|
المؤلف: أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (المتوفى: 741هـ)
المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت
الطبعة: الأولى - 1416 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
تبغي»
يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ عبارة عن الذل والكآبة، ومن الذل يتعلق بخاشعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ فيه قولان: أحدهما أنه عبارة عن الذل، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة، والآخر أنهم يحشرون عميا فلا ينظرون بأبصارهم، وإنما ينظرون بقلوبهم واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري: والظرف يحتمل أن يريد به العين أو يكون مصدرا يَوْمَ الْقِيامَةِ يتعلق بقال أو بخسروا أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من كلام الذين آمنوا أو مستأنفا من كلام الله تعالى لا مَرَدَّ لَهُ ذكر في غافر [11] مِنْ نَكِيرٍ أي إنكار يعني لا تنكرون أعمالكم يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً قدم الإناث اعتناء بهنّ وتأنيسا لمن وهبهن له. قال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بأنثى قبل الذكر، لأن الله بدأ بالإناث وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور، وإبراهيم كان له ذكور دون إناث، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم جمع الإناث والذكور، ويحيى كان عقيما، والظاهر أنها على العموم في جميع الناس، إذ كل واحد منهم لا يخلو عن قسم من هذه الأقسام الأربعة التي ذكر، وفي الآية من أدوات البيان التقسيم.
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الآية: بين الله تعالى فيها كلامه لعباده، وجعله على ثلاثة أوجه أحدها الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بإلهام أو منام والآخر أن يسمعه كلامه من وراء حجاب الثالث الوحي بواسطة الملك وهو قوله: أو يرسل رسولا يعني ملكا، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي، وهذا خاص بالأنبياء والثاني خاص بموسى وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كلمه الله ليلة الإسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء كثيرا، وقد يكون لسائر الخلق ومنه، وأوحى ربك إلى النحل ومنه منامات الناس أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا قرأ نافع يرسل ويوحي بالرفع، على تقدير أو هو يرسل والباقون
(2/252)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
بالنصب عطفا على وحيا لأن تقديره: أن يوحي عطف على أن المقدرة
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الروح هنا القرآن، والمعنى مثل هذا الوحي، وهو بإرسال ملك أوحينا إليك القرآن، والأمر هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور، أو يكون من الأمر بالشيء ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ المقصد بهذا شيئان: أحدهما تعداد النعمة عليه صلّى الله عليه وسلّم بأن علمه الله ما لم يكن يعلم. والآخر احتجاج على نبوته لكونه أتى بما لم يكن يعلمه ولا تعلمه من أحد، فإن قيل: أما كونه لم يكن يدري الكتاب فلا إشكال فيه، وأما الإيمان ففيه إشكال لأن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم؟ فالجواب أن الإيمان يحتوي على معارف كثيرة، وإنما كمل له معرفتها بعد بعثه، وقد كان مؤمنا بالله قبل ذلك، فالإيمان هنا يعني به كمال المعرفة وهي التي حصلت له بالنبوة وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً الضمير للقرآن.
(2/253)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
سورة الزخرف
مكية إلا آية 54 فمدنية وآياتها 89 نزلت بعد الشورى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الزخرف) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني القرآن، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن، أو المبيّن لغيره وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أم الكتاب، اللوح المحفوظ، والمعنى: أن القرآن وصف في اللوح بأنه عليّ حكيم، وقيل: المعنى أن القرآن نسخ بجملته في اللوح المحفوظ، ومنه كان جبريل ينقله، فوصفه الله بأنه علي حكيم لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ. والأول أظهر وأشهر أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً الهمزة للإنكار والمعنى:
أنمسك عنكم الذكر، ونضرب من قولك: أضربت عن كذا: إذا تركته، والذكر يراد به:
القرآن، أو التذكير، والوعظ. وصفحا فيه وجهان: أحدهما أنه بمعنى الإعراض، تقول:
صفحت عنه إذا أعرضت عنه فكأنه قال: أنترك تذكيركم إعراضا عنكم؟ وإعراب صفحا على هذا مصدر من المعنى، أو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران، فكأنه يقول: أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم؟ وإعراب صفحا على هذا مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط، والجواب في الكلام الذي قبله، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ، فإن قيل: كيف قال: إن كنتم على الشرط بحرف إن التي معناها الشك، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف، وتجهيلهم في ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا.
(2/254)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية احتجاج على قريش لأنهم كانوا يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وكانوا مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره، ومقتضى جوابهم أن يقولوا:
خلقهن الله، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم، وأما قوله: الذي جعل لكم فهو من كلام الله لا من كلامهم مِهاداً «1» أي فراشا على وجه التشبيه سُبُلًا أي طرقا تمشون فيها ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار ووزن معلوم وقيل: معناه بقضاء كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تمثيل للخروج من القبور بخروج النبات من الأرض الْأَزْواجَ كُلَّها يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ الضمير يعود على ما تركبون ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان، ويحتمل أن يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الإطلاق، وكان بعض السلف إذا ركب دابة يقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ثم يقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وغالبين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ اعتراف بالحشر فإن قيل: ما مناسبة هذا للركوب؟
فالجواب: أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة، أو سقوطه عن الدابة، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعدا للموت الذي قد يعرض له، وقيل يذكر عند الركوب ركوب الجنازة، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، وفي له لله تعالى، وهذا الكلام متصل بقوله: ولئن سألتهم الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا دون سائر عباده. وقال الزمخشري:
معناه أنهم جعلوا الملائكة جزءا منه وقال بعض اللغويين: الجزء في اللغة الإناث واستشهد على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع.
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أم للإنكار والرد على الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله ومعنى أصفاكم: خصكم. أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهن أدنى، وأصفاكم بالبنين وهم أعلى «2»
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي إذا بشر بالأنثى، وقد ذكر هذا
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: مهدا والباقون: مهادا.
(2) . هذا حسب معايير الزمان الجاهلي، أما اليوم فالأمر مختلف.
(2/255)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
المعنى في النحل والمراد أنهم يكرهون البنات فكيف ينسبونها إلى الله؟ تعالى الله عن قولهم.
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ المراد بمن ينشأ في الحلية النساء، والحلية هي الحلي من الذهب والفضة، وشبه ذلك. ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها. وقرئ «1» ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يربّى فيها، والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله. كأنه قال: أجعلتم لله من ينشأ في الحلية وذلك صفة النقص، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله: وهو في الخصام غير مبين، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجّتها لنقص عقلها، وقلّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره: أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، فحكى عنهم ثلاثة أقوال شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون البنين، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وقرئ «2» عند الرحمن بالنون، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم كقوله والذين عند ربك، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضا الاختصاص والتشريف أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» هذا ردّ على العرب في قولهم: إن الملائكة إناث، والمعنى لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة، ويسألون عنها يوم القيامة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ الضمير في قالوا للكفار، وفي عبدناهم للملائكة، وقال ابن عطية للأصنام: والأول أظهر وأشهر، والمعنى:
احتجاج احتجّ به الذين عبدوا الملائكة، وذلك أنهم قالوا: لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم، فكونه يمهلنا وينعم علينا: دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم، ثم رد الله عليهم بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني أن قولهم بلا دليل وحجة، وإنا هو تخرّص منهم أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن، وهذا أيضا رد عليهم لكونهم ليس لهم كتاب يحتجون به بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وطريقة، والمعنى أنهم ليس لهم حجة، وإنما هم مقلدو آبائهم
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية المعنى كما اتبع
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد والباقون: ينشأ بالتخفيف.
(2) . قرأ نافع وابن عامر وابن كثير: عند الرحمن وقرأ الباقون: عباد الرحمن.
(3) . قرأ نافع أأشهدوا.
(2/256)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة اتبع كل من كان قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة، بل بطريق التقليد المذموم قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم هذا رد على الذين اتبعوا آباءهم، والمعنى قل لهم أتتبعونهم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم، وقرئ «1» قال أو لو جئتكم، والفاعل ضمير يعود على النذير المتقدم، وأما قراءة قل بالأمر فهو خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أمره الله أن يقول ذلك لقريش وقيل: هو للنذير المتقدم، أمره الله أن يقول ذلك لقومه، والأول أظهر، وعلى هذا تكون هذه الجملة اعتراضا بين قصة المتقدمين، فإن قوله قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون: حكاية عن الكفار المتقدمين، وكذلك قوله: فانتقمنا منهم: يعني من المتقدمين.
إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة، ولذلك استوى فيها الواحد والجماعة كعدل وشبهه إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي يحتمل أن يكون استثناء منقطعا، وذلك إن كانوا لا يعبدون الله، أو يكون متصلا إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، وإعرابه على هذا بدل مما تعبدون فهو في موضع خفض، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب سَيَهْدِينِ قال هنا: سيهدين، وقال مرة أخرى: فهو يهدين، ليدل على أن الهداية في الحال والاستقبال [من الله] وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه السلام، وقيل على الله تعالى، والأول أظهر، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي: إنني براء مما تعبدون، ومعناه: التوحيد، ولذلك قيل: يعود على الإسلام لقوله: هو سماكم المسلمين من قبل، وقيل: يعود على لا إله إلا الله، والمعنى متقارب:
أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الإشارة بهؤلاء إلى قريش، وهذا الكلام متصل بما قبله، لأن قريشا من عقب إبراهيم عليه السلام، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم، بل متعتهم بالنعم والعافية، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الضمير في قالوا لقريش، والقريتان مكة والطائف، ومن القريتين: معناها من إحدى القريتين، كقولك: يخرج منهما
__________
(1) . قرأ حفص وابن عامر: قال وقرأ الباقون: قل.
