهو مرسل وزاد: قال «فهو أول يوم وضع فيه الصوف» ورواه الطبري من وجه آخر عن ابن عون به. وقال الواقدي:
حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر. عن محمود بن لبيد فذكره. قال: فأعلموا بالصوف في مغافرهم» ولم يذكر الزيادة. ورواه ابن سعد من طرق في قصة «وفيه فقال لأصحابه يومئذ: تسوموا فان الملائكة قد تسومت. قال فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم»
(2) .
رويدك أيها الملك الجليل ... تأن وعده مما تنيل
وجودك بالمقام ولو قليلا ... فما فيما تجود به قليل
لأكبت حاسداً وأرى عدواً ... كأنهما وداعك والرحيل
لأبى الطيب. يقول تمهل يا أيها الملك عن السفر، واجعل ذلك التأنى مما تحسن به إلينا، وجودك علينا بالاقامة، ولو كانت قليلة عندك أو في ذاتها فهي كثيرة عندنا، فانه ليس فيما تجود به قليل. وقوله «لأكبت» متعلق بتأن.
وأصله: لأكبد، قلبت الدال تاء لقرب مخرجيهما، أى لأصيب كبد الحاسد بالغيظ. وأرى: أى أصيب رئة العدو به أيضا، كأنهما: أى الحاسد والعدو، شبه الأول بالوداع، والثاني بالرحيل، في أن كلا يحزنه. وخص الثاني بالثاني لأنه أشد كراهة. وفيه لف ونشر مرتب، وهو حسن.(1/412)
ولَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض. والمعنى أنّ اللَّه مالك أمرهم، فإما يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم. وقيل إنّ (يَتُوبَ) منصوب بإضمار «أن» و «وأن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أو على شيء، أى ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، وقيل «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب اللَّه عليهم فتفرح بحالهم، أو يعذبهم فتتشفى منهم. وقيل: شجه عتبة ابن أبى وقاص يوم أحد وكسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وسالم مولى أبى حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول:
كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم «1» ، فنزلت. وقيل: أراد أن يدعو اللَّه عليهم فنهاه اللَّه تعالى، لعلمه أن فيهم من يؤمن. وعن الحسن يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالتوبة «2» ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين «3» وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ولا يشاء أن يعذب إلا
__________
(1) . أخرجه عبد الرزاق. ومن طريقه الطبري. أخبرنا معمر عن قتادة: أن عتبة. فذكره ومن طريق معمر أخرجه ابن سعد سواء. والحديث في الصحيحين من حديث سهل بن سعد «كسرت رباعية النبي صلى اللَّه عليه وسلم يوم أحد وشج رأسه. فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى اللَّه؟
فأنزل اللَّه تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) قال: وكانت فاطمة تغسل الدم عن وجهه- الحديث» وسيأتى قريباً أن الذي شجه عبد اللَّه بن قمئة. وقال الواقدي: المثبت عندنا أن الذي رمى وجه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه ابن قمئة: والذي رمى شفته وأصاب رباعيته. عتبة بن أبى وقاص. وفي السيرة لابن هشام من حديث أبى سعيد الخدري أن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى. وجرح شفته السفلى، وأن عبد اللَّه بن شهاب شجه في وجهه، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حفرة من الحفر فأخذ علي بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائما ومص مالك بن سنان أبو أبى سعد الدم عن وجه النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثم ازدرده. فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: من مس دمه دمى لم تصبه النار» .
(2) . قال محمود: «معناه يغفر لمن يشاء بالتوبة ... الخ» قال أحمد: هذه الآية واردة في الكفار. ومعتقد أهل السنة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الايمان، وليسوا محل خلاف بين الطائفتين وعندهم أن المؤمن النائب من كفره هو المعنى في قوله: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) كما قاله الزمخشري. وأما تسلقه من ذلك على تعميم هذا الحكم وتعديته إلى الموحدين، فمن التعامي والتصام حقيقة، وإلا فهو أحذق من ذلك. وأما نسبته إلى أهل السنة التعامى والتصام والهوى والبدعة والافتراء، فاللَّه حسيبه في ذلك والسلام.
(3) . قوله «ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين» هذا عند المعتزلة. (ع)(1/413)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
المستوجبين للعذاب. وعن عطاء: يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالما. وإتباعه قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ تفسير بين لمن يشاء، وأنهم المتوب عليهم، أو الظالمون، ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامتون ويتعامون «1» عن آيات اللَّه فيخبطون خبط عشواء، ويطيبون أنفسهم بما يفترون على ابن عباس من قولهم. يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً نهى عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون «2» .
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ كان أبو حنيفة رحمه اللَّه يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد اللَّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وقد أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله. ومن تأمّل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على اللَّه تعالى، وفي ذكره تعالى «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع- وإن قال الناس ما قالوا- ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى، وصعوبة إصابة رضا اللَّه، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 137]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
__________
(1) . قوله «ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون» يريد أهل السنة وتحقيق المبحث في علم التوحيد. (ع)
(2) . قوله «مال المديون» لعله المدين، أو هو لغة شاذة. (ع)(1/414)
في مصاحف أهل المدينة والشام سارعوا بغير واو. وقرأ الباقون بالواو. وتنصره قراءة أبىّ وعبد اللَّه: وسايقوا. ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة: الإقبال على ما يستحقان به عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أى عرضها عرض السموات والأرض، كقوله: (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) والمراد وصفها بالسعة والبسطة، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه.
وخص العرض، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة، كقوله: (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) . وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل، كما حكى عن بعض السلف: أنه ربما تصدّق ببصلة. وعن عائشة رضى اللَّه عنها أنها تصدّقت بحبة عنب «1» أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة، لا تمنعهم حال فرح وسرور، ولا حال محنة وبلاء، من المعروف. وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس، فإنه لا يدع الإحسان. وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.
كظم القربة: إذا ملأها وشد فاها. وكظم البعير: إذا لم يجتر. ومنه كظم الغيظ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم» من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ اللَّه قلبه أمنا وإيمانا «2» » وعن عائشة رضى اللَّه عنها: أن خادماً لها غاظها فقالت: للَّه درّ التقوى، ما تركت لذي غيظ شفاء. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه. وروى «ينادى مناد يوم القيامة: أين الذين كانت أجورهم على اللَّه فلا يقوم إلا من عفا» «3» وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه. وعن النبي صلى
__________
(1) . أخرجه ابن سعد أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق عن ظبية بنت المعلل. قالت «دخلت على عائشة فجاء سائل فأعطته حبة عنب، ثم نظرت إلينا. وقالت: أتعجبين من هذا؟ إن في هذا لمثاقيل كثيرة» .
(2) . أخرجه أبو داود. من رواية ابن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أبيه. قال ابن طاهر: هذا الصحابي هو معاذ بن أنس وابنه هو سهل. ورواه عبد الرزاق وأحمد عنه. والعقيلي من طريقه. قال: أخبرنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل عن عمر له عن أبى هريرة به. وعبد الجليل مجهول.
(3) . أخرجه البيهقي في الشعب. من رواية المبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران بن حصين رفعه «إذا كان يوم القيامة ينادى مناد من بطنان العرش ليقم الذين كانت أجورهم على اللَّه فلا يقوم إلا من عفا» وفي إسناده قصة إبراهيم بن مهدى مع المأمون. ورواه الطبراني من رواية محرز أبى رجاء عن الحسن قال «يقال يوم القيامة ليقم من كان له على أنه أجر فما يقوم إلا إنسان عفا، ثم قرأ (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . وذكره أبو شجاع في الفردوس عن أنس رضى اللَّه عنه.(1/415)
اللَّه عليه وسلم: «إن هؤلاء في أمّتى قليل إلا من عصم اللَّه، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي «1» مضت «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون. وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء وَالَّذِينَ عطف على المتقين، أى أعدت للمتقين وللتائبين. وقوله: (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين. ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك فاحِشَةً فعلة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أو أذنبوا أى ذنب كان مما يؤاخذون به. وقيل: الفاحشة الزنا. وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما. وقيل:
الفاحشة الكبيرة. وظلم النفس الصغيرة ذَكَرُوا اللَّهَ تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين «2» وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو «3» والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة.
وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وَلَمْ يُصِرُّوا ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين «4» مرّة» وروى «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار «5» » وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فعل
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ... فذكره. وإسناده إلى مقاتل في أول الكتاب، وفي الفردوس عن أنس نحوه في أول الذي قبله.
(2) . قوله «عازمين» لعله عازمين على عدم العود. (ع) [.....]
(3) . قوله «بأقصى مما يقدر عليه وجب العفو» أما سمعاً فباتفاق، وأما عقلا فعند المعتزلة فقط. (ع)
(4) . أخرجه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والبزار. من طريق عثمان بن وافد عن أبى نصيرة عن مولى لأبى بكر رضى اللَّه عنه. قال الترمذي: غريب وليس إسناده بالقوى. وقال البزار: لا نحفظه إلا من حديث أبى بكر بهذا الطريق. وأبو نصيرة وشيخه لا يعرفان. قلت: له شاهد أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث ابن عباس.
(5) . أخرجه إسحاق بن بشر أبو حذيفة في المبتدأ عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وإسحاق حديثه منكر. ورواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية مكحول. عن أبى سلمة. عن أبى هريرة. وزاد في آخره «فطوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا» وفي إسناده بشر بن عبد الوارث. وهو متروك. ورواه الثعلبي وابن شاهين في الترغيب من رواية بشر بن إبراهيم عن خليفة بن سليمان عن أبى سلمة عن أبى هريرة به.(1/416)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً. والمعنى: وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهى عنها وبالوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات متقون وتائبون ومصرّون، وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم، دون المصرّين «1» . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه. قال أَجْرُ الْعامِلِينَ بعد قوله: (جَزاؤُهُمْ) لأنهما في معنى واحد. وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل، وأجر مستحق عليه، لا كما يقول المبطلون «2» . وروى أنّ اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى موسى: «ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي» وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة. وعن الحسن رضى اللَّه عنه:
يقول اللَّه تعالى يوم القيامة «جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضى اللَّه عنها أنها كانت تنشد:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إنّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِى عَلَى اليَبَسِ «3»
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك. يعنى المغفرة والجنات قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنه اللَّه في الأمم المكذبين من وقائعه، كقوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ، (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 138 الى 139]
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
__________
(1) . قوله والتائبين منهم دون المصرين يعنى أن الإصرار كبيرة وفاعل الكبيرة يخلد في النار لكن هذا عند المعتزلة، وخالف أهل السنة لأنه مؤمن عندهم والمؤمن لا يخلد فيها وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)
(2) . (قوله وأجر مستحق عليه لا كما يقول المبطلون) يريد بهم أهل السنة حيث قالوا لا يجب على اللَّه شيء. (ع)
(3) .
ما بال نفسك ترضى أن تدنسها ... وثوب نفسك مغسول من الدنس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس
للإمام على كرم اللَّه وجهه وقيل: لأبى العتاهية. والبال الشأن والنفس. ويجوز أنها الذات والثوب على ظاهره.
ويجوز أنها الروح والثوب مستعار للجسم، لأنه للروح كالثوب للبدن، أى لا ينبغي تدنيس المظروف مع تنظيف ظرفه. ويجوز أن الأولى الروح والثانية الذات. ويروى ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوب نفسك:
جملة حالية. ويروى: «وثوبك الدهر مغسول» . وترجو النجاة على حذف أداة الاستفهام التوبيخي، أبرزه في صورة الخبر ليصور قبحه، وشبه الأسباب الموصلة للنجاة بالطرق المسلوكة على سبيل التصريحية «ولم تسلك» ترشيح.
وقوله «إن السفينة» تمثيل لحال من يرجو أمراً ولم يأخذ في أسبابه بحال ملاح يريد تسيير السفينة على أرض صلبة لا ماء بها، وفيه تقرير التوبيخ الذي أفاده الاستفهام.(1/417)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، يعنى: حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يعنى أنه مع كونه بيانا وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين: ويجوز أن يكون قوله: (قَدْ خَلَتْ) جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين، ويكون قوله: (هذا بَيانٌ) إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا تسلية من اللَّه سبحانه لرسوله صلى اللَّه عليه وسلم وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم، يعنى ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، أى لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا، ولا تبالوا به، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو وأنتم الأعلون شأنا، لأنّ قتالكم للَّه ولإعلاء كلمته، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر، ولأنّ قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار. أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة، أى وأنتم الأعلون في العاقبةَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالنهى بمعنى: ولا تهنوا إن صح إيمانكم على أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بصنع اللَّه وقلة المبالاة بأعدائه. أو بالأعلون، أى إن كنتم مصدّقين بما يعدكم اللَّه ويبشركم به من الغلبة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 140 الى 141]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
قرئ (قرح) بفتح القاف وضمها، وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل: هو بالفتح الجراح، وبالضم ألمها. وقرأ أبو السمال (قرح) بفتحتين. وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد.
والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال، فأنتم أولى أن لا تضعفوا. ونحوه (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) وقيل: كان ذلك يوم أحد، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: كيف قيل (قَرْحٌ مِثْلُهُ) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟
قلت: بلى كان مثله، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) .
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ تلك مبتدأ، والأيام صفته. ونُداوِلُها خبره، ويجوز أن يكون (تِلْكَ(1/418)
الْأَيَّامُ)
مبتدأ وخبراً، كما تقول: هي الأيام تبلى كل جديد. والمراد بالأيام: أوقات الظفر والغلبة، نداولها: نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، كقوله وهو من أبيات الكتاب:
فَيَوْماً عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا ... وَيَوْماً نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ «1»
ومن أمثال العرب: الحرب سجال. وعن أبى سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال: أين ابن أبى كبشة، أين ابن أبى قحافة، أين ابن الخطاب. فقال عمر: هذا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر. فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال. فقال عمر رضى اللَّه عنه: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا «2» ، والمداولة مثل المعاورة. وقال:
يَرِدُ المِيَاهَ فَلَا يَزَالُ مُدَاوِلا ... فِى النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّلٍ وَسَمَاعِ «3»
يقال: داولت بينهم الشيء فتداولوه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فيه وجهان: أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه: وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل. بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فاللَّه عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل: معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء،
__________
(1) .
فلا وأبى الناس لا يعلمون ... فلا الخير خير ولا الشر شر فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
للنمر بن تولب، وهو من أبيات الكتاب. و «لا» زائدة قبل القسم، لأنه في الغالب لنفى شيء. وقيل: إشارة إلى اتضاح القضية المقسم عليها وعدم احتياجها إلى قسم، لكنه إنما يظهر في مثل قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ) حيث أبرز في صورة النفي المعتادة: و «الناس» مبتدأ خبره «لا يعلمون» ثم بين ذلك بقوله: فليس الخير الذي زعموا أنه خير، خيراً كما زعموا. وليس الشر الذي زعموه شراً كما زعموا. أو ليس الخير خيراً دائماً، وليس الشر شراً دائماً. فيوم علينا نخذل فيه. ويوم لنا ننصر فيه، ويوم نساء فيه، ويوم نسر فيه. وروى بنصب اليوم. والمعنى:
فيوما تدور الدائرة علينا، ويوما تكون الدولة لنا. ونساء يوما، ونسر يوما. وكل جملتين من هذه الجمل واقعتان موقع البيان مما قبلهما. وفي البيت الثاني: لف ونشر مرتب، وذلك حسن.
(2) . أخرجه أحمد والحاكم والطبراني والبيهقي في الدلائل. من رواية ابن أبى الزناد عن أبيه عن ابن عباس أن أبا سفيان قال يوم أحد فذكره. قلت: وأصله في الصحيح من غير هذا الوجه بغير هذا السياق.
(3) .
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... منى محبرة إلى القعقاع
ترد المياه فلا تزال تداولا ... في الناس بين تمثل وسماع
المحبرة: المحسنة. والقعقاع اسم الممدوح، وهو في الأصل الشيء اليابس الصلب. ترد تلك القصيدة المياه، خصها لكثرة الناس عليها وتغنيهم بالأشعار عندها، أى ترد مواضع المياه فلا تزال متداولة في الناس، أو فلا تزال ذات تداول، أو فلا تزال تتداول تداولا بين الناس دائرة بين تمثل، أى إنشاد لها بأن يضربها الناس أمثالا لأحوالهم، وبين استماع لها لحسنها. وروى يرد المياه فلا يزال مداولا الخ فذكر ضمير القصيدة لأنها بمعنى الشعر.(1/419)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات، والثاني أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه، معناه:
وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم اللَّه. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة، ليسليهم عما جرى عليهم، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من المصائب، ولا يشعر أنّ للَّه في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد المستشهدين يوم أحد. أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد، من قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) . وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه: واللَّه لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان، المجاهدين في سبيل اللَّه، الممحصين من الذنوب. والتمحيص: التطهير والتصفية وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ويهلكهم. يعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين، فلمحقهم ومحو آثارهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 142]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
أَمْ منقطعة «1» ومعنى الهمزة فيها الإنكار وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ بمعنى ولما تجاهدوا، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم «2» فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل: ما علم اللَّه في فلان خيراً، يريد: ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم، إلا أن فيها ضربا من التوقع فدلّ على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله. وقرئ (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ) بفتح الميم. وقيل أراد النون الخفيفة ولما يعلمن «3»
__________
(1) . قوله «أم منقطعة» هي المفسرة ببل والهمزة. (ع)
(2) . قال محمود: «ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ... الخ» قال أحمد: التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم خاص بعلم اللَّه تعالى، لأنه يلزم من عدم تعلق علمه بوجود شيء ما، عدم ذلك الشيء، ضرورة أنه لا يعزب عن علمه شيء لعموم تعلقه، فاستقام التعبير عن نفى الشيء بنفي تعلق العلم القديم بوجوده المصحح للملازمة، ولا كذلك علم آحاد المخلوقين، فانه لا يعبر عن نفى شيء بنفي تعلق علم الخلق به، لجواز وجود ذلك الشيء غير معلوم للخلق.
والزمخشري يظهر من كلامه صحة هذا التعبير مطلقاً ويعتقد الملازمة المذكورة عامة، فلذلك قال في قول فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أنه عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم، لأنه من لوازمه. وسيأتى بيان أن الزمخشري وهم في هذا الموضع، وإلا فهو يحاشى عن الوقوع في مثله اعتقاداً، واللَّه أعلم. وإنما عبر فرعون بذلك تلبيساً على ملئه وتتميماً لدعوى ألوهيته الكاذبة بأنه لا يعزب عن علمه شيء، فلو كان إله سواه على دعواه لتعلق علمه به وهذا يعد من حماقات فرعون ودعاويه الفارغة، واللَّه الموفق.
(3) . قوله «ولما يعلمن» لعله أى ولما يعلمن. (ع)(1/420)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
فحذفها وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع، كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبى عمرو (ويعلم) بالرفع على أنّ الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 143 الى 144]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر، وهم الذين ألحوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، «1» وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعنى: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت: كيف يجوز تمنى الشهادة وفي تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم؟ قلت: قصد متمنى الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ اللَّه وتنفيقا لصناعته. ولقد قال عبد اللَّه بن رواحة رضى اللَّه عنه- حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم اللَّه «2» :
لكِنَّنِى أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أو طَعْنَةً بِيَدَىْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِى ... أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدَا «3»
__________
(1) . قوله «في الخروج» لعله وكان رأيهم في الخروج. (ع)
(2) . قوله «وقيل له: ردكم اللَّه» لعله سالمين. (ع) [.....]
(3) . لعبد اللَّه بن رواحة حين خرج إلى غزوة مؤتة فقيل له: ردك اللَّه سالما. وذات فرغ: أى واسعة الثقب. والفرغ: مصب الماء من الدلو بين العرقى. أو طعنة ذات فرغ: أى ذات سعة. ويطلق الفرغ على الدلو أيضا. وتقذف الزبد: تمج الدم الذي يعلوه الزبد- أى الرغوة- لكثرته. وحران: عطشان إلى قتلى، وهو مجاز عن تطلبه إياه. والمجهزة: المدفقة المسرعة التي لا تبقى رمقاً. وتنفذ الأحشاء: أى تنفذ فيها. وإن ضممت التاء وكسرت الفاء، فمعناه تثقبها. والكبد: عطف خاص على عام. والجدث: القبر، والتفت إلى الغيبة في قوله:
وقد رشد، على أنه من كلامه. ويجوز أنه من قول الناس. ويحتمل الاخبار والدعاء. ومن غاز: تمييز.(1/421)
لما رمى عبد اللَّه بن قمئة الحارثي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، أقبل يريد قتله فذب عنه صلى اللَّه عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمداً.
وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل. وقيل: كان الصارخ الشيطان، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤا، فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يدعو: «إلىّ عباد اللَّه» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول اللَّه- فديناك بآبائنا وأمهاتنا- أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين «1» . فنزلت. وروى أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين:
__________
(1) . قلت: هذا منتزع من عدة أخبار في وقعة أحد. قال موسى بن عقبة في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب. قال «رمى يومئذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رجل من بنى الحرث يقال له عبد اللَّه بن قمئة، ويقال: بل رماه عتبة بن أبى وقاص» وفي الطبراني عن أبى أمامة «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رماه عبد اللَّه بن قمئة بحجر يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم أقمأك اللَّه فسلط اللَّه عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة» وروى الطبري من طريق أسباط عن السدى فذكر قصة أحد. قال فأتى ابن قمئة الحارثي أحد بنى الحرث بن عبد مناف بن كنانة. فرمى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في رأسه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وجعل يدعوهم: إلى عباد اللَّه. إلى عباد اللَّه. وفشا في الناس أن محمداً قتل» الحديث، وفي المغازي لابن إسحاق ومن طريقه الطبري عن الزهري، ومحمد بن محمد بن حبان وعاصم بن عمر، وغيرهم فذكر قصة أحد. قال «ولم يزل مصعب بن عمير يقاتل دونه ومعه لواؤه حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قمئة وهو يظن أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: لقد قتلت محمداً. وعند الواقدي عن ابن أبى سبرة عن خالد بن رباح عن الأعرج قال «لما صاح الشيطان يوم أحد إن محمداً قد قتل. قال أبو سفيان: أيكم قتل محمداً؟ قال ابن قمئة: أنا. وأما قوله: فلامهم على هربهم إلى آخره فرواه [بياض بالأصل.] قوله أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد اللَّه ابن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، هو من رواية السدى المتقدمة ولفظه: فقال بعض أصحاب الصخرة ليت لنا رسولا إلى عبد اللَّه بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان. قوله «وقال ناس من المنافقين:
لو كان نبياً ما قتل. ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس: يا قوم إن كان قتل محمد فان رب محمد حى لا يموت. الحديث: هو في آخر رواية السدى المذكورة. قوله وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصارى يتشحط في دمه فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل. فقال: إن كان قد قتل فقد بلغ. فقاتلوا عن دينكم» رواه الطبري من رواية ابن أبى نجيح عن مجاهد أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط، فذكره في كلام طويل.(1/422)
ليت عبد اللَّه بن أبىّ يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حىٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين:
أنه مرّ بأنصارى يتشحط في دمه، فقال يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل، فقال: إن كان قتل فقد بلغ، قاتلوا على دينكم. والمعنى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل «1» تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجوده بين أظهر قومه أَفَإِنْ ماتَ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد صلى اللَّه عليه وسلم، لا للانقلاب عنه. فإن قلت: لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت: لكونه مجوّزا عند المخاطبين. فإن قلت: أما علموه من ناحية قوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ؟ قلت: هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوى البصيرة. ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذ لا لهم. والانقلاب على الأعقاب: الإدبار عما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره. وقيل: الارتداد. وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وإسلامه «2» فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً فما ضر إلا نفسه، لأن اللَّه تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه. وسماهم شاكرين، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا. المعنى: أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة اللَّه، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن اللَّه له فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من اللَّه. وهو على معنيين: أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك.
__________
(1) . قوله «من بعثة الرسل» لعله الرسول. (ع)
(2) . قوله «وإسلامه» أى: تركه للعدو. (ع)(1/423)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
والثاني ذكر ما صنع اللَّه برسوله عند غلبة العدوّ والتفافهم عليه وإسلام قومه له، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل
[سورة آل عمران (3) : آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
كِتاباً مصدر مؤكد، لأن المعنى: كتب الموت كتابا مُؤَجَّلًا موقتا له أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد نُؤْتِهِ مِنْها أى من ثوابها وَسَنَجْزِي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة اللَّه فلم يشغلهم شيء عن الجهاد. وقرئ: يؤته. وسيجزى، بالياء فيهما.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 148]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قرئ قاتل. وقتل. وقتل، بالتشديد، والفاعل ربيون، أو ضمير النبي. ومَعَهُ رِبِّيُّونَ حال عنه بمعنى: قتل كائنا معه ربيون. والقراءة بالتشديد تنصر الوجه الأوّل. وعن سعيد بن جبير رحمه اللَّه: ما سمعنا بنبىّ قتل في القتال. والربيون الربانيون. وقرئ بالحركات الثلاث، فالفتح على القياس، والضم والكسر من تغييرات النسب. وقرئ: فَما وَهَنُوا) بكسر الهاء.
والمعنى: فما وهنوا عند قتل النبي وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعده وَمَا اسْتَكانُوا للعدوّ. وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد اللَّه بن أبىّ في طلب الأمان من أبى سفيان وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين، هضما لها واستقصاراً. والدعاء بالاستغفار منها مقدّما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدوّ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاء وطهارة وخضوع، وأقرب إلى الاستجابة فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصرة(1/424)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
والغنيمة والعز وطيب الذكر. وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدّمه، وأنه هو المعتدّ به عنده (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا قال علىّ رضى اللَّه عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وعن الحسن رضى اللَّه عنه: إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه في الدين، ويقولون:
لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما له ويوما عليه. وعن السدى: إن تستكينوا لأبى سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يَرُدُّوكُمْ إلى دينهم. وقيل هو عامّ في جميع الكفار، وإنّ على المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم ولا على مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أى ناصركم، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته. وقرئ بالنصب على: بل أطيعوا اللَّه مولاكم سَنُلْقِي قرئ بالنون والياء. والرُّعْبَ- بسكون العين وضمها-. قيل: قذف اللَّه في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة. وقيل:
ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا: ما صنعنا شيئا، قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن فاهرون «1» ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى اللَّه الرعب في قلوبهم فأمسكوا. بِما أَشْرَكُوا بسبب إشراكهم، أى كان السبب في إلقاء اللَّه الرّعب في قلوبهم إشراكهم به ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً آلهة لم ينزل اللَّه بإشراكها حجة. فإن قلت: كان هناك حجة «2» حتى ينزلها «3» اللَّه
__________
(1) . قوله «فاهرون» لعله فارهون. والفاره: الحاذق بالشيء. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «فان قلت كان هناك حجة» لعله: أكان. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت كان هناك حجة حتى ينزلها اللَّه فيصح لهم الاشراك ... الخ» ؟ قال أحمد: إنما يرد هذا السؤال لو أفهم ظاهر اللفظ أن ثم حجة وليس في ظاهره ما يفهم ذلك، ولو كانت الآية كقول القائل: بما أشركوا باللَّه ما لم ينزل سلطانه، باضافة السلطان إلى ما أشركوا به، لكان للسائل مقول، ولكان كقول القائل:
على لا حب لا يهتدى بمناره
فانه باضافة المنار إليه يوهم أن فيه مناراً، فيحتاج الناظر إلى حمله على معنى لا منار فيه فيهتدى به، ولو أطلق الشاعر فقال: «على لا حب لا يهتدى فيه بمنار» مثلا، لاستغنى عن تأويل الكلام، وكذلك الآية غنية عن التأويل، واللَّه أعلم.(1/425)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
فيصح لهم الإشراك؟ قلت: لم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم، لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم عليه حجة، وإنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا، كقوله:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِر «1»
[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 154]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ وعدهم اللَّه النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى: (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ) ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم. وقيل: لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من
__________
(1) .
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
لابن أحمر. يقول: لا تخفيف الأرنب أهوال تلك الصحراء، أى لا هول فيها حتى يفزعه، فما في البيت كناية عن ذلك، كقوله: ولا ترى الضب فيها يدخل جحره، أى لا ضب فيها ينجحر. و «ينجحر» حال إن كانت ترى بصرية، ومفعول ثانى إن كانت علمية. ويجوز أن المعنى: لا أرنب فيها تفزعه أهوالها، كما لا ضب فيها يدخل حجره، فهما منفيان. وهذا أوفق بالمقدم.(1/426)
المؤمنين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللَّه النصر فنزلت. وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا- كانت الدولة للمسلمين أو عليهم- فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. يحسونهم أى يقتلونهم قتلا ذريعا.
حتى إذا فشلوا. والفشل: الجبن وضعف الرأى. وتنازعوا، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فممن ثبت مكانه عبد اللَّه بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ونفر أعقابهم ينهبون، وهم الذين أرادوا الدنيا، فكرّ المشركون على الرماة، وقتلوا عبد اللَّه بن جبير رضى اللَّه عنه، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح دبورا وكانت صبا، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وهو قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة. فإن قلت: أين متعلق (حَتَّى إِذا) ؟ قلت: محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره. ويجوز أن يكون المعنى: صدقكم اللَّه وعده إلى وقت فشلكم إِذْ تُصْعِدُونَ
نصب بصرفكم، أو بقوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أو بإضمار «اذكر» والإصعاد. الذهاب في الأرض والإبعاد فيه. يقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض. يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة: وقرأ الحسن رضى اللَّه عنه: تصعدون، يعنى في الجبل. وتعضد الأولى قراءة أبىّ: إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو حيوة: تصعدون، بفتح التاء وتشديد العين، من تصعد في السلم وقرأ الحسن رضى اللَّه عنه: تلون، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها. وقرئ: يصعدون. ويلوون بالياء وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول «إلىّ عباد اللَّه، إلىّ عباد اللَّه، أنا رسول اللَّه، من يكرّ فله الجنة» فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أوّلهم وأولاهم، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى فَأَثابَكُمْ عطف على صرفكم، أى فجازاكم اللَّه غَمًّا حين صرفكم عنهم وابتلاكم (ب) سبب (غم) أذقتموه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعصيانكم له، أو غما مضاعفا، غما بعد غم، وغما متصلا بغم، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر لِكَيْلا تَحْزَنُوا لتتمرنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. ويجوز أن يكون الضمير في: (فَأَثابَكُمْ) للرسول، أى فآساكم في الاغتمام «1» ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما
__________
(1) . قوله «فآساكم في الاغتمام» لعله: فآساكم، أى فصار أسوتكم «أفاده الصحاح» . (ع)(1/427)
غمه ما نزل بكم، فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره: وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر اللَّه، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. وأنزل اللَّه الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم. وعن أبى طلحة رضى اللَّه عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. وما أحد إلا ويميل تحت حجفته «1» .
وعن ابن الزبير رضى اللَّه عنه: لقد رأيتنى مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل اللَّه علينا النوم. واللَّه إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني «2» : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. والأمنة: الأمن. وقرئ (أمنة) بسكون الميم، كأنها المرة من الأمن نُعاساً بدل من أمنة. ويجوز أن يكون هو المفعول، وأمنة حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، أو مفعولا له بمعنى نعستم أمنة. ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين، بمعنى: ذوى أمنة، أو على أنه جمع آمن، كبار وبررة يَغْشى قرئ بالياء والتاء ردا على النعاس، أو على الأمنة طائِفَةً مِنْكُمْ هم أهل الصدق واليقين وَطائِفَةٌ هم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى اللَّه عليه وسلم والمسلمين، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان، فهم في التشاكى والتباثّ غَيْرَ الْحَقِّ في حكم المصدر. ومعناه: يظنون باللَّه غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به.
وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون باللَّه ظن الجاهلية. وغير الحق:
تأكيد ليظنون، كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك وظن الجاهلية، كقولك: حاتم الجود، ورجل صدق: يريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية، أى لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون باللَّه يَقُولُونَ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يسألونه هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر اللَّه نصيب قط، يعنون النصر والإظهار على العدو قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ، َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ معناه: يقولون لك فيما يظهرون: هل لنا من الأمر من شيء سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق، يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين
__________
(1) . أخرجه البخاري من رواية قتادة عن أنس به. لكن ليس في آخره «وما أحد إلا ويميل تحت حجفته» وهو بتمامه عند الحاكم. وكذا أخرجه الطبري من رواية ثابت عن أنس رضى اللَّه عنه.
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي. حدثني يحيى بن عباد بن عبيد اللَّه بن الزبير عن أبيه. عن عبيد اللَّه بن الزبير عن أبيه به. وأخرجه إسحاق والبزار والطبري وابن أبى حاتم وأبو نعيم والبيهقي. كلهم من طريقه.(1/428)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
لقولك لهم إن الأمر كله للَّه لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أى لو كان الأمر كما قال محمد أن الأمر كله للَّه ولأوليائه وأنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ يعنى من علم اللَّه منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم لَبَرَزَ من بينكم الَّذِينَ علم اللَّه أنهم يقتلون إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي مصارعهم ليكون ما علم اللَّه أنه يكون. والمعنى أن اللَّه كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. وقيل: معناه هل لنا من التدبير من شيء، يعنون لم تملك شيئا من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان رأى عبد اللَّه بن أبىّ وغيره، ولو ملكنا من التدبير شيئا لما قتلنا في هذه المعركة، قل إن التدبير كله للَّه، يريد أن اللَّه عز وجل قد دبر الأمر كما جرى، ولو أقمتم بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم. وقرئ: كتب عليهم القتال. وكتب عليهم القتل، على البناء للفاعل. ولبرِّز، بالتشديد وضم الباء وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان. فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص. فإن قلت: كيف مواقع الجمل التي بعد قوله وطائفة؟ قلت: (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ) صفة لطائفة. و (يَظُنُّونَ) صفة أخرى أو حال بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظانين. أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها. و (يَقُولُونَ) بدل من يظنون. فإن قلت: كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلا من الإخبار بالظن؟ «1» قلت: كانت مسألتهم صادرة عن الظنّ، فلذلك جاز إبداله منه. ويخفون حال من يقولون. و (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اعتراض بين الحال وذوى الحال. و (يَقُولُونَ) بدل من (يُخْفُونَ) والأجود أن يكون استئنافا.
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر ... الخ» ؟ قال أحمد: ويلاحظ هذا النظر في قوله تعالى عن الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ... ) الآية فان هذا السؤال استفهام، والاستفهام لا يتصف بما يتصف به الخبر من الصدق ونقيضه، ومع ذلك ورد قوله تعالى في خطابهم (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى في قولكم أتجعل فيها من يفسد فيها. فأجرى استفهامهم مجرى الخبر لاستلزامه الاخبار بأن هذا النوع الإنساني ليس بمعصوم عن الفساد وسفك الدماء، إلا من عصمه اللَّه تعالى منهم، واللَّه أعلم.(1/429)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
اسْتَزَلَّهُمُ طلب منهم الزلل ودعاهم إليه بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من ذنوبهم. ومعناه إنّ الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم، لأنّ الذنب يجرّ إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفا فيها. وقال الحسن رضى اللَّه عنه: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. وقيل: (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالثبات فيه. فجرّهم ذلك إلى الهزيمة.
وقيل: ذكرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاء اللَّه معها، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية. فإن قلت: لم قيل (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) ؟ قلت: هو كقوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) . وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم واعتذارهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أى لأجل إخوانهم، كقوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ومعنى الأخوّة: اتفاق الجنس أو النسب إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز، كعاف وعفى، كقوله: عفى الحياض أجون «1» . وقرئ: بتخفيف الزاى على حذف التاء من غزاة. فإن قلت: كيف قيل:
(إِذا ضَرَبُوا) مع (قالُوا) ؟ قلت: هو على حكاية الحال الماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض فإن قلت: ما متعلق ليجعل؟ قلت: قالوا، أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ على أنّ اللام مثلها في: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) . أو لا تكونوا، بمعنى: لا تكونوا مثلهم في
__________
(1) . قوله «وعفى كقوله: عفى الحياض أجون» في الصحاح: العفى- جمع عاف- وهو الدارس. والآجن:
الماء المتغير الطعم واللون. وأجن الماء يأجن ويأجن أجاً وأجونا اه. وجمع الآجن على أجون، كالراكع على ركوع، والشاهد على شهود. (ع)(1/430)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله اللَّه حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. فإن قلت:
ما معنى إسناد الفعل إلى اللَّه تعالى؟ قلت: معناه أنّ اللَّه عز وجل عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم، ويضيق صدورهم عقوبة، فاعتقاده فعلهم وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل اللَّه عز وجل كقوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النهى، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل اللَّه انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، لأنّ مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادّتهم مما يغمهم ويغيظهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ردٌّ لقولهم. أى الأمر بيده، قد يحيى المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد كما يشاء. وعن خالد بن الوليد رضى اللَّه عنه أنه قال عند موته: ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم. وقرئ بالياء، يعنى الذين كفروا لَمَغْفِرَةٌ جواب القسم، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، وكذلك (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) كذب الكافرين أولا في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزى لو كان في المدينة لما مات، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد، ثم قال لهم: ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت والقتل في سبيل اللَّه، فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل اللَّه خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا.
وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: خير من طلاع الأرض ذهبة «1» حمراء. وقرئ بالياء، أى يجمع الكفار لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لإلى اللَّه الرحيم الواسع الرحمة، المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم اللَّه تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به، شأن ليس بالخفي. قرئ (مُتُّمْ) بضم الميم وكسرها، من مات يموت ومات يمات.
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
«ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أنّ لينه لهم ما كان إلا برحمة من اللَّه ونحوه (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم حتى أثابهم غما بغم وآساهم بالمباثة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرّقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما
__________
(1) . قوله «خير من طلاع الأرض ذهبة» في الصحاح: طلاع الأرض: ملؤها. والذهبة. القطعة من الذهب. (ع) [.....](1/431)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق اللَّه إتماما للشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يعنى في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم. وعن الحسن رضى اللَّه تعالى عنه، قد علم اللَّه أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده. وعن النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» «1» وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه: ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب الرسول صلى اللَّه عليه وسلم «2» . وقيل: كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم فأمر اللَّه رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأى دونهم.
وقرئ: وشاورهم في بعض الأمر فَإِذا عَزَمْتَ فإذا قطعت الرأى على شيء بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا اللَّه لا أنت ولا من تشاور. وقرئ (فَإِذا عَزَمْتَ) بضم التاء، بمعنى فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل علىّ ولا تشاور بعد ذلك أحداً.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 160 الى 162]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ فهذا تنبيه على أن الأمر كله للَّه وعلى وجوب التوكل عليه. ونحوه (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) . مِنْ بَعْدِهِ من بعد خذلانه. أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته. وقرأ عبيد بن عمير:
__________
(1) . أعاده في تفسير سورة الشورى عن الحسن قوله وهو المحفوظ. ومن طريقه أخرجه الطبري.
(2) . هذا فيه تحريف. والصواب من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأصحابه، كذلك أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن الزهري عنه وهو منقطع وهو مختصر من الحديث الطويل في قصة الحديبية وغزوة الفتح، أخرجه ابن حبان من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان. وفيه قال الزهري: وكان أبو هريرة يقول. فذكره. وكذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وعند أحمد وإسحاق، وقد أشار إليه الترمذي في آخر الجهاد فقال: ويروى عن أبى هريرة فذكره.(1/432)
وإن يخذلكم، من أخذله إذا جعله مخذولا. وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من اللَّه تعالى والتأييد، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان وَعَلَى اللَّهِ وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه. يقال غلّ شيئا من المغنم غلولا وأغلّ إغلالا، إذا أخذه في خفية. يقال أغلّ الجازر، إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. والغل: الحقد الكامن في الصدر. ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم «من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه «1» » وقوله صلى اللَّه عليه وسلم «هدايا الولاة غلول «2» » وعنه «ليس على المستعير غير المغل ضمان «3» » وعنه «لا إغلال ولا إسلال «4» » ويقال: أغله إذا وجده غالا، كقولك: أبخلته وأفحمته «5» . ومعنى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وما صحّ له ذلك، يعنى أن النبوة تنافى الغلول، وكذلك من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأوّل، لأن معناه: وما صح له أن يوجد غالا، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
وفيه وجهان: أحدهما أن يبرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «6» من ذلك وينزه وينبه على عصمته
__________
(1) . أخرجه ابن ماجة من حديث عبد اللَّه بن أنيس، أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال عمر «ألم تسمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: أنه من غل بعيرا. أو شاه أتى به يوم القيامة فقال له عبد اللَّه بن أنيس: بلى» وفي الصحيحين عن أبى حميد الساعدي «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم استعمل عاملا فجاءه العامل حين فرغ من عمله. الحديث: وفيه، فو الذي نفس محمد بيده لا يعمل أحدكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه» ،
(2) . رواه أحمد، والبزار، والطبراني من حديث أبى حميد الساعدي بلفظ «هدايا العمال» وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة عنه. قال البزار: أخطأ فيه إسماعيل سندا ومتناً. وإنما أراد حديث الزهري عن عروة، عن أبى حميد باللفظ الماضي. وكذا عده ابن عدى في منكرات إسماعيل بن عياش. وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن أبان بن أبى عياش عن أبى نصيرة عن جابر بلفظ «الهدايا للأمراء غلول» رواه إسحاق أخبرنا وكيع حدثنا سفيان عمن حدثه عن أبى نضرة به. قال البزار: أبان متروك. ثم ساقه من رواية قيس بن الربيع عن ليث بن أبى سليم. عن عطاء عن جابر به. وأخرجه ابن عدى في ترجمة أحمد بن معاوية الباهلي من روايته عن النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه. وقال: هذا حديث باطل. وذكر الطبراني في الأوسط، أن أحمد بن معاوية تفرد به.
(3) . أخرجه البيهقي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وزاد «وليس على المستودع غير المغل ضمان» قال البيهقي: هذا ضعيف والمحفوظ أنه من قول شريح.
(4) . أخرجه أبو داود وأحمد من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان في حديث. ورواه الدارمي والطبراني وابن عدى من رواية كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رفعه «لا نهب ولا إسلال ولا إغلال ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة» ورواه ابن زنجويه في الأموال، وابراهيم الحربي في الغريب من رواية موسى بن عبيدة عن أبان بن سلمة عن أبيه. وموسى ضعيف.
(5) . قوله «كقولك أبخلته وأفحمته» في الصحاح: أفحمته: أى وجدته مفحما لا يقول الشعر. (ع)
(6) . قال محمود: «فيه توجيهان: أحدهما أن يكون ذلك تنزيها لرسول اللَّه عليه الصلاة والسلام ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: حمل الآية على الوجه الثاني يشهد له ورود هذه الصيغة كثيراً في النهى في أمثال قوله تعالى: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) ، (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ، (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) إلى غير ذلك. على أن الزمخشري حاف في العبارة إذ يقول: عبر عن الحرمان بالغلول تغليظاً وتقبيحاً، وما كان له أن يعبر عن هذا المعنى بهذه العبارة، فان عادة لطف اللَّه تعالى برسوله صلى اللَّه عليه وسلم في التأديب أن يكون ممزوجا بغاية التخفيف والتعطف. ألا ترى إلى قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قال بعض العلماء: بدأه بالعفو قبل العتب. ولو لم يبدأه بالعفو لانفطر قلبه صلى اللَّه عليه وسلم.(1/433)
بأن النبوّة والغلول متنافيان؟ لئلا يظن به ظانّ شيئا منه وألا يستريب به أحد، كما روى أنّ قطيفة حمراء فقدت يوم بدر. فقال بعض المنافقين: لعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخذها «1» .
وروى أنها نزلت في غنائم أحد «2» حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال لهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى، فقالوا:
تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم: والثاني أن يكون مبالغة في النهى لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على ما روى: أنه بعث طلائع «3» فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع، فنزلت. يعنى: وما كان لنبىّ أن يعطى قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة «غلولا» تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر، ولو قرئ (أَنْ يَغُلَّ) من أغل بمعنى غل، لجاز يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله كما جاء في الحديث «4» «جاء يوم القيامة يحمله على عنقه «5» » وروى: «ألا لا أعرفنّ أحدكم يأتى «6» ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء، فينادى يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من اللَّه شيئا فقد بلغتك «7» » وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك، فتليت عليه الآية
__________
(1) . أخرجه الترمذي من حديث خصيف عن مقسم عن ابن عباس بلفظ فقال بعض الناس، وقال حسن. قال وروى عن مقسم ولم يذكر ابن عباس ورواه الطبراني وأبو يعلى وابن عدى والطبري والواحدي كلهم من هذا الوجه.
وأعله ابن عدى بخصيف.
(2) . ذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن الكلبي ومقاتل قال «نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز الخ»
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة. حدثنا وكيع حدثنا سلمة بن نبيط. عن الضحاك، فذكره به وأتم منه. وأخرجه الطبري والواحدي في أسبابه.
(4) . تقدم قبل ستة أحاديث
(5) . قوله: «جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» : لعل صدره: من غل شيئاً. (ع)
(6) . قوله: «وروى: ألا لا أعرفن أحدكم يأتى» قوله: «لا أعرفن» بلفظ المنفي المؤكد بالنون، ومعناه النهى. أى لا يغل أحدكم فأعرفه. اه قسطلانى. (ع) [.....]
(7) . رواه على بن المديني في العلل وأبو يعلى والطبري من رواية حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بهذا في حديث طويل، وأصله في الصحيحين عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن أبى هريرة بلفظ «ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ... الحديث»(1/434)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
فقال: إذاً أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. ويجوز أن يراد يأتى بما احتمل من وباله وتبعته وإثمه فإن قلت: هلا قيل: ثم يوفى ما كسب، ليتصل به؟ قلت: جيء بعامّ دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى، وهو أبلغ وأثبت، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أى يعدل بينهم في الجزاء، كلٌّ جزاؤه على قدر كسبه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 163 الى 164]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
هُمْ دَرَجاتٌ أى هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات كقوله:
أَنَصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَرِيهِمْ ... رِجَالِى أمْ هُمُو دَرَجُ السُّيُولِ «1»
وقيل: ذوو درجات. والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين، أو التفاوت بين الثواب والعقاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ عالم بأعمالهم ودرجاتها فمجازيهم على حسبها لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ على من آمن مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من قومه. وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه مِنْ أَنْفُسِهِمْ من جنسهم عربيا مثلهم. وقيل من ولد إسماعيل كما أنه من ولده، فإن قلت:
مما وجه المنة عليهم في أن كان من أنفسهم؟ قلت: إذا كان منهم كان اللسان واحداً، فسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم، كقوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وفي قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقراءة فاطمة رضى اللَّه عنها: من أنفسهم، أى من أشرفهم.
لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى اللَّه عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضى اللَّه عنها- وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر-:
الحمد للَّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ وعنصر مضر، وجعلنا حضنة
__________
(1) . أنشده سيبويه عن ابن هدمة، والهمزة للاستفهام، وهو من تجاهل العارف للتعجب والتحزن. والنصب:
الغرض المنصوب يرمى إليه بالسهام، وهو كفلس أوفق بالوزن ويجوز أن أصله كعنق فسكن للوزن، أو ككتب فسكن كذلك. وهذا أوفق بالمعنى. وقد قيل بكل منها. وشبه رجاله به تشبيها بليغاً من حيث تتابع إصابة كل بالمكروه. وتعتريهم: جملة حالية. ودرج السيول: محلات انحدارها، شبههم بها لانمحاق كل شيئا فشيئا.(1/435)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن ابن أخى هذا محمد بن عبد اللَّه من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو واللَّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وقرئ: لمن منّ اللَّه على المؤمنين إذ بعث فيهم. وفيه وجهان: أن يراد لمن منّ اللَّه على المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم، فحذف لقيام الدلالة، أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما، بمعنى لمن منّ اللَّه على المؤمنين وقت بعثه يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحى وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر ونجاسة سائر الجوارح بملابسة المحرمات وسائر الخبائث.
وقيل: ويأخذ منهم الزكاة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ من قبل بعثة الرسول لَفِي ضَلالٍ إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مُبِينٍ ظاهر لا شبهة فيه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يريد: ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين. و (لَمَّا) نصب بقلتم. و (أَصابَتْكُمْ) في محل الجرّ بإضافة (لَمَّا) إليه وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. وأَنَّى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا، أنى هذا: من أين هذا. كقوله تعالى: (أَنَّى لَكِ هذا) لقوله مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(1/436)
والمعنى: أنتم السبب فيما أصابكم، لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز.
وعن علىّ رضى اللَّه عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو قادر على النصر وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى وَما أَصابَكُمْ يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين (ف) هو كائن (بإذن الله) أى بتخليته، استعار الإذن لتخليته الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأنّ الآذن مخل بين المأذون له ومراده وَلِيَعْلَمَ وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء وَقِيلَ لَهُمْ من جملة الصلة عطف على نافقوا، وإنما لم يقل فقالوا لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال، كأنه قيل: فماذا قالوا لهم. فقيل: قالوا: لو نعلم. ويجوز أن تقتصر الصلة على: (نافَقُوا)
، ويكون (وَقِيلَ لَهُمْ) كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة «1» دفعا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم «2» وذلك ما روى أن عبد اللَّه بن أبىّ انخزل مع حلفائه، فقيل له، فقال ذلك. وقيل أَوِ ادْفَعُوا العدوّ بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأنّ كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. وعن سهل بن سعد الساعدي- وقد كف بصره-:
لو أمكننى لبعت دارى ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم. قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله: (أَوِ ادْفَعُوا) أراد: كثروا سوادهم. ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لَاتَّبَعْناكُمْ يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، لأنّ رأى عبد اللَّه كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يعنى أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلما انخزلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر. وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخزال تقوية للمشركين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعى قلوبهم منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق، وبما يجرى بعضهم مع بعض من ذمّ
__________
(1) . قوله «غم الآخرة» لعله هم الآخرة. (ع)
(2) . قوله «ودغلهم» في الصحاح: الدغل- بالتحريك- الفساد، مثل الدخل. (ع)(1/437)
المؤمنين وتجهيلهم وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك، لأنكم تعلمون بعض ذلك علماً مجملا بأمارات، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته الَّذِينَ قالُوا في إعرابه أوجه: أن يكون نصبا على الذمّ أو على الردّ على الذين نافقوا، أو رفعا على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون. ويجوز أن يكون مجروراً بدلا من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم، كقوله:
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حَاتِمُ «1»
لِإِخْوانِهِمْ لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار وَقَعَدُوا أى قالوا وقد قعدوا عن القتال: لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ معناه:
قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتال، فجدوا إلى دفع الموت سبيلا، يعنى أن ذلك الدفع غير مغن عنكم، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها. وروى أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً. فإن قلت: فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم «2» بالقعود، فما معنى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ؟ قلت: معناه أن النجاة من القتل
__________
(1) .
فلما تصافنا الاداوة أجهشت ... إلى غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم
للفرزدق، يعتذر عما وقع منه في السفر مع دليله عاصم العنبري حين ضل الطريق. والتصافن: اقتسام الماء القليل بالصفن، وهو وعاء صغير لنحو الوضوء. والأداوة: ظرف الماء، وجمعها أداوى. وإيقاع التصافن عليها مجاز عقلى لأنها محل الماء الذي اقتسموه. وأقرب منه أنها مجاز مرسل عما فيها. والجهش والإجهاش: تضرع الإنسان إلى غيره وتهيئته للبكاء إليه كالصبي إلى أمه. وغضون الجلد: مكاسره. ويروى: عيون. وإسناد الإجهاش إليها مجاز عقلى، لأنها محل ظهور أثره. والجراضم: واسع البطن كثير الأكل. والمراد بالجلمود: إناء صلب كبير مثل رأسه، أى العنبري. وفيه إشارة إلى حمقه، لأن إفراط الرأس في العظم أمارة البلادة. وفي الصلابة أيضا إشارة إلى ذلك، ليشرب: أى ليأخذ ماء القوم بين الصرائم، جمع صريمة وهي منقطع الرمل، أو قطيع من الإبل إشارة إلى أنهم كانوا بمفازة لا ماء بها على حالة ضنكة، لو ثبت في تلك الحالة أن حاتما في القوم مع جوده المشهور لبخل بالماء. «وعلى» بمعنى «في» ويؤيده رواية المبرد في كامله: «على ساعة» وحاتم- بالجر- بدل من ضمير جوده.
وفيه تنويه بذكر الاسم وهو حاتم بن عبد اللَّه بن سعد بن الحشرج.
(2) . قال محمود: «إن قلت فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا ... الخ» قال أحمد: السؤال المذكور إنما يرد على معتزلي من مثله، فإنهم يعتقدون أن الموت قد يكون بحلول الأجل، وقد يكون قبله، وأن المقتول لولا القتل لاستوفى أجله المكتوب له الزائد على ذلك، فلا جرم أن الإنسان على زعمهم يدفع عن نفسه العارض قبل حلول الأجل بتوقى الأسباب الموجبة لذلك، فعلى ذلك ورد السؤال المذكور. وأما أهل السنة فمعتقدهم أن كل ميت بأجله يموت، ويقولون: إن الخارجين إلى القتال في المعركة لم يكن بد من موتهم في ذلك الوقت، وأن ذلك الحين هو وقت حينهم في علم اللَّه عز وجل، إيمانا بقوله تعالى: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وخلافا للمنافقين وللموافقين لهم من المعتزلة في قولهم: لو أطاعونا ما ماتوا. ولعمري إنهم في هذا المعتقد مقلدون لنمروذ في قوله: أنا أحيى وأميت، فان الأحمق ظن أنه يقتل إن شاء فيكون ذلك إماتة، ويعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وغاب عنه أن الذي عفا عن قتله إنما حيي لاستيفاء الأجل الذي كتبه اللَّه له، وأن الذي قتله إنما مات لأنه استوفى تلك الساعة أجله، واللَّه الموفق.(1/438)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره، لأن أسباب النجاة كثيرة، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر: إن كنتم صادقين في قولكم:
لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين. وقوله (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) استهزاء بهم، أى إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت، فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 171]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
وَلا تَحْسَبَنَّ الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على:
ولا يحسبنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو ولا يحسبنّ حاسب. ويجوز أن يكون الَّذِينَ قُتِلُوا فاعلا، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أى ولا يحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله أَحْياءٌ والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليهما. وقرئ: ولا تحسبنّ بفتح السين، وقتلوا بالتشديد. وأحياء بالنصب على معنى: بل احسبهم أحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ مقرّبون عنده ذوو زلفى، كقوله: (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) . يُرْزَقُونَ مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق اللَّه فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم، من كونهم أحياء مقرّبين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها. وعن النبي صلى اللَّه عليه(1/439)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللَّه أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش «1» » وَيَسْتَبْشِرُونَ) بإخوانهم المجاهدين بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أى لم يقتلوا فيلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقيل: لم يلحقوا بهم، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بدل من الذين. والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة. بشرهم اللَّه بذلك فهم مستبشرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في اللَّه، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب. وكرّر يَسْتَبْشِرُونَ ليعلق به ما هو بيان لقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من ذكر النعمة والفضل، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل اللَّه وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع. وقرئ (وَأَنَّ اللَّهَ) بالفتح عطفاً على النعمة والفضل. وبالكسر على الابتداء وعلى أنّ الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي. وتعضدها قراءة عبد اللَّه.
واللَّه لا يضيع.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 172 الى 174]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
الَّذِينَ اسْتَجابُوا مبتدأ خبره (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أو صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح.
روى أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا «2» وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال،
__________
(1) . أخرجه أبو داود وابن أبى شيبة والحاكم وأبو يعلى والبزار كلهم من حديث ابن عباس به وأتم منه.
قال الدارقطني تفرد به محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية، وأصله في مسلم من حديث ابن مسعود رضى اللَّه عنه، بلفظ «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تمرح في الجنة حيث شاءت- الحديث» .
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه ومن طريقه البيهقي في الدلائل فذكره مطولا(1/440)
وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى اللَّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت. و «من» في لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين مثلها في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) لأنّ الذين استجابوا للَّه والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، لا بعضهم. وعن عروة بن الزبير: قالت لي عائشة رضى اللَّه عنها «إن أبويك لمن الذين استجابوا للَّه والرسول «1» » تعنى أبا بكر والزبير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ روى أنّ أبا سفيان نادى «2»
عند انصرافه من أحد. يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: إن شاء اللَّه فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران. فألقى اللَّه الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعى وقد قدم معتمراً فقال: يا نعيم، إنى واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأى. أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، فو اللَّه لا يفلت منكم أحد. وقيل: مرّ بأبى سفيان ركب من عبد القبس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم، فكره المسلمون الخروج. فقال صلى اللَّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد، فخرج في سبعين راكبا «3» وهم يقولون: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل- وقيل: هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار- حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق. قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. فالناس الأوّلون: المثبطون.
والآخرون: أبو سفيان وأصحابه. فإن قلت: كيف قيل (النَّاسُ) إن كان نعيم هو المثبط وحده؟
قلت: قيل ذلك لأنه من جنس الناس، كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد. أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه، ويصلون جناح كلامه، ويثبطون مثل تثبيطه. فإن قلت: إلام يرجع المستكن في فَزادَهُمْ؟ قلت: إلى
__________
(1) . متفق عليه ووهم الحاكم فاستدركه.
(2) . ذكره الثعلبي عن مجاهد وعكرمة وسنده إليهما في أول كتابه. وروى ابن سعد في الطبقات بعضه.
(3) . أخرجه ابن سعد من طريق ابن إسحاق. وموسى بن عقبة وغيرهما. وأخرجه الواقدي في المغازي. قال حدثني الضحاك بن عثمان وعبد اللَّه بن جعفر ومحمد بن عبد اللَّه بن مسلم وابن أبى حبيب وغيرهم. قالوا «لما أراد أبو سفيان أن ينصرف من أحد» فذكره مطولا. قوله وقيل هي الكلمة التي قال إبراهيم حين ألقى في النار. رواه البخاري من طريق أبى الضحى عن ابن عباس.(1/441)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
المقول الذي هو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيمانا، أو إلى مصدر قالوا، كقولك: من صدق كان خيراً له. أو إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده.
فإن قلت: كيف زادهم نعيم أو مقوله إيمانا؟ قلت: لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام، كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج ولأنّ خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأنّ الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. وعن ابن عمر: قلنا يا رسول اللَّه إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة. وينقص حتى يدخل صاحبه النار» «1» وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيمانا «2» . وعنه: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمّة لرجح به «3» حَسْبُنَا اللَّهُ محسبنا، أى كافينا. يقال: أحسبه الشيء إذا كفاه. والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقة وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ونعم الموكول إليه هو فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي السلامة وحذر العدوّ منهم وَفَضْلٍ وهو الربح في التجارة، كقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) . لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوّ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بجرأتهم وخروجهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. وروى أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم اللَّه ثواب الغزو ورضى عنهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 175]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية على بن عبد العزيز عن حبيب بن عيسى بن فروخ عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن مالك عن نافع عنه.
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة في الايمان من رواية رزين عن عبد اللَّه عنه. ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. ومن هذا الوجه أخرجه الثعلبي. والبيهقي في الشعب.
(3) . أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من رواية هذيل بن شرحبيل عن عمر وإسناده صحيح وروى مرفوعا أخرجه ابن عدى من رواية عبد العزيز بن أبى رواد عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما رفعه «لو وضع إيمان أبى بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها» في إسناده عيسى بن عبد اللَّه بن سليمان وهو ضعيف. قلت: لم ينفرد به بل تابعه عبد اللَّه بن عبد العزيز بن أبى رواد بلفظ «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم» أخرجه ابن عدى أيضاً. وحديث عمر الموقوف أخرجه أيضاً ابن المبارك في الزهد. ومعاذ بن المثنى في زيادات مسند مسدد. [.....](1/442)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
الشَّيْطانُ خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلك المثبط هو الشيطان. ويخوّف أولياءه: جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو الشيطان صفة لاسم الإشارة. ويخوّف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان، أى قول إبليس لعنه اللَّه يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وتدل عليه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه. وقوله: فلا تخافوهم. وقيل: يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: فإلام رجع الضمير في فَلا تَخافُوهُمْ على هذا التفسير؟ قلت: إلى الناس في قوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا وَخافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعنى أنّ الإيمان يقتضى أن تؤثروا خوف اللَّه على خوف الناس (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 178]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعاً ويرغبون فيه أشدّ رغبة، وهم الذين نافقوا من المتخلفين. وقيل: هم قوم ارتدّوا عن الإسلام. فإن قلت: فما معنى قوله: (وَلا يَحْزُنْكَ) ؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتدّ؟ قلت: معناه: لا يحزنوك لخوف أن أن يضرّوك ويعينوا عليك. ألا ترى إلى قوله إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعنى أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، وما وبال ذلك عائداً على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أى نصيباً من الثواب وَلَهُمْ بدل الثواب عَذابٌ عَظِيمٌ وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه. فإن قلت: هلا قيل: لا يجعل اللَّه لهم حظاً في الآخرة، وأىّ فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت: فائدته الإشعار بأنّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر، تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه، حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ(1/443)
بِالْإِيْمانِ
إمّا أن يكون تكريراً لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم. وإمّا أن يكون عاما للكفار، والأوّل خاصاً فيمن نافق من المتخلفين، أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس. وشَيْئاً نصب على المصدر لأن المعنى: شيئا من الضرر وبعض الضرر الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن قرأ بالتاء نصب وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بدل منه: أى ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لهم، و «أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، كقوله: أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون، وما مصدرية، بمعنى: ولا تحسبنّ أنّ إملاءنا خير، وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة. ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف. فإن قلت: كيف صحّ مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟
قلت: صحّ ذلك من حيث أنّ التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى: ألا تراك تقول:
جعلت متاعك بعضه فوق بعض، مع امتناع سكوتك على متاعك. ويجوز أن يقدّر مضاف محذوف على: ولا تحسبنّ الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم. أو ولا تحسبنّ حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. وهو فيمن قرأ بالياء رفع، والفعل متعلق بأن وما في حيزه.
والإملاء لهم: تخليتهم وشأنهم، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.
وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم. والمعنى: ولا تحسبنّ أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة، لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً للَّه تعالى في إملائه «1» لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك. وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسبباً فيه. فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم اللَّه المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكان الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية. ولا يحسبنّ بالياء، على معنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله: (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام اللَّه عليهم
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً للَّه تعالى في إملائه لهم ... الخ» ؟ قال أحمد: بنى الزمخشري هذا الجواز على شفا جرف هار فانهار، لأن معتقده أن الإثم الواقع منهم ليس مرداً للَّه تعالى بل هو واقع على خلاف الارادة الربانية، فلما وردت الآية مشعرة بأن ازدياد الإثم مراداً للَّه تعالى إشعاراً لا يقبل التأويل، أخذ يعمل الحيلة في وجه من التعطيل التزاما لإتمام الفاسد وضرباً في حديد بارد، فجعل ازدياد الإثم سبباً وليس بغرض.(1/444)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت: فما معنى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على هذه القراءة؟ قلت: معناه: ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثما معداً لهم عذاب مهين.
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللام لتأكيد النفي عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ: يميز. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير: يميز، من أماز بمعنى ميز. فإن قلت: لمن الخطاب في: (أَنْتُمْ) ؟ قلت: للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان اللَّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها- من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً- حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أى وما كان اللَّه ليؤتى أحداً منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع اللَّه فيخبر عن كفرها وإيمانها وَلكِنَّ اللَّهَ يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار اللَّه لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد:
لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللَّه قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل اللَّه، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر اللَّه به.
وما كان اللَّه ليطلع أحداً منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعا عليها وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيخبره ببعض المغيبات فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن تقدروه حق قدره، وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين، لا يعلمون إلا ما علمهم اللَّه، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم اللَّه به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء. وعن السدى قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر. فنزلت.(1/445)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
(ولا تحسبن) من قرأ بالتاء قدّر مضافا محذوفا، أى ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم. وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول اللَّه، أو ضمير أحد. ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان المفعول الأوّل عنده محذوفا تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ والذي سوغ حذفه دلالة (يَبْخَلُونَ) عليه، وهو فصل. وقرأ الأغمش بغير هو سَيُطَوَّقُونَ تفسير لقوله هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. وفي أمثالهم: تقلدها طوق الحمامة، إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقيل: يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في مانع الزكاة «يطوق بشجاع أقرع «1» » وروى بشجاع أسود. وعن النخعي سيطوقون بطوق من نار وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى وله ما فيها مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله. ونحوه قوله: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) وقرئ (بِما تَعْمَلُونَ بالتاء والياء فالتاء على طريقة الالتفات، وهي أبلغ في الوعيد والياء على الظاهر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول اللَّه تعالى من ذا الذي يقرض اللَّه قرضاً حسناً، فلا يخلو إمّا أن يقولوه عن اعتقاد لذلك، أو عن استهزاء بالقرآن، وأيهما كان فالكلمة عظيمة لا تصدر إلا عن متمردين في كفرهم. ومعنى سماع اللَّه له: أنه لم يخف عليه، وأنه أعدّ له كفاءه من العقاب سَنَكْتُبُ ما قالُوا في صحائف الحفظة. أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فإن قلت: كيف قال: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ثم قال: (سَنَكْتُبُ) وهلا قيل: ولقد كتبنا؟ قلت: ذكر وجود
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة رفعه «من آتاه اللَّه مالا فلم يؤد زكاته مثل ماله بشجاع أقرع له زبيبتان بطوقه يوم القيامة» .(1/446)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
السماع أوّلا مؤكداً بالقسم ثم قال: سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء. وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا بأنهما في العظم أخوان، وبأن هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم، وأنهم أصلاء في الكفر ولهم فيه سوابق، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول. وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كتب مع أبى بكر رضى اللَّه عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا اللَّه قرضاً حسناً «1» ، فقال فنحاص اليهودي: إنّ اللَّه فقير حين سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجحد ما قاله، فنزلت. ونحوه قولهم (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) وَنَقُولُ لهم ذُوقُوا وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة: ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ كما أذقتم المسلمين الغصص. يقال للمنتقم منه: أحس، وذق. وقال أبو سفيان لحمزة «2» رضى اللَّه عنه: ذق عقق «3» وقرأ حمزة: سيكتب، بالياء على البناء للمفعول، ويقول بالياء. وقرأ الحسن والأعرج: سيكتب بالياء وتسمية الفاعل. وقرأ ابن مسعود: ويقال ذوقوا ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من عقابهم وذكر الأيدى لأن أكثر الأعمال تزاول بهنّ، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدى على سبيل التغليب فإن قلت: فلم عطف قوله وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ على ما قدّمت أيديكم، وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت: معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 183 الى 184]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
__________
(1) . أخرجه ابن أبى حاتم من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن أبى محمد عن عكرمة عن ابن عباس.
فذكره مطولا
(2) . ذكره ابن إسحاق في المغازي قال: وكان الجليس بن زياد الكناني سيد الأحابيش مر بأبى سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول «ذق عقق» ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الدارقطني في المؤتلف.
(3) . قوله: «لحمزة رضى اللَّه عنه: ذق عقق» في الصحاح: عاق وعقق، مثل عامر وعمر. وذق عقق: أى ذق جزاء فعلك يا عاق. (ع)(1/447)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه الآية الخاصة، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله، كما كان أنبياء بنى إسرائيل تلك آيتهم، كان يقرب بالقربان، فيقوم النبي فيدعو، فتنزل نار من السماء فتأكله، وهذه دعوى باطلة وافتراء على اللَّه، لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان للرسول الآتي به إلا لكونه آية ومعجزة فهو إذن وسائر الآيات سواء فلا يجوز أن يعينه اللَّه تعالى من بين الآيات. وقد ألزمهم اللَّه أن أنبياءهم جاءوهم بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق، وجاءوهم أيضا بهذه الآية التي اقترحوها فلم قتلوهم إن كانوا صادقين أن الإيمان يلزمهم بإتيانها وقرئ (بِقُرْبانٍ) بضمتين. ونظيره السلطان. فإن قلت:
ما معنى قوله وَبِالَّذِي قُلْتُمْ؟ قلت: معناه، وبمعنى الذي قلتموه من قولكم: قربان تأكله النار.
ومؤدّاه كقوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أى لمعنى ما قالوا. في مصاحف أهل الشام: وبالزبر وهي الصحف وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ التوراة والإنجيل والزبور. وهذه تسلية لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود.
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
وقرأ اليزيدي ذائِقَةُ الْمَوْتِ على الأصل. وقرأ الأعمش (ذائقة الموت) بطرح التنوين مع النصب كقوله:
وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إلّا قَلِيلَا «1»
فإن قلت: كيف اتصل به قوله وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ؟ قلت: اتصاله به على أن كلكم تموتون ولا بدّ لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور. فإن قلت فهذا يوهم نفى ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة
__________
(1) .
فذكرته ثم عاتبته ... عتاباً رقيقاً وقولا جميلا
فألقيته غير مستعتب ... ولا ذاكر اللَّه إلا قليلا
لأبى الأسود الدؤلي، كان يجلس إلى فناء امرأة جميلة بالبصرة فقالت له: هل لك أن أتزوج بك؟ فانى حميدة الخصال وكيت وكيت. فقال: نعم وتزوجها من أهلها، فوجدها بضد ما قالت، فعاتبها وخاطب أهلها بشعر منه ذلك، ثم طلقها أمامهم. وكنى بضمير المذكر عنها استحياء. أى فذكرتها بما قالت وعاتبتها على ما فعلت عتابا حسناً، فوجدتها غير قابلة منى عتاباً. ولفظ الجلالة نصب بذاكر، وحذف تنوينه مع أنه غير مضاف تشبيها بحذف نون التوكيد الخفيفة لملاقاة الساكن. أو بتنوين العلم الموصوف بابن مضافا إلى علم. وذاكر: عطف على مستعتب.
و «لا» زائدة لتوكيد النفي، ولم يضف ذاكر إلى اللَّه ليتمحض للتنكير كالذي قبله، وليكون أبلغ في النفي لأن الاضافة قد تفيد أن شأنه الذكر، فيتوهم أن النفي هو الشأنية لا أصل الذكر.(1/448)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
أو حفرة من حفر النار «1» . قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها «2» يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور. الزحزحة: التنحية والإبعاد تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة فَقَدْ فازَ فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط اللَّه والعذاب السرمد، ونيل رضوان اللَّه والنعيم المخلد. اللهم وفقنا لما ندرك به عندك الفوز في المآب. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن باللَّه واليوم الآخر، ويأتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه «3» » وهذا شامل للمحافظة على حقوق اللَّه وحقوق العباد. شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته. والشيطان هو المدلس الغرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها، حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من يصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب.
وفي الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب «4» المطاعن في الدين الحنيف، وصدّ من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص،
__________
(1) . أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد وهو ضعيف. ورواه الطبراني في الأوسط في ترجمة مسعود بن محمد الرملي بإسناده إلى أبى هريرة وقال: لم يروه عن الأوزاعى إلا أيوب بن سويد. تفرد به ولده محمد عنه. قلت:
وهو ضعيف.
(2) . قال محمود: «لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ... الخ» قال أحمد: هذا كما ترى صريح في اعتقاده حصول بعضها قبل يوم القيامة، وهو المراد بما يكون في القبر من نعيم وعذاب. ولقد أحسن الزمخشري في مخالفة أصحابه في هذه العقيدة، فإنهم يجحدون عذاب القبر، وها هو قد اعترف به، واللَّه الموفق.
(3) . أخرجه مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في حديث طويل
(4) . قوله «وما يسمعون من أهل الكتاب» بقي ما يسمعون من الذين أشركوا. (ع)(1/449)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
ومن بنى قريظة والنضير فَإِنَّ ذلِكَ فإن الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور، أى مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم اللَّه أن يكون، يعنى أنّ ذلك عزمة من عزمات اللَّه لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا.
[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ واذكر وقت أخذ اللَّه ميثاق أهل الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ الضمير للكتاب.
أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له.
آللَّه لتفعلنّ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعنى لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد. ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا أحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطيب لنفوسهم. واستجلاب لمسارّهم، أو لجرّ منفعة وحطام دنيا، أو لتقية: مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم، وغبرة أن ينسب إليه غيرهم.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من كتم علما عن أهله ألحم بلجام من نار» «1» وعن طاوس أنه قال
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من رواية على بن الحكم البناني عن عطاء عن أبى هريرة بلفظ «من سئل عن علم فكتمه ألجمه اللَّه بلجام من نار» أخرجه أبو داود من رواية حماد بن سلمة، والآخران من رواية عمارة بن زاذان كلاهما عن على، ورجال أبى داود ثقات. لكن له علة. رواه عبد الوارث عن على بن الحكم عن رجل عن عطاء. ويقال: إن هذا المبهم حجاج بن أرطاة، وفي رواية ابن ماجة التصريح بسماع على بن عطاء.
لكن عمارة ضعيف. ولحديث أبى هريرة طريق أخرى حسنها ابن القطان فذكره من رواية قاسم بن أصبغ عن أبى الأحوص وهو العكبري عن ابن السرى عن معتمر عن أبيه عن عطاء به، وابن أبى السرى له أرهام، وكأنه دخل عليه حديث في حديث. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن عطاء به، وجابر ضعيف، وله طرق كثيرة عن أبى هريرة أوردها ابن الجوزي في العلل المتناهية. وفي الباب عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم من طريق ابن وهب عن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه عن أبى عبد الرحمن الحبلى عنه، وعن ابن عباس أخرجه الطبراني والعقيلي وفيه معمر بن زائدة قال العقيلي: لا يتابع عليه. وله طريق أخرى قاله أبو يعلى: حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد حدثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وأخرجه ابن الجوزي من طريقين آخرين وضعفهما. وعن أنس، رواه ابن ماجة من طريق يوسف بن ابراهيم سمعت أنساً به وأخرجه ابن الجوزي من طريقين آخرين وضعفهما أيضاً. وعن ابن مسعود وطلق بن على كلاهما في الطبراني. وعن جابر وعائشة كلاهما عند العقيلي. وعن ابن عمر عند ابن عدى. وعن أبى سعيد الخدري عن أبى يعلى وأسانيدها كلها ضعيفة. وعن عمرو بن عبسة أخرجه ابن الجوزي بلفظ «فقد بريء من الإسلام» وإسناده ضعيف أيضا. قال الامام أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء (تنبيه) ليس في شيء من طرقه «عن أهله»(1/450)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
لوهب: إنى أرى اللَّه سوف يعذبك بهذه الكتب. وقال: واللَّه لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أنّ اللَّه سيعذبك، وعن محمد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه «1» ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن على رضى اللَّه عنه. ما أخذ اللَّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا «2» . وقرئ: ليبيننه. ولا يكتمونه، بالياء، لأنهم غيب. وبالتاء، على حكاية مخاطبتهم، كقوله: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ)
[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
لا تَحْسَبَنَّ خطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وأحد المفعولين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والثاني (بِمَفازَةٍ) وقوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد تقديره: لا تحسبنهم، فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ:
لا تحسبن. فلا تحسبنهم، بضم الباء على خطاب المؤمنين. ولا يحسبن. فلا يحسبنهم، بالياء وفتح الباء فيهما، على أنّ الفعل للرسول. وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمها في الثاني، على أن الفعل للذين يفرحون، والمفعول الأوّل محذوف على: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، وفلا يحسبنهم، تأكيد. ومعنى بِما أُوتُوا بما فعلوا. وأتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل. قال اللَّه تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ، (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) . ويدل عليه قراءة أبىّ: يفرحون بما فعلوا. وقرئ: آتوا، بمعنى أعطوا. وعن على رضى اللَّه عنه: بما أوتوا. ومعنى بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ بمنجاة منه. روى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه «3» ، وأروه أنهم قد صدقوه، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم: أى: لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا- من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه- ناجين من العذاب. ومعنى (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا)
__________
(1) . قوله «على علمه» لعل بعده سقطا تقديره «حتى يعلم» . (ع)
(2) . رواه الحرث بن أبى أسامة أخبرنا عبد الوهاب الخفافى حدثنا الحسن بن عمارة حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الجزار: سمعت عليا يقول فذكره والحسن متروك، ومن طريق الحرث رواه الثعلبي ورويناه في جزء الذراع قال: كتب الحارث بن أسامة فذكره، وذكره ابن عبد البر في العلم. قال: ويروى عن على. وذكره صاحب الفردوس عن على. فكأنه وقف عليه مرفوعا.
(3) . متفق عليه من رواية حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه: يا رافع اذهب إلى ابن عباس فقل له لئن كان امرؤ منا فرح بما أوتى وحمد بما لم يفعل عذب لنعذبن جميعاً. فقال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، أتاه اليهود فسألهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن شيء فكتموه ... الحديث» . [.....](1/451)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
بما أوتوه من علم التوراة. وقيل يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهودية وأنهم على دينه. وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلما قفل اعتذروا إليه بأنهم رأوا المصلحة في التخلف، واستحمدوا إليه بترك الخروج. وقيل: هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين ومنافقتهم وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة لإبطانهم الكفر. ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتى بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 191]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أمرهم. وهو على كل شيء قدير، فهو يقدر على عقابهم لَآياتٍ لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته لِأُولِي الْأَلْبابِ للذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر. وفي النصائح الصغار: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلهما في جملة هذه العجائب، متفكرا في قدرة مقدّرها، متدبرا حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر: وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: أخبرينى بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، «1» فبكت وأطالت، ثم قالت: كل أمره عجب، أتانى في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إنى لأحب قربك وأحب هواك، قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلى، فقرأ من القرآن فجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد اللَّه وأثنى عليه وجعل يبكى، ثم رفع يديه فجعل يبكى
__________
(1) . أخرجه ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء: دخلت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول كما قال الأول: زر غباً تزدد حباً، فقالت: دعونا من بطالتكم هذه. ثم قال ابن عمر لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ... الحديث بطوله ورواه عبد بن حميد، والثعلبي وغيرهم من رواية أبى جناب الكلبي عن عطاء قال: دخلت أنا وابن عمر على عائشة فقال لها ابن عمر أخبرينى ... فذكّره.(1/452)
حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول اللَّه، أتبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبداً شكورا. ثم قال: ومالى لا أبكى وقد أنزل اللَّه علىّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروى: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمّلها» «1» وعن على رضى اللَّه عنه: أنّ النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «2» . وحكى أنّ الرجل من بنى إسرائيل كان إذا عبد اللَّه ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت له أمّه: لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك؟ فقال: ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر؟ قال: لعلّ. قالت:
فما أُتيت إلا من ذاك الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ذكراً دائباً على أى حال كانوا، من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون اللَّه، فقال بعضهم: أما قال اللَّه تعالى: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً) فقاموا يذكرون اللَّه على أقدامهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللَّه «3» » وقيل: معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعمران بن الحصين «صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب، تومئ إيماء «4» » وهذه حجة للشافعي رحمه اللَّه في إضجاع المريض على جنبه كما في اللحد. وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه أنه يستلقى حتى إذا وجد خفة قعد.
ومحل عَلى جُنُوبِهِمْ نصب على الحال عطفاً على ما قبله، كأنه قيل: قياما وقعوداً ومضطجعين وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم «5» شأن الصانع
__________
(1) . رواه ابن مردويه في تفسير سورة الروم من رواية أبى جناب عن عطاء عن عائشة قالت «لما نزلت هذه الآية (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ويح لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتفكر فيها»
(2) . رواه الثعلبي من طريق حماد عن حجاج عن حبيب بن أبى ثابت عن محمد بن على بن أبى طالب عن على وأصله في المتفق عليه من حديث ابن عباس.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والطبراني من حديث معاذ وفي إسناده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وأخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت، وابن مردويه في تفسير الواقعة.
(4) . أخرجه البخاري وأصحاب السنن، من حديث عمران بن حصين. قال «كانت في بواسير- فذكر الحديث» وليس في آخره يومئ إيماء» وأورده صاحب الهداية- كما أورده الزمخشري.
(5) . قوله «على عظم» لعله من عظم ... الخ، فيكون بيانا لما يدل عليه. (ع)(1/453)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
وكبرياء سلطانه. وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشى عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أنّ لك رباً وخالقاً، اللهمّ اغفر لي، فنظر اللَّه إليه فغفر له» «1» وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر «2» » وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» «3» قالوا:
وإنما كان ذلك التفكر في أمر اللَّه الذي هو عمل القلب، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول. أى يقولون ذلك وهو في محل الحال، بمعنى يتفكرون قائلين. والمعنى: ما خلقته خلقاً باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك ولذلك وصل به قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت:
هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت: إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، كأنه قيل: ويتفكرون في مخلوق السموات والأرض، أى فيما خلق منها. ويجوز أن يكون إشارة إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق. كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. وفي هذا ضرب من التعظيم كقوله: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ويجوز أن يكون باطلا حالا من هذا. وسبحانك:
اعتراض للتنزيه من العبث، وأن يخلق شيئاً بغير حكمة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 192 الى 194]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة وفي إسناده من لا يعرف.
(2) . أخرجه ابن حبان في الضعفاء، والبيهقي في الشعب من رواية أبى رجاء محمد بن عبد اللَّه الخرطى من أهل شر عن شعبة عن أبى إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على رضى اللَّه عنه أنه قال لابنه الحسن «يا بنى، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: لا مال أعوز من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كحسن الخلق، ولا عبادة كالتفكر ... الحديث بطوله» وأبو رجاء، قال البيهقي: ليس بالقوى، وقال ابن حبان يروى عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات.