(2/257)
اللؤلؤ والمرجان: أي من أحدهما، وقيل: معناه على رجل من رجلين من القريتين، فالرجل الذي من مكة الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة بن ربيعة، والرجل الذي من الطائف عروة بن مسعود، وقيل حبيب بن عمير، ومعنى الآية أن قريشا استبعدوا نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واقترحوا أن ينزل على أحد هؤلاء، وصفوه بالعظمة يريدون الرئاسة في قومه وكثرة ماله، فردّ الله عليهم بقوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني أن الله يخص بالنبوّة من يشاء من عباده على ما تقتضيه حكمته وإرادته، وليس ذلك بتدبير المخلوقين، ولا بإرادتهم، ثم أوضح ذلك بقوله نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإذا كنا لم نهمل الحظوظ الفانية الحقيرة، فأولى وأحرى أن لا نهمل الحظوظ الشريفة الباقية لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وهو من التسخير في الخدمة: أي رفعنا بعضهم فوق بعض ليخدم بعضهم بعضا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ هذا تحقير للدنيا، والمراد برحمة ربك هنا النبوة وقيل: الجنة.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية: تحقير أيضا للدنيا، ومعناها لولا أن يكفر الناس كلهم، لجعلنا للكفار سقفا من فضة، وذلك لهوان الدنيا على الله، كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء «1» وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ المعارج: الأدراج والسلالم، ومعنى يظهرون يرتفعون، ومنه «فما استطاعوا أن يظهروه» والسرر جمع سرير، والزخرف الذهب «2» ، وقيل أثاث البيت من الستور والنمارق، وشبه ذلك وقيل: هو التزويق والنقش وشبه ذلك من التزيين كقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يعش من قولك: عشي الرجل إذا أظلم بصره، والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة، وقال الزمخشري: يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه، ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين
__________
(1) . أورده المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والضياء المقدسي عن سهل بن سعد الساعدي وبلفظ: تزن بدل: تعدل، وشربة بدل: جرعة.
(2) . قوله: لما متاع قرأ عاصم وحمزة بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف.
(2/258)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
قولك: عمي وتعامى، فمعنى القراءة بالضم: يتجاهل ويجحد معرفته بالحق، والظاهر أن ذلك عبارة عن الغفلة وإهمال النظر، وذكر الرحمن، وقال الزمخشري يريد به القرآن، وقال ابن عطية: يريد به ما ذكر الله به عباده من المواعظ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد لله، ومعنى الآية: أن من غفل عن ذكر الله يسّر الله له شيطانا يكون له قرينا، فتلك عقوبة على الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان، كما أن من داوم على الذكر تباعد عنه الشيطان.
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الضمير في إنهم للشياطين، وضمير المفعول في يصدونهم لمن يعش عن ذكر الرحمن، وجمع الضميرين لأن المراد به جمع حَتَّى إِذا جاءَنا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر جاءانا بضمير الاثنين وهما من يعش وشيطانه، وقرأ الباقون بغير ألف على أنه ضمير واحد وهو من يعش، والضمير في قال: لمن يعش، وقيل:
للشيطان بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فيه قولان. أحدهما أنه يعني المشرق والمغرب، وغلّب أحدهما في التشبيه، كما قيل: القمران، والآخر: أنه يعني المشرقين والمغربين، وحذف المغربين لدلالة المشرقين عليه وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا كلام يقال للكفار في الآخرة، ومعناه أنهم لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا، إذا رأى غيره قد أصابه مثل الذي أصابه، والفاعل في ينفعكم قوله: «إنكم في العذاب مشتركون» ، وإذ ظلمتم: تعليل معناه: بسبب ظلمكم، وقيل: الفاعل مضمر، وهو التبري الذي يقتضيه قوله: «يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين» وأنكم على هذا تعليل، والأول أرجح أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالصم والعمي الكفار إذ كانوا لا يعقلون براهين الإسلام فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، ومقصد الآية وعيد للكفار، والمعنى إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم فإنا سننتقم منهم بعد وفاتك، وإن أخرنا وفاتك إلى حين الانتقام منهم فإنا عليهم مقتدرون، وهذا الانتقام يحتمل أن يريد به قتلهم يوم بدر، وفتح مكة وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا، أو يريد به عذاب الآخرة، وقيل: إن الضمير في منهم منتقمون للمسلمين، وأن معنى ذلك أن الله قضى أن ينتقم منهم بالفتن والشدائد، وإنه أكرم نبيه عليه السلام بأن توفاه قبل أن يرى الانتقام من أمته، والأول أشهر وأظهر.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الضمير في إنه للقرآن أو للإسلام، والذكر هنا بمعنى
(2/259)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
الشرف، وقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم قريش وسائر العرب، فإنهم نالوا بالإسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وصارت فيهم الخلافة والملك، وورد عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمر بعده لقريش، ويحتمل أن يريد بالذكر التذكير والموعظة، فقومه على هذا أمته كلهم وكل من بعث إليهم وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي تسألون عن العمل بالقرآن وعن شكر الله عليه
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الرسل المتقدّمين وهو لم يدركهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول أنه رآهم ليلة الإسراء. الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك. الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة، وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله، بحيث لو سألوا: هل مع الله آلهة يعبدون لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها الآيات هنا المعجزات كقلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء وقيل: البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر ومعنى أكبر من أختها أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على غيرها من الآيات، إنما المعنى أنها إذا نظرت وجدت كبيرة، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة فهو كقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص أو غيره] :
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
هكذا قال الزمخشري، ويحتمل عندي أن يريد ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها، فالمراد أكثر من أختها المتقدّمة عليها.
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ ظاهر كلامهم هذا التناقض، فإن قولهم: يا أيها الساحر يقتضي تكذيبهم له، وقولهم: ادع لنا ربك يقتضي تصديقه، والجواب من وجهين:
أحدهما أن القائلين لذلك كانوا مكذبين، وقولهم ادْعُ لَنا رَبَّكَ يريدون على قولك وزعمك، وقولهم: إننا لمهتدون وعد نووا خلافه، والآخر: أنهم كانوا مصدّقين، وقولهم:
يا أيها الساحر إما أن يكون عندهم غير مذموم، لأن السحر كان علم أهل زمانهم، وكأنهم قالوا: يا أيها العالم، وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ يحتمل أنه ناداهم بنفسه أو أمر مناديا ينادي فيهم قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ قصد بذلك الافتخار على
(2/260)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
موسى، ومصر هي البلد المعروف وما يرجع إليه، ومنتهى ذلك من نهر إسكندرية إلى أسوان بطول النيل وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني: الخلجان الكبار الخارجة من النيل كانت تجرى تحت قصره، وأعظمها أربعة أنهار: نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط، ونهر طولون
أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مذهب سيبويه أن أم هنا متصلة معادلة، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون، ثم وضع قوله: أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فإنهم عنده بصراء، وهذا من وضع السبب موضع المسبب، وكان الأصل أن يقول:
فلا تبصرون أم تبصرون، ثم اقتصر على أم وحذف الفعل الذي بعدها واستأنف قوله: أنا خير على وجه الإخبار. ويوقف على هذا القول على أم وهذا ضعيف وقيل أم بمعنى بل فهي منقطعة مَهِينٌ أي ضعيف وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت قد أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا أن تحل أجيبت دعوته وبقي منها أثر كان معه لكنة، وقيل: يعني العيّ في الكلام، وقوله: ولا يكاد يبين: يقتضي أنه كان يبين، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإثبات فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ «1» يريد لولا ألقاها الله إليه كرامة له ودلالة على نبوّته، والأسورة جمع سوار وأسوار، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي، وكان الرجال حينئذ يجعلونه مُقْتَرِنِينَ أي مقترنين به لا يفارقونه، أو متقارنين بعضهم مع بعض ليشهدوا له ويقيموا الحجة فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي طلب خفتهم بهذه المقالة واستهوى عقولهم آسَفُونا أي أغضبونا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ السلف بفتح السين واللام جمع سالف، وقرأ حمزة والكسائي: سلفا بضمها جمع سليف ومعناه متقدم: أي تقدم قبل الكفار ليكون موعظة لهم، ومثلا يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «2» روي عن ابن عباس وغيره في تفسيره هذه الآية: أنه لما نزل في القرآن ذكر عيسى ابن مريم والثناء عليه، قالت قريش: ما يريد محمد إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا، حكى ذلك ابن عطية والذي ضرب المثل على هذا هو الله في القرآن، ويصدون بمعنى يعرضون، وقال الزمخشري: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
__________
(1) . قرأ حفص: أسورة وقرأ الباقون: أساورة.
(2) . يصدون قرأ نافع وابن عامر والكسائي بضم الدال وقرأ الباقون: يصدّون بكسرها. [.....]
(2/261)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
قريش: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] امتعضوا من ذلك، وقال عبد الله بن الزبعرى: أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا، وقد علمت أن النصارى عبدوه، فإن كان عيسى في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، ففرحت قريش بذلك، وضحكوا وسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] ، ونزلت هذه الآية، فالمعنى على هذا: لما ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا وجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة النصارى إياه، إذا قريش من هذا المثل يصدون: أي يضحكون ويصيحون من الفرح، وهذا المعنى إنما يجري على قراءة يصدون بكسر الصاد بمعنى الضجيج والصياح.
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ «1» يعنون بهو عيسى، والمعنى أنهم قالوا آلهتنا خير أم عيسى، فإن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، لأنه خير من آلهتنا، وهذا الكلام من تمام ما قبله على ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية التي قبله، وأما على ما ذكر ابن عطية فهذا ابتداء معنى آخر، وحكى الزمخشري في معنى هذه الآية قولا آخر: وهو أنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة، وقالوا آلهتنا وهم الملائكة خير أم عيسى فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل: إن قولهم أم هو: يعنون به محمدا صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. قالوا: أآلهتنا خير أم هو يريدون تفضيل آلهتهم على محمد والأظهر أن المراد بهو عيسى وهو قول الجمهور، ويدل على ذلك تقدم ذكره ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإنسان أن يغلب من يناظره سواء غلبه بحق أو بباطل، فإن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى: حصب جهنم، ولكنهم أرادوا المغالطة، فوصفهم الله بأنهم قوم خصمون إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ يعني عيسى والإنعام عليه بالنبوة والمعجزات، وغير ذلك وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ في معناها قولان: أحدهما لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون فيها بني آدم، فقوله منكم يتعلق ببدل المحذوف أو بيخلفون، والآخر لو نشاء لجعلنا منكم، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلق من أولاد الناس ملائكة فلا تنكروا أن خلقنا عيسى من غير والد، حكى ذلك الزمخشري.
__________
(1) . قرأ نافع: آلهتنا. وقرأ أهل الكوفة: أآلهتنا.
(2/262)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الضمير لعيسى وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل للقرآن، فأما على القول بأنه لعيسى أو لمحمد فالمعنى أنه شرط من أشراط الساعة، يوجب العلم بها فسمى الشرط علما لحصول العلم به، ولذلك قرأ ابن عباس لعلم بفتح العين واللام: أي علامة وأما على القول بأنه للقرآن: فالمعنى أنه يعلمكم بالساعة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ إنما بيّن البعض دون الكل، لأن الأنبياء إنما يبينون أمور الدين لا الدنيا، وقيل: بعض بمعنى كل وهذا ضعيف فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ ذكر في مريم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي ينتظرون، والضمير لقريش أو للأحزاب الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الأخلاء: جمع خليل وهو الصديق، وإنما يعادي الخليل خليله يوم القيامة، لأن الضرر دخل عليه من صحبته، ولذلك استثنى المتقين، لأن النفع دخل على بعضهم من بعض يا عِبادِ «1» الآية. تقديره: يقول الله يوم القيامة للمتقين يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون تُحْبَرُونَ أي تنعمون وتسرون وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي يائسون من الخير وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ المعنى أنهم طلبوا الموت ليستريحوا من العذاب، وروي أن مالكا يبقى بعد ذلك ألف سنة، وحينئذ يقول لهم: إنكم ماكثون أي دائمون في النار لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ الآية من كلام الله تعالى لأهل النار، أو من كلام الله لقريش في الدنيا أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ الضمير لكفار قريش، والمعنى أنهم إن أحكموا كيد النبي صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون نصره وحمايته
أَمْ يَحْسَبُونَ الآية: روي أنها نزلت في
__________
(1) . يا عبادي: قرأها أهل المدينة (نافع) والشام بإثبات الياء وصلا ووقفا. وحذفها أهل مكة والكوفة في الحالين.
(2/263)
الأخنس بن شريق والأسود بن عبد يغوث اجتمعا وقال الأخنس: أترى الله يسمع سرنا، فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ السرّ ما يحدث الإنسان به نفسه أو غيره في خفية، والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم بَلى أي نسمع ورسلنا مع ذلك تكتب ما يقولون، والرسل هنا الملائكة الحافظون للأعمال.
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ في تأويل الآية أربعة أقوال: الأول أنها احتجاج وردّ على الكفار، على تقدير قولهم، ومعناها لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد كما يعظم خدم الملك ولد الملك لتعظيم والده، ولكن ليس للرحمن ولد، فلست بعابد إلا الله وحده، وهذا نوع من الأدلة يسمى دليل التلازم لأنه علق عبادة الولد بوجوده، ووجوده محال فعبادته محال، القول الثاني إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله وحده، وكذبكم في قولكم أن له ولدا، والعابدين على هذين القولين بمعنى العبادة، القول الثالث أن العابدين بمعنى المنكرين: يقال عبد الرجل إذا أنف وتكبر وأنكر الشيء، والمعنى: إن زعمتم أن للرحمن ولدا فأنا أول المنكرين لذلك، وإن على هذه الأقوال الثلاثة شرطية، القول الرابع قال قتادة وابن زيد: إن هنا نافية بمعنى ما كان للرحمن ولد وتم الكلام، ثم ابتدأ قوله فأنا أول العابدين، والأول هو الصحيح لأنه طريقة معروفة في البراهين والأدلة، وهو الذي عوّل عليه الزمخشري، وقال الطبري: هو ملاطفة الخطاب ونحوه قوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:
24] وقال ابن عطية منه قوله تعالى في مخاطبة الكفار أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] يعني شركائي على قولكم فَذَرْهُمْ الآية موادعة منسوخة بالسيف.
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي هو الإله لأهل الأرض وأهل السماء، والمجرور يتعلق بإله، لأن فيه معنى الوصفية وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم زمان وقوعها وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أي لا يملك كل من عبد من دون الله أن يشفع عند الله، لأن الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فهو المالك للشفاعة وحده إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع، والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه، ويحتمل على هذا أن يكون من شهد مفعولا بالشفاعة على إسقاط حرف الجر تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد
(2/264)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
بالحق الشافع فيحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا وأن يكون متصلا إلا فيمن عبد عيسى والملائكة، والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا من شهد بالحق
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ القيل مصدر كالقول، والضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرئ قيله بالنصب والخفض «1» وقرئ في غير السبع بالرفع، فأما النصب فقيل هو معطوف على سرهم ونجواهم، وقيل: هو معطوف على موضع الساعة لأنها مفعول أضيف إلى المصدر وقيل: معطوف على مفعول محذوف تقديره: يكتبون أقوالهم وقيله، وأما الخفض فقيل:
إنه معطوف على لفظ الساعة، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله بالحق، وأما على الرفع فقيل: إنه مبتدأ وخبره ما بعده، وضعّف الزمخشري ذلك كله وقال: إنه من باب القسم فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم كقولك: الله لأضربنّ زيدا والرفع كقولهم:
أيمن الله ولعمرك، وجواب القسم قوله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قال: أقسم بقيله أن هؤلاء قوم لا يؤمنون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف وَقُلْ سَلامٌ تقديره أمري سلام:
أي مسالمة، وقيل سلام عليكم على جهة الموادعة وهو منسوخ على الوجهين فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «2» تهديد.
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة: وقيله: بكسر اللام، وقرأ الباقون: وقيله بالنصب.
(2) . قرأ نافع وابن عامر: تعلمون بالتاء وقرأ الباقون: يعلمون بالياء.
(2/265)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
سورة الدخان
مكية وآياتها 59 نزلت بعد الزخرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الدخان) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ذكر في الزخرف وهو قسم جوابه إنا أنزلناه، وقيل إنا كنا منذرين وهو بعيد إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يعني ليلة القدر من رمضان، وكيفية إنزاله فيها أنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء، وقيل: معناه أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر، وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان وذلك باطل، لقوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» مع قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» [البقرة: 185] فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ معنى يفرق يفصل ويخلص، والأمر الحكيم أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم في ذلك العام نسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ليتمثل الملائكة ذلك بطول السنة القابلة، وقيل: إن هذا يكون ليلة النصف من شعبان وهذا باطل لما قدمنا أَمْراً مِنْ عِنْدِنا مفعول بفعل مضمر على الاختصاص قاله الزمخشري، وقال ابن عطية نصب على المصدر، وقيل: على الحال مُرْسِلِينَ إرسال الرسل عليهم السلام، وقيل من إرسال الرحمة والأول أظهر «1» .
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ في هذا قولان أحدهما قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن الدخان يكون قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين وهو من أشراط الساعة، وروى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن أول أشراط الساعة الدخان، والثاني: قول ابن مسعود إن الدخان عبارة عما أصاب قريشا حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدب، فكان الرجل يرى دخانا بينه وبين السماء من
__________
(1) . الآية [7] : ربّ السموات والأرض: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ربّ بالكسر والباقون: بالضم.
(2/266)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
شدّة الجوع. قال ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان واللزام والبطشة والقمر والردم
هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أو من قول الناس لما أصابهم الدخان، وهذا أظهر لأن ما بعده من كلامهم باتفاق فيكون الكلام متناسقا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى هذا من كلام الله تعالى، ومعناه استبعاد تذكير الكفار مع تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والواو في قوله: وقد جاءهم واو الحال رَسُولٌ مُبِينٌ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وَقالُوا مُعَلَّمٌ أي يعلمه بشر الْبَطْشَةَ الْكُبْرى قال ابن عباس: هي يوم القيامة، وقال ابن مسعود: هي يوم بدر.
رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني موسى عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أن هنا مفسرة نائب مناب القول، وأدّوا فعل أمر من الأداء وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل، والمعنى أرسلوا بني إسرائيل كما قال في طه «أرسل معنا بني إسرائيل» وقيل: عباد الله منادى، والمعنى أدّوا إليّ الطاعة والإيمان يا عباد الله، والأول أظهر وَأَنْ لا تَعْلُوا أي لا تتكبروا بِسُلْطانٍ أي حجة وبرهان أَنْ تَرْجُمُونِ اختلف هل معناه الرجم بالحجارة أو السب والأول أظهر فَاعْتَزِلُونِ أي اتركون وخلوا سبيلي فَأَسْرِ بِعِبادِي هذا أمر من الله لموسى عليه السلام، والعباد هنا بنو إسرائيل أي أخرج بهم بالليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ إخبار أن فرعون وجنوده يتبعونهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي ساكنا على هيئته وقيل: يابسا وروي أن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال الله له: اتركه كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وقيل: معنى رهوا سهلا، وقيل: منفرجا وَعُيُونٍ يحتمل أن يريد الخلجان الخارجة من النيل، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد وَمَقامٍ كَرِيمٍ فيه قولان المنابر والمساكن الحسان وَنَعْمَةٍ من التنعم بالأرزاق وغيرها فاكِهِينَ أي متنعمين، وقيل: فرحين وقيل:
أصحاب فاكهة كَذلِكَ في موضع نصب أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، أو في موضع رفع تقديره: الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل حكاه الزمخشري والماوردي، وضعفه ابن عطية قال: لأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا
(2/267)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
إلى مصر في ذلك الزمان «1» ، وقد قال الحسن إنهم رجعوا إليها، ويدل على أن المراد بنو إسرائيل قوله في الشعراء: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 59] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه ثلاثة أقوال: الأول أنه عبارة عن تحقيرهم، وذلك أنه إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيمه: بكت عليه السماء والأرض على وجه المجاز والمبالغة، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم أحقر من أن يبالى بهم. الثاني قيل: إذا مات المؤمن بكى عليه من الأرض موضع عبادته، ومن السماء موضع صعود عمله، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم كفار، أو ليس لهم عمل صالح: الثالث أن المعنى ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، والأوّل أفصح وهو منزع معروف في كلام العرب وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي مؤخرين
مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب عالِياً أي متكبرا اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي كنا عالمين بأنهم مستحقون لذلك عَلَى الْعالَمِينَ أي على أهل زمانهم بَلؤُا مُبِينٌ أي اختبار.
إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش فَأْتُوا بِآبائِنا خاطبت قريش بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه التعجيز، روي أنهم طلبوا أن يحيي لهم قصي بن كلاب يسألوه عن أحوال الآخرة أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ كان تبع ملك من حمير وكان مؤمنا وقومه كفارا، فذم قومه ولم يذمه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبيّ، ومعنى الآية: أقريش أشدّ وأقوى أم قوم تبع والذين من قبلهم من الكفار، وقد أهلكنا قوم تبع وغيرهم لما كفروا فكذلك نهلك هؤلاء، فمقصود الكلام تهديد وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على قوم تبع: وقيل هو مبتدأ فيوقف على ما قبله والأول أصح لاعِبِينَ حال منفية ذكرت في الأنبياء يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى المولى هنا يعم الولي والقريب وغير ذلك من الموالي إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ استثناء منقطع إن أراد بقوله ولا هم ينصرون الكفار، ومتصل إن أراد بذلك جميع الناس طَعامُ الْأَثِيمِ أي الفاجر وهو من الإثم، وقيل: يعني أبا جهل
__________
(1) . قلت: الثابت أن موسى ومن معه ظلوا في التيه 40 سنة ثم من بقي منهم دخلوا الأرض المقدسة وأما قوم فرعون فقد قام في مصر سلالة أخرى. والله أعلم.
(2/268)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
فالألف واللام للعهد، والأظهر أنها للجنس فتعم أبا جهل وغيره
كَالْمُهْلِ «1» هو درديّ الزيت، وقيل ما يذاب من الرصاص وغيره فَاعْتِلُوهُ أي سوقوه بتعنيف ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ المصبوب في الحقيقة إنما هو الحميم وهو الماء الحار، ولكن جعل المصبوب هنا العذاب المضاف إلى الحميم مجازا لأن ذلك أبلغ وأشد تهويلا، وقد جاء الأصل في قوله في الحج [19] يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يقال هذا للكافر على وجه التوبيخ والتهكم به، أي كنت العزيز الكريم عند نفسك، وروي أن أبا جهل قال: ما بين جبليها أعز مني ولا أكرم. فنزلت الآية تَمْتَرُونَ تفتعلون من المرية وهو الشك.
فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر بضم الميم أي موضع إقامة، والباقون بفتحها أي موضع قيام والمراد به الجنة، والأمين من الأمن أي مأمون فيه، وقيل: من الأمنة وصف به المكان مجازا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السندس الرقيق من الديباج والإستبرق الغليظ منه كَذلِكَ في موضع رفع أي الأمر كذلك، أو في موضع نصب أي مثل ذلك زوّجناهم يَدْعُونَ فِيها أي يدعون خدامهم إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، والمعنى لا يذوقون فيها الموت: قد ذاقوا الموتة الأولى خاصة قبل ذلك، ولولا قوله فيها لكان متصلا لعموم لفظ الموت، وقيل: إلا هنا بمعنى بعد وذلك ضعيف يَسَّرْناهُ أي سهلناه والضمير للقرآن بِلِسانِكَ أي بلغتك وهي لسان العرب فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي ارتقب نصرنا لك وإهلاكهم، فإنهم مرتقبون ضدّ ذلك، ففيه وعد له ووعيد لهم.
__________
(1) . كالمهل يغلي: قرأ ابن كثير وحفص بالياء والباقون: تغلي بالتاء.
(2/269)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
سورة الجاثية
مكية إلا آية 14 فمدنية وآياتها 37 نزلت بعد الدخان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الجاثية) تَنْزِيلُ ذكر في الزمر، وما بعد ذلك تنبيه على الاعتبار بالموجودات، وقد ذكر معناه في مواضع وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك مبالغة من الإفك وهو الكذب، والأثيم من الإثم، وقيل:
إنها نزلت في النضر بن الحارث ولفظها على العموم يُصِرُّ أي يدوم على حاله من الكفر، وإنما عطفه بثم لاستعظام الإصرار على الكفر، بعد سماعه آيات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا أي إذا بلغه منها شيء، ولم يرد العلم الحقيقي مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ كقوله مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ، وقد ذكر في إبراهيم: 17 وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني الشمس والقمر والملائكة وبني آدم والحيوانات والنبات وغير ذلك جَمِيعاً مِنْهُ أي كل نعمة فمن الله تعالى، والمجرور في موضع الحال أو خبر ابتداء مضمر، وقرأ ابن عباس:
منه «1» قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أمر الله المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار، ولا يؤاخذوهم إذا آذوهم، وكان ذلك في صدر الإسلام، قيل: إنها منسوخة بالسيف، «2»
__________
(1) . قراءة ابن عباس: منه وبمراجعتها في الطبري لم يتضح المراد ولعلّها: منّه أي عطاؤه.
(2) . رجز أليم: قرأ ابن كثير وحفص: رجز أليم وقرأ الباقون: رجز أليم كما في سورة [سبأ: 5] .
(2/270)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
وقيل: ليست بمنسوخة، لأن احتمال الأذى مندوب إليه على كل حال، وأما القتال على الإسلام فليس من ذلك، وروي: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل من الكفار فأراد عمر أن يبطش به، وأيام الله هي نعمه، فالرجاء على أصله، وقيل: أيام الله عبارة عن عقابه، فالرجاء بمعنى الخوف ويغفروا مجزوم في جواب شرط مقدر دل عليه قل، قال الزمخشري حذف معمول القول، والمعنى: قل لهم اغفروا يغفروا لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فاعل يجزي ضمير يعود على الله، وقرئ «1» بنون المتكلم، وقال ابن عطية إن الآية وعيد، فالقوم على هذا هم الذين لا يرجون أيام الله ويكسبون يعني السيئات، وقال الزمخشري: القوم هم الذين آمنوا وجزاؤهم الثواب بما كانوا يكسبون بكظم الغيظ واحتمال المكروه
عَلَى الْعالَمِينَ ذكر في البقرة: 47 بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي معجزات من أمر الدين جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ أي ملة ودين.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
أم هنا للإنكار، واجترحوا اكتسبوا، والمراد بالذين اجترحوا السيئات الكفار لمقابلته بالذين آمنوا، ولأن الآية مكية: وقد يتناول لفظها المذنبين من المؤمنين، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال يردّدها ويبكي طول الليل، ويقول لنفسه: من أي الفريقين أنت؟ ومعناها:
إنكار ما حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات، وفي تأويلها مع ذلك قولان: أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار، لا في المحيا ولا في الممات، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] وكقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
هذه الجملة بدل من الكاف في قوله:
حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات، وفي تأويلها مع ذلك قولان: أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار، لا في المحيا ولا في الممات، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] وكقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
هذه الجملة بدل من الكاف في قوله: كَالَّذِينَ آمَنُوا وهي مفسرة للتشبيه، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه الكفار، وقيل:
__________
(1) . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي قوما وقرأ الباقون: ليجزي.
(2/271)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
هي كلام مستأنف والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء لأن كل واحد يموت على ما عاش عليه، وهذا المعنى بعيد، والصحيح أنها من تمام ما قبلها على المعنى الذي اخترناه، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره محياهم ومماتهم، والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل، ومن قرأ سواء «1» بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل، ومحياهم فاعل بسواء، لأنه في معنى مستوى ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ معطوف على قوله بالحق، لأن فيه معنى التعليل، أو على تعليل محذوف تقديره:
خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس بما كسبت.
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي أطاعه حتى صار له كالإله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي علم من الله سابق، وقيل: على علم من هذا الضال بأنه على ضلال، ولكنه يتبع الضلال معاندة خَتَمَ ذكر في البقرة [7] فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: من بعد إضلال الله إياه، ويحتمل أن يريد فمن يهديه غير الله وَقالُوا الضمير لمن اتخذ إلهه هواه أو لقريش نَمُوتُ وَنَحْيا فيه أربع تأويلات: أحدها أنهم أرادوا يموت قوم ويحيا قوم، والآخر نموت نحن ويحيا أولادنا، الثالث نموت حين كنا عدما أو نطفا، ونحيا في الدنيا، والرابع نموت الموت المعروف، ونحيا قبله في الدنيا فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، ومقصودهم على كل وجه إنكار الآخرة، ويظهر أنهم كانوا على مذهب الدهرية [الملاحدة] لقولهم: وما يهلكنا إلا الدهر «2» ، فردّ الله عليهم بقوله: وما لهم بذلك من علم الآية قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا ذكر في الدخان [36] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ الآية: ردّ على المنكرين للحشر والاستدلال على وقوعه بقدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة.
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي تجثو على الركب، وتلك هيئة الخائف الذليل
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب والباقون بالرفع.
(2) . الدهر: باصطلاح الفلاسفة هو الزمان. وأما شرعا فقد ورد الحديث: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر. رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص: 395 ويكون معنى الحديث: الله سبحانه هو خالق الزمان وكل ما يجري فيه.
(2/272)
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي إلى صحائف أعمالها، وقيل: الكتاب المنزل عليها، والأول أرجح لقوله هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ الآية: فإن قيل: كيف أضاف الكتاب تارة إليهم وتارة إلى الله تعالى؟ فالجواب: أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتة فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه، وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نأمر الملائكة الحافظين بكتب أعمالكم، وقيل: إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ، ثم يمسكونه عندهم فتأتي أفعال العباد على ذلك فتكتبها الملائكة، فذلك هو الاستنساخ وكان ابن عباس يحتج على ذلك بأن يقول: لا يكون الاستنساخ إلا من أصل أَفَلَمْ تَكُنْ تقديره: يقال لهم ذلك وَحاقَ ذكر مرارا الْيَوْمَ نَنْساكُمْ النسيان هنا بمعنى الترك، وأما في قوله: كما نسيتم فيحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الذهول وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى وهي الرضا.