(3) . لم أجده.(1/454)
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقد أبلغت في إخزائه. وهو نظير قوله فقد فاز. ونحوه في كلامهم: من أدرك مرعى الصمان «1» فقد أدرك، ومن سبق فلانا فقد سبق وَما لِلظَّالِمِينَ اللام إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأنّ من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها «2» ، تقول:
سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم. فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد، وأن يقال سمعت كلام فلان أو قوله. فإن قلت: فأىّ فائدة في الجمع بين المنادى وينادى؟ قلت: ذكر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيما لشأن المنادى لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان. ونحوه قولك: مررت بهاد يهدى للإسلام. وذلك أنّ المنادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك فإذا قلت: ينادى للإيمان، ويهدى للإسلام، فقد رفعت من شأن المنادى والهادي وفخمته. ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وندبه له وإليه، وناداه له وإليه. ونحوه: هداه للطريق وإليه، وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، والمنادى هو الرسول (أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ) ، (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) . وعن محمد بن كعب: القرآن. أَنْ آمِنُوا أى آمنوا، أو بأن آمنوا ذُنُوبَنا كبائرنا سَيِّئاتِنا صغائرنا مَعَ الْأَبْرارِ مخصوصين بصحبتهم، معدودين في جملتهم. والأبرار: جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب عَلى رُسُلِكَ على هذه صلة للوعد، كما في قولك: وعد اللَّه الجنة على الطاعة. والمعنى: ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادى للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف، أى ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) وقيل: على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل:
النصرة على الأعداء. فإن قلت: كيف دعوا اللَّه بإنجاز ما وعد واللَّه لا يخلف الميعاد؟ قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو هو باب من اللجأ إلى اللَّه والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك
__________
(1) . قوله «من أدرك مرعي الصمان» في الصحاح: موضع إلى جنب رمل عالج. وعالج: موضع بالبادية به رمل. (ع)
(2) . قوله «فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة، فمن يدخل النار من المؤمنين يخرج بالشفاعة أو بالعفو، كما حقق في محله. (ع)(1/455)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
التذلل لربهم والتضرع إليه، واللجأ الذي هو سيما العبودية.
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
يقال استجاب له واستجابه:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ «1»
أَنِّي لا أُضِيعُ قرئ بالفتح على حذف الياء، وبالكسر على إرادة القول. وقرئ:
لا أضيع، بالتشديد مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان لعامل بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أى يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر، أى من أصله، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم. وقيل المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد اللَّه عباده العاملين. وروى أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول اللَّه، إنى أسمع اللَّه تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء «2» . فنزلت فَالَّذِينَ هاجَرُوا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم، كأنه قال: فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة، وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى اللَّه بدينهم من دار الفتنة، واضطرّوا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشوّا بما سامهم «3» المشركون من الخسف وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي من أجله وبسببه، يريد
__________
(1) .
وداع دعا يا من يهيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبى المغوار منك قريب
لكعب بن سعد الغنوي، يرثى أخاه هرم وكنيته أبو المغوار. و «جهرة» مفعول مطلق مؤكد. و «أبى» مجرور بلعل، وهي لغة عقيل. واستعمال لعل في الأمر البعيد- مع أنها للرجاء والقرب- دليل على شدة ولهه وتنزيله البعيد منزلة القريب. وروى: «لعل أبا المغوار» على اللغة المشهورة. يقول: ورب داع إلى المكارم لم يهبه أحد فقلت له: ادع مرة أخرى برفع صوتك، لعل أخي يكون قريبا فيجيبك على عادته، فانه كثيراً ما يطلب معالى الأمور. وهذا من باب التمثيل والتخييل، لأنه لا داعى في الواقع.
(2) . أخرجه الترمذي، من رواية عمرو بن دينار أخبرنى سلمة- رجل من ولد أم سلمة رضى اللَّه عنها- قال قالت أم سلمة.
(3) . قوله «بما سامهم» في الصحاح: يقال سامه الخسف، وسامه خسفا، وخسفا أيضا بالضم: اى أولاه ذلا. (ع) [.....](1/456)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
سبيل الدين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا وغزوا المشركين واستشهدوا. وقرئ: وقتلوا، بالتشديد. وقتلوا وقاتلوا- على التقديم- بالتخفيف والتشديد. وقتلوا، وقتلوا، على بناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقتلوا، وقاتلوا، على بنائهما للفاعل ثَواباً في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ....) (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) في معنى. لأثيبنهم. وعِنْدَهُ مثل: أن يختص به وبقدرته وفضله، لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه، كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. وهذا تعليم من اللَّه كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرّع. وتكرير (رَبَّنا) من باب الابتهال، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة، من احتمال المشاق في دين اللَّه، والصبر على صعوبة تكاليفه، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه، وتسجيل على من لا يرى الثواب «1» موصولا إليه، بالعمل بالجهل والغباوة.
وروى عن جعفر الصادق رضى اللَّه عنه: من حزبه أمر فقال خمس مرات (ربنا) أنجاه اللَّه مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية. وعن الحسن: حكى اللَّه عنهم أنهم قالوا خمس مرات (ربنا) ثم أخبر أنه استجاب لهم، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد من تقديمه بين يدي الدعاء.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
(لا يَغُرَّنَّكَ) الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو لكل أحد، أى لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض، وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون وبتدهقنون «2» . وعن ابن عباس: هم أهل مكة. وقيل: هم اليهود. وروى أن أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء اللَّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذلك حتى ينهى عن الاغترار
__________
(1) . قوله «وتسجيل على من لا يرى الثواب» يريد أهل السنة القائلين يجوز على اللَّه أن يتفضل على العبد بدون عمل ولا يجب عليه إثابة العامل. وقد حقق في محله. (ع)
(2) . قوله «ويتجرون ويتدهقنون» يتملئون ويتمتعون بلين الطعام وطيب الشراب. أفاده الصحاح، في مادة دهق، ومادة دهقن. والأوفق بما في الصحاح: يتدهمقون، حيث قال: قال الأصمعى: الدهمقة: لين الطعام وطيبة ورقته. وحديث عمر «لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن اللَّه عاب قوما فقال: أذهبتم طيباتكم ... الآية» ولم يذكر الدهقنة بهذا المعنى تصريحا. (ع)(1/457)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
به؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً، فكأنه قيل: لا يغرنكم. والثاني: أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه، كقوله: (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وهذا في النهى نظير قوله في الأمر (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) وقد جعل النهى في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب. وقرئ: لا يغرنك بالنون الخفيفة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدإ محذوف، أى ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد، أراد قلته في جنب ما فإنهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعدّ اللَّه للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجْعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع «1» » وَبِئْسَ الْمِهادُ وساء ما مهدوا لأنفسهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
النزل والنزل: ما يقام للنازل. وقال أبو الشعراء الضبي:
وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ بِاْلْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرهِفَاتِ لَهُ نُزْلَا «2»
وانتصابه إمّا على الحال من جنات لتخصصها بالوصف والعامل اللام: ويجوز أن يكون بمعنى مصدر «3» موّكد، كأنه قيل: زرقاء، أو عطاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ من الكثير الدائم خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش (نُزُلًا) بالسكون. وقرأ يزيد بن القعقاع: لكنّ الذين اتقوا، بالتشديد.
[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث المستورد بن شداد به.
(2) . لأبى الشعراء الضبي. والجبار: الملك العاتي. وضافه يضيفه: نزل عنده ضيفا، أى إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف. وفيه تهكم به حيث جاء محارباً، فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا، ورشح ذلك التشبيه يجعل الرماح والسيوف المرهفات المسنونات نزلا له، وهو الطعام المعد للضيف
(3) . قوله «ويجوز أن يكون بمعنى مصدر» في قوة: وأما على المصدر، لأنه يجوز ... الخ. (ع)(1/458)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ عن مجاهد: نزلت في عبد اللَّه بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب. وقيل: في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا. وقيل: في أصحمة النجاشي ملك الحبشة، ومعنى أصحمة «عطية» بالعربية. وذلك أنه لما مات نعاه جبريل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فخرج إلى البقيع ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه واستغفر له: فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه «1» ، فنزلت. ودخلت لام الابتداء على اسم «إنّ» لفصل الظرف بينهما كقوله: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) . وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يؤمن، لأن من يؤمن في معنى الجمع لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)
، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) . إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لنفوذ عمله في كل شيء، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر. ويجوز أن يراد: إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد.
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
__________
(1) . ذكره الثعلبي من قول ابن عباس وقتادة. ولفظه «فخرج إلى البقيع. وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة بأبصر سرير النجاشي» والباقي نحوه، وقد ذكر إسناده إليهما آخر الكتاب. وذكره الواحدي بلا إسناد، ورواه الطبري وابن عدى في ترجمة أبى بكر الهذلي، واسمه: سلمى، وهو ضعيف- عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن جابر دون قوله «ونظر إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، وزاد فيه، وكبر أربعا، والطبراني في الأوسط» من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد قال «لما قدم على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وفاة النجاشي قال: اخرجوا فصلوا على أخ لكم لم نره قط فخرج بنا، وتقدم النبي صلى اللَّه عليه وسلم ووقفنا خلفه، فصلى وصلينا، فلما انصرفنا قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلى على علج نصراني لم يره قط فأنزل اللَّه تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) .(1/459)
اصبروا على الدين وتكاليفه وَصابِرُوا أعداء اللَّه في الجهاد، أى غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتا. والمصابرة: باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه، تخصيصا لشدته وصعوبته وَرابِطُوا وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها، مترصدين مستعدين للغزو. قال اللَّه عز وجل: (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من رابط يوما وليلة في سبيل اللَّه كان كعدل صيام شهر «1» وقيامه، لا يفطر، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» .
وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم» «2» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى اللَّه عليه وملائكته حتى تحجب الشمس» «3» .
__________
(1) . أخرجه أحمد وابن أبى شيبة من حديث سلمان أتم منه ولابن حبان من حديث سلمان «رباط يوم وليلة في سبيل اللَّه أفضل من صيام شهر وقيامه جاع لا يفطر، وقام لا يفتر» وأصله في مسلم، ووهم الحاكم فاستدركه.
(2) . أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبى بن كعب وسيأتى آخر الكتاب، ورواه ابن مردويه من وجه آخر عن أبى بن كعب، والواحدي في التفسير الأوسط من حديث أبى أمامة رضى اللَّه عنه.
(3) . أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف.(1/460)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
مدنية، وهي مائة وست وسبعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا بنى آدم خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم «1» . فإن قلت: علام عطف قوله وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يعطف على محذوف، كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها، وخلق منها زوجها.
وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى: شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها وَبَثَّ مِنْهُما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها. والثاني: أن يعطف على خلقكم، ويكون الخطاب في: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للذين بعث إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
والمعنى: خلقكم من نفس آدم، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت: الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعوا إليها ويبحث عليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟ قلت: لأنّ
__________
(1) . قال محمود: «معناه فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم وعلام عطف ... الخ» قال أحمد:
وإنما قدر المحذوف في الوجه الأول حيث جعل الخطاب عاما في الجنس، لأنه لولا التقدير لكان قوله: (وَبَثَّ مِنْهُما) تكراراً لقوله: (خَلَقَكُمْ) إذ مؤداهما واحد، وليس على سبيل بيان الأول، لأنه معطوف عليه حينئذ. وأما وهو معطوف على المقدر، فذاك المقدر واقع صفة مبينة، والمعطوف عليه داخل في حكم البيان فاستقام. وأما الوجه الثاني فالتكرار فيه ليس بلازم، إذ المخاطب بقوله: (خَلَقَكُمْ)
الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله (وَبَثَّ مِنْهُما) واقع على من عدا المبعوث إليهم من الأمم، فلا حاجة للتقدير المذكور في الوجه الثاني، واللَّه أعلم.(1/461)
ذلك مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب العصاة، فالنظر فيه يؤدى إلى أن يتقى القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها. أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة. فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة. وقرئ: وخالق منها زوجها. وباث منهما، بلفظ اسم الفاعل، وهو خبر مبتدإ محذوف تقديره: وهو خالق تَسائَلُونَ بِهِ تتساءلون به، فأدغمت التاء في السين. وقرئ (تساءلون) بطرح التاء الثانية، أى يسأل بعضكم بعضا باللَّه وبالرحم. فيقول: باللَّه وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف.
وأناشدك اللَّه والرحم. أو تسألون غيركم باللَّه والرحم، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع، كقولك: رأيت الهلال وتراءيناه. وتنصره قراءة من قرأ: تسلون به. مهموز أو غير مهموز.
وقرئ (وَالْأَرْحامَ بالحركات الثلاث، فالنصب على وجهين: إما على: واتقوا اللَّه والأرحام، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور، كقولك: مررت بزيد وعمراً. وينصره قراءة ابن مسعود:
نسألون به وبالأرحام، والجرّ على عطف الظاهر على المضمر، وليس بسديد لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك «مررت به وزيد» و «هذا غلامه وزيد» شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة، فلم يجز ووجب تكرير العامل، كقولك: «مررت به وبزيد» و «هذا غلامه وغلام زيد» ألا ترى إلى صحة قولك «رأيتك وزيدا» و «مررت بزيد وعمرو» لما لم يقو الاتصال، لأنه لم يتكرر، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها.
فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ «1»
والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: والأرحام كذلك، على معنى: والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به. والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً، وكانوا يتساءلون بذكر اللَّه والرحم، فقيل لهم: اتقوا اللَّه الذي خلقكم، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام
__________
(1) .
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
للأعشى. وقيل: لعمرو بن معديكرب. وقيل: لخفاف بن ندبة. وقيل: لعباس بن مرداس. يقال: قرب الفرس تقريباً أسرع. يقول: فاليوم دنوت مسرعا في هجونا بعد بطئك عنه. ويروى: قد بت، أى قد صرت تهجونا، فاذهب على طريقتك فإنها سمة اللئام وشيمة الأيام، فلا عجب من ذلك، وهو أمر تخلية ومتاركة. والأيام:
عطف على الضمير المجرور، وهو دليل على جوازه بدون إعادة الجار وإن منعه الجمهور.(1/462)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
فلا تقطعوها. أو واتقوا اللَّه الذي نتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم. وقد آذن عز وجل- إذ قرن الأرحام باسمه- أن صلتها منه بمكان، كما قال: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعن الحسن: إذا سألك باللَّه فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه. وللرحم حجنة عند العرش «1» ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى اللَّه عنه «الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت «2» منه» . وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام «تخيروا لنطفكم» «3» فقال: يقول لأولادكم. وذلك أن يضع ولده في الحلال. ألم تسمع قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة ويجتنب الدعوة «4» ، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من اللَّه.
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
(الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم. الانفراد. ومنه: الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة. وقيل: اليتم في الأناسى من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. فإن قلت: كيف جمع اليتيم- وهو فعيل كمريض- على يتامى؟ قلت: فيه وجهان: أن يجمع على يتمى كأسرى، لأنّ اليتم من وادى الآفات والأوجاع، ثم يجمع فعلى على فعالي كأسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجرى اليتيم مجرى الأسماء، نحو صاحب وفارس، فيقال: يتائم، ثم يتامى على القلب. وحق هذا
__________
(1) . قوله «حجنة عند العرش» في الصحاح: الحجن- بالتحريك- الاعوجاج. وصقر أحجن المخالب معوجها. وحجنة المغزل- بالضم- هي المنعقفة في رأسه. وفيه أيضا: عقفت الشيء فانعقف، أى عطفته فانعطف.
والتعقيف: التعويج (ع)
(2) . أخرجه إسحاق بن راهويه: أخبرنا جرير عن قابوس عن أبيه عنه به. ورواه الحكيم الترمذي من هذا الوجه
(3) . رواه ابن ماجة والحاكم والدارقطني من حديث هشام عن أبيه عن عائشة. قال ابن طاهر: لم يروه عن هشام ثقة. ورواه ابن عدى من طريق عيسى بن ميمون أحد الضعفاء عن القاسم عن عائشة رضى اللَّه عنها ورواه تمام في فوائده وأبو نعيم في الحلية من رواية الزهري عن أنس وفيه عبد العظيم بن إبراهيم السالمى وهو مجهول. ورواه ابن عدى من حديث عمر موقوفا. وفيه سليمان بن عطاء وهو ضعيف وقال ابن طاهر: رواه إسحاق بن الغيض عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء، فمرة قال: عن ابن عباس. ومرة قال: عن عائشة. وهذا أجود طرقه إن كان الاسناد إلى إسحاق قويا. قال ابن أبى حاتم عن أبيه: هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه [.....]
(4) . قوله «ويجتنب الدعوة» لعله الدعرة بالراء بدل الواو. وفي الصحاح: الدعر- بالتحريك- الفساد. (ع)(1/463)
الاسم أن يقع على الصغار «1» والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم، زال عنهم هذا الاسم. وكانت قريش تقول لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يتيم أبى طالب، إمّا على القياس وإمّا حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعا له. وأمّا قوله عليه السلام «لا يتم بعد الحلم» «2» فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة، يعنى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. فإن قلت: فما معنى قوله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟ قلت:
إما أن يراد باليتامى الصغار، وبإتيانهم الأموال: أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة، حتى تأتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس، أو لقرب عهدهم- إذا بلغوا- بالصغر، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها. على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ، ولا ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار. وقيل:
هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم «3» فنزلت، فلما سمعها العم قال: أطعنا اللَّه وأطعنا الرسول، نعوذ باللَّه من الحوب الكبير، فدفع ماله إليه فقال النبي عليه السلام: ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره. يعنى جنته، فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل اللَّه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ثبت الأجر، ثبت الأجر وبقي الوزر: قالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا أنه ثبت الأجر
__________
(1) . قال محمود: «إما أن يراد باليتامى الصغار ... الخ» قال أحمد: والوجه الأول قوى بقوله بعد آيات (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد.
ويقوله أيضا قوله عقيب الأولى (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره. وأما على الوجه الآخر فيكون مؤدى الآيتين واحداً، وهو الأمر بالايتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالجملة الثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد، واللَّه أعلم.
(2) . أخرجه أبو داود عن على وإسناده حسن لأن له طريقاً أخرى عن على أخرجه عبد الرزاق أيضاً عن الثوري عن جويبر موقوفا. وصوبه العقيلي وقد تابع جويبرا عليه عبد الكريم بن أبى المخارق عن الضحاك. وعبد الكريم متروك أيضاً وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن سليمان الصوفي من رواية علقمة بن قيس عن على. ورواه أبو يعلى والطبراني من رواية ذيال بن عبيد بن حنظلة بن جذيم بن حنيفة. سمعت جدي حنظلة يقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول. فذكره وفي الباب عن أنس عند البزار وفيه مرثد بن عبد الملك وهو ضعيف. وعن جابر عند عبد الرزاق والطيالسي وابن يعلى من رواية حرام بن عثمان وهو متروك. ومن طريق سعيد بن المرزبان عن يزيد الفقير عن جابر. وسعيد ضعيف جداً
(3) . ذكره الثعلبي عن مقاتل والكلبي. وسنده إليهما مذكور في أول الكتاب.(1/464)
كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل اللَّه؟ فقال: ثبت أجر الغلام، وبقي الوزر على والده وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق اللَّه المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها «1» والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز، منه التعجيل بمعنى الاستعجال، والتأخر بمعنى الاستئخار. قال ذو الرمّة:
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ «2»
أراد: ويا لؤم ما استخلفته الدار واستبدلته. وقيل: هو أن يعطى رديئا ويأخذ جيداً. وعن السدى: أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة، وهذا ليس بتبدل، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ولا تنفقوها معها. وحقيقتها: ولا تضموها إليها «3» في الإنفاق، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم
__________
(1) . قوله «والتورع منها» لعله: عنها. (ع)
(2) . لذي الرمة. والسكن- بالسكون-: سكان الدار، فهو اسم جمع لساكن، كركب لراكب، وصحب لصاحب. وفي نداء كرمهم معنى التعجب من كثرته، أى يا كرم أصحاب الدار الذين ارتحلوا عنها، ويا لؤم المستخلف المتبدل، على صيغة اسم المفعول فيهما أى ما استخلفته وما استبدلته بعدهم من الوحوش. وقيل: من الذين لا يوفون بالمراد، فالتبدل بمعنى الاستبدال. والمستخلف على تقدير مضاف دل عليه المقام.
(3) . قال محمود: «معناه ولا تضموها إلى أموالكم ... إلخ» : قال أحمد: وأهل البيان يقولون المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهى عن أدناها تنبيها على الأعلى، كقوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأى مخالفا لها، إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهى أن يأكله وهو غنى عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه، حتى يلزم نهى الغنى عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر بوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهى عن الأدنى وإن أفاد النهى عن الأعلى إلا أن للنهى عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة لا تؤخذ من النهى عن الأدنى، وذلك أن المنهي كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد، ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل، فخصص بالنهى تشنيعا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء، دعاه ذلك إلى الاحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهى بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب كاعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم على أى وجه كان منهى عنه، كان ذلك بالادخار، أو بالتباس، أو ببذله في لذة النكاح مثلا، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهى بالأكل: أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعد البطنة من البهيمة وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهى به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهى بما هو أعلى قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) فخص هذه الصورة لأن الطبع على الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهى نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ... ) الآية كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن اللَّه تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر باسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا فان النفس يرق طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالاسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذى الرحم مطلقاً حضر أو غاب، فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلفى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل اللَّه أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو أن النهي إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا النظر في جانب الأمر، واللَّه الموفق.(1/465)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قلة مبالاة بما لا يحل لكم، وتسوية بينه وبين الحلال. فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلمَ ورد النهى عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم اللَّه من مال حلال- وهم على ذلك يطمعون فيها- كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعليهم وسمع بهم، ليكون أزجر لهم. والحوب: الذنب العظيم. ومنه قوله عليه السلام «إن طلاق أم أيوب لحوب «1» » فكأنه قيل: إنه كان ذنبا عظيما كبيراً. وقرأ الحسن (حُوباً) بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا. وقرئ: حابا. ونظير الحوب والحاب: القول والقال. والطرد والطرد.
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
__________
(1) . أخرجه أبو داود في المراسيل وإبراهيم الحربي في الغريب من رواية أنس بن سيرين قال: بلغني أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «يا أبا أيوب. إن طلاق أم أيوب لحوب» ورواه يحيى الحماني في مسنده. والطبراني في الأوسط من طريقه. قال: حدثنا حماد بن زيد عن واصل عن محمد بن سيرين عن ابن عباس وزاد: قال ابن سيرين: والحوب الإثم. وروى الحاكم من رواية على بن عاصم عن حميد عن أنس قال: كان بين أبى طلحة وأم سليم كلاما. فأراد أن يطلقها. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال «إن طلاق أم سليم لحوب» .(1/466)
ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء «1» أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن، فقيل لهم:
إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل:
كانوا لا يتحرّجون من الزنا «2» وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل:
كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضناً بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف- لضعفهن وفقد من يغضب لهن- أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل:
أيامى، والأصل: أيائم ويتائم. وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) يريد: وإن خفتم أن تجوروا ما طابَ ما حلّ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء: ومنه قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن أعداد مكررة، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف. تقول: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن
__________
(1) . قال محمود: «لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء ... الخ» قال أحمد: قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا، ما لم يتب عنها، فمن ثم يقولون: لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب والإصرار على بعضها، لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب، ولا يفيد توحيده ولا شيء من أعماله. هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون: إذا تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه، وكأنه قام ببعض الواجبات وترك القيام ببعضها، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن اللَّه ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، فان كان تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى، فالأمر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة، واللَّه ولى التوفيق.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى ... الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل الذي أخرجه جدير بالتقدم وهو الأظهر، وتكون الآية معه لبيان حكم اليتامى، وتحذيراً من التورط في الجور عليهن، وأمراً بالاحتياط. وفي غيرهن متسع إلى الأربع، وأصدق شاهد على أنه هو المراد.(1/467)
النصب على الحال مما طاب، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ (قلت) : الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال- وهو ألف درهم- درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت: فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت: كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة: أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية، وبعضه على تثليث، وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره: أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها، محظوراً عليهم ما وراء ذلك. وقرأ إبراهيم: وثلث وربع، على القصر من ثلاث ورباع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فَواحِدَةً فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا. فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقرئ (فَواحِدَةً) بالرفع على: فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة، أو فحسبكم واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء، من غير حصر ولا توقيت عدد. ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغبا وأخف مؤنة من المهائر، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. وقرأ ابن أبى عبلة. من ملكت ذلِكَ إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم:
عال الميزان عولا، إذا مال. وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وروى أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له: أتعول علىّ. وقد روت عائشة رضى اللَّه عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «ألا تعولوا: أن لا تجوروا «1» » والذي يحكى عن الشافعي رحمه اللَّه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا تكثر عيالكم، فوجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم: مانهم يمونهم، إذا أنفق عليهم، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحال والرزق الطيب. وكلام مثله من أعلام العلم
__________
(1) . أخرجه ابن حبان وابراهيم الحربي والطبري وابن أبى حاتم وغيرهم من رواية عمر بن محمد بن زيد عن هشام عن أبيه عنها، قال ابن أبى حاتم: الصواب موقوف.(1/468)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وأئمة الشرع ورؤس المجتهدين، حقيقى بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا «1» . وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العىّ، من كلام الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في علم كلام العرب، من أن يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرفا وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. فإن قلت: كيف يقل عيال من تسرّى، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت: ليس كذلك، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسرى، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهنّ، فكان التسرى مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوّج، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقرأ طاوس: أن لا تعيلوا، من أعال الرجل إذا كثر عياله. وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه اللَّه من حيث المعنى الذي قصده.
[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
صَدُقاتِهِنَّ مهورهن، وفي حديث شريح: قضى ابن عباس لها بالصدقة. وقرئ: (صَدُقاتِهِنَّ) بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن. وصدقاتهن بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة. وقرئ: صدقتهن، بضم الصاد والدال على التوحيد، وهو تثقيل صدقة، كقولك في ظلمة ظلمة نِحْلَةً من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. ومنه حديث أبى بكر رضى اللَّه عنه: إنى كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية «2» . وانتصابها على المصدر «3»
__________
(1) . أخرجه المحاملي. حدثنا زياد بن أيوب. حدثنا محمد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر عن سليمان أن عبدة قال: قال عمر فذكره. وإسناده منقطع ورواه الجوهري في مشيخته والأصبهانى في الترغيب في قصة طويلة أولها عن سعيد بن المسيب قال «وضع عمر بن الخطاب للناس ثمان عشرة كلمة كلها حكمة» فذكر فيها ذلك وفي الاسناد ضعف وروى البيهقي في الشعب من وجه آخر عنه قال «كتب إلى بعض إخوانى من الصحابة أن ضع أمر أخيك على أحسنه- الحديث» موقوف أيضاً.
(2) . أخرجه مالك بإسناد صحيح أتم منه.
(3) . قال محمود: «نحلة منصوب على المصدر لأنها في معنى الإيتاء ... الخ» قال أحمد: هذا الفصل بجملته حسن جداً، غير أن في جملة تذكير الضمير في منه على الصداق، ثم تنظيره ذلك بقوله «فأصدق نظراً» وذلك أن المراعى ثم الأصل، وهو عدم دخول الفاء والجزم وتقدير ما هو الأصل، وإعطاؤه حكم الموجود ليس ببدع، ولا كذلك إفراد الصداق المقدر، فانه ليس بأصل الكلام، بل الأصل الجمع: وأما الافراد فقد يأتى في مثله على سبيل الاختصار استغناء عن الجمع بالاضافة، ولا يرد أنهم قد راعوا ما ليس بأصل في قوله:
بدا لي أنى لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلا، إلا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه، فصارت كأن الأصل دخولها في الخبر، واللَّه أعلم. والأمر في ذلك قريب [.....](1/469)
لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أى أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين، أى آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من اللَّه عطية من عنده وتفضلا منه عليهن، وقيل: النحلة الملة، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا:
أى يدين به. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات، أى دينا من اللَّه شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئا لك النافجة، لمن تولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك أى تعظمه. الضمير في: (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك، كما قال اللَّه تعالى: (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بعد ذكر الشهوات، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ «1»
فقال: أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق، لأنك لو قلت:
وآتوا النساء صداقهن، لم تخل بالمعنى، فهو نحو قوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) كأنه قيل:
أصدّق. ونَفْساً تمييز، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى:
فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم فَكُلُوهُ فأنفقوه. قالوا: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفسا، وعن الشعبي: أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: ردّ عليها. فقال الرجل: أليس قد قال اللَّه تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه: أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة، لأنهنّ يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه، فلبث شهرا ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرجل: أعطتنى طيبة بها نفسها، فقال عبد الملك: فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه كتب إلى قضاته: إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد بصفحة 149 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه
(2) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق محمد بن عبيد اللَّه الثقفي قال كتب عمر نحوه.(1/470)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
وعن ابن عباس أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم اللَّه به في الآخرة» «1» وروى أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته، فقال اللَّه تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغا هنيئا. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل: فإن طبن، ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاما بأنّ المراعى هو تجافى نفسها عن الموهوب طيبة. وقيل: إن طبن لكم عن شيء منه، ولم يقل: فإن طبن لكم عنها، بعثا لهن على تقليل الموهوب. وعن الليث بن سعد:
لا يجوز تبرعها إلا باليسير. وعن الأوزاعى: لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة.
ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا. الهنيء، والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل. والمريء ما يحمد عاقبته.
وقيل هو ما ينساغ في مجراه. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو انسياغه، وهما وصف للمصدر، أى أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير، أى كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ مريئا على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين، كأنه قيل: هنأ مرأ. وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
السُّفَهاءَ المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها. والخطاب للأولياء: وأضاف الأموال إليهم «2» لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) . جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أى تقومون بها وتنتعشون، ولو ضيعتموها لضعتم فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم. وقرئ: قيما، بمعنى قياما، كما جاء عوذا بمعنى عياذا. وقرأ عبد اللَّه بن عمر: قواما، بالواو. وقوام الشيء: ما يقام به، كقولك هو ملاك الأمر لما يملك به. وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني
__________
(1) . أخرجه الثعلبي والواحدي في الأوسط من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.
(2) . قال محمود: «المراد أموال السفهاء وأضافها إلى الأولياء ... الخ» قال أحمد: ويؤيد هذا المعنى أنه لما أمر باسعاف ذوى القربى على سبيل المواساة قال: وارزقوهم منه، لأن المدفوع إليهم من صلب المال، واللَّه أعلم.(1/471)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
اللَّه عليه، خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان- وكانت له بضاعة يقلبها-: لولاها لتمندل بى بنو العباس «1» . وعن غيره- وقيل له إنها تدنيك من الدنيا-: لئن أدنتنى من الدنيا لقد صانتنى عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في جنازة فقالوا له: اذهب إلى دكانك وَارْزُقُوهُمْ فِيها واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فلا يأكلها الإنفاق. وقيل: هو أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء، قريب أو أجنبى، رجل أو امرأة، يعلم أنه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج:
عدّة جميلة، إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم. وعن عطاء: إذا ربحت أعطيتك، وإن غنمت في غزاتى جعلت لك حظا. وقيل: إن لم يكن ممن وجبت عليك نفقته فقل: عافانا اللَّه وإياك، بارك اللَّه فيك. وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل، فهو معروف. وما أنكرته ونفرت منه لقبحه، فهو منكر.
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
وَابْتَلُوا الْيَتامى واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم «2» ومعرفتهم بالتصرف، قبل البلوغ
__________
(1) . قوله «لتمندل بى بنو العباس» في الصحاح: المنديل معروف، تقول منه: تسندلت بالمنديل، وتمندلت. (ع)
(2) . قال محمود: «معناه اختبروا أحوالهم ... الخ» قال أحمد: الابتلاء على هذا الوجه مذهب مالك رضى اللَّه عنه، غير أنه لا يكون عنده إلا بعد البلوغ ولا يدفع إليه من ماله شيء قبله، وكذلك أحد قولي الشافعي رضى اللَّه عنه، وقوله الآخر كمذهب أبى حنيفة، غير أن عنه خلافا في صورته قبل البلوغ على وجهين: أحدهما أن يسلم إليه المال ويباشر العقود بنفسه كالبالغ، والآخر أن يكون وظيفته أن يساوم، وتقرير الثمن إذا بلغ الأمر إلى العقد باشره الولي دونه وسلم الصبى الثمن، فأما الرشد فالمعتبر عند مالك رضى اللَّه عنه فيه: هو أن يحرز ماله وينميه، وإن كان فاسقاً في حاله. وعند الشافعي: المعتبر صلاح الدين والمال جميعاً، وغرضنا الآن أن نبين وجه تنزيل مذهب مالك في هذه الآية واللَّه المستعان. فأما منعه من الإيتاء قبل البلوغ- وإن كان ظاهر الآية أن الإيتاء قبله- من حيث جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء، والغاية متأخرة عن المغيا ضرورة، فيتعين وقوع الإيتاء قبل. ولهذه النكتة أثبته أبو حنيفة قبل البلوغ واللَّه أعلم، فعلى جعل المجموع من البلوغ وإيناس الرشد هو الغاية حينئذ يلزم وقوع الابتلاء قبلهما، أعنى المجموع وإن وقع بعد أحدهما وهو البلوغ، لأن المجموع من اثنين فصاعدا لا يتحقق إلا بوجود كل واحد من مفرديه. ويحقق هذا التنزيل أنك لو قلت: وابتلوا اليتامى بعد البلوغ، حتى إذا اجتمع الأمران وتضاما البلوغ والرشد فادفعوا إليهم أموالهم، لاستقام الكلام، ولكان البلوغ قبل الابتلاء وإن كان الابتلاء مغيا بالأمرين واقعاً قبل مجموعهما، ونظير هذا النظر توجيه مذهب أبى حنيفة في قوله: إن فيئة المولى إنما تعتبر في أجل الإيلاء لا بعده، وتنزيله على قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجدد به عهداً يتضح لك تناسب النظرين، واللَّه أعلم. وأما اقتصاره رضى اللَّه عنه بالرشد على المال، فان كان المولى عليه فاسق الحال فوجه استخراجه من الآية أنه علق إيناس الرشد فيها بالابتلاء بدفع مال إليهم ينظر تصرفهم فيه، فلو كان المراد إصلاح الدين فقط لم يقف الاختبار في ذلك على دفع المال إليهم، إذ الظاهر من المصلح لدينه أنه لا يتفاوت حاله في حالتي عدمه ويسره. ولو كان المراد إصلاح الدين والمال معا- كما يقوله الشافعي رضى اللَّه عنه- لم يكن إصلاح الدين موقوفا على الاختبار بالمال كما مر آنفا. وأيضا فالرشد في الدين والمال جميعاً هو الغاية في الرشد، وليس الجمع بينهما بقيد، وتنكير الرشد في الآية يأبى ذلك، إذ الظاهر: فان آنستم منهم رشداً ما فبادروا بتسليم المال إليهم غير منتظرين بلوغ الغاية فيه، واللَّه أعلم.(1/472)
حتى إذا تبينتم منهم رشداً- أى هداية- دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح. أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل.
والإيناس: الاستيضاح فاستعير للتبيين. واختلف في الابتلاء والرشد، فالابتلاء عند أبى حنيفة وأصحابه: أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه. والرشد: التهدى إلى وجوه التصرف. وعن ابن عباس: الصلاح في العقل والحفظ للمال. وعند مالك والشافعي: الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين. والرشد: الصلاح في الدين، لأن الفسق مفسدة للمال. فإن قلت: فإن لم يؤنس منه رشد إلى حدّ البلوغ؟ قلت:
عند أبى حنيفة رحمه اللَّه ينتظر إلى خمس وعشرين سنة، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسنّ ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه السلام «مروهم بالصلاة لسبع» «1» دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وعند أصحابه:
لا يدفع إليه أبداً إلا بإيناس الرشد. فإن قلت: ما معنى تنكير الرشد؟ قلت: معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد. فإن قلت: كيف نظم هذا الكلام؟ «2» قلت: ما بعد (حَتَّى) إلى (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ)
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبوة الجهني عن أبيه عن جده مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع» ورواه أبو داود والحاكم من طريق سوار بن داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأعله العقيلي في الضعفاء بسوار. ورواه البزار من رواية محمد بن الحسن بن عطية عن محمد بن عبد الرحمن عنه وأعله العقيلي بمحمد ابن الحسن وقال: الأولى رواية من رواه عن محمد بن عبد الرحمن مرسلا وذكره ابن حبان في الضعفاء عن عبد المنعم بن نعيم الرياحي عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة ورواه الدارقطني في الأوسط من حديث أنس وفيه داود بن المجير وهو متروك.
(2) . قال محمود رحمه اللَّه: «فما وجه نظم الكلام الواقع بعد حتى إلى قوله فادفعوا إليهم أموالهم ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: هو يروم بهذا التقدير تنزيل مذهب أبى حنيفة في سبق الابتلاء على البلوغ على مقتضى الآية، وقد أسلفنا وجه تنزيل مذهب مالك عليها بأظهر وجه وأقربه. والحاصل أن مقتضى النظر إلى المجموع من حيث هو ومقتضى مذهب أبى حنيفة النظر إلى المفردين، والظاهر اعتبار المجموع فان العطف بالفاء يقتضيه، واللَّه أعلم.(1/473)
جعل غاية للابتلاء، وهي «حتى» التي تقع بعدها الجمل، كالتي في قوله:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدِجْلَةَ حَتَّي مَاءُ دِجْلَهَ أشْكَلُ «1»
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط، وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح، فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وقرأ ابن مسعود: فإن أحسيتم بمعنى أحسستم قال:
أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْه شُوسُ «2»
وقرئ: رشداً، بفتحتين. ورشداً، بضمتين إِسْرافاً وَبِداراً مسرفين ومبادرين كبرهم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، تفرطون في إنفاقها، وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيراً، فالغنى يستعف من أكلها «3» ولا يطمع، ويقتنع بما رزقه اللَّه من الغنى إشفاقا على اليتيم، وإبقاء على ماله. والفقير يأكل قوتا مقدراً محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف، مما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه عليها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير
__________
(1) . لجرير، يقول: فما زالت تمج، أى تلقى وتخرج دماءها في شاطئ دجلة. وحتى: ابتدائية تقع بعدها الجمل، ولا تخلو من معنى الغاية. وأشكل: خبر المبتدأ، وهو الأبيض المشوب بحمرة. وأظهر في محل الإضمار لقيد التهويل والتعظيم. أى حتى أن ماء ذلك النهر الكبير مختلط بالحمرة.
(2) .
فباتوا يدلجون وبات يسرى ... بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وانحت منهم ... قريباً ما يمس له مسيس
سوى أن العناق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس
لأبى زبيد الطائي. والإدلاج: سير أول الليل. والتدليج: سير آخره. والسرى: سير الليل. وبصير: صفة لمحذوف. وبالدجى: متعلق به. والبصير: المتبصر الخبير أو المبصر، فالباء بمعنى في. والدجى الظلم. والهادي:
المراد به المهتدى. والعموس: القوى الشديد. وعرسوا: أى نزلوا. والحت: النتف والفرك والقطع والسرعة.
فانحت: انعزل منهم بسرعة، أو أسرع قريبا منهم ما يمس: أى لا يسمع له مسيس، أى صوت مسه للأرض في المشي. والعتاق: النجائب أو المسنة. وأحسن: أصله أحسسن، نقلت فتحة السين إلى الحاء ثم حذفت. ويروى:
حسين. وفي لغة: حسين، بكسر السين. وأصله حسسن، قلبت السين الثانية حرف علة. وزيادة الباء بعد فعل الحس كثيرة وإن تعدى بنفسه. والشوس: جمع أشوس، أو شوساء وهو الذي ينظر بمؤخر عينه يصف مسافرين والأسد يطلب فريسة منهم، وكثيرا ما يحذفون الموصوف كالأسد هنا، لأن الصفة تعينه، أو لادعاء تعينه.
(3) . قوله «من أكلها» لعله «عن» ، (ع)(1/474)
متأثل «1» مالا ولا واق مالك بماله» فقال: أفأضربه قال: «مما كنت ضارباً منه ولدك «2» » : وعن ابن عباس: أنّ ولىّ اليتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغى ضالتها، وتلوط حوضها، وتهنأ جرباها «3» وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك في الحلب «4» وعنه: يضرب بيده مع أيديهم، فليأكل بالمعروف، ولا يلبس عمامة فما فوقها. وعن إبراهيم: لا يلبس الكتان والحلل، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وعن محمد بن كعب: يتقرّم تقرّم البهيمة «5» وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بدّ منه. وعن الشعبي: يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه. وعنه:
كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضى. وعن مجاهد: يستسلف، فإذا أيسر أدّى. وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه، وإن أعسر فهو في حلّ. وعن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: إنى أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة والى اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا
__________
(1) . قوله «غير متأثل مالا» أى: متخذ مالا أصلا، كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من طريق معاوية بن هشام. حدثنا الثوري عن ابن أبى نجيح عن الحسن العرني عن ابن عباس قال «جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن في حجري يتيما» بلفظ المصنف سواء ورواه عبد الرزاق في المصنف وابن المبارك في البر والصلة والطبري عن سفيان بن عيينة عن ابن دينار عن الحسن العرني «أن رجلا قال يا رسول اللَّه» فذكره مرسلا وهو عند ابن أبى شيبة في البيوع عن إسماعيل عن أيوب بن عمرو كذلك. وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: لا أجد شيئا وليس لي مال. ولي يتيم له مال. قال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ولا تق مالك بماله» وروى ابن حبان من رواية صالح بن رستم عن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رجل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «مم أضرب يتيمى؟ قال: ما كنت ضارباً منه ولدك، غير واق مالك بماله. ولا متأثل من ماله مالا» وأخرجه ابن عدى في الكامل في ترجمة صالح بن رستم. وهو أبو عامر الخزان وضعفه عن ابن معين. وقال: لم أجد له حديثا منكرا. ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن دينار.
وقال: تفرد به الخزان وهو من ثقات البصريين.
(3) . قوله «وتلوط حوضها وتهنأ جرباها» أى تصلحه بالطين بأن تلزقه به. أفاده الصحاح. وفيه: هنأت البعير أهنؤه إذا طلبته بالهناء وهو القطران اه. ونقل المناوى بهامشه عن الزجاج أنه بضم النون وأنه لم يجئ مضموم العين في مهموز اللام إلا هنأ يهنأ وقرأ يقرأ فليحرر. (ع) [.....]
(4) . أخرجه عبد الرزاق من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد. قال «جاء رجلي إلى ابن عباس» فذكره، إلا أنه قال: بدل تبغى ضالتها «ترد نادتها» وأخرجه الطبري من طريقه والثعلبي والواحدي من وجه آخر عن القاسم. ورواه البغوي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم وهو في الموطأ.
(5) . قوله: «يتقرم تقرم البهيمة» في الصحاح: قرم الصبى والبهيم قرما وقروما وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. وتقرم مثله. (ع)(1/475)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
أيسرت قضيت» «1» واستعف أبلغ من عفّ، «2» كأنه طالب زيادة العفة فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة. ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبى حنيفة وأصحابه. وعند مالك والشافعي لا يصدّق إلا بالبينة، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضى إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أى كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا. فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب.
[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 8]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
الْأَقْرَبُونَ هم المتوارثون من ذوى القرابات دون غيرهم مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مما ترك بتكرير العامل. ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص، بمعنى: أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بدّ لهم من أن يحوزوه ولا يستأثر به. ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) كأنه قيل: قسمة مفروضة. وروى أن أوس بن الصامت الأنصارى «3» ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهنّ، وكان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والأطفال، ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة، فجاءت أم كحة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد الفضيخ فشكت إليه، فقال: «ارجعي حتى أنظر ما يحدث اللَّه «فنزلت، فبعث إليهما «لا تفرّقا من مال أوس شيئا فإنّ اللَّه قد جعل لهنّ نصيبا ولم يبين حتى يبين» فنزلت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) فأعطى أم كحة
__________
(1) . أخرجه ابن سعد وابن أبى شيبة والطبري من رواية إسرائيل وسفيان كلاهما عن أبى إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر ورواه سعيد بن منصور عن أبى الأحوص عن أبى إسحاق عن البراء قال: قال لي عمر. فذكره
(2) . قال محمود: «استعف أبلغ من عف، وكأنه يطلب زيادة العفة من نفسه» قال أحمد: في هذا إشارة إلى أنه من استفعل بمعنى الطلب وليس كذلك، فان استفعل الطلبية متعدية وهذه قاصرة. والظاهر أنه مما جاء فيه فعل واستفعل بمعنى، واللَّه أعلم.
(3) . قوله «روى أن أوس بن الصامت الأنصارى» في رواية ابن ثابت. وليحرر اه (ع)(1/476)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم «1» وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أى قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الضمير لما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك، إذا اجتمعت الورثة حضرهم هؤلاء فرضخوا لهم بالشيء من رثة المتاع «2» . فحضهم اللَّه على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة. قالوا: ولو كان فريضة لضرب له حدّ ومقدار كما لغيره من الحقوق، وروى أن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبى بكر رضى اللَّه عنه قسم ميراث أبيه وعائشة رضى اللَّه عنها حية؟ فلم يدع في الدار أحداً إلا أعطاه، وتلا هذه الآية. وقيل: هو على الوجوب. وقيل: هو منسوخ بآيات الميراث كالوصية. وعن سعيد بن جبير:
أن ناسا يقولون نسخت، وو اللَّه ما نسخت، ولكنها مما تهاونت به الناس. والقول المعروف أن يلطفوا لهم القول ويقولوا: خذوا بارك اللَّه عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم ولا يستكثروه، ولا يمنوا عليهم. وعن الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات والمساكين واليتامى من العين، يعنيان الورق والذهب. فإذا قسم الورق والذهب وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك، قالوا لهم قولا معروفا، كانوا يقولون لهم:
بورك فيكم.
[سورة النساء (4) : آية 9]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
__________
(1) . هكذا أورده الثعلبي ثم البغوي بغير سند وقال الواحدي في الأسباب: قال المفسرون «إن أوس بن ثابت الأنصارى توفى وترك امرأة يقال لها أم كحة، وله منها ثلاث بنات. فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما عافجة وسويد فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئاً ولا بناته. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير، وإن كان ذكراً. وإنما يورثون الرجال الكبار. وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة فذكره إلى آخره سواء. والظاهر أنه عنى بقوله «المفسرون» الكلبي ومقاتل وأشباههما وقد روى الطبري هذه القصة من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق ولفظه «نزلت في أم كحة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول اللَّه توفى زوجي وتركني وابنته فلم نورث. فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلا، ولا ينكأ عدواً. فنزلت (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الآية وروى من طريق السدى قال: في قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) - الآية كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من العلمان ولا يورثون إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أبو حسان الشاعر. وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس أخوات. فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأنزل اللَّه (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ثم قال في أم كحة (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) - الآية
(2) . قوله «من رثة المتاع» في الصحاح: الرثة: السقط من متاع البيت من الخلقان، والجمع رثث، مثل قربة وقرب. (ع)(1/477)
«لو» مع ما في حيزه صلة للذين. والمراد بهم: الأوصياء، أمروا بأن يخشوا اللَّه «1» فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم، خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا وشفقتهم عليهم وأن يقدّروا ذلك في أنفسهم ويصوّروه حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. ويجوز أن يكون المعنى: وليخشوا على اليتامى من الضياع. وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من اللَّه شيئا، فقدم مالك، فيستغرقه بالوصايا، فأمروا بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. ويجوز أن يتصل بما قبله وأن يكون أمراً بالشفقة للورثة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين وأن يتصوّروا أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخيبة؟ فإن قلت: ما معنى وقوع لَوْ تَرَكُوا وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه:
وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
لَقَدْ زَادَ الْحَيَاةَ إلَىَّ حُبًّا ... بَنَاتِى إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أَن يَرَيْنَ الْبُؤْسَ بَعْدِى ... وَأَنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِى «2»
وقرئ: ضعفاء. وضعافى، وضعافى. نحو: سكارى، وسكارى. والقول السديد من الأوصياء: أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بيا بنىّ ويا ولدى، ومن الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية: لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، مثل قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لسعد: «إنك إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس «3» » وكان الصحابة رضى اللَّه عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. ومن المتقاسمين ميراثهم أن
__________
(1) . قال محمود: «المراد الأوصياء أمروا بأن يخشوا اللَّه ... الخ» قال أحمد: وإنما ألجأه إلى تقدير (تَرَكُوا) بقوله: شارفوا أن يتركوا لأن جوابه قوله: (خافُوا عَلَيْهِمْ) والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم وذلك في دار الدنيا، فقد دل على أن المراد بالترك الاشراف عليه ضرورة، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل، ونظيره (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أى شارفن بلوغ الأجل، ولهذا المجاز في التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع، وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع في الحياة ولا في الذب عن الذرية الضعاف، وهي الحالة التي وإن كانت من الدنيا إلا أنها لقربها من الآخرة ولصوقها بالمفارقة صارت من حيزها ومعبراً عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك، واللَّه أعلم.
(2) . تقدم شرح هذه الشواهد بصفحة 404 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(3) . متفق عليه من حديث سعد بن أبى وقاص في قصة.(1/478)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
يلطفوا القول ويجملوه للحاضرين.
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
ظُلْماً ظالمين «1» ، أو على وجه الظلم من أولياء السوء وقضاته فِي بُطُونِهِمْ ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه، وفي بعض بطنه. قال:
كُلُوا فِى بَعْضِ بَطْنِكُمُوا تَعِفُّوا «2»
ومعنى يأكلون نارا: ما يجر إلى النار، فكأنه نار في الحقيقة. وروى: أنه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره «3» ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه «4» فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا. وقرئ (وَسَيَصْلَوْنَ) بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها سَعِيراً ناراً من النيران مبهمة الوصف.
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
__________
(1) . قال محمود: «معناه ظالمين، أو على وجه الظلم ... الخ» قال أحمد: ومثله (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أى شدقوا بها وقالوها بملء أفواههم. أو يكون المراد بذكر البطون تصوير الأكل للسامع، حتى يتأكد عنده بشاعة هذا الجرم بمزيد تصوير، ولأجل تأكيد التشنيع على الظالم لليتيم في ماله، خص الأكل لأنه أبشع الأحوال التي يتناول مال اليتيم فيها، واللَّه أعلم.
(2) .
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فان زمانكم زمن خميص
أى كلوا في بعض بطونكم. وأفرد البطن لأمن اللبس، أى لا تملؤها، فان أطعتمونى عففتم عن الطعام. وعف يعف- بكسر عين المضارع- من باب ضرب يضرب. ثم قال: فان زمانكم، أى أمرتكم بذلك لأن زمانكم مجدب.
والخميص: الضامر البطن. فشبه الزمان المجدب بالرجل الجائع على طريق الكناية، ووصفه بالخمص تخييل لذلك.
(3) . قوله من «قبره» يروى من دبره. ويؤيده ما في الخازن من حديث أبى سعيد الخدري، أنهم يجعل في أفواههم صخر من نار يخرج من أسافلهم اه، فحرره. (ع)
(4) . أخرجه الطبري من طريق السدى قال «يبعث اللَّه آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه وأنفه» إلى آخره وفي صحيح ابن حبان من رواية زناد أبى المنذر عن نافع بن الحرث عن أبى برزة رفعه يبعث اللَّه يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم ناراً فقيل من هم يا رسول اللَّه؟ فقال: ألم تر أنّ اللَّه يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) الآية وفي إسناده زناد المذكور. كذبه ابن معين وشيخه نافع بن الحرث ضعيف أيضاً وقد أورده ابن عدى في الضعفاء في ترجمة زناد وأعل يه. [.....](1/479)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ يعهد إليكم ويأمركم فِي أَوْلادِكُمْ في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة. وهذا إجمال تفصيله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإن قلت: هلا قيل: للأنثيين مثل حظ الذكر «1» أو للأنثى نصف حظ الذكر قلت: ليبدأ ببيان حظ الذكر لفضله، كما ضوعف حظه لذلك، ولأنّ قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قصد إلى بيان فضل الذكر. وقولك:
للأنثيين مثل حظ الذكر، قصد إلى بيان نقص الأنثى. وما كان قصداً إلى بيان فضله، كان أدلّ على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث «2» وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان، فكأنه قيل للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أى إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين. والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع، أنه أتبعه حكم الانفراد، وهو قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) والمعنى للذكر منهم، أى من أولادكم، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم، كقولهم: السمن منوان بدرهم فَإِنْ كُنَّ نِساءً فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصاً. ليس معهن رجل يعنى بنات ليس معهن ابن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يجوز أن يكون خبراً ثانياً لكان وأن يكون صفة لنساء أى نساء زائدات على اثنتين (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى فَلَهَا النِّصْفُ وقرئ: واحدة بالرفع على كان التامّة والقراءة بالنصب أوفق لقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وقرأ زيد بن ثابت (النِّصْفُ)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قيل للأنثيين مثل حظ الذكر ... الخ» قال أحمد: لأن الأفضلية حينئذ مدلول عليها بواسطة الاستلزام لا منطوق بها. وأما على نظم الآية، فالأفضلية منطوق بها غير محتاجة إلى ذلك.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ... الخ» قال أحمد: وعلى مقتضى هذا لا يكون حكم الابن إذا انفرد مذكوراً في الآية، لأنه حيث ذكره فإنما عنى حالة الاجتماع مع الإناث خاصة على تفسير الزمخشري. هذا ويمكن خلافه، وهو أن المذكور أولا ميراث الذكر على الإطلاق مجتمعا مع الإناث منفرداً، أما وجه تلقى حكمه حالة الاجتماع فقد قرره الزمخشري. وأما وجه تلقيه حالة الانفراد فمن حيث أن اللَّه تعالى جعل له مثل حظ الأنثيين، فان كانت معه فذاك، وإن كانت منفردة عنه فقد جعل لها في حال انفرادها النصف، فاقتضى ذلك أن للذكر عند انفراده مثلي نصيبها عند انفرادها، وذلك الكامل. واللَّه أعلم.(1/480)
بالضم. والضمير في تَرَكَ للميت لأنّ الآية لما كانت في الميراث، علم أن التارك هو الميت.
فإن قلت: قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد، لا لبيان حظ الأنثيين، فكيف صح أن يردف قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت:
وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما كان كأنه مسوق للأمرين جميعا، فلذلك صح أن يقال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) : فإن قلت. هل يصح أن يكون الضميران في «كنّ» و «كانت» مبهمين، ويكون «نساء» و «واحدة» تفسيراً لهما، على أن كان تامة؟ قلت: لا ابعد ذلك. فإن قلت: لم قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً «1» ) ولم يقل: وإن كانت امرأة؟
قلت: لأنّ الغرض ثمة خلوصهن إناثا لا ذكر فيهنّ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وبين انفرادهن. وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها. فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما، وما باله لم يذكر؟ قلت: أما حكمهما فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة «2» ، لقوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف. وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة، والذي يعلل به قولهم: أن قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قد دلّ على أن حكم الأنثيين حكم الذكر، وذلك أن الذكر كما يجوز الثلثين مع الواحدة، فالأنثيان كذلك يجوزان الثلثين، فلما ذكر ما دلّ على حكم الأنثيين قيل (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) على معنى: فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: فان قلت لم قيل فان كن نساء، ولم يقل: وإن كانت امرأة ... الخ» قال أحمد:
يريد أن حكم البنتين حال اجتماعهما مع الابن مذكور في قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وأن حكم البنات منفردات مذكور في قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) وأن حكم البنت منفردة مذكور في قوله: (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) وبقي عليه أن ذكر الابن في حال الانفراد مستفاد من قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) إذا ضممته إلى قوله: (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) على التقرير الذي قدمته.
(2) . عاد كلامه. قال في الجواب «أما حكمها فمختلف فيه، فابن عباس أبى تنزيلهما منزلة الجماعة ... الخ» قال أحمد: ومحز النظر أن ابن عباس أجرى التقييد بالصفة، وهي قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) على ظاهره من مفهوم المخالفة، غير أنه ما كان يقتضى اللفظ أن يقتصر لهما على النصف لأجل تعارض المفهومين، إذ مفهوم (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أن تكون الأنثى أقل من الثلثين، ومفهوم (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أن تكون الأنثيين أزيد من النصف، فيكون نصيبهما متردداً فيما بين النصف والثلثين بقدر مجمل. وأما غيره فأظهر للتقييد فائدة جلية سوى المخالفة، وتلك الفائدة رفع الفرق المتوهم بين الأنثيين وما فوقهما. ومتى ظهرت للتخصيص فائدة جلية سوى المخالفة وجب المصير إليها وسقط التعلق بالمفهوم، وكأنه على القول المشهور لما علم أن الأنثيين يستوجبان الثلثين بالطرق المذكورة، وكان الوهم قد يسبق إلى أن الزائد على الأنثيين يستوجبن أكثر من فرض الأنثيين، لأن ذلك مقتضى القياس. رفع هذا الوهم، بإيجاب الثلثين لما فوق الأنثيين كوجوبه لهما، واللَّه أعلم.(1/481)
ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت. وقيل: إن الثنتين أمس رحما بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب اللَّه للأختين، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحما منهما.
وقيل: إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه، فوجب لهما الثلثان وَلِأَبَوَيْهِ الضمير للميت. ولِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من (لِأَبَوَيْهِ) «1» بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس، لكان ظاهره اشتراكهما فيه. ولو قيل:
ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: فهلا قيل:
ولكل واحد من أبويه السدس: وأى فائدة في ذكر الأبوين أوّلا، ثم في الإبدال منهما؟ قلت:
لأنّ في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير.
والسدس: مبتدأ، وخبره: لأبويه. والبدل متوسط بينهما للبيان. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة (السُّدُسُ) بالتخفيف، وكذلك الثلث والربع والثمن. والولد: يقع على الذكر والأنثى، ويختلف حكم الأب في ذلك. فإن كان ذكراً اقتصر بالأب على السدس، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس. فإن قلت: قد بين حكم الأبوين في الإرث «2» مع الولد ثم حكمهما مع
__________
(1) . قال محمود «لكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل ... الخ» قال أحمد: وفي إعرابه بدلا نظر، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء، وهما كعين واحدة، ويكون أصل الكلام:
والسدس لأبويه لكل واحد منهما، ويقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس، كما قال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فاقتضى اشتراكهن فيه، فيقتضى البدل- لو قدر إهدار الأول- إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل، لأنه يلزم في هذا النوع أن يكون مؤدى المبدل والبدل واحدا. وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى، فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة، وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الاعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل. فالوجه- واللَّه أعلم- أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا، فصله بقوله: (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) وساغ حذف المبتدإ لدلالة التفصيل عليه ضرورة، إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما للسدس استحقاقهما، واللَّه أعلم. ولا يستقيم على هذا الوجه أيضا جعله من بدل التقسيم. ألا نراك لو قلت: الدار كلها لثلاثة:
لزيد، ولعمرو، ولخالد: كان هذا بدلا وتقسيما صحيحا، لأنك لو حذفت المبدل منه فقلت: الدار لزيد ولعمرو ولخالد، ولم تزد في البدل زيادة، استقام. فلو قلت: الدار لثلاثة: لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها، لم يستقم بدل تقسيم إذ لو حذفت المبدل منه لصار الكلام: الدار لزيد ثلثها، ولعمرو ثلثها، ولخالد ثلثها. فهذا كلام مستأنف، لأنك زدت فيه معنى تمييز ما لكل واحد منهم، وذلك لا يعطيه المبدل ولا سبيل في بدل الشيء من الشيء إلى زيادة معنى.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت قد بين حكم الأبوين والإرث ... الخ» قال أحمد: ومذهب ابن عباس أن الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه مع وجود الأب، فعلى هذا يكون فائدة قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) الاحتراز مما لو ورثه الاخوة مع الأبوين، فان الأم لها حينئذ السدس، وكأنه قيل: وورثه أبواه ولم يكن ثم إخوة فلأمه الثلث، فان كان له إخوة فلأمه السدس. ولا يمكن جعله على مذهب ابن عباس مقيداً بعدم الزوجين، لأن ثلث الأم عنده لا يتغير بوجود واحد منهما، واللَّه الموفق.(1/482)
عدمه، فهلا قيل: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث. وأى فائدة في قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ؟ قلت:
معناه: فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب، فلأمه الثلث مما ترك، كما قال: (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج، لا ثلث ما ترك، إلا عند ابن عباس. والمعنى: أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قلت: ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟
قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّ الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة، فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه. والثاني: أن الأب أقوى في الإرث من الأم، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة، وجامعا بين الأمرين، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها. ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس «1» . وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم. فإن قلت:
فكيف صحّ أن يتناول الإخوة الأخوين، والجمع خلاف التثنية؟ قلت: الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق، فدل بالإخوة عليه. وقرئ: فلإمّه، بكسر الهمزة اتباعا للجرّة: ألا تراها لا تكسر في قوله (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) . مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقرئ (يُوصِي بِها بالتخفيف والتشديد. و (يُوصِي بِها) على البناء للمفعول مخففا: فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت:
معناها الإباحة: وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما، قدم على قسمة الميراث، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. فإن قلت: لم قدّمت الوصية على الدين «2» والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت: لما
__________
(1) . عاد كلامه. قال محمود: «ويستوي في حجب الأم الاثنان فصاعدا إلا عند ابن عباس ... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في هذا التقرير ما لم يحسن كثير من حذاق الأصوليين، ويريد متلقى في تغاير وصفى الجمع والتثنية، إذ الجمع يتناول الاثنين ويتناول أزيد منهما. ولك هذا. وأما التثنية فقاصرة على الاثنين فبينهما على هذا العموم والخصوص، فكل تثنية جمع، وليس كل جمع تثنية.
(2) . قال محمود: «إن قلت: لم قدمت الوصية على الدين ... الخ» ؟ قال أحمد: الوصية على ضربين: لغير معين، فلا يطالب بها إلا الامام إن عثر عليها. ولمعين، فله المطالبة. ولكن يتباينان في القوة بين مطالبة رب الدين بدينه والموصى له بوصيته، لأن رب الدين يطالب بحق مستقر في الذمة سبق له به الفضل على مديانه، والموصى له إنما يطلب صدقة تفضل بها عليه الميت، لا عن استحقاق سابق، فاكتفى بما لرب الدين من القوة عن تقديمه في الذكر، وعضد ضعف الموصى له بتقديمه في الذكر عونا له على حصول رفق الوصية، ويمكن في دفعه طريق آخر فأقول: لم يخالف ترتيب الآية الواقع شرعا فلا يرد السؤال، وذلك أن أول ما يبدأ به إخراج الدين، ثم الوصية، ثم اقتسام ذوى الميراث. فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخراً، تلو إخراج الوصية، تلو الدين، فوافق فولنا:
قسمة المواريث بعد الوصية والدين، صورة الواقع شرعا. ولو سقط ذكر بعد وكان الكلام: أخرجوا الميراث والوصية والدين، لما أمكن ورود السؤال المذكور، واللَّه أعلم.(1/483)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ أى لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمّن أوصى منهم أمّن لم يوص؟ يعنى أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا، ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريباً في الصورة، إلا أنه فان، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى. وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه، سأل أن يرفع إليه ابنه.
فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا. وقيل: قد فرض اللَّه الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة. وقيل:
الأب يجب عليه «1» النفقة على الابن إذا احتاج، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدرى أيهما أقرب نفعا. وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له، لأن هذه الجملة اعتراضية. ومن حق الاعتراضى أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه، والقول ما تقدم فَرِيضَةً نصبت نصب المصدر المؤكد، أى فرض ذلك فرضاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه حَكِيماً في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
__________
(1) . قوله «عليه» : لعله «له» فتدبر اه مصححه(1/484)
فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم. جعلت المرأة على النصف من الرجل بحق الزواج، كما جعلت كذلك بحق النسب. والواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يعنى الميت.
ويُورَثُ من ورث، أى يورث منه وهو صفة لرجل. وكَلالَةً خبر كان، أى وإن كان رجل موروث منه كلالة، أو يجعل يورث خبر كان، وكلالة حالا من الضمير في يورث. وقرئ يورث ويورّث بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، وكلالة حال أو مفعول به. فإن قلت:
ما الكلالة؟ قلت: ينطلق على ثلاثة على من لم يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة، كما تقول: ما صمت عن عىّ، وما كف عن جبن. والكلالة في الأصل: مصدر بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:
فَآلَيْتُ لا أرثي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ «1»
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد، لأنها بالإضافة إلى قرابتهما كآلة ضعيفة، وإذا جعل صفة للموروث أو الوارث فبمعنى ذى كلالة. كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوى قرابتي. ويجوز أن تكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق «2» . فإن قلت: فإن جعلتها اسما للقرابة في الآية فعلام تنصبها؟ قلت: على أنها مفعول له أى يورث لأجل الكلالة أو يورث غيره
__________
(1) .
وأما إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين جديا لا يغيب وفرقدا
فآليت لا أرثى لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقى محمدا
للأعشى، يصف ناقته وقد وفد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فصده المشركون ومات باليمامة. وأدلجت: سارت ليلا. وجديا، وفرقدا: بدل مما قبلهما. وهذا كناية عن طول ليلها، بل عن مللها من السير. فآليت. أى حلفت، لا أرثى: لا أرق لها، من أجل ملالة وسآمة. والوجى: ضرر الخف ونحوه من السير. ويروى بدله «فما لك عندي مشتكى من كلالة ولا من حفا» والمشتكى: الشكوى. والحفا: الوجى. يقول: إذا سارت ناقتي ليلا طال ليلها، وحلفت لا أرق لها من أجل تعب ولا ضرر، حتى ألاقى بها محمداً صلى اللَّه عليه وسلم. وأسند الفعل إليها، دلالة على أنها تعرفه، فهي السائرة إليه.
(2) . قوله «كالهجاجة والفقاقة للأحمق» في الصحاح: رجل هجاجة أى أحمق. وفيه رجل فقاقة أى أحمق هذر.
وفيه أيضاً: الهذر- بالتحريك-: الهذيان. والرجل هذر. بكسر الذال. (ع)(1/485)
لأجلها، فإن قلت: فان جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث، فما وجهه؟ قلت: الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. فان قلت: فالضمير في قوله: (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا) إلى من يرجع حينئذ؟ قلت: إلى الرجل وإلى أخيه أو أخته، وعلى الأول إليهما. فان قلت: إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر الأنثى، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ قلت: نعم، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. وعن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه، أنه سئل عن الكلالة فقال:
أقول فيه برأيى، فان كان صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان واللَّه منه بريء.
الكلالة: ما خلا الولد والوالد «1» . وعن عطاء والضحاك: أنّ الكلالة هو الموروث. وعن سعيد ابن جبير: هو الوارث. وقد أجمعوا على أنّ المراد أولاد الأم. وتدل عليه قراءة أبىّ: وله أخ أو أخت من الأمّ. وقراءة سعد بن أبى وقاص: وله أخ أو أخت من أم. وقيل: إنما استدل على أن الكلالة هاهنا الإخوة للأم خاصة بما ذكر في آخر السورة من أنّ للأختين الثلثين وأنّ للإخوة كل المال، فعلم هاهنا- لما جعل للواحد السدس، وللاثنين الثلث، ولم يزادوا على الثلث شيئاً- أنه يعنى بهم الإخوة للأم، وإلا فالكلالة عامة لمن عدا الولد والوالد من سائر الإخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات «2» وغيرهم غَيْرَ مُضَارٍّ حال، أى يوصى بها وهو غير مضارّ لورثته وذلك أن يوصى بزيادة على الثلث، أو يوصى بالثلث فما دونه، ونيته مضارّة ورثته ومغاضبتهم لا وجه اللَّه تعالى. وعن قتادة: كره اللَّه الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وعن الحسن:
المضارة في الدين أن يوصى بدين ليس عليه ومعناه الإقرار وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد، أى يوصيكم بذلك وصية، كقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) ويجوز أن تكون منصوبة بغير مضار، أى لا يضار وصية من اللَّه وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث أو وصية من اللَّه بالأولاد وأن لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية. وينصر هذا الوجه قراءة الحسن: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) بالاضافة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله. وهذا وعيد. فإن قلت: في: (يُوصى) ضمير الرجل إذا جعلته الموروث، فكيف تعمل إذا جعلته الوارث؟ قلت:
كما عملت في قوله تعالى: (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) لأنه علم أن التارك والموصى هو الميت. فان قلت:
فأين ذو الحال فيمن قرأ (يُوصى بِها) على ما لم يسم فاعله؟ قلت: يضمر يوصى فينتصب عن فاعله
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة والطبري وسعيد بن منصور. ومن رواية الشعبي قال: قال أبو بكر. وفي رواية سعيد والطبري كلام عمر أيضاً.
(2) . قوله «سائر الاخوة الأخياف والأعيان وأولاد العلات» في الصحاح: إخوة أخياف، إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى. والأعيان: الاخوة بنو أب واحد وأم واحدة. وبنو العلات: أولاد الرجل الواحد من أمهات شتى اه ملخصاً من مواضع. (ع)(1/486)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
لأنه لما قيل (يُوصى بِها) علم أن ثم موصيا، كما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) على ما لم يسمّ فاعله، فعلم أن ثم مسبحا، فأضمر يسبح فكما كان رجال فاعل ما يدل عليه يسبح، كان غير مضارّ حالا عما يدل عليه يوصى بها.
[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
تِلْكَ إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث. وسماها حدوداً، لأن الشرائع كالحدود المضروبة الموقتة للمكلفين، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ويتخطوها إلى ما ليس لهم بحق يُدْخِلْهُ قرئ بالياء والنون، وكذلك (يُدْخِلْهُ ناراً) وقيل: يدخله، وخالدين حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالدين وخالداً على الحال. فان قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات وناراً؟ قلت: لا، لأنهما جريا على غير من هما له، فلا بدّ من الضمير وهو قولك: خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها.
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يرهقنها، يقال أتى الفاحشة وجاءها وغشيها ورهقها بمعنى. وفي قراءة ابن مسعود: يأتين بالفاحشة، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ قيل معناه: فخلدوهن محبوسات في بيوتكم، وكان ذلك عقوبتهن في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ... ) الآية ويجوز أن تكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصى بإمساكهن في البيوت، بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح. وقيل: السبيل هو الحد، لأنه لم يكن مشروعا ذلك أوقت. فإن قلت: ما معنى يتوفاهن الموت- والتوفي والموت بمعنى واحد، كأنه قيل: حتى يميتهن الموت-؟ قلت: يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت، كقوله: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)(1/487)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يريد الزاني والزانية فَآذُوهُما فوبخوهما وذمّوهما وقولوا لهما: أما استحييتما، أما خفتما اللَّه فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما واقطعوا التوبيخ والمذمة، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب، ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود العاثرين على سرهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عنهما ولا تتعرضوا لهما. وقيل: نزلت الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين. وقرئ: واللذانّ بتشديد النون. واللذانّ: بالهمزة وتشديد النون.
[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
التَّوْبَةُ من تاب اللَّه عليه إذا قبل توبته وغفر له، يعنى إنما القبول والغفران واجب على اللَّه تعالى «1» لهؤلاء. بِجَهالَةٍ في موضع الحال أى يعملون السوء جاهلين سفهاء، لأنّ ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل. وعن مجاهد:
من عصى اللَّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب. والزمان القريب:
__________
(1) . قال محمود: «يعنى إنما القبول والغفران واجب على اللَّه ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم في مواضع أن إطلاق مثل هذا من قول القائل: يجب على اللَّه كذا. مما نعوذ باللَّه منه- تعالى عن الإلزام والإيجاب رب الأرباب- وقاعدة أهل السنة أن اللَّه تعالى مهما تفضل فهو لا عن استحقاق سابق، لأنهم يقولون: إن الأفعال التي يتوهم القدرية أن العبد يستحق بها على اللَّه شيئا، كلها خلق اللَّه، فهو الذي خلق لعبده الطاعة وأثابه عليها، وخلق له التوبة وقبلها منه، فهو المحسن أولا وآخراً وباطناً وظاهراً، لا كالقدرية الذين يزعمون أن العبد خلق لنفسه التوبة بقدرته وحوله، ليستوجب على ربه المغفرة بمقتضى حكمته التي توجب عليه- على زعمهم- المجازاة على الأعمال إيجابا عقليا، فلذلك يطلقون بلسان الجرأة هذا الإطلاق. وما أبشع ما أكد الزمخشري هذا المعتقد الفاسد بقوله: يجب على اللَّه قبول التوبة، كما يجب على العبد بعض الطاعات. فنظر المعبود بالعبد، وقاس الخالق على الخلق. وإنه لإطلاق يتقيد عنه لسان العاقل ويقشعر جلده استبشاعا لسماعه، ويتعثر القلم عند تسطيره. على أن من لطف اللَّه تعالى أن لم يجعل حاكى الكفر كافراً، ولا حاكى البدعة لضرورة ردها والتحذير منها مبتدعا. وما بلغ الزمخشري في هذا الإطلاق إلا اغتناما لفرصة التمسك على صحته بصيغة «على» المشعرة بالوجوب، فجعلها ذريعة لاستباحة هذا الإطلاق، ولم يجعل اللَّه له فيها مستروحا، فانا نقول معاشر أهل السنة قد وعدنا اللَّه قبول التوبة المستجمعة لشرائط الصحة ووقوع هذا الموعود واجب ضرورة صدق الخبر، فمهما ورد من صيغ الوجوب فمنزل على وجوب صدق الوعد. ومعنى قولنا «صدق الخبر واجب» كمعنى قولنا «وجود اللَّه واجب» لأن أحداً لا يستوجب على اللَّه شيئاً. ألهمنا اللَّه الأدب في حق جلاله، وعصمنا من زيغ القول وضلاله. [.....](1/488)
ما قبل حضرة الموت. ألا ترى إلى قوله: (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) فبين أنّ وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقى ما وراء ذلك في حكم القريب. وعن ابن عباس: قبل أن ينزل به سلطان الموت. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن النخعي: ما لم يؤخذ بكظمه.
وروى أبو أيوب عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إنّ اللَّه تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» وعن عطاء: ولا قبل موته بفواق ناقة. وعن الحسن: أنّ إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده. فقال تعالى: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر «2» فإن قلت: ما معنى (مِنْ) في قوله: (مِنْ قَرِيبٍ) ؟ قلت: معناه التبعيض، أى يتوبون بعض زمان قريب، كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا، ففي أى جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. فإن قلت: ما فائدة قوله فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إنما التوبة على اللَّه لهم؟ قلت: قوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) إعلام بوجوبها عليه كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله: (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة كما يعد العبد الوفاء بالواجب وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ عطف على الذين يعملون السيئات. سوّى بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم، لأنّ حضرة الموت أول أحوال الآخرة، فكما أنّ المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل واحد منهما أو ان التكليف والاختيار أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ في الوعيد نظير قوله: (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. فإن قلت: من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يراد الكفار، لظاهر قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) . وأن يراد الفساق، لأن الكلام إنما وقع في الزانيين، والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ) وارداً على سبيل التغليظ كقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)
__________
(1) . لم أجده من حديث أبى أيوب الأنصارى على ما يتبادر إلى الفهم من هذا الإطلاق وإنما أورده الطبري من طريق قتادة عن العلاء بن زياد عن أبى أيوب بشير بن كعب فذكره. وبشير تابعي معروف وهو بالموحدة والمعجمة مصغر، ولقتادة فيه إسناد آخر أخرجه الطبري أيضاً بالإسناد المذكور إليه. قال عن قتادة عن عبادة بن الصامت ومن هذا الوجه أخرجه إسحاق بن راهويه وهو منقطع بين قتادة وعبادة. وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد وأبو يعلى والطبراني وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف فيه، وعن أبى هريرة أخرجه البزار وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو ضعيف لكن له طريق أخرى أخرجها ابن مردويه عن صحابى معهم أخرجه أحمد والحاكم من رواية عبد الرحمن السلماني قال اجتمع أربعة من الصحابة فذكر الحديث فقال الرابع «وأنا سمعته أى النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول لي: إن اللَّه يقبل توبة العبد قبل أن يغرغر بنفسه» .
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ... فذكره. قلت وله شاهد من حديث أبى سعيد الخدري وأخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.(1/489)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وقوله «فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» «1» «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر «2» » لأن من كان مصدقا ومات وهو لم يحدث نفسه بالتوبة، حاله قريبة من حال الكافر، لأنه لا يجترئ على ذلك إلا قلب مصمت.
[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ويظلمونهن بأنواع من الظلم، فزجروا عن ذلك: كان الرجل إذا مات له قريب من أب أو أخ أو حميم «3» عن امرأة، ألقى ثوبه عليها وقال أنا أحق بها من كلّ أحد «4» ، فقيل لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أى أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك: أو مكرهات. وقيل: كان يمسكها حتى تموت، فقيل:
لا يحل لكم أن تمسكوهنّ حتى ترثوا منهنّ وهنّ غير راضيات بإمساككم. وكان الرجل إذا تزوّج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر، لتفتدى منه بمالها وتختلع، فقيل: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، أى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع. ويدل عليه قراءة أبىّ: إلا أن يفحشن عليكم. وعن الحسن: الفاحشة الزنا، فإن فعلت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. وقيل: كانوا إذا أصابت امرأة فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وعن أبى قلابة ومحمد بن سيرين: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها.
وعن قتادة: لا يحل أن يحبسها ضراراً حتى تفتدى منه، يعنى وإن زنت. وقيل: نسخ ذلك بالحدود، وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو النصفة في
__________
(1) . تقدم في الكلام على آية الحج في آل عمران.
(2) . تقدم في البقرة.
(3) . قوله «أخ حميم» في الصحاح «حميمك» قريبك الذي تهتم لأمره. (ع)
(4) . قال محمود: «كان الرجل إذا مات له قريب ألقى ثوبه على امرأته وقال أنا أحق بها من كل أحد ... الخ» قال أحمد: وخص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهى، تنبيها بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهياً عن استعادة شيء يسير حقير منها على هذا الوجه، كان من لم يبذل إلا الحقير منهياً عن استعادته بطريق الأولى. ومعنى قوله: (وَآتَيْتُمْ) واللَّه أعلم: وكنتم آتيتم، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية.(1/490)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
المبيت والنفقة، والإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك، ولكن للنظر في أسباب الصلاح.
[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
وكان الرجل إذا طمحت عينه «1» إلى استطراف امرأة؟ بهت التي تحته ورماها «2» بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج غيرها. فقيل: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ الآية. والقنطار: المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته. ومنه القنطرة، لأنها بناء مشيد. قال:
كَقَنْطَرَةِ الرُّومِىِّ أقْسَمَ رَبُّهَا ... لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّي تُشَادَ بِقِرْمِدِ «3»
وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه قام خطيباً فقال: أيها الناس، لا تغالوا بصدق النساء «4» ، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند اللَّه لكان أولاكم بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنى عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له: يا أمير المؤمنين، لِمَ تمنعنا حقا جعله اللَّه لنا واللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر ثم قال لأصحابه: تسمعوننى أقول مثل هذا القول فلا تنكرونه علىّ حتى تردّ علىّ امرأة ليست من أعلم النساء «5» . والبهتان: أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت
__________
(1) . قوله «إذا طمحت عينه» أى ارتفعت إلى استحسان امرأة للتمتع بها بدل امرأته. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «ورماها» أى بما ليس فيها كما يؤخذ مما يأتى. (ع)
(3) . لطرفة بن العبد من معلقته يشبه ناقته بقنطرة الرجل الرومي. أو النهر الرومي، وهو أنسب بلام العهد وبذكر الاسم الظاهر بعده. وأقسم: جملة حالية، أى: حلف لا تحاط بالقرمد، أى الجبس، حتى تشاد وترفع بالآجر، أو ليحيط بها الفعلة حتى ترفع بالجبس. وتكتنفن: مضارع مبنى المجهول مؤكد بالنون.
(4) . قوله «لا تغالوا بصدق النساء» جمع صداق، كسحب جمع سحاب. (ع)
(5) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وأحمد والدارمي وابن أبى شيبة والطبراني كلهم من طريق محمد ابن سيرين عن أبى العجفاء قال خطبنا عمر فذكره دون ما في آخره. وأخرجه الحاكم من أوجه أخرى عن عمر كذلك.
وذكر الدارقطني في العلل لهذا الحديث اختلافا كثيراً، ورواه عبد الرزاق من الوجه الأول وزاد فيه: فقامت امرأة فقالت له ليس ذلك لك يا عمر، وإن اللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية. فقال إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة شريح من طريق أشعث بن سوار عن الشعبي عن شريح قال قال عمر ... فذكره بلفظ السنن واستغربه من هذا الوجه. وأخرجه إسحاق من رواية عطاء الخراساني عن عمر، وهو منقطع وزاد فيه «ثم إن عمر خطب أم كلثوم- أى بنت على وأصدقها أربعين ألفا» وروى أبو يعلى من طريق ابن إسحاق. حدثني محمد بن عبد الرحمن عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: ركب عمر المنبر ثم قال أيها الناس ما إكثاركم في صدق النساء، وقد كانت الصدقات فيما بين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللَّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقهن على أربعمائة. قال: نعم، قالت: أما سمعت اللَّه يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) ... الآية فقال عمر: اللهم عفوا كل أحد أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر، فقال: من شاء أن يعطي من ماله ما أحب.(1/491)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
عند ذلك، أى يتحير. وانتصب بُهْتاناً على الحال، أى باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً، كقولك: قعد عند القتال جبناً. والميثاق الغليظ: حق الصحبة والمضاجعة، كأنه قيل: وأخذن به منكم ميثاقا غليظاً، أى بإفضاء بعضكم إلى بعض. ووصفه بالغلظ لقوّته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ وقيل: هو قول الولىّ عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب اللَّه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: استوصوا «1» بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم «2» أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه.
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
وكانوا ينكحون روابهم «3» ، وناس منهم يمقتونه «4» من ذى مروآتهم، ويسمونه نكاح
__________
(1) . هذا مركب من حديثين. الأول أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن الأحوص.
قال شهدت حجة الوداع- فذكر حديثا- وفيه «واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم» وفي البخاري ومسلم من حديث أبى حازم عن أبى هريرة في أثناء حديث واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع- الحديث» .
والثاني أخرجه مسلم في حديث جابر الطويل في صفة الحج فقال فيه «واتقوا اللَّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه» وروى أبو يعلى والبزار والطبري من رواية موسى بن عبيدة الربذي أحد الضعفاء عن صدقة بن يسار عن ابن عمر رفعه «أيها الناس، النساء عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة اللَّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه. (فائدة) العوان: جمع عانية، وهي الأسيرة.