(2/273)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
سورة الأحقاف
مكية إلا الآيات 10، 15، 35 فمدنية وآياتها 35 نزلت بعد الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الأحقاف) تَنْزِيلُ ذكر في الزمر إِلَّا بِالْحَقِّ ذكر مرارا وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة أَرُونِي ماذا خَلَقُوا احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين، فالأمر بمعنى التعجيز شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي نصيب ائْتُونِي بِكِتابٍ تعجيز لأنهم ليس لهم كتاب يدل على الإشراك بالله، بل الكتب كلها ناطقة بالتوحيد أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم قديم يدل على ما يقولون، وقيل: معناه من علم تثيرونه أي تستخرجونه، وقيل: هو الإسناد، وقيل: هو الخط في الرمل، وكانت العرب تتكهن به، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان نبي من الأنبياء يخط في الرمل فمن وافق خطه فذاك «1» وَمَنْ أَضَلُّ الآية.
معناها لا أحد أضل ممن يدعو إلها لا يستجيب له، وهي الأصنام فإنها لا تسمع ولا تعقل، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم، لأنها لا تسمعه وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي كان الأصنام أعداء للذين عبدوها وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ الضمير في كانوا للأصنام: أي تتبرأ الأصنام من الذين عبدوها، وإنما ذكر الأصنام بضمائر مثل ضمائر العقلاء لأنه أسند إليهم ما يسند إلى العقلاء، من الاستجابة والغفلة والعداوة
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لو افتريته لعاقبني الله على الافتراء عقوبة لا تقدرون على دفعها، ولا تملكون شيئا من ردّها عليه، فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب الله هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي بما تتكلمون به، يقال: أفاض الرجل في الحديث إذا خاض فيه واستمر قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ومعاوية بن الحكم السلمي ج 5 ص 447.
(2/274)
البدع والبديع من الأشياء: ما لم ير مثله أي ما كنت أول رسول، ولا جئت بأمر لم يجيء به أحد قبلي، بل جئت بما جاء به ناس كثيرون قبلي، فلأي شيء تنكرون ذلك وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فيها أربعة أقوال: الأوّل أنها في أمر الآخرة وكان ذلك قبل أن يعلم أنه في الجنة، وقبل أن يعلم أن المؤمنين في الجنة وأن الكفار في النار، وهذا بعيد، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله والثاني أنها في أمر الدنيا: أي لا أدري بما يقضي الله عليّ وعليكم، فإن مقادير الله مغيبة وهذا هو الأظهر. الثالث ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما تلزمه الشريعة. الرابع أن هذا كان في الهجرة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض بها نخل، فقلق المسلمون لتأخير ذلك فنزلت هذه الآية قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ معنى الآية: أرأيتم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ثم حذف قوله ألستم ظالمين وهو الجواب، لأنه دل على أن الله لا يهدي القوم الظالمين وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، فالمعنى: أرأيتم إن اجتمع كون القرآن من عند الله، مع شهادة شاهد من بني إسرائيل على مثله، ثم آمن به هذا الشاهد وكفرتم أنتم، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ واختلف في الشاهد المذكور على ثلاثة أقوال: أحدها أنه عبد الله بن سلام، فقيل على هذا إن الآية مدنية، لأنه إنما أسلم بالمدينة، وقيل إنها مكية وأخبر بشهادته قبل وقوعها ثم وقعت على حسب ما أخبر، وكان عبد الله بن سلام يقول فيّ نزلت الآية، الثاني أنه رجل من بني إسرائيل كان بمكة: الثالث أنه موسى عليه السلام ورجّح ذلك الطبري. والضمير في مثله للقرآن أي يشهد على مثله فيما جاء به من التوحيد والوعد والوعيد، والضمير في آمن للشاهد فإن كان عبد الله بن سلام أو الرجل الآخر فإيمانه بيّن، وإن كان موسى عليه السلام، فإيمانه هو تصديقه بأمر محمد صلى الله عليه وسلم وتبشيره به.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي لو كان الإسلام خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، والقائلون لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء كبلال وعمار وصهيب وقيل بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة، وقيل: بل قالها اليهود لما أسلم عبد الله بن سلام، والأول أرجح لأن الآية مكية، وكانت مقالة قريش بمكة. وأما مقالة الآخرين فإنما كانت بعد الهجرة، ومعنى الذين آمنوا من أجل الذين آمنوا: أي قالوا ذلك عنهم في غيبتهم، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام، لأنه لو كان خطابا لقالوا ما سبقتمونا وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي لما لم يهتدوا قالوا هذا إفك قديم ونحو هذا ما جاء في المثل: من جهل شيئا عاداه، ووصفه
(2/275)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
بالقدم لأنه قد قيل قديما، فإن قيل: كيف تعمل فسيقولون في إذ وهي للماضي والعامل مستقبل؟ فالجواب: أن العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون، قال ذلك الزمخشري، ويظهر لي أن إذ هنا بمعنى التعليل لا ظرفية بمعنى الماضي فلا يلزم السؤال، والمعنى أنهم قالوا: هذا إفك بسبب أنهم لم يهتدوا به، وقد جاءت إذ بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب، ومنه وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف: 39] أي بسبب ظلمكم
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً الضمير في قبله للقرآن وكتاب موسى هو التوراة، وإماما حال، ومعناه: يقتدى به وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا «1» الإشارة بهذا إلى القرآن، ومعنى مصدق مصدق بما قبله من الكتب، وقد ذكرنا ذلك في البقرة [89] ولسان حال من الضمير في مصدق، وقيل: مفعول بمصدق أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى الله عليه وسلم، واختار هذا ابن عطية اسْتَقامُوا ذكر في حم [السجدة:
30] إِحْساناً «2» ذكر في العنكبوت [8] .
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة، ويقال كره بفتح الكاف وضمها بمعنى واحد «3» وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي مدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا، وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين، وذلك إما أن يكون مدة الحمل ستة أشهر ومدة الرضاع حولين كاملين، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر، ومن هذا أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعلماء أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإنما عبّر عن مدة الرضاع بالفصال وهو الفطام لأنه منتهى الرضاع بَلَغَ أَشُدَّهُ ذكر في يوسف [22] وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً هذا حدّ كمال العقل والقوة، ويقال: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل: إنها عامة
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ «4» أي في جملة
__________
(1) . بقية الآية: لتنذر الذي ظلموا هكذا قرأها نافع وابن عامر بالتاء، والباقون: لينذر بالياء. [.....]
(2) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: إحسانا وقرأ الباقون: حسنا.
(3) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: كرها بفتح الكاف وقرأ الباقون: كرها بضمها.
(4) . الآية [16] قوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ... وَنَتَجاوَزُ عَنْ. هكذا قرأها حمزة والكسائي وحفص وقرأها الباقون أولئك الذين يتقبل ... ويتجاوز عن بالياء.
(2/276)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
أصحاب الجنة كما تقول: رأيت فلانا في الناس، أي مع الناس.
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق لوالديه، ويدل على أنها عامة قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بصيغة الجمع، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه القول، وقد ذكرنا معنى أف في الإسراء [23] أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ الضمير لوالديه أي يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول منهما ثم يقولان له:
ويلك ثم يأمرانه بالإيمان: فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين: أي قد سطره الأولون في كتبهم، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا «1» أي للمحسنين والمسيئين درجات في الآخرة بسبب أعمالهم، فدرجات أهل الجنة إلى علو، ودرجات أهل النار إلى سفل، وليوفيهم تعليل بفعل محذوف وبه يتعلق تقديره: جعل جزاءهم درجات ليوفيهم أعمالهم وَيَوْمَ يُعْرَضُ العامل فيه محذوف تقديره اذكر أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ تقديره يقال لهم: أذهبتم طيباتكم والطيبات هنا الملاذ من المآكل وغيرها وقرأ أكثر القراء أذهبتم بهمزة واحدة على الخبر، وابن عامر بهمزتين على التوبيخ، والآية في الكفار بدليل قوله: يعرض الذين كفروا وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله وقد رآه اشترى لحما أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية عَذابَ الْهُونِ أي العذاب الذي يقترن به هوان.
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا عليه السلام بِالْأَحْقافِ جمع حقف وهو الكدس من الرمل، واختلف أين كانت فقيل بالشام، وقيل: بين عمان ومهرة وقيل: بين عمان وحضرموت، والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي تقدمت من قبله ومن بعده، والنذر جمع نذير، فإن قيل: كيف يتصور تقدمها من بعده؟ فالجواب أن هذه الجملة اعتراض، وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده،
__________
(1) . قوله: وليوفيهم أعمالهم: قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. وقرأها الباقون: لنوفيهم بالنون.
(2/277)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
وقيل: معنى من خلفه في زمانه قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي قل: إن العذاب الذي قلتم ائتنا به ليس لي علم متى يكون، وإنما يعلمه الله، وما عليّ إلا أن أبلغكم ما أرسلت به فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، والضمير في رأوه يعود على ما تعدنا أو على المرئي المبهم الذي فسره قوله عارضا قال الزمخشري: وهذا أعرب وأفصح، وروي أنهم كانوا قد قحطوا مدّة، فلما رأوا هذا العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به فقال لهم هود عليه السلام: بل هو ما استعجلتم به من العذاب وقوله: ريح بدل من ما استعجلتم أو خبر ابتداء مضمر تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «1» عموم يراد به الخصوص وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ هذا خطاب لقريش على وجه التهديد أي مكنا عادا فيما لم نمكنكم فيه من القوة والأموال وغير ذلك، ثم أهلكنا لما كفروا وإن هنا نافية بمعنى ما، وعدل عن ما كراهية لاجتماعها مع التي قبلها، وقيل: إن شرطية، وجوابها محذوف تقديره: إن مكنّاكم فيه طغيتم، قال ابن عطية: وهذا تنطع في التأويل وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يعني بلاد عاد وثمود وسبأ وغيرها، والمراد إهلاك أهلها فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الآية عرض معناه النفي أي لم تنصرهم آلهتهم التي عبدوا من دون الله قُرْباناً أي تقربوا بهم إلى الله وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وانتصاب قربانا على الحال، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا وآلهة بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري، وقد أجازه ابن عطية بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي تلفوا لهم «2» وغابوا عن نصرهم حين احتاجوا إليهم.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم نحوك، والنفر دون العشرة، وروي أن الجن كانوا سبعة وكانوا كلهم ذكرانا، لأن النفر الرجال دون النساء، وكانوا من أهل نصيبين، وقيل من أهل الجزيرة «3» ، واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قيل: إنه لم يرهم، ولم
__________
(1) . قوله فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. هكذا قرأها عاصم وحمزة وقرأها الباقون: لا ترى إلا مساكنهم.