(2) . قوله «فإنهن عوان في أيديكم» في الصحاح: العاني الأسير. وقوم عناة، ونسوة عوان. (ع)
(3) . قوله «ينكحون روابهم» في الصحاح. الراب زوج الأم. والرابة: امرأة الأب. وربيب الرجل:
ابن امرأته من غيره. ونكاح المقت: كان في الجاهلية أن يتزوج امرأة أبيه. اه في موضعين. (ع) [.....]
(4) . قال محمود فيه: «كانوا ينكحون روابهم وناس منهم يمقتونه ... الخ» قال أحمد: وعندي في هذا الاستثناء سر آخر وهو أن هذا المنهي عنه- لفظاعته وبشاعته عند أكثر الخلق حتى كان ممقوتا قبل ورود الشرع- جدير أن يمتثل النهى فيه فيجتنب، فكأنه قد امتثل النهى عنه حتى صار مخبراً عن عدم وقوعه، وكأنه قيل: ما يقع نكاح الأبناء المنكوحات للآباء ولا يؤخذ منه شيء إلا ما قد سلف. وأما في المستقبل بعد النهى فلا يقع منه شيء البتة، ومثل هذا النظر جار في مثل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) فأجراه مرفوعا على أنه خبر وإن كان المراد نهيهم عن عبادة غير اللَّه، ولكن لما كان هذا المنهي جديرا بالاجتناب وكأنه اجتنب، عبر عن النهى فيه بصيغة الخبر ورفع الفعل. وقد مضى هذا التقدير بعينه ثم لم يجر مثله في هذه الآية واللَّه أعلم.(1/492)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
المقت. وكان المولود عليه يقال له المقتى. ومن ثم قيل وَمَقْتاً كأنه قيل: هو فاحشة في دين اللَّه بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة ولا مزيد على ما يجمع القبحين. وقرئ: لا تحل لكم بالتاء، على أنّ ترثوا بمعنى الوراثة. وكرها- بالفتح، والضم- من الكراهة والإكراه. وقرئ (بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) من أبانت بمعنى تبينت أو بينت، كما قرئ (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الياء وفتحها. و (يجعل الله) بالرفع، على أنه في موضع الحال: (وآتيتم إحداهن) بوصل همزة إحداهن، كما قرئ (فلا اثم عليه) . فإن قلت: تعضلوهن، ما وجه إعرابه؟ قلت: النصب عطفا على أن ترثوا. و (لا) لتأكيد النفي. أى لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن. فإن قلت: أى فرق بين تعدية ذهب بالباء، وبينها بالهمزة؟ قلت: إذا عدى بالباء فمعناه الأخذ والاستصحاب، كقوله تعالى (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) وأما الإذهاب فكالإزالة. فإن قلت: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ) ما هذا الاستثناء؟ قلت:
هو استثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة. أو: ولا تعضلوهنّ لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة. فإن قلت:
من أى وجه صح قوله: (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا) جزاء للشرط؟ قلت: من حيث أنّ المعنى: فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيراً ليس فيما تحبونه فإن قلت كيف استثني ما قد سلف مما نكح آباؤكم؟ قلت: كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعنى: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوه، فلا يحل لكم غيره.
وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه وسدّ الطريق إلى إباحته، كما يعلق بالمحال في التأبيد نحو قولهم: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
معنى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تحريم نكاحهن «1» لقوله: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ)
__________
(1) . قال محمود: «معناه تحريم نكاحهن ... الخ» قال أحمد: وهذا تفريع على القول بعموم المشترك في معانيه فاستقام تعليق الجار المذكور بهما، واللَّه أعلم(1/493)
ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله. وقرئ (وبنات الأخت) بتخفيف الهمزة. وقد نزل اللَّه الرضاعة منزلة النسب، حتى سمى المرضعة أمّا للرضيع، والمراضعة أختا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدّته، وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه. ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين: إحداهما أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوّج أخت ابنه من الرضاع، لأن المانع في النسب وطؤه أمها. وهذا المعنى غير موجود في الرضاع والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب، ويجوز في الرضاع، لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع مِنْ نِسائِكُمُ متعلق بربائبكم. ومعناه أن الربيبة من المرأة المدخول بها محرمة على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يصح أن يتعلق بقوله وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يتعلق بهن وبالربائب، فتكون حرمتهن وحرمة الربائب غير مبهمتين جميعاً. وإما أن يتعلق بهن دون الربائب، فتكون حرمتهنّ غير مبهمة وحرمة الربائب مبهمة، فلا يجوز الأوّل، لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين، خلاف معناه مع الآخر. ألا تراك أنك إذا قلت: وأمّهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فقد جعلت «من» لبيان النساء، وتمييز المدخول بهنّ من غير المدخول بهنّ. وإذا قلت وربائبكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإنك جاعل «من» لابتداء الغاية، كما تقول: بنات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من خديجة، وليس بصحيح أن يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحد معنيان مختلفان. ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به، ما لم يعترض أمر لا يرد، إلا أن تقول:
أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل «من» للاتصال، كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) فإنى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى: وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهنّ أمهاتهنّ «2» كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهنّ بناتهنّ. هذا وقد
__________
(1) . متفق عليه من حديث عائشة وابن عباس.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولا يجوز الثاني لأن ما يليه هو الذي يستوجب التعليق به ما لم يعترض أمر لا يرد إلا أن تقول: أعلقه بالنساء والربائب، وأجعل من للاتصال، كقوله تعالى: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) فانى لست منك ولست منى. ما أنا من دد ولا الدد منى. وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن ... الخ» قال أحمد: يعنى أن لهذا الاعراب وجها في الصحة، وتكون «من» على هذا مستعملة في معنى واحد من معانيها وهو الاتصال، فيستقيم تعلقها بهما. وقد نقل ذلك عن ابن عباس مذهبا. ونقل أيضا قراءة عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: واللَّه ما نزل إلا هكذا انتهى نقل الزمخشري. والقول المشهور عن الجمهور إبهام تحريم المرأة، ويقيد تحريم الربيبة بدخول الأم كما هو ظاهر الآية.
ولهذا الفرق سر وحكمة، وذلك لأن المتزوج بابنة المرأة لا يخلو بعد العقد وقبل الدخول من محاورة بينه وبين أمها ومخاطبات ومساورات، فكانت الحاجة داعية إلى تنجيز التحريم ليقطع شوقه من الأم فيعاملها معاملة ذوات المحارم، ولا كذلك العاقد على الأم، فانه بعيد عن مخاطبة ابنتها قبل الدخول بالأم، فلم تدع الحاجة إلى تعجيل نشر الحرمة.
وأما إذا وقع الدخول بالأم فقد وجدت مظنة خلطة الربيبة، فحينئذ تدعو الحاجة إلى نشر الحرمة بينهما، واللَّه أعلم.(1/494)
اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب، على ما عليه ظاهر كلام اللَّه تعالى وقد روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه قال «لا بأس أن يتزوج ابنتها، ولا يحل له أن يتزوج أمها» «1» وعن عمر وعمران بن الحصين رضى اللَّه عنهما: أن الأم تحرم بنفس العقد. وعن مسروق: هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل اللَّه. وعن ابن عباس: أبهموا ما أبهم اللَّه، إلا ما روى عن على وابن عباس وزيد وابن عمر وابن الزبير: أنهم قرءوا: وأمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن. وكان ابن عباس يقول: واللَّه ما نزل إلا هكذا. وعن جابر روايتان. وعن سعيد بن المسيب عن زيد: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها، كره أن يخلف على أمّها. وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل: أقام الموت مقام الدخول في ذلك، كما قام مقامه في باب المهر. وسمى ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة، لأنه يربهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما. فإن قلت: ما فائدة قوله في حجوركم «2» ؟ قلت: فائدته التعليل للتحريم، وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم، وفي حكم التقلب في حجوركم إذا دخلتم بأمّهاتهن، وتمكن بدخولكم حكم الزواج وثبتت الخلطة والألفة، وجعل اللَّه بينكم المودة والرحمة، وكانت الحال خليقة بأن تجروا
__________
(1) . أخرجه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في السنن قال ذكر المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
رفعه «أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها. وان لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها. وأيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» وأخرجه أبو يعلى والبيهقي من طريق ابن مبارك عن المثنى به. والمثنى ضعيف لكن رواه الترمذي والبيهقي أيضا من طريق ابن لهيعة عن عمرو به وقال: لا يصح، وإنما يرويه المثنى وابن لهيعة وهما ضعيفان. انتهى. ويشبه أن يكون ابن لهيعة أخذه عن المثنى لأن أبا حاتم قال لم يسمع ابن لهيعة من عمرو بن شعيب شيئا. فلهذا لم يرتق هذا الحديث إلى درجة الحسن.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما فائدة قوله في حجوركم ... الخ» قال أحمد: وهذا مما قدمته من تخصيص أعلى صور المنهي عنه بالمنهى، فان النهى عن نكاح الربيبة المدخول بأمها عام في جميع الصور، سواء كانت في حجر الزوج أو بائنة عنه في البلاد القاصية، ولكن نكاحه لها وهي في حجره أقبح الصور والطبع عنها أنفر، فخصت بالنهى لتساعد الجبلة على الانقياد لأحكام الملة، ثم يكون ذلك تدريبا وتدريجا إلى استقباح المحرم في جمع صوره، واللَّه أعلم.(1/495)
أولادهن مجرى أولادكم، كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه شرط ذلك في التحريم. وبه أخذ داود. فإن قلت: ما معنى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؟ قلت: هي كناية عن الجماع، كقولهم: بنى عليها وضرب عليها الحجاب يعنى أدخلتموهن الستر. والباء للتعدية واللمس. ونحوه يقوم مقام الدخول عند أبى حنيفة. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه خلا بجارية فجردها، فاستوهبها ابن له فقال: إنها لا تحلّ لك. وعن مسروق أنه أمر أن تباع جاريته بعد موته وقال: أما إنى لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدى من اللمس والنظر. وعن الحسن في الرجل يملك الأمة فيغمزها لشهوة أو يقبلها أو يكشفها: أنها لا تحل لولده بحال وعن عطاء وحماد بن أبى سليمان: إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا ابنتها. وعن الأوزاعى: إذا دخل بالأم فعرّاها ولمسها بيده وأغلق الباب وأرخى الستر، فلا يحلّ له نكاح ابنتها. وعن ابن عباس وطاوس وعمرو بن دينار: أن التحريم لا يقع إلا بالجماع وحده الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ دون من تبنيتم. وقد تزوج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة «1» ، وقال عزّ وجلّ (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) . وَأَنْ تَجْمَعُوا في موضع الرفع عطف على المحرمات، أى وحرّم عليكم الجمع بين الأختين. والمراد حرمة النكاح، لأنّ التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين، فعن عثمان وعلى رضى اللَّه عنهما أنهما قالا: أحلتهما آية وحرّمتهما آية «2» يعنيان هذه الآية وقوله: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فرجح على التحريم، وعثمانُ التحليل «3» . إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «4» ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس بغير هذا اللفظ.
(2) . أما حديث عثمان ففي الموطأ عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب «أن عثمان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى» وأخرجه الشافعي عن مالك وابن أبى شيبة من طريق مالك والدارقطني من طريق معمر عن الزهري وهو أشبه بلفظ المصنف. وأما حديث على فرواه البزار وابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية أبى صالح الحنفي قال قال على للناس: سلوني فقال ابن الكواء حدثنا يا أمير المؤمنين عن الأختين المملوكتين. قال: أحلتهما آية وحرمتها أخرى وإنى لا أحله ولا أنهى عنه ولا أفعله أنا ولا أحد من أهل بيتي.
(3) . أما عثمان فلم أجد عنه التصريح بالتحليل وإنما توقف، وأما على ففي رواية الموطأ ثم خرج السائل فلقى رجلا من الصحابة قال الزهري أحسبه قال على فسأله فقال له. ولكنى أنهاك ولو كان لي سبيل على فعله لجعلته نكالا.
(4) . قال أحمد: موقع هذا الاستثناء كموقع نظيره المقدم ذكره عند قوله: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء على الوجه الذي بينت، وهو أن هذا النهى لكونه جديرا بأن يمتثل أجرى مجرى الاخبار عن امتثاله، حتى كأنه قيل: لا يقع شيء من هذه المحرمات إلا السالف منها لا غير. أو على الوجه الذي بينه الزمخشري فيما تقدم، وهو أن يكون المراد إلا ما قد سلف فانه غير محرم فتعاطوه إن كان ممكنا، من باب التعليق على المحال بتا للتحريم، إلا أن الزمخشري لم يسلك هذا المسلك هاهنا لأن قوله: (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يرشد إلى أن المراد إلا ما قد سلف فانه مغفور لاستثنائه في الآية الأولى لأنه عقبه ثم بقوله: (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) فقدر في كل آية ما يناسب سياقها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.(1/496)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
وَالْمُحْصَناتُ القراءة بفتح الصاد. وعن طلحة بن مصرف أنه قرأ بكسر الصاد. وهنّ ذوات الأزواج، لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزويج، فهنّ محصنات ومحصنات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: ما ملكت أيمانهم من اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الكفر فهنّ حلال لغزاة المسلمين وإن كنّ محصنات. وفي معناه قول الفرزدق:
وَذَاتُ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِى بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ «1»
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أى كتب اللَّه ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا، وهو تحريم ما حرّم. فإن قلت: علام عطف قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب (كِتابَ اللَّهِ) أى كتب اللَّه عليكم تحريم ذلك، وأحلّ لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني: كتب اللَّه عليكم، وأحلّ لكم. وروى عن اليماني: كتب اللَّه عليكم، على الجمع والرفع أى هذه فرائض اللَّه عليكم. ومن قرأ: وأحلّ لكم، على البناء للمفعول، فقد عطفه على حرمت.
أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له بمعنى بين لكم ما يحلّ مما يحرم، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بِأَمْوالِكُمْ التي جعل اللَّه لكم قياما في حال كونكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
والإحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والأموال: المهور وما يخرج في المناكح. فإن قلت: أين مفعول تبتغوا؟ قلت: يجوز أن يكون مقدّراً وهو النساء. والأجود أن لا يقدر، وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ويجوز أن يكون (أَنْ تَبْتَغُوا) بدلا من (وَراءَ ذلِكُمْ) والمسافح الزاني، من السفح وهو صبّ المنىّ. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحينى وماذينى من المذي فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد
__________
(1) . للفرزدق، أنشده في مجلس الحسن البصري حين سئل رضى اللَّه عنه عن سبى المرأة والتسرى بها ولها حليل، فقال: كنت أراك أشعر، فإذا أنت أشعر وأفقه. أى: ورب صاحبة حليل تسببت الرماح في تزويجها، فاسناد الانكاح إلى الرماح مجاز عقلى، حلال: خبر ذات حليل، والبناء عليها: كناية عن الدخول بها، لأن الزوج يبنى لها بيتا عند الدخول عادة «لم تطلق» جملة حالية من ضمير بها.(1/497)
عليهنّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عليه، فأسقط الراجع إلى «ما» لأنه لا يلبس، كقوله: (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بإسقاط منه. ويجوز أن تكون «ما» في معنى النساء، و «من» للتبعيض أو البيان، ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به، وعلى المعنى في: (فَآتُوهُنَّ) وأجورهن مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد، أى فرض ذلك فريضة فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله أو يزيد لها على مقداره. وقيل فيما تراضياه به من مقام أو فراق وقيل: نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام «1» حين فتح اللَّه مكة على رسوله عليه الصلاة والسلام ثم نسخت، كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غير ذلك، ويقضى منها وطره ثم يسرحها. سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. وعن عمر:
لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة «2» . وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أباحها، ثم أصبح يقول «يا أيها الناس إنى كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء: ألا إن اللَّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة» «3» وقيل: أبيح مرتين وحرّم مرتين. وعن ابن عباس هي محكمة «4» يعنى لم تنسخ، وكان يقرأ: فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى. ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال: اللهم إنى أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي في الصرف «5»
__________
(1) . قوله «في المتعة التي كانت ثلاثة أيام» أى أبيحت هذه المدة ثم نسخت. (ع)
(2) . أخرجه مسلم وابن حبان من طريق جابر عنه في أثناء حديث.
(3) . أخرجه مسلم من رواية الربيع بن ميسرة عن أبيه (فائدة) «قوله ثم أصبح» لم يرد أنه قال ذلك صبيحة الليلة التي أباحه قبلها بيوم، بل أراد أنه قال ذلك صباحا. [.....]
(4) . لم أجده.
(5) . أما رجوعه عن المتعة فرواه الترمذي بسند ضعيف عنه. وأما قوله «اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة» فلم أجده. وأما قوله «أتوب إليك من قولي بالصرف» فروى عنه معنى ذلك من أوجه: منها ما رواه أبو يعلى من طريق عبد الرحمن بن أبى نعيم قال: جاء أبو سعيد إلى ابن عباس فذكر مناظرته إياه في الصرف وفيه فقال: فسمعته بعد ذلك يقول: اللهم إنى أتوب إليك مما كنت أفتى به الناس في الصرف. وللنسائى في الكنى من وجه آخر عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما. أنه سمعه يقول «أستغفر اللَّه وأتوب إليه من قولي في الصرف» ولابن عدى من رواية داود بن على عن أبيه عن جده أنه ترك قوله في الصرف حين سمع أبا سعيد يروى النهى عنه. ولابن ماجة من رواية أبى الجوزاء سمعت ابن عباس يأمر بالصرف ثم بلغني أنه رجع. ثم لقيته بمكة فقال نعم إنما كان رأيا منى. وللحاكم من طريقه نحوه. وللطبراني من رواية بكر بن عبد اللَّه الزنى مطولا. وفيه «وإنى أستغفر اللَّه وأتوب إليه» وللبخاري في التاريخ من رواية ابن سيرين قال أشهد على اثنى عشر من أصحاب ابن مسعود أنهم شهدوا ابن عباس تاب من قوله في الصرف:
منهم عبيدة السلماني. وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن أبى هشام الواسطي عن زياد قال: كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما.(1/498)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
الطول: الفضل، يقال: لفلان على فلان طول أى زيادة وفضل. وقد طاله طولا فهو طائل. قال:
لَقدْ زَادَنِى حُبًّا لِنَفْسِى أنَّنِى ... بَغِيضٌ إلَى كُلِّ امْرِىءٍ غيْرِ طَائِلِ «1»
ومنه قولهم: ما حلا منه بطائل، أى بشيء يعتد به مما له فضل وخطر. ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. والمعنى: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة «2» يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أمة. قال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء»
وهو الظاهر، وعليه مذهب الشافعي رحمه اللَّه. وأمّا أبو حنيفة رحمه اللَّه فيقول:
الغنىّ والفقير سواء في جواز نكاح الأمة، ويفسر الاية بأن من لم يملك فراش الحرّة، على أن
__________
(1) .
لقد زادني حبا لنفسي أننى ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
إذا ما رآني قطع الطرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهل
للطرماح بن حكيم، يقول: لقد زادني بغضي لغير المحسن حبى لنفسي، لأنى إذا كرهته لبخله علمت أني بضده، وأن نفسي كريمة فأحببتها، إذا رآني غض بصره عنى، فكأنه قطع امتداده بيني وبينه كما يفعل العارف بالشيء المتغافل عنه، كراهة لرؤيتى، أو استحياء منى.
(2) . قال محمود: «معناه ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة ... الخ» قال أحمد: وعلى هذا يكون الطول عند أبى حنيفة: وجود الحرة تحته، وهو أحد القولين لمالك رضى اللَّه عنه، لكن يبعد هذا المعنى، لأن الطول عند مالك في أحد قوليه: القدرة بالمال على نكاح الحرة خاصة، حتى لو كانت الحرة تحته فأراد نكاح الأمة عجزاً عن حرة أخرى جاز له ذلك. وفي القول الآخر: الطول أحد الأمرين، إما القدرة بالمال على نكاح الحرة، وإما وجود الحرة تحته حتى لا يجوز له نكاح أمة على حرة إن كان عاجزا عن حرة أخرى. ومقتضى ما نقله المصنف عن أبى حنيفة: أنه لا يجوز لمن تحته حرة نكاح أمة. وأنه يجوز لمن ليست تحته حرة أن ينكح الأمة ولو كان غنيا، وهو قول لا يساعده ظاهر الآية، لأن الاستطاعة تثبت وإن لم يفعل المستطيع بمقتضاها- فالمستطيع لنكاح الحرة:
ذو الطول، وإن لم يكن تحته الحرة. وتفسير الاستطاعة على مذهب أبى حنيفة بعيد جداً.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية النزال بن سبرة عنه بهذا.(1/499)
النكاح هو الوطء، فله أن ينكح أمة. وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: ومما وسع اللَّه على هذه الأمّة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً. وكذلك قوله مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ الظاهر أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهو مذهب أهل الحجاز. وعند أهل العراق يجوز نكاحها، ونكاح الأمة المؤمنة أفضل، فحملوه على الفضل لا على الوجوب، واستشهدوا على أن الإيمان ليس بشرط بوصف الحرائر به، مع علمنا أنه ليس بشرط فيهن على الاتفاق، ولكنه أفضل. فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين. وقوله مِنْ فَتَياتِكُمُ أى من فتيات المسلمين، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين. فإن قلت: فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ؟ قلت: معناه أن اللَّه أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أى أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان، لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن «1» . ويحتج به لقول أبى حنيفة أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز. فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي. أو على أن أصله: فآتوا مواليهن، فحذف المضاف الْمُحْصَناتِ عفائف.
والأخدان: الأخلاء في السرّ، كأنه قيل: غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرات له فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزويج. وقرئ: أحصن نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أى الحرائر مِنَ الْعَذابِ من الحدّ كقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) و (يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ولا رجم عليهن، لأن الرجم لا يتنصف ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ لمن خاف الإثم الذي يؤدى إليه غلبة الشهوة. وأصل العنت: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم. وقيل: أريد به الحدّ، لأنه إذا هويها خشي أن يواقعها فيحدّ فيتزوجها
__________
(1) . قال محمود: «هذا اشتراط لاذن الموالي في نكاحهن ... الخ» قال أحمد: وليس في الآية اشتراط إذن المولى لمن يتولى عقد نكاح أمته، ومتولى العقد ومباشرته مسكوت عنه في الآية، فيحمل على إذنه لوكيله في العقد على أمته، ولا يلزم أن تكون الأمة هي المباشرة، ولا دليل في الآية على ذلك، واللَّه أعلم.(1/500)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
وَأَنْ تَصْبِرُوا في محل الرفع على الابتداء، أى وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت» «1»
[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أصله يريد اللَّه أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في: لا أبالك، لتأكيد إضافة الأب. والمعنى: يريد اللَّه أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويرشدكم إلى طاعات إن قمتم بها كانت كفارات لسيئاتكم فيتوب عليكم ويكفر لكم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات. وقيل: هم اليهود. وقيل: المجوس: كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهنّ اللَّه قالوا: فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت. يقول تعالى: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إحلال نكاح الأمة وغيره من الرخصّ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وعن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء، فقد أتى علىّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينىّ وأنا أعشو بالأخرى. وإن أخوف ما أخاف علىّ فتنة النساء. وقرئ: أن يميلوا بالياء. والضمير للذين يتبعون الشهوات. وقرأ ابن عباس (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ) على البناء للفاعل ونصب الإنسان وعنه رضى اللَّه عنه: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس
__________
(1) . أخرجه الثعلبي من رواية أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي. حدثنا أحمد بن يوسف العجلى. حدثنا يونس بن مرداس خادم أنس. قال «كنت مع أنس وأبى هريرة فقال أنس: إنى سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: من أحب أن يلقى اللَّه طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر. وقال أبو هريرة سمعته يقول: الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت. أو قال هلاك البيت» قلت: في إسناده أحمد بن محمد وهو متروك وكذبه أبو حاتم ويونس لا أعرفه.(1/501)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وغربت: «1» (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) ، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) ، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)
، (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ) .
[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
بِالْباطِلِ بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً إلا أن تقع تجارة. وقرئ تجارة على: إلا أن تكون التجارة تجارة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ والاستثناء منقطع. معناه: ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض منكم.
أو ولكن كون تجارة عن تراض غير منهى عنه. وقوله: (عَنْ تَراضٍ) صفة لتجارة، أى تجارة صادرة عن تراض. وخص التجارة بالذكر، لأنّ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
والتراضي رضا المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه تعالى. وعند الشافعي رحمه اللَّه تفرّقهما عن مجلس العقد متراضيين وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين. وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة. وعن عمرو بن العاصي: أنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم «2» . وقرأ على رضى اللَّه عنه (وَلا تَقْتُلُوا)
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الشعب في الباب السابع والأربعين من رواية صالح المزي عن قتادة، قال ابن عباس «ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس: أولهن (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) فذكره وهو عند الطبري من هذا الوجه. وصالح ضعيف وقتادة عن ابن عباس منقطع.
(2) . أخرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن جبير عن ابن العاص قال «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إنى سمعت اللَّه يقول (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فضحك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولم يقل شيئا» وعلقه البخاري فقال: يذكر عن عمرو بن العاص، وهذا الحديث اختلف فيه على يزيد بن أبى حبيب عن عمران بن أنس عن عبد الرحمن فرواه عنه يحيى بن أيوب هكذا وخالف عمرو بن الحارث سندا ومتنا: أما السند فزاد بين عبد الرحمن وعمر وأبا قيس مولى عمرو، وأما المتن فقال بدل التيمم: فتوضأ وغسل مغابنه» ووافق يحيى بن أيوب عليه ابن لهيعة عند إسحاق بن راهويه وأخرجه أحمد بالسند الأول، وأخرجه ابن حبان بالسند الثاني، وأخرجه بالسندين الحاكم والدارقطني.(1/502)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
بالتشديد إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ما نهاكم عما يضركم إلا لرحمته عليكم. وقيل: معناه أنه أمر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة ذلِكَ إشارة إلى القتل، أى ومن يقدم على قتل الأنفس عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا اقتصاصا. وقرئ (عُدْواناً) بالكسر. ونُصْلِيهِ بتخفيف اللام وتشديدها. و (نُصْلِيهِ) بفتح النون من صلاه يصليه. ومنه شاة مصلية، ويصليه بالياء والضمير للَّه تعالى، أو لذلك، لكونه سببا للصلى ناراً أى ناراً مخصوصة شديدة العذاب وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنّ الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وقرئ: كبير ما تنهون عنه، أى ما كبر من المعاصي التي ينهاكم اللَّه عنها والرسول نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ نمط ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم، وتجعلها كأن لم تكن، لزيادة الثواب المستحق على اجتنابكم الكبائر وصبركم عنها، على عقاب السيئات. والكبيرة والصغيرة إنما وصفتا بالكبر والصغر بإضافتهما إما إلى طاعة أو معصية أو ثواب فاعلهما «1» . والتكفير: إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد، أو بتوبة.
والإحباط: نقيضه، وهو إماطة الثواب المستحق بعقاب أزيد أو بندم على الطاعة. وعن على رضى اللَّه عنه: الكبائر سبع: الشرك، والقتل، والقذف، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة «2» . وزاد ابن عمر: السحر، واستحلال البيت الحرام. وعن ابن عباس: أن رجلا قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار «3» . وروى إلى سبعين. وقرئ: يكفر، بالياء.
و (مُدْخَلًا) بضم الميم وفتحها، بمعنى المكان والمصدر فيهما.
__________
(1) . قوله «أو ثواب فاعلهما» أى جزائه. ويمكن أن أصل العبارة «ثواب تاركهما» فحرفها الناسخ فلتحرر. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن سهل بن خيثمة عن أبيه، قال «إنى لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلى يخطب» فذكره. وقوله: «وزاد ابن عمر استحلال البيت الحرام، أخرجه أبو داود من طريقه مرفوعا، وأخرجه الثعلبي موقوفا.
(3) . قال عبد الرزاق، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال قيل لابن عباس: الكبائر سبع. قال: هي إلى السبعين أقرب. وروى الطبري من رواية قيس ابن سعد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «أن رجلا سأله عن الكبائر أسبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب لأنه لا صغيرة......» إلى آخره.(1/503)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
وَلا تَتَمَنَّوْا نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل اللَّه به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من اللَّه صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يحسد أخاه على حظه لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف اللَّه من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسباً له وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا اللَّه من خزائنه التي لا تنفد. وقيل: كان الرجال قالوا: إن اللَّه فضلنا على النساء في الدنيا: لنا سهمان ولهن سهم واحد، فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على الأعمال ولهنّ أجر واحد، فقالت أم سلمة ونسوة معها: ليت اللَّه كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم. فنزلت.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
مِمَّا تَرَكَ تبيين لكل، أى: ولكل شيء مما ترك الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من المال جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه: أو ولكل قوم جعلناهم موالي، نصيب مما ترك الوالدان والأقربون على أن (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة لكل، والضمير الراجع إلى كل محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، كما تقول: لكل من خلقه اللَّه إنسانا من رزق اللَّه، أى حظ من رزق اللَّه، أو: ولكل أحد جعلنا موالي مما ترك، أى ورّاثا مما ترك، على أن «من» صلة موالي، لأنهم في معنى الورّاث، وفي: (تَرَكَ) ضمير كلّ، ثم فسر الموالي بقوله: (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الوالدان والأقربون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ مبتدأ ضمن معنى الشرط. فوقع خبره مع الفاء وهو قوله فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ويجوز أن يكون منصوباً على قولك: زيداً فاضربه. ويجوز أن يعطف على الوالدان، ويكون المضمر في: (فَآتُوهُمْ) للموالي، والمراد بالذين عاقدت أيمانكم: موالي الموالاة(1/504)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: دمى دمك، وهدمي هدمك «1» ، وثأرى ثأرك، وحربى حربك، وسلمى سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بى وأطلب بك، وتعقل عنى وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه خطب يوم الفتح فقال «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، فإنه لم يزده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام «2» » وعند أبى حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح عنده وورث بحق الموالاة خلافا للشافعي. وقيل: المعاقدة التبني. ومعنى عاقدت أيمانكم: عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم. وقرئ (عَقَدَتْ) بالتشديد والتخفيف بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم.
[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا. وسموا قوّما لذلك. والضمير في بَعْضَهُمْ للرجال والنساء جميعاً، يعنى إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل اللَّه بعضهم وهم الرجال، على بعض وهم النساء. وفيه دليل على أنّ الولاية إنما تستحق بالفضل، لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة- في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم وَبِما أَنْفَقُوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور
__________
(1) . قوله «دمى دمك وهدمي هدمك» في الصحاح الهدم- بالتحريك-: ما تهدم من جوانب البئر فسقط فيها. ويقال: دماؤهم بينهم هدم: أى هدر. وهدم أيضا بالتسكين، إذا لم يودوا. (ع)
(2) . هو مركب من حديثين أخرجهما الطبري من حديث قيس بن عاصم «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:
ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به» ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: فوا بالحلف، فانه لا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام» وفي الباب عن جبير بن مطعم رفعه: «لا حلف في الإسلام» أخرجاه. [.....](1/505)
والنفقات. وروى أنّ سعد بن الربيع وكان نقيبا من نقباء الأنصار نشرت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال:
أفرشته كريمتي فلطمها فقال: «لتقتصّ منه» فنزلت، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «أردنا أمراً وأراد اللَّه أمرا، والذي أراد اللَّه خير» «1» ، ورفع القصاص. واختلف في ذلك، فقيل لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها، ولكن يجب العقل. وقيل: لا قصاص إلا في الجرح والقتل. وأما اللطمة ونحوها فلا قانِتاتٌ مطيعات قائمات بما عليهنّ للأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ الغيب خلاف الشهادة، أى حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهنّ حفظهن ما يجب عليهنّ حفظه في حال الغيبة، من الفروج والبيوت والأموال. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» وتلا الآية «2» وقيل (لِلْغَيْبِ) لأسرارهم بِما حَفِظَ اللَّهُ بما حفظهنّ اللَّه حين أوصى بهنّ الأزواج في كتابه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام فقال: «استوصوا بالنساء خيراً» «3» أو بما حفظهنّ اللَّه وعصمهنّ ووفقهنّ لحفظ الغيب، أو بما حفظهنّ حين وعدهنّ الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعذاب الشديد على الخيانة. و «ما» مصدرية.
وقرئ (بِما حَفِظَ اللَّهُ) بالنصب على أنّ ما موصولة، أى حافظات للغيب بالأمر الذي يحفظ حق اللَّه وأمانة اللَّه، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقرأ ابن مسعود: فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ اللَّه فأصلحوا إليهنّ. نشوزها ونشوصها: أن تعصى زوجها ولا تطمئن إليه وأصله الانزعاج فِي الْمَضاجِعِ في المراقد. أى لا تدخلوهن تحت اللحد أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع وقيل: في المضاجع: في بيوتهن التي يبتن فيها. أى
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي والواحدي عن مقاتل به. ولأبى داود في المراسيل وابن أبى شيبة والطبري عن الحسن أن رجلا لطم وجه امرأته: فأتت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فشكت إليه. فقال: القصاص. فنزلت (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) ولابن مردويه عن على بإسناده أو نحوه. ولم يقل «القصاص» وزاد «أردت أمراً وأراد اللَّه غيره» .
(2) . أخرجه أبو داود والحاكم والترمذي من رواية مجاهد عن ابن عباس «لما نزلت الذين يكنزون الذهب والفضة، الحديث- وفيه ألا أخبركم بخير ما يكنز: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته. وإذا غاب عنها حفظته» وللنسائى من رواية سعيد المقبري عن أبى هريرة قال «سئل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن خير النساء فقال: التي تطيع إذا أمر وتسر إذا نظر. وتحفظه في نفسها وماله» وإسناده حسن. وأخرجه البزار والحاكم والطبري وغيرهم من طرق عن سعيد. وفي الباب عن أبى أمامة عند ابن ماجة وإسناده ساقط. وعن عبد اللَّه بن سلام عند الطبراني. وعن ثوبان وغيرهم.
(3) . متفق عليه من حديث أبى حازم عن أبى هريرة. وقد تقدم من وجه آخر.(1/506)
لا تبايتوهن. وقرئ: في المضجع، وفي المضطجع. وذلك لتعرّف أحوالهن وتحقق أمرهن في النشوز. أمر بوعظهن أوّلا «1» ، ثم هجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقيل: معناه أكرهوهن «2» على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شدّه بالهجار.
وهذا من تفسير الثقلاء. وقالوا: يجب أن يكون ضربا غير مبرِّح لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ويجتنب الوجه. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم: «علق سوطك حيث يراه أهلك» «3» وعن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى اللَّه عنهما: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوّام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب «4» حتى يكسره عليها «5» . ويروى عن الزبير أبيات منها:
وَلَوْلَا بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا
فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ والتجني، وتوبوا عليهن واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن بعد رجوعهن إلى الطاعة والانقياد وترك النشوز إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه واعلموا أنّ قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم.
ويروى أن أبا مسعود الأنصارى رفع سوطه ليضرب غلاما له، فبصر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فصاح به: أبا مسعود، للَّه أقدر عليك منك عليه، فرمى بالسوط وأعتق الغلام «6» . أو إن اللَّه كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه، ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجيء عليكم إذا رجع.
__________
(1) . قال محمود: «أمر اللَّه بوعظهن أولا ... الخ» قال أحمد: وهذا الترتيب بين هذه الأفعال المعطوفة غير متلقى من صيغة لفظية، إذ العطف بالواو وهي مسلوبة الدلالة على الترتيب متمحضة الاشعار بالجمعية فقط. وإنما يتلقى الترتيب المذكور من قرائن خارجة عن اللفظ مفهومة من مقصود الكلام وسياقه.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «وقيل معناه أكرهوهن ... الخ» قال أحمد: ولعل هذا المفسر يتأيد بقوله (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) فانه يدل على تقدم إكراه على أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع. وإطلاق الزمخشري لما أطلقه في حق هذا المفسر من الافراط.
(3) . أخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث ابن عباس، وفيه ابن أبى ليلى القاضي وفيه ضعف. وفي الباب عن ابن عمرو أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة الحسن بن صالح من روايته عن عبد اللَّه بن دينار عنه، بلفظ «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم اللَّه رجلا يعلق السوط حيث يراه أهل البيت» وعن جابر رفعه «رحم اللَّه رجلا يعلق في بيته سوطا يؤدب به أهله» وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف.
(4) . قوله «ضربها بعود المشجب» في الصحاح: المشجب الخشبة التي تلقى عليها الثياب. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي من رواية أبى أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عنها بهذا وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن هشام عن أبيه قال «كان الزبير شديداً على النساء ويكسر عليهن عيدان المشاجب» وقال ابن أبى شيبة حدثنا حفص بن غياث، حدثنا هشام به.
(6) . أخرجه مسلم من حديثه نحوه وقال في آخره «أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار» .(1/507)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
شِقاقَ بَيْنِهِما أصله: شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على طريق الاتساع، كقوله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وأصله: بل مكر في الليل والنهار. أو على أن جعل البين مشاقا والليل والنهار ماكرين، على قولهم: نهارك صائم. والضمير للزوجين. ولم يجر ذكرهما لجرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعاً رضياً يصلح لحكومة العدل والإصلاح بينهما، وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما، لأنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإنما تسكن إليهم نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته وما يزويانه عن الأجانب ولا يحبان أن يطلعوا عليه. فإن قلت: فهل يليان الجمع بينهما والتفريق إن رأيا ذلك؟ قلت: قد اختلف فيه، فقبل: ليس إليهما ذلك إلا بإذن الزوجين. وقيل: ذلك إليهما، وما جعلا حكمين إلا وإليهما بناء الأمر على ما يقتضيه اجتهادهما. وعن عبيدة السلماني: شهدت علياً رضى اللَّه عنه وقد جاءته امرأة وزوجها ومع كل واحد منهما فئام «1» من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما «2» . فقال علىّ رضى اللَّه عنه للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. فقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علىّ: كذب واللَّه لا تبرح حتى ترضى بكتاب اللَّه لك وعليك. فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللَّه لي وعلىّ. وعن الحسن: يجمعان ولا يفرقان. وعن الشعبي: ما قضى الحكمان جاز. والألف في إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً للحكمين. وفي يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما للزوجين أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه اللَّه، بورك في وساطتهما، وأوقع اللَّه بطيب نفسهما وحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والألفة، وألقى في نفوسهما المودّة والرحمة. وقيل: الضميران للحكمين، أى إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق اللَّه بينهما، فيتفقان على الكلمة الواحدة، ويتساندان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض ويتم المراد. وقيل: الضميران للزوجين. أى: إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلبا الخير وأن يزول عنهما الشقاق يطرح اللَّه بينهما الألفة، وأبدلهما بالشقاق وفاقا وبالبغضاء مودة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) .
[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
__________
(1) . قوله «فئام من الناس» في الصحاح: الفئام الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه اه. (ع)
(2) . أخرجه الشافعي من رواية ابن سيرين عنه. وعبد الرزاق والدارقطني والطبري وغيرهم من طريقه.(1/508)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأحسنوا بهما إحسانا وَبِذِي الْقُرْبى وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي جواره بعيد. وقيل الجار: القريب النسيب، والجار الجنب: الأجنبى. وأنشد لبلعاء ابن قيس:
لَا يَجْتَوِينَا مُجَاوِرٌ أَبَداً ... ذُو رَحِمٍ أَوْ مُجاوِرٌ جُنُبُ «1»
وقرئ: والجار ذا القربى، نصبا على الاختصاص. كما قرئ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحق الجوار والقربى وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الذي صحبك بأن حصل بجنبك، إما رفيقا في سفر، وإما جاراً ملاصقاً، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة، وإما قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب: المرأة وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع به. وقيل الضيف، والمختال: التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه، فلا يتحفى بهم «2» ولا يلتفت إليهم. وقرئ:
والجار الجنب، بفتح الجيم وسكون النون.
[سورة النساء (4) : آية 37]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: (مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) أو نصب على الذم. ويجوز أن يكون رفعاً عليه، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، كأنه قيل: الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون، أحقاء بكل ملامة. وقرئ (بِالْبُخْلِ) بضم الباء وفتحها. وبفتحتين. وبضمتين: أى يبخلون بذات أيديهم، وبما في أيدى غيرهم. فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتا للسخاء ممن وجد. وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره. قال:
__________
(1) . لبلغان بن قيس. ويروى: بلعاء. والرحم: القرابة. والجنب: صفة مشبهة بمعنى الأجنبى، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمتعدد. يقول: لا يكرهنا الجار النسيب، ولا الجار الجنيب أبدا، لحسن عشرتنا.
(2) . قوله «فلا يتحفى بهم» في الصحاح: تحفيت به، أى بالغت في إكرامه وإلطافه. (ع)(1/509)
وَإن امْرَا ضَنَّتْ يَدَاهُ عَلَى امْرِىءٍ ... بِنَيْلِ يَدٍ مِنْ غَيْرِهِ لَبَخِيلُ «1»
ولقد رأينا ممن بلى بداء البخل، من إذا طرق سمعه أنّ أحدا جاد على أحد، شخص «2» به وحلّ حبوته، واضطرب، ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله وكسرت خزانته، ضجراً من ذلك وحسرة على وجوده. وقيل: هم اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وقد عابهم اللَّه بكتمان نعمة اللَّه وما آتاهم من فضل الغنى والتفاقر إلى الناس. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «إذا أنعم اللَّه على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته على عبده» «3» وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره، فنمّ به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك، فأعجبه كلامه. وقيل: نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
(1) .
سأقطع أرسان القباب بمنطق ... قصير عناء الفكر فيه طويل
وإن امرأ ضنت يداه على امرئ ... بنيل يد من غيره لبخيل
لأبى تمام. وقيل للبحترى. والأرسان: الحبال. والقباب التي لها أرسان: البيوت المنسوجة، جمع قبة وهي الخيمة.
وهودج مقبب: فوقه قبة. والمراد أنه يتسبب في ارتحال قوم بخلاء، ففيه مجاز عقلى حيث أسند القطع إلى سببه، وكناية حيث عبر عن الارتحال بقطع حبال البيوت. ويجوز أن المراد أنه يسكت قوما يدعون الفخر، ويهدم شرفهم وعظمتهم، ويظهر ضعتهم وخستهم، فشبه تلك الحال بحال قطع حبال البيوت المرتفعة المطنبة، فتنخفض بعد ارتفاعها وتخر ساقطة بعد انتصابها، على سبيل الاستعارة التمثيلية، وهذا أقرب إلى المقام، ويجوز أنه شبه المفاخر بالقباب بجامع العظم ومطلق الشرف والعلو في كل على طريق التصريح، وإثبات الأرسان لها ترشيح، أى: سأبطل دعوى من يدعى المفاخر وليس من أهلها بقول قصير ولكن تعب الفكر فيه طويل المدة. وفيه الطباق بين القصير والطويل. وبين ذلك المنطق بقوله «وإن امرأ بخلت يداه» وأسند البخل إلى اليد لأنها آلة الإعطاء، فكأن المنع منها بنيل يداي نعمة، ويحتمل أن اليد حقيقة، وأضاف النيل إليها لأنها آلته «لبخيل» أى لبليغ في البخل، فالتنوين للتعظيم. [.....]
(2) . قوله «شخص به وحل حبوته» في الصحاح: يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به. (ع)
(3) . أخرجه ابن حبان والحاكم من رواية أبى إسحاق عن أبى الأحوص عن أبيه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رآه في هيئة سيئة فقال: أما لك مال؟ فقال: من كل المال آتاني اللَّه. قال: فهلا عليك. إن اللَّه إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه» وللترمذي عن همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه «إن اللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وللطبراني من حديث عمران بن حصين نحوه ولأحمد وإسحاق من رواية ابن وهب عن أبى هريرة رفعه «ما أنعم اللَّه على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه» ولأبى يعلى والبيهقي في الشعب من رواية عطية عن أبى سعيد رفعه «إن اللَّه جميل يحب الجمال، ويحب أنه يرى نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتبؤس» ولابن عدى عن جابر رفعه «إن اللَّه ليحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وفيه عصمة بن محمد الأنصارى وهو منكر الحديث وللطبراني في مسند الشاميين عن أنس رفعه «إن اللَّه جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وهو من رواية عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عنه. ورواه في الأوسط من رواية موسى بن عيسى القرشي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر نحوه.(1/510)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
[سورة النساء (4) : الآيات 38 الى 39]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
رِئاءَ النَّاسِ للفخار، وليقال: ما أسخاهم وما أجودهم، لا ابتغاء وجه اللَّه. وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فَساءَ قَرِيناً حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر. ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأنّ الشيطان يقرن بهم في النار وَماذا عَلَيْهِمْ وأى تبعة ووبال عليهم في الايمان والإنفاق في سبيل اللَّه والمراد الذم والتوبيخ. وإلا فكل منفعة ومفلحة في ذلك. وهذا كما يقال للمنتقم: ما ضرك لو عفوت. وللعاق:
ما كان يرزؤك لو كنت بارا، وقد علم أنه لا مضرة ولا مرزأة في العفو والبر. ولكنه ذم وتوبيخ وتجهيل بمكان المنفعة وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً وعيد.
[سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
الذرّة: النملة الصغيرة. وفي قراءة عبد اللَّه: مثقال نملة. وعن ابن عباس: أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وفيه دليل على أنه لو نقص من الأجر أدنى شيء وأصغره، أو زاده في العقاب لكان ظلما، وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً وإن يكن مثقال ذرّة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال «1» لكونه مضافا إلى مؤنث. وقرئ- بالرفع- على كان التامة يُضاعِفْها يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير
__________
(1) . قال محمود: «وإنما أنث الضمير وهو للمثقال ... الخ» قال أحمد: وقد تقدم له مثل ذلك في قوله: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) وقد بينا ثم أن عوده إلى الحفرة جائز، بل أولى. وكذلك عوده هاهنا إلى الذرة. ولا يمنع ذلك كون المضاف إليه غير مخبر عنه، لأن عود الضمير لا يستلزم الاخبار عنه في الكلام الأول.
ويجوز: كانت دابتك، وكل ذلك أسهل من اكتساب المضاف للتأنيث من المضاف إليه. فقد نص أبو على في التعاليق على أنه شاذ.(1/511)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
المتناهية. وعن أبى عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول «إن اللَّه تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة:
لا، بل سمعته يقول «إن اللَّه تعالى يعطيه ألفى ألف حسنة» «1» ثم تلا هذه الآية. والمراد: الكثرة لا التحديد وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ويعط صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما وسماه (أَجْراً) لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. وقرئ: يضعفها بالتشديد والتخفيف، من أضعف وضعف: وقرأ ابن هرمز: نضاعفها بالنون فَكَيْفَ يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله: (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) . وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ المكذبين شَهِيداً وعن ابن مسعود: أنه قرأ سورة النساء على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى بلغ قوله: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فبكى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: «حسبنا» «2» لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. وقيل: يودّون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء وقيل: تصير البهائم تراباً، فيودّون حالها وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل الواو للحال، أى يودون أن يدفنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون اللَّه حديثا. ولا يكذبون في قولهم: واللَّه ربنا ما كنا مشركين، لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم اللَّه على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض: وقرئ: تسوى، بحذف التاء من تتسوى. يقال: سويته فتسوّى نحو: لوّيته فتلوى. وتسوى بإدغام التاء في السين، كقوله: يسمعون، وماضيه أسوى كأزكى.
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
__________
(1) . أخرجه أحمد والبزار والطبري وابن أبى شيبة من رواية على بن زيد بن جدعان عن أبى عثمان. ولفظه بلغني أن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن اللَّه يضعف الحسنة لعبده المؤمن ألف ألف حسنة فانطلقت فلقيت أبا هريرة، فقلت: بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: إن اللَّه يعطى بالحسنة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: بل سمعته يقول: إن اللَّه يعطيه ألفى ألف حسنة ثم تلا (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) - إلى قوله (أَجْراً عَظِيماً) فمن يدرى قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «أجراً عظيما» لم يرفعه ابن أبى شيبة قال البزار لا نعلمه يروى عن أبى هريرة إلا بهذا الاسناد. كذا قال. وقد أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي في الزهد من طريق زياد الجصاص عن أبى عثمان نحوه. وأخرجه عبد الرزاق عن أبان عن أبى العالية قال: جئت أبا هريرة فذكره موقوفا. وأبان متروك.
(2) . متفق عليه من رواية عبيدة السلماني عنه، وقال في آخره «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان» .(1/512)
روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلى بهم، فقرأ: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت. فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون. ثم نزل تحريمها «1» . ومعنى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها. كقوله: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ، (لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) . وقيل معناه:
ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم «2» » وقيل: هو سكر النعاس وغلبة النوم، كقوله:
............ وَرَانُوا ... بِسُكْرِ سِنَاتِهِمْ كُلَّ الرُّيُونِ «3»
وقرئ: سكارى، بفتح السين. وسكرى، على أن يكون جمعا، نحو: هلكى، وجوعى،
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري نحوه دون قوله «فكانوا لا يشربون الخ. كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبى عبد الرحمن السلمى عن على. واختلف على عطاء في اسم الداعي، وفي اسم المصلى. ففي رواية أبى جعفر الرازي عنه عند الترمذي: صنع لنا عبد الرحمن، وكذا الحاكم من طريق خالد الطحان عنه. وعند أبى داود «أن رجلا دعاه وعبد الرحمن. وللحاكم من رواية الثوري عن عطاء «دعانا رجل من الأنصار» . وللترمذي عن على «فقدموني» ولأبى داود «فقدموا عليا» وللنسائى من طريق أبى جعفر أيضا «فقدموا عبد الرحمن بن عوف» وأبهمه البزار. وكذا الحاكم. وللطبري عن الثوري. وللطبري أيضا عن حماد بن سلمة وللحاكم عن خالد (تنبيه) قوله «فكانوا لا يشربون إلى آخره» لم أجده.
(2) . أخرجه ابن عدى من حديث أبى هريرة وفيه عبد اللَّه بن محرور هو بمهملات وقرن محمد، وهو ضعيف وفي الباب عن ثوبان ومعاذ وأبى الدرداء وأبى أمامة وواثلة. فحديث ثوبان في ابن ماجة بلفظ «جنبوا مساجدنا صبيانكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم، ورفع أصواتكم ... الحديث» وحديث معاذ رواه عبد الرزاق من رواية مكحول عنه وهو منقطع. وحديث الباقين رواه الطبراني والعقيلي وابن عدى من رواية مكحول عنهم وفيه العلاء ابن كثير وهو ضعيف.
(3) . رانوا: تغطت قلوبهم بالسكر كما يغطى الحديد بالصدإ. والسنات: جمع سنة من وسن كعدة من وعد، وهي فتور العين وغفلة القلب أول النوم. والريون: جمع رين، وهو على القلب كالصدإ على الحديد، ورأيت في الأساس للطرماح ما يشبه أن يكون أصل ذلك وهو قوله:
وركب قد بعثت إلى ردايا ... طلائح مثل أخلاق الجفون
مخافة أن يرين النوم فيهم ... بسكر سناته كل الريون
والردايا جمع ردية، كقضايا وقضية، التي أصابها الردى. والطلائح- جمع طليحة أو طليح-: المهازيل. وأخلاق:
جمع خلق، كسبب وهو الشيء البالي. وأضاف السنة لضمير النوم، لأنها أوله فنسبت إليه.(1/513)
لأن السكر علة تلحق العقل. أو مفرداً بمعنى: وأنتم جماعة سكرى، كقولك: امرأة سكرى، وسكرى بضم السين كحبلى. على أن تكون صفة للجماعة. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى، بالفتح والضم وَلا جُنُباً عطف على قوله: (وَأَنْتُمْ سُكارى) لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب: يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ استثناء من عامة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال. فإن قلت: كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها، وهي حال السفر. وعبور السبيل: عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة، لقوله (جُنُباً) أى ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل، أى جنبا مقيمين غير معذورين. فإن قلت:
كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب: الذين لم يغتسلوا كأنه قيل:
لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين، حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين. وقال: من فسر الصلاة بالمسجد معناه: لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه. وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد، فرخص لهم. وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب إلا لعلى رضى اللَّه عنه، لأن بيته كان في المسجد «1» فإن قلت: أدخل في حكم الشرط أربعة: وهم المرضى، والمسافرون، والمحدثون، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمم عند عدم الماء منهم. قلت: الظاهر أنه تعلق بهم جميعاً وأنّ المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا، وكذلك السفر إذا عدموه، لبعده. والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض «2» ، ترابا كان أو غيره. وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب
__________
(1) . أصل هذا الحديث في الترمذي بغير هذا اللفظ. أخرجه من طريق سالم بن أبى حفصة عن عطية عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعلى «يا على، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيرى وغيرك» قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد سمعه منى محمد بن إسماعيل اه وقد أخرجه البزار من رواية الحسن بن زياد عن خارجة بن سعد عن أبيه سعد مثله سواء. وقال: لا نعلمه عن سعد إلا بهذا الاسناد، ثم أخرجه من حديث أبى سعيد كالترمذي. وقال: كان سالم شيعيا، لكنه لم يترك ولم يتابع على هذا ومعناه: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان منزله في المسجد. وفي الباب عن أم سلمة، أخرجه الطبري بلفظ «لا ينبغي لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلى» وروى أبو يعلى من حديث ابن عباس «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم سد أبواب المسجد إلا باب على» فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره» .
(2) . قال محمود: «الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ... الخ» قال أحمد: هذا إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد، وثم وجه آخر، وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلى آخرها، فان المفهوم منه: وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال سفر أو مرض أو مجيء من الغائط أو ملامسة النساء، فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث، فتيمموا منه. يقال: تيممت من الجنابة. وموقع «من» على هذا مستعمل متداول، وهي على هذا الاعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية، وكلاهما فيها متمكن، واللَّه أعلم.(1/514)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
المتيمم يده عليه ومسح. لكان ذلك طهوره، وهو مذهب أبى حنيفة رحمة اللَّه عليه. فإن قلت:
فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أى بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت. قالوا إنّ «من» لابتداء الغاية. فان قلت: قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب، إلا معنى التبعيض. قلت: هو كما تقول. والإذعان للحق أحق من المراء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً كناية عن الترخيص والتيسير، لأنّ من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسرا غير معسر. فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين «1» ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء. والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت: أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب، فخص أوّل من بينهم مرضاهم وسفرهم، لأنهم المتقدّمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك بما لا يكثر كثرة المرض والسفر. وقرئ: من غيط، قيل هو تخفيف غيط، كهين في هين. والغيط بمعنى الغائط
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 45]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
أَلَمْ تَرَ من رؤية القلب، وعدى بإلى، على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يستبدلونها بالهدى، وهو البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة رسول اللَّه
__________
(1) . قال محمود: «فان قلت: كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين والمجنبين ... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا من ذكر المعتنى به خاصا ومندرجا في العموم تنبيها بذكره على وجهين مختلفين، لأن المرض والسفر مندرجان في عموم المحدثين والمجنبين، واللَّه أعلم.(1/515)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم بل يحبون أن يضل معهم غيرهم. وقرئ: أن يضلوا، بالياء بفتح الضاد وكسرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم، فإن اللَّه ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
[سورة النساء (4) : آية 46]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأنهم يهود ونصارى. وقوله:
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ) ، (وَكَفى بِاللَّهِ) ، (وَكَفى بِاللَّهِ) جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان لأعدائكم، وما بينهما اعتراض أو صلة لنصيراً، أى ينصركم من الذين هادوا، كقوله (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله:
وَمَا الدَّهْرُ إلّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِى الْعَيْشَ أَكْدَحُ «1»
أى فمنهما تارة أموت فيها يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها اللَّه فيها، وأزالوه عنها. وذلك نحو تحريفهم «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة بوضعهم «آدم طوال» «2» مكانه، ونحو تحريفهم «الرجم»
__________
(1) .
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وكلتاهما قد خط لي في صحيفة ... فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح
لتميم بن عقيل، يقول: ليس الدهر إلا تارتين ومرتين، فتارة أموت بها، وتارة أطلب العيش حال كوني أكدح، أى أجد وأتعب وأسرع في طلبه، والمراد بالصحيفة: اللوح المحفوظ، ثم قال: ليس العيش أحب إلى لما فيه من النصب، وليس الموت أروح لي لأن النفس تكرهه.
(2) . قوله «طوال» هو بالضم: الطويل. وبالكسر: جمعه. وبالفتح مصدر، أفاده الصحاح. (ع)(1/516)
بوضعهم «الحدّ» بدله: فإن قلت: كيف قيل هاهنا (عَنْ مَواضِعِهِ) وفي المائدة (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) قلت: أمّا (عَنْ مَواضِعِهِ) فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة اللَّه وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأمّا (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فالمعنى: أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه، والمعنيان متقاربان. وقرئ: يحرّفون الكلام. والكلم- بكسر الكاف وسكون اللام-: جمع كلمة تخفيف كلمة. قولهم غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من المخاطب «1» . أى اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذمّ أى اسمع منا مدعوا عليك- بلا سمعت- لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمع. قالوا ذلك اتكالا على أنّ قولهم- لا سمعت- دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه. ومعناه غير مسمع جواباً «2» يوافقك، فكأنك لم تسمع شيئا. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون (غَيْرَ مُسْمَعٍ) مفعول اسمع، أى اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنك لا تعيه نبوّاً عنه. ويحتمل المدح، أى اسمع غير مسمع مكروهاً، من قولك: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وكذلك قولهم راعِنا يحتمل راعنا نكلمك، أى ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانية «3» أو سريانية كانوا يتسابون بها، وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزؤا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها وتحريفا، أى يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل، حيث يضعون (راعِنا) موضع (انْظُرْنا)
__________
(1) . قال محمود: «غير مسمع حال من المخاطب ... الخ» قال أحمد: مراده بذلك أنه لما فسر غير مسمع بالدعاء وهو إنشاء وطلب وقد أوقعه حالا والحال خبر، أراد أن يبين أوجه صحة التعبير على الخبر بالانشاء بواسطة أن هؤلاء كانوا يظنون دعاءهم مستجابا مخبرا بوقوع المدعو فيه. ونظيره ورود الأمر بصيغة الخبر تنبيها على تحقق وقوعه. [.....]
(2) . قال محمود «ومعناه غير مسمع جوابا ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به في هذه السورة مثل «غير مسمع» و «راعنا» ولم يقصد هاهنا تبديل الأحكام وتوسطها بين الكلمتين، بين قوله: (يُحَرِّفُونَ) وبين قوله: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) والمراد أيضاً: تحريف مشاهد بين على أن المحرف هما وأمثالهما. وأما في سورة المائدة فالظاهر- واللَّه أعلم- أن المراد فيها بالكلم الأحكام وتحريفها تبديلها، كتبديلهم الرجم بالجلد. ألا تراه عقبه بقوله: (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أى ينقلونه عن الموضع الذي وضعه اللَّه فيه فصار وطنه ومستقره إلى غير الموضع، فبقى كالغريب المتأسف عليه، الذي يقال فيه: هذا غريب من بعد مواضعه ومقاره، ولا يوجد هذا المعنى في مثل «راعنا» «وغير مسمع» وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغوي مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعي. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره، فلذلك جاء هنا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف.
(3) . قوله «ويحتمل شبه كلمة عبرانية» عبارة النسفي: ويحتمل شبه كلمة عبرانية، إلى آخر ما هنا. (ع)(1/517)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
و (غَيْرَ مُسْمَعٍ) موضع: لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. فان قلت: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذى الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان. ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. ويجوز أن لا ينطقوا بذلك، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به. وقرأ أبىّ: وأنظرنا، من الإنظار وهو الإمهال. فان قلت:
إلام يرجع الضمير في قوله لَكانَ خَيْراً لَهُمْ؟ قلت: إلى (أَنَّهُمْ قالُوا) لأن المعنى. ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا. لكان قولهم ذلك خيراً لهم وَأَقْوَمَ وأعدل وأسدّ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى خذلهم بسبب كفرهم، وأبعدهم عن ألطافه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيماناً قَلِيلًا أى ضعيفاً ركيكا لا يعبأ به، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره، أو أراد بالقلة العدم، كقوله:
قَلِيلُ التَّشَكِّى لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ «1»
أى عديم التشكي، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا.
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نمحو تخطيط صورها، من عين وحاجب وأنف وفم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فنجعلها على هيئة أدبارها، وهي الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين: أحدهما عقيب الآخر، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى
__________
(1) .
قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يظل بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك
لتأبط شرا، يمدح شمس بن مالك من رؤساء العرب. وقيل لأبى كبير الهذلي يمدح تأبط شرا. والمعنى: أنه عديم التشكي ليظهر المدح. أى لا يشتكى لأجل المهم حال كونه يصيبه. كثير هوى النفس. والشت كالشتات في الأصل مصدر، ويستعملان بمعنى المتفرق المنتشر. وروى نشر النوى، وهو بمعناه. وروى شتى النوى وهو جمع شتيت، أى متفرق مختلف، أى نواه ومسالكه شتى أى كثيرة مختلفة. والنوى: اسم جمع نواة، وهي نية المسافر، ويطلق على البعد أيضا فهو مذكر، ويطلق على نية المسافر فيؤنث. والموماة: المفازة لا ماء بها. والجحيش: الفريد الوحيد والاعروراء: ركوب الجواد عريان الظهر. وعبر بيمسى دون يبيت، إشارة إلى أنه يديم السير ولا ينزل في الليل.
وبقوله «يعرورى» إشارة إلى أنه يقتحم المكاره بلا وقاية عنها. ولقد شبه المهالك بما يصح ركوبه على طريق المكنية، وأثبت لها الظهور تخييلا. وفيه إشارة إلى أنه غير مكترث بها، بل يسرع إليها بغير استعداد كاسراع الفارس إلى فرسه وعدم صبره حتى يسرجه. وفيه إشارة إلى أنه يظهر ويظفر حيث عبر بما يفيد الاستعلاء عليها.(1/518)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أن نطمس وجوها فننكسها، الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدّام. ووجه آخر: وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة. وبالوجوه، رؤسهم ووجهاؤهم أى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم، ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاءوا منه. وهي: أذرعات الشام، يريد: إجلاء بنى النضير. فإن قلت: لمن الراجع في قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) ؟ قلت: للوجوه إن أريد الوجهاء، أو لأصحاب الوجوه. لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) على طريقة الالتفات أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نجزيهم بالمسخ، كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت: فأين وقوع الوعيد. قلت:
هو مشروط بالايمان «1» . وقد آمن منهم ناس. وقيل: هو منتظر، ولا بدّ من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة، ولأنّ اللَّه عز وجلّ أوعدهم بأحد الأمرين، بطمس وجوه منهم، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم، أو إجلائهم إلى الشام، فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن، فإنهم ملعونون بكل لسان، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) . وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
فإن قلت: قد ثبت أن اللَّه عزّ وجلَّ يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة «2» . فما وجه قول اللَّه تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3» ؟ قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين إلى
__________
(1) . قوله «هو مشروط بالايمان» لعله: مشروط بعدم الايمان. (ع)
(2) . قوم «لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. وأما عند أهل السنة فتغفر بها، وبالشفاعة، وبمجرد الفضل. (ع)
(3) . قال محمود: «إن قلت قد ثبت أن اللَّه عز وجل يغفر الشرك لمن تاب منه ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه:
عقيدة أهل السنة أن الشرك غير مغفور البتة. وما دونه من الكبائر مغفور لمن يشاء اللَّه أن يغفر له. هذا مع عدم التوبة. وأما مع التوبة فكلاهما مغفور. والآية إنما وردت فيمن لم يتب، ولم يذكر فيها توبة كما ترى، فلذلك أطلق اللَّه تعالى نفى مغفرة الشرك، وأثبت مغفرة ما دونه مقرونة بالمشيئة كما ترى، فهذا وجه انطباق الآية على عقيدة أهل السنة. وأما القدرية فإنهم يظنون التسوية بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر في أن كل واحد من النوعين لا يغفر بدون التوبة ولا يشاء اللَّه أن يغفرهما إلا للتائبين. فإذا عرض الزمخشري هذا المعتقد على هذه الآية ردته ونبت عنه، إذ المغفرة منفية فيها عن الشرك. وثابتة لما دونه مقرونة بالمشيئة. فأما أن يكون المراد فيهما من لم يتب، فلا وجه للتفضيل بينهما بتعليق المغفرة في أحدهما بالمشيئة. وتعليقها بالآخر مطلقاً، إذ هما سيان في استحالة المغفرة. وإما أن يكون المراد فيهما التائب فقد قال في الشرك: إنه لا يغفر، والتائب من الشرك مغفور له، وعند ذلك أخذ الزمخشري يقطع أحدهما عن الآخر، فيجعل المراد مع الشرك عدم التوبة، ومع الكبائر التوبة، حتى تنزل الآية على وفق معتقده، فيحملها أمرين لا تحمل واحداً منهما: أحدهما: إضافة التوبة إلى المشيئة وهي غير مذكورة، ولا دليل عليها فيما ذكر. وأيضاً لو كانت مرادة لكانت هي السبب الموجب للمغفرة على زعمهم عقلا، ولا يمكن تعلق المشيئة بخلافها على ظنهم في العقل، فكيف يليق السكوت عن ذكر ما هو العمدة والموجب وذكر ما لا مدخل له على هذا المعتقد الرديء. الثاني أنه بعد تقريره التوبة احتكم فقدرها على أحد القسمين دون الآخر. وما هذا إلا من جعل القرآن تبعاً للرأى، نعوذ باللَّه من ذلك. وأما القدرية فهم بهذا المعتقد يقع عليهم المثل السائر «السيد يعطى والعبد يمنع» لأنّ اللَّه تعالى يصرح كرمه بالمغفرة للمصر على الكبائر إن شاء، وهم يدفعون في وجه هذا التصريح، ويحيلون المغفرة بناء على قاعدة الأصلح والصلاح، التي هي بالفساد أجدر وأحق.(1/519)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
قوله تعالى: (لِمَنْ يَشاءُ) كأنه قيل إن اللَّه لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أنّ المراد بالأول من لم يتب، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك: إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء. تريد: لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله فَقَدِ افْتَرى إِثْماً أى ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه.
[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ اليهود والنصارى، قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى. وقيل: جاء رجال من اليهود إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: لا. قالوا: واللَّه ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار «1» . فنزلت. ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند اللَّه. فإن قلت: أما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «واللَّه إنى لأمين في السماء أمين في الأرض» «2» ؟ قلت: إنما قال ذلك حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة، إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه. وشتان من شهد اللَّه له بالتزكية، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إعلام بأن تزكية اللَّه هي التي يعتدّ بها، لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية. ومعنى يزكى من يشاء: يزكى المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أى الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم. أو
__________
(1) . ذكره الثعلبي عن الكلبي قال: نزلت هذه الآية في رجال من اليهود أتوا بأطفالهم- فذكره» وسنده إلى الكلبي في أول الكتاب.
(2) . لم أجده.(1/520)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم. ونحوه (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم عند اللَّه أزكياء وَكَفى بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
الجبت: الأصنام وكل ما عبد من دون اللَّه: والطاغوت: الشيطان. وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد. فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا يأمر بعبادة اللَّه وحده وينهى عن الشرك. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، ونسقي الحاج، ونقرى الضيف، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا.
[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شرّ خصلتين: يمنعون ما أوتوا من النعمة ويتمنون أن تكون لهم نعمة غيرهم فقال أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ على أن أم منقطعة «1» ومعنى الهمزة لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ثم قال فَإِذاً لا يُؤْتُونَ أى لو كان لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم: والنقير: النقرة في ظهر النواة
__________
(1) . قوله «على أن أم منقطعة» أى تفسر ببل والهمزة. (ع)(1/521)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
وهو مثل في القلة، كالفتيل والقطمير. والمراد بالملك: إما ملك أهل الدنيا، وإما ملك اللَّه كقوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) وهذا أوصف لهم بالشح، وأحسن لطباقه نظيره من القرآن. ويجوز أن يكون معنى الهمزة في أم: لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك، وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك. وأنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئا. وقرأ ابن مسعود: فإذاً لا يؤتوا، على إعمال إذا عملها الذي هو النصب، وهي ملغاة في قراءة العامة، كأنه قيل: فلا يؤتون الناس نقيرا إذاً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أيحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه. وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم اللَّه من النصرة والغلبة وازدياد العزّ والتقدّم كل يوم فَقَدْ آتَيْنا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء اللَّه الكتاب والحكمة آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه اللَّه مثل ما آتى أسلافه.
وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان. وقيل: استكثروا نساءه فقيل لهم: كيف استكثرتم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟ فَمِنْهُمْ فمن اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أى بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته. أو من اليهود من آمن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومنهم من أنكر نبوّته. أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر، كقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) .
[سورة النساء (4) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أبدلناهم إياها. فإن قلت: كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعص؟ قلت: العذاب للجملة الحساسة، وهي التي عصت لا للجلد. وعن فضيل:
يجعل النضيج غير نضيج. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «تبدّل جلودهم كل يوم سبع مرّات» «1» وعن الحسن: سبعين مرّة يبدّلون جلوداً بيضاء كالقراطيس لِيَذُوقُوا الْعَذابَ
ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك اللَّه، أى أدامك على عزّك وزادك فيه
__________
(1) . لم أجده. ولابن عدى والطبراني عن ابن عمر: قرأ رجل عند عمر (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً) فقال معاذ: تبدل كل ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعتها من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» وفيه نافع ابن يوسف السلمى وأبو هرمز وهو ضعيف. وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: سئل فضيل بن عياض عن هذه الآية، فأخبرنا عن هشام عن الحسن قال: تبدل جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة.(1/522)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.
[سورة النساء (4) : الآيات 57 الى 58]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
ظَلِيلًا صفة مشتقة من لفظ الظلّ لتأكيد معناه. كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، وما أشبه ذلك. وهو ما كان فينانا لا جوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجسجاً «1» لا حرّ فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة. رزقنا اللَّه بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد اللَّه: سيدخلهم بالياء أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ الخطاب عامّ لكل أحد في كل أمانة.
وقيل نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة. وذلك أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول اللَّه لم أمنعه، فلوى على ابن أبى طالب رضى اللَّه عنه يده، وأخذه منه وفتح، ودخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة. فنزلت، فأمر علياً أن يردّه إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلىّ: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل اللَّه في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً رسول اللَّه، فهبط جبريل وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً «2» . وقيل هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل. وقرئ: الأمانة، على التوحيد نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ «ما» إما أن تكون منصوبة موصوفة بيعظكم به. وإما أن تكون مرفوعة موصولة به، كأنه قيل: نعم شيئا يعظكم به. أو نعم الشيء الذي يعظكم به. والمخصوص بالمدح محذوف، أى نعما يعظكم به ذاك، وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم. وقرئ (نعما) بفتح النون.
[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
__________
(1) . قوله «فينانا» أى طويلا ممتداً. والجوب: الخرق والقطع. والسجسج: المتوسط. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد. وكذا ذكره الواحدي في الوسيط والأسباب. وقال فيه «ما دام هذا البيت، فان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان» .(1/523)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
لما أمر الولاة بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم. والمراد بأولى الأمر منكم: أمراء الحق لأن- أمراء الجور- اللَّه ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على اللَّه ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين اللَّه ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما والنهى عن أضدادهما كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. وكان الخلفاء يقولون: أطيعونى ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال: أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وقيل: هم أمراء السرايا وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من أطاعنى فقد أطاع اللَّه ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن يطع أميرى فقد أطاعنى ومن يعص أميرى فقد عصاني» «1» وقيل: هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدين، فردّوه إلى اللَّه ورسوله، أى: ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح اللَّه الأمر بطاعة أولى الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولا بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئا إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند اللَّه ورسوله، وأحق أسمائهم:
اللصوص المتغلبة ذلِكَ إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة خَيْرٌ لكم وأصلح وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن عاقبة. وقيل: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم.
[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
__________
(1) . متفق عليه من حديث أبى هريرة. والبخاري من رواية الأعرج. ومسلم من رواية الأعرج وأبى سلمة كلاهما عنه.(1/524)
روى أن بشراً المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب. فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول اللَّه فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء اللَّه ورسوله، فنزلت. وقال جبريل: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنت الفاروق «1» . والطاغوت: كعب بن الأشرف، سماه اللَّه «طاغوتا» لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه. أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان، بدليل قوله: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ) . وقرئ (بما أنزل ... وما أنزل) على البناء للفاعل. وقرأ عباس بن الفضل: أن يكفروا بها، ذهابا بالطاغوت إلى الجمع، كقوله: (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفاً «2» ، كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في: (آية) إن أصلها «آيية» فاعلة، فحذفت اللام، فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت، فصار (تعالوا) ، نحو: تقدموا. ومنه قول أهل مكة: تعالى، بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني:
__________
(1) . ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى عاصم عن ابن عباس في هذه الآية: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر. وإسناده إلى الكلبي في خطبة كتابه. وذكره الواحدي أيضا. ولابن أبى حاتم وابن مردويه من رواية وهب عن ابن لهيعة عن أبى الأسود «اختصم رجلان إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم. فقضى بينهما. فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر. فانطلقا إليه. فضرب عنق الذي قال: ردنا إلى عمر. فجاء الآخر فأخبره فقال: ما كنت أظن عمر يجترئ على قتل مؤمن. فأنزل اللَّه تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) - الآية فأهدر دمه» [.....]
(2) . قوله «من تعاليت تخفيفاً» لعله عند إسناده إلى واو الجمع. فليحرر. (ع)(1/525)
تَعَالِى أُقَاسِمْك الْهمُومَ تَعَالِى «1»
والوجه فتح اللام فَكَيْفَ يكون حالهم، وكيف يصنعون؟ يعنى أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمراً ولا يوردونه إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم ثُمَّ جاؤُكَ حين يصابون فيعتذرون إليك يَحْلِفُونَ ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً لا إساءة وَتَوْفِيقاً بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك، ففرج عنا بدعائك وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم. ولا يغنى عنهم الاعتذار عند حلول بأس اللَّه. وقيل: جاء أولياء المنافق
__________
(1) .
أقول وقد ناحت بقربى حمامة ... أيا جارتا هل بات حالك حالى
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ... وما خطرت منك الهموم ببال
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالى أقاسمك الهموم تعالى
تعالى ترى روحا لدى ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكى طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالى
لقد كنت أولى منك بالدمع والبكا ... ولكن دمعي في الشدائد غالى
للهمدانى بالهاء. وبعضهم يرويه بالحاء، وكان أسيرا. وبات: أى صار حالك كحالي في الضيق والحزن، والاستفهام إنكارى. ويروى بدله «هل تعلمين بحالي» ونسبة العلم إليها لتنزيلها منزلة العاقل كما في ندائها. وقال «معاذ الهوى» كما يقال «معاذ اللَّه» لعظمة الهوى عنده، وهو مصدر نائب عن فعله، أى ألتجئ إلى الهوى، من دعوى أنك مثلي، «ما ذقت» يا حمامة «طارقة» الفراق وشبهها بمطعوم مكروه والذوق تخييل. «وما خطرت الهموم ببال» أى بقلب منك. وأيا: حرف نداء. و «جارتا» أصله جارتى، فقلبت الياء ألفاً لرفع الصوت.
وتكرير النداء فيه معنى التحسر. وادعاء بلادتها بعد تنزيلها منزلة العاقل بعيد «ما أنصف الدهر بيننا» حيث أطلقك وأسرك وأسرنى وأحزننى. والقياس في تعالى- أمر للمؤنثة، وفي تعاليا للمثنى، وفي تعالوا لجمع الذكور- فتح اللام على أصلها لأنها عين الفعل، والضمير تال للامه المقدرة، وأهل مكة يكسرون الأولى لمناسبة الياء، ويضمون الثانية لمناسبة الواو تنزيلا لها منزلة لام الفعل. ومنه قوله «أقاسمك الهموم» فلي النصف ولك الآخر. فان قيل: إن قائل هذا الشعر مولد فلا يستشهد بكلامه. قلت: أجيب بأن إيراده من قبيل الاستثناء لا من قبيل الاستبدال.
ومذهب الزمخشري أن «هات» بالكسر بمعنى ناولني، و «تعالى» بالفتح دائما على اللغة المشهورة بمعنى أقبل إلى، كلاهما اسم فعل لا فعل أمر، ولعله لعدم تصرفها في هذين المعنيين. وأغرب منه ما نقله السيوطي عن بعضهم: أن أدوات النداء أسماء أفعال متجملة لضمير المتكلم بمعنى أدعو. وقوله «ترى» بفتح الراء على اللغة الأولى، وبكسرها على الثانية. وتكرير الأمر كتكرير النداء. ومعنى ضعف الروح: عجز حواسها عن الإدراك. و «تردد» أصله:
تتردد «بالي» أى نحيل. وقوله «أيضحك» استفهام تعجبي بالنسبة للجملة الأولى، وتوبيخي بالنسبة للثانية، وكذلك المصراع الثاني. ويجوز أنه تعجبي في الجميع، أو توبيخي في الجميع وهو أبعدها، ويعنى بالمأسور والمحزون نفسه. وبالطليقة والسالى الحمامة. ويجوز أنه أراد العموم ويدخلان فيه دخولا أوليا. و «المأسور» المحبوس وحزنه: لغة قريش. وأحزنه: لغة تميم. ومحزون من الأول. والندبة: رفع الصوت بالبكاء، والمراد به النوح السابق. والسالى: الصابر وقليل الهموم. والدمع: ماء العين ونزوله منها. والمراد الثاني. وروى «بالدمع مقلة» فمقلة تمييز، والأصل: لقد كانت مقلتي أولى من مقلتك بالدمع. و «غالى» مرتفع وممتنع لتجلد الشامتين.(1/526)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
يطلبون بدمه وقد أهدره اللَّه فقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار. فإن قلت: بم تعلق قوله: (فِي أَنْفُسِهِمْ «1» ) ؟ قلت: بقوله: (بَلِيغاً) أى: قل لهم قولا بليغاً في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند اللَّه، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف. أو يتعلق بقوله: (قُلْ لَهُمْ) أى قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا، وأنّ اللَّه يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يغنى عنكم إبطانه. فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق، وإلا أنزل اللَّه بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه، وشراً من ذلك وأغلظ. أو قل لهم في أنفسهم- خاليا بهم، ليس معهم غيرهم، مسارّا لهم بالنصيحة، لأنها في السر أنجع، وفي الإمحاض أدخل- قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
__________
(1) . قال محمود «إن قلت: بم تعلق قوله في أنفسهم ... الخ» ؟ قال أحمد: ولكل من هذه التأويلات شاهد على الصحة. أما الأول فلأن حاصله أمره بتهديدهم على وجه مبلغ صميم قلوبهم وسياق التهديد في قوله: (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ) يشهد له، فانه أخبر بما سيقع لهم على سبيل التهديد. وأما الثاني فيلائمه من السياق قوله: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) يعنى ما انطوت عليه من الخبث والمكر والحيل. ثم أمره بوعظهم والاعراض عن جرائمهم حتى لا تكون مؤاخذتهم بها مانعة من نصحهم ووعظهم، ثم جاء قوله: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً) كالشرح للوعظ، ولذكر أهم ما يعظهم فيه، وتلك نفوسهم التي علم اللَّه ما انطوت عليه من المذام، وعلى هذا يكون المراد الوعظ وما يتعلق به. وأما الثالث: فيشهد له سيرته عليه الصلاة والسلام في كتم عناد المنافقين، والتجافي عن إفصاحهم والستر عليهم، حتى عد حذيفة رضى اللَّه عنه صاحب سره عليه الصلاة والسلام، لتخصيصه إياه بالاطلاع على أعيانهم، وتسميتهم له بأسمائهم، وأخباره في هذا المعنى كثيرة(1/527)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ وما أرسلنا رسولا قط إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ بسبب إذن اللَّه في طاعته، وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه، لأنه مؤدّ عن اللَّه، فطاعته طاعة اللَّه ومعصيته معصية اللَّه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ويجوز أن يراد بتيسير اللَّه وتوفيقه في طاعته وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك بردّ قضائك، حتى انتصبت شفيعا لهم إلى اللَّه ومستغفراً لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً لعلموه توابا، أى لتاب عليهم. ولم يقل: واستغفرت لهم، وعدل عنه «1» إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من اللَّه بمكان فَلا وَرَبِّكَ معناه فو ربك، «2» كقوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ و «لا» مزيدة
__________
(1) . قال محمود: وإنما لم يقل واستغفرت لهم لأنه عدل به ... الخ» قال أحمد: وفي هذا النوع من الالتفات خصوصية، وهي اشتماله على ذكر صفة مناسبة لما أضيف إليه، وذلك زائد على الالتفات بذكر الأعلام الجامدة، واللَّه الموفق.