(2) . كذا في المطبوعة ولعل ثمة خطأ وصحته: خذلوهم. أو ما أشبه والله أعلم.
(3) . هي الجزيرة الفراتية وتقع في الزاوية الشرقية الشمالية من بلاد الشام على الحدود التركية الحالية.
(2/278)
يعلم باستماعهم حتى أعلمه الله بذلك، وقيل: بل علم بهم واستعد لهم واجتمع معهم، وقد ورد في ذلك عن عبد الله بن مسعود أحاديث مضطربة، وسبب استماع الجن أنهم لما طردوا من استراق السمع من السماء برجم النجوم قالوا: ما هذا إلا لأمر حدث، فطافوا بالأرض ينظرون ما أوجب ذلك، حتى سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الفجر في سوق عكاظ، فاستمعوا إليه وآمنوا به أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى في هذا دلالة على أنهم كانوا على دين اليهود، وقيل: كانوا لم يعلموا ببعث عيسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ذكر في البقرة [89] داعِيَ اللَّهِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ من هنا للتبعيض على الأصح، أي يغفر لكم الذنوب التي فعلتم قبل الإسلام، وأما التي بعد الإسلام فهي في مشيئة الله، وقيل: معنى التبعيض أن المظالم لا تغفر وقيل: إن من زائدة وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي من النار، واختلف الناس هل للجن ثواب زائد على النجاة من النار، أم ليس لهم ثواب إلا النجاة خاصة وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ الآية: يحتمل أن يكون من كلام الجن، أو من كلام الله تعالى، ومعنى ليس بمعجز أي لا يفوت أَوَلَمْ يَرَوْا الآية: احتجاج على بعث الأجساد بخلق السموات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرفه، فالمعنى أنه تعالى علم كيف خلق السموات والأرض، وأحكم خلقتها، فلا شك أنه قادر على إحياء الموتى بِقادِرٍ في موضع رفع لأنه خبر أن، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على أن وخبرها بَلى جواب لما تقدم، أي هو قادر على أن يحي الموتى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي اصبر على تكذيب قومك وأولوا العزم هم، نوح وإبراهيم وعيسى وموسى، وقيل: هم الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام لقوله: فبهداهم اقتده، وقيل: كل من لقي من أمته شدة، وقيل: الرسل كلهم أولوا عزم، فمن الرسل على هذا لبيان الجنس وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لا تستعجل نزول العذاب بهم، فإنهم صائرون إليه فإنهم إذا هلكوا كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لاستقصار أعمارهم بَلاغٌ خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا الذي وعظتم به بلاغ بمعنى: كفاية في الموعظة، أو بلاغ من الرسول عليه الصلاة والسلام، أي بلغ هذه المواعظ والبراهين.
(2/279)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
سورة محمد
مدنية الآية 13 فنزلتفي الطريق أثناء الهجرة وآياتها 38 نزلت بعد الهجرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة محمد صلى الله عليه وسلم [وتسمى سورة القتال] الَّذِينَ كَفَرُوا يعني كفار قريش، وعموم اللفظ يعم كل كافر، كما أن قوله بعد هذا: والذين آمنوا يعني الصحابة، وعموم اللفظ يصلح لكل مؤمن وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل أن يكون صدّوا بمعنى: أعرضوا فيكون غير متعد أو يكون بمعنى صدوا الناس فيكون متعديا، وسبيل الله: الإسلام والطاعة أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها وأحبطها، وقيل:
المراد بأعمالهم هنا ما أنفقوا في غزوة بدر فإن هذه الآية نزلت بعد بدر، واللفظ أعم من ذلك وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ هذا تجريد للاختصاص والاعتناء، بعد عموم قوله:
آمنوا وعملوا الصالحات ولذلك أكده بالجملة الاعتراضية، وهو قوله: وهو الحق من ربهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قيل: معناه أصلح حالهم وشأنهم، وحقيقة البال الخاطر الذي في القلب، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، فالمعنى: إصلاح دينهم بالإيمان والإخلاص والتقوى.
فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله فاضربوا الرقاب ضربا، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه، والمراد، اقتلوهم. ولكن عبّر عنه بضرب الرقاب، لأنه الغالب في صفة القتل حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي هزمتموهم، والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر فَشُدُّوا الْوَثاقَ عبارة عن الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً المن: العتق، والفداء: فك الأسير بمال، وهما جائزان.
فإن مذهب مالك أن الإمام مخيّر في الأسارى بين خمسة أشياء: وهي: المن والفداء والقتل والاسترقاق وضرب الجزية. وقيل: لا يجوز المنّ ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله: اقتلوا المشركين فلا يجوز على هذا إلا قتلهم. والصحيح أنها محكمة وانتصب منّا وفداء على المصدرية، والعامل فيهما فعلان مضمران حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها الأوزار في اللغة:
(2/280)
الأثقال، فالمعنى حتى تذهب وتزول أثقالها، وهي آلاتها وقيل: الأوزار: الآثام، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين، واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل: حتى يسلموا جميعا فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل: حتى تقتلوهم وتغلبوهم، وقيل: حتى ينزل عيسى ابن مريم: قال ابن عطية: ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا، كما تقول: أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة ذلِكَ تقديره: الأمر ذلك وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ «1» أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين، وأن يبلو بعض الناس ببعض عَرَّفَها لَهُمْ أي جعلهم يعرفون منازلهم فيها، فهو من المعرفة وقيل: معناه طيّبها لهم فهو من العرف وهو طيب الرائحة، وقيل: معناه شرّفها ورفعها، فهو من الأعراف التي هي الجبال فَتَعْساً لَهُمْ أي عثارا وهلاكا. وانتصابه على المصدرية، والعامل فيه فعل مضمر، وعلى هذا الفعل عطف وأضلّ أعمالهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي لكفار قريش أمثال عاقبة الكفار المتقدمين من الدمار والهلاك.
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي وليهم وناصرهم، وكذلك وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ معناه: لا ناصر لهم، ولا يصح أن يكون المولى هنا بمعنى السيد، لأن الله مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] لأن معنى المولى مختلف في الموضعين فمعنى مولاهم الحق: ربهم وهذا على العموم في جميع الخلق بخلاف قوله: مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا فإنه خاص بالمؤمنين لأنه بمعنى الولي والناصر وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ عبارة عن كثرة أكلهم، وعن غفلتهم عن النظر كالبهائم مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني مكة. وخروجه صلى الله عليه وآله وسلم من وقت الهجرة، ونسب الإخراج إلى القرية. والمراد أهلها، لأنهم آذوه حتى خرج أَهْلَكْناهُمْ الضمير للقرى المتقدمة المذكورة في قوله: وكأين من قرية وجمعه حملا على المعنى والمراد أهلكنا: أهلها أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي على حجة ويعني به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يعني قريشا بقوله: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واللفظ أعم من ذلك.
__________
(1) . قوله تعالى: والذين قاتلوا في سبيل الله. قرأها أبو عمرو وحفص قتلوا. والباقون: قاتلوا.
(2/281)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
مَثَلُ الْجَنَّةِ ذكر في الرعد [35] غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغير كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ تقديره: أمثل أهل الجنة المذكورة كمن هو خالد في النار؟ فحذف هذا على التقدير والمراد به النفي، وإنما حذف لدلالة التقدير المتقدم وهو قوله: أفمن كان على بينة من ربه وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين، وجاء يستمعون «1» بلفظ الجمع رعيا لمعنى من قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ روي أنه عبد الله بن مسعود ماذا قالَ آنِفاً كانوا يقولون ذلك على أحد وجهين: إما احتقارا لكلامه، كأنهم قالوا: أي فائدة فيه، وإما جهلا منهم ونسيانا، لأنهم كانوا وقت كلامه معرضين عنه، وآنفا معناه الساعة الماضية قريبا، وأصله من:
استأنفت الشيء إذا ابتدأته وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً يعني المؤمنين والضمير في زادهم لله تعالى أو للكلام الذي قال فيه المنافقون: ماذا قال آنفا. وقيل: يعني بالذين اهتدوا قوما من النصارى آمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فاهتداؤهم هو إيمانهم بعيسى وزيادة هداهم إسلامهم فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير للمنافقين، والمعنى هل ينتظرون إلا الساعة لأنها قريبة فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي علاماتها والذي كان قد جاء من ذلك مبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين «2» فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي كيف لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة بغتة؟ فلا يقدرون على عمل ولا تنفعهم التوبة، ففاعل جاءتهم الساعة، وذكراهم مبتدأ وخبره الاستفهام المتقدم، والمراد به الاستبعاد.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي دم على العلم بذلك، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن النظر والعلم قبل العمل، لأنه قدم قوله: فاعلم على قوله: واستغفر وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ قيل: متقلبكم تصرفكم في الدنيا، ومثواكم إقامتكم في القبور. وقيل: متقلبكم تصرفكم في اليقظة، ومثواكم منامكم
لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ كان المؤمنون يقولون ذلك على وجه الحرص على نزول القرآن، والرغبة فيه لأنهم كانوا يفرحون به ويستوحشون من إبطائه مُحْكَمَةٌ يحتمل أن يريد بالمحكمة أي ليس فيها منسوخ، أو يراد متقنة، وقرأ ابن مسعود سورة محدثة رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يعني المنافقين،
__________
(1) . قوله: يستمعون: خلاف الآية: ومنهم من يستمع فلعل المؤلف وهم والله أعلم.
(2) . قوله: بعثت أنا والساعة كهاتين رواه أحمد عن أنس وجابر بن سمرة ج 3 ص 237.
(2/282)
ونظرهم ذلك في شدّة الخوف من القتل لأن نظر الخائف قريب من نظر المغشي عليه فَأَوْلى لَهُمْ في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى أحق وخبره على هذا طاعة. والمعنى أن الطاعة والقول المعروف أولى لهم وأحق والآخر أن أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقولك: ويل لهم ومنه: أولى لك فأولى، فيوقف على أولى لهم على هذا القول، ويكون طاعة ابتداء كلام، تقديره: طاعة وقول معروف أمثل، أو المطلوب منهم طاعة وقول معروف، وقولهم لك يا محمد طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قلوبهم فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أسند العزم إلى الأمر مجازا كقولك: نهاره صائم وليله قائم صَدَقُوا اللَّهَ يحتمل أن يريد صدق اللسان، أو صدق العزم والنية وهو أظهر.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ هذا خطاب للمنافقين المذكورين خرج من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أبلغ في التوبيخ والمعنى هل يتوقع منكم، إلّا فساد في الأرض وقطع الأرحام إن توليتم، ومعنى توليتم: صرتم ولاة على الناس وصار الأمر لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية. وقيل: معناه أعرضتم عن الإسلام إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ نزلت في المنافقين الذين نافقوا بعد إسلامهم وقيل:
نزلت في قوم من اليهود، كانوا قد عرفوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ثم كفروا به سَوَّلَ لَهُمْ أي زيّن لهم ورجّاهم ومنّاهم ووَ أَمْلى لَهُمْ أي مدّ لهم في الأماني والآمال، والفاعل هو الشيطان وقيل: الله تعالى والأول أظهر، لتناسب الضمير بين الفاعلين، في سوّل وأملى سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ «1» قال ذلك اليهود للمنافقين، وبعض الأمر: يعنون به مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربته فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ أي كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة؟ يعني ملك الموت ومن معه، والفاء رابطة للكلام مع ما قبله.
والمعنى: هذا جزعهم من ذكر القتال، فكيف يكون حالهم عند الموت؟ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ضمير الفاعل للملائكة، وقيل: إنه للكفار أي يضربون وجوه أنفسهم وذلك ضعيف.
__________
(1) . تتمة الآية: والله يعلم أسرارهم: قرأها حمزة والكسائي وحفص: إسرارهم بكسر الهمزة والباقون بالفتح.
(2/283)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
أَمْ حَسِبَ الآية: معناها ظن المنافقون أن لن يفضحهم الله. والضغن: الحقد، ويراد به هنا النفاق والبغض في الإسلام وأهله وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لو نشاء لأريناك المنافقين بأعيانهم حتى تعرفهم بعلامتهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين، وروي أن الله لم يذكر واحدا منهم باسمه وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
معنى لحن القول مقصده وطريقته، وقيل: اللحن هو الخفي المعنى كالكناية والتعريض، والمعنى أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم سيعرفهم من دلائل كلامهم، وإن لم يعرفه الله بهم على التعيين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبركم حَتَّى نَعْلَمَ أي نعلمه علما ظاهرا في الوجود تقوم به الحجة عليكم وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه وعادوه، ونزلت الآية في المنافقين وقيل: في اليهود.
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ يحتمل أربعة معان: أحدها لا تبطلوا أعمالكم بالكفر بعد الإيمان والثاني لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات ذكره الزمخشري وهذا على مذهب المعتزلة، خلافا للأشعرية فإن مذهبهم أن السيئات لا تبطل الحسنات. والثالث لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والعجب، والرابع لا تبطلوا أعمالكم بأن تقتطعوها قبل تمامها، وعلى هذا أخذ الفقهاء الآية: وبهذا يستدلون على أن من ابتدأ نافلة لم يجز له قطعها، وهذا أبعد هذه المعاني، والأول أظهر لقوله قبل ذلك في الكفار أو المنافقين، وسيحبط أعمالهم فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أعمالكم مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ومشاقتهم الرسول فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر الله له، وقد أجمع المسلمون على ذلك فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «1» أي لا تضعفوا عن مقاتلة الكفار وتبتدئوهم بالصلح، هو كقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم أجور أعمالكم، يقال: وترت
__________
(1) . قوله: السّلم: قرأها أبو بكر وحمزة: السّلم بكسر السين والباقون بالفتح. وهما لغتان.
(2/284)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
الرجل أتره إذا نقصته شيئا، أو أذهبت له متاعا
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي لا يسألكم جميعها إنما يسألكم ما يخفّ عليكم مثل ربع العشر وذلك خفيف إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا معنى يحفكم يلح عليكم، والإحفاء أشد السؤال وتبخلوا جواب الشرط وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ الفاعل الله تعالى أو البخل، والمعنى يخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإنفاق هؤُلاءِ منصوب على التخصيص أو منادى لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الجهاد والزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي إنما ضرر بخله على نفسه فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأت بقوم على خلاف صفتكم، بل راغبين في الإنفاق في سبيل الله، فقيل إن هذا الخطاب لقريش، والقوم غيرهم هم الأنصار وهذا ضعيف لأن الآية مدنية نزلت والأنصار حاضرون، وقيل:
الخطاب لكل من كان حينئذ بالمدينة، والقوم هم أهل اليمن وقيل فارس.
(2/285)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
سورة الفتح
مدنية نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية وآياتها 29 نزلت بعد الجمعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفتح) نزلت هذه السورة حين انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، لما أراد أن يعتمر بمكة فصدّه المشركون، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهما راجعان إلى المدينة: لقد نزلت عليّ سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يحتمل هذا الفتح في اللغة أن يكون بمعنى الحكم، أي حكمنا لك على أعدائك، أو من الفتح بمعنى العطاء كقوله: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر: 2] أو من فتح البلاد، واختلف في المراد بهذا الفتح على أربعة أقوال: الأول أنه فتح مكة وعده الله به قبل أن يكون، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وهو على هذا بمعنى فتح البلاد، الثاني أنه ما جرى في الحديبية من بيعة الرضوان، ومن الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهو على هذا بمعنى الحكم، أو بمعنى العطاء، ويدل على صحة هذا القول: أنه لما وقع صلح الحديبية، شق ذلك على بعض المسلمين لشروط كانت فيه، حتى أنزل الله هذه السورة، ويتبين أن ذلك الصلح له عاقبة محمودة، وهذا هو الأصح لأنه روي أنها لما نزلت قال بعض الناس: ما هذا الفتح وقد صدنا المشركون عن البيت؟ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالروح، ورغبوا إليكم في الأمان، الثالث أنه ما أصاب المسلمون بعد الحديبية من الفتوح كفتح خيبر وغيرها، الرابع أنه الهداية إلى الإسلام ودليل هذا القول قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ فجعل الفتح علة للمغفرة، ولا حجة في ذلك إذ يتصور في الجهاد وغيره أن يكون علة للمغفرة أيضا، أو تكون اللام، للصيرورة والعاقبة لا للتعليل فيكون المعنى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا فكان عاقبة أمرك أن جمع الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة بأن غفر لك، وأتم نعمته عليك، وهداك ونصرك.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي السكون والطمأنينة، يعني سكونهم في صلح الحديبية
(2/286)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
وتسليمهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه الرحمة الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ معناه أنهم ظنوا أن الله يخذل المؤمنين وقالوا: لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. وقيل:
معناه أنهم لا يعرفون الله بصفاته، فذلك هو ظن السوء به، والأول أظهر بدليل ما بعده عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ «1» يحتمل أن يكون خبرا أو دعاء إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي تشهد على أمتك وَتُعَزِّرُوهُ أي تعظموه وقيل: تنصرونه، وقرئ تعززوه بزاءين منقوطتين، والضمير في تعزروه وتوقروه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي تسبحوه لله تعالى، وقيل: الثلاثة لله.
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ هذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل مبايعته بمنزلة مبايعة الله، ثم أكد هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وذلك على وجه التخييل والتمثيل، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو يد المبايعين له هي يد الله في المعنى، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وإنما المراد أن عقد ميثاق البيعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كعقده مع الله كقوله «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» [النساء: 80] وتأوّل المتأوّلون ذلك بأن يد الله معناها النعمة أو القوة، وهذا بعيد هنا ونزلت الآية في بيعة الرضوان تحت الشجرة وسنذكرها بعد فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «2» يعني أن ضرر نكثه على نفسه ويراد بالنكث هنا نقض البيعة.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ الآية: سماهم بالمخلفين، لأنهم تخلفوا عن غزوة الحديبية، والأعراب هم أهل البوادي من العرب، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة يعتمر، رأوا أنه يستقبل عدوا كثيرا من قريش وغيرهم، فقعدوا عن الخروج معه، ولم يكن إيمانهم متمكنا، فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر ففضحهم الله في هذه السورة، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
__________
(1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: السوء: بضم السين والباقون بفتحها وسكون الواو السّوء.
(2) . قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى ... فَسَيُؤْتِيهِ قرأ نافع وغيره: فسنؤتيه بالنون وقرأ غيرهم فسيؤتيه بالياء.
وقوله: بما عاهد عليه الله هكذا قرأها حفص، والباقون قرءوها: عليه بكسر الهاء. [.....]
(2/287)
يحتمل أن يريد قولهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا لأنهم كذبوا في ذلك، أو قولهم: فاستغفر لنا لأنهم قالوا ذلك رياء من غير صدق ولا توبة قَوْماً بُوراً أي هالكين من البوار، وهو الهلاك ويعني به الهلاك في الدين سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الآية: أخبر الله رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن المخلفين عن غزوة الحديبية يريدون الخروج معه إذا خرجوا إلى غزوة أخرى، وهي غزوة خيبر. فأمر الله بمنعهم من ذلك، وأن يقول لهم: لن تتبعونا يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي يريدون أن يبدلوا وعد الله لأهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم أن يعوضهم من غنيمة مكة غنيمة خيبر وفتحها، وأن يكون ذلك مختصا بهم دون غيرهم، وأراد المخلفون أن يشاركوهم في ذلك، فهذا هو ما أرادوا من التبديل. وقيل: كلام الله قوله: فلن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا. وهذا ضعيف لأن هذه الآية نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد الحديبية بمدة كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يريد وعده باختصاصه أهل الحديبية بغنائم خيبر فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا معناه يعز عليكم أن نصيب معكم مالا وغنيمة، وبل هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فمعناها: رد أن يكون الله حكم بأن لا يتبعوهم. وأما بل في قوله تعالى بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثبات لوصف المخلفين بالجهل.