(2) . قال محمود «معناه فو ربك و «لا» مزيدة لتأكيد ... الخ» قال أحمد: يشير إلى أن (لا) لما زيدت مع القسم وإن لم يكن المقسم به، دل ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفياً، تعين جعلها لتأكيد القسم، طردا للباب. والظاهر عندي واللَّه أعلم: أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة، على أن في دخولها على القسم المثبت نظراً، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم، حيث يكون بالفعل، مثل (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) ، (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) ، (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) ولم تدخل أيضا إلا على القسم بغير اللَّه تعالى، ولذلك سر يأبى كونها في آية النساء لتأكيد القسم. ويعين كونها للتوطئة، وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها، تأكيد تعظيم المقسم به، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامى لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام، يعنى أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعا لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم وللاقسام بها، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد في إبراز فعل القسم مؤكداً بالنفي المذكور. وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول (لا) عند قوله: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) على وجه مجمل هذا بسطه وإيضاحه، فإذا بين ذلك، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير اللَّه مندفع في الأقسام باللَّه، فلا يحتاج إلى دخول (لا) مؤكدة للقسم فيتعين حملها على الموطئة، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت. وأما دخولها في القسم وجوابه نفى فكثير مثل:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعى القوم أنى أفر
وكقوله:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزننى فلا بك ما أبالى
وقوله:
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أقاما
وقوله:
فخالف فلا واللَّه تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وهو أكثر من أن يحصى فتأمل هذا الفصل فانه حقيق بالتأمل.(1/528)
لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) لتأكيد وجود العلم. ولا يُؤْمِنُونَ جواب القسم فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر (فَلا) في: (لا يُؤْمِنُونَ) ؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيما اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه حَرَجاً ضيقاً، أى لا تضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكا، لأنّ الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين وَيُسَلِّمُوا وينقادوا ويذعنوا لما تأتى به من قضائك، لا يعارضوه بشيء، من قولك:
سلم الأمر للَّه وأسلم له، وحقيقة سلم نفسه وأسلمها، إذا جعلها سالمة له خالصة، وتَسْلِيماً تأكيد للفعل بمنزلة تكريره. كأنه قيل: وينقادوا لحكمه انقياداً لا شبهة فيه، بظاهرهم وباطنهم. قيل:
نزلت في شأن المنافق واليهودي. وقيل: في شأن الزبير وحاطب بن أبى بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في شراج من الحرّة، كانا يسقيان بها النخل، فقال «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» «1» فغضب حاطب وقال: لأن كان ابن عمتك؟ فتغير وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك، ثم أرسله إلى جارك» كان قد أشار على الزبير برأى فيه السعة له ولخصمه فلما أحفظ»
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، استوعب للزبير حقه في صريح الحكم، ثم خرجا فمرا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصارى: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. ففطن يهودى كان مع المقداد فقال: قاتل اللَّه هؤلاء، يشهدون أنه رسول اللَّه ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم، وايم اللَّه، لقد أذنبنا ذنبا مرّة في حياة موسى، فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا
__________
(1) . قال ابن أبى حاتم: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب- قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) - الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبى بلتعة: اختصما في ماء فقضى النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل» وأصله في الصحيحين أتم من هذا من غير تسمية حاطب. أخرجاه من طريق الزهري عن عروة قال «اختصم الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول اللَّه، إن كان ابن عمتك؟
فتلون وجهه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعب الزبير حقه في صريح الحكم. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية وروى أنهما لما خرجا مرا على المقداد: فقال قاتل اللَّه هؤلاء، يشهدون أنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم يتهمونه على قضاء يقضى بينهم، وايم اللَّه لقد أذنبنا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس:
أما واللَّه إن اللَّه يعلم منى الصدق، لو أمرنى أن أقتل نفسي لقتلتها» ذكره الثعلبي في تفسيره بغير سند عن الصالحي، وإسناده إليه أول الكتاب.
(2) . قوله «فلما أحفظ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» أى أغضب، أفاده الصحاح. (ع)(1/529)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما واللَّه إنّ اللَّه ليعلم منى الصدق، لو أمرنى محمد أن أقتل نفسي لقتلتها. وروى أنه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنّ من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «1» . وروى عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال: واللَّه لو أمرنا ربنا لفعلنا، والحمد للَّه الذي لم يفعل بنا ذلك، فنزلت الآية في شأن حاطب، ونزلت في شأن هؤلاء.
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بنى إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فَعَلُوهُ إِلَّا ناس قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذا توبيخ عظيم. والرفع على البدل من الواو في: (فَعَلُوهُ) . وقرئ: إلا قليلا، بالنصب على أصل الاستثناء، أو على إلا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وطاعته، والانقياد لما يراه ويحكم به، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في عاجلهم وآجلهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً
لإيمانهم وأبعد من الاضطراب فيه وَإِذاً جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل وماذا يكون لهم أيضاً بعد التثبيت، فقيل:
وإذاً لو ثبتوا لَآتَيْناهُمْ لأن إذاً جواب وجزاء مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً كقوله: (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) في أنّ لمراد العطاء المتفضل به من عنده وتسميته أجراً، لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته (وَلَهَدَيْناهُمْ) وللطفنا بهم ووفقناهم لازدياد الخيرات.
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
الصديقون: أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم كأبى بكر الصديق رضى اللَّه
__________
(1) . لم أجده هكذا، وإنما ذكره الثعلبي عن الحسن ومقاتل قالا: لما نزلت هذه الآية قال عمر، وعمار وابن مسعود «واللَّه لو أمرنا اللَّه لفعلنا، والحمد للَّه الذي عافانا» فبلغ النبي صلى اللَّه عليه وسلم ذلك فقال- فذكره(1/530)
عنه وصدقوا في أقولهم وأفعالهم. وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة، حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد اللَّه إلى اللَّه وأرفعهم درجات عنده وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب كأنه قيل:
وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرئ: وحسن، بسكون السين. يقول المتعجب:
حسن الوجه وجهك! وحسن الوجه وجهك! بالفتح والضم مع التسكين. والرفيق: كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه، ويجوز أن يكون مفرداً، بين به الجنس في باب التمييز.
وروى أنّ ثوبان مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان شديد الحب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول اللَّه، ما بى من وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك، لأنى عرفت أنك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا، فنزلت، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين «1» .» وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ الخبر، ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ، والفضل من اللَّه خبره، والمعنى: أنّ ما أعطى المطيعون من الأجر «2» العظيم
__________
(1) . ذكره الثعلبي بغير سند، ونقله الواحدي في الأسباب عن الكلبي لكن لم يقل في آخره «فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده إلى آخره» حكى ذلك عن جماعة من الصحابة قال سعيد بن جبير: حدثنا خلف بن خليفة عن عطاء بن السائب عن الشعبي قال «جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال له: أنت أحب إلى من نفسي وولدى وأهلى ومالى، ولولا أنى أتيتك فأراك لكنت، أى سأموت وبكى الأنصارى. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت أنك ستموت مع النبيين عليهم الصلاة والسلام ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك فأنزل اللَّه على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) - الآية فقال له: أبشر» ومن طريقه أخرجه البيهقي في الشعب ووصله الطبراني وعنه ابن مردويه، ومن طريق خالد بن عبد الرحمن عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن عباس نحوه، ورواه الطبري من طريق يعقوب القمي عن جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير نحوه مرسلا، ورواه الطبراني في الصغير والواحدي موصولا من طريق عبد اللَّه بن عمران العابدي عن فضيل بن عياض عن منصور بن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت «جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، واللَّه إنك لأحب إلى من نفسي- الحديث بنحوه، وأخرجه الواحدي من طريق أخرى عن مسروق قال قال أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره مختصراً ومن طريق روح عن قتادة كذلك مرسلا.
(2) . قال محمود: «والمعنى أن ما أعطى المطيعون من الأجر ... الخ» قال أحمد: عقيدة أهل السنة: أن المطيع لا يستحق على اللَّه بطاعته شيئا، وأنه مهما أثيب به من دخول الجنة والنجاة من النار، فذاك فضل من اللَّه لا عن استحقاق ثابت، فهم يقرون هذه الآية في رجائها، وأما القدرية: فيزعمون أن المطيع يستوجب على اللَّه ثواب الطاعة، وأن المقابل لطاعته من الثواب أجر مستحق كالأجرة على العمل في الشاهد، ليس بفضل، وإنما الفضل ما يزاده العبد على حقه من أنواع الثواب وصنوف الكرامة، فلما وردت هذه الآية ناطقة بأن جملة ما يناله عباد اللَّه فضل من اللَّه، اضطر الزمخشري إلى ردها إلى معتقده، فجعل الفضل المشار إليه هو الزيادة التابعة للثواب، يعنى المستحق، ثم اتسع في التأويل فذكر وجهها آخر وهو: أن يكون المشار إليه، مزايا هؤلاء المطيعين في طاعتهم وتمييزهم بأعمالهم، وجعل معنى كونها فضلا من اللَّه أنه وفقهم لاكتسابها ومكنهم من ذلك لا غير، يعنى وأما إحداثها فبقدرهم. وهذا من الطراز الأول، والحق أن الكل أيضا فضل من اللَّه بكل اعتبار، لأن معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق اللَّه تعالى وفعله، وأن قدرهم لا تأثير لها في أعمالهم، بل اللَّه عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها، فالطاعة إذاً من فضله وثوابها من فضله، فله الفضل على كل حال والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة، فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل اللَّه ورحمته» قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه، قال «ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه بفضل منه ورحمة» قل بفضل اللَّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا. اللهم اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة»(1/531)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
ومرافقة المنعم عليهم من اللَّه لأنه تفضل به عليهم تبعاً لثوابهم وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه أو أراد أنّ فضل المنعم عليهم ومزيتهم من اللَّه، لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه وكفى باللَّه عليما بعباده فهو يوفقهم على حسب أحوالهم
[سورة النساء (4) : آية 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)
خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر بمعنى، كالإثر والأثر، يقال: أخذ حذره، إذا تيقظ واحترز من المخوف، كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى: احذروا واحترزوا من العدوّ ولا تمكنوه من أنفسكم فَانْفِرُوا إذا نفرتم إلى العدوّ. إما ثُباتٍ جماعات متفرّقة سرية بعد سرية، وإما جَمِيعاً أى مجتمعين كوكبة واحدة، ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة. وقرئ: فانفروا بضم الفاء
[سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
اللام في: (لَمَنْ) للابتداء بمنزلتها في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ) وفي لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره: وإنّ منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن، والقسم وجوابه صلة من، والضمير الراجع منها إليه ما استكن في: (لَيُبَطِّئَنَّ) والخطاب لعسكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمبطئون منهم المنافقون لأنهم كانوا يغزون معهم نفاقا. ومعنى (لَيُبَطِّئَنَّ) ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد وبطأ. بمعنى: أبطأ كعتم بمعنى: أعتم «1» ، إذا أبطأ، وقرئ (لَيُبَطِّئَنَّ) بالتخفيف يقال: بطأ على فلان وأبطأ علىّ وبطؤ
__________
(1) . قوله «كعتم بمعنى أعتم» في الصحاح «العتم: الإبطاء» . (ع)(1/532)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
نحو: ثقل، ويقال: ما بطأ بك، فيعدى بالباء، ويجوز أن يكون منقولا من بطؤ، نحو؟ ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو، وكان هذا ديدن المنافق عبد اللَّه ابن أبىّ، وهو الذي ثبط الناس يوم أحد فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة «1» فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ من فتح أو غنيمة لَيَقُولَنَّ وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (من) لأن قوله (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) في معنى الجماعة وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو (لَيَقُولَنَّ) وبين مفعوله وهو يا لَيْتَنِي والمعنى كأن لم تتقدم له معكم موادّة، لأن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم. لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيف يوصفون بالمودّة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم. وقرئ: فأفوز بالرفع عطفاً على كنت معهم لينتظم الكون معهم، والفوز معنى التمني، فيكونا متمنيين جميعاً، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، بمعنى فأنا أفوز في ذلك الوقت
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 76]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
يَشْرُونَ بمعنى يشترون ويبيعون قال ابن مفرغ:
وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِى ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ «2»
__________
(1) . قال محمود فيه: «المراد بالمصيبة القتل والهزيمة ... الخ» قال أحمد: وفي هذه القراءة نكتة غريبة، وهي الاعادة إلى لفظ من بعد الاعادة إلى معناها، وهو مستغرب أنكر بعضهم وجوده في الكتاب العزيز لما يلزم من الإجمال بعد البيان، وهو خلاف قانون البلاغة، إذ الاعادة إلى لفظها ليس بمفصح عن معناها، بل تناوله للمعنى مجمل مبهم، فوقوعه بعد البيان عسر، ومنهم من أثبته وعد موضعين، وهذه الآية على هذه القراءة ثالث، وسيأتى بيان شاف إن شاء اللَّه تعالى
(2) .
وشربت برداً ليتني ... من بعد برد كنت هامه
يا هامة تدعو صدى ... بين المشرق فاليمامه
لابن مفرغ. باع غلامه بردا عند انصرافه من سجستان إلى البصرة، فندم على ذلك ودعا على نفسه بالقتل. ويقال:
اشتراه إذا أخذه ودفع ثمنه. وشراه إذا دفعه وأخذ ثمنه. وكانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير هامة، أى بومة تزقو وتصيح: أدركونى، أدركونى حتى يؤخذ بثأره. والصدى: ذكر البوم. والمشرق- كمعظم- واليمامة: موضعان بعينهما بينهما مفازة. فقوله «كنت هامه» كناية عن أن يكون قتيلا. ويا للتنبيه أو للنداء. والمنادى محذوف وهامة بيان أو بدل من هامة الأولى، وغايرتها بانضمام الصفة إليها وهي قوله «تدعو صدى» أى تصيح على ذكرها. وهذا من المبالغة في الاشارة واللطف في العبارة، حيث ضرب عن جانب المعنى المراد صفحا، حتى كأنه يتكلم في هامة حقيقية تزقو على ذكرها، بل أنها هامة تطير وتصيح مع الهامات في المفاوز، وبعد هذا فالكلام مجاز عن شدة تحسره وتحزنه وندمه على ما فعل.(1/533)
فالذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة هم المبطئون، وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان باللَّه ورسوله، ويجاهدوا في سبيل اللَّه حق الجهاد، والذين يبيعون هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها، والمعنى: إن صدّ الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون ووعد المقاتل في سبيل اللَّه ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين اللَّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفا على سبيل اللَّه أى في سبيل اللَّه وفي خلاص المستضعفين، ومنصوبا «1» على اختصاص يعنى واختص من سبيل اللَّه خلاص المستضعفين لأنّ سبيل اللَّه عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدى الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد، وكانوا يدعون اللَّه بالخلاص ويستنصرونه فيسر اللَّه لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل اللَّه لهم من لدنه خير ولى وناصر وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلم فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر، ولما خرج استعمل على أهل مكة عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا، قال ابن عباس:
كان ينصر الضعيف من القوى حتى كانوا أعز بها من الظلمة. فإن قلت: لم ذكر الولدان؟ قلت:
تسجيلا بإفراط ظلمهم، حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين، إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم لمكانهم، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة اللَّه بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس وكما وردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء، وعن ابن عباس:
كنت أنا وأمى من المستضعفين من النساء والولدان، ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الأحرار والحرائر، وبالولدان العبيد والإماء، لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة، وقيل للولدان
__________
(1) . قال محمود: «يجوز أن يكون المستضعفين مجروراً- إلى قوله- ومنصوبا ... الخ» قال أحمد: وفيه على هذا مبالغة في الحث على خلاصهم من جهتين: إحداهما- التخصيص بعد التعميم فانه يقتضى إضمار الناصب الذي هو اختص، ولولا النصب لكان التخصيص معلوما من إفراده بالذكر، ولكن أكد هذا المعلوم بطريق اللزوم بأن أخرجه إلى النطق. [.....](1/534)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
والولائد «الولدان» لتغليب الذكور على الإناث كما يقال الآباء والإخوة. فإن قلت: لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث «1» ؟ قلت: هو وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها، فأعطى إعراب القرية لأنه صفتها، وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي ظلم أهلها، ولو أنث فقيل: الظالمة أهلها، لجاز لا لتأنيث الموصوف، ولكن لأن الأهل يذكر ويؤنث. فإن قلت:
هل يجوز من هذه القرية الظالمين أهلها؟ قلت: نعم، كما تقول: التي ظلموا أهلها، على لغة من يقول أكلونى البراغيث، ومنه (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) . رغب اللَّه المؤمنين ترغيبا وشجعهم تشجيعا بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل اللَّه. فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولىّ لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد اللَّه للكافرين أضعف شيء وأوهنه.
[سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
(كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أى كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بالمدينة كع فريق منهم «2» لا شكا في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفا من الموت كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر «3» إلى المفعول، فإن قلت: ما محل (كَخَشْيَةِ اللَّهِ)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم ذكر الظالم وموصوفه مؤنث ... الخ» ؟ قال أحمد: ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز كقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) إلى قوله: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) وأما هذه القرية في سورة النساء فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفاً لها شرفها اللَّه تعالى.
(2) . قوله «كع فريق منهم» أى جبن. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «قوله تعالى: (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) من إضافة المصدر ... إلخ» قال أحمد: وقد مر نظير هذه الآية في الاعراب وهو قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وقد قرأ الزمخشري ثم ما أذعن له هنا وهو الجر عطفا على الذكر، وبينا ثم جوازه بالتأويل الذي ذكره الزمخشري هاهنا، وهو إلحاقه بباب جد جده، وأصل هذا الاعراب لأبى الفتح، وقد بينت جواز الجر عطفا على الذكر من غير احتياج إلى التأويل المذكور، وأجرى مثله هاهنا وهو وجه حسن استنبطته من كتاب سيبويه، فان أصبت فمن اللَّه، وإن أخطأت فمنى، واللَّه الموفق. الذي ذكر سيبويه جواز قول القائل- زيد أشجع الناس رجلا- ثم قال سيبويه فرجل واقع على المبتدأ ولك أن تجره فتقول- زيد أشجع رجل- وهو الأصل انتهي المقصود من كلام سيبويه. وإذا بنيت عليه جاز أن تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب الخشية وأنت تريد المصدر، كأنك قلت خشي فلان خشية أشد خشية، فتوقع خشية الثانية على الأولى، وإن نصبتها فهو كما قلت: زيد أشجع رجلا، فأوقعت رجلا على زيد وإن كنت نصبته فهو على الأصل أن تقول أشد خشية فتجرها، كما كان الأصل أن تقول زيد أشجع رجل فتجره، وما منع الزمخشري من النصب مع وقوعه على المصدر إلا أن مقتضى النصب في مثله خروج المنصوب عن الأول، بخلاف المجرور، ألا تراك تقول زيد أكرم أبا، فيكون زيد من الأبناء وأنت تفضل أباه، وتقول زيد أكرم أب، فيكون من الآباء وأنت تفضله، فلو ذهبت توقع أشد على الخشية الأولى وقد نصبت مميزها، لزم خروج الثاني عن الأول وهو محال، إذ لا تكون الخشية خشية فتحتاج إلى التأويل المذكور، وهو جعل الخشية الأولى خاشية حتى تخرجها عن المصدر المميز لها، وقد بينا في كلام سيبويه جواز النصب مع وقوع الثاني على الأول، كما لو جررت، فمثله يجوز في الآية من غير تأويل واللَّه أعلم. وقد مضت وجوه من الاعراب في آية البقرة يتعذر بعضها هنا لمنافرة المعنى واللَّه الموفق. ومثل هذه الأنواع من الاعراب منزل من العربية منزلة اللب الخالص، فلا يوصل إليها إلا بعد تجاوز جملة القشور، وربك الفتاح العليم.(1/535)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الحال من الضمير في (يَخْشَوْنَ) أى يخشون الناس مثل أهل خشية اللَّه، أى مشبهين لأهل خشية اللَّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً بمعنى أو أشد خشية من أهل خشية اللَّه، وأشد معطوف على الحال. فإن قلت: لم عدلت عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدر يخشون خشية مثل خشية اللَّه، بمعنى مثل ما يخشى اللَّه؟ قلت: أبى ذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) لأنه وما عطف عليه في حكم واحد، ولو قلت يخشون الناس أشد خشية؟ لم يكن إلا حالا عن ضمير الفريق ولم ينتصب انتصاب المصدر، لأنك لا تقول خشي فلان أشد خشية، فتنصب خشية وأنت تريد المصدر، إنما تقول أشد خشية فتجرّها، وإذا نصبتها لم يكن أشد خشية إلا عبارة عن الفاعل حالا منه، اللهم إلا أن تجعل الخشية خاشية وذات خشية، على قولهم جد جده فتزعم أن معناه يخشون الناس خشية مثل خشية اللَّه، أو خشية أشد خشية من خشية اللَّه، ويجوز على هذا أن يكون محل (أَشَدَّ) مجروراً عطفاً على: (كَخَشْيَةِ اللَّهِ) تريد كخشية اللَّه أو كخشية أشد خشية منها لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر، كقوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) . وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا عنه، وقرئ: ولا يظلمون، بالياء.
[سورة النساء (4) : الآيات 78 الى 79]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)(1/536)
قرئ (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع وقيل: هو على حذف الفاء، «1» كأنه قيل: فيدرككم الموت، وشبه بقول القائل
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا «2»
ويجوز أن يقال: حمل على ما يقع موقع (أَيْنَما تَكُونُوا) ، وهو أينما كنتم، كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» «3» وهو ليسوا بمصلحين، فرفع كما رفع زهير:
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِى وَلَا حَرِمُ «4»
__________
(1) . قال محمود: «قرئ يدرككم بالرفع. وقيل: هو على حذف الفاء ... الخ» قال أحمد: أما الوجه الذي ألحقه بتوجيه سيبويه في الشعرين المذكورين ففيه نظر. أما قوله «ولا ناعب» فمختار، فان دخول الباء في خبر ليس أمر مطرد غالب، والخبر وطن معروف لها، فإذا قدرت فيه حيث تسقط، روعي هذا التقدير في المعطوف، لما ذكرناه من الغلبة التي تقتضي إلحاق دخولها بالأصل الواجب الذي يعتبر، نطق به أو سكت عنه. وأما تقدير (أَيْنَما تَكُونُوا) في معنى كلام آخر، يرتفع معه قوله: (يُدْرِكْكُمُ) ، فذلك تقدير لم يعهد له نظير، ولم يغلب هذا المقدر فيلتحق بغلبة دخول الباء في الخبر، فلا يلزم من مراعاة ما يقتضيه غالب الاستعمال ومعهوده مراعاة ما لم يسبق به عهد.
وأما البيت الآخر لزهير، فالمنقول عن سيبويه حمله أو حمل مثله على التقديم والتأخير، كقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
فليس من قبيل «ولا ناعب» واللَّه الموفق. وفي الوجه الأخير الذي أبداه الزمخشري حجة واضحة على أن القتل في المعارك والملاحم لا يعترض على الأجل المقدر بنقص، وأن كل مقتول فبأجله مات، لا كما يزعمه القدرية، واللَّه الموفق.
(2) .
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها ... الشر بالشر عند اللَّه مثلان
فإنما هذه الدنيا وزينتها ... كالزاد لا بد يوما أنه فان
لعبد الرحمن بن حسان. وقيل: لعبد اللَّه بن حسان. وقيل: لكعب بن مالك الأنصارى. يقول: من يفعل الحسنات فاللَّه يشكرها، أى يجازيه عليها أضعافا، فأسقط الفاء من جواب الشرط وهو قليل. وقيل: مخصوص بالشعر. وعن المبرد منه مطلقا، وزعم أن الرواية «من يفعل الخير فالرحمن يشكره» والشر ملتبس بالشر أو حاصل به، ثم قال: هما متماثلان عند اللَّه لا يزيد الجزاء على الذنب. أو الباء بمعنى مع، أى الشر مع الشر مثلان عند اللَّه، لكن الأول الذنب، والثاني جزاؤه. وسمى شرا مشاكلة. وروى «سيان» بدل «مثلان» فان زينة الدنيا من المال والبنون ليست إلا مثل الزاد الذي يتزود به إلى بلوغ المعاد. ولا بد من فنائه يوما من الأيام، فلا بد من فنائها. فيوما: ظرف لفان.
(3) . قوله كما حمل «ولا ناعب» على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» هو من قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا يبين غرابها
(ع)
(4) .
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فينظلم
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالى ولا حرم
لزهير بن أبى سلمى، يمدح هرم بن سنان. والسائل: العطاء. وعفوا: حال منه، أى سهلا عليه، أى قليلا عنده وإن كثر في الواقع، أو بغير سؤال. ويظلم: أى يسأل فوق طاقته فيتكلف ويعطى. ويروى: فيظلم، وأصله:
يظتلم، مطاوع ظلمه. قلبت تاؤه طاء على الأصل في تاء الافتعال بعد المطبقة، ثم قلبت الطاء ظاء معجمة على خلاف الأصل في القلب للادغام، وأدغمت فيها الأولى. وروى «فيطلم» وأصله: يظتلم أيضا، قلبت التاء طاء مهملة، ثم قلبت الظاء طاء مهملة أيضا على القياس وأدغمت في الثانية وروى «فيظطلم» بهما معا. وقوله «أحيانا» فيه نوع احتراس من توهم وصفه بالعقر المستمر. «وإن أتاه خليل» أى متصف بالخلة- بالفتح- وهي الفقر والفاقة يبيح له أمواله ولا يتعلل. فقوله «يقول ... إلى آخره» كناية عن ذلك، وهو جواب الشرط. ورفع لأن الشرط ماض لم يؤثر العامل في لفظه الجزم، وقد يرفع جواب الشرط المضارع لتخيل أنه ماض، كمسئلة العطف على التوهم. وقيل إنه على تقدير الفاء، أى فهو يقول. وقيل: التقدير يقول: لا غائب مالى إن أتاه خليل فالجواب محذوف دل عليه المذكور، وهو قول سيبويه، وما قبله قول الكوفيين، وروى عنه أيضا. و «المسغبة» الجوع. و «حرم» كحذر، مصدر حرمه إذا منعه. والمراد به المفعول، أى ليس محروما وممنوعا عن السائلين. ويجوز أنه صفة مشبهة، كحذر وفرح بمعنى صنع. ولو قرئ «حرم» بالفتح بمعنى حرام، كزمن وزمان لجاز. وغايته أن يكون في القافية السناد.(1/537)
وهو قول نحوى سيبوى. ويجوز أن يتصل بقوله: (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أى ولا تنقصون شيئاً مما كتب من أجالكم. أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، ثم ابتدأ قوله: (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) والوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج: الحصون. مشيدة مرفعة. وقرئ (مُشَيَّدَةٍ) من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجصّ. وقرأ نعيم بن ميسرة (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء وصفا لها بفعل فاعلها مجازاً كما قالوا: قصيدة شاعرة، وإنما الشاعر فارضها. السيئة تقع على البلية والمعصية. والحسنة على النعمة والطاعة. قال اللَّه تعالى: (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال: (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) . والمعنى: وإن تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى اللَّه، وإن تصبهم بلية من قحط وشدة أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك، وما كانت إلا بشؤمك، كما حكى اللَّه عن قوم موسى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) وعن قوم صالح: (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) وروى عن اليهود- لعنت- أنها تشاءمت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها، فردّ اللَّه عليهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فيعلموا أن اللَّه هو الباسط القابض، وكل ذلك صادر عن حكمة وصواب ثم قال ما أَصابَكَ يا إنسان خطابا عاما مِنْ حَسَنَةٍ أى من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أى من بلية ومصيبة فمن عندك، لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وعن عائشة رضى اللَّه عنها: ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما(1/538)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
يعفو اللَّه أكثر وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أى رسولا للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم، كقوله: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ، (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) . وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك.
[سورة النساء (4) : آية 80]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه لا يأمر إلا بما أمر اللَّه به ولا ينهى إلا عما نهى اللَّه عنه فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة للَّه. وروى أنه قال: «من أحبنى فقد أحبّ اللَّه، ومن أطاعنى فقد أطاع اللَّه» «1» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل، لقد قارف الشرك وهو ينهى أن يعبد غير اللَّه! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى، فنزلت وَمَنْ تَوَلَّى عن الطاعة فأعرض عنه فَما أَرْسَلْناكَ إلا نذيرا، لا حفيظا ومهيمنا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله: (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) .
[سورة النساء (4) : آية 81]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
وَيَقُولُونَ إذا أمرتهم بشيء طاعَةٌ بالرفع أى أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة. وهذا من قول المرتسم: سمعا وطاعة، وسمع وطاعة. ونحوه قول سيبويه:
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمد اللَّه وثناء عليه، كأنه قال: أمرى وشأنى حمد اللَّه. ولو نصب حمد اللَّه وثناء عليه. كان على الفعل والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها بَيَّتَ طائِفَةٌ زورت طائفة وسوت غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطلوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. والتبييت: إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد. أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغنى عنهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم، فإنّ
__________
(1) . لم أجده.(1/539)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
اللَّه يكفيك معرّتهم «1» وينتقم لك منهم إذا قوى أمر الإسلام وعز أنصاره. وقرئ (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام وتذكير الفعل، لأنّ تأنيث الطائفة غير حقيقى، ولأنها في معنى الفريق والفوج.
[سورة النساء (4) : آية 82]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
تدبُّر الأمر: تأمُّله والنظر في إدباره وما يؤل إليه في عاقبته ومنتهاه، ثم استعمل في كل تأمل فمعنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني. وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائتة لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه. فإن قلت: أليس نحو قوله: (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ، (كَأَنَّها جَانٌّ) ، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) من الاختلاف؟ قلت: ليس باختلاف عند المتدبرين.
[سورة النساء (4) : الآيات 83 الى 84]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
هم ناس من ضعفة المسلمين «2» الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ولا استبطان للأمور.
__________
(1) . قوله «معرتهم» أى إثمهم. وعبارة النسفي «مضرتهم» فحرر. (ع)
(2) . قال محمود: «هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال ... الخ» قال أحمد: وفي اجتماع الهمزة والباء على التعدية نظر، لأنهما متعاقبتان وهو الذي اقتضى عند الزمخشري قوله في الوجه الثاني: فعلوا الاذاعة ليخرجها عن الباء المعاقبة للهمزة، ثم في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذباً، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيراً أو غيره. ولقد جربنا ذلك في زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد- طهرها اللَّه من دنسه، وصانها عن رجسه ونجسه، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر.(1/540)
كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أَذاعُوا بِهِ وكانت إذاعتهم مفسدة، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم- وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل: كانوا يقفون من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل: كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر، أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال: أذاع السر، وأذاع به. قال:
أَذَاعَ بِهِ فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب «1»
ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة، وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ (لَعَلِمَهُ) بإسكان اللام كقوله:
فَإنْ أَهْجُهُ يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الْأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ «2»
والنبط: الماء يخرج من البئر أول ما تحفر، وإنباطه واستنباطه: إخراجه واستخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
__________
(1) .
أمنت على السر امرءاً غير حازم ... ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
لأبى الأسود الدؤلي. والحازم: السديد الرأى. ويقال: أذاعه إذا أفشاه وأظهره، ويضمن معنى التحدث أيضاً فيقال: أذاع به أى تحدث به فأظهره. والعلياء: الأرض المرتفعة. والثقوب: آلة تثقب بها النار فتشتعل. يقول:
وضعت السر عند من لا يصونه، وغرني صدق نصحه فأفشاه بين الناس. حتى كأنه نار في أكمة عالية أشعلت بالثقوب، فتكون أشد ظهوراً.
(2) . ضجر البعير: كثر رغاؤه من ثقل الحمل. والبازل البعير الذي انشق نابه، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة.
والأدم: الشديدات البياض: جمع آدم أى شديد البياض، وربما علته صفرة، وزان حمر وأحمر، خصها لرقة جلودها. والدبر: الانجراح والانتقاب من الرحل. والغارب: العظم الناشز في الظهر. وضجر، ودبر: فعلان ماضيان من باب تعب، سكن وسطهما تخفيفا. يقول: إن أذمه يتضجر كتضجر ذلك البعير من حمله.(1/541)
وهو إرسال الرسول، وإنزال الكتاب «1» ، والتوفيق لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ لبقيتم على الكفر إِلَّا قَلِيلًا منكم. أو إلا اتباعا قليلا، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن أفردوك وتركوك وحدك لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ اللَّه هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف: بالنون وكسر اللام، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «ومعنى ولولا فضل اللَّه عليكم ورحمته: ولولا إرسال الرسول وإنزال الكتاب ... الخ» قال أحمد: وفي تفسير الزمخشري هذا نظر، وذلك أنه جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناء على ظاهر الاعراب» وأغفل المعنى، وذلك أنه يلزم على ذلك جواز أن ينتفل الإنسان من الكفر إلى الايمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس للَّه عليه في ذلك فضل. ومعاذ اللَّه أن يعتقد ذلك. وبيان لزومه أن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة، فقد سلبت تأثير فضل اللَّه في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالايمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر، بأنفسهم لا بفضل اللَّه. ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليك: لولا مساعدتى لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله. ومن المحال أن يعتقد موحد مسلم أنه عصم في شيء من الأشياء من اتباع الشيطان إلا بفضل اللَّه تعالى عليه. أما قواعد أهل السنة فواضح أن كل ما يعد به العبد عاصيا للشيطان من إيمان وعمل خير، مخلوق للَّه تعالى، وواقع بقدرته، ومنعم على العبد به. وأما المعتزلة فهم وإن ظنوا أن العبد يخلق لنفسه إيمانه وطاعته إلا أنهم لا يخالفون في أن فضل اللَّه منسحب عليه في ذلك، لأنه خلق له القدرة التي بها خلق العبد ذلك على زعمهم ووفقه لارادة الخير، فقد وضح لك تعذر الاستثناء من الجملة الأخيرة على تفسير الزمخشري، وما أراه إلا واهما مسترسلا على المألوف في الاعراب، وهو إعادة الاستثناء إلى ما يليه من الجمل، مهملا للنظر في المعنى. ومن ثم اتخذ القاضي أبو بكر رضى اللَّه عنه الاستثناء في هذه الآية إلى ما قبل الجملة الأخيرة فطنة منه ويقظة، ولأنه إمام مؤيد في نظره مسود في فكره، ثم اتخذ القاضي رضى اللَّه عنه هذه الآية وزره في الرد على من زعم الجزم بعود الاستثناء المتعقب للجمل إلى الأخيرة، ظنا منه أن ذلك واجب لا يسوغ سواه. ثم يقف في عوده إلى ما تقدم خاصة. وقد بينت عند قوله تعالى: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أن الاستثناء في هذه الآية أيضاً يتعين عوده إلى الأولى، ويتعذر رده إلى الأخيرة، لأن المعنى يأباه، وهي مؤازرة للقاضي في الرد على من حتم عود الاستثناء إلى الأخيرة، واللَّه الموفق.(1/542)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
[سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
الشفاعة الحسنة: هي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير. وابتغى بها وجه اللَّه ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حدّ من حدود اللَّه ولا في حق من الحقوق. والسيئة: ما كان بخلاف ذلك. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك، ولا أتكلم فيما بقي منها وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم، لأنها في معنى الشفاعة إلى اللَّه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له «1» قال له الملك: ولك مثل ذلك، فذلك النصيب» والدعوة على المسلم بضد ذلك مُقِيتاً شهيداً حفيظاً. وقيل: مقتدراً. وأقات على الشيء، «2» قال الزبير بن عبد المطلب:
وَذِى ضِغْنٍ نَفَيْتُ السُّوءَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مُقِيتَا «3»
وقال السموأل:
أَلِى الْفَضْلُ أَمْ عَلَىّ إذَا حُو ... سِبْتُ إنِّى عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ «4»
واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها.
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى الدرداء، بلفظ «قالت الملائكة: آمين، ولك بمثله» . [.....]
(2) . قوله «وأقات على الشيء» لعل بعده سقطا تقديره: اقتدر عليه. (ع)
(3) . للزبير بن عبد المطلب. والضغن: الحقد. والاقاتة: الاقتدار. وروى الصاغاني: أقيت. وروى بعده:
يبيت الليل مرتفقا ثقيلا ... على فرش الفتاة وما أبيت
وطن إلى منه مؤذيات ... كما تؤذى الجذامير البروت
والمرتفق: المتكئ على مرفقه. وتعن: تسرع وتظهر. والجذمار: ما بقي من أصل السعفة. والبروت: الفأس، وهي فاعل تؤذى.
(4) .
ليت شعري وأشعرن إذا ما ... قربوها منشورة ودعيت
ألى الفضل أم على إذا حو ... سبت إنى على الحساب مقيت
ينفع الطيب القليل من الرز ... ق ولا ينفع الكثير الخبيث
للسموأل الغساني اليهودي. وأشعرن: اعتراض، أى لا حاجة إلى ثمين الشعور، فانى أعلم أن من عمل خيراً يره، ومن عمل شراً يره وتوكيد الفعل المثبت الخبر كما هنا نادر جدا، لأنه ليس من مواضع التوكيد المنكورة في النحو.
و «ما» زائدة. وضمير قربوها للصحف. وضمير الفاعل للملائكة. ويروى «الغور» بدل الفضل. وإنى: بالكسر والفتح. المقيت: المقتدر. والشهيد: الحفيظ، وأصله من القوت لأنه يقوى النفس ويحفظها. والخبيت بالمثناة:
الخبيث بالمثلثة. وحق بلاغة المعنى: تقديم القليل على الطيب، لكن أخرته الضرورة.(1/543)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
[سورة النساء (4) : آية 86]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
الأحسن منها أن تقول «وعليكم السلام ورحمة اللَّه» إذا قال «السلام عليكم» وأن تزيد «وبركاته» إذا قال «ورحمة اللَّه» وروى أنّ رجلا قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: السلام عليك، فقال «وعليك السلام ورحمة اللَّه» وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه، فقال «وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، فقال «وعليك» «1» فقال الرجل: نقصتنى، فأين ما قال اللَّه؟ وتلا الآية، فقال «إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله. أَوْ رُدُّوها أو أجيبوها بمثلها. ورد السلام ورجعه: جوابه بمثله، لأن المجيب يرد قول المسلم ويكرره، وجواب التسليمة واجب، والتخيير إنما وقع بين الزيادة وتركها. وعن أبى يوسف رحمه اللَّه: من قال لآخر: أقرئ فلانا السلام، وجب عليه أن يفعل.
وعن النخعي: السلام سنة والردّ فريضة. وعن ابن عباس: الردّ واجب. وما من رجل يمرّ على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردّت عليه الملائكة. ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن، جهراً ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان، والإقامة. وعن أبى يوسف: لا يسلم على لاعب النرد والشطرنج، والمغني، والقاعد لحاجته، ومطير الحمام، والعاري من غير عذر في حمام أو غيره. وذكر الطحاوي: أن المستحب ردّ السلام على طهارة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه تيمم لردّ السلام «2» . قالوا:
ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته، ولا يسلم على أجنبية. ويسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر.
وإذا التقيا ابتدرا. وعن أبى حنيفة: لا تجهر بالرد يعنى الجهر الكثير. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم
__________
(1) . أخرجه الطبراني والطبري من رواية هشام بن عاصم الأحول عن أبى عثمان عن سلمان. وقال ابن الجوزي في العلل:
ترك حديث هشام. ورواه الطبراني أيضاً من رواية عكرمة عن ابن عباس. والراوي له عن عكرمة أبو هريرة عن نافع عن هرمز. وهو ضعيف.
(2) . أخرجه البخاري من رواية عمير مولى ابن عباس قال «أقبلت أنا وعبد اللَّه بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى دخلنا على أبى الجهيم بن الحرث ابن الصمة الأنصارى. فقال أبو الجهيم: أقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل، فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أتى على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام» ورواه مسلم معلقاً. ولأبى داود عن ابن عمير «مر رجل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سكة من السكك، وقد خرج من غائط أو بول، فسلم عليه. فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب يده على الحائط ومسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنى لم أكن على طهارة» .(1/544)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم «1» » أى وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. وروى «لا تبتدئ اليهودىّ بالسلام، وإن بدأك فقل. وعليك» . وعن الحسن: يجوز أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة اللَّه، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه: وعليك السلام ورحمة اللَّه. فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة اللَّه يعيش؟
وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم.
وروى ذلك عن النخعي. وعن أبى حنيفة: لا تبدأه بسلام في كتاب ولا غيره. وعن أبى يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس بالدعاء له بما يصلحه في دنياه عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أى يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر للمبتدإ. وإما اعتراض والخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) . ومعناه: اللَّه واللَّه ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى ليحشرنكم إليه. والقيامة والقيام، كالطلابة والطلاب، وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً لأنه عز وعلا صادق لا يجوز عليه الكذب. وذلك أنّ الكذب مستقل بصارف عن الإقدام عليه وهو قبحه. ووجه قبحه، الذي هو كونه كذبا وإخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فمن كذب لم يكذب إلا لأنه محتاج إلى أن يكذب ليجرّ منفعة أو يدفع مضرة. أو هو غنى عنه إلا أنه يجهل غناه. أو هو جاهل بقبحه. أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالى بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق. وعن بعض السفهاء أنه عوتب على الكذب فقال: لو غرغرت لهواتك به ما فارقته. وقيل لكذاب: هل صدقت قط؟ فقال:
لولا أنى صادق في قولي «لا» لقلتها. فكان الحكيم الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجات العالم بكل معلوم، منزها عنه، كما هو منزه عن سائر القبائح.
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
فِئَتَيْنِ نصب على الحال، كقولك: مالك قائما؟ روى أنّ قوما من المنافقين استأذنوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة، فلما خرجوا لم يزالوا
__________
(1) . متفق عليه من حديث أنس رضى اللَّه عنه.(1/545)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال بعضهم: هم كفار. وقال بعضهم: هم مسلمون. وقيل: كانوا قوما هاجروا من مكة، ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وقيل.
هم قوم خرجوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم أحد ثم رجعوا. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا بساراً. وقيل هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة. ومعناه:
ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا نفاقا ظاهراً وتفرقتم فيه فرقتين وما لكم لم تبتوا القول بكفرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أى ردهم في حكم المشركين كما كانوا بِما كَسَبُوا من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. أو أركسهم في الكفر بأن خذلهم حتى أركسوا فيه، لما علم من مرض قلوبهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أن تجعلوا من جملة المهتدين مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من جعله «1» من جملة الضلال، وحكم عليه بذلك أو خذله حتى ضلّ. وقرئ: ركسهم. وركسوا فيها.
[سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 91]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
فَتَكُونُونَ عطف على: (تَكْفُرُونَ) ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى: ودّوا
__________
(1) . قال محمود: «معناه من جعله ... الخ» قال أحمد: هو بهذين الوجهين يفر من الحق والحقيقة. أما الحق، فلأن اللَّه هو الذي خلق الضلال لمن ضل إذ لا خالق إلا اللَّه. وأما الحقيقة، فلأنها- أعنى الآية- اقتضت نسبة الأصل إلى فعل اللَّه تعالى، فالتخيل في تحريف الفاعلية إلى التسبيب عدول عن الحقيقة إلى المجاز. وقد علمت الباعث له على هذا المعتقد فلا نعيده.(1/546)
كفركم فكونكم معهم شرعاً «1» واحداً فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. فلا تتولوهم وإن آمنوا حتى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي للَّه ورسوله- لا لغرض من أغراض الدنيا- مستقيمة ليس بعدها بداء ولا تعرّب. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة، فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحلّ والحرم، وجانبوهم مجانبة كلية، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من قوله (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) ومعنى (يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) ينتهون إليهم ويتصلون بهم. وعن أبى عبيدة:
هو من الانتساب. وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتميت إليه. وقيل: إن الانتساب لا أثر له في منع القتال، فقد قاتل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمن معه من هو من أنسابهم، والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح أَوْ جاؤُكُمْ لا يخلو من أن يكون معطوفا على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذين، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم والوجه العطف على الصلة لقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا بعد قوله: (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأنّ الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. وفي قراءة أبىّ: بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم، بغير أو. ووجهه أن يكون (جاؤُكُمْ) بياناً ليصلون، أو بدلا أو استئنافا، أو صفة بعد صفة لقوم. حصرت صدورهم في موضع الحال بإضمار قد. والدليل عليه قراءة من قرأ: حصرة صدورهم. وحصرات صدورهم. وحاصرات صدورهم. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف على: أو جاؤكم قوماً حصرت صدورهم. وقيل: هو بيان لجاؤكم، وهم بنو مدلج جاءوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غير مقاتلين. والحصر الضيق والانقباض أَنْ يُقاتِلُوكُمْ عن أن يقاتلوكم. أو كراهة أن يقاتلوكم. فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط اللَّه الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا
__________
(1) . قوله «شرعا» أى طريقاً. وفي الصحاح: أنه يحرك ويسكن. (ع)(1/547)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
لقذف اللَّه الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط. وقرئ: فلقتلوكم، بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أى الانقياد والاستسلام. وقرئ بسكون اللام مع فتح السين فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من بنى أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، وكانوا شراً فيها من كل عدوّ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم سُلْطاناً مُبِيناً حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله، كقوله: (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) ، (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) . أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ابتداء غير قصاص إِلَّا خَطَأً إلا على وجه الخطإ. فإن قلت: بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أى ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ وحده. ويجوز أن يكون حالا بمعنى لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطإ، وأن يكون صفة للمصدر إلا قتلا خطأ. والمعنى أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد، بأن يرمى كافراً فيصيب مسلما، أو يرمى شخصا على أنه كافر فإذا هو مسلم. وقرئ: خطاء- بالمد- وخطا، بوزن عمى- بتخفيف الهمزة- وروى أنّ عياش بن أبى ربيعة- وكان أخا أبى جهل لأمّه- أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسة فأتياه(1/548)
وهو في أطم «1» فقتل منه أبو جهل في الذروة والغارب، وقال: أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبرّ أمك وأنت على دينك، حتى نزل وذهب معهما، فلما فسحا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال للحارث: هذا أخى، فمن أنت يا حارث؟ للَّه علىّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم، وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء- ولم يشعر بإسلامه- فأنحى عليه فقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه «2» ، فنزلت فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فعليه تحرير رقبة. والتحرير: الإعتاق. والحر والعتيق: الكريم، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه: عتاق الخيل، وعتاق الطير لكرامها. وحرّ الوجه: أكرم موضع منه. وقولهم للئيم «عبد» وفلان عبد الفعل: أى لئيم الفعل. والرقبة: عبارة عن النسمة، كما عبر عنها بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأساً من الرقيق. والمراد برقبة مؤمنة: كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء. وعن الحسن: لا تجزئ إلا رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزئ الصغيرة. وقاس عليها الشافعي كفارة الظهار، فاشترط الإيمان. وقيل: لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء، يقضى منها الدين، وتنفذ الوصية وإن لم يبق وارثا فهي لبيت المال، لأن المسلمين يقومون مقام الورثة كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم «أنا وارث من لا وارث له» «3» وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقله فقال: لا أعلم لك شيئاً، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلىّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأمرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم. فورّثها عمر «4» ، وعن ابن مسعود:
__________
(1) . قوله «وهو في أطم فقتل منه» الأطم: الحصن، أفاده الصحاح. وفيه: ما زال فلان يقتل من فلان في الذروة والغارب، أى يدور من وراء خديعته. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي بغير سند، والواحدي عن ابن الكلبي. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى بتغيير يسير، ولم يسم الحرث. فقال: ومعه رجل من بنى عامر وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني نافع عن ابن عمر عن أبيه قال «أبعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص: لما أردنا الهجرة. فأصبحت أنا وعياش.
وحبس عنا هشام وفتى. وخرج أبو جهل وأخوه الحرث إلى عياش بالمدينة فكلماه وقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط، فذكر القصة بطولها.
(3) . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث المقدام بن معديكرب به، وأتم منه.
(4) . أخرجه أصحاب السنن من رواية سعيد بن المسيب «أن عمر رضى اللَّه عنه كان يقول: الدية للعاقلة، لا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع عمر رضى اللَّه عنه.(1/549)
يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين، ولا تنفذ وصية.
وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها، وذلك خلاف قول الجماعة. (فان قلت) : على من تجب الرقبة والدية؟ قلت: على القاتل إلا أن الرقبة في ماله، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن له عاقلة فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلا أن يتصدقوا عليه بالدية ومعناه العفو، كقوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ونحوه (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «كل معروف صدقة «1» » ، وقرأ أبىّ: إلا أن يتصدقوا. فإن قلت: بم تعلق أن يصدقوا، وما محله؟ قلت: تعلق بعليه، أو بمسلمة، كأنه قيل: وتجب عليه الدية أو يسلمها، إلا حين يتصدقون عليه. ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا.
ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم لم يفارقهم، فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على عاقلته لأهله شيء. لأنهم كفار محاربون. وقيل: كان الرجل يسلم ثم يأتى قومه وهم مشركون فيغزوهم جيش المسلمين، فيقتل فيهم خطأ لأنهم يظنونه كافراً مثلهم وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين وأهل الذمة من الكتابيين، فحكمه حكم مسلم من مسلمين فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة، بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها (ف) عليه فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قبولا من اللَّه ورحمة منه، من تاب اللَّه عليه إذا قبل توبته يعنى شرع ذلك توبة منه، أو نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه. هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد «2» أمر عظيم وخطب غليظ. ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة «3» . وعن سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا:
__________
(1) . أخرجه البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضى اللَّه عنه.
(2) . قال محمود: «في هذه الآية من التهديد والوعيد والإبراق ... الخ» قال أحمد: وكفى بقوله تعالى في هذه السورة (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) دليلا أبلج على أن القاتل الموحد- وإن لم يتب- في المشيئة وأمره إلى اللَّه، إن شاء آخذه وإن شاء غفر له. وقد مر الكلام على الآية، وما بالعهد من قدم.
وأما نسبة أهل السنة إلى الأشعبية، فذلك لا يضيرهم لأنهم إنما تطفلوا على لطف أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ولم يقنطوا من رحمة اللَّه، إنه لا يقنط من رحمة اللَّه إلا القوم الظالمون. [.....]
(3) . متفق عليه من رواية سعيد بن حبيب عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) قال:
لا توبة له» وفي رواية لهما عنه «قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا» (فائدة) قال ابن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا أبو مالك الأشجعى عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلى النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، قد كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة. فما بال هذا اليوم؟ قال: إنى أحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال:
فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك» .(1/550)
لا توبة له، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة اللَّه في التغليظ والتشديد، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة. وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل امرئ مسلم «1» وفيه «لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه «2» » وفيه «إن هذا الإنسان بنيان اللَّه. ملعون من هدم بنيانه» وفيه «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب «3» بين عينيه آيس من رحمة اللَّه «4» » . والعجب من قوم يقرؤن «5» هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة، وقول ابن عباس بمنع التوبة.
ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة، أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها؟ ثم ذكر اللَّه سبحانه وتعالى التوبة في قتل الخطأ، لما عسى يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ
__________
(1) . أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر. ومثله بلفظ «من قتل رجلا مسلما» وروياه موقوفا. وهو أصح. ورواه البزار وقال: لا نعلم أسنده عن شعبة إلا ابن أبى عدى.
ورواه ابن أبى شيبة وأبو يعلى من رواية الثوري عن يعلى بن عطاء به مرفوعا وأخرجه النسائي من وجه آخر مرفوعا.
وفي الباب عن بريدة، أخرجه النسائي وابن عدى. والبيهقي في الشعب، بلفظ، ولقتل مؤمن أعظم عند اللَّه من زوال الدنيا» وفيه بشر بن المهاجر وفيه ضعف وعن البراء بن عازب رضى اللَّه عنهما أخرجه ابن ماجة، والبيهقي بلفظ «لزوال الدنيا أهون على اللَّه من قتل رجل مؤمن- وزاد: والمؤمن أكرم عند اللَّه من الملائكة الذين عنده» وفي إسناده أبو المهزم يزيد بن سفيان.
(2) . لم أجده.
(3) . قوله «مكتوب» لعله مكتوبا. (ع)
(4) . أخرجه ابن ماجة وأبو يعلى والعقيلي وابن عدى من حديث أبى هريرة مثله. وإسناده ضعيف. ورواه ابن حبان في الضعفاء من رواية عمرو بن محمد الأعلم عن نجم بن سالم الأفطس عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر به وقال. إنه حديث موضوع، لا أصل له من حديث الثقات، وعمرو، والأفطس لا يجوز الاحتجاج بهما بحال.
وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية، وترجمه خلف بن حويشب من روايته عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن المسيب به وقال غريب تفرد به حكيم بن نافع عن خلف. وحكيم ضعيف إلا أنه يرد على كلام ابن حبان وفي الباب أيضا عن ابن عمر. أخرجه البيهقي في الشعب، في السادس والثلاثين. وعن ابن عباس، أخرجه الطبراني من رواية عبد اللَّه ابن حراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عنه.
(5) . قوله «والعجب من قوم يقرءون» فيه انتصار للمعتزلة وتشنيع على أهل السنة حيث ذهبوا إلى أنه يجوز غفران الكبائر بالتوبة أو بالشفاعة أو بمجرد فضل اللَّه، تمسكا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) كما حقق في علم التوحيد وفي الصحاح: أشعب اسم رجل كان طماعا. وفي المثل «أطمع من أشعب» اه فالأشعبية: الخصلة التي تنسب إلى أشعب، وهي الطمع الشديد. (ع)(1/551)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
فيه حسم للأطماع وأى حسم، ولكن لا حياة لمن تنادى. فإن قلت: هل فيها دليل على خلود من لم يتب «1» من أهل الكبائر؟ قلت: ما أبين الدليل وهو تناول قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ) أىَّ قاتل كان، من مسلم أو كافر، تائب أو غير تائب، إلا أن التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله.
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
فَتَبَيَّنُوا وقرئ: فتثبتوا، وهما من التفعل بمعنى الاستفعال- أى اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه من غير روية «2» . وقرئ: السلم. والسلام وهما الاستسلام. وقيل: الإسلام. وقيل: التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام لَسْتَ مُؤْمِناً وقرئ (مؤمنا) بفتح الميم من آمنه، أى لا نؤمنك، وأصله أن مرادس بن نهيك «3» رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول «4» من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجد وجداً شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول اللَّه استغفر لي. قال فكيف بلا إلا إلا اللَّه، قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق «5» رقبة تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا تطلبون الغنيمة
__________
(1) . قوله «دليل على خلود من لم يتب» هو مذهب المعتزلة. وذهب أهل السنة إلى خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما في حديث الشفاعة وقد تقرر في محله. (ع)
(2) . قوله «ولا تتهوكوا فيه» أى تتحيروا أو تخبطوا بلا مبالاة. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «مرداس» في الصحاح: ردست القوم ورادستهم: إذا رميتهم بحجر. والمرداس: حجر يرمى به في البئر ليعلم أن فيها ماء أولا. ومنه سمى الرجل. (ع)
(4) . قوله «إلى عاقول» في الصحاح: العاقول من النهر والوادي والرمل: الموج منه. (ع)
(5) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بتغيير يسير.(1/552)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
التي هي حطام سريع النفاد، فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوّذ به من التعرض له لتأخذوا ماله كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله وقد حرّمهما اللَّه وقوله فَتَبَيَّنُوا تكرير للأمر بالتبين ليؤكد عليهم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة للقاعدون، والنصب استثناء منهم أو حال عنهم، والجرّ صفة للمؤمنين. والضرر: المرض، أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها. وعن زيد بن ثابت: كنت إلى جنب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سرى عنه فقال: اكتب فكتبت في كتف (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) فقال ابن أمّ مكتوم وكان أعمى: يا رسول اللَّه، وكيف بمر لا يستطيع الجهاد من المؤمنين. فغشيته السكينة كذلك، ثم قال:
اقرأ يا زيد، فقرأت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقال غير أولى الضرر. قال زيد: أنزلها اللَّه وحدها، فألحقتها. والذي نفسي بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع في الكتف «1» .
وعن ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل: إلى تبوك. فإن قلت: معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان، فما فائدة نفى الاستواء؟ قلت: معناه الإذكار بما بينهما من التفاوت العظيم والبون البعيد، ليأنف القاعد ويترقع بنفسه عن انحطاط
__________
(1) . أخرجه البخاري من رواية ابن الحكم عن يزيد بن ثابت نحوه، وأبو داود وأحمد والحاكم من رواية خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت باللفظ المذكور.(1/553)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
منزلته، فيهتز للجهاد ويرغب فيه وفي ارتفاع طبقته، ونحوه (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته ليهاب به «1» إلى التعلم، ولينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ جملة موضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل: ما لهم لا يستوون، فأجيب بذلك. والمعنى على القاعدين غير أولى الضرر لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف وَكُلًّا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أى المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم «2» وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم «3» وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد، وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره. فإن قلت: قد ذكر اللَّه تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات، فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية. فإن قلت: لم نصب (دَرَجَةً) و (أَجْراً) و (دَرَجاتٍ) ؟ قلت: نصب قوله: (دَرَجَةً) لوقوعها موقع المرة من التفضيل، كأنه قيل فضلهم تفضيلة واحدة. ونظيره قولك:
ضربه سوطا، بمعنى ضربه ضربة. وأما (أَجْراً) فقد انتصب بفضل، لأنه في معنى أجرهم أجرا ودرجات، ومغفرة، ورحمة: بدل من أجر. أو يجوز أن ينتصب (دَرَجاتٍ) نصب درجة، كما تقول: ضربه أسواطا بمعنى ضربات، كأنه قيل: وفضله تفضيلات. ونصب (أَجْراً عَظِيماً) على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى:
وغفر لهم ورحمهم، مغفرة ورحمة.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
__________
(1) . قوله «ليهاب» الظاهر أنه من الهوب وهو وهج النار، أى توقدها، كما في الصحاح. (ع)
(2) . أخرجه البخاري وأبو داود من رواية حميد عن أنس. ونحوه عند مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه. [.....]
(3) . قوله «ونصحت جيوبهم» في الصحاح: تقول: إنه لحسن الجيبة- بالكسر- أى الجواب. ورجل ناصح الجيب: أى أمين. (ع)(1/554)
تَوَفَّاهُمُ يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: توفتهم. ومضارعا بمعنى تتوفاهم، كقراءة من قرأ: توفاهم، على مضارع وفيت، بمعنى أن اللَّه يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أى يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم قالُوا قال الملائكة للمتوفين فِيمَ كُنْتُمْ في أى شيء كنتم من أمر دينكم. وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة. فإن قلت: كيف صح وقوع قوله كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ جواباً عن قولهم (فِيمَ كُنْتُمْ) ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلت: معنى (فِيمَ كُنْتُمْ) للتوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء، فبكتتهم الملائكة بقولهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق اللَّه وأدوم على العبادة- حقت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام» «1» . اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجوّ من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفى عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك. وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة، فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإنى لست من المستضعفين، وإنى لأهتدى الطريق، واللَّه لا أبيت الليلة بمكة.
فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيراً فمات بالتنعيم «2» . فإن قلت: كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد «3» ، كأنهم كانوا يستحقون الوعيد مع الرجال والنساء
__________
(1) . أخرجه الثعلبي في تفسير العنكبوت من رواية عباد بن منصور الناجي عن الحسن مرسلا.
(2) . ذكره الثعلبي بغير سند هكذا. وأخرجه الواحدي في الأسباب من طريق أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: أرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بهذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فلما قرأها المسلمون قال جندب بن ضمرة الليثي وكان شيخا كبيراً: احملوني فذكره. وأخرجه أبو يعلى والطبراني من هذا الوجه مختصراً.
(3) . قال محمود: «الاستثناء من المتوعدين في قوله: (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) ... الخ» قال أحمد: قوله «إن المراهقين من الولدان يكلفون إلحاقا بالبالغين» مردود بقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبى حتى يحتلم» فجعل البلوغ نفسه مناط التكليف. وهذا مذهب الجماهير، ولم يبلغنا خلافه. وقال الزمخشري: أراد الحديثى العهد بالصبي وإن بلغوا، تسمية لهم بالاسم السالف لقرب عهدهم به، كما قال: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فسماهم يتامى وإن بلغوا، إذ لا تدفع أموالهم حتى يبلغوا، لأنهم حديثو عهد باليتم.
والغرض تعجيل دفع الأموال لهم إذا رشدوا، وإن قرب عهدهم باليتم حتى أنهم لذلك يعبر عنهم باليتامى، ولا يماطلوا ولو قال الزمخشري في الولدان كذلك، لكان قولا سديداً، واللَّه أعلم.(1/555)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
لو استطاعوا حيلة واهتدوا سبيلا؟ قلت: الرجال والنساء قد يكونون مستطيعين مهتدين وقد لا يكونون كذلك. وأما الولدان فلا يكونون إلا عاجزين عن ذلك، فلا يتوجه عليهم وعيد لأن سبب خروج الرجال والنساء من جملة أهل الوعيد إنما هو كونهم عاجزين، فإذا كان العجز متمكنا في الولدان لا ينفكون عنه، كانوا خارجين من جملتهم ضرورة. هذا إذا أريد بالولدان الأطفال ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف. وإن أريد بهم العبيد والإماء البالغون فلا سؤال. فإن قلت: الجملة التي هي لا يَسْتَطِيعُونَ ما موقعها؟
قلت: هي صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه، كقوله:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِى «1»
فإن قلت: لم قيل (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بكلمة الإطماع؟ قلت: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى اللَّه أن يعفو عنى، فكيف بغيره.
[سورة النساء (4) : الآيات 100 الى 101]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
مُراغَماً مهاجراً وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أى يفارقهم على رغم أنوفهم. والرغم:
الذلّ والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام- وهو التراب- يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. قال النابغة الجعدي:
كَطَوْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزِ الْمَرَاغِمِ وَالْمَذْهَبِ «2»
__________
(1) . مر شرح هذا الشاهد ص 16 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(2) . للنابغة الجعدي. والطود: الجبل العظيم. ويلاذ: يتحصن. والرغم: التصاق الأنف بالرغام أى التراب، وهو كناية عن الذل والهوان. وفي سلوك سبيل المهاجرة مراغمة للخصم مفارقة له على رغم أنفه. والمراغم- على اسم المفعول- الطريق، لأنه مكان المراغمة. واسم المكان من غير الثلاثي المجرد على زنة اسم المفعول منه، وكمساجد جمعه. «والمذهب» روى بدله «المهرب» والثاني أخص. يشبه رجلا بالجبل في الالتجاء إليه والتحصن بجاهه.(1/556)
وقرئ: مرغما. وقرئ (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) بالرفع «1» على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقيل:
رفع الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، كقوله:
مِنْ عَنَزِيّ سَبَّنِى لَمْ أضْرِبْهُ «2»
وقرئ (يُدْرِكْهُ) بالنصب على إضمار أن، كقوله:
وَأَلْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا «3»
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فقد وجب ثوابه عليه: وحقيقة الوجوب: الوقوع والسقوط (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ووجبت الشمس: سقط قرصها. والمعنى: فقد علم اللَّه كيف يثيبه وذلك واجب عليه «4» . وروى في قصة جندب بن ضمرة: أنه لما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا، وقال المشركون وهم يضحكون: ما أدرك هذا ما طلب. فنزلت. وقالوا: كل هجرة لغرض دينى- من طلب علم، أو حج، أو جهاد، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا، أو ابتغاء رزق طيب- فهي هجرة إلى اللَّه ورسوله. وإن أدركه الموت في طريقه، فأجره واقع على اللَّه
__________
(1) . قال محمود: «قرئ يدركه برفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف ... الخ» قال أحمد: توجيه الرفع على إضمار المبتدأ فيه عطف الاسمية على الفعلية، والأولى خلافه ما وجد عنه سبيل. وأما الوجه الثاني من إجراء الوصل مجرى الوقف ففيه شذوذ بين، على أن الأفصح في الوقف خلاف نقل الحركة، وقد زاد شذوذاً بإجراء الوصل مجرى الوقف، فكيف وعندي وجه حسن خالص من الشذوذ مرتفع الذروة في الفصاحة، وهو العطف على ما يقع موقع «من» مما يكون الفعل الأول معه مرفوعا، كأنه قال: والذي يخرج من بيته مهاجراً ثم يدركه الموت وهو الذي ذكره الزمخشري عند قوله: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) فيمن قرأ بالرفع، وقال ثم: هو وجه نحوى سيبوى، وإجراؤه هاهنا أقرب وأصوب منه ثمة، واللَّه أعلم.
(2) .
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه
قوله «والدهر كثير عجبه» جملة اعتراضية. والعنزي: نسبة لعنزة أبو حى من ربيعة. وقيل العنزي: القصير، نسبة إلى العنزة، وهي الرمح الصغير. والأصل سكون ياء أضربه للجزم، ولكنها عاورت الهاء للوزن. ويروى يا عجبا والدهر كثر عجبه من عنزي.
(3) .
سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا
للمغيرة بن حنين الحنظلي، وألحق كأكرم على الأفصح، وكأفتح على لغة. ونصبه بتقدير «أن» وإن لم يكن في جواب شيء من الأشياء الثابتة المعروفة في النحو، لأن المضارع قبله فيه معنى الأمر لنفسه، أو رائحة التمني، أو لأنه عطف على تعليل محذوف، أى لأنجو منهم وألحق بالحجاز فأستريح من شر عشرتهم. ولو رفع لفات ذلك وكان إخبار باللحوق والاستراحة فقط، لكن نص النحويون على أن النصب بعد الخبر المثبت الخالي من الشرط ضرورة، وهذا منه.
(4) . قوله «يثيبه وذلك واجب عليه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فلا يجب عليه شيء. (ع)(1/557)
الضرب في الأرض: هو السفر. وأدنى مدة السفر الذي يجوز فيه القصر عند أبى حنيفة:
مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ سير الإبل ومشى الأقدام على القصد، ولا اعتبار بإبطاء الضارب وإسراعه. فلو سار مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ في يوم، قصر. ولو سار مسيرة يوم في ثلاثة أيام، لم يقصر. وعند الشافعي. أدنى مدة السفر أربعة برد مسيرة يومين. وقوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل. وإلى التخيير ذهب الشافعي. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أتم في السفر «1» . وعن عائشة رضى اللَّه عنها: اعتمرت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قلت يا رسول اللَّه، بأبى أنت وأمى، قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علىّ «2» . وكان عثمان رضى اللَّه عنه يتم ويقصر «3» . وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه: القصر في السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره. وعن عمر رضى اللَّه عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم «4» . وعن عائشة رضى اللَّه عنها: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر «5» . فإن قلت: فما تصنع بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وقرئ: تقصروا من أقصر. وجاء في الحديث إقصار الخطبة بمعنى تقصيرها «6» . وقرأ الزهري (تقصروا) بالتشديد. والقصر
__________
(1) . أخرجه الشافعي وابن أبى شيبة والبزار والدارقطني والبيهقي من طرق عن عطاء عن عائشة رضى اللَّه عنها «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» لفظ الدارقطني. وقال إسناده صحيح
(2) . أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن الأسود عنها وحسنه. وأورده من طريق أخرى عن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه عن عائشة. وقال الأول متصل وعبد الرحمن أدرك عائشة. ورواه البيهقي من الوجهين
(3) . متفق عليه من حديث سالم عن أبيه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم صلى بمنى وعرفة وغيرها صلاة المسافر ركعتين، وأبو بكر، وعمر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم أتمها أربعا» وأخرجاه عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقيل لابن مسعود، فاسترجع- الحديث.
(4) . أخرجه النسائي وابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى اللَّه عنه. ورواه البزار من هذا الوجه. وحدث به يزيد بن زياد بن أبى الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة. وهذا الطريق أخرجه ابن ماجة. وأخرجه البزار من طريق أخرى عن زيد بن وهب عن عمر وفيه ياسين الزيات. وهو ضعيف. [.....]
(5) . متفق عليه.
(6) . أخرجه أبو داود والحاكم وأبو يعلى والبزار من رواية أبى راشد عن عمار بن ياسر «أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم باقصار الخطبة» قال أبو داود: لا نعلم روى أبو راشد عن عمار إلا هذا الحديث. وفي ابن حبان من حديث جابر في قصة صلاة الخوف قال «وأنزل اللَّه إقصار الصلاة. وفي أبى يعلى عن يعلى بن أمية:
قلت لعمر: فيم إقصار الصلاة ... الحديث.(1/558)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة، وهو قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وأمّا في حال الأمن فبالسنة، وفي قراءة عبد اللَّه: من الصلاة أن يفتنكم ليس فيها (إِنْ خِفْتُمْ) على أنه مفعول له، بمعنى: كراهة أن يفتنكم. والمراد بالفتنة: القتال والتعرّض بما يكره
[سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 103]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يتعلق بظاهره من لا يرى صلاة الخوف بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، حيث شرط كونه فيهم: وقال من رآها بعده: إن الأئمة نواب عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كل عصر، قوّام بما كان يقوم به فكان الخطاب له متناولا لكل إمام يكون حاضر الجماعة في حال الخوف، عليه أن يؤمّهم كما أمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الجماعات التي كان يحضرها. والضمير في: (فِيهِمْ) للخائفين فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ الضمير إمّا للمصلين «1» وإمّا لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا: يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما. وإن
__________
(1) . قال محمود: قيل المأمور بأخذ الأسلحة المصلون ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن المخاطب بأخذ الأسلحة المصلون، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك. أما المصدر فهم في مظنة طرح الأسلحة، لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة، لضرورة الخوف وخشية الغرة. وأيضا فصنيع الآية يعطى ذلك، لأنه قال:
فلتقم طائفة منهم معك، وعقب ذلك بقوله: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) فالظاهر رجوع الضمير إليهم، وحيث يعاد إلى غير المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم، بدلالة قوة الكلام عليهم وإن لم يذكروا.(1/559)
كان لغيرهم فلا كلام فيه فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا يعنى غير المصلين «1» مِنْ وَرائِكُمْ يحرسونكم وصفة صلاة الخوف عند أبى حنيفة: أن يصلى الإمام بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين- والأخرى بإزاء العدو- ثم تقف هذه الطائفة بإزاء العدو وتأتى الأخرى فيصلى بها ركعة ويتم صلاته. ثم تقف بإزاء العدوّ، وتأتى الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة وتتم صلاتها ثم تحرس، وتأتى الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها. والسجود على ظاهره عند أبى حنيفة. وعند مالك بمعنى الصلاة، لأن الإمام يصلى عنده بطائفة ركعة ويقف قائما حتى تتم صلاتها وتسلم وتذهب، ثم يصلى بالثانية ركعة ويقف قاعداً حتى تتم صلاتها، ويسلم بهم.
ويعضده وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ. وقرئ: وأمتعاتكم: فإن قلت:
كيف جمع بين الأسلحة وبين الحذر في الأخذ «2» . قلت: جعل الحذر وهو التحرّز والتيقظ آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، وجعلا مأخوذين. ونحوه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) جعل الإيمان مستقراً لهم ومتبوأ لتمكّنهم فيه فلذلك جمع بينه وبين الدار في التبوّء فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ فيشدون عليكم شدة واحدة. ورخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم في مطر أو يضعفهم من مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو. فإن قلت: كيف طابق الأمر بالحذر قوله إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً؟ قلت: الأمر بالحذر من العدو يوهم توقع غلبته واعتزازه، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ اللَّه يهين عدوهم ويخذله وينصرهم عليه، لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لذلك، وإنما هو تعبد من اللَّه كما قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) . فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فَاذْكُرُوا اللَّهَ فصلوها قِياماً مسايفين ومقارعين وَقُعُوداً جاثين على الركب مرامين وَعَلى جُنُوبِكُمْ مثخنين بالجراح فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج
__________
(1) . عاد كلامه. قال «والمراد بقوله فليكونوا من ورائكم غير المصلين» قال أحمد: والظاهر أن معنى السجود هاهنا الصلاة. وقد عبر عنها بالسجود كثيراً والمراد: فإذا صلت الطائفة أى أتمت صلاتها، فليكونوا من ورائكم.
وفيه دليل لمشهور مذهب مالك من أن الطائفة الأولى تتم صلاتها والامام منتظر للطائفة الأخرى. وقوله: (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) يعنى إذا أتمت الأولى صلاتها ووقفت من ورائكم، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل بعد شيئا فليصلوا معك. وفيه دليل بين أيضاً لأحد القولين في مذهب مالك، من أن الامام ينتظر الثانية حتى تتم صلاتها ويسلم بهم، لأن ظاهر المعية المطلقة يوجب ذلك، إذ لو كانوا يقضون بعد سلامه لم يكونوا مصلين معه على الإطلاق، واللَّه أعلم. فهذه الآية منطبقة على أكثر مشهور مذهبه في تفاصيل صلاة الخوف، واللَّه الموفق للصواب.
(2) . عاد كلامه. قال «فان قلت كيف جمع بين الأسلحة ... الخ» ؟ قال أحمد: وحسن هذا المجاز وبلغ به ذروة الفصاحة، عطف الحقيقة عليه.(1/560)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً محدوداً بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أى حال كنتم، خوف أو أمن. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي رحمه اللَّه في إيجابه الصلاة على المحارب في حالة المسايفة والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها، فإذا اطمأن فعليه القضاء. وأما عند أبى حنيفة رحمه اللَّه فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل: معناه فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر اللَّه مهللين مكبرين مسبحين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإن ما أنتم فيه من خوف وحرب جدير بذكر اللَّه ودعائه واللجأ إليه (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) فإذا أقمتم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فأتموها.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
وَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا ولا تتوانوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم، ثم ألزمهم الحجة بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أى ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه ويتشجعون، فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، مع أنكم أولى منهم بالصبر لأنكم تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة. وقرأ الأعرج: أن تكونوا تألمون، بفتح الهمزة، بمعنى: ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون. وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) تعليل. وقرئ: فإنهم ييلمون كما تيلمون.
وروى أن هذا في بدر الصغرى، كان بهم جراح فتواكلوا وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا لما هو عالم به مما يصلحكم.
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
روى أنّ طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك وافتضح وبريء اليهودي، فهمَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب(1/561)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
اليهودي. وقيل: هم أن يقطع يده «1» فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله بِما أَراكَ اللَّهُ بما عرفك وأوحى به إليك. وعن عمر رضى اللَّه عنه: لا يقولنّ أحدكم قضيت بما أرانى اللَّه، فإنّ اللَّه لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم، ولكن ليجتهد «2» رأيه، لأن الرأى من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان مصيباً، لأن اللَّه كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبرآء، يعنى لا تخاصم اليهود لأجل بنى ظفر وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به من عقاب اليهودي.
[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 110]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يخونونها بالمعصية. كقوله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها: لأنّ الضرر راجع إليهم. فإن قلت: لم قيل (لِلْخائِنِينَ) ويَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين، أحدهما: أنّ بنى ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه. فإن قلت: لم قيل خَوَّاناً أَثِيماً
على المبالغة؟ قلت: كان اللَّه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك
__________
(1) . ذكره الثعلبي من رواية أبى صالح عن الكلبي عن ابن عباس. ونقله الواحدي عن المفسرين في الأسباب. ورواه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال «ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في شأن طعمة بن أبيرق وكان من الأنصار من بنى ظفر سرق درعاً لعمه، كانت وديعة عنده ثم قذفها على يهودى كان يغشاهم يقال له: زيد بن السمين- فذكر القصة. وأخرجه الترمذي والحاكم مطولا من رواية محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان. وقال الترمذي: غريب، ولا نعلم أسنده عن ابن إسحاق إلا محمد بن سلمة. ورواه يونس وغير واحد عن ابن إسحاق عن عاصم مرسلا.
(2) . قوله «ولكن ليجتهد رأيه» عبارة الخازن: ليجهد. (ع)(1/562)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
خاتمة أمره لم يشك في حاله. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر رضى اللَّه عنه أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكى وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن اللَّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة «1» يَسْتَخْفُونَ
يستترون مِنَ النَّاسِ
حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
ولا يستحيون منه وَهُوَ مَعَهُمْ
وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خاف من سرهم، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح يُبَيِّتُونَ
يدبرون ويزوّرون «2» وأصله أن يكون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
وهو تدبير طعمة أن يرمى بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف ببراءته. فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؟
قلت: لما حدّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز. ويجوز أن يراد بالقول: الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته، وتوريكه «3» الذنب على اليهودي ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها للتنبيه في أنتم.
وأولاء: وهما مبتدأ وخبر. وجادَلْتُمْ
جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم، تجود بمالك، وتؤثر على نفسك. ويجوز أن يكون (أولاء) اسما موصولا بمعنى الذين، وجادلتم صلته. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم اللَّه بعذابه. وقرأ عبد اللَّه: عنه، أى عن طعمة وَكِيلًا
حافظا ومحاميا من بأس اللَّه وانتقامه وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة، مع العلم بما يكون منه. أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه.
[سورة النساء (4) : الآيات 111 الى 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
(فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)
أى لا يتعدّاه ضرره إلى غيره فليبق على نفسه من كسب السوء
__________
(1) . لم أجده.
(2) . قوله «ويزورون» في الصحاح «زورت الشيء» حسنته وقومته. والتزوير: تزيين الكذب. (ع)
(3) . قوله «وتوريكه الذنب» في الصحاح «ورك فلان ذنبه على غيره» أى ترفه به. وفيه أيضا «هو يقذف بكذا» أى يرمى به ويتهم به. (ع)(1/563)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
خَطِيئَةً
صغيرة أَوْ إِثْماً
أو كبيرة ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كما رمى طعمة زيداً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً
لأنه بكسب الإثم «آثم» وبرمي البريء «باهت» فهو جامع بين الأمرين. وقرأ معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه: ومن يكسب، بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب.
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
أى عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرّهم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
من بنى ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
عن القضاء بالحق وتوخى طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لأن وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك إنما عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من خفيات الأمور وضمائر القلوب، أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر، ويرجع الضمير في: (مِنْهُمْ)
إلى الناس. وقيل: الآية في المنافقين.
[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ من تناجي الناس إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدل من كثير، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقة، ففي نجواه الخير. وقيل:
المعروف القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوّع. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر اللَّه» «1» وسمع سفيان رجلا يقول: ما أشد هذا الحديث. فقال: ألم تسمع اللَّه يقول (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)
__________
(1) . أخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم وأبو يعلى والطبراني من حديث أم حبيبة. ومداره على محمد بن يزيد ابن حبيش رواية سفيان الثوري، وفيه رواية الحاكم بزيادة فيه من كلام الثوري وأنه استشهد بهذه الآية وغيرها.(1/564)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
فهو هذا بعينه. أو ما سمعته يقول (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهو هذا بعينه وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوى فاعل الخير عبادة اللَّه والتقرّب به إليه، وأن يبتغى به وجهه خالصاً، لأن الأعمال بالنيات. فإن قلت: كيف قال: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) قلت: قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله، لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال، وقرئ: يؤتيه، بالياء.
[سورة النساء (4) : الآيات 115 الى 121]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وهو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي القيم، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها، كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة، لأنّ اللَّه عز وعلا جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين، وبين مشاقة الرسول في الشرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتباعهم واجبا كموالاة الرسول عليه الصلاة والسلام. قوله نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما تولى من الضلال، بأن نخذله ونخلى بينه وبين ما اختاره وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وقرئ:
ونصله، بفتح النون، من صلاه. وقيل: هي في طعمة وارتداده وخروجه إلى مكة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تكرير للتأكيد، وقيل: كرّر لقصة طعمة: وروى: أنه مات مشركا. وقيل:
جاء شيخ من العرب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إنى شيخ منهمك في الذنوب، إلا أنى لم أشرك باللَّه شيئاً منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة(1/565)
على اللَّه ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أنى أعجز اللَّه هربا، وإنى لنادم تائب مستغفر، فما ترى حالى عند اللَّه؟ «1» فنزلت. وهذا الحديث ينصر قول من فسر (لِمَنْ يَشاءُ) بالتائب من ذنبه «2» إِلَّا إِناثاً هي اللات والعزى ومناة. وعن الحسن لم يكن حىّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات اللَّه. وقيل: المراد الملائكة. لقولهم: الملائكة بنات اللَّه. وقرئ أنثا، جمع أنيث أو أناث. ووثناً. وأثنا، بالتخفيف والتثقيل جمع وثن، كقولك أسد وأسد وأسد. وقلب الواو ألفا نحو «أُجوه» في وجوه. وقرأت عائشة رضى اللَّه عنها: أوثاناً وَإِنْ يَدْعُونَ وإن يعبدون بعبادة الأصنام إِلَّا شَيْطاناً لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة. ولَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة اللَّه وهذا القول الشنيع نَصِيباً مَفْرُوضاً مقطوعاً واجباً فرضته لنفسي من قولهم: فرض له في العطاء، وفرض الجند رزقه. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعين إلى النار وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأمانى الباطلة «3» من طول الأعمار، وبلوغ الآمال، ورحمة اللَّه للمجرمين بغير توبة «4» والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ونحو ذلك. وتبتيكهم الآذان فعلهم بالبحائر، كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق اللَّه: فقء عين الحامى وإعفاؤه عن الركوب. وقيل: الخصاء، وهو في قول عامة العلماء مباح في البهائم. وأما في بنى آدم فمحظور. وعند أبى حنيفة: يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم، لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقيل: فطرة اللَّه التي هي دين الإسلام. وقيل للحسن: إن عكرمة يقول هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين اللَّه. وعن
__________
(1) . هو منقطع.
(2) . قوله «ينصر قول من فسر من يشاء ... الخ» هو قول المعتزلة. (ع)
(3) . قال محمود: «المراد الأماني الباطلة ... الخ» قال أحمد: هو تعريض بأهل السنة الذين يعتقدون أن الموحد ذا الكبائر غير التائب أمره يرجأ إلى اللَّه تعالى، والعفو عنه موكول إلى مشيئته إيمانا وتصديقا بقوله في الآية المعتبرة في هذا (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والعجب أن هذه الآية تكررت في هذه السورة مرتين على أذن الزمخشري، وهو مع ذلك يتصام عنها، ويجعل العقيدة المتلقاة منها من جملة الأمانى الشيطانية، نعوذ باللَّه من إرسال الرسن في اتباع الهوى، وكذلك أيضا عرض بأهل السنة في اعتقادهم صدق الوعد الصادق بالشفاعة المحمدية، وعد ذلك أيضا أمنية شيطانية، وما أرى من جحد الشفاعة ينالها. فلا حول ولا قوة إلا باللَّه، لقد مكر بهذا الفاضل، فلا يأمن بعده عاقل. إنه لا يأمن مكر اللَّه إلا القوم الخاسرون. [.....]
(4) . قوله: «للمجرمين بغير توبة» بل بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. وهو مذهب أهل السنة. (ع)(1/566)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
ابن مسعود: هو الوشم. وعنه: لعن اللَّه الواشرات والمتنمصات «1» والمستوشمات المغيرات خلق اللَّه «2» . وقيل التخنث.
[سورة النساء (4) : آية 122]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران: الأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا توكيد ثالث بليغ. فإن قلت: ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيه الباطلة لقرنائه بوعد اللَّه الصادق لأوليائه، ترغيباً للعباد في إيثار ما يستحقون به تنجز وعد اللَّه، على ما يتجرعون في عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان.
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 124]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
في لَيْسَ ضمير وعد اللَّه، أى ليس ينال ما وعد اللَّه من الثواب بِأَمانِيِّكُمْ وَلا ب أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ والخطاب للمسلمين لأنه لا يتمنى وعد اللَّه إلا من آمن به، وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان بوعد اللَّه. وعن مسروق والسدى: هي في المسلمين. وعن الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوما ألهتهم أمانى المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ باللَّه وكذبوا، لو أحسنوا الظنّ باللَّه لأحسنوا العمل له. وقيل: إنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم. وقال المسلمون: نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فنزلت. ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم: إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالا (لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) ، (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وكان أهل الكتاب يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه. لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. ويعضده
__________
(1) . قوله «الواشرات والمتنمصات» الواشرات: المرققات أسنانهن. والمتنمصات: الناتفات للشعر، والمتنقشات أيضا. اه صحاح. (ع)
(2) . متفق عليه من رواية علقمة بزيادة «المتفلجات» وفيه قصة.(1/567)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
تقدم ذكر أهل الشرك قبله. وعن مجاهد: إن الخطاب للمشركين. قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعد ذكر تمنى أهل الكتاب، نحو من قوله: (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقيب قوله: (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وإذا أبطل اللَّه الأمانى وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل، وأن من أصلح عمله فهو الفائز. ومن أساء عمله فهو الهالك: تبين الأمر ووضح، ووجب قطع الأمانى وحسم المطامع، والإقبال على العمل الصالح. ولكنه نصح لا تعيه الآذان ولا تلقى إليه الأذهان. فإن قلت: ما الفرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، أراد:
ومن يعمل بعض الصالحات لأنّ كلا لا يتمكن من عمل كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه. وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة، وتسقط عنه الصلاة في بعض الأحوال. والثانية لتبيين الإبهام في: (مَنْ يَعْمَلْ) فإن قلت: كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك «1» ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. والثاني أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل اللَّه هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، فكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل
[سورة النساء (4) : آية 125]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص نفسه للَّه وجعلها سالمة له لا تعرف لها ربا ولا معبوداً سواه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف خص الصالحون بأنهم لا يظلمون وغيرهم مثلهم في ذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون الراجع في: (وَلا يُظْلَمُونَ) لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً. والثاني: أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دالا على ذكره عند الآخر، لأن كلا الفريقين مجزيون بأعمالهم لا تفاوت بينهم، ولأن ظلم المسيء أن يزاد في عقابه، وأرحم الراحمين معلوم أنه لا يزيد في عقاب المجرم، فكان ذكره مستغنى عنه. وأما المحسن فله ثواب وتوابع للثواب من فضل اللَّه هي في حكم الثواب، فجاز أن ينقص من الفضل لأنه ليس بواجب، وكان نفى الظلم دلالة على أنه لا يقع نقصان في الفضل» قال أحمد: مدار هذا التطويل بالسؤال والجواب على بث المعتقد الفاسد في أن اللَّه تعالى يجب عليه أن يثيب على الطاعات، وأن الثواب منقسم إلى واجب ليس بفضل، وإلى زيادة على الواجب وهي الفضل خاصة، وهذا المعتقد هو الذي يصدق عليه أن الشيطان مناه للقدرية، حتى زعموا أن لهم على اللَّه واجبا- تعالى اللَّه عن ذلك- إن اللَّه لغنى عن عمل يوجب عليه حقاً، جل اللَّه وعز. لقد نفخ الشيطان بهذه الأمنية في آذان القدرية. اللهم لا عمدة لنا إلا فضلك، فأجزل نصيبنا منه يا كريم(1/568)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
وَهُوَ مُحْسِنٌ وهو عامل للحسنات تارك للسيئات حَنِيفاً حال من المتبع، أو من إبراهيم كقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو الذي تحنف أى مال عن الأديان كلها إلى دين الإسلام وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: المخال، وهو الذي يخالك أى يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقك، من الخل: وهو الطريق في الرمل، أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله، أو يداخلك خلال منازلك وحجبك. فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم:
......... وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ «1»
فائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته، لأن من بلغ من الزلفى عند اللَّه أن اتخذه خليلا، كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته. ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها لم يكن لها معنى. وقيل: إن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه. فقال خليله: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت، ولكنه يريدها للأضياف، فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس. فلما أخبروا إبراهيم عليه السلام ساءه الخبر، فحملته عيناه وعمدت امرأته إلى غرارة منها فأخرجت أحسن حوّارى، واختبزت واستنبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز، فقال: من أين لكم؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري. فقال: بل من عند خليلي اللَّه عز وجل، فسماه اللَّه خليلا.
[سورة النساء (4) : آية 126]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ متصل بذكر العمال الصالحين والصالحين. معناه: أن له ملك أهل السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً فكان عالما بأعمالهم فمجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
__________
(1) .
يا ليت شعري والحوادث جمة ... هل أغدون يوما وأمرى مجمع
قوله «والحوادث جمة» أى كثيرة، جملة اعتراضية. وأغدون: مؤكد بالنون الخفيفة. «وأمرى مجمع» أى منوي مجزوم بامتثاله. أو المعنى: وشملى مجتمع بعد تفرقه، وهي جملة حالية مغنية عن خبر أغدون أو خبرها، وزيدت الواو لتوكيد الربط. وأجمع يتعلق بالمعقول، وجمع يتعلق بالمحسوس.(1/569)
ما يُتْلى في محل الرفع. أى اللَّه يفتيكم والمتلوّ فِي الْكِتابِ في معنى اليتامى، يعنى قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وهو من قولك: أعجبنى زيد وكرمه. ويجوز أن يكون.
(ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ و (فِي الْكِتابِ) خبره على أنها جملة معترضة، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيما للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند اللَّه التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه اللَّه. ونحوه في تعظيم القرآن: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ويجوز أن يكون مجروراً على القسم، كأنه قيل:
قل اللَّه يفتيكم فيهنّ، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم أيضا لمعنى التعظيم، وليس بسديد أن يعطف على المجرور في: (فِيهِنَّ) ، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى، فإن قلت بم تعلق قوله فِي يَتامَى النِّساءِ؟ قلت: في الوجه الأوّل هو صلة (يُتْلى) أى يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون (فِي يَتامَى النِّساءِ) بدلا من (فِيهِنَّ) وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير. فإن قلت:
الإضافة في: (يَتامَى النِّساءِ) ما هي؟ قلت: إضافة بمعنى «من» كقولك: عندي سحق عمامة.
وقرئ: في ييامى النساء، بياءين على قلب همزة أيامى ياء لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وقرئ: ما كتب اللَّه لهنّ، أى ما فرض لهن من الميراث. وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها «1» . فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، وعن أن تنكحوهن لدمامتهن. وروى أن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه كان إذا جاءه ولى اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة ولا مال لها قال:
تزوجها فأنت أحق بها «2» وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مجرور معطوف على يتامى النساء، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطابا للأوصياء كقوله: (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) وَأَنْ تَقُومُوا مجرور كالمستضعفين بمعنى: يفتيكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين. وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم.
__________
(1) . قوله «ومالها الخ» عبارة النسفي: ولعل أصله ومالها إلى ماله. (ع)
(2) . أخرجه الطبري من طريق إبراهيم أن عمر بن الخطاب- فذكره مرسلا.(1/570)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته. والنشوز: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسب أو ضرب والإعراض: أن يعرض عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب من طعن في سنّ، أو دمامة، أو شيء في خَلق أو خُلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك فلا بأس بهما في أن يصلحا بينهما. وقرئ: يصالحا. ويصلحا، بمعنى: يتصالحا، ويصطلحا. ونحو أصلح: أصبر في اصطبر يُصْلِحا في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة. ومعنى الصلح:
أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها «1» . وكما روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد، فقالت:
لا تطلقني ودعني أقوم على ولدى وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلىّ، فأقرّها. أو تهب له بعض المهر، أو كله، أو النفقة فإن لم تفعل فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة. أو هو خير من الخصومة في كل شيء. أو الصلح خير من الخيور، كما أن الخصومة شر من الشرور وهذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ومعنى إحضار الأنفس الشح أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه، يعنى أنها مطبوعة عليه والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها وبغير قسمتها «2» ، والرجل لا تكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن، وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وما يؤدى إلى الأذى والخصومة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً وهو يثيبكم عليه. وكان عمران بن حطان الخارجي من أدمّ بنى آدم، وامرأته من أجملهم،
__________
(1) . أخرجه الحاكم من حديث عائشة وهو في الصحيحين من رواية عروة عن عائشة قالت «ما رأيت امرأة أحب أن أكون مسلاجها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة- الحديث» .
(2) . قوله «وبغير قسمتها» لعله «غير قسمتها» ، كالفرقة والنفقة والمهر. وعبارة النسفي: تسمح بقسمتها والرجل ... الخ، فحرر. (ع)(1/571)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
فأجالت في وجهه نظرها يوما ثم تابعت الحمد للَّه، فقال: مالك؟ قالت: حمدت اللَّه على أنى وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد اللَّه الجنة عباده الشاكرين والصابرين «1»
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ومحال أن تستطيعوا العدل بَيْنَ النِّساءِ والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول «هذه قسمتى فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك «2» » يعنى المحبة لأن عائشة رضى اللَّه عنها كانت أحب إليه. وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوى بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتى من ورائه، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن فكيف إذا مال القلب مع بعضهن فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضى منها، يعنى: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال:
هَلْ هِىَ إلّا حَظَّةٌ أَوْ تَطْلِيقْ ... أوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقْ «3»
وفي قراءة أبىّ: فتذروها كالمسجونة. وفي الحديث: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء
__________
(1) . لم أجده.
(2) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية أبى قلابة عن عبد اللَّه بن يزيد عن عائشة، وفيه يعنى القلب» .
(3) . لبنت الحمارس. والاستفهام إنكارى، أى ليست حالة الزوجة مع زوجها إلا حظة صغيرة بحظوة الزوج بها، أو تطليق لها مع الزوج، أو صلف- أى عدم حظوة من الزوج بها- وصلفت صلفاً من باب تعب. ونساء صالفات وصلائف، لم يحظهن الزوج، أو تعليق بين ذلك المذكور من الأحوال. وتسبيغ مشطور الرجز بزيادة ساكن في آخره- كما هنا- قليل.(1/572)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
يوم القيامة وأحد شقيه ماثل» «1» وروى أنّ عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه بعث إلى أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: أإلى كل أزواج رسول اللَّه بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره، «فقالت:
ارفع رأسك فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعاً «2» وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد «3» وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا فيما يستقبل، غفر اللَّه لكم.
[سورة النساء (4) : آية 130]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
وقرئ: وإن يتفارقا، بمعنى وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يرزقه زوجا خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه. والسعة الغنى. والمقدرة: والواسع: الغنى المقتدر.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 133]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بوصينا، أو بأوتوا وَإِيَّاكُمْ عطف على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اسم للجنس يتناول الكتب السماوية أَنِ اتَّقُوا بأن اتقوا. وتكون أن المفسرة، لأنّ التوصية في معنى القول: وقوله وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ عطف على اتقوا: لأنّ المعنى:
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من رواية بشير بن نهيك عن أبى هريرة. قال الترمذي:
لا يعرف مرفوعا إلا من حديث همام.
(2) . لم أجده هكذا، وفي مسند أحمد من رواية باسرة بن سمين: سمعت عمر بن الخطاب يقول: وهو يخطب الناس يوم الجابية «إن اللَّه جعلني خازنا لهذا المال وقاسما له، ثم قال: بل اللَّه يقسمه، وأنا بادىء أهل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ففرض لأزواجه عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة. فقالت عائشة: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعدل بينا. فعدل بينهن عمر- الحديث» أورده في سنن أبى عمرو بن حفص في مسند المكيين [.....]
(3) . أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة معاذ من رواية الليث عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل- فذكره- وزاد: فأسهم بينهما أيهما تقدم وهذا مرسل.(1/573)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإنّ للَّه. والمعنى: إن للَّه الخلق كله وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصىّ. يتقون عقابه ويرجون ثوابه. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا اللَّه، يعنى أنها وصية قديمة ما زال يوصى اللَّه بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم:
وإن تكفروا فإنّ للَّه في سماواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحده ويعبده ويتقيه وَكانَ اللَّهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم جميعاً، مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم وتكرير قوله لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه فيطيعوه ولا يعصوه، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم وأنشأكم وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقا آخرين غير الإنس وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ من الإعدام والإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة لا يمتنع عليه شيء أراده، وهذا غضب عليهم وتخويف وبيان لاقتداره. وقيل: هو خطاب لمن كان يعادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من العرب. أى: إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه. ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال: «إنهم قوم هذا» «1» يريد أبناء فارس.
[سورة النساء (4) : آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما، لأن من جاهد للَّه خالصاً لم تخطئه الغنيمة، وله من ثواب الآخرة ما الغنيمة إلى جنبه كلا شيء. والمعنى: فعند اللَّه ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده حتى يتعلق الجزاء بالشرط.
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية سهيل عن أبيه عن أبى هريرة بهذا وقال «يعنى عجم الفرس» .(1/574)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا شُهَداءَ لِلَّهِ تقيمون شهاداتكم لوجه اللَّه كما أمرتم بإقامتها وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. فإن قلت: الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول: أشهد أن لفلان على والدىّ كذا، أو على أقاربى. فما معنى الشهادة على نفسه؟ قلت: هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. ويجوز أن يكون المعنى: وإن كانت الشهادة وبالأعلى أنفسكم، أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره إِنْ يَكُنْ إن يكن المشهود عليه غَنِيًّا فلا تمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه أَوْ فَقِيراً فلا تمنعها ترحما عليه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما بالغنى والفقير أى بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها، لأنه أنظر لعباده من كل ناظر. فإن قلت: لم ثنى الضمير في: (أَوْلى بِهِما) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله إن يكن غنياً أو فقيراً في معنى إن يكن أحد هذين؟
قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنىّ وجنس الفقير، كأنه قيل: فاللَّه أولى بجنسى الغنىّ والفقير، أى بالأغنياء والفقراء، وفي قراءة أبىّ: فاللَّه أولى بهم وهي شاهدة على ذلك. وقرأ عبد اللَّه: إن يكن غنىٌ أو فقير، على «كان» التامة أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل العدل والعدول، كأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى، كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرئ: وإن تلوا، أو تعرضوا، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وبمجازاتكم عليه.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين. ومعنى آمَنُوا اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، والدليل عليه قوله: (وَكُتُبِهِ) قرئ: وكتابه على إرادة الجنس. وقرئ: نزل.
وأنزل، على البناء للفاعل. وقيل: الخطاب لأهل الكتاب، لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض. وروى أنه لعبد اللَّه بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب. وثعلبة(1/575)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ابن قيس، وسلام بن أخت عبد اللَّه بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين، أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقالوا: يا رسول اللَّه، إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال عليه السلام: «بل آمنوا باللَّه ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» فقالوا: لا نفعل، فنزلت، فآمنوا كلهم «1» . وقيل:
هو للمنافقين، كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا. فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما فحسب، وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب، فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله، ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيماناً به، لأن طريق الإيمان به هو المعجزة، ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض، فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله، فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة، فلم يكن إيمانهم إيمانا. وهذا الذي أراد عز وجلّ في قوله: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) . فإن قلت: لم قيل (نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) و (أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ؟ قلت:
لأن القرآن نزل مفرّقا منجما في عشرين سنة، بخلاف الكتب قبله، ومعنى قوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ الآية: ومن يكفر بشيء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ لأن الكفر ببعضه كفر بكله. ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعاً.
[سورة النساء (4) : آية 137]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا نفى للغفران والهداية «2» وهي اللطف على سبيل
__________
(1) . ذكره الثعالبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس. وذكره الواحدي في الأسباب عن الكلبي بغير سند.
(2) . قال محمود: «نفى للغفران والهداية ... الخ» قال أحمد: وليس في هذه الآية ما يخالف ظاهر القاعدة المستقرة على أن التوبة مقبولة على الإطلاق، لأن آخر ما ذكر من حال هؤلاء ازدياد الكفر، ولو كان المذكور في آخر أحوالهم التوبة والايمان لاحتيج إلى الجمع بين الآية والقاعدة إذاً، وإنما يقع هذا الفصل الذي أورده الزمخشري موقعه في آية آل عمران، وهو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) وقد ظهر الآن في الجمع بين هذه الآية والقاعدة وجه آخر سوى ما تقدم في آل عمران، وهو أن يكون المراد: لن يصدر منهم توبة فلن يكون قبول، من باب على لا حب لا يهتدى بمناره وعلى هذا يكون خبراً لا حكما، والمخبر عنهم من سبق في علم اللَّه أنه لا يتوب من المرتدين، واللَّه أعلم. وفي قول الزمخشري «إن الناكث للتوبة العائد إليها يغلب من حاله أنه يموت بشر حال» نظر، فقد ورد في الحديث «المؤمن مفتن تواب» قال الهروي:
معناه يقارف الذنب لفتنته، ثم يعقبه بالتوبة.(1/576)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
المبالغة التي يعطيها اللام، والمراد بنفيهما نفى ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت. والمعنى:
إنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت يرضاه اللَّه، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ومرنت على الردّة، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرّة بعد أخرى وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة ونصحت توبتهم لم يقبل منهم ولم يغفر لهم، لأنّ ذلك مقبول حيث هو بذل للطاقة واستفراغ للوسع، ولكنه استبعاد له واستغراب، وأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع، لا يكاد يرجى منه الثبات. والغالب أنه يموت على شرِّ حال وأسمج صورة. وقيل: هم اليهود، آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى. ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 139]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ وضع (بَشِّرِ) مكان: أخبر، تهكما بهم. والَّذِينَ نصب على الذمّ أو رفع بمعنى أريد الذين، أو هم الذين. وكانوا يمايلون الكفرة «1» ويوالونهم ويقول بعضهم لبعض: لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يريد لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
[سورة النساء (4) : الآيات 140 الى 141]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
__________
(1) . قوله «يمايلون الكفرة» : لعله «يمالئون» . (ع)(1/577)
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ هي أن المخففة من الثقيلة. والمعنى أنه إذا سمعتم، أى نزل عليكم أنّ الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها، و «أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع بنزل، أو في موضع النصب بنزّل، فيمن قرأ به. والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة من قوله: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ يعنى القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت: الضمير في قوله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى من يرجع؟ قلت:
إلى من دل عليه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر. فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أى ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق «1» أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن، قال الحطيئة:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِى ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ «2»
فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم «3» تفتح لهم أبواب
__________
(1) . قوله «أو إخفاق» في الصحاح: أخفق الرجل إذا غزا ولم يغنم. (ع)
(2) . للحطيئة يخاطب الزبرقان، وهم بنو عوف بن كعب، وكان جارهم ثم انتقل إلى بنى رفيع، فذكر الزبرقان بحق الجوار، وأنه ينبغي أن لا يقاطعونه. والاستفهام للتقرير: أى أقروا بحق الجوار، فيكون بينا تمام المودة والمؤاخاة، أى الموافقة في العسر واليسر، والبأساء والضراء.
(3) . قال محمود: «سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين ... الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فان الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما مطابق أيضاً للواقع، واللَّه أعلم.(1/578)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
السماء حتى ينزل على أوليائه. وأمّا ظفر الكافرين، فما هو إلا حظ دنىّ ولمظة من الدنيا «1» يصيبونها.
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
يُخادِعُونَ اللَّهَ
يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وَهُوَ خادِعُهُمْ
وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم معصومى الدماء والأموال في الدنيا وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. والخادع: اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.
وقيل: يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين، فينادون: انظرونا نقتبس من نوركم كُسالى
قرئ بضم الكاف وفتحها، جمع كسلان، كسكارى في سكران، أى يقومون متثاقلين متقاعسين، كما ترى من يفعل شيئاً على كره لا عن طيبة نفس ورغبة يُراؤُنَ النَّاسَ
يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة «2» وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
ولا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل أيضاً لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه. أو ولا يذكرون اللَّه بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا في الندرة، وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام
__________
(1) . قوله «ولمظة من الدنيا» في الصحاح: لمظ يلمظ- بالضم- لمظا، إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه.
واللمظة- بالضم- كالنكتة من البياض. (ع)
(2) . قال محمود: «لأنهم إنما يصلون رياء ما دام من يرقبهم، فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا أو لا يذكرون اللَّه بالتهليل والتسبيح إلا ذكراً قليلا في الندرة وهكذا ترى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام لو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ولا يجوز أن يراد بالقلة العدم» انتهى كلامه. قلت: وإنما منع من أن يراد بها العدم لأنه خبر فيجب صدقه، وقد كانوا يذكرون اللَّه في بعض الأحيان فلا يمكن أن يسلب ذكر اللَّه مطلقا، وإذا بنينا على أن المراد بالذكر الصلاة وهو الظاهر، فالمراد أيضا الصلاة المعتبرة التي يذكر بها الإنسان حق اللَّه عليه فينتهى عن الفحشاء والمنكر. والصلاة في هذا الوجه مسلوبة عن المنافقين مطلقا، فيجوز إذا حمل القلة على العدم بهذا التفسير، واللَّه أعلم.(1/579)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه. ويجوز أن يراد بالقلة العدم. فإن قلت: ما معنى المراءاة وهي مفاعلة من الرؤية؟
قلت: فيها وجهان، أحدهما: أن المرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسانه. والثاني: أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل، فيقال: راءى الناس. يعنى رآهم، كقولك: نعمه وناعمه، وفنقه وفانقه «1» وعيش مفانق. روى أبو زيد: رأت المرأة المرأة الرجل، إذا أمسكتها لترى وجهه. ويدل عليه قراءة ابن أبى إسحاق: يرأونهم بهمزة مشدّدة: مثل. يرعونهم، أى يبصرونهم أعمالهم ويراءونهم كذلك مُذَبْذَبِينَ إمّا حال نحو قوله: (وَلا يَذْكُرُونَ)
عن واو يراؤن، أى يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم. ومعنى (مُذَبْذَبِينَ) ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، فهم متردّدون بينهما متحيرون. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أى يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد، كما قيل: فلان يرمى به الرحوان «2» ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى: كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال، بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم. أو بمعنى يتذبذبون. كما جاء: صلصل وتصلصل بمعنى. وفي مصحف عبد اللَّه. متذبذبين. وعن أبى جعفر: مدبدبين، بالدال غير المعجمة وكأن المعنى: أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة: الطريقة ومنها: دبة قريش. وذلِكَ إشارة إلى الكفر والإيمان لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونون مؤمنين وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسمون مشركين.
[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سُلْطاناً حجة بينة، يعنى أن موالاة الكافرين بينة على النفاق. وعن صعصعة ابن صوحان أنه قال لابن أخ له: خالص المؤمن، وخالق الكافر والفاجر فان الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
__________
(1) . قوله «وفنقه وفانقه» في الصحاح أنهما بمعنى: أى نعمه. (ع)
(2) . قوله «يرمى به الرحوان» في الصحاح الرحى معروفة، والألف منقلبة من الياء. تقول: هما رحيان. وفيه أيضاً، رحت الحية ترحو، إذا استدارت. والرحي: قطعة من الأرض تستدبر وترتفع على ما حولها. ورحى القوم: سيدهم. والأرحاء: الأضراس. والأرحاء: القبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها اه. وظاهره أن الرحى هنا وادى، فليحرر. (ع)(1/580)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
[سورة النساء (4) : الآيات 145 الى 146]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض، وقرئ بسكون الراء، والوجه التحريك، لقولهم: أدراك جهنم. فإن قلت: لِمَ كان المنافق أشدّ عذابا من الكافر؟ قلت لأنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله ومداجاتهم «1» وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فهم أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فيشاركونهم فيه ويساهمونهم. فإن قلت: مَن المنافق؟
قلت. هو في الشريعة من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. وأمّا تسمية من ارتكب ما يفسق به بالمنافق فللتغليظ، كقوله «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» «2» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان «3» » وقيل لحذيفة رضى اللَّه عنه: مَن المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وقيل لابن عمر: ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه فقال: كنا نعدّه من النفاق. وعن الحسن: أتى على النفاق زمان وهو مقروع فيه «4» ، فأصبح وقد عمم وقلد وأعطى سيفاً، يعنى الحجاج.
[سورة النساء (4) : آية 147]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ، أم يدرك به الثار، أم يستجلب به نفعاً، أم يستدفع به ضرراً كما يفعل الملوك بعذابهم، وهو الغنىّ الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك. وإنما
__________
(1) . قوله «ومداجاتهم» في الصحاح: المداجاة: المداراة. (ع)
(2) . تقدم في آل عمران والبقرة. [.....]
(3) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ «آية المنافق ثلاث إلى آخره، وفي رواية «من علامات المنافق ثلاث» .
(4) . قوله «وهو مقروع فيه» لعله يريد القرع بالعصا. وفي الصحاح «القارعة» الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية، يقال: قرعتهم قوارع الدهر، أى أصابتهم. وقرعت رأسه بالعصا، مثل قرعت. (ع)(1/581)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
هو أمر أوجبته الحكمة أن يعاقب المسيء، فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا موفيا أجوركم عَلِيماً بحق شكركم وإيمانكم. فإن قلت: لم قدم الشكر على الإيمان؟ قلت: لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكراً مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلا، فكان الشكر متقدما على الايمان، وكأنه أصل التكليف ومداره.
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلا جهر من ظلم «1» استثنى من الجهر الذي لا يحبه اللَّه جهر المظلوم. وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء. وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه، فأصبح شاكيا، فعوتب على الشكاية فنزلت، وقرئ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل للانقطاع. أى ولكن الظالم راكب ما لا يحبه اللَّه فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظُلِمَ) مرفوعا، كأنه قيل: لا يحب اللَّه الجهر بالسوء، إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ثم حث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار، بعد ما أطلق الجهر به وجعله محبوبا، حثا على الأحب إليه والأفضل عنده والأدخل في الكرم والتخشع والعبودية، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيبا «2» للعفو، ثم عطفه عليهما اعتدادا به وتنبيها على منزلته، وأن له مكانا في باب الخير وسيطا «3» . والدليل على أن العفو هو الغرض المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أى يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة اللَّه.
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
__________
(1) . قال محمود: «تقديره لا يحب اللَّه الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه ... الخ» قال أحمد: «ووجه التغاير أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن اللَّه تعالى مقدس أن يكون في السموات أو في الأرض، فاستحال دخوله في المستثنى منه. وكذا لا يندرج المستثنى في المستثنى منه في قولك:
ما جاءني زيد إلا عمرو. وكلام الزمخشري في هذا الفصل لا يتحقق لي منه ما يسوغ مجازيته فيه لاغلاق عبارته، واللَّه أعلم بمراده.
(2) . قوله «تشبيها» لعله محرف وأصله «تنبيها» فحرر (ع)
(3) . قوله «وسطا» أى متوسطا. (ع)(1/582)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
جعل الذين آمنوا باللَّه وكفروا برسله أو آمنوا باللَّه وببعض رسله وكفروا ببعض كافرين باللَّه ورسله جميعا لما ذكرنا «1» من العلة، ومعنى اتخاذهم بين ذلك سبيلا: أن يتخذوا دينا وسطا بين الإيمان والكفر كقوله: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أى طريقا وسطا في القراءة وهو ما بين الجهر والمخافتة. وقد أخطؤا، فإنه لا واسطة بين الكفر والإيمان «2» ولذلك قال أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أى هم الكاملون في الكفر. و (حَقًّا) تأكيد لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد اللَّه حقا، أى حق ذلك حقا، وهو كونهم كاملين في الكفر، أو هو صفة لمصدر الكافرين، أى هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه،
[سورة النساء (4) : آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
فإن قلت: كيف جاز دخول بَيْنَ على أَحَدٍ وهو يقتضى شيئين فصاعدا؟ قلت: إن أحدا عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، فتقصد العموم، ألا تراك تقول: إلا بنى فلان، وإلا بنات فلان فالمعنى: ولم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة ومنه قوله تعالى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) ، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) معناه: أنّ إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتثبيته لا كونه متأخرا،
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
__________
(1) . قوله «لما ذكرنا» أى في تفسير قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... ) الخ» . (ع)
(2) . قوله «فانه لا واسطة بين الكفر والايمان» هذا عند أهل السنة. أما عند المعتزلة ففاعل الكبيرة الذي يموت بلا توبة لا هو مؤمن ولا كافر، بل منزلة بين المنزلتين. فتدبر. (ع)(1/583)
روى أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى «1» . فنزلت. وقيل: كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول اللَّه، وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت، قال الحسن: ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم، وفيما آتاهم كفاية فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى جواب لشرط مقدر «2» . معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى
__________
(1) . لم أجده هكذا. ورواه الطبري من طريق أسباط عن السدى قال «قالت اليهود للنبي صلى اللَّه عليه وسلم:
إن كنت صادقا أنك رسول اللَّه فائتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى. فنزلت.
(2) . قال محمود: «فقد سألوا موسى: جواب لشرط مقدر ... الخ» قال أحمد: وهذا من المواضع التي استولى عليه فيها الاغفال، ولوح به اتباع هواه إلى مهواة الضلال، لأنه بنى على أن الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد كونهم طلبوا الرؤية وهي محال عقلا دنيا وآخرة على زعم القدرية، لما يلزم عندهم لو قيل بجوازها من اعتقاد التشبيه، فلذلك سمي أهل السنة المعتقدين لجوازها ووقوعها في الآخرة وفاء بالوعد الصادق مشبهة، وغفل عن كون اليهود اقترحوا على موسى عليه السلام خصوصية علقوا إيمانهم بها، ولم يعتبروا المعجز من حيث هو كما يجب اعتباره فقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) فهذا الاقتراح والتعنت يكفيهم ظلما. ألا ترى أن الذين قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء، أو حتى تفجر الأرض، أو يكون لك بيت من زخرف، كيف هم من أظلم الظلمة؟ وإن كانوا إنما طلبوا أمورا جائزة، ولكنهم اقترحوا في الآيات على اللَّه، وحقهم أن يسندوا إيمانهم إلى أى معجز اختاره اللَّه- دل ذلك دلالة يلجأ على أن ظلمهم مسبب عن اقتراحهم، لا عن كون المقترح ممتنعا عقلا. والعجب بتنظير هذا السؤال لو كان المسئول جائزاً كسؤال إبراهيم عن إحياء الموتى على زعم الزمخشري، غفلة منه عما انطوى عليه سؤال ابراهيم عليه السلام من صريح الايمان حيث قال له تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) وعما انطوى عليه سؤال هؤلاء الملاعين من محض الكفر والإصرار عليه في قولهم: لن نؤمن لك. فصدروا كلامهم بالجحد والنفي. وأما دعاء الزمخشري على أهل السنة بالتب والصواعق، فاللَّه أعلم أى الفريقين أحق بها، ويكفيه هذه الغفلة التي تنادى عليه باتباع الهوى الذي يعمى ويصم، نسأل اللَّه العصمة من الضلالة والغواية.(1/584)
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت جَهْرَةً عيانا بمعنى أرناه نره جهرة بِظُلْمِهِمْ بسبب سؤالهم الرؤية. ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة، فتبا للمشتبهة ورميا بالصواعق «1» آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه وَقُلْنا لَهُمُ والطور مطل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ولا تعدوا في السبت، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك، وقولهم سمعنا وأطعنا، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد. وقرئ: لا تعتدوا. ولا تعدّوا، بإدغام التاء في الدال فَبِما نَقْضِهِمْ فبنقضهم. «وما» مزيدة للتوكيد. فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ «2» قلت: إما أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا، وإما أن يتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أنّ قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وأما التوكيد فمعناه تحقيق أنّ العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف «3» الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها فيكون التقدير:
__________
(1) . قوله «فنبا للمشبهة ورميا بالصواعق» يعنى أهل السنة، حيث أجازوا على اللَّه الرؤية كما حقق في محله، وغفر اللَّه للمؤمن يسيء المؤمنين. (ع)
(2) . قال محمود: «إن قلت بم تعلقت الباء في قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قلت: إما أن تتعلق بمحذوف كأنه قيل: فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا. وإما أن تتعلق بقوله: (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) على أن قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بدل من قوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ) انتهى كلامه» . قلت: ولذكر البدل المذكور سر، وهو أن الكلام لما طال بعد قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) حتى بعد عن متعلقه الذي هو حرمنا، قوى ذكره بقوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) حتى يلي متعلقه، وجاء النظم به على وجه من الاقتصار في إجمال ما سبق تفصيله، لأن جميع ما تقدم من النقض، والقتل، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم، وقولهم على مريم بهتانا عظيما. ودعواهم قتل المسيح ابن مريم قد انطوى عليه الإجمال المذكور آخرا انطواء جامعا، مع التسجيل على أن جميع أفاعيلهم الصادرة منهم ظلم. وقد تقدم لهذا التقرير نظائر واللَّه الموفق.
(3) . عاد كلامه. قال: «إن قلت هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها) فيكون التقدير: فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقا به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أن اللَّه خلقها غلفا، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها» انتهى كلامه. قال أحمد: هؤلاء قوم زعموا أن لهم على اللَّه حجة بكونه خلق قلوبهم غير قابلة للحق ولا متمكنة من قبوله، فكذبهم في قولهم لأنه خلق قلوبهم على الفطرة أى أن الايمان وقبول الحق من جنس مقدورهم كما هو من جنس مقدور المؤمنين، وذلك هو المعبر بالتمكن، وبخلقهم ميسرين للايمان، متأتيا منهم قبول الحق قامت عليهم حجة اللَّه، إذ يجد الإنسان بالضرورة الفرق بين قبول الحق والدخول في الايمان، وبين طيرانه في الهواء ومشيه على الماء، ويعلم ضرورة أن الايمان ممكن منه، كما يعلم أن الطيران غير ممكن منه عادة، فقد قامت الحجة وتبلجت، ألا للَّه الحجة البالغة، فمن هذا الوجه اتجه الرد عليهم «لا كما يزعمه الزمخشري من أن لهم قدرة على الايمان يلحقونه بها لأنفسهم ويقرونه في قلوبهم، وتلك القدرة موجودة سواء وجد الفعل أو لا، كالسيف المعد في يد القاتل للقتل سواء وجد أو لا، وأن هذه القدرة التي هي كالآلة للخلق على زعمه يصرفها العبد حيث شاء في إيمان وكفر، وافق ذلك مشيئة اللَّه أولا، وأن هؤلاء صرفوا قدرتهم إلى خلق الكفر لأنفسهم على خلاف مشيئة اللَّه تعالى، فلذلك يعرض الزمخشري بأهل السنة، القائلين بأن اللَّه تعالى لو شاء من عبدة الأوثان أن لا يعبدوها لما عبدوها، وتسميتهم لذلك مجبرة، ويجعل قوله تعالى: (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) ردا على الأشعرية كما هو رد على الوثنية، ويغفل عن النكتة التي نبهنا عليها، وهي: أن الرد على الوثنية بذلك لم يكن إلا لأنهم ظنوا أن هذا المقدار يقيم لهم الحجة على اللَّه، ولذلك قال تعالى عقيب ذلك (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فأوضح اللَّه تعالى أن الرد عليهم لم يكن لقولهم: إن اللَّه لو شاء لهداكم أجمعين، ولكن إنما كان الرد لظنهم أن ذلك حجة على اللَّه بقوله: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فهذا التقدير هو الايمان المحض والتوحيد الصرف، وما عداه من الاشراك الصراح فخزي، نعوذ باللَّه منه.(1/585)
فبما نقضهم ميثاقهم طبع اللَّه على قلوبهم، بل طبع اللَّه عليها بكفرهم. قلت: لم يصح هذا التقدير لأنّ قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ردّ وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) فكان متعلقاً به، وذلك أنهم أرادوا بقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أنّ اللَّه خلق قلوبنا غلفاً، أى في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، كما حكى اللَّه عن المشركين وقالوا (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) وكمذهب المجبرة «1» أخزاهم اللَّه، فقيل لهم: بل خذلها اللَّه ومنعها الألطاف بسبب كفرهم، فصارت كالمطبوع عليها، لا أن تخلق غلفاً غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله. فإن قلت: علام عطف قوله وَبِكُفْرِهِمْ؟ قلت: الوجه أن يعطف على: (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجعل قوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلاماً تبع قوله: (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على وجه الاستطراد، يجوز عطفه على ما يليه من قوله: (بِكُفْرِهِمْ) . فإن قلت: ما معنى المجيء بالكفر معطوفاً على ما فيه ذكره، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب، أو على ما بعده، وهو قوله: (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ) وقوله: (بِكُفْرِهِمْ) ؟
قلت: قد تكرّر منهم الكفر، لأنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد صلوات اللَّه عليهم، فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه، كأنه قيل:
فيجمعهم بين نقض الميثاق، والكفر بآيات اللَّه، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم
__________
(1) . قوله «وكمذهب المجبرة أخزاهم اللَّه» يريد بهم أهل السنة وحاشاهم أن يريدوا بمذهبهم ما أراده الكفار بما قالوا. وتحقيقه في علم التوحيد. وغفر اللَّه لمن تعدى حد الشرع من المؤمنين ولا أخراهم يوم الدين. (ع)(1/586)
بين كفرهم وبهتهم «1» مريم، وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. أو بل طبع اللَّه عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. والبهتان العظيم: هو التزنية. فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) ويجوز أن يضع اللَّه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) . روى أنّ رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم «اللهم أنت ربى وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ اللَّه من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله، فأخبره اللَّه بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجلا ينافق عيسى، فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله. وقال بعضهم: إنه قتل وصلب. وقال بعضهم إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء. وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. فإن قلت: شُبِّهَ مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور وهو قَوْلِهِمْ كقولك خيل إليه، كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول لأنّ قوله: إنا قتلنا يدل عليه، كأنه قيل: ولكن شبه لهم من قتلوه إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم، يعنى: ولكنهم يتبعون الظن. فإن قلت: قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين «2» ، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت: أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا، فذاك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً وما قتلوه قتلا يقيناً. أو ما قتلوه متيقنين، كما ادّعوا
__________
(1) . قوله «وبهتهم مريم» أى رميها بما ليس فيها، وهو التزنية. أى الرمي بالزنا. (ع) [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح ... الخ» قال أحمد: وليس في هذا الجواب شفاء للغليل. والظاهر واللَّه أعلم أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك في أمره والتردد فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ثم كانوا لا يخلون من ظن في بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرفعون إلى العلم فيه البتة وكيف يعلم الشيء على خلاف ما هو به فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة في الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن البتة، واللَّه أعلم.(1/587)
ذلك في قولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) أو يجعل (يَقِيناً) تأكيداً لقوله: (وَما قَتَلُوهُ) كقولك: ما قتلوه حقا أى حق انتفاء قتله حقا. وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علماً ونحرته علماً إذا تبلغ فيه علمك. وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كليا بحرف الاستغراق. ثم قيل: وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما بهم لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ به. ونحوه: (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمننّ قبل موته بعيسى، وبأنه عبد اللَّه ورسوله، يعنى: إذا عاين قبل أن تزهق روحه «1» حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. وعن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: آية ما قرأتها «2» إلا تخالج في نفسي شيء منها «3» يعنى هذه الآية، وقال إنى أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدوّ اللَّه، أتاك موسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبىّ. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه اللَّه أو ابن اللَّه، فيؤمن أنه عبد اللَّه ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إلىّ وقال: ممن؟ قلت: حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية، أو من معدنها. قال الكلبي: فقلت له: ما أردت إلى أن تقول حدثني محمد بن علىّ بن الحنفية. قال: أردت أن أغيظه، يعنى بزيادة اسم علىّ، لأنه مشهور بابن الحنفية.
وعن ابن عباس أنه فسره كذلك، فقال له عكرمة: فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال: لا تخرج نفسه حتى يحرّك بها شفتيه. قال: وإن خرّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن «4» به. وتدل عليه قراءة أبىّ: إلا ليؤمننّ به قبل موتهم، بضم النون على معنى: وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم، لأنّ أحداً يصلح للجمع. فإن
__________
(1) . قال محمود: «يعنى إذا عاين قبل أن تزهق روحه ... الخ» قال أحمد: كقول فرعون لما عاين الهلاك:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل.
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها ... الخ» . قال أحمد:
ويبعد هذا التأويل قوله: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) فان ظاهره التهديد، ولكن ما أريد بقوله في حق هذه الأمة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) واللَّه أعلم.
(3) . لم أجده. قلت: هو في تفسير الكلبي، رواه عن شهر. ورأيته قديما في كتاب المبتدإ وقصص الأنبياء لوثيمة بسنده من هذا الوجه.
(4) . لم أجده هكذا. وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى قال: قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما «ليس من يهودى يموت حتى يؤمن بعيسى بن مريم. فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار أو يأكله السبع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الايمان بعيسى عليه الصلاة والسلام(1/588)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لا بدّ لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم، بعثا لهم وتنبيها على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاما للحجة لهم، وكذلك قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن اللَّه. وقيل:
الضميران لعيسى، بمعنى: وإن منهم أحد إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روى أنه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدجال، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه «1» . ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به، على أن اللَّه يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، ويعلمهم نزوله وما أنزل له، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضمير في: (بِهِ) يرجع إلى اللَّه تعالى. وقيل: إلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا فبأى ظلم منهم. والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر العظيمة. والطيبات التي حرّمت عليهم: ما ذكره
__________
(1) . أخرجه ابن حبان وأبو داود من رواية همام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبى هريرة في حديث أوله «الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إخوة أولاد علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإنى أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبى، وإنه نازل. فإذا رأيتموه فاعرفوه، فانه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يمسه بلل، بين محصرين، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يملكه اللَّه في زمانه الملك كلها إلا الإسلام إلى آخره» وأما قوله في أوله هنا «لا يبقى أحد من أهل الأرض إلا يؤمن به» فرواه الطبري من قول ابن عباس رضى اللَّه عنهما.(1/589)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) وحرّمت عليهم الألبان، وكلما أذنبوا ذنبا صغيراً أو كبيراً حرّم عليهم بعض الطيبات من المطاعم وغيرها وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيراً أو صدّاً كثيراً بِالْباطِلِ بالرشوة التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب لكِنِ الرَّاسِخُونَ يريد من آمن منهم، كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه، والراسخون في العلم الثابتون فيه المتقنون المستبصرون وَالْمُؤْمِنُونَ يعنى المؤمنين منهم، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. وارتفع الراسخون على الابتداء. ويُؤْمِنُونَ خبره. والْمُقِيمِينَ نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب اللَّه ثلمة ليسدّها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقيل:
هو عطف على: (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء. وفي مصحف عبد اللَّه: والمقيمون، بالواو، وهي قراءة مالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ شأنه في الوحى إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. وقرئ (زبورا) بضم الزاى جمع زبر وهو الكتاب وَرُسُلًا نصب بمضمر في معنى:
أوحينا إليك وهو: أرسلنا، ونبأنا، وما أشبه ذلك. أو بما فسره قصصناهم. وفي قراءة أبىّ: ورسل(1/590)
قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم. وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب: أنهما قرءا (وَكَلَّمَ اللَّهُ) بالنصب. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم «1» ، وأن معناه وجرّح اللَّه موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ الأوجه أن ينتصب على المدح. ويجوز انتصابه على التكرير. فإن قلت: كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل «2» ، وهم محجوجون بما نصبه اللَّه من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة، ولا عرف أنهم رسل اللَّه إلا بالنظر فيها؟ قلت: الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر، كما ترى علماء أهل العدل والتوحيد «3» مع تبليغ ما حملوه من تفضيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة، لئلا يقولوا:
لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له. وقرأ السلمى:
__________
(1) . قال محمود: ومن بدع التفاسير أن كلم من الكلم ... الخ» قال أحمد: وإنما ينقل هذا التفسير عن بعض المعتزلة لانكارهم الكلام القديم الذي هو صفة الذات، إذ لا يثبتون إلا الحروف والأصوات قائمة بالأجسام، لا بذات اللَّه تعالى، فيرد عليهم بجحدهم كلام النفس إبطال خصوصية موسى عليه السلام في التكليم، إذ لا يثبتونه إلا بمعنى سماعه حروفا وأصواتا قائمة ببعض الأجرام، وذلك مشترك بين موسى وبين كل سامع لهذه الحروف، حتى المشرك الذي قال اللَّه فيه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) فيضطر المعتزل إلى إبطال الخصوصية الموسوية بحمل التكليم على التجريح، وصدق الزمخشري وأنصف: إنه لمن يدع التفاسير التي ينبو عنها الفهم ولا يبين بها إلا الوهم، واللَّه الموفق
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «فان قلت كيف يكون للناس على اللَّه حجة قبل الرسل ... الخ» قال أحمد: قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين تجرهم وتجرؤهم إلى إثبات أحكام اللَّه تعالى بمجرد العقل وإن لم يبعث رسولا، فيوجبون بعقولهم، ويحرمون ويبيحون على وفق زعمهم. ومما يوجبونه قبل ورود الشرع: النظر في أدلة المعرفة ولا يتوقفون على ورود الشرع الموجب، فمن ثم يلزمون بعد خبط وتطويل، أن من ترك النظر في الأدلة قبل ورود الشرع، فقد ترك واجباً استحق به التعذيب، وقد قامت الحجة عليه في الوجوب وإن لم يكن شرع، وإذا تليت عليهم هذه الآية وهي قوله: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقيل لهم أما هذه الآية تناديكم يا معشر القدرية أن الحجة إنما قدمت على الخلق بالأحكام الشرعية المؤدية إلى الجزاء بإرسال الرسل لا بمجرد العقل، فما تقولون فيها؟ صمت حينئذ آذانهم وغيروا في وجه هذا النص وغيروه عما هو موضوع له، فقالوا: المراد أن الرسل تتمم حجة اللَّه وتنبه على ما وجب قبل بعثها بالعقل، كما أجاب به الزمخشري، وقريبا من هذا التعسف يقولون إذا ورد عليهم قوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) وربما يدلس على ضعفة المطالعين لهذا الفصل من كلام الزمخشري قوله: إن أدلة التوحيد والمعرفة منصوبة قبل إرسال الرسل، وبذلك تقوم الحجة فنظن أن ذلك جار على سنن الصحة، إذ المعرفة باتفاق، والتوحيد بإجماع، إنما طريقه العقل لا النقل الذي يلبس عليه أن النظر في أدلة التوحيد هو فعل المكلف ليس بالحكم الشرعي، بل الحكم وجوب النظر، والمعرفة متلقاة من العقل المحض، والوجوب متلقى من النقل الصرف، وبه تقوم الحجة، وعليه يرتب الجزاء. واللَّه سبحانه ولى التوفيق والمعونة.
(3) . قوله «كما ترى علماء أهل العدل» أى كما ذهب إليه المعتزلة. وذلك أنهم حكموا العقل وجعلوه كافيا في معرفة الأحكام، كوجوب العدل وحرمة الظلم. وقال أهل السنة: لا حكم قبل الشرع. والمسألة مشهورة في علم الأصول، فالسؤال مبنى على مذهب المعتزلة. (ع)(1/591)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
لكنّ اللَّه يشهد، بالتشديد. فإن قلت: الاستدراك لا بدّ له من مستدرك «1» فما هو في قوله: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ؟ قلت: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنتوا بذلك واحتج عليهم بقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال: لكن اللَّه يشهد، بمعنى أنهم لا يشهدون لكن اللَّه يشهد. وقيل: لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قالوا: ما نشهد لك بهذا، فنزل (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ) ومعنى شهادة اللَّه بما أنزل إليه: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات. وشهادة الملائكة:
شهادتهم بأنه حق وصدق. فإن قلت: بم يجابون لو قالوا: بم يعلم أن الملائكة يشهدون بذلك؟
قلت: يجابون بأنه يعلم بشهادة اللَّه، لأنه لما علم بإظهار المعجزات أنه شاهد بصحته علم أن الملائكة يشهدون بصحة ما شهد بصحته لأنّ شهادتهم تبع لشهادته. فإن قلت: ما معنى قوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وما موقعه من الجملة التي قبله؟ قلت: معناه أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة، وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة. وقيل: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه. وقيل: أنزله مما علم من مصالح العباد مشتملا عليه.
ويحتمل: أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والملائكة يشهدون بذلك، كما قال في آخر سورة الجنّ. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) والإحاطة بمعنى العلم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره، لأنّ التصديق بالمعجزة هو الشهادة حقاً (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ) .
[سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
كَفَرُوا وَظَلَمُوا جمعوا بين الكفر والمعاصي «2» ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت الاستدراك لا بد له من مستدرك ... الخ» قال أحمد: ورود هذا الفصل في كلامه مما يغتبط به.
(2) . قال محمود: «أى جمعوا بين الكفر والمعاصي ... الخ» قال أحمد: يعدل من الظاهر، لعله يتروح إلى بث طرف من العقيدة الفاسدة في وجوب وعيد العصاة، وأنهم مخلدون تخليد الكفار. وقد تكرر ذلك منه. وهذه الآية تنبو عن هذا المعتقد، فانه جعل الفعلين أعنى الكفر والظلم كليهما صلة للموصول المجموع، فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده. ألا تراك إذا قلت: الزيدون قاموا، فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، واللَّه الموفق.(1/592)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
أصحاب كبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما «1» إلا بالتوبة وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم. أو لا يهديهم يوم القيامة طريقا إلا طريقها يَسِيراً أى لا صارف له عنه.
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 171]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وكذلك (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) انتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث، علم أنه يحملهم على أمر فقال: (خَيْراً لَكُمْ) أى اقصدوا، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث. وهو الإيمان والتوحيد لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته، حيث جعلته مولودا لغير رشدة «2» . وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وهو تنزيهه عن الشريك والولد. وقرأ جعفر بن محمد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بوزن السكيت. وقيل لعيسى (كلمة اللَّه) (وكلمة منه) لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير، من غير واسطة أب ولا نطفة. وقيل له: روح اللَّه، وروح منه، لذلك، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذى روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحىّ وإنما اخترع اختراعا من عند اللَّه وقدرته خالصة. ومعنى أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها وحصلها فيها ثَلاثَةٌ خبر مبتدإ محذوف، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس. وأنهم يريدون بأقنوم الأب: الذات، وبأقنوم الابن: العلم، وبأقنوم روح القدس: الحياة، فتقديره اللَّه ثلاثة وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة. والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن اللَّه والمسيح
__________
(1) . قوله «في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فقد تغفر الكبيرة بالشفاعة، أو بمجرد الفضل. (ع)
(2) . قوله «مولودا لغير رشدة» أى لزنية، وفي الصحاح: تقول «هو لرشدة» خلاف قولك «لزنية» . (ع)(1/593)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
ومريم ثلاثة آلهة، وأنّ المسيح ولد اللَّه من مريم. ألا ترى إلى قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون: في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ويدل عليه قوله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمّهاتها، وأن اتصاله باللَّه تعالى من حيث أنه رسوله، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من غير أب، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله: (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) وحكاية اللَّه أوثق من حكاية غيره.
ومعنى سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد. وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة ورفع النون: أى سبحانه ما يكون له ولد. على أنّ الكلام جملتان لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بيان لتنزهه عما نسب إليه، يعنى أنّ كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن صفات الأجسام والأعراض وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكل إليه الخلق كلهم أمورهم، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه.
[سورة النساء (4) : آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة «1» من نكفت الدمع. إذا
__________
(1) . قال محمود معناه لن يأنف ولن يذهب بنفسه عزة ... الخ قال أحمد: وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء. وذهب القاضي أبو بكر منا والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري. ونحن بعون اللَّه نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:
أحدها: أن سيدنا محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة، وبين طائفتنا في هذا الطرف خلاف.
السؤال الثاني: أن قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضى كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح. وفي هذا السؤال أيضاً نظر لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزم القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول. ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة. والأحاديث متوافرة بذلك. وحينئذ لا يخلو، إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه. لا سبيل إلى الأول، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني- وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع- ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعاً.
الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابنى على هذا الأمر زيد ولا عمرو.
قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فان هذا الترتيب وجه الكلام. والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانياً، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة.
وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.
ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره. وتلك النكتة مقتضى البلاغة النائى عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر، فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة، لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبداً للَّه غير مستنكف من العبودية، لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبداً للَّه وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذاً بقوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام. وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة، فإنك ترقيت من تعظيم اللَّه تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبداً له، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز، لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم، فقد يقال: ذاك من خواصه، احتراما للإسلام. فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذمياً، فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذمياً، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهى، إذ يساوى الذمي في سبب الاحترام وهو الانسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم. فان قلت: ولا مسلماً، لم تحدد له فائدة ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحياناً تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق. وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى. ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والأنهار، لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ولما اقتضى الانصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف. وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام، مستندين إلى كونه أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة اللَّه تعالى، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار اللَّه له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلب عاليها سافلها، فيكون تفضيل الملائكة إذاً بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش، وأن خوارقهم أكثر. وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء. وليس في الآية عليه دليل. ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا أى موجوداً من غير أب، أنبأنا اللَّه تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة اللَّه، بل ولا الملائكة المخلوقين من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى. ويشهد لذلك أن اللَّه تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته
بالأعجب إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب ولذلك قال: (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد، فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، واللَّه أعلم. وعلى الجملة فالمسألة سمعية والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر، صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. وما أحسن تأكيد الزمخشري لاستدلاله ببعث الملائكة المعنيين بأنهم المقربون، ومن ثم ينشئ ظهور من فصل القول في الملائكة والأنبياء، فلم يعمم التفضيل في الملائكة ولا في الأنبياء، بل فضل ثم فصل. وليس الغرض إلا ذكر محامل الآية، لا البحث في اختلاف المذاهب، واللَّه الموفق. [.....](1/594)
نحيته عن خدك بإصبعك لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً(1/595)
وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل، ومن في طبقتهم. فإن قلت: من أين دلّ قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
على أنّ المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضى غير ذلك. وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوّهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقرّبون من العبودية، فكيف بالمسيح؟
ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة، تخصيص المقرّبين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة.
ومثاله قول القائل:
وَمَا مِثْلُهُ مِمَّنْ يُجَاوِدُ حَاتِمٌ ... وَلَا الْبَحْرُ ذُو الْأَمْوَاجِ يَلْتَجُّ زَاخِرُهْ «1»
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذى الأمواج: ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) حتى يعترف بالفرق البين. وقرأ علىّ رضى اللَّه عنه: عُبيداً للَّه، على التصغير. وروى أن وفد نجران قالوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
__________
(1) . «يلتج» أى تضطرب لجته وهي معظم مائه. و «الزاخر» المرتفع. يقول: وليس مثل ممدوحى من الناس الذين يجاودهم حاتم، ولا من الذين يجاودهم البحر الزاخر، أى يضاهيهم في الجود. فالبحر: عطف على «حاتم» بالغ في وصف ممدوحه بأن مثله لا يضاهي في الكرم، فيلزم أنه هو لا يضاهي أيضا، فنفى المضاهاة عن المثل كناية عن نفيها عن الممدوح. وفيه مبالغة أيضا من جهة ترقيه من نفى مجاودة أكرم الناس إلى نفى مجاودة أنفع الأشياء. والفعل بالنسبة للبحر مجاز أو مشاكلة. أو شبه البحر بإنسان وأثبت له المجاورة على طريق المكنية وهذا على أن «يجاود» مبنى للفاعل، فان كان مبنيا للمجهول فالمعنى أن حاتم ليس مثله ممن يضاهي في الجود، كما أن البحر لا يضاهي في النفع. فقد شبهه بالبحر ضمنا.(1/596)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأى شيء أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد اللَّه ورسوله. قال: إنه ليس بعار «1» أن يكون عبداً للَّه. قالوا: بلى، فنزلت: أى لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأنّ العار ألصق به. فإن قلت: علام عطف قوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ)
؟ قلت: لا يخلو إمّا أن يعطف على المسيح، أو على اسم «يكون» أو على المستتر في: َبْداً)
لما فيه من معنى الوصف، لدلالته على معنى العبادة، كقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية، أو أن يعبد اللَّه هو ومن فوقه. فإن قلت: قد جعلت الملائكة وهم جماعة عبداً للَّه في هذا العطف، فما وجهه؟ قلت: فيها وجهان: أحدهما أن يراد: ولا كل واحد من الملائكة أو ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عباداً للَّه، فحذف ذلك لدلالة (عبد الله) عليه إيجازاً. وأمّا إذا عطفتهم على الضمير في: َبْداً)
فقد طاح هذا السؤال. قرئَ سَيَحْشُرُهُمْ)
بضم الشين وكسرها وبالنون.
[سورة النساء (4) : الآيات 173 الى 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
فإن قلت: التفصيل غير مطابق للمفصل «2» لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصل على فريق واحد. قلت: هو مثل قولك: جمع الإمام الخوارج، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله، ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين، أحدهما: أن يحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه،
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب عن ابن الكلبي.
(2) . قال محمود: «إن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل ... الخ» قال أحمد: المراد بالمفصل: من لم يستنكف ومن استنكف لسبق ذكرهما. ألا ترى أن المسيح والملائكة المقربين ومن دونهم من عباد اللَّه لم يستنكفوا عن عبادة اللَّه وقد جرى ذكرهم. ويرشد إليه تأكيد الضمير بقوله: َمِيعاً) فكأنه قال فسيحشر إليه المقربين وغيرهم جميعاً. ووقوع الفعل المتصل به الضمير جزاء لقوله: َ مَنْ يَسْتَنْكِفْ)
لا يعين اختصاص الضمير بالمستنكفين لأن المصحح لارتباط الكلام قد وجد مندرجا في طى هذا الضمير الشامل لهم ولغيرهم. وحينئذ يكون المفصل مشتملا على الفريقين، وتفصيله منطبق عليه، واللَّه أعلم.(1/597)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
ولأنّ ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ والثاني، وهو أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب اللَّه. البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ في ثواب مستحق وتفضل وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو طريق الإسلام. والمعنى: توفيقهم وتثبيتهم.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
روى أنه آخر ما نزل من الأحكام «1» . كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع، فأتاه جابر بن عبد اللَّه فقال: إنّ لي أختا، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ «2» وقيل: كان مريضا فعاده رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إنى كلالة فكيف أصنع في مالى؟ «3» فنزلت إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر. ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة لا النصب على الحال. أى: إن هلك امرؤ غير ذى ولد. والمراد بالولد الابن وهو اسم مشترك يجوز إيقاعه على الذكر وعلى الأنثى لأن الابن يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس، وبالأخت التي هي لأب وأم دون التي لأم، لأنّ اللَّه تعالى فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وأما الأخت للأم فلها السدس
__________
(1) . قوله «روى أنه آخر ما نزل من الأحكام» أى قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ ... ) الخ. (ع)
(2) . أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس.
(3) . متفق عليه من رواية ابن المنذر عنه. وأخرجه أصحاب السنن، لكن ليس في رواية أحد منهم فنزلت (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) إلا عند مسلم، من رواية ابن عيينة عنه بلفظ فنزلت (يَسْتَفْتُونَكَ) - الآية (فائدة) روى النسائي من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) - الآية وفي البخاري من رواية الشعبي عن ابن عباس «آخر آية نزلت آية الزنا» وروى الطبري من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن أبى بن كعب قال: آخر آية نزلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) - الآية.(1/598)
في آية المواريث مسوّى بينها وبين أخيها وَهُوَ يَرِثُها وأخوها يرثها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أى ابن لأن الأبن يسقط الأخ دون البنت. فإن قلت: الابن لا يسقط الأخ وحده فإن الأب نظيره في الإسقاط، فلم اقتصر على نفى الولد؟ قلت:
بين حكم انتفاء الولد، ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة، وهو قوله عليه السلام «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» «1» والأب أولى من الأخ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد، لأن الولد أقرب إلى الميت من الوالد، فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد: ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر. فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع «2» في قوله فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله: فان كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً: وإنما قيل: فان كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمّك. فكما أنت ضمير «من» لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه، والمراد بالإخوة. الإخوة لا الأخوات، تغليباً لحكم الذكورة أَنْ تَضِلُّوا مفعول له. ومعناه:
كراهة أن تضلوا. عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدّق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثاً، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرّراً، وبريء من الشرك وكان في مشيئة اللَّه من الذين يتجاوز عنهم «3» .
__________
(1) . متفق عليه، من حديث ابن عباس بلفظ «فلأولى رجل ذكر» وأخرجه كذلك الترمذي والحاكم وأبو يعلى والبزار (فائدة) قال ابن الجوزي: لفظ «عصبة» لا يحفظ في هذا الحديث
(2) . قال محمود: «إن قلت إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع ... الخ» ؟ قال أحمد: وقد سبق له هذا التمثيل في مثل هذا الموضع ولو مثل بقول القائل: حصان كانت دابتك، لكان أسلم إذ في لفظ «من» من الإبهام ما يسوغ وقوعها على الأصناف المختلفة من مذكر ومؤنث وتثنية وجمع. ومثل الآية سواء قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن جعل الجملة مفعولا ثانياً للحسبان، فان أصل الكلام: هي العدو، إذ الضمير على هذا الاعراب للصيحة، ولكنه ذكره وجمعه لمكان الخبر، واللَّه أعلم.
(3) . تقدم الكلام على أسانيده في آخر سورة آل عمران.(1/599)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
سورة المائدة
مدنية [إلا آية 3 فنزلت بعرفات في حجة الوداع] وهي مائة وعشرون آية [نزلت بعد الفتح] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
يقال وفى بالعهد وأوفى به «1» ومنه: والموفون بعهدهم. والعقد: العهد الموثق، شبه بعقد الحبل ونحوه، قال الحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمِ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «2»
وهي عقود اللَّه التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها. والظاهر
__________
(1) . قال المصنف: «يقال وفي بالعهد وأوفى به ومنه الموفون بعهدهم» قال أحمد: ورد في الكتاب العزيز (وَفَّى) بالتضعيف في قوله تعالى: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وورود أو في كثير. ومنه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأما (وفى) ثلاثيا فلم يرد إلا في قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) لأنه بنى أفعل التفضيل من وفي، إذ لا يبنى إلا من ثلاثي
(2) .
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
للحطيئة. والعناج- ككتاب-: حبل يشد في أسفل الدلو، ثم في العراقي جمع عرقوة، وهي الخشبة التي في فم الدلو. والكرب- كسبب-: حبل يشد على طرف العرقوة والعناج ليربطهما. وهذا استعارة تمثيلية شبه حالهم في توثيقهم العهد بوجوه متعددة بحال من يوثق الدلو بحبال متعددة. أو شبه حال عهدهم في وثاقته الزائدة بحال الدلو الموثقة «وأنف الناقة» لقب جعفر بن قريع، ذبح والده ناقة لنسائه فأرسلته أمه ليأخذ نصيبها فلم يجد إلا الرأس، فقال والده: عليك به، فجعل يجره من الأنف فلقب بذلك، فكانت قبيلته تأنف من ذلك اللقب، فاستعار الشاعر الأنف: للخيار العالين المقدار على طريق التصريح. أو شبه القوم به تشبيها بليغاً، وشبه غيرهم بالذنب في الخسة والضعة. والاستفهام إنكارى، أى لا أحد يسوى بين الأنف والذنب في الدفعة، فصار هذا اللقب مدحا من حينئذ.
وفيه تورية في غاية الحسن.(1/600)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
أنها عقود اللَّه عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل وهو قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ وما بعده. البهيمة: كلّ ذات أربع في البرّ والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلا محرّم ما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وإلا ما يتلى عليكم آية تحريمه. والأنعام: الأزواج الثمانية. وقيل «بهيمة الأنعام» الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في: (لَكُمْ) أى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد. وعن الأخفش أن انتصابه عن قوله: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال عن محلى الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون، لئلا تحرج عليكم إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. والحرم: جمع حرام وهو المحرم.
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
الشعائر جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر، أى جعل شعاراً وعلما للنسك، من مواقف الحج ومرامي الجمار، والمطاف، والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحج يعرف بها من الإحرام، والطواف، والسعى، والحلق، والنحر. والشهر الحرام: شهر الحج. والهدى: ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى اللَّه من النسائك. وهو جمع هدية، كما يقال جدي في جمع جدية السرج «1» .
والقلائد: جمع قلادة، وهي ما قلد به الهدى من نعل أو عروة مزادة، أو لحاء شجر «2» ، أو غيره.
وآمّوا المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار. وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة
__________
(1) . قوله «يقال جدي في جمع جدية السرج» في الصحاح: الجدية- بتسكين الدال: شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج والرحل. والجمع جدي وجديات. (ع)
(2) . قوله «أو لحاء شجر» أى قشر اه. (ع)(1/601)
الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدّون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله. وأما القلائد ففيها وجهان، أحدهما:
أن يراد بها ذوات القلائد من الهدى وهي البدن، وتعطف على الهدى للاختصاص وزيادة التوصية بها لأنها أشرف الهدى، كقوله: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) كأنه قيل: والقلائد منها خصوصا.
والثاني أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدى مبالغة في النهى عن التعرض للهدى، على معنى:
ولا تحلوا قلائدها فضلا أن تحلوها، كما قال: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهى عن إبداء مواقعها وَلَا آمِّينَ ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وهو الثواب وَرِضْواناً وأن يرضى عنهم، أى لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم، تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. قيل: هي محكمة. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها «1» » وقال الحسن: ليس فيها منسوخ. وعن أبى ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ. وقيل: هي منسوخة. وعن ابن عباس:
كان المسلمون والمشركون يحجون جميعا، فنهى اللَّه المسلمين أن يمنعوا أحدا عن حج البيت بقوله (لا تُحِلُّوا) ثم نزل بعد ذلك (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) وقال مجاهد والشعبي: (لا تُحِلُّوا) نسخ بقوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . وفسر ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّ المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على سداد من دينهم، وأنّ الحج يقربهم إلى اللَّه، فوصفهم اللَّه بظنهم. وقرأ عبد اللَّه: ولا آمى البيت الحرام، على الإضافة. وقرأ حميد بن قيس والأعرج: تبتغون، بالتاء على خطاب المؤمنين فَاصْطادُوا إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا. وقرئ بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقرئ: وإذا أحللتم، يقال حلّ المحرم وأحلّ. «جرم» يجرى مجرى «كسب» في تعديه إلى مفعول واحد واثنين. تقول: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه. ويقال: أجرمته ذنبا، على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين، كقولهم: أكسبته ذنبا. وعليه قراءة عبد اللَّه: ولا يجرمنكم بضم الياء، وأوّل المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين، والثاني (أَنْ تَعْتَدُوا) . وأَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة، متعلق بالشنآن بمعنى العلة، والشنآن: شدّة البغض. وقرئ بسكون النون. والمعنى:
ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدّوكم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه. وقرئ: إن صدوكم، على «إن»
__________
(1) . أخرجه الحاكم من طريق جبير بن نفير. قال «دخلت على عائشة. فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟
فقلت نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأشار الترمذي إلى أن المراد بقولها «والفتح» إذا جاء نصر اللَّه. قال: وقد روى عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما. [.....](1/602)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الشرطية. وفي قراءة عبد اللَّه. إن يصدوكم. ومعنى صدّهم إياهم عن المسجد الحرام: منع أهل مكة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة، ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى على العفو والإغضاء وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ على الانتقام والتشفي. ويجوز أن يراد العموم لكل برّ وتقوى وكل إثم وعدوان، فيتناول بعمومه العفو والانتصار.
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في المباعر «1» ، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أى رفع الصوت به لغير اللَّه، وهو قولهم: باسم اللات والعزى عند ذبحه وَالْمُنْخَنِقَةُ التي خنقوها حتى ماتت، أو انخنقت بسبب وَالْمَوْقُوذَةُ التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر حتى ماتت وَالْمُتَرَدِّيَةُ التي تردّت من جبل أو في بئر فماتت وَالنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح وَما أَكَلَ السَّبُعُ بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب أوداجه. وقرأ عبد اللَّه: والمنطوحة. وفي رواية عن أبى عمرو (السَّبُعُ) بسكون الباء. وقرأ ابن عباس:
وأكيل السبع وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها، تسمى الأنصاب، والنصب واحد. قال الأعشى:
وَذَا النَّصْبِ الْمَنْصُوبِ لَا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعَاقِبَةٍ وَاللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا «2»
__________
(1) . قوله «وهو الدم في المباعر» المباعر: الأمعاء يجعل فيها الدم بعد فصده ويشوى للضيف. وقولهم «لم يحرم ... الخ» جار مجرى الأمثال. و «فزد» مبنى للمجهول، أصله «فصد» فسكنت صاده تخفيفا ثم قلبت زايا. انتهى. (ع)
(2) .
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... لعاقبة واللَّه ربك فاعبدا
وصل على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان واللَّه فاحمدا
للأعشى. و «النصب» كضرب وكشرب. وفي لغة: كسبب. وفي لغة كعنق. ويحتملها ما هنا: العلم المنصوب.
والمراد به هنا الصنم وأحد الحجارة التي كانت منصوبة حول البيت يذبحون لأجلها الهدى يتقربون به إليها. و «ذا» اسم إشارة نصب بمحذوف يفسره المذكور على طريقة الاشتغال. وجعله الجوهري على تقدير: إياك وهذا النصب فهو منصوب على التحذير ويروى لا تنسكنه بدل تعبدنه. ويروى «المثرين» بدل «الشيطان» أى الأغنياء.
ويروى بدل الشطر الثاني «واللَّه ربك فاعبدا» و «لعاقبة» أى لطلب عاقبة. وتقديم المعمول لافادة الحصر ولزيادة الفاء. ويجوز أنه على تقدير: والزم اللَّه ربك فهو نصب على الإغراء، والفاء عاطفة على المقدر. و «اعبدا» مؤكد بالنون المبدلة ألفا للوقف. و «على» بمعنى «في» وروى «سبح» بدل «صل» والمعنى واحد، أى صل الصلوات وقت الضحى والعشيات. واحمدا كاعبدا.(1/603)
وقيل: هو جمع، والواحد نصاب. وقرئ (النُّصُبِ) بسكون الصاد وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أى بالقداح. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحا أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربى، وعلى بعضها: أمرنى ربى، وبعضها غفل فإن خرج الآمر مضى لطيته «1» ، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عوداً. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل: هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى الاستقسام: أو إلى تناول ما حرّم عليهم لأنّ المعنى حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا.
فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال: (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه «2» ، وقوله: أمرنى ربى، ونهاني ربى: افتراء على اللَّه. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم- فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر الْيَوْمَ لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك: كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن» في قوله:
الآنَ لمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى ... وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِى عَلَى لَجذَمِ «3»
__________
(1) . قوله «فان خرج الآمر مضى لطيته» بكسر الطاء، أى لنيته التي انتواها. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «وإلى استنباطه» لعل بعده سقطا تقديره: سبيلا خطأ وضلال. (ع)
(3) .
الآن لما ابيض مسربتي ... وعضضت من نابي على جذم
حلبت هذا الدهر أشطره ... وأتيت ما آتى على علم
للذهلى. وقيل: لأبى العلاء المعرى. و «الآن» الزمن الحاضر. و «المسربة» بضم الراء- وقد تفتح-:
الشعرات التي تنبت وسط الصدر دقيقة مستطيلة إلى أسفل السرة، وهي آخر ما يشيب من الإنسان، فبياضها كناية عن بلوغه غاية الشيب، وأما المسربة بالفتح فقط فهي مخرج الغائط. و «من نابي» حال مقدمة. و «من» تبعيضية. و «الجذم» أصل الشيء، كأن أنيابه تفتتت حتى لم يبق إلا أصولها. ويجوز أن المعنى: أنها سقطت وبقي محلها من اللحم، وهو أيضا كناية عما تقدم توكيد له في المعنى. و «حلبت هذا الدهر» أى جمعت ما فيه من الحوادث وجربتها. و «أشطره» نواحيه وجوانبه فكأنه شبه الزمان بمكان له جوانب على طريق الكناية، وإثبات الأشطر تخييل، وهو نصب على البدلية. والشطر أيضاً: نصف ضرع الناقة: فيه خالفان، وفي النصف الآخر خالفان. فشبه الدهر بناقة على طريق المكنية، وإثبات الأشطر تخييل. وحلبها ترشيح. وهذا أوجه وأقرب من الأول. وأشطره: نصب على البدلية أيضا. ويمكن أن حلب مضاعف للتعدية لا للمبالغة. فالمعنى:
جعلت الدهر يحلب لي أشطره ويجمع لي ما فيها من الغرائب والعجائب. وقيل: المراد بأشطره أنواع الخير والشر.
وأتيت: أى فعلت لأن من يفعل الشيء لا بد من توجه جسمه وقلبه إليه. والمعنى: صارت عادتى أنى أفعل ما أفعله على علم عندي، من طول تجربتى لحوادث الدهر.(1/604)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
وقيل: أريد يوم نزولها، وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرّمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن اللَّه عز وجل وفي بوعده من إظهاره على الدين كله فَلا تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين مقهورين بعد ما كانوا غالبين وَاخْشَوْنِي وأخلصوا لي الخشية أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ كفيتكم أمر عدوّكم، وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأن لم يحجّ معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو أتممت نعمتي عليكم بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بذلك، لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعنى اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) . فإن قلت: بم اتصل قوله فَمَنِ اضْطُرَّ؟ قلت: بذكر المحرّمات. وقوله: (ذلِكُمْ فِسْقٌ) اعتراض أكد به معنى التحريم، وكذلك ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل. ومعناه: فمن اضطرّ إلى الميتة أو إلى غيرها فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف إليه، كقوله: (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) . فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لا يؤاخذه بذلك.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)(1/605)
في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أُحِلَّ لَهُمْ كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحلّ لهم. وإنما لم يقل: ماذا أحلّ لنا، حكاية لما قالوه لأنّ يسألونك بلفظ الغيبة، كما تقول أقسم زيد ليفعلنّ. ولو قيل: لأفعلنّ وأُحِلَّ لنا، لكان صوابا. و «ماذا» مبتدأ، و (أُحِلَّ لَهُمْ) خبره كقولك: أى شيء أحل لهم؟ ومعناه: ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحلّ لهم منها، فقيل: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أى ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد. وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات «1» أى أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف. أو تجعل (ما) شرطية، وجوابها (فَكُلُوا) والجوارح: الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. والمكلب: مؤدّب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها، ورائضها لذلك بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف، واشتقاقه من الكلب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتقّ من لفظه لكثرته من جنسه. أو لأن السبع يسمى كلباً. ومنه قوله عليه السلام «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك «2» » فأكله الأسد. أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: هو كلب بكذا، إذا كان ضاريا به. وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من علمتم. فإن قلت. ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرّبا فيه، موصوفا بالتكليب. وتُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف. وفيه فائدة جليلة «3» وهي أن على كلّ آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل.
فكم من آخذ عن غيره متقن، قد ضيع أيامه وعضّ عند لقاء النحارير أنامله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علم التكليب، لأنه إلهام من اللَّه ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه.
__________
(1) . قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «وما علمتم عطفاً على الطيبات ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه تعالى: ولقد أحسن في التنبيه على هذا السر الخفي غير أن الحال بأصالتها منتقلة غير لازمة ومقتضى هذا التقرير جعلها من الصفات اللازمة لمعلم الجوارح الثابتة له.
(2) . هو طرف من حديث أخرجه الحاكم. وسيأتى بتمامه في سورة النجم.
(3) . عاد كلامه قال: «وفي قوله تعلمونهن مما علمكم اللَّه فائدة جليلة ... الخ» قال أحمد: وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم لأن تعليمها معناه لغة تحصيل العلم لها بطرقه خلافا لمنكري ذلك.(1/606)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
وقرئ (مُكَلِّبِينَ) بالتخفيف. وأفعل وفعل يشتركان كثيراً. والإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه، لقوله عليه السلام لعديّ بن حاتم «وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه» «1» وعن على رضى اللَّه عنه: إذا أكل البازي فلا تأكل «2» . وفرق العلماء، فاشترطوا في سباع البهائم ترك الأكل لأنها تؤدّب بالضرب، ولم يشترطوه في سباع الطير. ومنهم من لم يعتبر ترك الأكل أصلا ولم يفرق بين إمساك الكل والبعض. وعن سلمان، وسعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة رضى اللَّه عنهم: إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وذكرت اسم اللَّه عليه فكل «3» . فإن قلت: إلام رجع الضمير في قوله وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ؟ قلت. إما أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما علمتم من الجوارح. أى سموا عليه عند إرساله.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هو ذبائحهم. وقيل: هو جميع مطاعمهم. ويستوي في ذلك جميع النصارى. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه استثنى نصارى بنى تغلب وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر «4» ، وبه أخذ الشافعي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس «5» . وهو قول عامة التابعين، وبه أخذ أبو حنيفة
__________
(1) . متفق عليه من حديث عدى بن حاتم.
(2) . لم أجده.
(3) . حديث سلمان أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن سلمان في الكلب يرسل على الصيد إن أكل ثلثيه فكل الثلث الباقي. وحديث أبى هريرة كذلك رواه ابن أبى شيبة من طريق الشعبي عنه قال «إذا أرسلت كلبك فأكله فكل وإن أكل ثلثه» وحديث سعد ابن أبى وقاص كذلك أخرجه ابن أبى شيبة من رواية بكر بن الأشج عن حميد بن مالك عن سعد في الصيد يرسل عليه الكلب قال: كله وإن لم يبق منه إلا بضعة منه.
(4) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية إبراهيم النخعي عن على. وهو منقطع. وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق موصولا من رواية عبيدة عن على رضى اللَّه عنه.
(5) . أخرجه في الموطأ عن ثور عن ابن عباس بهذا. وهو منقطع. ثور لم يلق ابن عباس. وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك. وروى ابن أبى شيبة من طريق عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس. قال «كلوا ذبائح بنى تغلب وتزوجوا نساءهم» .(1/607)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وأصحابه. وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند أبى حنيفة. وقال صاحباه: هم صنفان: صنف يقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة. وصنف لا يقرؤن كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد روى عن أبى المسيب أنه قال: إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر اسم اللَّه ويذبح فلا بأس. وقال أبو ثور: وإن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وقد أساء وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم «1» ، لأنه لو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم. الْمُحْصَناتُ الحرائر أو العفائف. وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق، وكذلك نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات، فعند أبى حنيفة: هن كالمسلمات، وخالفه الشافعي، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويحتج بقوله «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ» ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد أكثر اللَّه المسلمات، وإنما رخص لهم يومئذ مُحْصِنِينَ أعفاء وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ صدائق، والخدن يقع على الذكر والأنثى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بشرائع الإسلام وما أحلّ اللَّه وحرّم.
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
__________
(1) . قال محمود: «معناه فلا عليكم أن تطعموهم ... الخ» قال أحمد: وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة، لأن التحليل حكم، وقد علقه بهم في قوله: (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) كما علق الحكم بالمؤمنين.
وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فان لقائل أن يقول في تلك الآية: نفى الحكم ليس بحكم، ولا يستطيع ذلك في آية المائدة هذه: لأن الحكم فيها مثبت واللَّه أعلم. ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة، أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أى لا جناح عليكم أيها المسلمون أن تطعموا أهل الكتاب، كما رأيته في كلامه أيضا. [.....](1/608)
إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ كقوله «فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه» «1» وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه، في أن المراد إرادة الفعل. فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت:
لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه، فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أى لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعنى إنا كنا قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأنّ الفعل مسبب عن القدرة والإرادة، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما، ولإيجاز الكلام ونحوه من إقامة المسبب مقام السبب قولهم: كما تدين تدان، عبر عن الفعل المبتدأ الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه. وقيل: معنى قمتم إلى الصلاة قصدتموها لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له لا محالة، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة «2» محدث وغير محدث، فما وجهه؟ قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. وعن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والخلفاء بعده، أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة «3» . وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من توضأ على طهر كتب اللَّه له عشر حسنات «4» . وعنه عليه السلام: أنه كان يتوضأ لكل صلاة «5» . فلما كان يوم الفتح مسح
__________
(1) . قال محمود: «قوله إذا قمتم كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللَّه ... الخ» قال أحمد هذا الكلام يستقيم وروده من السنى، كما يستقيم من المعتزلي لأنا نقول: الفعل يوجد بقدرة العبد ملتبسا بها ومقارنا لها، والمعتزلي يقوله ويعنى مخلوقا بها وناشئا عن تأثيرها، فالعبارة مستعملة في المذهبين ولكن باختلاف المعنى، واللَّه الموفق.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم ... الخ» قال أحمد: الزمخشري أنكر أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع، وقد سبق له إنكار ذلك ومن جوز إرادة جميع المحامل أجاز ذلك في الآية، ومن المجوزين لذلك الشافعي رحمه اللَّه تعالى. وناهيك بإمام الفن وقدوته. هذا إذا وقع البناء على أن صيغة «أفعل» مشتركة بين الوجوب والندب صح تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين، وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، واللَّه أعلم.
(3) . أخرجه البخاري من رواية عمرو بن عامر عن أنس بلفظ «عند كل» وزاد «قلت: كيف كنتم تصنعون قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث، والترمذي من رواية حميد عن أنس نحوه، وزاد «طاهرا وغير طاهر» ولمسلم من حديث يزيد «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: قد فعلته يا عمر» وسيأتى بعد قليل، ولأبى داود والحاكم وأحمد من حديث أسماء بنت زيد بن الخطاب عن عبد اللَّه بن حنظلة بن الغسيل «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهراً أو غير طاهر. فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك» وقوله: «وكان الخلفاء بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم يتوضئون لكل صلاة: أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية أبى عوانة عن محمد بن سيرين قال: «كان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى اللَّه عنهم يتوضئون لكل صلاة» .
(4) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما. قال الترمذي: إسناده ضعيف.
(5) . تقدم التنبيه عليه وأن مسلماً أخرجه دون ذكر المسح. وكذلك أخرجه أصحاب السنن.(1/609)
على خفيه وصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه. فقال:
«عمداً فعلته يا عمر» يعنى بياناً للجواز؟ فإن قلت: هل يجوز أن يكون الأمر شاملا للمحدثين وغيرهم، لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب. قلت: لا، لأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض، ثم نسخ. (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقاً. فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) لأن الإعسار علة الإنذار. وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان مُنظراً في كلتا الحالتين معسراً وموسراً. وكذلك (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره لأنّ الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله إِلَى الْمَرافِقِ و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل. وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها. وعن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه «1» . وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المراد إلصاق المسح بالرأس. وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح، كلاهما ملصق للمسح برأسه. فقد أخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ما روى: أنه مسح على ناصيته «2» .
وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب «3» ، فدل على أن الأرجل مغسولة
__________
(1) . أخرجه الدارقطني من حديث جابر «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه» وإسناده ضعيف.
(2) . أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في قصة فيها «ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه» وللطبراني من حديثه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته» .
(3) . قال محمود: «قرأ جماعة (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب ... الخ» قال أحمد: ولم يوجه الجر بما يشفى الغليل.
والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما إمساس بالعضو فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم، كقوله:
متقلدا سيفاً ورمحا و ... علفتها تبناً وماء باردا
ونظائره كثيرة. وبهذا وجه الحذاق، ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منها الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار. وتوكيد الفائدة بما ذكره الزمخشري وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه، كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد باشراكه الأرجل مع الممسوح، ونبه بهذا التشريك- الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا- على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة، وهذا تقرير كامل لهذا المقصود، واللَّه أعلم.(1/610)
فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزاً، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلا ويدلكونها دلكا. وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للأعقاب من النار «1» » وفي رواية جابر «ويل للعراقيب «2» » وعن عمر أنه رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه «3» . وعن عائشة رضى اللَّه عنها لأن تقطعا أحب إلىّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين «4» . وعن عطاء: واللَّه ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسح على القدمين «5» . وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح.
وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين. وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن:
وأرجلكم، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ (فَاطَّهَّرُوا أى
__________
(1) . متفق عليه من طريق يوسف بن ماهك عن عبد اللَّه بن عمرو قال «خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنا في سفرة فأدركنا- فذكره- وفيه: وأعقابهم تلوح» ولمسلم «رجعنا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة» ولأبى نعيم في المستخرج «وأعقابهم تلوح» ولمسلم «رجعنا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة ولأبى نعيم في المستخرج: وأعقابهم بيض تلوح (تنبيه) لم أره من حديث ابن عمر، وكأنه تحرف على صاحب الكتاب، أو بعض من أخذه عنه.
(2) . أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن أبى شيبة وإسحاق وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن سعيد بن أبى كريب عن جابر وهي عند مسلم من حديث أبى هريرة. وللنسائى في حديث عبد اللَّه بن عمرو المذكور ولأبى يعلى من حديث عائشة. ولسعيد بن منصور من حديث أبى ذر رضى اللَّه عنه
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من رواية أبى قلابة «أن عمر رأى رجلا يتوضأ فبقى في رجله قدر ظفر. فقال: أعد الوضوء» وهو منقطع. ورواه البيهقي موصولا من طريق الثوري عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر «أن عمر رأى رجلا» فذكره بلفظ «لمعة» وقد روى مرفوعا. أخرجه أحمد وأبو داود من رواية خالد بن معدان عن بعض الصحابة «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم رأى رجلا وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقال الأثرم عن أحمد: إسناده جيد. وقال أبو داود: هو مرسل. وتعقبه ابن دقيق العبد بأن عدم ذكر اسم الصحابي حدثه. وهو موصوف بكثرة الإرسال (تنبيه) قوله «تغليظاً عليه» من كلام صاحب الكشاف. وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بقوله «أعد الوضوء» أى اغسل رجليك من إطلاق الكل وإرادة البعض. وأما الذي في المرفوع فيحتمل أن يكون الأمر المذكور بعد أن أحدث الرجل
(4) . أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية من رواية القاسم عنها دون قوله «بغير خفين» وفي إسناده محمد ابن مهاجر البغدادي، رادعي ابن الجوزي أنه وضعه.
(5) . لم أجده.(1/611)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
فطهروا أبدانكم، وكذلك ليطهركم. وفي قراءة عبد اللَّه: فأمّوا صعيداً ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ في باب الطهارة، حتى لا يرخص لكم في التيمم وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته فيثيبكم.
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أى عاقدكم به عقداً وثيقاً هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان.
[سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
عدّى يَجْرِمَنَّكُمْ بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدّى به، كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: (أَنْ تَعْتَدُوا) بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام:
«من اتبع على مليء فليتبع «1» » لأنه بمعنى أحيل. وقرئ (شَنَآنُ بالسكون. ونظيره في المصادر «ليان» والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما «2» في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أوّلا أن تحملهم البغضاء
__________
(1) . متفق عليه من حديث الأعرج عن أبى هريرة بلفظ «وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع» وفي رواية لأحمد «وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل» وبهذا اللفظ أخرجه البزار من حديث ابن عمر رضى اللَّه عنهما. [.....]
(2) . قوله «وتتشفوا بما في قلوبكم» لعله مما. (ع)(1/612)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أى العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء اللَّه إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعداً فقيل: أى شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل وعد واقعاً على الجملة التي هي لهم مغفرة، كما وقع (تركنا) على قوله: (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) كأنه قيل: وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم.
وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
روى أن المشركين رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا، وذلك بعسفان في غزوة ذى أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم، فقالوا: إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف «1» . وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلىّ رضى اللَّه عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية النضر بن عمر عن عكرمة عن ابن عباس بتغير فيه، ولفظه قال «خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في غزاة. فلقى المشركين بعسقلان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد قال بعضهم لبعض:
كان فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علوا بكم قال قائل منهم: فان لهم صلاة أخرى» والباقي نحوه. وأصله في مسلم من رواية أبى الزبير عن جابر «غزونا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم قوما من جهينة فقاتلونا قتالا شديداً فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فقالوا: إنهم سيأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولى فأخبر جبريل النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وذكر ذلك لنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما حضرت العصر صففنا صفين- الحديث» وللترمذي والنسائي من طريق عبد اللَّه بن شقيق عن أبى هريرة نحوه.(1/613)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
صفة وهموا بالفتك به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللَّه يده ونزل جبريل فأخبره، فخرج «1» . وقيل: نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها، فعلق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابى فسلّ سيف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: اللَّه، قالها ثلاثا، فشام الأعرابى السيف «2» فصاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم، وأبى أن يعاقبه «3» . يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) ومعنى «بسط اليد» مدّها إلى المبطوش به. ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع، ومديد الباع، بمعنى.
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ فمنعها أن تمدّ إليكم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
__________
(1) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي وأبو نعيم في الدلائل. قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وعبد اللَّه بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو براد عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره مطولا- وفيه قال «ثم خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم في القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري فيما حدثني يزيد بن رومان قال: كان بين بنى النضير وبنى عامر عقد وحلف. فلما أتاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يستعينهم قالوا: نعم، اجلس يا أبا القاسم فجلس إلى جانب جدار من بيوتهم ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا. من رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة فيقتله بها فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك منهم عمرو بن جحاش بن كعب، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال- ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في نفر من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلى، فأتاه جبريل من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة، ثم أمر بحربهم والمسير إليهم. فسار الناس» (تنبيه) في كلام صاحب الكشاف «أنهما كانا مسلمين» ولم أجد ذلك في شيء من طرقه بل صرح موسى بن عقبة في المغازي أنهما كانا كافرين، وكان لهما عهد وفي الدلائل لأبى نعيم من حديث ابن عباس: فلقى عمرو بن أمية رجلين من بنى كلاب معهما أمان ولم يعلم به فقتلهما» .
(2) . قوله «فشام الأعرابى السيف» في الصحاح. شمت السيف أغمدته. وشمته: سللته وهو من الأضداد. (ع)
(3) . متفق عليه من رواية أبى سلمة عن جابر نحوه. وللبخاري من وجه آخر.(1/614)
لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم اللَّه بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إنى كتبتها لكم داراً قراراً، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإنى ناصركم، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون، فرأوا أجراماً عظيمة وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف، وكانا من النقباء.
والنقيب: الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها، كما قيل له: عريف، لأنه يتعرفها إِنِّي مَعَكُمْ أى ناصركم ومعينكم عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم ومنعتموهم من أيدى العدوّ. ومنه التعزير، وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد. وقرئ بالتخفيف يقال: عزرت الرجل إذا حطته وكنفته. والتعزير والتأزير من واد واحد. ومنه: لأنصرنك نصراً مؤزراً، أى قويا. وقيل معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثنى عشر ملكا يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب له، وهذا الجواب سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعا بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم. فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضلّ سواء السبيل. قلت:
أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى لَعَنَّاهُمْ طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا. وقيل:
مسخناهم. وقيل: ضربنا عليهم الجزية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم. أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست. وقرأ عبد اللَّه: قسية، أى ردية مغشوشة، من قولهم: درهم قسىّ وهو من القسوة لأنّ الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة، والقاسي والقاسح- بالحاء- أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرئ: قسية، بكسر القاف للإتباع يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوة أشدّ من الافتراء على اللَّه وتغيير وحيه وَنَسُوا حَظًّا وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، يعنى أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو قست قلوبهم وفسدت فحرّفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود رضى اللَّه عنه:
قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية «1» . وتلا هذه الآية. وقيل تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا
__________
(1) . أخرجه ابن المبارك في الزهد. قال: أخبرنا عبد الرحمن المسعودي عن القاسم عن عبد اللَّه قال «إنى لأحسب الرجل ينسى العلم يعلمه بالخطيئة يعملها» وهذا منقطع وكذا أخرجه الدارمي والطبراني.(1/615)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
به من الإيمان بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم وبيان نعته وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ أى هذه عادتهم وهجيراهم وكان عليها أسلافهم كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ينكثون عهودك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون بالفتك بك وأن يسموك عَلى خائِنَةٍ على خيانة، أو على فعلة ذات خيانة، أو على نفس، أو فرقة خائنة. ويقال: رجل خائنة، كقولهم: رجل راوية للشعر للمبالغة. قال:
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مَضَلَّ الْأُصْبُعِ «1»
وقرئ على خيانة مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم فَاعْفُ عَنْهُمْ بعث على مخالفتهم. وقيل هو منسوخ بآية السيف. وقيل: فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم.
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى، أى مثل ميثاقهم بالإيمان باللَّه والرسل وبأفعال الخير. وأخذنا من النصارى ميثاق أنفسهم بذلك. فإن قلت:
فهلا قيل: من النصارى؟ «2» قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة اللَّه، وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار اللَّه، ثم اختلفوا بعد: نسطورية، ويعقوبية، وملكانية. أنصارا
__________
(1) .
أقرين إنك لو رأيت فوارسى ... بعمايتين إلى جوانب صلفع
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مضل الأصبع
للكلابى، يخاطب ضيفاً نزل عنده فطمع في جاريته. والهمزة للنداء و «عمايتين» اسم جبلين. و «صلفع» اسم موضع. أى ياقرين لو رأيت فوارسى بهذين الجبلين ممتدين إلى جوانب صلفع، لحدثت نفسك بوفاء العهد خوفاً منى كما هو الواجب عليك، ولم تكن لأجل العدو. أو ولم تكن مجعولا للغدر خائنة، على أنه خبر بعد خبر، أى كثير الخيانة، فالتاء للمبالغة كرواية. ولعله كان قد أشار للجارية بإصبعه، فسمى الاشارة به للخيانة إضلالا له:
ويروى مغل الأصبع بالغين وغل وأغل إذا سرق شيئاً تافها، كأنه جعل أصبعه غالا، أى سارقا، للاشارة به.
(2) . قال محمود: «فان قلت: فهلا قيل من النصارى ... الخ» قال أحمد: وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فالوجه في ذلك واللَّه أعلم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة اللَّه تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا اللَّه ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة، وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها، واللَّه أعلم.(1/616)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
للشيطان «1» فَأَغْرَيْنا فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره.
ومنه الغراء الذي يلصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى المختلفين. وقيل: بينهم وبين اليهود.
ونحوه (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) .
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من نحو صفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن نحو الرجم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته «2» مما لا بدّ من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن، لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافياً عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من آمن به سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة والنجاة من عذاب اللَّه أو سبل اللَّه.
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قولهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ معناه بت القول، على أن حقيقة اللَّه هو المسيح لا غير. قيل:
كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرّحوا به ولكن مذهبهم يؤدّى إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ من دعوه إلها من المسيح وأمّه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد. وأراد بعطف (مَنْ فِي الْأَرْضِ) على: (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما
__________
(1) . قوله «وملكانية أنصاراً للشيطان» في الخازن فرقة رابعة وهي المرقوسية اه. (ع)
(2) . قوله «إلا اقتضاء حكم وصفته» لعل هنا سقطاً أو تحريفاً أوجب خفاء المعنى فليحرر. (ع)(1/617)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وبينهم في البشرية يَخْلُقُ ما يَشاءُ أى يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى «1» ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم. أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك. فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
أَبْناءُ اللَّهِ أشياع ابني اللَّه عزير والمسيح «2» ، كما قيل لأشياع أبى خبيب وهو عبد اللَّه بن الزبير «الخبيبون» وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء اللَّه. ويقول أقرباء الملك وذووه وحشمه: نحن الملوك. ولذلك قال مؤمن آل فرعون: لكم الملك اليوم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فإن صحّ أنكم أبناء اللَّه وأحباؤه فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون وتمسكم النار أياما معدودات على زعمكم. ولو كنتم أبناء اللَّه، لكنتم من جنس الأب، غير فاعلين للقبائح ولا مستوجبين للعقاب. ولو كنتم أحباءه، لما عصيتموه ولما عاقبكم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ من جملة من خلق من البشر يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وهم أهل الطاعة وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وهم العصاة «3» .
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يُبَيِّنُ لَكُمْ إما أن يقدّر المبين وهو الدين والشرائع، وحذفه لظهور ما ورد الرسول
__________
(1) . قوله «كما خلق عيسى» في النسفي: ويخلق من ذكر من غير أنثى، كما خلق حواء من آدم. (ع)
(2) . قال محمود: «معنى قولهم أبناء اللَّه أشياع ابني اللَّه عزير ... الخ» قال أحمد: ومنه قول الملائكة لأنهم خواص عباد اللَّه (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ) إلى قوله: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) فأضافوا التقدير إليهم، وفي الحقيقة المقدر اللَّه «وكذلك قول الدابة- لأنها من خواص آيات اللَّه-: (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) فيمن جعله من قول الدابة، واللَّه أعلم.
(3) . قال محمود: «يعنى أهل الطاعة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قال: يعنى العصاة» قال أحمد رحمه اللَّه: بل مشيئة اللَّه تعالى تسع التائب المنيب، والعاصي المصر إذا كان موحداً. والزمخشري أخرج هذا التفسير على قاعدته المتكررة في غير ما موضع، وهي القطع بوعيد العصاة المصرين الموحدين، وأن المغفرة لهم محال.(1/618)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
لتبيينه. أو يقدّر ما كنتم تخفون، وحذفه لتقدّم ذكره. أو لا يقدر ويكون المعنى. يبذل لكم البيان، ومحله النصب على الحال، أى مبيناً لكم. وعَلى فَتْرَةٍ متعلق بجاءكم، أى جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحى أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا فَقَدْ جاءَكُمْ متعلق بمحذوف، أى لا تعتذروا فقد جاءكم. وقيل: كان بين عيسى ومحمد صلوات اللَّه عليهما خمسمائة وستون سنة. وقيل: ستمائة. وقيل: أربعمائة ونيف وستون. وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبى وبين عيسى ومحمد صلوات اللَّه عليهم أربعة أنبياء.
ثلاث من بنى إسرائيل، وواحد من العرب: خالد بن سنان العبسي. والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحى أحوج ما يكون إليه، ليهشوا إليه ويعدّوه أعظم نعمة من اللَّه، وفتح باب إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 24]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لأنه لم يبعث في أمّة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء «1»
__________
(1) . قال محمود: «لم يبعث في أمة ما بعث في بنى إسرائيل من الأنبياء ... الخ» قال أحمد: والحامل على تفسير الملك بهذه التفاسير أن اللَّه تعالى أنبأ في ظاهر الكلام أنه جعل الجميع ملوكا بقوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ولم يقل (وجعل فيكم ملوكا) كما قال: (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فلما عمم الملك فيهم، ولا شك أن الملك- المعهود هو الاستيلاء العام- لم يثبت لكل أحد منهم، فيتعين حمل الملك على ما كان ثابتا لجميعهم أو لأكثرهم من الأبعاض المذكورة.
هذا هو الباعث على تفسير الملك بذلك، واللَّه أعلم. وهذا المعنى وإن لم يثبت لكل واحد منهم إلا أنه كان ثابتا لملوكهم وهم منهم، إذ إسرائيل لأب الأقرب يجمعهم، فلما كانت ملوكهم منهم وهم أقرباؤهم وأشياعهم وملتبسون بهم، جاز الامتنان عليهم بهذه الصنيعة، والمعنى مفهوم. وهذا بعينه هو التقرير السالف آنفا في قول اليهود والنصارى (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وما بالعهد من قدم. فان قلت: فلم لم يقل إذ جعلكم أنبياء لأن الأنبياء منهم كما قلت في الملوك؟ قلت: النبوة مزية غير الملك. وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا، ولا كذلك النبوة فان درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك، واللَّه أعلم. [.....](1/619)
(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه، وبعد الجبابرة ملكهم ولأنّ الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: كانوا مملوكين في أيدى القبط فأنقذهم اللَّه، فسمى إنقاذهم ملكا. وقيل:
الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار. وقيل: من له بيت وخدم. وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، وإغراق العدوّ، وتظليل الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمى زمانهم الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعنى أرض بيت المقدس. وقيل: الطور وما حوله. وقيل:
الشام. وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. وقيل: سماها اللَّه لإبراهيم ميراثا لولده حين رفع على الجبل، فقيل له. انظر، فلك ما أدرك بصرك، وكان بيت المقدس قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبناً وهلعاً، وقيل: لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر. وقالوا: تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن يراد:
لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم: فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة. الجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد قالَ رَجُلانِ هما كالب ويوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من الذين يخافون اللَّه ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين. ويجوز أن تكون الواو لبنى إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف تقديره: من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون، وهما رجلان منهم أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان فآمنا، قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم.: وقراءة من قرأ: يخافون، بالضم شاهدة له: وكذلك أنعم اللَّه عليهما، كأنه قيل: من الخوفين. وقيل: هو من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من اللَّه بالتذكرة والموعظة. أو يخوّفهم وعيد اللَّه بالعقاب. فإن قلت: ما محل أنعم اللَّه عليهما؟ قلت: إن انتظم مع قوله «من الذين يخافون» في حكم الوصف لرجلان فمرفوع.(1/620)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
وإن جعل كلاما معترضاً فلا محلّ له. فإن قلت: من أين علما أنهم غالبون؟ قلت: من جهة إخبار موسى بذلك. وقوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وقيل، من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة اللَّه في نصرة رسله، وما عهدا من صنع اللَّه لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة.
والباب: باب قريتهم لَنْ نَدْخُلَها نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس.
وأَبَداً تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. وما دامُوا فِيها بيان للأبد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب «1» ولكن كما تقول: كلمته فذهب يجيبنى، تريد معنى الإرادة والقصد للجواب، كأنهم قالوا: أريدا قتالهم. والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة باللَّه ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية اللَّه عز وجل جهرة. والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أنّ موسى وهرون عليهما السلام خرّا لوجوههما قدّامهم لشدّة ما ورد عليهما، فهموا برجمهما. ولأمر مّا قرن اللَّه اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) .
[سورة المائدة (5) : الآيات 25 الى 26]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هرون قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك «2» إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي وهذا من البث والحزن والشكوى إلى اللَّه والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة
__________
(1) . قال محمود: «يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب ولكن ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: يريد الزمخشري سألوا رؤية اللَّه جهرة وهي محال عقلا تعنتا منهم. وقد مر له ذلك، وبينا ان تلبسهم بذلك كان لعدم فهم الايمان به على التعيين اقتراحا وتقاعسا عن الحق في قوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) .
(2) . عاد كلامه. قال محمود: «قال رب إنى لا أملك لنصرة دينك إلا نفسي ... الخ» قال أحمد: وفي قول موسى عليه الصلاة والسلام ليلة الاسراء لنبينا عليه الصلاة والسلام: إنى جربت بنى إسرائيل وخبرتهم، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فان أمتك لا تطيق ذلك. وتكريره هذا القول مراراً مصداق لما ذكره الزمخشري. وأما إن كان المراد بالرجلين غير يوشع وكالب- وكانا من العماليق الذين خافهم بنو إسرائيل- ويكون معنى يخافون أى يخافهم بنو إسرائيل- فالضمير على هذا يرجع إلى بنى إسرائيل، والعائد محذوف وهو المفعول. فعلى هذا لا شك أن هذين الرجلين ليسا من بنى إسرائيل المكتوب عليهم قتال العمالقة. وإنما عنى موسى عليه السلام: إنى لا أملك من بنى إسرائيل المفروض عليهم القتال أمر أحد إلا نفسي وأخى، واللَّه أعلم.(1/621)
ونحوه قول يعقوب عليه السلامِ نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
. وعن على رضى اللَّه عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء «1» . ودعا لهما وقال: أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب «أخى» وجوه: أن يكون منصوبا عطفا على نفسي أو على الضمير في «إنى» ، بمعنى: ولا أملك إلا نفسي «2» وإن أخى لا يملك إلا نفسه. ومرفوعا عطفاً على محل إن واسمها، كأنه قيل: أنا لا أملك إلا نفسي، وهرون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في لا أملك. وجاز للفصل. ومجروراً عطفا على الضمير في نفسي، وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور «3» إلا بتكرير الجار. فإن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟
قلت: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره.
ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه. ويجوز أن يريد: ومن يؤاخينى على دينى فَافْرُقْ فافصل بَيْنَنا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) على وجه التسبيب، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم «كقوله: (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فَإِنَّها فإن الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، فان قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم. والثاني: أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء اللَّه ثم قبض صلوات اللَّه عليه. وقيل: لما مات موسى بعث يوشع نبياً، فأخبرهم بأنه نبىّ اللَّه، وأن اللَّه أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبنى إسرائيل. وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما (مُحَرَّمَةٌ) وإما (يَتِيهُونَ) ومعنى يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً. والتيه: المفازة التي يتاه فيها. روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم
__________
(1) . قوله «فتنفس الصعداء» في الصحاح: الصعداء بالضم والمد تنفس ممدود اه. (ع)
(2) . قوله «بمعنى لا أملك إلا نفسي» لعله بمعنى إنى لا أملك. وعبارة النسفي. أى إنى لا أملك ... الخ. (ع)
(3) . قوله «على ضمير المجرور» لعله على الضمير. (ع)(1/622)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
من حرّ الشمس، ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم، وينزل عليهم المنّ والسلوى، ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله. فإن قلت: فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره وهم معاقبون؟ قلت: كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركا لهم «1» ، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة. ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه. فإن قلت: هل كان معهم في التيه موسى وهرون عليهما السلام؟
قلت: اختلف في ذلك، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقابا، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة، لا عقوبة، كالنار لإبراهيم، وملائكة العذاب. وروى أن هرون مات في التيه، ومات موسى بعده فيه بسنة.
ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر. ومات النقباء في التيه بغتة، إلا كالب ويوشع فَلا تَأْسَ فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم، فقيل: إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب، فلا تحزن ولا تندم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
__________
(1) . قوله «عركا لهم» في الصحاح: عركت الشيء دلكته. وعرك البعير جنبه بمرفقه. وفيه أيضا: الدعك مثل الدلك. وقد دعكت الأديم والخصم: لبنته. (ع)(1/623)
هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل، أوحى اللَّه إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها «إقليما» فحسد عليها أخاه وسخط. فقال لهما آدم: قرّبا قربانا، فمن أيكما تقبل زوّجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسدا وسخطا، وتوعده بالقتل. وقيل: هما رجلان من بنى إسرائيل بِالْحَقِّ تلاوة ملتبسة بالحق والصحة. أو اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين، أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويبغون عليه.
أو اتل عليهم وأنت محق صادق. وإِذْ قَرَّبا نصب بالنبإ، أى قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت.
ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أى اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف.
والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللَّه من نسيكة أو صدقة، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى.
يقال: قرّب صدقة وتقرّب بها، لأن تقرّب مطاوع قرّب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع «1» فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب. فإن قلت: كيف كان قوله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ جوابا لقوله: (لَأَقْتُلَنَّكَ) ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟
ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى اللَّه التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أنّ اللَّه تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد اللَّه: أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إنى أسمع اللَّه يقول (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) . ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من اللَّه لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت. قاله مجاهد وغيره إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي. فإن قلت: كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت: المراد بمثل إثمى على الاتساع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره.
__________
(1) . قوله «تقربوا قرف القمع» في الصحاح: القرف القشر. والقمعة رأس السنام، والجمع قمع. والقمع أيضا: بثرة تخرج في شفر العين. (ع)(1/624)
ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام «المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم «1» » على أنّ البادي عليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه، لأنه مكافئ مدافع عن عرضه. ألا ترى إلى قوله «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم. فإن قلت: فحين كف هابيل قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت:
هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر، كأنه قال: إنى أريد أن تبوء بمثل إثمى لو بسطت يدي إليك. وقيل (بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك. فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه «2» بالنار؟ قلت: كان ظالما وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد.
ألا ترى إلى قوله تعالى وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ وإذا جاز أن يريده اللَّه، جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن «3» . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب. فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل «4» والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله:
__________
(1) . أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة. وللبخاري في الأدب المفرد عن أنس نحوه.
(2) . قال محمود: «إن قلت: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه ... الخ» قال أحمد: وهذا من دسه للمعتقد الفاسد في بيان كلامه، والفاسد من هذا اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مرادا للَّه تعالى وتلك القبائح بجملتها، فإنها على زعمه واقعة على خلاف المشيئة الربانية، وهذا هو الشرك الخفي فإياك أن تحوم حول شركه والعياذ باللَّه فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إنى لا أريد أن أقتلك فأعاقب، ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين: إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذاً إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل ولم تكن حينئذ مشروعة فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل اللَّه رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة، وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر، وبين أن يختم له بالايمان فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا، أعنى بقي الإثم على قاتله أو حبط عنه إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصوداً لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه فدل على أنه أمر لازم تبع لا مقصود. واللَّه أعلم.
(3) . قوله «لأنه لا يريد إلا ما هو حسن» هذا مذهب المعتزلة أما عند أهل السنة، فاللَّه يريد كل كائن حسنا كان أو قبيحا كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «فان قلت: لم جاء الشرط بصيغة الفعل والجزاء باسم الفاعل ... الخ» قال أحمد:
وإنما امتاز اسم الفاعل عن الفعل بهذه الخصوصية من حيث أن صيغة الفعل لا تعطى سوى حدوث معناه من الفاعل لا غير. وأما اتصاف الذات به فذاك أمر يعطيه اسم الفاعل. ومن ثم يقولون: قام زيد فهو قائم، فيجعلون اتصافه بالقيام ناشئا عن صدوره منه، ولهذا المعنى قوله تعالى: (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) عدولا عن الفعل الذي هو لنرجمنك إلى الاسم تغليظا. يعنون أنهم يجعلون هذه لثبوتها ووقوعها به كالسمة والعلامة الثابتة، ولا يقتصرون على مجرد إيقاعها به.(1/625)
(لَئِنْ بَسَطْتَ.....)
(ما أَنَا بِباسِطٍ) ؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: فطاوعت. وفيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك:
حفظت لزيد ماله. وقيل: قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً روى أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بنى آدم. ولما قتله تركه بالعراء لا يدرى ما يصنع به، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث اللَّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك. وروى أنّ آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. لِيُرِيَهُ ليريه اللَّه. أو ليريه الغراب، أى ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز سَوْأَةَ أَخِيهِ عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده. والسوأة: الفضيحة لقبحها. قال:
يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء «1»
أى للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام. وقرئ بالسكون على: فأنا أوارى. أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك وبعلته. وقيل: أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلا. ومنه قوله:
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بَيْنِهِمْ ... قَدم احْتَرَبُوا فِى عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ «2»
__________
(1) . قوله «يا لقوم» يروى يا لقومي. (ع)
(2) .
وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله
فأقبلت في الباغين أسأل عنهم ... سؤالك بالأمر الذي أنت جاهله
لخوات بن جبير، يصف نفسه بأنه مهياج للشرور والحروب، يقول: ورب أهل خباء، أى بيوت متلاصقة كأنها بيت واحد. أو كنى به عن تقاربهم في النسب صالح ذات بينهم. أى الحال التي بينهم صالحة، قد تحاربوا بسبب شر عاجل أنا آجله أى جانبه قبل الحرب ومهيجه. وفيه شبه التضاد. ويقال: أجل الشر أجلا إذا جناه وهيجه، فمحاربتهم كانت من أجله وبسببه، فانخذل الباغون للشر، فأقبلت أسأل عنهم، كسؤالك بالأمر: أى عن الأمر الذي أنت جاهله، أفاد بالتشبيه أنه كان ليس جاهلا بهم حين سؤاله، وإنما كان يريهم أنه معهم ومحب لهم لا لعدوهم.(1/626)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
كأنك إذا قلت: من أجلك فعلت كذا، أردت من أن جنيت فعله وأوجبته، ويدل عليه قولهم: من جراك فعلته، أى من أن جررته بمعنى جنيته. وذلك إشارة إلى القتل المذكور، أى من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و «من» لابتداء الغاية، أى ابتدأ والكتب نشأ من أجل ذلك. ويقال: فعلت كذا لأجل كذا. وقد يقال: أجل كذا، بحذف الجار وإيصال الفعل قال: أجل أنّ اللَّه قد فضلكم. وقرئ: من اجل ذلك، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها. وقرأ أبو جعفر: من إجل ذلك، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص أَوْ فَسادٍ عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد فِي الْأَرْضِ وهو الشرك.
وقيل: قطع الطريق وَمَنْ أَحْياها ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك. فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت:
لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على اللَّه وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على اللَّه وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأنّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها. وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم، وغضب اللَّه، والعذاب العظيم. ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك. وعن الحسن: يا ابن آدم، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازى ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوّلته لك نفسك والشيطان، فكذلك إذا قتلت واحداً بَعْدَ ذلِكَ بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات لَمُسْرِفُونَ يعنى في القتل لا يبالون بعظمته
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)(1/627)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يحاربون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً مفسدين، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة: ويفسدون في الأرض فانتصب فسادا. على المعنى، ويجوز أن يكون مفعولا له، أى للفساد. نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عهد وقد مرّ بهم قوم يريدون رسول اللَّه فقطعوا عليهم. وقيل: في العرنيين، فأوحى إليه أنّ من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أفرد القتل قتل. ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال، ورجله لإخافة السبيل. ومن أفرد الإخافة نفى من الأرض. وقيل: هذا حكم كل قاطع طريق كافرا كان أو مسلما. ومعناه أَنْ يُقَتَّلُوا من غير صلب، إن أفردوا القتل أَوْ يُصَلَّبُوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ. قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما اللَّه، يصلب حيا، ويطعن حتى يموت أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ إن أخذوا المال أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إذا لم يزيدوا على الإخافة. وعن جماعة منهم الحسن والنخعي: أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق من غير تفصيل. والنفي: الحبس عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: النفي من بلد إلى بلد، لا يزال يطلب وهو هارب فزعا، وقيل: ينفى من بلده، وكانوا ينفونهم إلى «دهلك» وهو بلد في أقصى تهامة، و «ناصع» وهو بلد من بلاد الحبشة خِزْيٌ ذلّ وفضيحة إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة. وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء، إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا استوفوا. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه الحرث بن بدر «1» جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق، فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة.
[سورة المائدة (5) : آية 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوسيلة: كل ما يتوسل به أى يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى اللَّه تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. وأنشد للبيد:
أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أمْرِهِمْ ... أَلَا كُلُّ ذّ لُبٍ إلىَ اللَّهِ وَاسِلُ «2»
__________
(1) . أخرجه ابن أبى شيبة من رواية مجالد عن الشعبي. قال: كان حارثة بن بدر التميمي قد أفسد في الأرض وحارب، فذكر قصة هذا فيها. [.....]
(2) .
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... ألا كل ذى لب إلى اللَّه واسل
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
للبيد بن ربيعة العامري. وهمزة الاستفهام التي بعدها النفي للتحضيض على الفعل، أى: سلاه وقولا له: ما الذي تريده وتجهد نفسك في تحصيله؟ وعبر بلفظ الغيبة نظرا للفظ المرئي. وخطاب المثنى عادة جارية على لسان العرب، وإن كان المراد غيره. وقوله «أنحب» بدل «ما» والنحب: النذر والحمد والسرعة، كما أن النعب- بالعين-: السرعة، أى أغرض صحيح فيقضى له، أم باطل فلا ينبغي؟ أو المعنى: أشى أوجبه على نفسه فهو يسعى في قضائه، أم ضلال؟
وعلى كل فلا ينبغي: وقوله «ما قدر أمرهم» أى ما الذي هم فيه من شئون الدنيا وسرعة فنائها. و «ألا» استفتاحية «كل ذى لب» أى عقل «واسل» إلى اللَّه لا إلى غيره، أى متوسل به ومتلجئ إليه من شر الدنيا وشر من لا يعقل، أو متقرب إليه بما ينفعه. ويروى «بلى كل» وهي أوقع معنى، لأنها رد لدعوى تعميم السابقة. ويروى «واصل» بالصاد، أى صائر أو متوجه بكليته. ويجوز فيه وفي واسل أنهما بمعنى متقرب إلى اللَّه بالطاعة، لا مشتغل بالدنيا الفانية كغيره من الجهال. و «باطل» خبر كل شيء. و «زائل» خبر كل نعيم. و «لا محالة» اعتراض مؤكد.
و «الدويهية» تصغير الداهية وهي المنية، بقرينة ما بعد. وتصغيرها للتعظيم والتهويل، أو للتحقير على زعم الغافلين المتهاونين،(1/628)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
[سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
لِيَفْتَدُوا بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم. وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدى به، فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك «1» » و «لو» مع ما في حيزه خبر «أن» . فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ «2»
__________
(1) . متفق عليه من رواية قتادة عن أنس رضى اللَّه عنه.
(2) .
دعاك الهوى والشوق لما ترنحت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوبها ورق أصخن لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فانى وقيار بها لغريب
لضابئ بن الحرث البرجمي حين حبسه عثمان بن عفان لما هجا بنى نهشل. والترنح: التمايل. ويروى «ترنمت» أى تغنت بحسن صوتها. وهتفت الحمامة إذا غردت، فهي هتوف أى مفردة. و «بين» ظرف للترنح. و «طروب» مبالغة في الطرب، يوصف به المذكر والمؤنث، كهتوف. وهو فاعل، وهتوف حال وإضافته لا تفيده التعريف في المعنى. ويجوز رفعه على أنه فاعل، وطروب نعته لأنه وصف مضاف فلا تعريف له في اللفظ أيضا.
و «الورق» جمع ورقاء نوع من الحمام. و «أصخن» ملن واستمعن. ويروى «أرعن» ولم أجد في كتب اللغة «رعن» إلا بمعنى زكى ونمى، فلعل معناه نشطن على المجاز. وروى «ومن يك» بالواو. ومرفوع «أمسى» ضمير «من» .
وجملة «بالمدينة رحله» خبره، والجملة خبر يكن. ويجوز أن مرفوعه هو رحله، وجواب الشرط محذوف، أى ومن أمسى رحله بالمدينة حسن حاله، بخلاف حالى، فانى غريب لأن رحلي- أى منزلي- ليس فيها، وإنما فيها أنا وفرسي فقط. و «قيار» اسم فرسه. وقيل جمله. وقيل غلامه. وهو مبتدأ أو معطوف على محل اسم «إن» حذف خبره اختصاراً لدلالة المذكور عليه، فالعطف من عطف الجمل أو المفردات. وفيه العطف قبل تمام المعطوف عليه، لكنه على نية التقديم والتأخير، وهو سماعي لا يجوز القياس عليه، ولا يجوز جعل الغريب خبراً عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، ولا جعله خبرا عن قيار لأن لام الابتداء لا تدخل على الخبر المؤخر. والبيت لفظه خبر، ومعناه إنشاء التحسر والتحزن، لكونه غريباً وحيداً.(1/629)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في: (مِثْلَهُ) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه؟ قلت:
بما يستدعيه «لو» من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض. قرأ أبو واقد (أن يخرجوا) بضم الياء من أخرج. ويشهد لقراءة العامّة قوله: (بِخارِجِينَ) . وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار «1» وقد قال اللَّه تعالى: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال: ويحك «2» ، اقرأ ما فوقها. هذا للكفار.
فمما لفقته المجبرة «3» وليس بأول تكاذيبهم وفراهم. وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عمّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده «4» من بنى عبد المطلب وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها، بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا، ويرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
__________
(1) . قال محمود: «وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمي القلب تزعم أن قوما يخرجون من النار ... الخ» قال أحمد: في هذا الفصل من كلامه وتمشدقه بالسفاهة على أهل السنة ورميهم بما لا يقولون به من الأخبار بالكذب والتخليق والافتراء ما يحمي الكبد المملوء بحب السنة وأهلها على الانتصاب للانتصاف منه، ولسنا بصدد تصحيح هذه الحكاية، ولا وقف اللَّه صحة العقيدة على صحتها.
(2) . لم أجده. وقد أنكره صاحب الكشاف وقال: هذا مما لفقه المجبرة. وليس أول تكاذيبهم إلى آخر كلامه
(3) . قوله «فمما لفقته المجبرة «يعنى أهل السنة القائلين بخروج صاحب الكبيرة من النار لأنه مؤمن خلافا للمعتزلة القائلين لا مؤمن ولا كافر بل واسطة. وتحقيق المبحث في علم التوحيد. (ع)
(4) . قوله «وأنضاده» في الصحاح: أنضاد الرجل، أعمامه وأخواله المتقدمون في الشرف. (ع)(1/630)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ رفعهما على الابتداء والخبر محذوف «1» عند سيبويه، كأنه قيل:
وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أى حكمهما. ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء، والخبر فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط، لأنّ المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر لأنّ «زيداً فاضربه» أحسن من «زيد فاضربه» (أَيْدِيَهُما) يديهما، ونحوه (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف. وأريد باليدين
__________
(1) . قال محمود: «رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه كأنه ... الخ» قال أحمد: المستقرأ من وجوه القراآت أن العامة لا تتفق فيها أبداً على العدول عن الأفصح. وجدير بالقرآن أن يجرى على أفصح الوجوه، وأن لا يخلو من الأفصح وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها.
وسيبويه يحاشى من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح، واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه- في ترجمة باب الأمر والنهى، بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب-: وملخصها أنه متى بنى الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال: كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب. وأما قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ... ) الآية وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ... ) فان هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ثم قال بعد (فِيها أَنْهارٌ) فيها كذا ... قلت: يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيها مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه، فلا يلزم فيه اختيار النصب. عاد كلامه. قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكر بعده فذكر أخباراً وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول على هذا الإضمار واللَّه أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) قال في جملة الفرائض (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن مضى فيها الرفع. قلت: يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بنى على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا. عاد كلامه. قال: كما جاء
وقائلة خولان فانكح فتاتهم
فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وفيما فرض عليكم السارق والسارقة، فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، قلت: يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل، غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعنى أنه قوى بالنسبة إلى الرفع حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فانه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف. وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب فالنصب أرجح من الرفع، حيث ينبنى الاسم على الفعل والرفع متعين، لا أقول أرجح حيث بنى الاسم على كلام متقدم، ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء ويجعل الأمر خبره كما أعربه الزمخشري، فالملخص على هذا أن النصب على وجه واحد وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوى بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع وأحدهما قوى والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوى كما أعربه سيبويه رضى اللَّه عنه. واللَّه تعالى أعلم.(1/631)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
اليمينان، بدليل قراءة عبد اللَّه: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم، والسارق في الشريعة:
من سرق من الحرز: والمقطع. الرسغ. وعند الخوارج: المنكب. والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبى حنيفة، وعند مالك والشافعي رحمهما اللَّه ربع دينار. وعن الحسن درهم وفي مواعظه: احذر من قطع يدك في درهم جَزاءً ونَكالًا مفعول لهما فَمَنْ تابَ من السرّاق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ من بعد سرقته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصى عن التبعات فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه مَنْ يَشاءُ من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقطه عن المسلم «1» : لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) . فإن قلت: لم قدّم التعذيب على المغفرة «2» ؟ قلت: لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
قرئ (لا يحزنك) بضم الياء. ويسرعون. والمعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين فِي الْكُفْرِ أى في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإنى ناصرك عليهم وكافيك شرّهم. يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع
__________
(1) . قوله «ولا يسقطه عن المسلم» لعله «ولا يسقط» أو «ولا تسقطه» . (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت لم قدم التعذيب على المغفرة ... الخ» قال أحمد: هو مبنى على أن المراد بالمغفور لهم التائبون، وبالمعذبين السراق. ولا يجعل المغفرة تابعة للمشيئة إلا بقيد التوبة، لأن غير التائب على زعمه لا يجوز أن يشاء اللَّه المغفرة له، فلذلك ينزل الإطلاق على المتقدم ذكره. ونحن نعتقد أن المغفرة في حق غير التائب من الموحدين تتبع المشيئة، حتى أن من جملة ما يدخل في عموم قوله: (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) السارق الذي لم يتب. وعلى هذا يكون تقديم التعذيب لأن السياق للوعيد فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر واللَّه أعلم.(1/632)
فيه سريعاً، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. وآمَنَّا مفعول قالوا: وبِأَفْواهِهِمْ متعلق بقالوا لا بآمنا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا منقطع مما قبله خبر لسماعون، أى: ومن اليهود قوم سماعون. ويجوز أن يعطف على: (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) ويرتفع سماعون على: هم سماعون. والضمير للفريقين. أو للذين هادوا. ومعنى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على اللَّه وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه «سمع اللَّه لمن حمده» سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يعنى اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغ من العداوة، أى قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. وقيل: سماعون إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول اللَّه لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه. وقيل: السماعون: بنو قريظة. والقوم الآخرون: يهود خيبر يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يميلونه ويزيلونه مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ التي وضعه اللَّه تعالى فيها، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع إِنْ أُوتِيتُمْ هذا المحرف المزال عن مواضعه فَخُذُوهُ واعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ وأفتاكم محمد بخلافه فَاحْذَرُوا وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال. وروى أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بنى قريظة ليسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، وقالوا: إن أمركم محمد بالجلد والتحميم «1» فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم وهو أعلم يهودى على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنشدك اللَّه الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه النبي الأمى العربي الذي بشر به المرسلون، وأمر رسول اللَّه صلى
__________
(1) . قوله «والتحميم» أى التسويد. وفي الصحاح «الحمة» بالضم: السواد. (ع)(1/633)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
اللَّه عليه وسلم الزانيين «1» فرجما عند باب مسجده «2» وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ تركه مفتوناً «3» وخذلانه «4» فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من لطف اللَّه وتوفيقه شيئا أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ) (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) .
[سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 43]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
لِلسُّحْتِ كل ما لا يحل كسبه، وهو من- سحته- إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) والربا باب منه. وقرئ (لِلسُّحْتِ) بالتخفيف والتثقيل. والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته. والسحت، بفتحتين. والسحت، بكسر السين. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بنى إسرائيل إذا أتاه
__________
(1) . قوله «الزانيين» لعله بالزانيين. (ع)
(2) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني ابن شهاب سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب عن أبى هريرة- فذكره، دون أوله، ودون قوله فيه: فقال له جبريل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور، يسكن فدك. ودون ما في آخره. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري مطولا- زاد فيه قصة الملك الذي كان زنى منهم فلم يرجموه، وأصله في الصحيحين من حديث أبى هريرة وغيره مختصرا.
(3) . قال محمود: «معنى ومن يرد اللَّه فتنته: ومن يرد تركه مفتونا ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: كم يتلجلج والحق أبلج هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن اللَّه تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الايمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها، لو أراد اللَّه أن يطهر قلوبهم من وضر البدع. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد اللَّه أن يمنحهم ألطافه، لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا لم تنجع ألطاف اللَّه تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟ وليس وراء اللَّه للمرء مطمع. [.....]
(4) . قوله «تركه مفتونا وخذلانه» قدر هذا بناء على أنه تعالى لا يريد الشر عند المعتزلة لكن عند أهل السنة يريد الشر والخير كما حقق في محله. (ع)(1/634)
أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وحكى أن عاملا قدم من عمله فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة «1» وجعل يحدّثهم بما جرى له في عمله، فقال أعرابى من القوم: نحن كما قال اللَّه تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى «2» به» قيل:
كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مخيراً- إذا تحاكم إليه أهل الكتاب- بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا. وقيل: هو منسوخ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه: إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئا أقيم عليه الحدّ. وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم الحدود. ويقولون: إنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم، كالجلد مكان الرجم. فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم، شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه، فأمن اللَّه سربه بِالْقِسْطِ بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من تحكيمهم
__________
(1) . قوله «فقدم إليهم العراضة» في الصحاح: العراضة- بالضم-: ما يعرض المائر، أى يطعمه من الميرة.
ويقال: اشتر عراضة لأهلك، أى هدية وشيأ تحمله إليهم. (ع)
(2) . أخرجه الحاكم من رواية زيد بن أرقم عن أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول «من نبت لحمه من السحت فالنار أولى به» وأخرجه ابن عدى في ترجمة عبد الواحد بن زمعة وضعف به وفي الباب عن معمر عند الطبراني وابن عدى في أثناء حديث وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي. وهو ضعيف.
وعن حذيفة أخرجه إسحاق بن راهويه من طريق كردوس قال «خطب حذيفة بالمدائن- فذكر الخطبة. وفيها الحديث، بلفظ «ليس لحم ينبت من سحت فيدخل الجنة» وأخرجه الطبراني في الأوسط من رواية أيوب بن سويد عن الثوري عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بلفظ «لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به» قال أبو حاتم في العلل: أخطأ أيوب بن سويد فيه. والصواب موقوف. وعن ابن عمر أخرجه الطبراني والحارثي في الغريب.
وابن مردويه في الغريب من طريق عمر بن حمزة عنه. ورجاله ثقات إلا أن عمر لم يسمع من ابن عمر. وعن ابن عباس أخرجه الطبراني والبيهقي من وجهين ضعيفين. وروى الترمذي من حديث كعب بن عجرة في حديث طويل في آخره «يا كعب بن عجرة، إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا وكانت النار أولى به، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وسألت محمدا عنه فاستغربه. وقال أبو يعلى من وجه آخر عن كعب بن عجرة، وله شاهد فيه ابن حبان من رواية عبد اللَّه بن خيثمة عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد اللَّه «أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:
يا كعب بن عجرة- فذكر مثله سواء» وأخرجه أحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى والحاكم من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة. فذكر مثل حديث كعب بن عجرة «أنه صلى اللَّه عليه وسلم خاطب به عبد الرحمن» وسعيد بن بشير ضعيف.(1/635)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم كما يدّعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم. فإن قلت: فِيها حُكْمُ اللَّهِ ما موضعه من الإعراب؟ قلت: إمّا أن ينتصب حالا من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإما أن يرتفع خبرا عنها كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم اللَّه وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبينة، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كما تقول:
عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت: لم أنثت التوراة؟ قلت:
لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب. فإن قلت: علام عطف ثم يتولون؟
قلت: على يحكمونك.
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
فِيها هُدىً يهدى للحق والعدل وَنُورٌ يبين ما استبهم من الأحكام الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح «1» ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة
__________
(1) . قال محمود: «قوله أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ... الخ» قال أحمد: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم ذكرها، فمن ثم حملها على المدح. وفيه نظر فان المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه.
والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فان أقل متبعيه كذلك. فالوجه واللَّه أعلم أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون تنويها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة، قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وأمثاله، تنويهاً بمقدار الصلاح إذ جعل صفة الأنبياء وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فأخبر عن الملائكة المقربين بالايمان تعظيما لقدر الايمان، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنين ليس إلا، ولهذا قال: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعنى من البشر لثبوت حق الاخوة في الايمان بين الطائفتين، فكذلك- واللَّه أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به. ولقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام
فلئن مدحت محمداً بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف إذ حاصله معرفة اللَّه تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلا أن النبوة أشرف وأجل، لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس. ألا ترى أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
فنزل عن الشمس إلى الهلال. وعن الدر إلى الزبرجد، في سياق المدح، فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها، واللَّه الموفق للصواب.(1/636)
والتوضيح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأنّ اليهودية بمعزل منها. وقوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا مناد على ذلك وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ والزهاد والعلماء من ولد هارون، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة، أى بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل.
و (مِنْ) في: (مِنْ كِتابِ اللَّهِ) للتبيين وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ رقباء لئلا يبدل. والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبىّ وعيسى للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد. وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب اللَّه والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء. ويجوز أن يكون الضمير في: (اسْتُحْفِظُوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من اللَّه، أى كلفهم اللَّه حفظه وأن يكونوا عليه شهداء فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ نهى للحكام عن خشيتهم غير اللَّه في حكوماتهم وإدهانهم «1» فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء وَلا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا (بآيات الله) وأحكامه ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، كما حرّف أحبار اليهود كتاب اللَّه وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرئاسة فهلكوا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ والظالمون والفاسقون: وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات اللَّه بالاستهانة. وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين: أهل الكتاب.
__________
(1) . قوله «وادهانهم فيها» في الصحاح: المداهنة- كالمصانعة. والادهان مثله. (ع)(1/637)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
وعنه: نعم القوم أنتم، ما كان من حلو فلكم، ومن كان من مرّ فهو لأهل الكتاب، من جحد حكم اللَّه كفر، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق. وعن الشعبي: هذه في أهل الإسلام، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى. وعن ابن مسعود: هو عام في اليهود وغيرهم.
وعن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل: لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة «1» ، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا؟
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
في مصحف أبىّ: وأنزل اللَّه على بنى إسرائيل فيها. وفيه: وأن الجروح قصاص. والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة. تقول: كتبت الحمد للَّه، وقرأت سورة أنزلناها.
ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: إن النفس بالنفس، بالكسر لكان صحيحاً. أو للاستئناف.
والمعنى: فرضنا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ مأخوذة بِالنَّفْسِ مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَكذلك الْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مصلومة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ذات قصاص، وهو المقاصة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت فَمَنْ تَصَدَّقَ من أصحاب الحق بِهِ بالقصاص وعفا عنه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر اللَّه من سيئاته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته، وعن عبد اللَّه بن عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به، وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه، وفي قراءة أبىّ: فهو كفارة له يعنى فالمتصدق كفارته له أى الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها، وهو تعظيم لما فعل، كقوله تعالى: (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وترغيب في العفو.
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
__________
(1) . قوله «والقذة بالقذة» القذة. ريشة السهم اه. (ع)(1/638)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قفيته مثل عقبته، إذا أتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت، هو محذوف والظرف الذي هو عَلى آثارِهِمْ كالسادّ مسدّه لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) . وقرأ الحسن: الإنجيل بفتح الهمزة فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية، كما خرج هابيل وآجر وَمُصَدِّقاً عطف على محل (فِيهِ هُدىً) ومحله النصب على الحال وَهُدىً وَمَوْعِظَةً يجوز أن ينتصبا على الحال. كقوله: (مُصَدِّقاً) وأن ينتصبا مفعولا لهما، كقوله: (وَلْيَحْكُمْ) كأنه قيل. وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل اللَّه فيه من الأحكام. فإن قلت: فإن نظمت (هُدىً وَمَوْعِظَةً) في سلك مصدقا، فما تصنع بقوله وليحكم قلت: أصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولا لهما، فأقدّر: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه آتيناه إياه. وقرئ: وليحكم على لفظ الأمر بمعنى: وقلنا ليحكم. وروى في قراءة أبى: وأن ليحكم، بزيادة «أن» مع الأمر على أنّ «أن» موصولة بالأمر، كقولك: أمرته بأن قم كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل. وقيل: إن عيسى عليه السلام كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) يردّ ذلك، وكذلك قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وإن ساغ لقائل أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل اللَّه فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة.
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
فإن قلت: أى فرق بين التعريفين في قوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وقوله لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ؟ قلت: الأول تعريف العهد، لأنه عنى به القرآن. والثاني تعريف الجنس، لأنه(1/639)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
غنى به جنس الكتب المنزلة: ويجوز أن يقال: هو للعهد لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق وإنما أريد نوع معلوم منه، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن وَمُهَيْمِناً ورقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. وقرئ (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) بفتح الميم، أى هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال: (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) والذي هيمن عليه اللَّه عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلد، لو حُرِّف حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد، ولاشمأزوا رادّين ومنكرين. ضمن وَلا تَتَّبِعْ معنى ولا تنحرف فلذلك عدّى بعن كأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس شِرْعَةً شريعة. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين وَمِنْهاجاً وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه. وقيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوى أمة واحدة أى دين واحد لا اختلاف فيه وَلكِنْ أراد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها مذغنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن اللَّه لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فابتدروها وتسابقوا نحوها إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل.
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
فإن قلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا؟ قلت: على: (الْكِتابَ) في قوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) كأنه قيل: وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ «أن» وصلت بالأمر، لأنه فعل كسائر الأفعال: ويجوز أن يكون معطوفا على: (بِالْحَقِّ) أى أنزلناه بالحق وبأن احكم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أن يضلوك عنه ويستزلوك: وذلك أن كعب بن أسيد وعبد اللَّه بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضى لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدّقك، فأبى ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فنزلت. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم بما أنزل اللَّه إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ(1/640)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
يعنى بذنب التولي عن حكم اللَّه وإرادة خلافه، فوضع بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ موضع ذلك وأراد أنّ لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد، وأنّ هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه. ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد:
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا «1»
أراد نفسه: وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفساً أىّ نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض لَفاسِقُونَ المتمرّدون في الكفر معتدون فيه، يعنى أنّ التولي عن حكم اللَّه من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر.
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فيه وجهان، أحدهما: أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى: وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لهم «القتلى بواء» فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك «2» فنزلت: والثاني: أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحى من اللَّه تعالى: وعن الحسن: هو عامّ في كل من يبغى غير حكم اللَّه: والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم اللَّه، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية: وقرئ:
تبغون، بالتاء والياء: وقرأ السلمى: أفحكم الجاهلية يبغون، برفع الحكم على الابتداء، وإيقاع يبغون خبراً وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) وعن الصفة في: الناس رجلان: رجل أهنت، ورجل أكرمت. وعن الحال في «مررت بهند يضرب زيد» وقرأ قتادة (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما
__________
(1) .
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
للبيد بن ربيعة من معلقته. يقول: أنا كثير ترك الأمكنة إذا لم أرض الاقامة بها. أو يربط ويحتبس بعض النفوس، يعنى نفسه «حمامها» أى موتها المقدر لها فإذا رضيتها أو احتبسني الموت فيها فكيف أتركها؟ فقوله «يرتبط» بالجزم، عطف على المجزوم قبله. وقيل «أو» بمعنى «إلا» لكن كان حقه النصب حينئذ. ولعله سكن للضرورة. وكما أن التنوين يفيد معنى التعظيم، فكذلك كل ما فيه إبهام كالبعضية هنا، فعبر عن نفسه ببعض النفوس دلالة على التعظيم.
بل ربما ادعى أنها كل النفوس مبالغة.
(2) . لم أجده هكذا، وفي ابن أبى شيبة من طريق الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال- فذكر قصة فيها: فارتفعوا إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «القتلى بواء» أى سواء.(1/641)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. اللام في قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في: (هَيْتَ لَكَ) أى هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من اللَّه ولا أحسن حكما منه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهى بقوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ من جملتهم وحكمه حكمهم. وهذا تغليظ من اللَّه وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» «1» ومنه قول عمر رضى اللَّه عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم اللَّه، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم اللَّه، ولا تدنوهم إذ أقصاهم اللَّه «2» : وروى أنه قال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام، يعنى هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعنى الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر «3» يمنعهم اللَّه ألطافه ويخذلهم مقتا لهم يُسارِعُونَ فِيهِمْ ينكمشون في موالاتهم
__________
(1) . أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جرير «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود- الحديث» وفيه: وقال «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: ولم؟
قال: لا تراءى ناراهما» وصله أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عنه. وأرسله غيره من أصحاب إسماعيل كعبدة بن سليمان ووكيع وهشيم ومروان وتابعه حجاج بن أرطاة عن إسماعيل موصولا. وحجاج ضعيف ورجح البخاري وغيره المرسل. وخالف الجميع حفص بن غياث فرواه عن إسماعيل عن قيس عن خالد بن الوليد أخرجه الطبراني.
(2) . أخرجه البيهقي في أدب القاضي من السنن الكبير مطولا دون ما في آخره، فلينظر.
(3) . قوله «بموالاة الكفر» لعله الكفرة. (ع)(1/642)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أى صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم. وعن عبادة بن الصامت رضى اللَّه عنه أنه قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إنّ لي موالي من يهود كثيراً عددهم، وإنى أبرأ إلى اللَّه ورسوله «1» من ولايتهم وأُوالى اللَّه ورسوله فقال عبد اللَّه بن أبىّ: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالىّ وهم يهود بنى قينقاع فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يقطع شأفة اليهود «2» ويجلبهم عن بلادهم، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم: وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمر، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء. وقيل أو أمر من عنده: أو أن يؤمر النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم. وقيل: أو أمر من عند اللَّه لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح اللَّه في قلوبهم الرعب، فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرئ بالنصب عطفاً على أن يأتى، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ، أى: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت: وقرئ: يقول، بغير واو، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشأم كذلك على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا. فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟ قلت: إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما منّ اللَّه عليهم من التوفيق في الإخلاص أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار. وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة، كما حكى اللَّه عنهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) . حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ من جملة قول المؤمنين، أى بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول اللَّه عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجباً من سوء حالهم.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية عطية بن سعيد العوفى قال: جاء رجل يقال له عبادة بن الصامت- فذكره مرسلا وأتم منه ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبى شيبة. وله طرق أخرى في المغازي لابن إسحاق عن أبيه عن عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكر نحوه.
(2) . قوله «يقطع شأفة اليهود» في الصحاح «الشأفة» قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، فضرب بها المثل في الاستئصال اه باختصار. (ع)(1/643)
وقرئ (مَنْ يَرْتَدَّ ومن يرتدد، وهو في الإمام بدالين، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل: بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه اللَّه على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول «1» . وبنو حنيفة،
__________
(1) . قوله: إن أهل الردة كانوا إحدى عشرة فرقه ثلاثة في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وسبعة على عهد أبى بكر رضى اللَّه عنه وواحدة على عهد عمر. فالتي في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي. قلت: ليس قوله الأسود المذكور بنى مدلج، بل بنو مدلج قوم من بنى كنانة بن مضر إخوة قريش والأسود المذكور كان باليمن. وقومه بنو عنس- بفتح العين المهملة وسكون النون بعدها سين مهملة. قال الزمخشري كان الأسود المذكور كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال النبي صلى اللَّه عليه وسلم فكتب النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه اللَّه على يد فيروز الديلمي فقتله. وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله ليلة قتل. فسر المسلمون بذلك. وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد في آخر شهر ربيع الأول. قلت: وفي هذا الكلام من التخليط غير شيء فان قوله: استولى على بلاد اليمن وأخرج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ظاهره يقتضى أن لا يبقى منهم هناك أحد وليس الأمر كذلك، بل بقي منهم على ما كان عليه جماعة منهم من المهاجرين ابن أبى أمية ومعه جميع السواحل. وكان باليمن أيضا معاذ بن جبل وغيره من عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سواحل اليمن. وإنما استولى العنسي على صنعاء. وبعض البلاد الجبالية. وقد نقض الزمخشري كلامه بقوله: فانه صلى اللَّه عليه وسلم كتب إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن. ولكن الجمع بين كلاميه: بأن مراده، إخراج عمال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الذين حاربهم فيكون المراد إخراج بعضهم لا جميعهم. وقوله: وقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الغد، أى صبيحة إخباره بقتل الأسود. وفيه نظر وسيأتى وجهه. وقوله: في آخر شهر ربيع الأول: ليس بصحيح فانه صلى اللَّه عليه وسلم مات في أول شهر ربيع الأول. وقيل: في ثامنه. وقيل: في ثانى عشر. وسيأتى بيان الاختلاف في وقت المجيء برأس الأسود العنسي.
وقصة الأسود العنسي قد أخرجها مطولة جميع من صنف في الردة كابن إسحاق والواقدي وسيف بن عمر.
وسيمة بن الفرات. وأخرجها الحاكم في الإكليل والبيهقي في الدلائل، قال الواقدي: اسم الأسود ذو الخمار. وقال غيره: اسمه عبهلة ولقبه ذو الخمار، لأنه كان يلقى على وجهه قناعا ويهمهم. وكان له شيطانان أحدهما سحيق والآخر بشقيق، قال الواقدي: وملك الأسود نجران وأقام بها ستة أشهر ثم خرج في ستمائة ممن تبعه إلى صنعاء فحاصر الأساورة منهم باذان. وفيروز ودادويه في آخرين. وكانوا أسلموا. وأرسلوا بإسلامهم فروة بن مسيك المرادي. فاقتتل الفريقان حتى غلب الأسود فقتل منهم طائفة. وخير طائفة بين أن يخرجوا من صنعاء إلى بلد آخر ويقيموا بها ويضرب عليهم الخراج ويصيروا عبيداً له. واصطفى الأسود المرزبانة امرأة باذان لنفسه. وكانت جميلة. وكان يشرب الخمر ويقع عليها ولا يغتسل ولا يصلى، فكرهته المرزبانة وراسلت الأساورة وفيهم فيروز، وواعدتهم البستان في الوقت الذي يسكر فيه الأسود. فدخل عليه فيروز ودادويه وقيس بن مكشوح وهو سكران. فقالت المرزبانة:
لفيروز وهو أحدثهم سناً: دونك الرجل. قال فيروز: كنت قد أنسيت سيفي من الدهش. فوقعت على الأسود فخنقته حتى حولت وجهه إلى قفاه. ثم دخل صاحباه فحزوا رأسه. واجتمع الأساورة بباب المدينة يقتلون أصحاب العنسي. فذكر تمام القصة، إنما اختصرناها. وروى النسائي من حديث عبد اللَّه بن فيروز الديلمي عن أبيه قال «أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم برأس الأسود العنسي» قال عبد الحق لا يصح في هذا الباب شيء. وتعقبه ابن القطان بأن إسناد النسائي صحيح. ولا يعارضه ما جاء إن الخبر بقتله إنما جاء إثر موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم لأن رواية النسائي ليس فيها التصريح أنه صادف النبي صلى اللَّه عليه وسلم. نعم في رواية الطبري زيادة تدل على ذلك. [.....](1/644)
قوم مسيلمة «1» تنبأ وكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من مسيلمة رسول اللَّه إلى محمد رسول اللَّه. أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول اللَّه إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» فحاربه أبو بكر رضى اللَّه عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشى قاتل حمزة. وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام، أراد في جاهليتى وإسلامى. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالداً «2» فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبى بكر رضى اللَّه عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم
__________
(1) . قول الزمخشري: وبنو حنيفة باليمامة. ورئيسهم مسيلمة. روى الواقدي من طريق حبيب بن عمير الأنصارى قال «كان مسيلمة بن حبيب قد ادعى النبوة في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقال لقومه يا معشر بنى حنيفة ما الذي جعل قريشا أحق بالنبوة منكم وليسوا بأكثر منكم ولا أعد، واللَّه إن بلادكم لأوسع من بلادهم، وإن جبريل ينزل على كما ينزل على محمد وشهد له الدجال بن عنعوة أن محمدا أشرك مسيلمة في الأمر، فسألوه وشهد له. وقرأ عليهم مسيلمة قرآنا يزعمه. سبح اسم ربك الأعلى الذي يسر على الحبلى. فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشا وسلا فمنهم من يدس في الثرى ومنهم يعيش يحيى. إلى أجل ومنتهى. واللَّه يعلم السر وأخفى. ولا يخفى عليه أمر الآخرة والأولى.
فبايعه أهل اليمامة فلما قدمت وفود العرب على النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد الفتح قدم مسيلمة في وفد بنى حنيفة، فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته. فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فسأله أن يشركه في الأمر، وأن يجعل له الخلافة بعده فأبى. ثم إن وفد بنى حنيفة أظهروا الإسلام. وأجازهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمثل جوائز الوفود ورجع مسيلمة معهم مظهرا النبوة. وشهد له الدجال بن عنعوة أن محمدا أشركه في الأمر. وتمادى مسيلمة على ضلاله. إلى خلافة أبى بكر فكثر تابعوه. فجهز إليه أبو بكر في جمع من الصحابة، فالتقوا باليمامة فاقتتلوا قتالا شديدا من طلوع الشمس إلى العصر: وكثر القتل والجراح في الفريقين ووقعت النوبة في المسلمين.
ثم تراجع المهاجرون والأنصار. فدفعوا بنى حنيفة دفعة عظيمة حتى ألجؤهم إلى حديقة فيها مسيلمة فاعتصموا بها.
وأغلقوا الباب فحاصرهم المسلمون. وقال لهم أبو دجانة ألقونى على المدينة حتى أصعد إلى أعلى الحديقة ففعلوا فهبط عليهم فقتل منهم حين فتح باب الحديقة وقتل هو وولج المسلمون الحديقة. فقتلوهم حين انتهى القتال إلى مسيلمة فطعنه عبد اللَّه بن زيد الأنصارى. وزرقه وحشى بن حرب فاشتركا في قتله.
(2) . قوله «خالداً» في أبى السعود «أبا بكر» اه. (ع)(1/645)
مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعرى في كتاب استغفر واستغفري:
أمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاهَا مُسَيْلِمَةٌ ... كَذَّابَةٌ فِى بَنِى الدُّنْيَا وَكَذَّابُ «1»
وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد، وكفى اللَّه أمرهم على يد أبى بكر رضى اللَّه عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضى اللَّه عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطمة «2» وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ قبل لما نزلت أشار رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أبى موسى الأشعرى فقال: «قوم هذا «3» » وقيل هم ألفان من النخع، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس «4» جاهدوا يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار. وقيل: سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: «هذا وذووه» ثم قال: لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس «5» يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه «6» وعقابه. ومحبة اللَّه لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى
__________
(1) . لأبى العلاء المصري. وأمت- بالتشديد-: صارت إماما في بنى حنيفة وادعت النبوة. ويروى بالمد والتخفيف، أى صارت أيما غير متزوجة وهي بنت المنذر. ووافاها، أى وافقها مسيلمة، فانه تزوجها وكان مدعيا للنبوة أيضاً، وبعد قتله تابت وحسن إسلامها.
(2) . قوله «نصرته اللطمة» لعلها اللطيمة وهي العير التي تحمل الطيب وبز التجار، فحرر.
(3) . أخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والحاكم والطبراني. والطبري من طريق سماك بن حرب. عن عياض الأشعرى. قال: لما نزلت هذه الآية فذكره. ورواه البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن سماك عن عياض عن أبى موسى قال تلوت عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) الآية. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قومك يا أبا موسى. أهل اليمن.
(4) . قوله «من أفناء الناس» في الصحاح «فناء الدار» ما امتد من جوانبها. والجمع أفنية. ويقال: هو من أفناء الناس، إذا لم يعلم ممن هو. (ع)
(5) . هكذا رواه. وهو وهم منه فان. هذا الكلام إنما ورد في آية الجمعة من طريق أبى العيث عن أبى هريرة وهو متفق عليه. وفي آية القتال رواه الترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه
(6) . قال محمود: «محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه. ومحبة اللَّه لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم. وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها اللَّه، وفي مراقصهم عطلها اللَّه، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى يوم دك الطور، فتعالى اللَّه عنه علواً كبيراً. ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فان الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات» انتهى كلامه. قال أحمد: لا شك أن تفسير محبة العبد للَّه بطاعته له على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لينظر أهى ثابتة للعبد متعلقة باللَّه تعالى أم لا، إذ المحبة لغة: ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس، كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة، وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجرى مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، فليس اللذة برئاسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرئاسة على أقاليم معتبرة.
وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث، فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن. وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الايمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم. وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد للَّه بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها.
ألا ترى إلى الأعرابى الذي سأل عن الساعة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «ما أعددت لها» قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب اللَّه ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام «أنت مع من أحببت» فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة للَّه غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابى نفاها وأثبت الحب وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد للَّه تعالى على حقيقتها لغة، فالمحبة في اللغة إذا تأكدت سميت عشقاً، فمن تأكدت محبته للَّه تعالى وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته، فلا يمنع أن تسمي محبته عشقاً إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة. وما أردت بهذا الفصل إلا تخليص الحق والانتصاب لأحباء اللَّه عز وجل من الزمخشري، فانه خلط في كلامه الغث بالسمين، فأطلق القول كما سمعته بالقدح الفاحش في المتصوفة من غير تحر منه، ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه، ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله، ثم ارتكابهم ما نقل عنهم مما ينافي حال المسمين به حقيقة، أن يؤاخذ الصالح بالطالح (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وهذا كما أن علماء الدين قد انتسب إليهم قوم سموا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، ثم خلعوا الربقة فجحدوا صفات اللَّه تعالى وقضاءه وقدره وقالوا: إن الأمر أنف، وجعلوا لأنفسهم شركا في المخلوقات وفعلوا وصنعوا، فلا يسوغ لنا أن نقدح في علماء أصول الدين مطلقاً لأنهم قد انتسب إليهم من لا حيلة لهم في نفيه عن التسمي بنعتهم، ولا يكلف اللَّه نفسا إلا وسعها، ولا شك أن في الناس من أنكر تصور محبة العبد للَّه إلا بمعنى طاعته له لا غير، وهو الذي يحاز إليه الزمخشري. وقد بينا تصور ذلك وأوضحناه. والمعترفون بتصور ذلك وثبوته ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا، كما أن الصبى ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو شبه ذلك، وكل طائفة تسحر بمن فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال الغزالي: والمحبون للَّه يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون.(1/646)
عليهم ويرضى عنهم: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئاً، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق، والتغني على كراسيهم خربها اللَّه، وفي مراقصهم عطلها اللَّه، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور، فتعالى اللَّه عنه علواً كبيراً، ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم، كذلك يحبون ذاته، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها: الحب شرطه أن تلحقه(1/647)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة. فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتى اللَّه بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم، أو ما أشبه ذلك أَذِلَّةٍ جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبي عنه أنّ ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف «كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عز وجل: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وقرئ: أذلة. وأعزة، بالنصب على الحال وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود- لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه اللَّه لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل اللَّه، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرّة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. وذلِكَ إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة يُؤْتِيهِ يوفق له مَنْ يَشاءُ ممن يعلم أنّ له لطفاً واسِعٌ كثير الفواضل والألطاف عَلِيمٌ بمن هو من أهلها.
[سورة المائدة (5) : آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55)
عقب النهى عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ومعنى «إنما» وجوب اختصاصهم بالموالاة. فإن قلت: قد ذكرت جماعة، فهلا قيل إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم اللَّه، فجعلت الولاية للَّه على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد اللَّه: إنما مولاكم. فإن قلت: الَّذِينَ يُقِيمُونَ ما محله؟ قلت: الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على: هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح. وفيه تمييز للخلص من الذين(1/648)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
آمنوا نفاقا، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل وَهُمْ راكِعُونَ الواو فيه للحال، أى يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع للَّه إذا صلوا وإذا زكوا. وقيل: هو حال من يؤتون الزكاة، بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وإنها نزلت في علىّ كرم اللَّه وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه «1» ، كأنه كان مرجا «2» في خنصره، فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته. فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلىّ رضى اللَّه عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل «3» التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها.
[سورة المائدة (5) : آية 56]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ من إقامة الظاهر مقام المضمر «4» . ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاما لكونهم حزب اللَّه. وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ويحتمل أن يريد بحزب اللَّه: الرسول والمؤمنين. ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب اللَّه، واعتضد بمن لا يغالب.
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
__________
(1) . قلت: في قوله: «كأنه» إلى قوله «بمثله» من كلام صاحب الكشاف. فقد رواه ابن أبى حاتم من طريق سلمة بن كهيل قال تصدق على بخاتمه وهو راكع، فنزلت (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ولابن مردويه من رواية سفيان الثوري عن ابن سنان عن الضحاك. عن ابن عباس قال كان على قائماً يصلى، فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت. وروى الحاكم في علوم الحديث من رواية عيسى بن عبد اللَّه بن عمر بن على. حدثنا أبى عن أبيه عن جده عن على بن أبى طالب قال نزلت هذه الآية. إنما وليكم اللَّه ورسوله. الآية فدخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المسجد والناس يصلون، بين قائم وراكع وساجد. وإذا سائل فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أعطاك أحد شيئا. قال لا إلا هذا الراكع يعنى عليا. أعطانى خاتمه. رواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن على الصائغ وعند ابن مردويه من حديث عمار بن ياسر قال: وقف بعلى سائل وهو واقف في صلاته. الحديث. وفي إسناده خالد بن يزيد العمرى. وهو متروك. ورواه الثعلبي من حديث أبى ذر مطولا وإسناده ساقط.
(2) . قوله «كأنه كان مرجا» أى قلقا غير ثابت. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قوله «لا يقبل» لعله «لا يفعل» . (ع)
(4) . قال محمود: «هذا من إقامة الطاهر مقام المضمر ومعناه ... الخ» قال أحمد: ومقابله قوله تعالى: (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) فوضع الظالمين موضع ضمير الأول ليزيدهم سمة الظلم إلى الخسران.(1/649)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
روى أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فنزلت. يعنى أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة. وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار- وإن كان اهل الكتاب من الكفار- إطلاقا للكفار على المشركين خاصة. والدليل عليه قراءة عبد اللَّه: ومن الذين أشركوا. وقرئ: والكفار بالنصب والجرّ. وتعضد قراءة الجر قراءة أُبىّ:
ومن الكفار وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاة الكفار وغيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين اتَّخَذُوها الضمير للصلاة أو للمناداة. قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول «أشهد أنّ محمداً رسول اللَّه» قال: حرّق الكاذب، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو «1» وأهله. وقيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده لا يَعْقِلُونَ لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم.
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قرأ الحسن. هل تنقمون بفتح القاف. والفصيح كسرها. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ. فإن قلت: علام عطف قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟ قلت: فيه وجوه: منها أن يعطف على أن آمنا، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى واعتقاد أنكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان باللَّه وبما أنزل وبأنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم
__________
(1) . أخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى في قوله، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً، قال:
كان رجل من النصارى ... فذكره.(1/650)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
فاسقون. ويجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات. ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 60 الى 61]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وروى أنه أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟
فقال «أو من باللَّه وما أنزل إلينا إلى قوله: ونحن له مسلمون» فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام: ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شراً من دينكم «1» . فنزلت.
وعن نعيم بن ميسرة: وإنّ أكثركم، بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون، أى: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف، أى وفسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا ذلِكَ إشارة إلى المنقوم، ولا بدّ من حذف مضاف قبله، أو قبل «من» تقديره: بشرّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه اللَّه. ومَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ في محل الرفع على قولك: هو من لعنه اللَّه، كقوله تعالى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) أو في محل الجر على البدل من شرّ. وقرئ: مثوبة. ومثوبة. ومثالهما: مشورة، ومسورة. فإن قلت:
المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «2»
__________
(1) . أخرجه الواحدي في الأسباب. والوسط عن ابن عباس بهذا وأخرجه الطبري من رواية ابن إسحاق حدثني محمد بن أبى محمد، مولى زيد بن ثابت. حدثني سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نفر من اليهود وفيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبى رافع. وعازر وآزار ابني آزار.
وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فذكر نحوه. وفيه فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته. وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به. [.....]
(2) . مر شرح هذا الشاهد ص 60 من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.(1/651)
ومنه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) . فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم «1» في العقوبة؟ قلت: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه اللَّه شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة «2» «من» كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. وفي قراءة أبىّ وعبدوا الطاغوت، على المعنى. وعن ابن مسعود: ومن عبدوا. وقرئ وعابد الطاغوت، عطفاً على القردة. وعابدى. وعباد. وعبد. وعبد. ومعناه: الغلوّ في العبودية، كقولهم، رجل حذر وفطن، للبليغ في الحذر والفطنة. قال:
أَبَنِى لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ ... أَمَةٌ وَإنَّ أبَاكُمُو عَبْدُ «3»
وعبد، بوزن حطم. وعبيد. وعبد- بضمتين- جمع عبيد: وعبدة بوزن كفرة. وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة. أو هو كخدم في جمع خادم. وعبد «4» وعباد. وأعبد.
وعبد الطاغوت، على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى: وعبد الطاغوت فيهم، أو بينهم.
وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون اللَّه، كقولك «أمر» إذا صار أميراً.
وعبد الطاغوت، بالجر عطفاً على: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) . فإن قلت: كيف جاز أن يجعل اللَّه منهم
__________
(1) . (قوله فلم شورك بينهم) لعله بينهما، أو بينهم وبين المسلمين. (ع)
(2) . قال محمود: «وعبد الطاغوت عطف عل صلة من ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: السؤال يلزم القدرية لأنهم يزعمون أن اللَّه تعالى إنما أراد منهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن عبادتهم للطاغوت قبيحة واللَّه تعالى لا يريد القبائح بل تقع في الوجود على خلاف مشيئته، فلذلك يضطر الزمخشري إلى تأويل الجعل بالخذلان أو بالحكم، وكذلك أول قوله تعالى: (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بمعنى حكمنا عليهم بذلك. هذا مقتضى قاعدة القدرية. وأما على عقيدة أهل السنة الموحدين حقا، فالآية على ظاهرها، واللَّه تعالى هو الذي أشقاهم وخلق في قلوبهم طاعة الطاغوت وعبادته، ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا روجع القدري في تحقيق الخذلان أو الحكم الذي يستروح إلى التأويل به، لم يقدر منه على حقيقة، ولم يفسره بغير الخلق إن اعترف بالحق وترك ارتكاب المراء، والتذبذب مع الأهواء، واللَّه ولى التوفيق.
(3) .
أبنى لبينى لست معترفا ... ليكون ألأم منكم أحد
أبنى لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
لأوس بن حجر. وقيل لطرفة بن العبد، والهمزة للنداء، والعبد كالحذر البليغ في العبودية. ورواه الفراء بالضم، لكن قال: إن ضم الباء ضرورة. وقال السيوطي: إنه بالضم اسم جمع لعبد بالسكون، لكن ظاهر البيت يخالفه. يقول: يا بنى لبينى، لست معترفا لأن يكون أحد أشد لؤما منكم، فان أبويكم رقيقين. وتخصيص الأمة بالرقيقة والعبد بالرقيق: عرف شائع في اللغة. وأداهم نداء الغريب، لأنه أغيظ للمواجهة بالذم. وكرر النداء مع هذه الاضافة للاستخفاف بهم.
(4) . قوله «وعبد» لعله بفتح العين وضم الباء كندس. أفاده الصحاح. (ع)(1/652)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
عباد الطاغوت؟ «1» قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوه. والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به، كقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وقيل الطاغوت: العجل لأنه معبود من دون اللَّه، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت. وعن ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنه:
أطاعوا الكهنة، وكل من أطاع أحداً في معصية اللَّه فقد عبده. وقرأ الحسن: الطواغيت.
وقيل: وجعل منهم القردة أصحاب السبت، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير. وروى أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز.
نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره اللَّه تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات اللَّه ومواعظك. وقوله: (بِالْكُفْرِ) و (بِهِ) حالان، أى دخلوا كافرين «2» وخرجوا كافرين. وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وَقَدْ دَخَلُوا) (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) ولذلك دخلت (قَدْ) تقريبا للماضي من الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متوقعاً لإظهار اللَّه ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالُوا آمَنَّا) أى قالوا ذلك وهذه حالهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 62 الى 63]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
الإثم الكذب «3» بدليل قوله تعالى: (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) . وَالْعُدْوانِ الظلم. وقيل: الإثم
__________
(1) . قوله «فان قلت كيف جاز أن يجعل ... الخ» السؤال مبنى على أنه لا يجوز عليه تعالى خلق الشر. وهو مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فيجوز كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
(2) . قال محمود: «المجروران حالان أى دخلوا كافرين ... الخ» قال أحمد: وفي تصدير الجملة الثانية بالضمير تأكيد لاتحاد حالهم في الكفر، أى وقد دخلوا بالكفر وخرجوا وهم أولئك على حالهم في الكفر، كما تقول:
لقيت زيدا بعد عوده من سفره وهو هو، أى على حاله. وفي المثل «وعبد الحميد عبد الحميد» أى حالته باقية، واللَّه أعلم.
(3) . قال محمود: «الإثم الكذب ... الخ» قال أحمد: وقوله: (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) يدل على أن الإثم الأول مقول، فيحتمل أن يكون المراد الكذب مطلقا. ويحتمل أن يراد كلمة الشرك، واستدلال الزمخشري على أن المراد الكذب لا يتم، وإنما يدل على أنه مقول فيحتمل الأمرين، واللَّه أعلم.(1/653)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
كلمة الشرك. وقولهم عزيز ابن اللَّه. وقيل: الإثم: ما يختص بهم. والعدوان: ما يتعداهم إلى غيرهم.
والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير «1» لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقذ السامع «2» وينعى على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: هي أشدّ آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود «3» ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل ... الخ» قال أحمد: يعنى أنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وعبر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) كان هذا الذم أشد، لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم. وهذا مراده واللَّه أعلم.
(2) . قوله «مما يقذ السامع» يعنى يخففه وينشطه. وهذا إن كان مشدد الذال من القذ. أو يضربه حتى يسترخى ويشرف على الموت. وهذا إن كان مخففا من الوقد. (ع)
(3) . قال محمود: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ... الخ» قال أحمد: والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن فلما كان الجود وللبخل معنيين لا يدركان بالحس ويلازمهما صورتان تدركان بالحس وهو بسط اليد للجود وقبضها للبخل، عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات، واللَّه أعلم.(1/654)
وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين «1» للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقوله:
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلِ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُه وَوِهَادُهُ «2»
ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله:
إذْ أصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا «3»
ويقال بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان.
ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به. فإن قلت: قد صح أن قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ عبارة عن البخل «4» . فما تصنع بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت: يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق اللَّه وأنكدهم، ونحوه بيت الأشتر:
__________
(1) . قوله «وقعتا متعاقبتين» لعله «معاقبتين» . (ع)
(2) . جاد الحمى أى أمطر فيه وبسط اليدين فاعل وأصله مصدر أريد به المنبسط ضد المنقبض ويروى سبط بتقديم السين صفة مشبهة كضخم وهو بمعنى المسترسل المنبسط كناية عن الكريم كما أن منقبض اليدين كناية عن البخيل فشبه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية وإثبات اليدين تخييل. والتلعة: الأرض المرتفعة. والوهدة: الأرض المنخفضة. وشبه أعالى الحمى وأسافله بطلاب الرزق وشكرها تخييل والندى بمعنى العطاء ترشيح للأولى. ويجوز أنه حقيقة لا بمعنى العطاء ويجوز أن الشكر تخييل للأولى أيضا. يقول: أمطر السحاب أرض الحما بمصر كثير فأنبتت وأزهرت. وهذا معنى شكرها. ويجوز أن التلاع والوهاد مجار عن أهلهما النازلين فيهما.
(3) .
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
للبيد، من المعلقة. يقول: ورب غداة ريح قد كشفتها أى كشفت غمتها عن الناس. ويروى «قد وزعت» أى كففتها ومنعتها. ورب غداة قرة، بالكسر والضم أى شدة برد كشفت بردها أيضا. والكشف خاص بالمحسوس فاستعير للمعقول من غمة الجوع والبرد على طريق التصريح. ويجوز أن إزالة الريح والبرد عن الناس كناية عن إدخالهم بيته لاكرامهم. وشبه الغداة بمطية لها زمام. أو شبه القرة بذلك. وشبه الشمال- وهي نوع من الريح- بقائد يقود تلك المطية على طريق المكنية، والزمام تخييل للأولى، واليد للثانية. وليس بلازم أن يكون للمشبه شيء حقيقى يشبه ما للمشبه به على المختار كاليد والزمام هنا. والمعنى أن الشمال تارة تجعل الغداة مغبرة باردة، وتارة لا. أو تارة نثير الغبار والبرد في جهة، وتارة في أخرى. [.....]
(4) . عاد كلامه. قال: «فان قلت قد صح أن قولهم يد اللَّه مغلولة عبارة عن البخل ... الخ» قال أحمد: لقد نقص فضيلته التي أوردها في هذا الفصل بما ضمنه هذا السؤال والجواب من القاعدة الفاسدة في أن اللَّه تعالى يستحيل عليه أن يريد من عباده شيئا مما نعاه عليهم، وبنى على ذلك استحالة أن يدعو عليهم بالبخل لأنه لم يرده منهم، ويستحيل أن يريده منهم فوجه هذا النص بالتأويل والتمسك بالأباطيل. والحق أن اللَّه يدعو عليهم بالبخل ودعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فهو الداعي والخالق، لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فليت الزمخشري لم يتحدث في تفسير القرآن إلا من حيث علم البيان، فانه فيه أفرس الفرسان، لا يجارى في ميدانه ولا يماري في بيانه.(1/655)
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَا ... وَلَقِيتُ أضْيَافِى بِوَجْهِ عَبُوسِ «1»
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب اللَّه دابره، أى قطعه لأنّ السب أصله القطع. فإن قلت: كيف جاز أن يدعو اللَّه عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم. فإن قلت: لم ثنيت اليد في قوله تعالى: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) «2» ؟ قلت: ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبنى المجاز على ذلك. وقرئ (وَلُعِنُوا) بسكون العين. وفي مصحف عبد اللَّه: بل يداه بسطان.
يقال: يده بسط بالمعروف. ونحوه مشية شحح «3» وناقة صرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد
__________
(1) .
بقيت وفرى وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس
للأشتر النخعي. والبيت الأول في صورة الخبر. والمراد به إنشاء للدعاء على نفسه بالبخل. ويجوز أنه من باب التعليق بالممتنع، والوفر المال الكثير ويروى بقيت وحدي أى فنيت عشيرتي أو بعدت عنها والانحراف التباعد عن حرف الشيء المحسوس كما أن العلى خاص بالمحسوسات، فيجوز أنه استعار الانحراف للاعراض والعدول على طريق التصريحية والعلى ترشيح. ويحتمل أنه استعار العلى للمكارم والانحراف ترشيح. وقوله بوجه عبوس: أى رجل عبوس، ففيه معنى التجريد إن لم أشن بالضم شرط دل ما قبله على جوابه، أى إن لم أفوق حربا على ابن حرب معاوية بن صخر بن حرب، بحيث تأتيه من كل فج. ويروى «على ابن هند» ولم تخل صفة غارة، ونهاب النفوس أخذ الأرواح بالقتل أو أسر الذوات. ويروى «ذهاب نفوس» أى فنائها. وفي الكلام الادماج، حيث ضمن تهديد معاوية مدح نفسه بالكرم، حتى أن البخل عنده من أكبر المصائب وأشد العار، حتى علقه بالممتنع فأفاد امتناعه.
(2) . عاد كلامه. قال: فان قلت: لم ثنيت اليد في: (يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في قولهم (يَدُ اللَّهِ) ... الخ» قال أحمد: ولما كان المعهود في العطاء أن يكون بإحدى اليدين وهي اليمين، وكان الغالب على اليهود- لعنت- اعتقاد الجسمية، جاءت عبارتهم عن اليد الواحدة المألوف منها العطاء فبين اللَّه تعالى كذبهم في الأمرين في نسبة البخل وفي إضافته إلى الواحدة، تنزيلا منهم على اعتقاد الجسمية، بأن ينسب إلى ذاته صفة الكرم المعبر عنها بالبسط، وبأن أضافه إلى اليدين جميعاً لأن كلتا يديه يمين، كما ورد في الحديث تنبيها على نفى الجسمية، إذ لو كانت ثابتة جل اللَّه عنها لكانت إحدى اليدين يمينا والأخرى شمالا ضرورة. فلما أثبت أن كلتيهما يمين نفى الجسمية وأضاف الكرم إليهما، لا كما يضاف في الشاهد إلى اليد اليمنى خاصة، إذ الأخرى شمال وليست محلا للتكريم، واللَّه أعلم.
(3) . قوله «شحح» في الصحاح «الشحشحة» الطيران السريع. و «قطاة شحشح» أى سريعة اه فلعل الشحح مثله وفيه أيضا «الصرح» بالتحريك: الخالص من كل شيء. (ع)(1/656)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن اللَّه تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا اللَّه في محمد صلى اللَّه عليه وسلم وكذبوه كف اللَّه تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء:
يد اللَّه مغلولة، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه وَلَيَزِيدَنَّ أى يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات اللَّه وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فكلمهم أبداً مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من اللَّه على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل:
خالفوا حكم التوراة فبعث اللَّه عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم فطرس الرومىّ، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط اللَّه عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نصر عليهم. وعن قتادة رضى اللَّه عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس وَيَسْعَوْنَ ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من كتبهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ مع ما عددنا من سيئاتهم آمَنُوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبما جاء به، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة اللَّه تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإيمان لا ينجى «1»
__________
(1) . قال محمود: «فيه دليل على أن الايمان لا ينجى ... الخ» قال أحمد: وهو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلا على قاعدته في أن مجرد الايمان لا ينجى من الخلود في النار حتى ينضاف إليه التقوى، لأن اللَّه تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطا للتفكير ولادخال الجنة. وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة، وأنى له ذلك والإجماع والاتفاق من الفريقين أهل السنة والمعتزلة على أن مجرد الايمان يجب ما قبله ويمحوه، كما ورد النص فلو فرضنا موت الداخل في الايمان عقيب دخوله فيه، لكان كيوم ولدته أمه باتفاق مكفر الخطايا محكوما له بالجنة، فدل ذلك على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط. هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال.
وإن كانت التقوى على أصل موضعها الخوف من اللَّه عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر.
وحينئذ لا يتم للزمخشري منه غرض. وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام من قال لا إله إلا اللَّه دخل الجنة، وإن زنى أو سرق» كررها النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرارا، ثم قال: وإن رغم أنف أبى ذر، لما راجعه رضى اللَّه عنه في ذلك. ونحن نقول. وإن رغم أنف القدرية.(1/657)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود فأين الأطناب وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من سائر كتب اللَّه، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن. لوسع اللَّه عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا. وقوله لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ عبارة عن التوسعة. وفيه ثلاث أوجه: أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل «1» منها من رؤس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة حالها أمم «2» في عداوة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقيل هي الطائفة المؤمنة عبد اللَّه بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى، وساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً «3» ، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك
__________
(1) . قوله «ما تهدل» أى استرخى وتدلى. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . قوله «أمم» أى يسير. أفاده الصحاح. (ع)
(3) . قال محمود: «معناه بلغ غير مراقب في التبليغ أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه. (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) معناه:
وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك فما بلغت رسالته، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط. وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من البعض، فكأنك أغفلت أداءها جميعها، كما أن من يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لادلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم الشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن، إلى أن قال: «فان قلت وقوع قوله: (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم تمثل ... الخ» قال أحمد: وهذا الاتحاد بين الشرط والجزاء ظاهر لأن حاصله إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة، باتحاد المبتدأ والخبر، حتى لا يزيد الخبر عليه شيئا في الظاهر كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
فجعل الخبر عن المبتدإ بلا مزيد في اللفظ، وأراد: وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أفهم بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين، لاشتهاره بها، وأنه غنى عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة، حتى يكون اللفظ متغايراً، وهذه المغايرة اللفظية وإن كان المعنى واحداً أحسن رونقاً وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدإ بلفظ الخير، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحته المعجز فلا يعاب عليه في ذلك، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان، واللَّه الموفق.(1/658)
فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقرئ: رسالاته، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤدّ منها شيئاً قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه «1» غيرها. وكونها كذلك «2» في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن به. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «بعثني اللَّه برسالاته فضقت بها ذرعا، فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت «3» . فإن قلت: وقوع قوله فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر اللَّه في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمراً شنيعاً لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله: (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى اللَّه إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ عدة من اللَّه بالحفظ والكلاءة والمعنى: واللَّه يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته «4» صلوات اللَّه عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات اللَّه، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ
__________
(1) . قوله «بما يدليه» لعله: يدلى به. (ع)
(2) . قوله «وكونها كذلك» لعله «لذلك» . (ع)
(3) . أخرجه إسحاق في مسنده. أخبرنا كلثوم بن محمد بن أبى سدرة، حدثنا عطاء الخراساني عن أبى هريرة ولم يذكر وضمن لي العصمة فقويت وذكره الواحدي في الوسيط والأسباب عن الحسن بغير سند.
(4) . متفق عليه من حديث سهل. وقد تقدم في تفسير آل عمران،(1/659)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك. وعن أنس: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمنى اللَّه من الناس «1» .
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أى على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء فَلا تَأْسَ فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
وَالصَّابِئُونَ رفع على الابتداء وخبره «2» محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له:
__________
(1) . لم أجده من حديث أنس، وقد أخرجه الترمذي من رواية أبى قدامة الحارث بن عبيد عن سعيد الحريري عن عبد اللَّه بن شقيق عن عائشة. وقال غريب. ورواه بعضهم عن الحريري مرسلا ليس فيه عائشة. ورواه موصولا الطبري من رواية ابن علية عن الحريري ولكنه رواه من رواية وهب عن الحريري.
(2) . قال محمود: «فيه الصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف ... الخ» قال أحمد: صدق، لا ورود للسؤال بهذا التوجيه، ولكن ثم سؤال متوجه، وهو أن يقال: لو عطف الصابئين ونصبه كما قرأ ابن كثير لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على النصارى ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين وهم أوغل الناس في الكفر يتاب عليهم، فما الظن بالنصارى، ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا والعطف إفرادى، فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين، وهل يمتاز بفائدة على النصب والعطف الافرادى؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه عطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف، لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الافرادى وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل تقديره مثلا، والصابئون كذلك فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها وهو بهذه المثابة، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا، مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر. وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدإ المحذوف الخبر بين الجزئين، أدل على الخبر المحذوف من ذكره بعد تقضى الكلام وتمامه، واللَّه أعلم. [.....](1/660)
وَإلّا فَاعْلمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِى شِقَاقِ «1»
أى فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فان قلت لم لا يصح والنية به التأخير، فكأنك قلت: إنّ زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأنى إذا رفعته رفعته عطفا على محل إن واسمها، والعامل في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها «إن» في عملها، فلو رفعت الصابئون المنوىّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فان قلت: فقوله والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ... ولا محل لها، كما لا محل للتي عطفت عليها، فان قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم. وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤا عن الأديان كلها، أى خرجوا، كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل في الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو «بغاة» لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أو غل فيه منهم وأثبت قدما فان قلت: فلو قيل والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلا. قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم في شيء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه.
ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام. فان قلت: كيف قال: (الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال: (مَنْ آمَنَ) ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه. فان قلت: ما محل من آمن
__________
(1) .
إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
لبشر بن أبى خازم الأسدى، يخاطب بنى طيئ ويتوعدهم بما صنعوا بآل بدر حلفاء بنى أسد. والباصية: مقدم شعر الرأس: وجز النواصي حقيقة، على عادتهم من جز ناصية الأسير إذا أرادوا إطلاقه، فطالبهم بمقتضاها وقال:
فأدوها، أى الأسرى التي جزت نواصبها. أو أدوا النواصي نفسها. ويجوز أنه مجاز عن قتل كبرائهم. وقوله «فأدوها» أى دماء القتلى وأسرى عطف على الضمير المفعول. وإلا، أى وإن لا تفعلوا فاعلموا أنا وأنتم بغاة.
وبغاة: خبر إنا. وخبر أنتم محذوف، أى بغاة أيضا. ولم يجعل المذكور خبراً عنه أيضا، لأنه ليس عطفا على اسم إن، وإلا لقال: إنا وإياكم، بل هو من عطف الجمل. ولا يقال فيه العطف على الجملة قبل تمامها، لا نقول:
سمع العطف قبل المعطوف عليه بالكلية في قوله: عليك ورحمة اللَّه السلام. و «في شقاق» خبر ثان، أى في خلاف ما بقينا، أى مدة بقائنا، يعنى وأنتم تعلمون بأسنا في الحرب.(1/661)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قلت: إما الرفع على الابتداء وخبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه. فان قلت: فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت: هو محذوف تقديره من آمن منهم، كما جاء في موضع آخر. وقرئ: والصابيون، بياء صريحة، وهو من تخفيف الهمزة، كقراءة من قرأ:
يستهزيون. والصابون. وهو من صبوت، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع. وفي قراءة أبىّ رضى اللَّه عنه: والصابئين، بالنصب. وبها قرأ ابن كثير. وقرأ عبد اللَّه: يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.
[سورة المائدة (5) : آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
لَقَدْ أَخَذْنا ميثاقهم بالتوحيد وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ جملة شرطية وقعت صفة لرسلا، والراجع محذوف أى رسول منهم بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع. فإن قلت: أين جواب الشرط «1» فإن قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول إن أكرمت أخى أخاك أكرمت؟ قلت:
هو محذوف يدل عليه قوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه، وقوله: (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا «2» وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أين جواب الشرط ... الخ» قال أحمد: ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهراً في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه قوله تعالى: (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) فأوقع قوله: (اسْتَكْبَرْتُمْ) جوابا، ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. ولو قدر الزمخشري هاهنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى لدلالة مثله عليه.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جيء بأحد الفعلين ماضيا ... الخ» قال أحمد: أو يكون حالا على حقيقته لأنهم داروا حول قتل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في البقرة.
وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي وتمثيله بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فعدل عن فأصبحت إلى فتصبح، تصويراً للحال واستحضاراً لها في ذهن السامع. ومنه:
بأنى قد لقيت الغول يسعى ... بسبب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربها فخرت ... صريعاً لليدين وللجران
وأمثاله كثيرة واللَّه أعلم.(1/662)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها. قرئ: أن لا يكون، بالنصب على الظاهر. وبالرفع على «أن» هي المخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يكون فتنة فخففت «أن» وحذف ضمير الشأن.
[سورة المائدة (5) : آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
فإن قلت: كيف دخل فعل الحسبان على «أن» التي للتحقيق؟ قلت: نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم: فإن قلت: فأين مفعولا حسب؟ قلت: سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين، والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من اللَّه فتنة، أى بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة فَعَمُوا عن الدين وَصَمُّوا حين عبدوا العجل، ثم تابوا عن عبادة العجل ف تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات اللَّه وهو «1» الرؤية. وقرئ: عموا وصموا، بالضم على تقدير عماهم اللَّه وصمهم، أى رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: تركته إذا ضربته بالنيزك «2» وركبته إذا ضربته بركبتك كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير: أو على قولهم: أكلونى البراغيث، أو هو خبر مبتدإ محذوف أى أولئك كثير منهم.
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أى حرّمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام اللَّه على أنهم ظلموا «3» وعدلوا
__________
(1) . قوله «وهو الرؤية» أحالها مذهب المعتزلة، وأجازها أهل السنة كما حقق في محله. (ع)
(2) . قوله «إذا ضربته بالنيزك» هو الرمح القصير، وهو فارسى معرب، أصله نيزه، فأبدلت الهاء كافا. كذا بهامش، وأصله في الصحاح. (ع)
(3) . قوله «على أنهم ظلموا» لعله على معنى أنهم. (ع)(1/663)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
عن سبيل الحق فيما يقولوا على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام، على معنى: ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول. أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب اللَّه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 75]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
من في قوله وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ للاستغراق وهي القدرة مع «لا» التي لنفى الجنس في قولك (لا إله إلا الله) والمعنى: وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى له، وهو اللَّه وحده لا شريك له: و «من» في قوله لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ للبيان كالتي في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) فإن قلت: فهلا قيل (لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) . قلت في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير والذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.
والمعنى: ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة عَذابٌ أَلِيمٌ أى نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض، على معنى: ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم، لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية أَفَلا يَتُوبُونَ ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر. وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة لرسول، أى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من اللَّه كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ اللَّه الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى «1» . وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى
__________
(1) . قوله «وطمس على يد موسى» لعله وطمس على أموال فرعون وقومه على يد ... الخ. (ع)(1/664)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أى وما أمه أيضاً إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبى، والآخر صحابى. فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه. ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم «1» وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أى الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله. فإن قلت:
ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ «2» قلت: معناه ما بين العجبين، يعنى أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه.
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
ما لا يَمْلِكُ هو عيسى، أى شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به اللَّه من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع فبإقدار اللَّه وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئاً. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً.
وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ متعلق ب أتعبدون، أى أتشركون باللَّه ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز واللَّه هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
__________
(1) . قوله «وقرم» في الصحاح «القرم» بالتحريك: شدة شهوة اللحم. (ع)
(2) . قال محمود: «فان قلت ما معنى التراخي في قوله ثم انظر ... الخ» قال أحمد: ومنه (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) وقوله: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) وهي في سائر هذه المواضع منقولة من التراخي الزمانى إلى التراخي المعنوي في المراتب.(1/665)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
غَيْرَ الْحَقِّ صفة للمصدر أى لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق «1» أى غلواً باطلا لأنّ الغلو في الدين غلوّ ان غلوّ حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان اللَّه عليهم. وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه، كما يفعل أهل الأهواء والبدع قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على التثليث وَضَلُّوا لما بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
نزّل اللَّه لعنهم في الزبور عَلى لِسانِ داوُدَ وفي الإنجيل على لسان عيسى. وقيل إن أهل أيلة، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير
__________
(1) . قال محمود: «معناه لا تغلوا في دينكم غلواً باطلا ... الخ» قال أحمد: يعنى بأهل العدل والتوحيد المعتزلة، ويعنى بغلوهم الذي هو حق عنده أنهم غلوا في التوحيد فجحدوا الصفات الالهية، وغلوا في التعديل فنفوا أكثر الأفعال بل كلها عن أن تكون مخلوقة للَّه تعالى لانطوائها في مفاسد ولأن اللَّه تعالى يعاقب على ما هو قبيح منها، والعدل عندهم أن لا يعاقب على فعل خلقه فهذا غلوهم في التعديل، وهو كما ترى أنه كاسد عن التوحيد لأنهم جعلوا كل مخلوق من الحيوانات خالقاً، فالنصارى غلوا فأشركوا ثلاثة، والمعتزلة كما رأيت أشركوا كل أحد بل غير الآدميين في الخلق الذي هو خاص بالرب. ويعنى الزمخشري بأهل البدع والأهواء من عدا الطائفة المذكورة، ويعنى بغلوهم الباطل إثبات الصفات للَّه تعالى وتوحيده على الحق، حتى لا خالق سواه ولا مخلوق إلا بقدرته، وقد ترضى عن شيعته وإخوانه وسكت عن ذكر من عداهم، ونحن نقول: اللهم ارض عمن هو أحق الطوائف برضاك، وهذه دعوة أيضا بلا خلاف، واللَّه الموفق.(1/666)
وكانوا خمسة آلاف رجل، ما فيهم امرأة ولا صبىّ ذلِكَ بِما عَصَوْا أى لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ، إلا لأجل المعصية والاعتداء، لا لشيء آخر، ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ لا ينهى بعضهم بعضاً عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ثم قال لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ للتعجيب من سوء فعلهم، مؤكداً لذلك بالقسم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام اللَّه وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فان قلت: كيف وقع ترك التناهى عن المنكر «1» تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أنّ اللَّه تعالى أمر بالتناهى، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهى حسبما للفساد فكان تركه على عكسه. فإن قلت: ما معنى وصف المنكر بفعلوه، ولا يكون النهى بعد الفعل؟
قلت: معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذمّ، ومحله الرفع، كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط اللَّه عليهم. والمعنى: موجب سخط اللَّه. وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين أَوْلِياءَ يعنى أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في كفرهم ونفاقهم. وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون باللَّه وموسى كما يدّعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون.
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت كيف وقع ترك التناهي ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا التوبيخ الاخبار بأمرين قبيحين، أحدهما: بأنهم كانوا يفعلون المناكر، والآخر: أنهم كانوا تاركين للنهى عنها، أى عن أمثالها في المستقبل ولولا زيادة (فَعَلُوهُ) لما صرح بوقوعها منهم، ولكان المصرح به ترك النهى عن المنكر عند استحقاق النهى، وذلك حين الاشراف على تعاطيه وظهور الأمارات الدالة عليه، فانتظم ثبوت الأمرين جميعاً على أخصر وجه وأبلغه وقد دلت هذه الآية على المذهب الصحيح الأشعرى، من أن متعلق النهي فعل وهو الترك، خلافا لأبى هاشم المعتزلي في قوله «إن متعلقه نفى محض وعدم صرف، ووجه دلالة الآية على أن متعلقه فعل أنه عبر عن ترك التناهى الذي وقع توبيخهم عليه بالفعل، حيث قال: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أى لبئس الترك للتناهي فعلا، كما تقول: زيد بئس الرجل، فتجعل الرجل واقعا على زيد. وقد سمى تركهم للنهى عن المنكر في الآية السالفة قبل هذه صنعا، فقال: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) إلى قوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) وذلك أبلغ في الدلالة على أن متعلق النهى أمر ثابت، إذ الصنع أمكن من الفعل في الدلالة على الإثبات، وقد مر هذا التقرير، واللَّه الموفق.(1/667)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
وصف اللَّه شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق «1» ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ. وعن النبىّ صلى اللَّه عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» «2» وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً أى علماء وعباداً وَأَنَّهُمْ قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع
__________
(1) . قال محمود: «وصف اللَّه تعالى شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم ... الخ» قال أحمد: وإنما قال (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ولم يقل: النصارى، تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) . فقابلوا ذلك بأن قالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) والنصارى قالوا (نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) ومن ثم سموا نصارى، وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) فأسند ذلك إلى قولهم، والاشارة به إلى قولهم (نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) لكنه هاهنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق، ولا على ما قالوه من أنهم أنصار اللَّه، وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود، لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالرد مكافحة اليهود، بل قالوا (نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) واليهود قالت (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) فهذا سره واللَّه أعلم.
(2) . أخرجه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء من رواية يحيى بن عبيد اللَّه عن أبيه. عن أبى هريرة وفي رواية ابن حبان «يهودى» على الافراد.(1/668)
شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني. ووصفهم اللَّه برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشىّ رضى اللَّه عنه أنه قال لجعفر بن أبى طالب- حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده-: هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، فقرأها إلى قوله: (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وقرأ سورة طه إلى قوله: (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) فبكى النجاشي «1» وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سورة يس، فبكرا. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا؟ قلت: بعداوة ومودّة، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات، وأدناها وجوداً، وأسهلها حصولا. ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب. فإن قلت: ما معنى قوله: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) «2» قلت: معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة
__________
(1) . لم أجده قلت أظن صاحب الكشاف ذكره بالمعنى من قصة جعفر بن أبى طالب مع عمرو بن العاص لما أرسلته قريش بهديتها إلى النجاشي ليدفع إليهم جعفراً ورفقاءه فان معنى ما ذكر موجوداً فيها إلا قراءة طه. أخرجه ابن إسحاق في المغازي. من طريق ابن حبان من حديث أم سلمة. وقوله: وكذلك فعل قومه أى النجاشي الذين وفدوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وهم سبعون رجلا حين قرأ النبي صلى اللَّه عليه وسلم سورة يس: الطبري من رواية قيس بن الربيع. عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا. قال نعم رسل النجاشي الذين أرسلت وإسلام قومهم وكانوا سبعين رجلا فدخلوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقرأ عليهم يس. فبكوا وعرفوا الحق. فنزلت ونزل فيهم أيضا (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن قيس. [.....]
(2) . عاد كلامه. قال: «إن قلت ما معنى قوله: (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... ) الخ» قال أحمد: وهذه العبارة من أبلغ العبارات، وأنهاها وهي ثلاث مراتب، فالأولى: فاض دمع عينه، وهذا هو الأصل. والثانية:
محولة من هذه. وهي قول القائل: فاضت عينه دمعا حولت الفعل إلى العين مجازا ومبالغة، ثم نبهت على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز. والثالثة: فيها هذا التحويل المذكور، وهي الواردة في الآية، إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح المنبهة على الأصل وعدم نصب التمييز، وإبرازه في صورة التعليل واللَّه أعلم. وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز لأن التمييز في مثله قد استقر كونه فاعلا في الأصل في مثل:
تصبب زيد عرقا، وتفقأ عمرو شحما، واشتعل الرأس شيبا، وتفجرت الأرض عيونا. فإذا قلت: فاضت عينه دمعا، فهم هذا الأصل في العادة في أمثاله. وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك. ألا تراك تقول: فاضت عينه من ذكر اللَّه كما تقول فاضت عينه من الدمع، فلا يفهم التعليل ما يفهم التمييز واللَّه الموفق.(1/669)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أى تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً فإن قلت: أى فرق بين من ومن في قوله مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ؟ قلت الأولى لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه. والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا. وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرئ (ترى أعينهم) على البناء للمفعول رَبَّنا آمَنَّا المراد به إنشاء الإيمان، والدخول فيه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام اللَّه عليهم بصحبة الصالحين: وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. أو أرادوا: وما لنا لا نؤمن باللَّه وحده لأنهم كانوا مثلثين، وذلك ليس بإيمان باللَّه: ومحل (لا نُؤْمِنُ) النصب على الحال، بمعنى: غير مؤمنين، كقولك مالك قائما. والواو في وَنَطْمَعُ واو الحال. فإن قلت: ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أى شيء حصل لنا غير مؤمنين: وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا ونطمع، لم يكن كلاما. ويجوز أن يكون (وَنَطْمَعُ) حالا من لا نؤمن، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون اللَّه، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفا على لا نؤمن على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. قرأ الحسن: فآتاهم اللَّه بِما قالُوا بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أى اعتقاده وما يذهب إليه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً(1/670)
منكم وتقشفاً «1» وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصف القيامة يوماً لأصحابه، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح «2» ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال لهم: إنى لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتى النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى «3» ونزلت. وروى أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ، وكان يعجبه الحلواء والعسل. وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة «4» » وعن ابن مسعود أن رجلا قال له: إنى حرمت الفراش فتلا هذه
__________
(1) . قوله «تقشفا» وفي الصحاح «قشف» بالكسر: قشفا، إذا لوحته الشمس أو الفقر فتغير. والمتقشف:
الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع. (ع)
(2) . قوله «ويلبسوا المسوح» المسوح: أكسية غلاظ تعمل منها الغرائر للتبن. أفاده الصحاح في مادة لبس
(3) . ذكره الواحدي هكذا في أسبابه بغير إسناد. لكن قال المفسرون- فذكره سواه، وقد أورده الطبري من طريق السدى في هذه الآية قال «وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جلس يوما. فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخويف فقام ناس من أصحابه فذكره بمعنى ما تقدم» وهو منتزع من أحاديث، وأصله في الصحيحين عن عائشة» أن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سألوا أزواجه عن عمله في السر. فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ولكنى أصوم وأفطر. وأنام وأقوم. وآكل اللحم وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس منى» وفي الصحيحين عن سعد بن أبى وقاص قال «رد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل. ولو أذن له لاختصينا» وفي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص في قصة مراجعته النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الصوم والصلاة فقال صلى اللَّه عليه وسلم «صم وأفطر، وقم ونم. فان لنفسك عليك حقا- الحديث» وروى الطبري من طريق ابن جريج عن مجاهد قال «أراد رجال، منهم عثمان بن مظعون وعبد اللَّه ابن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح» ومن طريق ابن جريج عن عكرمة «أن عثمان بن مظعون وعلى ابن أبى طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبى حذيفة، في جماعة من الصحابة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس. وهموا بالاختصاء. واجتمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) - الآية قال: فبعث اليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وصلوا وناموا. فليس منا من ترك سنتنا»
(4) . هذا منتزع من أحاديث. أما أكل الدجاج فمتفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في قصة له. وأما أكله الفالوذ فرواه الحاكم من حديث عبد اللَّه بن سلام قال «كنت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في أناس من أصحابه إذ أقبل عثمان بن مظعون ومعه راحلة عليها غرارتان فذكر الحديث- وفيه فطبخ الدقيق والسمن والعسل حتى نفح ثم أكل» وهو من رواية الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة مضعفا وأعله ابن الجوزي بضعف الوليد. وأما «كان يعجبه الحلوى والعسل» فمتفق عليه من حديث همام عن أبيه عن عائشة رضى اللَّه عنها. وأما الأخير فذكره الديلمي في الفردوس عن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه.(1/671)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
الآية وقال: ثم على فراشك وكفر عن يمينك. وعن الحسن أنه دعى إلى طعام ومعه فرقد السنجىّ وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فرقد، ترى لعاب النحل بلباب البرّ بخالص السمن يعيبه مسلم. وعنه أنه قيل له. فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدّى شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا:
نعم. قال: إنه جاهل، إن نعمة اللَّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. وعنه أن اللَّه تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم. قال اللَّه تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) ما عاب اللَّه قوما وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه (وَلا تَعْتَدُوا) ولا تتعدوا حدود ما أحل اللَّه لكم إلى ما حرّم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أى من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حَلالًا حال مما رزقكم اللَّه وَاتَّقُوا اللَّهَ تأكيد للتوصية بما أمر به. وزاده تأكيداً بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما نهى عنه.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم: واختلف فيه، فعن عائشة رضى اللَّه عنها أنها سئلت عنه فقالت: هو قول الرجل «لا واللَّه، بلى واللَّه» «1» وهو مذهب الشافعي. وعن مجاهد:
هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية. وروى أن الحسن رضى اللَّه عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال: يا أبا سعيد، دعني أجب عنك فقال:
__________
(1) . أخرجه البخاري ومالك من حديثها دون قوله «سئلت» ورواه أبو داود من طريق عطاء عنها مرفوعا وموقوفا. وصحح الدارقطني الموقوف(1/672)
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذٍ بِلَغوٍ تَقُولُهُ ... إذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ «1»
وقرئ: عقدتم، بالتخفيف. وعاقدتم. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة. لأنه كان معلوما عندهم، أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف فَكَفَّارَتُهُ فكفارة نكثه. والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أى تسترها مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر، وهو عند أبى حنيفة رحمه اللَّه نصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين، أو يغديهم ويعشيهم. وعند الشافعي رحمه اللَّه: مدّ لكل مسكين. وقرأ جعفر بن محمد: أهاليكم، بسكون الياء، والأهالى: اسم جمع لأهل: كاللئالي في جمع ليلة، والأراضى في جمع أرض. وقولهم «أهلون» كقولهم «أرضون» بسكون الراء. وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف، كما قالوا: رأيت معديكرب، تشبيها للياء بالألف أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) «2» وقرئ بضم الكاف، ونحوه:
قدوة في قدوة، وأسوة في إسوة، والكسوة ثوب يغطى العورة، وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه كانت العباءة تجزئ يومئذ. وعن ابن عمر: إزار أو قميص أو رداء أو كساء. وعن مجاهد: ثوب جامع. وعن الحسن: ثوبان أبيضان. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني: أو كأسوتهم، بمعنى: أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا. لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم، ولكن تواسون بينهم وبينهم. فإن قلت: ما محل الكاف؟ قلت: الرفع، تقديره: أو طعامهم كأسوتهم، بمعنى:
كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ شرط الشافعي رحمه اللَّه الإيمان قياسا على كفارة القتل. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكفارة في كل كفارة سوى كفارة القتل. فإن قلت: ما معنى أو؟ قلت: التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الإطلاق، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إحداها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات عند أبى حنيفة رحمه اللَّه، تمسكا بقراءة أبىّ وابن مسعود رضى اللَّه عنهما: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وعن مجاهد: كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان. ويخير في كفارة اليمين ذلِكَ المذكور «3» كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ولو قيل: تلك كفارة أيمانكم، لكان صحيحا بمعنى تلك الأشياء
__________
(1) . للفرزدق روى أن الحسن رضى اللَّه عنه سئل عن لغو اليمين، فقال الفرزدق: دعني أجب عنك يا أبا سعيد، وقال البيت، أى لست مؤاخذا باللغو أى الساقط من الكلام. وتعمد: أصله تتعمد، حذف منه إحدى التاءين.
وهذا في معنى الاستثناء المنقطع. وعاقدات العزائم: الجازمات. ونسبة الجزم إليها مجاز عقلى.
(2) . قوله «على محل من أوسط» قد يقال هذا إنما يناسب القراءة الآتية أو كأسوتهم ولكن عبارة النسفي عطف على إطعام أو على محل من أوسط. ووجهه أن (مِنْ أَوْسَطِ) بدل من (إِطْعامُ) والبدل هو المقصود في الكلام اه (ع)
(3) . قال محمود: «المشار إليه هو المذكور فيما تقدم ولو قيل ... الخ» قال أحمد: بل في هذه الآية وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث وهو المشهور من مذهب مالك، وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعا، حيث أضاف «إذا» إلى مجرد الحلف.
وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال: قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث، فتعين تقديره مضافا إلى الحلف، بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار، إذ لا يعطي قوله: (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) إيجابا، إنما يعطى صحة واعتبارا، واللَّه أعلم. وهذا انتصار على من منع التكفير قبل الحنث مطلقا، وإن كانت اليمين على بر والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنصور هو المشهور.(1/673)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
أو لتأنيث الكفارة. والمعنى إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبى حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فبروا فيها ولا تحنثوا «1» أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل: احفظوها بأن تكفروها. وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها، ولا تنسوها تهاونا بها كَذلِكَ مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شريعته وأحكامه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 91]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد «2» منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «شارب الخمر كعابد الوثن» «3» ومنها أنه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «واحفظوا أيمانكم، أى فبروا فيها ... الخ» قال أحمد: وفي هذا التأويل إشعار بأن الشاك في صورة اليمين بعد تحقق أصلها يشدد عليه ويؤاخذ بالأحوط، فأرشده اللَّه إلى حفظ اليمين لئلا يفضى أمره إلى أن يلزم في ظاهر الأمر على وجه الاحتياط ما لم يصدر منه في علم اللَّه تعالى، كالذي يحلف بالطلاق وينسى هل قيده بالثلاث مثلا أو أطلقه، فيلزمه الثلاث على المذهب المشهور. ويحتمل أن يكون في علم اللَّه تعالى أنه إنما حلف بالطلاق مطلقا، فأرشد إلى الحفظ لئلا يجره النسيان إلى هذا التشديد. والمراد بالأيمان كل ما ينطلق عليه يمين، سواء كان حلفا باللَّه أو بغيره مما يلزم في الشرع حكما واللَّه أعلم.
(2) . قال محمود: «أكد اللَّه تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها ... الخ» قال أحمد: ويجوز عود الضمير إلى الرجس الذي انطوى على سائر ما ذكر واللَّه أعلم.
(3) . أخرجه البزار من حديث مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو بهذا. رواه الحرث بن أسامة وأبو نعيم في الحلية من رواية الحسن عن عبد اللَّه بن عمرو به. وفيه الخليل بن زكريا وفي الذي قبله ثابت بن محمد وهو أصلح حالا من الخليل. ولابن ماجة من حديث أبى هريرة، بلفظ «مدمن خمر كعابد وثن» وإسناده جيد، قال: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا محمد بن سليمان الأصبهانى عن سهيل عن أبيه عنه به. ورواه ابن حبان من حديث ابن عباس بهذا اللفظ. وقال الشبه أن يكون فيمن استحلها. وفي مسند إسحاق ومن رواية عمر بن عبد العزيز عن بعض أصحابه، بلفظ «من شرب الخمر فمات مات كعابد وثن» وللطبراني في الأوسط من حديث أنس بلفظ «المقيم على الخمر كعابد وثن» وإسناده ضعيف(1/674)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
جعلهما رجسا، كما قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتى منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب «1» الخمر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر اللَّه، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون. أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) ؟ قلت: إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك. ولذلك قال: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فإن قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا ثم أفردهما آخراً «2» ؟ قلت: لأن الخطاب مع المؤمنين. وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، فوجب اجتنابه بأسره، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك باللَّه في علم الغيب، وبين من شرب خمراً أو قامر، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر. وقوله وَعَنِ الصَّلاةِ اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل: وعن الصلاة خصوصاً.
[سورة المائدة (5) : آية 92]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
__________
(1) . قوله «من أصحاب» لعله بين أصحاب. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب ... الخ» قال أحمد: ويرشد إلى أن المقصود الخمر والميسر خاصة، لأنهم إنما كانوا يتعاطونهما خاصة الآية الأخرى وهي قوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فخصهما بالذكر ولم يثبت النهى عنهما، فلذلك ورد أن قوما تركوها لما فيها من الإثم، وقوما بقوا على تعاطيها لما فيها من المنافع، ثم نزلت هذه الآية جازمة بالنهى، واللَّه أعلم. [.....](1/675)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
وَاحْذَرُوا وكونوا حذرين خاشين، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد: واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر، أو في ترك طاعة اللَّه والرسول فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأنّ الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
رفع الجناح عن المؤمنين في أى شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها إِذا مَا اتَّقَوْا ما حرم عليهم منها وَآمَنُوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثم ثبتوا على التقوى والإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم اللَّه من الطيبات. وقيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول اللَّه، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر «1» فنزلت. يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، على معنى: أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟
__________
(1) . أخرجه أحمد من رواية ابن وهب مولى أبى هريرة قال «حرمت الخمر ثلاث مرات قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر. فسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك. فأنزل اللَّه تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية فقال الناس: لم تحرم علينا، إنما قال: فيها إثم كبير فكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب، فخلط في قراءته. فأنزل اللَّه تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكانوا يشربونها حتى يأتى أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) - الآية فقالوا: انتهينا يا رب. وقال الناس: يا رسول اللَّه، ناس قتلوا في سبيل اللَّه أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله اللَّه رجسا من عمل الشيطان. فأنزل اللَّه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) - الآية فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم، إسناده ضعيف، فانه من رواية أبى معشر عن أبى وهب. وأبو معشر ضعيف. وروى الطبري من حديث على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الآية قالوا: يا رسول اللَّه: ما تقول في إخواننا الذين ماتوا كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر. فأنزل اللَّه الآية وفي المتفق عليه عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال «كنت ساقى القوم في منزل أبى طلحة- وكان خمرهم يومئذ الفضيخ فأمر مناديا فنادى: ألا إن الخمر قد حرمت- الحديث» قال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل اللَّه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ... ) الآية(1/676)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
فتقول- وقد علمت أن ذلك أمر مباح-: ليس على أحد جناح في المباح، إذا اتقى المحارم، وكان مؤمناً محسناً، تريد: أن زيداً تقىّ مؤمن محسن وأنه غير مؤاخذ بما فعل.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
نزلت عام الحديبية ابتلاهم اللَّه بالصيد وهم محرمون، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ
ليتميز من يخاف عقاب اللَّه وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقى الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه فَمَنِ اعْتَدى فصاد بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء فالوعيد لاحق به، فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير «1» في قوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) ؟ قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه. وقرأ إبراهيم:
يناله، بالياء.
[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت ما معنى التقليل والتصغير ... الخ» قال أحمد: وقد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر، لأنه صبر على عظيم. فقول الزمخشري إذاً «إنه قلل وصغر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام» مدفوع باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها.
والظاهر- واللَّه أعلم- أن المراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتصغير، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور اللَّه تعالى، وأنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول، وأنه مهما اندفع عنهم مما هو أعظم في المقدور، فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفا بهم ورحمة: ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال، والذي يرشد إلى أن هذا مراد أن سبق التوعد بذلك لم يكن إلا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه، فيكون أيضا باعثا على تحمله، لأن مفاجاة المكروه بغتة أصعب، والانذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه، وحاصل ذلك لطف في القضاء، فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر إلى ما لا يقف عند غاية، فنسأل اللَّه العفو والعافية واللطف في المقدور.(1/677)
حُرُمٌ محرمون، جمع حرام، كردح في جمع رداح. والتعمد: أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد، أو قصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيدا فهو مخطئ. فإن قلت: فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فيمن تعمد فقد روى أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد، والخطأ لاحق به للتغليظ. ويدل عليه قوله تعالى: (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطإ وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطإ شيأ أخذا باشتراط العمد في الآية. وعن الحسن روايتان فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ برفع جزاء ومثل جميعاً، بمعنى: فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد، وهو عند أبى حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدى، تخير بين أن يهدى من النعم ما قيمته قيمة الصيد، وبين أن يشترى بقيمته طعاماً، فيعطى كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به. وعند محمد والشافعي رحمهما اللَّه مثله نظيره من النعم، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبى حنيفة رحمه اللَّه. فإن قلت: فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله مِنَ النَّعَمِ وهو تفسير للمثل، وبقوله: هدياً بالغ الكعبة؟ قلت: قد خير من أوجب القيمة بين أن يشترى بها هدياً أو طعاماً أو يصوم، كما خير اللَّه تعالى في الآية، فكان قوله: (مِنَ النَّعَمِ) بياناً للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم. على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزى بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أىّ الثلاثة يختار، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير- فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذ، ثم يخير بين الإطعام والصوم- ففيه نبوّ عما في الآية. ألا ترى إلى قوله تعالى: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كيف خير بين الأشياء الثلاثة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم. وقرأ عبد اللَّه: فجزاؤه مثل ما قتل، وقرئ. فجزاء مثل ما قتل، على الإضافة، وأصله. فجزاء مثل ما قتل، بنصب مثل بمعنى: فعليه أن يجزى مثل ما قتل، ثم أضيف كما تقول:(1/678)
عجبت من ضرب زيد، وقرأ السلمىّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل، فجزاء مثل ما قتل، بنصبهما، بمعنى:
فليجز جزاء مثل ما قتل. وقرأ الحسن: من النعم، بسكون العين، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه يَحْكُمُ بِهِ بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حكمان عادلان من المسلمين. قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة. وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر، فشاور عبد الرحمن بن عوف، ثم أمره بذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: واللَّه ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال: أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم. قال اللَّه تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن «1» . وقرأ محمد بن جعفر ذو عدل منكم، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة.
وقيل أراد الإمام هَدْياً حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة، أو بدل عن مثل فيمن نصبه، أو عن محله فيمن جرّه. ويجوز أن ينتصب حالا عن الضمير في به. ووصف هدياً ب بالِغَ الْكَعْبَةِ لأن إضافته غير حقيقية. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبى حنيفة، وعند الشافعي في الحرم. فإن قلت: بم يرفع (كَفَّارَةٌ) من ينصب جزاء؟ قلت: يجعلها خبر مبتدإ محذوف، كأنه قيل: أو الواجب عليه كفارة.
أو يقدر: فعليه أن يجزى جزاء أو كفارة. فيعطفها على أن يجزى. وقرئ: أو كفارة طعام مساكين على الإضافة. وهذه الإضافة مبينة، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقولك: خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة. وقرأ الأعرج: أو كفارة طعام مساكين. وإنما وحد، لأنه واقع موقع التبيين، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس. وقرئ: أو عدل ذلك، بكسر العين. والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، كالصوم والإطعام. وعدله ما عدل به في المقدار، ومنه عدلا الحمل، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا، كأن المفتوح تسمية بالمصدر، والمكسور بمعنى المفعول به، كالذبح ونحوه، ونحوهما الحمل والحمل. وذلِكَ إشارة إلى الطعام صِياماً تمييز للعدل كقولك: لي مثله رجلا. والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبى حنيفة وأبى يوسف. وعند محمد إلى الحكمين لِيَذُوقَ متعلق بقوله: (فَجَزاءٌ) أى فعليه أن يجازى أو يكفر، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. والوبال: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، كقوله تعالى: (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) ثقيلا. والطعام الوبيل: الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتسألوه عن جوازه. وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد وهو محرم بعد
__________
(1) . رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك بن عمير فذكره. وفيه الزيادة التي في آخره.(1/679)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
نزول النهى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ينتقم: خبر مبتدإ محذوف تقديره فهو ينتقم اللَّه منه، ولذلك دخلت الفاء. ونحوه (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ) يعنى ينتقم منه في الآخرة. واختلف في وجوب الكفارة على العائد، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن: وجوبها، وعليه عامة العلماء. وعن ابن عباس وشريح: أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر، وأنه لم يذكر الكفارة
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
صَيْدُ الْبَحْرِ مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وَطَعامُهُ وما يطعم من صيده والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر «1» ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة. وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه مَتاعاً لَكُمْ مفعول له، أى أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) في باب الحال، لأن قوله (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختص بالطعام، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب، يعنى أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم «2» يأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام. وقرئ: وطعمه. وصيد البر: ما صيد فيه، وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات، كطير الماء عند أبى حنيفة. واختلف فيه «3» فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد، وهو قول عمرو ابن عباس، وعن أبى هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير: أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله، إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رحمه اللَّه، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه: لا يباح له ما صيد لأجله. فإن قلت: ما يصنع
__________
(1) . قوله «بجميع ما يصاد في البحر» لعله من. (ع)
(2) . قوله «تمتيعا لتنائكم يأكلونه» أى للمتوطنين منكم. يقال: تنأ بالبلد توطئه، فهو تانئ، وهم تناه.
أفاده الصحاح، وسيأتى للمفسر في قوله تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أن الأناس اسم جمع غير تكسير، نحو رحال وتناء وتؤام. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة. (ع)
(3) . قال محمود «اختلف في المراد بالتحريم ... الخ» قال أحمد: وتخصيص عموم الآية لازم على كلتا الطائفتين لأن مالكا رضى اللَّه عنه يجيز أكل المحرم لصيد البر، إذا صاده حلال لنفسه، أو لحلال، فلا بد إذا على مذهبه من تخصيص العموم المخصوص، غاية ذلك أن صورة التخصيص على مذهب أبى حنيفة، تكون أكثر منها على مذهب مالك، لأنه يجيز أكل ما صاده الحلال من أجل المحرم كما نقل عنه، فيزيد على مذهب مالك بهذه الصورة، واللَّه أعلم.(1/680)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه اللَّه بالمفهوم من قوله: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنه: وحرّم عليكم صيد البرّ، أى اللَّه عزّ وجلّ. وقرئ (ما دُمْتُمْ) بكسر الدال، فيمن يقول دام يدام.
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشاً لهم «1» في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم. وعن عطاء ابن أبى رباح: لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا وَالشَّهْرَ الْحَرامَ الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه اللَّه تعالى. وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ والمقلد منه خصوصاً
__________
(1) . قال محمود: «معنى قياما للناس: انتعاشا لهم في أمر دينهم ودنياهم ... الخ» قال أحمد: وفي هذه الآية ما يبعد تأويلين من التأويلات الثلاثة المذكورة في قوله أول هذه السورة (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) فان حمل القلائد ثم على ظاهرها، وتأويل صرف الإحلال إلى مواقعها من المقلد- كقوله: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) يريد مواقع الزينة، والنهي عن إحلال القلائد يشبهه، كأنه قال: لا تحلوا قلائدها فضلا عنها- متعذر في هذه الآية، لأنها وردت في سياق الامتنان بما جعله اللَّه قياما للناس من هذه الأمور المعدودة، وقد خص المنة بالبدن في قوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ... ) الآية ولا يليق بسياق الامتنان الخروج من الأعلى إلى الأدنى، حتى يقع الامتنان بالمقلد ثم بالقلائد، بل ذلك لائق في سياق النهى أن يخرج من النهى عن الأعلى إلى التشديد بالنهى عن الأدنى. وأما التأويل الآخر- وهو بقاء القلائد على حقيقتها وصرف الإحلال المنهي عنه إليها حقيقة، أى لا تتعرضوا للقلائد ولا تنتفعوا بها، كما قال عليه الصلاة والسلام «ألق قلائدها في دمها وخل بين الناس وبينها» - فمتعذر أيضا بما بعد به الذي قبله. وأما التأويل الثالث- وهو حملها على ذوات القلائد- فلائق بالاثنين فيتعين المصير إليه. ومن ثم لم يذكر الزمخشري في هذه الآية سواء. ووجه صلاحيته وظهوره فيهما: أن الغرض في سياق النهى إفراده بالذكر وتخصيصه بالنهى، بعد أن اندرج مع غيره في النهى، فكأنه نهى عنه لخصوصيته مرتين. والغرض في سياق الامتنان أيضا ذلك، وهو تكرير المنة به مندرجا في العموم ومخصوصا بالذكر. وأيضا فيليق في الامتنان الترقي من الأدنى إلى الأعلى، بخلاف النهى. واللَّه أعلم.(1/681)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
وهو البدن، لأن الثواب فيه أكثر، وبهاء الحج معه أظهر ذلِكَ إشارة إلى جعل الكعبة قياماً للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به وكلفكم شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها.
[سورة المائدة (5) : آية 99]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط.
[سورة المائدة (5) : آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند اللَّه تعالى «1» وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم فَاتَّقُوا اللَّهَ وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة «2» إذا افتخروا بالكثرة كما قيل:
__________
(1) . قال محمود: «البون بين الخبيث والطيب بعيد عند اللَّه ... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه: وقد ثبت شرعا أن أكثر أهل الجنة من هذه الأمة. وقد اعترف للقدرية أنهم قليل فيها، وشذوذ بالنسبة إنى من عداهم من الطوائف والأمر بهذه المثابة، وهم أيضا يعتقدون أنهم الفرقة الناجية الموعودون بالجنة لا غيرهم، إذ كل من عداهم- على طمعهم الفاسد- مخلد في النار مع الكفار، فعلى هذا تكون هذه الطائفة الشاذة القليلة أكثر أهل الجنة، وحاشا للَّه أن يستمر ذلك على عقل عاقل محصل، مطلع على ما ورد في السنن من الآثار المكافحة لهذا الظن الفاسد بالرد والتكذيب.
ومن هم المعتزلة حتى يترامى طمعهم على هذا الحد؟ وهذا الاستنباط الذي استنبطه الزمخشري من أن المراد بالطيب هذا النفر المعتزلي. من قبيل القول بأن المراد في قوله تعالى: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أهل الحديث وأصحاب الرأى، يعنى الحقيقة. وقد أغلظ في تفسير هذه الآية على من قال ذلك وعده من البدع، وما هو قد ابتدع قريبا منه في حمله الطيب في هذه الآية على الفريق المعتزلي، بل واللَّه شراً من تلك المقالة، لأنه حمل الخبيث على من عداهم من الطوائف السنية، نعوذ باللَّه من ذلك، ونبرأ من تجريه على السلف والخلف.
(2) . قوله «أن تكفح بها وجوه المجبرة» يعنى أهل السنة. وهذا غلو من العلامة في التعصب للمعتزلة، وما كان ينبغي أن يكون منه، لعدم الداعي إليه هنا. (ع)(1/682)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ ... و، لَا تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاء وَلَا نَصْرَا «1»
وكما قيل:
لَا يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ... فَإنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ «2»
وقيل: نزلت في حجاج اليمامة، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعنى قوله إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ صفة للأشياء. والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال:
يا رسول اللَّه، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللَّه لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «3» (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) وإن تسألوا عن هذه
__________
(1) . «سعد» اسم قبيلة. والمعنى: أنه لا نفع فيهم إلا تكثير سواد الجيش، فلا يفون بما وعدوا من النصر، ولا ينصرون بلا وعد. ويمكن أن المراد الوفاء بحق الشجاعة. فالنصر تفسير. وفي تكرير الاسم. نوع تهكم.
(2) .
لم يبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فان جلهم بل كلهم بقر
لأبى تمام. يقال: دهمه الأمر، إذا غشيه فحيره وسد عليه باب الرأى. والدهماء: الجماعة الكثيرة المتكاثفة، وأصله من الدهمة وهي الظلمة والسواد. يقول: لم يبق من معظم هذا الجمع من الناس بقية يدركها الوهم بعد التأمل، إلا هذه الصور والأجسام المشاهدة، مجردة على العقول، فلا تفزع من كثرة عدد جماعتهم، فان معظمهم كالبقر، بل جميعهم كذلك، فلا تدبير عندهم لأمر الحرب.
(3) . هذا السياق لم أجده لا عن سراقة ولا عن عكاشة. فأما سراقة فروى مسلم من حديث جابر الطويل في صفة الحج «فقال سراقة بن مالك: بن جعشم يا رسول اللَّه، لعامنا هذا. أم للأبد؟ قلت: وهو عند البخاري ايضا من وجه آخر عن جابر، وللنسائى وابن ماجة من حديث سراقة بن مالك نفسه أنه قال للنبي صلى اللَّه عليه وسلم «يا رسول اللَّه، عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ فقال: لا، بل للأبد. دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأما عكاشة بن محصن فرواه الطبري وابن مردويه من طريق محمد بن زياد: سمعت أبا هريرة رضى اللَّه عنه يقول «خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج، فقال عكاشة بن محصن الأسدى: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فقال: أما أنا لو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت ثم تركتم لضللتم. اسكتوا عنى ما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فأنزل اللَّه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) الآية وهو أقرب إلى سياق المصنف، دون ما في آخره مما ذكره المصنف فهو في الحديث الآتي. وأخرج الطبري من طريق أبى إسحاق الهجري عن ابن عباس عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إن اللَّه كتب عليكم الحج فقال رجل: كل عام يا رسول اللَّه؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا. فقال: من السائل؟
فقيل فلان. فقال: والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموه. ولو تركتموه لكفرتم. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) وأخرج أيضا من طريق معاوية بن يحيى عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبى أمامة أنه سمعه يقول «قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الناس وقال: كتب عليكم الحج فقام رجل من الأعراب- فذكر الحديث، وفيه فقال: ويحك ماذا يؤمنك أن أقول نعم، واللَّه لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم. وأما بقيته ففيما أخرجه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبى هريرة «خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: أيها الناس فرض اللَّه عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أفي كل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها ثالثا. فقال لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وقد سأل عن الحج الأقرع بن حابس فعند بعض السنن من حديث ابن عباس «أن الأقرع بن حابس سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: مرة واحدة. فما زاد فهو تطوع» وأخرجه الطبري من هذا الوجه. فسمى الرجل محصنا الأسدى، وعند غيره عكاشة بن محصن.(1/683)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
التكاليف الصعبة في زمان الوحى وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه، تبد لكم.
تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرّضون أنفسكم لغضب اللَّه بالتفريط فيها عَفَا اللَّهُ عَنْها. عفا اللَّه عما سلف. من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت: كيف قال: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ثم قال: قَدْ سَأَلَها ولم يقل. قد سأل عنها؟ قلت: الضمير في: (سَأَلَها) ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) يعنى قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أى بمرجوعها أو بسببها كافِرِينَ وذلك أنّ بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
[سورة المائدة (5) : آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أى شقوها(1/684)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وحرّموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيى لم يركبها، واسمها البحيرة.
وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضى فناقتى سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبداً قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. ومعنى ما جَعَلَ ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فلا ينسبون التحريم إلى اللَّه حتى يفتروا، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم.
[سورة المائدة (5) : آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
الواو في قوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره:
أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ والمعنى أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه، وعن ابن مسعود: أنها قرئت عنده فقال: إن هذا ليس بزمانها «1» إنها اليوم مقبولة. ولكن يوشك أن يأتى زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم،
__________
(1) . قوله «ليس بزمانها إنها» لعل هذا الضمير للنصيحة المفهومة من السياق. (ع)(1/685)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه، وبسط لعذره. وعنه: ليس هذا زمان تأويلها. قيل: فمتى؟ قال: إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن. وعن أبى ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرا. سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنها فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك نفسك ودع أمر العوام. وإنّ من ورائكم أياما الصبر فيهنّ كقبض على الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله «1» . وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، ولاموه، فنزلت (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) عليكم: من أسماء الفعل، بمعنى: الزموا إصلاح أنفسكم، ولذلك جزم جوابه. وعن نافع: عليكم أنفسكم، بالرفع. وقرئ (لا يَضُرُّكُمْ) وفيه وجهان «2» أن يكون خبراً مرفوعا وتنصره قراءة أبى حيوة، لا يضيركم. وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً. وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. والأصل: لا يضروكم. ويجوز أن يكون نهيا، ولا يضركم، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره.
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
__________
(1) . أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من رواية عبد اللَّه بن المبارك عن عتبة بن أبى حكيم عن عمرو بن حارثة اللخمي عن أبى أمية الصنعاني قال «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت:
قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية قال: أما واللَّه لقد سألت عنها خبيراً سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر- وذكره: وقال فيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام- وقال في آخره: مثل عملكم» قال ابن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول اللَّه أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: لا، بل منكم» وأخرجه ابن حبان والحاكم وإسحاق وأبو يعلى والطبراني. [.....]
(2) . قوله «لا يضركم، وفيه وجهان» يعنى بالرفع، وهو يفيد أن القراءة الأصلية بالنصب. (ع)(1/686)
ارتفع اثنان على أنه خبر للمبتدإ الذي هو شَهادَةُ بَيْنِكُمْ على تقدير: شهادة بينكم شهادة اثنين. أو على أنه فاعل شهادة بينكم على معنى: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان: وقرأ الشعبي.
شهادة بينكم بالتنوين. وقرأ الحسن: شهادة، بالنصب والتنوين على: ليقم شهادة اثنان. وإِذا حَضَرَ ظرف للشهادة. وحِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه، إبداله منه دليل على وجوب الوصية، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها. وحضور الموت: مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل مِنْكُمْ من أقاربكم. ومِنْ غَيْرِكُمْ من الأجانب إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح «1» وهم له أنصح. وقيل مِنْكُمْ من المسلمين، ومِنْ غَيْرِكُمْ من أهل الذمة. وقيل: هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر. وعن مكحول: نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وروى أنه خرج بديل بن أبى مريم مولى عمرو بن العاصي وكان من المهاجرين، مع عدى بن زيد وتميم بن أوس- وكانا نصرانيين- تجاراً إلى الشام، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه، وأمرهما أن يدفعاً متاعه إلى أهله، ومات ففتشا متاعه، فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذهب، فغيباه، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء، فجحدا فرفعوهما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «2» ، فنزلت تَحْبِسُونَهُما تقفونهما وتصبرونهما للحلف «3» مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وعن الحسن: بعد صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وفي حديث بديل: أنها لما نزلت صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
__________
(1) . قوله «وبما هو أصلح» لعله «وبما هو له أصلح» . (ع)
(2) . أخرجه الترمذي من رواية ابن إسحاق عن أبى النضر وهو محمد بن السائب الكلبي عن بادار، يعنى أبا صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري رضى اللَّه عنهم. فذكره وقال: ليس إسناده بصحيح وأخرجه البخاري وأبو داود مختصراً
(3) . قوله «وتصبرونهما للحلف» أى تحبسونهما. أفاده الصحاح. (ع)(1/687)
صلاة العصر ودعا بعدىّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر، فحلفا، ثم وجد الإناء بمكة، فقالوا:
إنا اشتريناه من تميم وعدى. وقيل: هي صلاة أهل الذمّة، وهم يعظمون صلاة العصر إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما. وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما «1» والضمير في مُصِيبَةُ للقسم. وفي كانَ للمقسم له يعنى: لا نستبدل بصحة القسم باللَّه عرضاً من الدنيا، أى لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريباً منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) . شَهادَةَ اللَّهِ أى الشهادة التي أمر اللَّه بحفظها وتعظيمها. وعن الشعبي أنه وقف على شهادة، ثم ابتدأ اللَّه بالمدّ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: اللَّه لقد كان كذا.
وقرئ: لملاثمين بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها، كقوله: عاد لولى: فإن قلت: ما موقع تحبسونهما؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما، فقيل: تحبسونهما فإن قلت: كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت: لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، أغنى ذلك عن التقييد، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه: إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز أن تكون اللام للجنس، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) . فَإِنْ عُثِرَ فإن اطلع عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أى فعلا مّا أوجب إثما، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين فَآخَرانِ فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أى من الذين استحق عليهم الإثم. معناه من الذين جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي قصة بديل: أنه لما ظهرت خيانة الرجلين، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما، وأنّ شهادتهما أحق من شهادتهما. والْأَوْلَيانِ الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. وارتفاعهما على: هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل: الأوليان. وقيل: هما بدل من الضمير في يقومان، أو من آخران.
__________
(1) . فأما تحليف الشاهد. فلم أره. وأما تحليف الراوي فرواه أصحاب السنن الثلاثة: البزار وابن حبان من رواية اسماء بن الحكم الفزاري عن على رضى اللَّه عنه قال «إذا سمعت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حديثا نفعني اللَّه منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته قال: وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- الحديث» قال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث موقوفا» أى المتن دون القصة. وقال البزار: أسماء هذا مجهول.(1/688)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
ويجوز أن يرتفعا باستحق، أى من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال. وقرئ الأوّلين على أنه وصف للذين استحق عليهم، مجرور، أو منصوب على المدح. ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها. وقرئ: الأولين، «1» على التثنية، وانتصابه على المدح. وقرأ الحسن: الأولان، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعى. وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك، فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة، لإنكارهم الشراء. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ استحق عليهم الأوليان على البناء للفاعل، وهم على وأبىّ وابن عباس؟ قلت: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة، أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين ذلِكَ الذي تقدم من بيان الحكم أَدْنى أن يأتى الشهداء على نحو تلك الحادثة بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أن تكرّ «2» أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم «فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل وَاسْمَعُوا سمع إجابة وقبول.
[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 110]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
يَوْمَ يَجْمَعُ بدل من المنصوب «3» في قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) وهو من بدل الاشتمال، كأنه
__________
(1) . قوله «وقرئ الأوليين» لعله «الأولين» فليحرر. (ع)
(2) . قوله «أن تكر أيمان شهود» في الصحاح «الكر» الرجوع. يقال: كره، وكر بنفسه يتعدى ولا يتعدى. (ع)
(3) . قال محمود: «يوم يجمع بدل من المنصوب ... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه إذاً انتصاب المفعول به لا الظرف على حكم المبدل منه.(1/689)
قيل: واتقوا اللَّه يوم جمعه. أو ظرف لقوله: (لا يَهْدِي) «1» أى لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم. أو ينصب على إضمار اذكر. أو يوم يجمع اللَّه الرسل كان كيت وكيت.
وماذا منتصب بأجبتم «2» انتصاب مصدره، على معنى: أى إجابة أجبتم. ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد. فإن قلت: كيف يقولون لا عِلْمَ لَنا وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم «3» وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهاراً للتشكى واللجإ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ اللَّه وتشكى أنبيائه عليهم. ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بى تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، واظهاراً للشكاية، وتعظيما لما حل به منه. وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون «4» عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم. وقيل: معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به، لأنك علام الغيوب. ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك. وقيل: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة. وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين. وقرئ (علام الغيوب) بالنصب «5» على أنّ الكلام قد تم بقوله إِنَّكَ أَنْتَ أى إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص، أو على النداء، أو هو صفة لاسم أنّ إِذْ قالَ اللَّهُ بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) والمعنى: أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «أو ظرف لقوله لا يهدى القوم الفاسقين ... الخ» قال أحمد: وهو على هذا أيضا مفعول به.
(2) . عاد كلامه. قال: «وماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أى إجابة ... الخ» قال أحمد:
والتعظيم في هذا نحو التعظيم بالسكوت عن الصلة في مثل: ما حصل إلا بعد التي واللتيا.
(3) . قوله «بما منوا به منهم» أى ابتلوا. وفي الصحاح «منيته» و «منوته» إذا ابتليته. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: «وقيل من الهول والفزع يذهلون عن الجواب ... الخ» قال أحمد: وأيضا فالمسئول عنه إجابتهم عند دعائهم إياهم إلى اللَّه، لا ما حدث بعد ذلك مما لا يتعلق به علم الرسل، واللَّه أعلم.
(5) . عاد كلامه. قال: «وقرئ علام الغيوب بالنصب ... الخ» قال أحمد: ويكون هذا من باب
أنا أبو النجم وشعري وشعري
وقد مر قبل بآيات. وإنما ذكرت هذه الثلاثة من الاعراب لالتباسها إلا على الحذاق وقليل ما هم.(1/690)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام، فكذبوهم وسموهم سحرة. أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة، كما قال بعض بنى إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من البينات والمعجزات (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) واتخذه بعضهم وأمه إلهين أَيَّدْتُكَ قويتك. وقرئ أيدتك، على أفعلتك بِرُوحِ الْقُدُسِ بالكلام الذي يحيا به الدين، وأضافه إلى القدس، لأنه سبب الطهر من أو ضار الآثام. والدليل عليه قوله تعالى تُكَلِّمُ النَّاسَ وفِي الْمَهْدِ في موضع الحال، لأنّ المعنى تكلمهم طفلا وَكَهْلًا إلا أن في المهد فيه دليل على حدّ من الطفولة. وقيل روح القدس:
جبريل عليه السلام، أيد به لتثبيت الحجة. فإن قلت: ما معنى قوله: (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) ؟ قلت:
معناه تكلمهم في هاتين الحالتين، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ خصا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة. وقيل (الْكِتابَ) الخط. و (الْحِكْمَةَ) الكلام المحكم الصواب كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ هيئة مثل هيئة الطير بِإِذْنِي بتسهيلى فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا من نفخه في شيء. وكذلك الضمير في فتكون تُخْرِجُ الْمَوْتى تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعنى اليهود حين هموا بقتله. وقيل:
لما قال اللَّه تعالى لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول: مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.
[سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 115]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)(1/691)
أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أمرتهم على ألسنة الرسل مُسْلِمُونَ مخلصون، من أسلم وجهه للَّه عِيسَى في محل النصب على إتباع حركة الابن، كقولك: يا زيد بن عمرو، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك: يا زيد بن عمرو. والدليل عليه قوله:
أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّى خَمِرْ ... وَيَبْدُو عَلّ الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ «1»
لأنّ الترخيم لا يكون إلا في المضموم. فإن قلت: كيف قالوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بعد إيمانهم وإخلاصهم «2» ؟ قلت: ما وصفهم اللَّه بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه
__________
(1) .
أحار بن عمرو كأنى خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
ولا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعى القوم أنى أفر
لامرئ القيس بن حجر. وقيل لربيعة بن جشم اليمنى. والهمزة للنداء. و «حار» مرخم، أصله حارث ضم على لغة من لا ينتظر المحذوف. واللغة المشهورة معاملته معاملة التام، كما أن المشهور أيضا فتح العلم المنادى الموصوف بابن مضاف إلى علم آخر اتباعا لنصب ابن. ويجوز ضمه كما هنا، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم لأن المفتوح اتباعا كالمركب مع ما بعده. والترخيم لا يأتى في الوسط، ولأنه لو كان مفتوحا وضم في الترخيم لكان فيه إخلال بالفتحة المجتلبة للتناسب. والخمر- كحذر-: الذي خالطه داء فغطى عقله. والخمر- كسبب-: كل ما سبّر من بناء أو شجر. ثم تذكر السبب في ذلك وهو مطاوعته ما لا تنبغي مطاوعته فقال ويعدو على الإنسان ائتماره، أى امتثاله لأمر غيره. ويجوز أن «ما» موصولة، أى الذي يمتثله من أمر من لا يعرف عواقب الأمور، أو من أمر نفسه وهواه، وشبه ذلك بمن يصح منه العدوان، على طريق الكناية. ويروى «ويبدو على المرء» أى يشرف عليه ويظهر له عاقبة امتثاله لما لا ينبغي امتثاله. وكثير ينشد فاصلتى هذا البيت بالتنوين الغالي، لكن أنكره الزجاج والسيرافي، لأنه يكسر الوزن. وجعله ابن يعيش من تنوين الترنم، بناء على أنه لجلب الترنم لا لقطعه، فلا يختص بالقوافى، المطلقة، بل يدخل المقيدة كما هنا. والمشهور تحريك ما قبله بالكسر. واختار ابن الحاجب الفتح. وجوز بعضهم تحريكه بما كان يستحقه لولا السكون. وبعض أجاز اجتماع الساكنين. ودخول «لا» النافية قبل القسم سائغ شائع في لسان العرب، لأنه غالبا يكون لرد دعوى الخصم ونفيها. فالتقدير: ولا يحصل ذلك وحق أبيك، ولو كانت زائدة محضا لكانت الواو في التقدير داخلة على واو القسم. وروى بحذف الواو الأولى: أى وحق أبيك يا ابنة العامري لا أفر من الحرب أصلا، فلا يدعيه أحد على. فنفى الادعاء كناية عن نفى الفرار على أبلغ وجه. [.....]
(2) . قال محمود: فان قلت كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم- في قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) - قال: قلت ما وصفهم بالايمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ... الخ» قال أحمد: وقيل إن معنى (هَلْ يَسْتَطِيعُ) هل يفعل، كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم: مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن، فعلى هذا يكون إيمانهم سالما عن قدح الشك في القدرة، فان استقام التعبير عن الفعل بالاستطاعة فذاك- واللَّه أعلم- من باب التعبير عن المسبب بالسبب، إذ الاستطاعة من جملة أسباب الإيجاد وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل، تسمية بالسبب الذي هو الارادة، باسم المسبب الذي هو الفعل، في مثل قوله: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) وقد مضى أول السورة. وفي هذا التأويل الحسن تعضيد لتأويل أبى حنيفة، حيث جعل الطول المانع من نكاح الأمة وجود الحرة في العصمة. وعدمه أن لا يملكك عصمة الحرة وإن كان قادراً على ذلك، فتباح له حينئذ الأمة. وحمل قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) على معنى: ومن لم يملك منكم، وحمل النكاح على الوطء، فجعل استطاعة الملك المنفية هي الملك كما ترى، حتى أن القادر غير المالك عادم الطول عنده فينكح الأمة. وقد مضى ذكر مذهبه، وكنت أستبعد إنهاضه لأن يكون تأويلا يحتمله اللفظ ويساعده الاستعمال، حتى وقفت على تفسير الحسن هذا واللَّه أعلم.(1/692)
قوله: (إِذْ قالَ) فإذن إنّ دعواهم كانت باطلة، وإنهم كانوا شاكين، وقوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه: اتقوا اللَّه ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة. وقرئ:
هل تستطيع ربك، أى هل تستطيع سؤال ربك، والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله. والمائدة: الخوان «1» إذا كان عليه الطعام، وهي من «مادّه» إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل، أو نكون من الشاهدين للَّه بالوحدانية ولك بالنبوّة، عاكفين عليها، على أن عليها في موضع الحال، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الايمان والإخلاص. وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا. وقرئ: ويعلم، بالياء على البناء للمفعول. وتعلم. وتكون، بالتاء. والضمير للقلوب اللَّهُمَّ أصله يا اللَّه، فحذف حرف النداء، وعوضت منه الميم. ورَبَّنا نداء ثان تَكُونُ لَنا عِيداً أى يكون يوم نزولها عيدا. قيل: هو يوم الأحد. ومن ثم اتخذه النصارى عيداً، وقيل: العيد السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيد، فكأنّ معناه: تكون لنا سروراً وفرحا. وقرأ عبد اللَّه: تكن، على جواب الأمر. ونظيرهما، يرثني، ويرثني لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لنا بتكرير العامل، أى لمن في زماننا من أهل ديننا، ولمن يأتى بعدنا. وقيل: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم: ويجوز المقدّمين منا والأتباع. وفي قراءة زيد: لأولانا وأخرانا، والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة عَذاباً بمعنى تعذيباً. والضمير في: (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر. ولو أريد بالعذاب ما يعذب به، لم يكن بدّ من الباء. وروى أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا، ثم قال: اللهم أنزل علينا، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم اللَّه عليها ويأكل منها. فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم اللَّه خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما. وعند
__________
(1) . قوله «والمائدة الخوان» في الصحاح «الخوان» بالكسر: الذي يؤكل عليه، معرب. وقوله «من مادة» الذي في الصحاح «ماد الشيء» تحرك. و «مادت الأغصان» تمايلت اه. (ع)(1/693)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح اللَّه، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما، ولكنه شيء اخترعه اللَّه بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم اللَّه ويزدكم من فضله: فقال الحواريون: يا روح اللَّه، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال يا سمكة احيى بإذن اللَّه، فاضطربت. ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية. ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وروى أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) قالوا لا نريد فلم تنزل. وعن الحسن: واللَّه ما نزلت، ولو نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة، لقوله: (وَآخِرِنا) . والصحيح أنها نزلت.
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
سُبْحانَكَ من أن يكون لك شريك ما يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أَنْ أَقُولَ قولا لا يحق لي أن أقوله فِي نَفْسِي في قلبي: والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل فِي نَفْسِكَ لقوله في نفسي إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير للجملتين معاً، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد.
[سورة المائدة (5) : الآيات 117 الى 118]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
«أن» في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ «1» إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر. والمفسر إما
__________
(1) . قال محمود: «أن في قوله: (أَنِ اعْبُدُوا) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ... الخ» قال أحمد: وقد أجاز بعضهم وقوع «أن» المفسرة بعد لفظ القول، ولم يقتصر بها على ما في معناه، فيجوز على هذا القول وقوعها تفسيراً لفعل القول. وقد أبى الزمخشري في مفصله وقوعها إلا بعد فعل في معنى القول كمذهبه هاهنا.(1/694)
فعل القول وإما فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير، لا تقول: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا اللَّه. ولكن:
ما قلت لهم إلا اعبدوا اللَّه. وأما فعل الأمر، فمسند إلى ضمير اللَّه عز وجل. فلو فسرته باعبدوا اللَّه ربى وربكم لم يستقم لأن اللَّه تعالى لا يقول: اعبدوا اللَّه ربى وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل «1» لم تخل من أن تكون بدلا من ما أمرتنى به، أو من الهاء «2» في به، وكلاهما غير مستقيم لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه. ولا يقال: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا اللَّه، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال. وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء «3» لأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) مقام الهاء، فقلت: إلا ما أمرتنى بأن اعبدوا اللَّه، لم يصح، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإن قلت: فكيف يصنع؟ «4» قلت يحمل فعل
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير اللَّه عز وجل ... الخ» قال أحمد: ويجوز أيضا هذا الوجه على صرف التفسير إلى المعنى، كأنه حكى معنى قول اللَّه عز وجل له بعبارة أخرى، وكأن اللَّه تعالى قال له:
مرهم بعبادتي، أو قال لهم على لسان عيسى: اعبدوا اللَّه رب عيسى وربكم، فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعبدوا اللَّه ربى وربكم، فكنى عن اسمه الظاهر بضميره، كما قال اللَّه تعالى حكاية عن موسى (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فانظر كيف جاء أول الكلام حكاية لقول موسى، وموسى لا يقول: فأخرجنا، ولكن فأخرج اللَّه، فلما حكاه اللَّه تعالى عن موسى رد الكلام إليه تعالى، وأضاف الإخراج إلى ذاته على طريقة المتكلم لا الحاكي، وكذلك قوله تعالى: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إلى قوله: (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ونظائره كثيرة. وقد قدمت نحواً من هذا البحث عند قوله تعالى حكاية عن اليهود (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) لما استبعد الزمخشري أن تصفه اليهود بهذه الصفات المنافية لاعتقادهم فيه.
(2) . عاد كلامه. قال: «وإن جعلت أن موصولة مع فعل الأمر ... الخ» قال أحمد: أى فلا يقدر بالعبادة ولكن بالأمر بها، كأنه قيل: ما قلت لهم إلا الأمر بالعبادة للَّه، والأمر مقول لقلت، على أن جعل العبادة مقولة ليس ببعيد، على طريقة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أى للوطء الذي قالوا قولا يتعلق به. وكقوله تعالى: (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) وسيأتى له تصحيح هذا الاستعمال لوروده كثيراً في القرآن الكريم.
(3) . عاد كلامه. قال: «وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا غير مانع من البدل، وإنما يواجه المصنف بما لا يسعه إنكاره، فقد قال في مفصله ما هذا نصه: وقولهم: إن البدل في حكم تنحية الأول، إيذان منهم باستقلاله بنفسه ومفارقته للتأكيد والصفة في كونهما اسمين لما يتبعانه، لا أن يعنوا إهدار الأول وإطراحه. ألا تراك تقول: زيداً رأيت غلامه رجلا صالحا، فلو ذهبت إلى إهدار الأول لم يسند كلامك. فانظر كيف يرد كلامه في المفصل وهو الحق ما ارتكبه من رد البدل في هذه الآية، للزوم طرح الأول فتخلو الصلة من الضمير: ولم يجعل هذا القدر مانعا في المثال المذكور. مع أنك لو طرحت الأول لخلا الخبر من الضمير العائد ولم يسند الكلام. فهذه وجوه أربعة منعها في إعراب «أن» وكلها مسندة حسبما بينا. وهذه المساجلة في هذا الاعراب من الغرر والحجول في صناعة الاعراب وعلم البيان. وفرسان هذا المضمار قليل.
(4) . عاد كلامه. قال: فان قلت كيف يصنع؟ قلت: يحمل فعل ... الخ» قال أحمد: هذا التأويل لتوقع أن المفسرة بعد فعل في معنى القول، وليس قولا صريحا. وحمل القول على الأمر مما يصحح المذهب الآخر في إجازة وقوعها بعد القول، فانه لولا ما بين القول والأمر من التفاوت المعنوي، لما جاز إطلاق إحداهما وإرادة الأخرى.
والعجب أن الأمر قسم من أقسام القول، وما بينهما إلا عموم وخصوص. وليس في هذا التأويل الذي سلكه إلا كلفة لا طائل وراءها. ولو كانت العرب تأبى وقوع المفسرة بعد القول. لما أوقعتها بعد فعل ليس بقول. ثم عبرت عن ذلك الفعل بالقول لأن ذلك كالعود إلى ما وقع الفرار منه وهم بعداء من ذلك.(1/695)
القول على معناه لأن معنى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) . ما أمرتهم إلا بما أمرتنى به، حتى يستقيم تفسيره يأن اعبدوا اللَّه ربى وربكم. ويجوز أن تكون «أن» موصولة «1» عطف بيان للهاء لا بدلا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيباً كالشاهد على المشهود عليه، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة، وأنزلت عليهم من البينات، وأرسلت إليهم من الرسل إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القوى القادر على الثواب والعقاب الْحَكِيمُ الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) «2» ؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء
__________
(1) . عاد كلامه. قال: ويجوز أن تكون أن موصولة ... الخ» قال أحمد: يريد بجعله عطف بيان أن يسلم من تقدير إطراح الأول في البدل وخلو الصلة حينئذ من العائد. وقد بينا أن ذلك غير لازم في البدل. والعجب أنه أيضا في مفصله لم يفصل بين عطف البيان والبدل، إلا في مثل قول المرار:
أنا ابن التارك البكري بشر
لأنه لو جعله بدلا للزم تكرير العامل، وإضافة اسم الفاعل العرف بالألف واللام إلى العلم ولم يفصل بينهما في غير هذا المثال ومن حيث المعنى أن المعتمد في عطف البيان الأول. وأما الثاني فللتوضيح. والمعتمد في البدل الثاني.
وأما الأول فبساط لذكره، لا على أنه مطرح مهدر.
(2) . قال محمود «إن قلت المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال وإن تغفر لهم ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: تذبذب الزمخشري في هذا الموضع فلا إلى أهل السنة ولا إلى القدرية. أما أهل السنة، فالمغفرة للكافر جائزة عندهم في حكم اللَّه تعالى عقلا، بل عقاب المتقى المخلص كذلك غير ممتنع عقلا من اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فهذا الكلام خرج على الجواز العقلي، وإن كان السمع ورد بتعذيب الكفار وعدم الغفران لهم، إلا أن ورود السمع بذلك لا يرفع الجواز العقلي. وأما القدرية فيزعمون أن المغفرة للكافر ممتنعة عقلا، لا تجوز على اللَّه تعالى لمناقضتها الحكمة، فمن ثم كفحتهم هذه الآية بالرد، إذ لو كان الأمر كزعمهم لما دخلت كلمة «إن» المستعملة عند الشك في وقوع الفعل بعدها لغة في فعل لا شك في عدم وقوعه عقلا، ولكان ذلك من باب التعليق بالمحال، كأن يبيض القار وأشباهه. وليس هذا مكان. فقول الزمخشري إذاً (إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لم يعدم وجها من الحكمة في المغفرة لأن العفو عن المجرم حسن عقلا لا يأتلف بقواعد السنة، إذ لا يلتفت عندهم إلى التحسين العقلي، ولا يأتلف أيضا بنزغات القدرية، لأنهم يجزمون بأنه لا وجه من الحكمة في المغفرة للكافر، ويقطعون بمنافاتها الحكمة، فكيف يخاطب اللَّه تعالى به، فعلم أن عيسى عليه السلام يبرأ إلى اللَّه من هذا الإطلاق ومما اشتمل عليه من سوء الأدب، فان قول القائل لمن يخاطبه: ما فعل كذا فلن يعدم فيه عذراً ووجهاً من المصلحة كلام مبذول وعبارة نازلة عن أوفى مراتب الأدب، إنما يطلقها المتكلم لمن هو دونه عادة، فنسأل اللَّه إلهام الأدب وتجنب ما في إساءته من مزلات العطب.(1/696)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول. بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن.
[سورة المائدة (5) : آية 119]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قرئ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ بالرفع والإضافة. وبالنصب إما على أنه ظرف لقال. وإما على أنّ (هذا) مبتدأ، والظرف خبر. ومعناه، هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع. ولا يجوز أن يكون فتحا، كقوله تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) لأنه مضاف إلى متمكن، وقرأ الأعمش: يوم ينفع، بالتنوين، كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) فإن قلت: ما معنى قوله يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ؟ إن أريد صدقهم «1» في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم. وعن قتادة:
متكلمان تكلما يوم القيامة. أمّا إبليس فقال: إنّ اللَّه وعدكم وعد الحق، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا، فلم ينفعه صدقه. وأما عيسى عليه السلام فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه.
[سورة المائدة (5) : آية 120]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
فإن قلت: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء، فقيل: ومن فيهنّ؟
قلت: «ما» يتناول الأجناس كلها تناولا عاما. ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيد: ما هو؟
قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره، فكان أولى بإرادة العموم.
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودى ونصراني يتنفس في الدنيا» «2»
__________
(1) . قال محمود «إن قلت ما معناه، إن أريد صدقهم في الآخرة ... الخ» قال أحمد: ولو أجاب بحمل الصادقين على الدنيا وصدقهم على الآخرة حتى يكون التقدير: هذا يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة، لكان أوضح طباقا لتفسير قتادة، وأخرج لإبليس وأشباهه من هذا العموم فان إبليس وإن صدق في الآخرة، إلا أنه لم يكن من الصادقين في الدنيا، فلم ينفعه صدقه في الآخرة، والوجهان متقاربان.
(2) . تقدم إسناده إلى أبى بن كعب في تفسير آل عمران.(1/697)
تم بعون اللَّه تعالى الجزء الأول ويليه- إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثاني وأوله: سورة الأنعام(1/698)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الجزء الثاني
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
مكية [إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153 فمدنية] وعن ابن عباس: غير ست آيات، وآياتها 165 [نزلت بعد الحجر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
جَعَلَ يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير، كقوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير «1» وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. فإن قلت: لم أفرد النور «2» ؟ قلت: للقصد إلى الجنس،
__________
(1) . قال محمود: «الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير ... الخ» قال أحمد: وقد وردت «جعل» و «خلق» موردا واحدا فورد وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وورد وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وذلك ظاهر في الترادف، إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن «جعل» لم يصحب السموات والأرض، وإنما لزمتها «خلق» وفي إضافة الخلق في هذه الآية إلى السموات والأرض، والجعل إلى الظلمات والنور مصداق للمميز بينهما، واللَّه أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: فإن قلت: لم أفرد النور؟ قلت: للقصد ... الخ» قال أحمد: وقد سبق للزمخشري الاستدلال يجمع الجنس على التكثير، واعتقاد أنه أدل على الكثرة من الافراد. وقد قدمنا ما في ذلك من النظر، وأسلفنا الاستدلال بقول حبر الأمة: كتابه أكثر من كتبه، على خلاف ذلك» وهو رأى الامام أبى المعالي.
ولو قال الزمخشري. إن جمع الظلمات لاختلافها بحسب اختلاف ما ينشأ عنه من أجناس الأجرام، وإفراد النور لاتحاد الجنس الذي ينشأ عنه وهو النار لكان أولى، والله أعلم.(2/3)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
كقوله تعالى وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أو لأن الظلمات كثيرة، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت: علام عطف قوله ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «1» ؟ قلت: إما على قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته وإما على قوله خَلَقَ السَّماواتِ على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
ثُمَّ قَضى أَجَلًا أجل الموت وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل:
ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأوّل النوم.
والثاني: الموت. فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره «2» فلم جاز تقديمه
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت علام عطف ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ... الخ» ؟ قال أحمد: وفي هذا الوجه الثاني نظر من حيث أن عطفه على الصلة يوجب دخوله في حكمها. ولو قال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي، الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ لم يسند، لخلو الجملة من العائد. ويمكن أن يقال: وضع الظاهر الذي هو بِرَبِّهِمْ موضع المضمر تفخيما وتعظيما. وأصل الكلام: الذي يعدل به الذين كفروا، أو الذي الذين كفروا يعدلون به، باتساع وقوعها صلة، رعاية لهذا الأصل، فهذا نظر من حيث الاعراب. ونظيره قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ فيمن جعل «ما» موصولة لا شرطية، فان دخول جاءكم وما بعده في حكم الصلة يستدعى ضميراً عائداً إلى الموصول، وهو مفقود لفظاً، لأن الظاهر وضع فيه موضع المضمر. والأصل:
ثم جاءكم رسول مصدق له، فاستقام عطفه ودخوله في حكم الصلة بهذه الطريقة، لكن بقي في آية الأنعام هذه نظر في المعنى على الاعراب المذكور، وهو أنه يصير التقدير: الحمد لله الذي، الذين كفروا يعدلون، ووقوع هذا عقيب الحمد غير مناسب كما ترى. فالوجه- والله أعلم- عطفه على أول الكلام، لا على الصلة، والله الموفق. [.....]
(2) . قال محمود: «إن قلت المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب ... الخ» قال أحمد: وليس في إرادة هذا المعنى موجب للتقديم. وقد ورد وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ في سياق التعظيم لها، وهو مع ذلك مؤخر عن الخبر في قبله وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالظاهر- والله أعلم- أن التقديم إنما كان لأن الكلام منقول من كلام آخر، وكان الأصل- والله أعلم- ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، إذ كلاهما مقضي. فلما عدل بالكلام عن العطف الافرادى تمييزا بين الأجلين رفع الثاني بالابتداء وأقر بمكانه من التقديم والله أعلم.(2/4)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
في قوله وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولى عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأى أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.
[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
فِي السَّماواتِ متعلق بمعنى اسم الله، «1» ، كأنه قيل وهو المعبود فيما. ومنه قوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالالهية فيها، أو هو الذي «2» يقال له- الله- فيها لا يشرك به في هذا الاسم. ويجوز أن يكون اللَّهُ فِي السَّماواتِ خبراً بعد خبر، على معنى: أنه الله- وأنه في السموات والأرض، بمعنى: أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما. فإن قلت: كيف موقع قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو- الله- وحده، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
مِنْ في مِنْ آيَةٍ للاستغراق. وفي مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ للتبعيض. يعنى: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب فَقَدْ كَذَّبُوا مردود على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها
__________
(1) . قال محمود: «في السموات متعلق بمعنى اسم الله ... الخ» قال أحمد: وما الآيتان الكريمتان إلا توأمتان، فان التمدح في آية الزخرف وقع بما وقع التمدح به هاهنا، من القدرة على الاعادة والاستنثار بعلم الساعة والتوحد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السموات والأرض.
(2) . عاد كلامه. قال: أو هو المعروف بالألوهية أو هو الذي يقال له- الله- فيهما ... الخ» قال أحمد: وهذه الوجوه كلها كأن التعبير وقع فيها بالملزوم عن لوازمه المشهورة به، كما وقع ذلك في قوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري
أى المعروف المشهور، لأنه بنى على أنه متى ذكر شعره فهم السامع عند ذكره خواصه من الجودة والبلاغة وسلامة النسج، لاشتهاره بذلك، فاقتصر على قوله «شعري» اتكالا على فهم السامع.(2/5)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
وهو الحق لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن الذي تحدّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ الشيء الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى:
سيعلمون بأى شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرّض له. ومنه قوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة، لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار: المغزار. فإن قلت: أى فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ في ورق فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا «1» سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتا وعناداً
__________
(1) . قال محمود: «ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا ... الخ» قال أحمد: والظاهر أن فائدة زيادة لمسهم له بأيديهم تحقيق القراءة على قرب، أى فقرءوه وهو في أيديهم لا بعيدا عنهم لما آمنوا، وإلا فالحظ لا يدرك باللمس حتى يجعل فائدة زيادته إدراكه بوجهين، كما يفهم من كلام الزمخشري.(2/6)
للحق بعد ظهوره لَقُضِيَ الْأَمْرُ لقضى أمر إهلاكهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين «1» . إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته «2» وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة. وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة «3» فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى ثُمَّ بعد ما بين الأمرين: «4» قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية «5» لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ
__________
(1) . قال محمود: «يعنى لا ينظرون بعد نزوله طرفة عين ... الخ» قال أحمد: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلاك وضوح الآية في نزول الملك، فانه ربما يفهم هذا الكلام أن الآيات التي لزمهم الايمان بها دون نزول الملك في الوضوح، وليس الأمر كذلك. فالوجه- والله أعلم- أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك، وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا مالا يتوقف وجوب الايمان عليه، إذ الذي يتوقف الوجوب عليه، المعجز من حيث كونه معجزاً، لا المعجز الخاص. فإذا أجيبوا على وقف مقترحهم فلم ينجع فيهم، كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، والله أعلم.
(2) . متفق عليه من روآية مسروق عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته مرتين.
وفي روآية لها: رأى جبريل له ستمائة جناح.
(3) . عاد كلامه. قال: «وإما لأنه يزول الاختيار الذي قاعدة التكليف مبنية عليه عند نزول الملك فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا الملك في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون» قال أحمد: ويقوى هذا الوجه قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا. قال ابن عباس: ليتمكنوا من رؤيته ولا يهلكوا من مشاهدة صورته.
(4) . عاد كلامه. قال: «ومعنى- ثم- بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر ... الخ» قال أحمد: وهذه النكتة من محاسن، تنبيهاته.
(5) . متفق عليه من روآية أبى عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال «نبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث، ثم قام فقال نبى الله لأم سلمة: من هذا؟ فقالت: دحية الكلبي ... الحديث» وللحاكم من روآية مسروق عن عائشة قالت: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى في حجري رجلا شبهته بدحية الكلبي. فقال لي: هذا جبريل، وهو يقرئك السلام» وللطبراني من روآية قتادة عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يأتينى جبريل على صورة دحية الكلبي» قال أنس «وكان دحية رجلا جسيما جميلا أبيض» وفي إسناده عفير بن سعدان وهو ضعيف ولأبى نعيم في الدلائل من روآية صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رأيت جبرئيل في خلقه الذي خلق عليه، وكنت أراه قبل ذلك في صور مختلفة وأكثر ما كنت أراه في صورة دحية الكلبي» رجاله ثقات، إلا أنه مرسل وروى ابن سعد من طريق يحيى بن يعمر عن ابن عمر «كان جبريل يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي» .(2/7)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون. إذا رأوا الملك في صورة إنسان: هذا إنسان وليس بملك، فإن قال لهم: الدليل على أنى ملك أنى جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطق بأنى ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو ليس الله عليهم. ويجوز أن يراد: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة: وقرأ ابن محيصن: ولبسنا عليهم، بلام واحدة. وقرأ الزهري: وللبسنا عليهم ما يلبسون، بالتشديد.
[سورة الأنعام (6) : آية 10]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه فَحاقَ بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به
[سورة الأنعام (6) : آية 11]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
فإن قلت: أى فرق بين قوله فَانْظُروا وبين قوله ثُمَّ انْظُرُوا «1» قلت: جعل النظر «2» مسبباً عن السير في قوله فَانْظُروا فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح.
[سورة الأنعام (6) : آية 12]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سؤال تبكيت، وقُلْ لِلَّهِ تقرير لهم، أى هو- الله- لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت أى فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا ... الخ» قال أحمد: وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر بالسير في المكانين واحداً، ليكون ذلك سبباً في النظر، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية، وحيث دخلت «ثم» فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير، وأن السير وسيلة إليه لا غير. وشتان بين المقصود والوسيلة والله أعلم.
(2) . قوله «النظر» لعله «بالنظر» . (ع)(2/8)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فيجازيكم على إشراككم. وقوله الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ نصب على الذم، أو رفع: أى أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت:
معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.
[سورة الأنعام (6) : آية 13]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
وَلَهُ عطف على الله ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى وتعديه بفي كما في قوله وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
أوَلى غَيْرَ اللَّهِ همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو أَتَّخِذُ لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم. ونحوه أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ. وقرئ فاطِرِ السَّماواتِ بالجرّ صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري: فطر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها «1» أى ابتدعتها وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وهو يرزق ولا يرزق، كقوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ: ولا يطعم، بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: وهو يطعم ولا يطعم، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير لغير الله.
وقرأ الأشهب. وهو يطعم ولا يطعم، على بنائهما للفاعل. وفسر بأن معناه: وهو يطعم، ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى استطعمت. ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون
__________
(1) . أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث، وفي فضائل القرآن بإسناد حسن، ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر وسيأتى في تفسير فاطر.(2/9)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك: وهو يعطى ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغنى ويفقر أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ وكقول موسى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وَلا تَكُونَنَّ وقيل لي لا تكونن مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومعناه: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. ومَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ الله الرحمة العظمى وهي النجاة، «1» كقولك: إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد: فقد أتممت الإحسان إليه أو، فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب. وقرئ: من يصرف عنه، على البناء للفاعل، والمعنى: من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى: من يدفع الله عنه.
ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوما أو مذكورا قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب يومئذ بيصرف انتصاب المفعول به، أى من يصرف الله عنه ذلك اليوم: أى هو له، فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى الله عنه: من يصرف الله عنه،
[سورة الأنعام (6) : آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه، فلا قادر على كشفه إلا هو وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادراً على ادامته أو إزالته.
[سورة الأنعام (6) : آية 18]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ الشيء
__________
(1) . قال محمود: «المراد الرحمة العظمى وهي النجاة من النار ... الخ» قال أحمد: وإنما يلجئ إلى تخصيص الرحمة، إما بكونها العظمى، وإما برحمة الثواب أنه لو بقيت على إطلاقها، لما زاد الجزاء على الشرط إذ من المعلوم ضرورة أن صرف العذاب رحمة ما. والعجب أن الزمخشري يصحح تخصيصها برحمة الثواب بأن صرف العذاب يستلزم الثواب ولا بد، وغيره يصحح هذا التخصيص بأنه لا يلزم من صرف العذاب حصول الثواب، لجواز أن يصرف عنه العذاب ولا يثاب، فأفاد الجزاء إذاً فائدة لم تفهم من الشرط. هكذا صححه القونوى. ولعمري إن قاعدة المعتزلة تلجئ إلى ما ذهب إليه الزمخشري، لانقسام المكلفين عندهم إلى مستوجب للجنة فالثواب قطعا، وإلى مستوجب للنار فالعذاب قطعا، ويسندون ذلك إلى العقل لا إلى السمع.(2/10)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
أعم العام «1» لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم. ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ: شيء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح: جسم لا كالأجسام
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
وأراد: أى شهيد أَكْبَرُ شَهادَةً فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله قُلِ اللَّهُ بمعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أى هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أى: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ تقرير لهم مع إنكار واستبعاد قُلْ لا أَشْهَدُ شهادتكم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم ونعوتهم لا يخفون
__________
(1) . قال محمود: «الشيء أعم العام، لوقوعه على كل ما يصح ... الخ» قال أحمد وتفسيره الشيء يخالف الفريقين الأشعرية، فإنهم فسروه بالموجود ليس إلا، والمعتزلة فإنهم قالوا: والمعلوم الذي يصح وجوده، فاتفقوا على خروج المستحيل. وعلى الجملة فهذه المسألة معدودة من علم الكلام باعتبار ما. وأما هذا البحث فلغوى والتحاكم فيه لأهل اللغة، وظاهر قولهم غضبت من لا شيء، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلا- أن الشيء لا ينطلق إلا على الموجود إذ لو كان الشيء كل ما يصح أن يعلم عدما كان أو وجوداً أو ممكنا أو مستحيلا، لما صدق على أمر ما أنه ليس بشيء والأمر في ذلك قريب. [.....](2/11)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته. ثم قال الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به، جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا. وقالوا: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وقالوا: الملائكة بنات الله وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ناصبه محذوف تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أى آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله.
وقوله: الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ معناه تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. وقرئ: يحشرهم ثم يقول، بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ، ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة. فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم فِتْنَتُهُمْ كفرهم. والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم «1» - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب. وقرئ: تكن، بالتاء وفتنتهم، بالنصب. وإنما أنث أَنْ قالُوا لوقوع الخبر مؤنثاً، كقولك: من كانت أمّك؟
وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وبالياء والتاء مع رفع الفتنة. وقرئ: ربنا، بالنصب على النداء
__________
(1) . قال محمود: «فتنتهم كفرهم، والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم ... الخ» قال أحمد: وفي الآية دليل بين على أن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب، وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره. ألا تراه جعل إخبارهم وتبريهم كذبا مع أنه تعالى أخبر أنهم ضل عنهم ما كانوا يفترون، أى سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة، فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم.(2/12)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أى يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت:
كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً: ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول:
معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحملُ قوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عىّ وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته- يعنى الكعبة- ما أدرى ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان:
إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل: كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله «1» واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله
__________
(1) . قال محمود: «الأكنة على القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهذه الآية حسبنا في رد معتقد القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى أراد من هؤلاء المستمعين أن يعوا القرآن ويفقهوه، وأنه لم يمنعهم من ذلك، ومحال على زعمهم أن يمنعهم من ذلك ويريد أن لا يفقهوه، لأن ذلك عندهم قبيح. فانظر كيف تكافحهم هذه الآية بالرد وتنادى عليهم بالخطإ، إذ قوله أَنْ يَفْقَهُوهُ معناه كراهة أن يفقهوه، وبين الارادة على زعمهم، والكراهة على ما أنبأت عنه الآية. بون بعيد، والله الموفق.(2/13)
وَجَعَلْنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وقرأ طلحة: وقرا بكسر الواو حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ويُجادِلُونَكَ موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: يقول الذين كفروا. تفسير له. والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب وَهُمْ يَنْهَوْنَ الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم فيضلون ويضلون وَإِنْ يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به.
وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً. فقال: «1»
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا
وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ ... لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا «2»
فنزلت.
__________
(1) . أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتيبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا قالت لأبى طالب هذه المقالة فذكر القصة» قال ابن إسحاق: ثم قال: فذكر هذا الشعر.
(2) . لأبى طالب، لما اجتمع عنده قريش وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. «فاصدع» أى اجهر بأمرك حتى تؤثر في القلوب، كصدع الزجاج، أى شقه وكسره. وغض منه يغض- بالضم- غضاضة: وضع ونقص من قدره. وغضغضت الماء وتغضغض هو: نقصته وانتقص. أى ما عليك مذلة ومنقصة من أمرك. وبشر يبشر- بالضم- سر وفرح. وأبشر إبشارا: سر واستبشر. وبشرته وأبشرته أفرحته. أى: افرح وانسر بذلك.
وقرت عينه. بردت سرورا، أى افرح بذلك وانسر. فهو توكيد لأبشر، إلا أنه بطريق الكناية المفيدة للمبالغة.
وعيونا تمييز محول عن الفاعل، أى لتقر عيونك. والمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو المبالغة، أو عيونه هو أو عيونه هو والمؤمنين. ويروى «منه» أى من ذلك الأمر. و «لن» حرف لتوكيد النفي كما تشهد به مواضع الاستعمال.
ونفى الوصول: كناية عن نفى المضرة على وجه أبلغ. والباء للملابسة. و «حتى أوسد» غاية مفيدة للتوكيد والتأييد والتوسيد: كناية عن الموت، فيجعل له وسادة تحت رأسه في رمسه. و «دفينا» أى مدفونا حال. ومجيء المضارع المنفي بلن جوابا للقسم لا يجوز إلا في الضرورة كما هنا. وزعمت: أى قلت عند من لا يصدقك، ولقد صدقت في دعواك أنك ناصح للناس، و «كنت ثم» أى عند قولك «أمينا» فيما ادعيت وعرضت علينا دينا صادقا أنه من خير أديان البرية دينا، أى من جهة الديانة، أو من جهة الجزاء. وقيل: قد يراد من التمييز مجرد التوكيد وهذا منه لا محالة في ذلك، فقوله «لا محالة» جملة اعتراضية للتوكيد. والحذار: مصدر بمعنى الحذر من مسبتهم لي. ويروى أو حذارى سبة. والسب أبلغ من اللوم «لوجدتني» يا محمد راضياً بذاك الدين، مظهراً له. وسمح سماحة فهو سمح، كضخم ضخامة فهو ضخم: إذا جاد ولم يبخل.(2/14)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
وَلَوْ تَرى جوابه محذوف تقديره. ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أروها حتى يعاينوها. أو اطلعوا عليها اطلاعا هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك: وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته، وقرئ: وقفوا، على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تم تمنيهم. ثم ابتدءوا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم:
دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني. ويجوز أن يكون معطوفا على نردّ، أو حالا على معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني.
فإن قلت: يدفع ذلك قوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنّ المتمنى لا يكون كاذبا. قلت: هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالا فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالا كافأتك على الإحسان. وقرئ: ولا نكذب ونكون، بالنصب بإضمار أن على جواب التمني «1» ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل: هو
__________
(1) . قال محمود: «وقرئ ولا نكذب ونكون بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ... الخ» قال أحمد:
وكثيراً ما تتناوب صيغة التمني والخبر. ألا ترى: إلى قوله تعالى وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ في قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إلى قوله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وهذه المعاهدة إنما كانت تمنيا بصيغة الخبر، والله أعلم. وأبين من ذلك قوله تعالى في آية أخرى وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فهذا هو التمني بعينه، ولكن بصيغة الوعد والخبر الصريحة، والله الموفق.(2/15)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل: هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.
[سورة الأنعام (6) : آية 29]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
وَقالُوا عطف على لعادوا. أى ولو ردّوا لكفروا ولقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: وإنهم لكاذبون، على معنى:
وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. وكفى به دليلا على كذبهم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 31]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل عرفوه حق التعريف قالَ مردود على قول قائل قال: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه فقيل: قال أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ وهذا تعيين من الله تعالى لهم على التكذيب. وقولهم- لما كانوا يسماعون من حديث البعث والجزاء-: ما هو بحق وما هو إلا باطل بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر. وحَتَّى غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. أى ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة. فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدّماتها، جعل من جنس الساعة وسمى باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته «1» » . أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة بَغْتَةً فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر
__________
(1) . أخرجه أبو شجاع الديلمي في الفردوس عن أنس بلفظ «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» للطبري من حديث زياد من علاقة عن المغيرة بن شعبة قال «يقولون القيامة القيامة، وإنما قيامة الرجل موته» ومن رواية سفيان عن أبى قيس قال «شهدت جنازة فيها علقمة. فما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته.(2/16)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة فَرَّطْنا فِيها الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو للساعة على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان. ومنه فرّطت في جنب الله يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ كقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما ألف الكسب بالأيدى ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ.
[سورة الأنعام (6) : آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: ولدار الآخرة. وقرئ: تعقلون بالتاء والياء.
[سورة الأنعام (6) : آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قَدْ في قَدْ نَعْلَمُ بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته «1» ، كقوله:
أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ «2»
__________
(1) . قال محمود: «قد في قد نعلم بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته كقوله: ولكنه قد يهلك المال نائله» قال أحمد: ومثلها في قوله وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فانه يكثر علمهم برسالته ويؤكده بظهور آياته، حتى يقيم عليهم الحجة في جمعهم بين متناقضين: أذيته، ورسوخ علمهم برسالته، والله أعلم. ومنه أيضا قوله:
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه، تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد. وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.
(2) .
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لانكار ضيم أو لخصم يحاوله
لزهير بن أبى سلمي يمدح حصن بن أبى حذيفة. والثقة من وثق، كالعدة من وعد. وإن كان الفعل الأول مكسورا والثاني مفتوحا، فأصلها «وثق» حذفت الواو وخلفتا التاء، والمراد بها ما يتوثق به، أو المصدر هو التوثق، أى هو ملازم لما يتوثق به من مكارم الأخلاف، لا ينفك عنه كأنه أخوه أو ملازم للتوثق به. وإسناد الإهلاك إلى الخمر مجاز عقلى، لأنه سببه، وكذلك إسناده إلى النائل، أى العطاء. و «قد» هنا للتكثير، وإلا لم يكن مدحا، (2- كشاف- 2) تراه متهللا مستبشر الوجه إذا جئته سائلا، فكأنك تعطيه المال الذي أنت طالبه منه. وبالغ في وصفه بالكرم حتى أنه يجود بروحه إن لم يملك غيرها، وبنى على ذلك أمر سائله بالتقوى من الله، لئلا يأخذ روحه فيميته.
فسائله الأول مضاف لمفعوله الثاني. والثاني مضاف للأول. وقوله «فمن» استفهام إنكارى، أى ما مثله أحد في الحروب، وما مثله أحد معد لانكار الظلم وإبائه والمحاولة والمعالجة والطلب. وضمير يحاوله للضيم، أو لحصن، أو لمن. ويروى الشعر برواية أخرى، على أنه وصف لمعن بن زائدة وهي:
يقولون معن لا زكاة لماله ... وكيف يزكى المال من هو باذله
إذا حال حول لم تجد في دياره ... من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت نائله
تعود بسط الكف حتى لو انه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله
فلو لم يكن......... ... ......... البيت
ورفع جمائله، ذهابا إلى المعنى، لأن المعنى لم يبق إلا جمائله ونائله: آخذه منه. وبسط الكف: كناية عن كثرة الكرم. وأنامله: أجزاء أصابعه.(2/17)
والهاء في إِنَّهُ ضمير الشأن لَيَحْزُنُكَ قرئ بفتح الياء وضمها. والَّذِي يَقُولُونَ هو قولهم ساحر كذاب لا يُكَذِّبُونَكَ قرئ بالتشديد والتخفيف، من كذبه إذا جعله كاذبا في زعمه «1» وأكذبه إذا وجده كاذبا. والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه- إذا أهانه بعض الناس-: إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى. وفي هذه الطريقة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وقيل: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل: فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين «2» فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروى أنّ الأخنس بن شريق قال لأبى جهل: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقرئ يكذبونك بالتشديد والتخفيف من كذبه إلى قوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ ... الخ» قال أحمد: وفي هذا النوع من إقامة الظاهر مقام المضمر فنان من نكت البيان، إحداهما: الإسهاب في ذمهم وهذه النكتة يستقل بها الظاهر من حيث كونه ظاهرا، حتى لو كان لقبا جامدا، والأخرى زيادة منه تؤكد ذمهم، تفهم من اشتقاق الظاهر.
(2) . لم أجده عنه وفي الطبقات من حديث يعلى بن أمية قال «بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين» ورواه أيضا من حديث على ابن أبى طالب نحوه.(2/18)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصىّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة، فماذا يكون لسائر قريش، فنزلت، وقوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم «1» وهذا دليل على أن قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانونى عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا على تكذيبهم وإيذائهم وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 35 الى 36]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ منها بِآيَةٍ فافعل. يعنى أنك لا تستطيع ذلك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم. وقيل: كانوا يقترحون الآيات فكان يورّ أن يجابوا
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «وقوله ولقد كذبت رسل من قبلك تسلية ... الخ» قال أحمد: ولا دلالة فيه لأنه مؤتلف مع نفى التكذيب أيضا، وموقعه حينئذ من الفضيلة أبين، أى هؤلاء لم يكذبوك فحقك أن تصبر عليهم ولا يحزنك أمرهم، وإذا كان من قبلك من الأنبياء قد كذبهم قومهم فصبروا عليهم، فأنت إذ لم يكذبوك أجدر بالصبره فقد ائتلف كما ترى بالتفسيرين جميعا، ولكنه من غير الوجه الذي استدل به فيه تقريب لما اختاره: وذلك أن مثل هذه التسلية قد وردت مصرحا بها في نحو قوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فسلاه عن تكذيبهم له بتكذيب غيرهم من الأمم لأنبيائهم وما هو إلا تفسير حسن مطابق للواقع مؤيد بالنظائر، والله أعلم.(2/19)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
إليها لتمادى حرصه على إيمانهم. فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون. ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات، كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقى إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها.
وحذف جواب «أن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه «1» إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسماعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان. وأنت لا تقدر على ذلك. وقيل معناه: وهؤلاء الموتى- يعنى الكفرة- يبعثهم الله. ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسماعون. وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم «2» وقرئ: يرجعون، بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6) : آية 37]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ نزل بمعنى أنزل. وقرئ أن ينزل بالتشديد والتخفيف. وذكر الفعل والفاعل مؤنث، لأن تأنيث آية غير حقيقى، وحسن للفصل. وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً
تضطرهم إلى الإيمان.
كنتق الجبل على بنى إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
__________
(1) . قال محمود: «بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه» قال أحمد: وهذه الآية أيضا كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن. ألا ترى أن الجملة مصدرة بلو، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، فامتناع اجتماعهم على الهدى إذاً إنما كان لامتناع المشيئة، فمن ثم ترى الزمخشري يحمل المشيئة على قهرهم على الهدى بآية ملجئة لا يكون الايمان معها اختيارا، حتى يتم له أن هذا الوجه من المشيئة لم يقع، وإن مشيئة اجتماعهم على الهدى على اختيار منهم ثابتة غير ممتنعة ولكن لم يقع متعلقها، وهذه من خباياه ومكامنه فاحذرها، والله الموفق.
(2) . قوله «إلى استماعهم» لعله: إسماعهم. (ع)(2/20)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
أنّ الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفا من الحكمة يصرفه عن إنزالها.
[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم ما فَرَّطْنا ما تركنا وما أغفلنا فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روى أنه يأخذ للجماء من القرناء. فإن قلت: كيف قيل: إِلَّا أُمَمٌ مع إفراد الدابة والطائر؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ دالا على معنى الاستغراق ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله إِلَّا أُمَمٌ على المعنى، فإن قلت، هلا قيل: وما من دابة ولا طائر «1» إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله فِي الْأَرْضِ ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبى عبلة: ولا طائر، بالرفع على المحل، كأنه قيل:
وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة: ما فرطنا، بالتخفيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
فإن قلت: كيف أتبعه قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادى على عظمته قال: والمكذبون صُمٌّ لا يسماعون كلام المنبه
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت هلا قبل: وما من دابة ولا طائر ... الخ» قال أحمد: ولم يبين وجه زيادتها للتعميم.
ولقائل أن يقول: يلزم من العموم في أجناس الطير دخول كل طائر في الجو في العموم وإن لم يذكر في الجو، وكذلك يلزم من عموم الدواب في سائر أصنافها أن يندرج في ذلك كل دابة في الأرضين وإن لم يذكر في الأرض، فلا بد من بيان وجه الزيادة فنقول: موقع قوله فِي الْأَرْضِ ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ موقع الوصف العام، وصفة العام عامة ضرورة المطابقة، فكأنه مع زيادة الصفة تظافرت صفتان عامتان، والله أعلم. [.....](2/21)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
بُكْمٌ لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع «1» مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أى يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، «2» لأنه ليس من أهل اللطف وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى يلطف به لأنّ اللطف يجدى عليه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
أَرَأَيْتَكُمْ أخبرونى. والضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه؟ وهو خلف من القول ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: إن أتاكم عذاب انّه «3» أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ من تدعون. ثم بكتهم بقوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون الله دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أى ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ وتتركون آلهتكم، «4» أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأنّ أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ «5» كأنه قيل:
__________
(1) . قوله «إيذانا بأنهم من أهل الطبع» أى الختم على القلوب. وقوله «أى يخذله ... الخ» فسر الإضلال بذلك، لأنه تعالى لا يخلق الشر عند المعتزلة، أما عند أهل السنة فيخلق الشر كالخير، فالاضلال على ظاهره عندهم بمعنى خلق الضلال في القلب. (ع)
(2) . قال محمود: «معنى يضلله يخذله ولم يلطف به ... الخ» قال أحمد: وهذا من تحريفاته للهداية والضلالة اتباعا لمعتقده الفاسد في أن الله تعالى لا يخلق الهدى ولا الضلال، وأنهما من جملة مخلوقات العباد. وكم تخرق عليه هذه العقيدة فيروم أن يرقعها، وقد اتسع الخرق على الراقع، والله الموفق.
(3) . قال محمود: «متعلق الاستخبار محذوف تقديره ... الخ» قال أحمد: هو لا يدع أن يحجر واسعا فيوجب على الله رعاية المصالح بناء على القاعدة الفاسدة من مراعاة الصلاح والأصلح.
(4) . عاد كلامه. قال: «وتنسون ما تشركون: أى وتتركون آلهتكم ... الخ» قال أحمد: وإنما يلقى الاختصاص حيث يقول: معناه أتخصون آلهتكم، ثم قال: بل تخصون الله بالدعاء من حيث تقدم المفعول على الفعل في قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وقوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتقديم المفعول عنده يفيد الاختصاص والحصر. وقوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ في قوة قولك: لا نعبد إلا إياك. وقد مضى الكلام عليه.
(5) . عاد كلامه. قال: «ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله أغير الله تدعون ... الخ» قال أحمد: ولقد سدد النظر لولا أنه نغص ذلك بما يفهم وجوب مراعاة المصالح. وأن مشيئة الله تعالى تابعة للمصلحة، وقد تقدم آنفا فاحذره. وعليك بما سواه فانه من بديع النظر، والله الموفق.(2/22)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله. فإن قلت: إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله:
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ مع قوله أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله: إِنْ شاءَ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
البأساء، والضراء: البؤس، والضر. وقيل البأساء: القحط والجوع. والضراء: المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى: ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه: نفى التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء: أى تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى، طلباً لصلاحه حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة واعتذار أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ واجمون «1» متحسرون آيسون فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم «2» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
__________
(1) . قوله «واجمون» في الصحاح «الواجم» الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. (ع)
(2) . قوله «شأفتهم» قرحة تخرج من أسفل القدم فتكوى فتذهب، ثم ضربت مثلا في الاستئصال. أوده الصحاح. (ع)(2/23)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة «1» وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم. وقرئ «فتحنا» بالتشديد.
[سورة الأنعام (6) : آية 46]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بأن يصمكم ويعميكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطى عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم يَأْتِيكُمْ بِهِ أى يأتيكم بذاك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه يَصْدِفُونَ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.
[سورة الأنعام (6) : آية 47]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً وعن الحسن: ليلا أو نهاراً. وقرئ بغتة أو جهرة «2» هَلْ يُهْلَكُ أى ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ. هل يهلك بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6) : آية 48]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ من آمن بهم وبما جاءوا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة وَأَصْلَحَ ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.
[سورة الأنعام (6) : آية 49]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
__________
(1) . قال محمود: «الحمد هاهنا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك ... الخ» قال أحمد: ونظيرها قوله تعالى وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى فيمن وقف هاهنا وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين. ومنهم من وقف على المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما يشركون، فعلى الأول يكون الحمد حتما، وعلى الثاني فاتحة، وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في، آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه ختما، إذ لا يقتضى السياق غير ذلك، والله أعلم.
(2) . قوله «بغتة أو جهرة» كذا في أبى السعود والبيضاوي. وفي بعض نسخ هذا الكتاب بغتة أو جهرة، وكتب عليه: أى بتحريك الغين والهاء. اه (ع)(2/24)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
جعل العذاب ماسا، كأنه حىّ يفعل بهم ما يريد من الآلام. ومنه قولهم: لقيت منه الأمرّين والأقورين»
حيث جمعوا جمع العقلاء: وقوله إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً.
[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
أى لا أدعى ما يستبعد في العقول «2» أن يكون لبشر من ملك خزائن الله- وهي قسمه بين الخلق وإرزاقه، وعلم الغيب، وأنى من الملائكة الذين هم أشرف جنس «3» خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه. أى لم أدّع إلهية ولا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها. وإنما أدّعى ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثل للضالّ والمهتدى «4» ويجوز أن يكون
__________
(1) . قوله «الأمرين والأقورين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي. والأقورين- بكسر الراء-: الدواهي العظام، كذا في الصحاح. (ع)
(2) . قال محمود: «أى لا أدعى ما يستبعد في العقول ... الخ» قال أحمد رحمه الله: هو ينبنى على القاعدة المتقدمة له في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها ولمخالفة أن يقول: إنما وردت الآية رداً على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ... الآية فرد قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، بأنه بشر وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء لأنه لا خلاف أن الأنبياء يأكلون الطعام وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء. وكذلك رد قولهم. أو يلقى إليه كنز، بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به. وهذه الآية جاء الترتيب فيها مخالفاً لترتيب قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
قال الزمخشري: لأنهم أعلى من الأنبياء، وقد أخر هاهنا دعوى الملكية عن دعوى الالهية، إذ الالهية أجل وأعلى، والملكية أدنى، ولا محل لذلك إلا التمهيد الذي أسلفته وقد جعلت الأمر في التقديم والتأخير تبعا للسياق، فقد تقضى البلاغة في بعضه عكس ما تقتضيه في الآخر. ولم يحسن الزمخشري في قوله: ليس يعد الالهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، فانه جعل الالهية من جملة المنازل كالملكية. ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فاطلاقها على الالهية تحريف، والله الموفق للصواب.
(3) . قوله «من الملائكة الذين هم أشرف جنس» أى عند المعتزلة، أما عند أهل السنة، فالبشر أشرف، على ما تقرر في التوحيد. (ع)
(4) . عاد كلامه. قال: والأعمى والبصير مثل للضال والمهتدى ... الخ» قال أحمد: قوله أو ادعى المحال يعنى المستحيل، ولذلك قابله بالمستقيم يريد الممكن، وذلك مسبب عن دعوى الالهية، إذ ادعاؤها لا يجوز عقلا. وأما مدعى الملكية فلا يقاس بمدعي الالهية في الاستحالة العقلية. ويجوز في القدرة أن يجعل البشر ملكا والملك بشراً، كما يجوز أن يجعل البشر أنبياء. ويدل على هذا الجواز قوله وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا هذا مع أن العقل يجيزه في قدرة الله تعالى، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها فالمعاني التي بها كان الملك ملكا يجوز أن يخلقها الله تعالى للبشر وبالعكس. وعدم وقوعه لا يأبى استقامته وإمكانه، والله الموفق.(2/25)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
مثلا لمن اتبع ما يوحى إليه. ومن لم يتبع. أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة، والمحال وهو الإلهية أو الملكية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين أشباه العميان. أو فتعلموا أنى ما ادعيت ما لا يليق بالبشر. أو فتعلموا أن أتباع ما يوحى إلىَّ مما لا بدّ لي منه. فإن قلت: أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على قوله عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول.
[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
وَأَنْذِرْ بِهِ الضمير راجع إلى قوله ما يُوحى إِلَيَّ والَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل «1» فينذرهم بما يوحى إليه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أى يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وإمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإما ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمرّدين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء. وقوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من يحشروا، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأن كلا
__________
(1) . قال محمود: «الذين يخافون إما قوم آمنوا إلا أنهم مفرطون ... الخ» قال أحمد: وإنما كانت هذه الحال لازمة لو قيل: وأنذر به الذين يحشرون، لأنه لولا الحال لعم الأمر بالإنذار كل أحد والمقصود تخصيصه بالبعض.
وأما وقد قيل وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فهذا الكلام مستقل برأسه. ومضمونه تخصيص الانذار المأمور به بالقوم الخائفين من البعث، إما لأنهم مقرون به. وإما لأنهم يحتاطون لأنفسهم فيحملهم الخوف على النظر المقضى إلى اليقين، دون العتاة المصممين على الجحد وليس كل خائف من البعث لا شفيع له، فان الموحدين أجمعين خائفون وهم مشفوع لهم، وإن عنى باللازمة التي لا ينفك ذو الحال عنها، كالتي في قوله وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً قائما هو حينئذ يبتنى على قاعدته في إنكار الشفاعة، فكل خائف عنده لا شفيع له إذ لا يخاف إلا أصحاب الكبائر غير التائبين أو الكفار. والكل عنده سواء لا شفيع لهم. وحيث أثبتت الشفاعة، جعلها خاصة بزيادة الثواب، فلا ينالها إلا من يستوجب على زعمه الثواب بعمله الصالح، وتكون الشفاعة مفيدة للمزيد على ما يرضيه. فهذا عنده لا يخاف من البعث، لأنه يستوجب الجنة. فمن ثم جعل الحال لازمة إذ الناس قسمان: غير مخالف، فلا تتناوله الآية.
وخائف، فذاك إنما خاف لأنه استوجب العقاب فلا شفاعة تناله. وهذه من دفائنه الخفية، ومكامنه المزوية، فتفطن لها، والله الموفق برحمته. [.....](2/26)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.
[سورة الأنعام (6) : آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أى عبادته ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشى: الدوام. وقيل معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته. روى أن رؤسا من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم، وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف- جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم، طمعاً في إيمانهم «1» . وروى أن عمر رضى الله عنه قال:
لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتابا، فدعا بصحيفة وبعلىّ رضى الله عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته «2» . قال سلمان وخباب: فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته. وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت «3» : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم، فترك القيام عنا إلى أن تقوم
__________
(1) . رواه البيهقي في الشعب في أواخره والواحدي في الأسباب من رواية أبى مشجعة بن ربعي عن سلمان قال «جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن بدر والأفرع بن حابس وذووهم فقالوا يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المسجد ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون أبا ذر وسلمان وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك. فأنزل الله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- إلى قوله- لِلظَّالِمِينَ ناراً فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم. الحديث» ولابن ماجة وابن أبى شيبة والطبراني وأبو نعيم في ترجمة خباب. وإسحاق وأبو يعلى والبزار والبيهقي أيضا والواحدي من طريق أبى الكنود عن خباب في قوله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ- الآية إلى الظَّالِمِينَ قال: جاء الأفرع وعيينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب، قاعداً في ناس من ضعفاء المؤمنين. فذكره مطولا.
(2) . قلت هو في حديث خباب المذكور آنفا دون مشورة عمر. واعتذاره.
(3) . قلت أما حديث خباب فمن أوله إلى قوله «أن تقوم» في حديثه المذكور آنفا. وأما حديث سلمان فقد ذكرته أولا. وأما قوله «وقال الحمد لله ... إلى آخره» فهو في حديث سلمان وحده.(2/27)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
عنه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع قوم من أمتى. معكم المحيا ومعكم الممات ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كقوله إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة «1» المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضى فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. فإن قلت:
أما كفى قوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حتى ضم إليه وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ؟
قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنىّ في قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهى. ويجوز أن يكون عطفا على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم. وقرئ: بالغدوة والعشى.
[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وَكَذلِكَ فَتَنَّا ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أى ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين أَهؤُلاءِ الذين مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أى أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم «2» فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول مفتون أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أى الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
__________
(1) . قوله «بسيمة» لعله «بسمة» . (ع)
(2) . قوله «خذلناهم فافتتنوا» فسر بهذا على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة يخلق الشر كالخير. (ع)(2/28)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم. وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييبا لقلوبهم. وكذلك قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ: إنه، فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ وبالفتح على الإبدال من الرحمة بِجَهالَةٍ في موضع الحال، أى عمله وهو جاهل. وفيه معنيان، أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدى إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير. ومنه قول الشاعر:
على أنّها قالت عشيّة زرتها ... جهلت على عمد ولم تك جاهلا «1»
والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته. وقيل: إنها نزلت في عمر رضى الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة.
[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وقرئ وَلِتَسْتَبِينَ بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث. وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل. يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين، من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
__________
(1) . «على» بمعنى «مع» أى قالت عشية زيارتي إياها «جهلت» أى فعلت فعل الجاهل، أو تجاهلت وادعيت الجهل، مع تعمدك ولم تك جاهلا حين الفعل. أو لم تك فيما مضى جاهلا بشيء. (ع)(2/29)
نُهِيتُ صرفت وزجرت، بما ركب فىّ من أدلة العقل، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أى لا أجرى في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أى إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعنى أنكم كذلك. ولما نفى أن يكون الهوى متبعا نبه على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ومعنى قوله إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ: إنى من معرفة ربى وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أنتم حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه، إذا كان ثابتا عندك بدليل. ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا «1» بالعذاب المستأصل فقال ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعنى العذاب الذي استعجلوه في قولهم فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تأخير عذابكم يَقُصُّ الْحَقَّ أى القضاء الحق في كل ما يقضى من التأخير والتعجيل في أقسامه وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أى القاضين. وقرئ: يقص الحق «2» أى يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قصر أثره لَوْ أَنَّ عِنْدِي أى في قدرتي وإمكانى ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وامتعاضا «3» من تكذيبكم به. ولتخلصت منكم سريعا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم. وقيل عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على حجة من جهة ربى وهي القرآن وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أى بالبينة. وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن. فإن قلت: بم انتصب الحق؟ قلت: بأنه صفة لمصدر يقضى، أى يقضى القضاء الحق. ويجوز أن يكون مفعولا به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أى يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله: يقضى بالحق. فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: اتباعا للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين.
__________
(1) . قوله «يغافصوا» أى يؤاخذوا على غفلة. يقال: غافصت الرجل أخذته على غرة اه (ع)
(2) . قوله «وقرئ يقص الحق» ظاهره أن قراءة يَقُصُّ من القضاء، هي المشهورة. فليحرر. (ع)
(3) . قوله «وامتعاضا» الامتعاض: امتداد الغضب. أفاده الصحاح. (ع)(2/30)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن «1» المتوثق منها بالأغلاق والأقفال. ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. والمفاتح: جمع مفتح وهو المفتاح. وقرئ مفاتيح، وقيل: هي جمع مفتح- بفتح الميم- وهو المخزن. وَلا حَبَّةٍ ... وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على ورقة «2» وداخل في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها لأنّ معنى إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين: علم الله تعالى، أو اللوح: وقرئ: ولا حبة. ولا رطب.
ولا يابس، بالرفع. وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل مِنْ وَرَقَةٍ وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ: كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.
[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ الخطاب للكفرة، أى أنتم منسدحون «3» الليل كله
__________
(1) . قال محمود: «المفاتح استعارة، لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن ... الخ» قال أحمد: إطلاق التوصل على الله تعالى ليس سديدا فانه يوهم تجدد وصول بعد تباعد إذ قول القائل توصل زيد إلى كذا يفهم أنه وصل بعد تكلف وبعد والله تعالى مقدس عن ذلك والغائب كالحاضر في علمه والعلم بالكائن هو العلم بما سيكون لا يتغاير ولا يختلف وليس لما أن نطلق مثل هذا الإطلاق إلا عن ثبت، والله الموفق.
(2) . عاد كلامه. قال: «ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، عطف على ورقة وداخل في حكمها ... الخ» قال أحمد: وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على ورقة بعد أن سلب الإيجاب لمقصود للعلم في قوله إِلَّا يَعْلَمُها وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم وهو المقصود وطالت، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف كان ذلك جديراً بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى، ليتلقاها السامع غضة جديدة غير مملولة بالتكرير. وهذا السر إنما ينقب عنه المسيطر في علم البيان ونسكت اللبان، والله الموفق.
(3) . قوله «منسدحون» أى منسطحون على القفا، أو منقلبون على الوجه أفاده الصحاح. (ع)(2/31)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
كالجيف وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: «1» في أمر كذا لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وهو المرجع إلى موقف الحساب ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
حَفَظَةً ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون. وعن أبى حاتم السجستاني كان يكتب عن الأصمعى كل شيء يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه. أنت شبيه الحفظة، تكتب لغط اللفظة: فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب. فإن قلت: الله تعالى غنىّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أى استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه. وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله. وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرئ:
توفاه. ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعا بمعنى تتوفاه. ويُفَرِّطُونَ بالتشديد والتخفيف، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط مجاوزة الحدّ أى لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أى إلى حكمه وجزائه مَوْلاهُمُ مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم الْحَقِّ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ لا حكم فيه لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب. وقرئ الْحَقِّ بالنصب على المدح كقولك: الحمد لله الحق.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
__________
(1) . قوله «فتقول في أمر كذا» لعله: فيقول. (ع)(2/32)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، ويجوز أن يراد. ما يشفون «1» عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتهما لَئِنْ أَنْجَيْتَنا على إرادة القول مِنْ هذِهِ من هذه الظلمة الشديدة. وقرئ يُنَجِّيكُمْ بالتشديد والتخفيف. وأنجانا. وخفية، بالضم والكسر.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
هُوَ الْقادِرُ هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم: من قبل أكابركم وسلاطينكم.
ومن تحت أرجلكم: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتّى إذا التبست نفضت لها بدى «2»
__________
(1) . قوله «ما يشفون عليه» أى يشرفون ويقربون. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
(2) .
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين منعقر وآخر مسند
ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالها لا تبعد
للفرار السلمي، يمدح نفسه بأنه مهياج للشر يعرف مداخله ومخارجه. يقول: رب جماعة خلطتها بأخرى، حتى إذا تم اختلاطهما تخلصت منهما وتركتهما في حيص بيص، لكن فيه إثبات طرف من اللؤم، ونفض اليد: كناية عن التخلص. والوقص: الدق والكسر. والمنعقر: المجروح بالسهم، فتنقطع قوته من العقر وهو القطع. ويروى:
منعفر، بالفاء أى متعفر بالتراب. والمسند: اسم مفعول، أى دابرين بين ساقط ومتكئ على غيره، ولا تبعد:
مقول المقال، وهو بفتح العين أى لا تهلك، وهي كلمة تقولها النساء عند المصيبة. وقوله «وفتلت» حال، أى والحال أنى قد قتلت دون رجال تلك النساء، أى أمامهم، أو من بينهم لكفايتى عنهم. أى لو صبرت لقتلت، ولم يحينى كلام نسائهم وتفجعهم على مع سلامة رجالهن. (3- كشاف- 2)(2/33)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتى عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرنى جبريل أنّ فناء أمتى بالسيف» «1» وعن جابر بن عبد الله لما نزل مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك» فلما نزل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
قال «هاتان أهون» «2» ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. والضمير في قوله وَكَذَّبَ بِهِ راجع إلى العذاب وَهُوَ الْحَقُّ أى لا بدّ أن ينزل بهم قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ وكل إلىَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر لِكُلِّ نَبَإٍ لكل شيء ينبأ به، يعنى إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار وحصول لا بدّ منه. وقيل: الضمير في بِهِ للقرآن.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
يَخُوضُونَ فِي آياتِنا في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم وقم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فلا بأس أن تجالسهم حينئذ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى عن مجالستهم «3»
__________
(1) . كذا ذكره الثعلبي بغير سند. وهو في عدة أحاديث دون خبر جبريل. فروى ابن مردويه من حديث عمرو بن قيس عن رجل عن ابن عباس قال «لما نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ... الآية قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قال: اللهم لا ترسل على أمتى عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم، ولا تلبسهم شيعا. فأتاه جبريل. فقال: يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم» وله شواهد: منها في مسلم عن سعد مرفوعا «سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها» وعند مسلم من حديث ثوبان مطولا. وعند عبد الرزاق من حديث شداد بن أوس مطولا أيضا وفي الموطأ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعا لأمته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيها ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها» ولابن ماجة من حديث معاذ نحو حديث سعد والنسائي من حديث أنس نحوه وللترمذي من حديث خباب بن الأرت نحوه، وعند أحمد من حديث أبى بصرة الغفاري نحوه وفي الطبراني من حديث ابن عباس، وقوله «أن فناء أمتى بالسيف» رواه من حديث
(2) . أخرجه البخاري من حديث جابر
(3) . قال محمود: «معناه وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى ... الخ» قال أحمد: وهذا التأويل الثاني يروم تنزيله على قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل، وأنه كاف وإن لم يرد شرع في التحريم وغيره من الأحكام إذا كانت واضحة للعقل، كمجالسته المستهزئين فان قبحها بين العقل فهو مستقل بتحريمها، وحيث ورد الشرع بذلك فهو كاشف لحكمها ومبنية عليه، لا منشئ فيها حكما. وقد علمت فساد هذه القاعدة ومخالفتها للعقائد السنية، على أن الآية تنبو عنه فانه لو كان النسيان المراد هاهنا نسيان الحكم الذي يدل عليه العقل قبل ورود هذا النهى، لما عبر بالمستقبل في قوله وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ فأما وقد ورد بصيغة الاستقبال فلا وجه لحمله على الماضي، والله الموفق.(2/34)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
فَلا تَقْعُدْ معهم بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهى. وقرئ: ينسينك. بالتشديد.
ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهى «1» قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم وَلكِنْ عليهم أن يذكروهم ذِكْرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أى يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروى أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت: ما محل ذِكْرى؟ قلت: يجوز أن يكون نصباً على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أى تذكيراً. ورفعا على: ولكن عليهم ذكرى.
ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل مِنْ شَيْءٍ، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأنّ قوله مِنْ حِسابِهِمْ يأبى ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أى دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين
__________
(1) . قوله «كان الشيطان ينسينك قبل النهى» بناء على أن هناك حكما قبل الشرع وهو مذهب المعتزلة، ولا حكم قبل الشرع عند أهل السنة. (ع)(2/35)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
الإسلام لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى «ذرهم» اعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم وَذَكِّرْ بِهِ أى بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال:
وإبسالى بنىَّ بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق «1»
ومنه: هذا عليك بسل، أى حرام محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال: بسر الرجل إذا اشتدّ عبوسه، فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس:
منقبض الوجه وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية «2» لأن الفادي يعدل المفدى بمثله. وكلّ عدل: نصب على المصدر. وفاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها لا ضمير العدل لأنّ العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدىّ به، فصحّ إسناده إليه أُولئِكَ إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان «3» .
[سورة الأنعام (6) : آية 71]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)
__________
(1) . لعوف بن الأحوص الباهلي. والابسال: التسليم للباسل أى الشجاع المانع العابس. والبعو: بالعين المهملة- الجناية. يتحسر على تسليم أبنائه لبنى قشير رهنا في دم رجل منهم اسمه أبو الصحيفة، بغير جرم: أى ذنب جنيناه أنا وأولادى، ولا بدم مراق أى مسال منا، كناية عن القتل.
(2) . قال محمود: «معناه وإن تفد كل فداء والعدل الفدية ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من عيون إعرابه ونكت إغرابه التي طالما ذهل عنها غيره، وهو من جنس تدقيقه في منع عود الضمير من قوله فَتَنْفُخُ فِيها إلى الهيئة من قوله كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ مع أنه السابق إلى الذهن، وإنما حمله على القول بأن العدل هاهنا مصدر أن الفعل تعدى إليه بغير واسطة، ولو كان المراد المفدى به لكان مفعولا به، فلم يتعد إليه الفعل إلا بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل، فلما عدل عنه علم أنه مصدر، والله أعلم.
(3) . قال محمود: «نزلت في أبى بكر رضى الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان ... الخ» قال أحمد: ومن أنكر الجن واستيلاءها على بعض الأناسى بقدرة الله تعالى حتى يحدث من ذلك الخبطة والصرع ونحوهما، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال الفلسفي، حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى الشرعي ائتنا، وهو راكب في ضلالة التعاسيف لا يلوى عليهم ولا يلتفت إليهم، فمرة يقول: إن الوارد في الشرع من ذلك تخييل، كما تقدم في سورة البقرة. ومرة يعده من زعمات العرب وزخارفها. وقد أسلفنا ذلك في البقرة وآل عمران قولا شافيا بليغا، فجدد به عهداً، والله الموفق.(2/36)
قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان فِي الْأَرْضِ المهمه «1» حَيْرانَ تائهاً ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع لَهُ أى لهذا المستهوى أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستوى. أو سمى الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له ائْتِنا وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنى على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوى الإنسان، والغيلان تستولى عليه، كقوله الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ الْهُدى وحده وما وراءه، ضلال وغىّ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ. فإن قلت: فما محل الكاف في قوله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى اسْتَهْوَتْهُ؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت: ما محل أُمِرْنا قلت: النصب عطفاً على محل قوله إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. فإن قلت: ما معنى اللام في لِنُسْلِمَ؟ قلت:
هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «2» فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا؟
__________
(1) . قوله «الأرض المهمه» أى المفازة المتسعة. أفاده الصحاح. (ع)
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت إذا كان هذا وارداً في أبى بكر فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الخ؟ قال أحمد: هو مبنى على أن الأمر هو الارادة، أو من لوازمه إرادة المأمور به، وهذا الاعراب منزل على معتقده هذا. وأما أهل السنة فكما علمت أن الأمر عندهم غير الارادة ولا يستلزمها.
وقولهم في هذه اللام كقولهم وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ من نفى كونها تعليلا. والوجه في ذلك أنهم لما أوضحت لهم الآيات البينات وأزيحت عنهم العلل وتمكنوا من الإسلام والعبادة امتثالا للأمر جعلوا بمثابة من أريد منهم ذلك تمكيناً لحضهم على الامتثال ولقطع أعذارهم إذا فعل بهم فعل المراد منهم ذلك، وما شأن المريد للشيء إذا كان قادراً على حصوله أن يزيح العلل ويرفع الموانع، وكذلك فعل مع المكلفين وإن لم تكن الطاعة مرادة من جميعهم، وأما إذا كانت اللام هي التي تصحب المصدر كما يقول الزجاج: تقديره الأمر للإسلام وكذلك يقول في قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ الارادة للبيان وهي اللام التي تصحب المفعول عند تقدمه في قولك: لزيد ضربت، فهي على هذا الوجه غير محتاجة للتأويل. وقد قيل إنها بمعنى أن كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم قال هذا القائل. وكى ولام كى في أمرت وأردت خاصة، بمعنى «أن» لا على بابها من التعليل. والغرض من دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق وأبلغ، إذ لا يتعلق هذان المعنيان- أعنى الأمر والارادة- إلا بمستقبل، وقد جمع بين
الثلاثة اللام وكى وأن، في قوله ... أردت لكيما أن يطير ...
«البيت» وهذا الوجه أيضا سالم المعنى من الخلل الذي يعتقده الزمخشري، والمحافظة على العقيدة. وقد وجدنا السبيل إلى ذلك بحمد الله متعينة، والله الموفق.(2/37)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصاً بينه وبين الصديق أبى بكر رضى الله تعالى عنه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 الى 73]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
فإن قلت: علام عطف قوله وَأَنْ أَقِيمُوا «1» ؟ قلت: على موضع لِنُسْلِمَ كأنه قيل:
وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أى للإسلام ولإقامة الصلاة قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ. ويوم يقول: خبره مقدّما عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائما بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء كُنْ فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أى لا يكون شيأ من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. ويَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ويجوز أن يكون قَوْلُهُ الْحَقُّ فاعل يكون، على معنى: وحين يقول لقوله الحق، أى لقضائه الحق كُنْ فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف»
دلّ عليه قوله بِالْحَقِّ كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح.
__________
(1) . عاد كلامه. قال: «فان قلت علام عطف قوله: وأن أقيموا ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا مصداق القول بأن لنسلم معناه أن نسلم، وأن اللام فيه رديفة «أن» لا يراد عطفها عليها، فذلك هو الوجه الصحيح إن شاء الله.
وفي ورود أَقِيمُوا الصَّلاةَ محكيا بصيغته، وورود «نسلم» محكيا بمعناه، إذ الأصل المطابق لأقيموا: أسلموا، مصداق لما قدمته عند قوله تعالى ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وبينت ثم أن ذلك جائز على أن يكون عيسى عليه السلام حكى قول الله تعالى: اعبدوا الله ربكم ورب عيسى بمعناه فقال: اعبدوا الله ربى وربكم، فهذا مثله حكاية المعنى دون اللفظ، والله أعلم.
(2) . قوله «لمحذوف» لعله «بمحذوف» . (ع)(2/38)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
آزَرَ اسم أبى إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح. والأقرب أن يكون وزن آزَرَ فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيان لأبيه. وقرئ «آزر» بالضم على النداء. وقيل «آزر» اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعد أسمائى «1»
أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ ءأزر تتخذ أصناما آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاى ساكنة وراء منصوبة منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد آزراً على الإنكار؟ ثم قال: تتخذ أصناما آلهة تثبيتا لذلك وتقريرا، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عطف على قال إبراهيم لأبيه «2»
__________
(1) . يقول: ينادوننى بلفظ «أسماء» شتما لي بين قبائلها: أى قبائل المحبوبة. ففيه استخدام. كأن أسماء، أى هذا اللفظ، أضحت: أى صارت بعض أسمائى. وأصل أسماء عند سيبويه: وسماء، من الوسامة وهي الحسن والجمال. قلبت واوه همزة على غير قياس. كما في أحد. وعند المبرد جمع اسم. وبين أسماء وأسمائى الجناس التام.
وعلى اعتبار ياء المتكلم فهو من الناقص.
(2) . قال محمود: «قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ عطف على قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ ... الخ» قال أحمد: وفي الاعتراض بهذه الجملة تنويه بما سيأتى من استدلال إبراهيم عليه السلام وأنه تبصير له من الله تعالى وتسديد. [.....](2/39)
وقوله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره. ملكوت السموات والأرض: يعنى الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال.
وليكون من الموقنين: فعلنا ذلك. ونرى: حكاية حال ماضية، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب «1» ، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيأ منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها، وصانعا صنعها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها هذا رَبِّي قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه. لأنّ ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال، المتنقلين من مكان إلى مكان، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام بازِغاً مبتدئا في الطلوع لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول، فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه هذا أَكْبَرُ من باب استعمال النصفة «2» أيضاً مع خصومه إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أى للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها. وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله.
__________
(1) . عاد كلامه قال: «وكان أبوه آزر وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ... الخ» قال أحمد: والتعريض بضلالهم ثانياً أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ إنما ترقى إلى ذلك لأن الخصوم قد أقامت عليه الاستدلال الأول حجة، فأنسوا بالقدح في معتقدهم. ولو قيل هذا في الأول، فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض صلوات الله عليهم بأنهم في ضلالة، إلا بعد أن وثق باصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم إلى آخره. والدليل على ذلك أنه ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتقريع بأنهم على شرك، حين قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غاية المقصود، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: و «قوله هذا أَكْبَرُ من باب استعمال النصفة أيضاً مع الخصوم ... الخ» قال أحمد:
وصدق الزمخشري، بل ذلك متعين. وقد ورد الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه السلام فيلتمسون منه الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي لا أسأل أحداً غيرى، ويذكر كذباته الثلاث ويقول: لست لها، يريد قوله لسارة «هي أختى» وإنما عنى في الإسلام. وقوله «إنه سقيم» وإنما عنى همه بقومه وبشركهم، والمؤمن يبقمه ذلك. وقوله «بل فعله كبيرهم» وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض، فإذا عد صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها، دل ذلك على أنها أعظم ما صدر منه، فلو كان الأمر على ما يقال من أن هذا الكلام محكي عنه على أنه نظر لنفسه، لكان أولى أن يعده أعظم مما ذكرناه لأنه حينئذ يكون شكا بل جزما، على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك.(2/40)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
والأوّل أظهر، لقوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وقوله يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ «1» ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله هذا رَبِّي والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم:
ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازا من علامة التأنيث. وقرئ: ترى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، بالتاء ورفع الملكوت. ومعناه: تبصره دلائل الربوبية.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 90]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
__________
(1) . عاد كلامه. قال: فان قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال ... الخ» قال أحمد:
وهذه أيضاً من عيون نكتة ووجوه حسناته.(2/41)
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفى الشركاء عنه منكرين لذلك وَقَدْ هَدانِ يعنى إلى التوحيد وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ وقد خوفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً إلا وقت مشيئة ربى «1» شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعنى لا أخاف معبوداتكم في وقت قط، لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلا إذا شاء ربى أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمنى بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر، أو يجعلها قادرة على مضرتى وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بى من جهتها أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز وَكَيْفَ أَخافُ لتخويفكم شيئا مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه وَأنتم لا تَخافُونَ ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل باشراكه سُلْطاناً أى حجة، لأن الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، كأنه قال: وما لكم تنكرون علىّ الأمن «2» في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف. ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم، احترازاً من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعنى فريقى المشركين والموحدين. ثم استأنف الجواب عن السؤال
__________
(1) . قال محمود: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ معناه إلا وقت مشيئة ربى شيئاً فحذف الوقت ... الخ» قال أحمد: هو بمعنى يجعلها قادرة، على أن المضرة خلق قدرة يخلق بها المضرة لمن يريد، بناء على قاعدته. وقد علمت أن عقيدة أهل السنة أن ذلك لا يجوز عقلا أن يخلق غير الله ولا يقدر قدرة مؤثرة في المقدور إلا هو، وإن كان الزمخشري لم يصرح هاهنا من عقيدته، فإنما يعنى حيث يصرح أو يكنى ما يلائمها ويتنزل عليها، وغاية خوف إبراهيم منها المعلق على مشيئة الله لذلك، خوف الضرر عندها بقدرة الله تعالى لأنها. وكأنه في الحقيقة لم يخف إلا من الله، لأن الخوف الذي أثبته منها معلق بمشيئة الله وقدرته، وهو كلامه خوف منها، والله أعلم.
(2) . عاد كلامه. قال: «ومعنى وكيف أخاف ما أشركتم ... الخ» ما لكم تنكرون على الأمن ... الخ» قال أحمد: ويحتمل أن يكون العدول إلى ذلك ليعم بالأمن كل موحد، وبالخوف كل مشرك، ويندرج هو في حكم الموحدين وقومه في حكم المشركين. وأحسن الجواب ما أفاد وزاد.(2/42)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم «1» . وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس وَتِلْكَ إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله وَهُمْ مُهْتَدُونَ. ومعنى آتَيْناها أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعنى في العلم والحكمة. وقرئ بالتنوين وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لنوح أو لإبراهيم. وداوُدَ عطف على نوحا، أى وهدينا داود وَمِنْ آبائِهِمْ في موضع النصب عطفاً على كلا، بمعنى: وفضلنا بعض آبائهم وَلَوْ أَشْرَكُوا مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات. لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدّس لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد الجنس فَإِنْ يَكْفُرْ بِها بالكتاب والحكمة والنبوّة. أو بالنبوّة هؤُلاءِ يعنى أهل مكة قَوْماً هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم، بدليل قوله أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وبدليل وصل قوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ بما قبله. وقيل:
هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به. وقيل: كل مؤمن من بنى آدم. وقيل: الملائكة وادّعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهد: هم الفرس. ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. والباء في بِها صلة كافرين. وفي بِكافِرِينَ تأكيد النفي. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى، ما لم تنسخ. فإذا نسخت لم تبق هدى، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا. والهاء في اقْتَدِهْ للوقف تسقط في الدرج. واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
__________
(1) . قال محمود: «والمراد بقوله وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أى لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس» قال أحمد: وقد وارد أن الآية لما نزلت عظمت على الصحابة، وقالوا أينا لم يظلم نفسه.
فقال عليه الصلاة والسلام «إنما هو الظلم في قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» وإنما هو يروم بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لاحظ لهم في الأمن كالكفار، ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمر بالجامعين الأمرين: الايمان والبراءة من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق العصاة هو الخوف اللاحق الكفار، لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون العذاب المؤقت وهم آمنون من الخلود. وأما الكفار، فغير آمنين بوجه ما، والله الموفق.(2/43)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحى إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة. والقائلون هم اليهود، بدليل قراءة من قرأ: تَجْعَلُونَهُ بالتاء. وكذلك تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بدّ لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم «1» سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل: جاءَ بِهِ مُوسى وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. وروى أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود «2» . فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: إنه أغضبنى، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. وقيل القائلون قريش «3» وقد ألزموا إنزال التوراة، لأنهم كانوا يسماعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الخطاب لليهود، أى علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقيل الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى: لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم. قُلِ اللَّهُ أى أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن ينا كروك ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة.
ويقال لمن كان في عمل لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب. ويَلْعَبُونَ حال من ذرهم، أو من خوضهم، ويجوز أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يلعبون، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم
__________
(1) . قال محمود: «وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم ... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا من دقة نظره في الكتاب العزيز والتعمق في آثار معادنه، وإبراز محاسنه.
(2) . أخرجه الواحدي في الأسباب من طريق سعيد بن جبير «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف فذكره إلى قوله- فغضب ثم قال: ما أنزل الله على بشر من شيء» وكذلك أخرجه الطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير.
(3) . قوله «وقيل القائلون قريش» أخرجه الطبري عن مجاهد.(2/44)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
مُبارَكٌ كثير المنافع والفوائد والتنذير معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أو أنزلناه للبركات، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرئ ولينذر بالياء والتاء. وسميت مكة أُمَّ الْقُرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً لبعض المجاورين:
فمن يلق في بعض القريّات رحله ... فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابى «1»
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يصدّقون بالعاقبة ويخافونها يُؤْمِنُونَ بهذا الكتاب. وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين. ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها.
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أن الله بعثه نبياً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وهو مسيلمة الحنفي الكذاب. أو كذاب صنعاء الأسود العنسي. وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم:
رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدىّ سوارين من ذهب فكبرا علىّ وأهمانى فأوحى الله إلىّ أن انفخهما، فنفختهما فطارا عنى، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما: كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العنسي «2» وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هو عبد الله بن سعد بن أبى سرح القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليما، كتب
__________
(1) . للزمخشري يفتخر بمكة وسكانها. والقريات- بالتشديد-: للتصغير. ورحل الشخص مسكنه ولو من شعر، أى: فمن يلق رحله في بعض القرى الصغيرة. فلا فخر له على، فان مكة محط رحالي ومنتابى، أى محل انتيابى أى دخولى فيها توبة بعد أخرى، وإلقاء الرحل: كناية عن الاقامة، لأنها تلزمه عرفا. وملقى على زنة اسم المفعول اسم لمكان الإلقاء، كمتاب لمكان الانتياب.
(2) . متفق عليه من حديث ابن عباس.(2/45)
هو: عليما حكيما. وإذا قال عليما حكيما، كتب: غفورا رحيما. فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان: فقال تبارك الله أحسن الخالقين. فقال عليه الصلاة والسلام اكتبها: فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمداً صادقاً لقد أوحى إلىّ مثل ما أوحى إليه. ولئن كان كاذباً فلقد قلت كما قال، فارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة «1» . وقيل: هو النضر بن الحرث والمستهزءون وَلَوْ تَرى جوابه محذوف، أى رأيت أمراً عظيما إِذِ الظَّالِمُونَ يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. وغَمَراتِ الْمَوْتِ شدائده وسكراته، وأصل الغمرة: ما يغمر من الماء «2» فاستعيرت للشدّة الغالبة باسِطُوا أَيْدِيهِمْ يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في الإرهاق، من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخر إلىّ مالى عليك الساعة، ولا أريم «3» مكاني، حتى أنزعه من أحداقك. وقيل. معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب «4» أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ خلصوها من أيدينا، أى لا تقدرون على الخلاص الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت
__________
(1) . أخرجه الواحدي عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس إلى قوله «فارتد عن الإسلام» وقد رواه الطبري مختصرا من رواية أسباط عن السدى من قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً- الآية قال:
نزلت في عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا عليما كتب هو عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب سميعا عليما. فشك وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فلقد أنزلت مثل ما أنزل الله. فلحق بالمشركين «تنبيه» قوله القرظي غلط بين فان ابن أبى سرح قرشي عامرى. قوله «ثم رجع مسلما قبل فتح مكة. قوله وقيل: هو النضر بن الحارث «فائدة» روى أن هذه القصة كانت لابن خطل. أخرج ابن عدى في ترجمة أصرم بن حوشب أحد المتروكين من حديث على، قال «كان ابن خطل يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل غفور رحيم كتب رحيم غفور- فذكر الحديث.
وفيه: ثم كفر ولحق بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل ابن خطل فله الجنة» وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. ونقل عن ابن معين تكذيب أصرم.
(2) . قال محمود: «أصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة ... الخ» قال أحمد: هو يجعله من مجاز التمثيل، ولا حاجة إلى ذلك. والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على لحقيقة فلا معدل عنها.
(3) . قوله «ولا أريم مكاني» أى أبرح. وفي الصحاح: رامه يريمه أى برحه. (ع) [.....]
(4) . عاد كلامه. قال: «وقيل معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب ... الخ» قال أحمد: ومثله وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ.(2/46)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون: الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تؤمنون بها.
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
فُرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم فِيكُمْ شُرَكاءُ في استعبادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
وقرئ: فرادى، بالتنوين. وفراد، مثل ثلاث. وفردي، نحو سكرى: فإن قلت: كما خلقناكم، في أى محل هو؟ قلت: في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا، أى مجيئا مثل خلقنا لكم تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل: ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف، كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله: لقد تقطع ما بينكم.
[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى بالنبات والشجر. وعن مجاهد: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أى الحيوان، والنامي من النطف. والبيض والحب والنوى وَمُخْرِجُ هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي- فإن قلت: كيف قال مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بلفظ اسم الفاعل، بعد قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قلت: عطفه على فالق الحب والنوى، لا على الفعل، ويخرج الحىَّ من الميت: موقعه موقع الجملة المبينة لقوله فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين «1» من جنس إخراج الحىّ من الميت، لأنّ النامي
__________
(1) . قال محمود: «معناه فالق الحب والنوى بالنبات والشجر ... الخ» قال أحمد رحمه الله: وقد ورد جميعاً بصيغة الفعل كثيراً في قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وقوله أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ عطف أحد القسمين على الآخر كثيراً دليل على أنهما توأمان مقرونان، وذلك يبعد قطعه عنه في آية الأنعام هذه ورده إلى فالق الحب والنوى، فالوجه- والله أعلم- أن يقال: كان الأصل وروده بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله من الصفات المذكورة في هذه الآية من قوله فالِقُ الْحَبِّ وفالِقُ الْإِصْباحِ وجَعَلَ اللَّيْلَ ومُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده، وهو قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إرادة لتصوير إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع، وهذا التصوير والاستحضار إنما يتمكن في أدائهما الفعل المضارع دون اسم الفاعل والماضي. وقد مضى تمثيل ذلك بقوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فعدل عن الماضي المطابق لقوله أَنْزَلَ لهذا المعنى. ومنه ما في قوله:
إنى قد لقيت الغول تسعى ... بسيب كالصحيفة صحصحان
فآخذه فأضربه فخرت ... صريعا اليدين وللجران
فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذعن السامع. ومنه إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً فعدل عن مسبحات وإن كان مطابقا لمحشورة بهذا السبب والله أعلم، ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما تكون العناية به أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه، وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه، ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي ناشئ عنه، فكان الأول جديراً بالتصدير والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر على حسب ترتيبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل، وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع «فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه. والله أعلم.(2/47)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، ذلِكُمُ اللَّهُ أى ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.
[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
الْإِصْباحِ مصدر سمى به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:
أفنى رباحا وبنى رباح ... تناسخ الإمساء والإصباح «1»
بالكسر والفتح مصدرين، وجمع مساء وصبح. فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة «2» هي التي تنفلق عن الصبح، كما قال:
__________
(1) . «رباح» أبو حى من ير نوع، ثم صار اسما للحي. وروى بالتحتية بدل الموحدة. والإمساء والإصباح:
يرويان بكسر الهمزة على أنهما مصدران، وبفتحهما جمع مساء وصباح. وظلام الليل ينسخ نور النهار ويزيله وبالعكس. وإسناد الافناء إلى التناسخ مجاز عقلى، من باب الاسناد الزمان، أو هو على اعتقاد الجاهلية فيكون حقيقة عندهم.
(2) . عاد كلامه. قال: «فان قلت ما معنى فلق الصبح والظلمة وهي التي تنفلق ... الخ» ؟ قال أحمد: وقيل الخالق والفالق بمعنى، فيكون المراد خالق الإصباح. والأظهر ما فسره عليه المصنف، والله أعلم.(2/48)
تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها ... تفرّى ليل عن بياض نهار «1»
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره. وقالوا: انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق.
وقال الطائي:
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب «2»
وقرئ: فالق الإصباح، وجاعل الليل سكناً، بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: فلق الإصباح وجعل الليل. والسكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحاً إليه، من زوج أو حبيب. ومنه قيل للنار: سكن، لأنه يستأنس بها. ألا تراهم سموها المؤنسة، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه «3» . ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكوناً فيه من قوله لتسكنوا فيه وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قرئا بالحركات الثلاث، فالنصب على إضمار فعل دل عليه
__________
(1) .
كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار
تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفرى ليل عن بياض نهار
لأبى نواس يصف الخمرة. يقول: كأن بقايا الذي هلك وذهب من فقاقعها شيب أبيض متفرق في عذار أسود، لأن كلا منهما أبيض منتشر فيما يخالف لونه، ولا يلزم من ذلك أنها سوداء كما يدل عليه ما بعده، ثم قال: تردت، أى استترت بالحباب، فالتردى: استعارة التستر، ثم انفرى: انشق وزال عن أديمها أى وجهها كتفرى الليل وانشقاق ظلامه عن بياض النهار، والجامع استتار كل بغيرها، ثم ظهوره بتفرق ذلك الغير فهو مركب. ولا يلزم من ذلك أن الحباب أسود كالليل، والخمرة بيضاء كالنهار، وانظر كيف خيل أنه في الأول أبيض وفي الثاني أسود وهي بالعكس. وهذا من العجب الداعي للطرب. وفيه أنه يرى في الأول أبيض معجبا، ثم تعرض عنه النفس وتريد الخمرة، فيتخيل أنه مظلم، ثم ينكشف وتظهر هي بيضاء ترهقها صفرة، كالسماء وقت الاسفار.
(2) .
هذى مخايل برق خلفه مطر ... جود وروى زناد خلفه لهب
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
لأبى تمام. وقيل للبحترى. و «مخايل» أضواء تتخيلها، أو تخيل إلينا المطر بعدها. والجود- في الأصل- جمع جائد، كصحب وصاحب، وهو الكثير النافع. والورى: قدح الزند، والزناد جمعه، ككلب وكلاب، وقد يكون مفرداً ككتاب. يقول: إن أوائل الأمور تبدو قليلة ثم تكثر، فينبغي الحرص من أول الأمر قبل بلوغه غايته فيكثر الضرر ويعسر درؤه، أو المعنى أنه ينبغي التأنى إلى بلوغ المراد، فالكلام كله من باب التمثيل. وروى
وكاذب العمر يبدو قبل صادقه
وروى بعد هذا البيت:
ومثل ذلك وجد العاشقين هوى ... بالمزح يبدو وبالادمان ينتهب
ونسبا لابن الرومي، أى الوجد في أوله هوى وفي آخره نار، والإدمان: الادامة.
(3) . قوله «وجمامه» أى راحته من التعب. وفي الصحاح «الجمام» بالفتح-: الراحة. (ع)(2/49)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
جاعل الليل، أى وجعل الشمس والقمر حسباناً. أو يعطفان على محل الليل. فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضىّ، ولا تقول: زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت: ما هو في معنى المضىّ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة، وكذلك فالق الحب، وفالق الإصباح، كما تقول: الله قادر عالم، فلا تقصد زماناً دون زمان، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والشمس والقمر مجعولان حسباناً، أو محسوبان حسباناً. ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً: جعلهما على حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما. والحسبان- بالضم-: مصدر حسب، كما أنّ الحسبان- بالكسر- مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسبانا، أى ذلك التسيير بالحساب المعلوم تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسخرهما الْعَلِيمِ بتدبيرهما وتدويرهما.
[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.
[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
من فتح قاف المستقر، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً. ومن كسرها، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقرّ في الرحم. ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها. أو فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع. فإن قلت: لم قيل يَعْلَمُونَ مع ذكر النجوم «1» ويَفْقَهُونَ مع ذكر إنشاء بنى آدم؟ قلت كان إنشاء الإنس من نفس
__________
(1) . قال محمود: «إن قلت لم قيل مع ذكر النجوم يعلمون ... الخ» قال أحمد: لا يتحقق هذا التفاوت ولا سبيل إلى الحقيقة، وما هذا الجواب إلا صناعى. والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة، كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالقة تحسينا للنظم واتساقا في البلاغة. ويحتمل وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآية المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الالهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقلباتهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة، فانه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم نفى من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفى الأدنى أبشع من نفى الأعلى درجة فخص به أسوأ الفريقين حالا، ويفقهون هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بضم القاف، لأن تلك درجة عالية. ومعناه: صار فقيها. قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن فقه أنزل من علم. وفي حديث سلمان أنه قال- وقد سألته امرأة جاءته-: فقهت، أى فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه.
وإذا قيل فلان لا يفقه شيئا، كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا، وكان معنى قولك: لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: لا يعلم، فغايته نفى حصول العلم له. وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكاراً مستأنفا. وقولنا في أدراج الكلام أنه نفى العلم عن أحد الفريقين ونفى الفقه عن الآخر، يعنى بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة والتفقه فيها بقوم، فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم ولا فقه، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول.(2/50)