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ اختلف في هؤلاء القوم على أربعة أقوال الأول: أنهم هوازن ومن حارب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر والثاني أنهم الروم إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم في غزوة تبوك والثالث أنهم أهل الردة من بني حنيفة وغيرهم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والرابع أنهم الفرس ويتقوى الأول والثاني بأن ذلك ظهر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوّى المنذر بن سعيد القول الثالث بأن الله جعل حكمهم القتل أو الإسلام ولم يذكر الجزية، قال: وهذا لا يوجد إلا في أهل الردّة، قلت: وكذلك هو موجود في كفار العرب، إذ لا تؤخذ منهم الجزية فيقوّي ذلك أنهم هوازن أو يسلمون عطف على تقاتلونهم وقال ابن عطية: هو مستأنف وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يريد في غزوة
(2/288)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
الحديبية
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية «1» معناها أن الله تعالى عذر الأعمى والأعرج والمريض في تركهم للجهاد لسبب أعذارهم لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار إن شاء الله أحد من أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها وفي الحديث أنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وقيل: ألفا وخمسمائة. وسبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحديبية، وهي موضع على نحو عشرة أميال من مكة، أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولا إلى أهل مكة، يخبرهم أنه إنما جاء ليعتمر، وأنه لا يريد حربا. فلما وصل إليهم عثمان حبسه أقاربه كرامة له، فصرخ صارخ أن عثمان قد قتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة على القتال وأن لا يفر أحد. وقيل: بايعوه على الموت ثم جاء عثمان بعد ذلك سالما، وانعقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة على أن يرجع ذلك العام ويعتمر في العام القابل، والشجرة المذكورة كانت سمرة هنا لك ثم ذهبت بعد سنين. فمر عمر بن الخطاب بالموضع في خلافته، فاختلف الصحابة في موضعها فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من صدق الإيمان وصدق العزم على ما بايعوا عليه، وقيل: من كراهة البيعة على الموت وهذا باطل. لأنه ذم للصحابة وقد ذكرنا السكينة وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر وقيل: فتح مكة والأول أشهر، أي جعل الله ذلك ثوابا لهم على بيعة الرضوان، زيادة على ثواب الآخرة. وأما المغانم المذكورة أوّلا فهي غنائم خيبر، وهي المعطوفة على الفتح القريب. وأما المغانم الكثيرة التي وعدهم الله وهي المذكورة ثانيا فهي: كل ما يغنم المسلمون إلى يوم القيامة، والإشارة بقوله فعجل لكم هذه إلى خيبر.
وقيل: إن المغانم التي وعدهم هي خيبر والإشارة بهذه إلى صلح الحديبية وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي كف أهل مكة عن قتالكم في الحديبية. وقيل: كف اليهود وغيرهم عن إضرار نسائكم وأولادكم بينما خرجتم إلى الحديبية وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي تكون هذه الفعلة وهي كف أيدي الناس عنكم آية للمؤمنين، يستدلون بها على النصر، واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره: فعل الله ذلك لتكون آية
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني فتح مكة، وقيل:
فتح بلاد فارس والروم وقيل: مغانم هوازن في حنين، والمعنى لم تقدروا أنتم عليها، وقد
__________
(1) . قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ومن يقول يعذبه عذابا أليما هكذا قرأها القراء ما عدا نافع وابن عامر فقرأ: ندخله- نعذبه بالنون بدلا من الياء.
(2/289)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
أحاط الله بها بقدرته ووهبها لكم، وإعراب أخرى عطف على عجل لكم هذه أو مفعول بفعل مضمر تقديره: أعطاكم أخرى أو مبتدأ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة سُنَّةَ اللَّهِ أي عادته والإشارة إلى يوم بدر، وقيل: الإشارة إلى نصر الأنبياء قديما.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ روي في سببها أن جماعة من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوما، وساقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم، فكفّ أيدي الكفار هو أن هزموا وأسروا. وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل، وقوله مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يعني من بعد ما أخذتموهم أسارى
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أنهم منعوهم عن العمرة بالمسجد الحرام عام الحديبية وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الهدي ما يهدى إلى البيت من الأنعام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساق حينئذ مائة بدنة وقيل: سبعين ليهديها، والمعكوف المحبوس، ومحله موضع نحره يعني:
مكة والبيت، وإعراب الهدي عطف على الضمير المفعول في صدّوكم ومعكوفا حال من الهدي، وأن يبلغ مفعول بالعكف فالمعنى: صدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله، والعكف المذكور يعني به منع المشركين للهدي عن بلوغ مكة، أو حبس المسلمين بالهدي بينما ينظرون في أمورهم.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم، فلو سلط الله المسلمين على أهل مكة، لقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم، ولكن كفّهم رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم، وجواب لولا محذوف تقديره: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لسلطناكم عليهم أَنْ تَطَؤُهُمْ في موضع بدل من رجال ونساء، أو بدل من الضمير المفعول في لم تعلموهم والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي تصيبكم من قتلهم مشقة وكراهة، واختلف هل يعني الإثم في قتلهم أو الدية أو الكفارة أو الملامة، أو عيب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قتل المؤمنين، وهذا أظهر لأن قتل المؤمن الذي لا يعلم إيمانه وهو بين أهل الحرب لا إثم فيه ولا دية، ولا ملامة، ولا عيب، لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ
(2/290)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
يعني رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهر الكفار، بأن كف سيوف المسلمين عن الكفار من أجلهم أو رحمة لمن شاء من الكفار بأن يسلموا بعد ذلك، واللام تتعلق بمحذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: كان كف القتل عن أهل مكة ليدخل الله في رحمته من يشاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا معنى تزيلوا تميزوا عن الكفار، والضمير للمؤمنين المستوري الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذبنا الكفار فقوله: لعذبنا جواب لو الثانية، وجواب الأولى محذوف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون لعذبنا جواب لو الأولى، وكررت لو الثانية تأكيدا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ يعني أنفة الكفر وهي منعهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العمرة، ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله، وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك اسم أبيك، والعامل في إذ جعل محذوف تقديره: اذكر أو قوله لعذبنا والسكينة هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال الجمهور هي: لا إله إلا الله، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر، وهذه كلها متقاربة وقيل: هي بسم الله الرحمن الرحيم التي أبى الكفار أن تكتب وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم، وقيل: أحق بها من اليهود والنصارى.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون، وروي أنه أتاه ملك في النوم فقال له: لتدخلن المسجد الحرام الآية: فأخبر الناس برؤياه:
ذلك، فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون: أين الرؤيا، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق أي تلك الرؤيا صادقة، وسيخرج تأويلها بعد ذلك، فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام، وظهر صدق رؤياه وتلك عمرة القضية [القضاء] ثم فتح مكة بعد ذلك، ثم حج هو وأصحابه، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين، وبالحق يتعلق بصدق، أو بالرؤيا على أن يكون حالا منها إِنْ شاءَ اللَّهُ لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر، وذلك محال على الله، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال: الأول أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني: أنه تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في
(2/291)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
كل أمر مستقبل، والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت أو يمرض فلا يتم له، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة، والحلق أفضل من التقصير، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله المحلقين ثلاثا ثم قال في المرة الأخيرة والمقصرين «1» فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة، فإنه لما انعقد الصلح، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة، وقيل ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً يعني فتح خيبر، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية، وهذا هو الأصح لأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ قال نعم.
وقيل: هو فتح مكة وهذا ضعيف، لأن معنى قوله: من دون ذلك قبل دخول المسجد الحرام، وإنما كان فتح مكة بعد ذلك، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة، وفتح مكة عام ثمانية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ذكره في براءة [33] وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي شاهدا بأن محمدا رسول الله، أو شاهدا بإظهار دينه.
وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني جميع أصحابه وقيل: من شهد معه الحديبية، وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع، وقيل: الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا. والأول عندي أرجح لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما على ما اختاره ابن عطية فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [براءة: 128] ، وقال جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [براءة: 73، والتحريم: 9] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ السيما العلامة وفيه ستة أقوال، الأول أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلى من كثرة السجود والثاني أنه أثر التراب في الوجه الثالث أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة، الرابع حسن الوجه لما ورد في الحديث [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] «2» وهذا الحديث غير صحيح، بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه، الخامس أنه الخشوع، السادس: أن ذلك يكون
__________
(1) . الحديث رواه ابن عمر وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 ص 160.
(2) . الحديث أعلاه ذكره المناوي في التيسير وعزاه لابن ماجة عن جابر ثم قال: إن موضوع.
(2/292)
في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله: تراهم ركعا سجدا وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك، والأول أظهر، وقد كان بوجه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أي وصفهم فيها وتم الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله ومثلهم في الإنجيل، كزرع، وقيل: إن مثلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة ثم ابتدأ قوله: كزرع وتقديره هم كزرع، والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان، وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك، وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل. وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا، ثم قوي وظهر. وقيل: الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، ويقال: بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات فَآزَرَهُ أي قوّاه وهو من الموازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع، والمفعول شطأه أو بالعكس لأن كل واحد منهما يقوّي الآخر، وقيل: معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله وقيل أفعله، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل فَاسْتَغْلَظَ أي صار غليظا فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ جمع ساق أي قام الزرع على سوقه، وقيل: قوله:
كزرع يعني النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ بن أبي طالب لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوّة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره: جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار، وقيل: يتعلق بوعد وهو بعيد مِنْهُمْ لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم.
(2/293)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
سورة الحجرات
مدنية وآياتها 18 نزلت بعد الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحجرات) لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها لا تتكلموا بأمر قبل أن يتكلم هو به، ولا تقطعوا في أمر إلا بنظره والثاني لا تقدموا الولاة بمحضره فإنه يقدم من شاء، والثالث لا تتقدموا بين يديه إذا مشى، وهذا إنما يجري على قراءة يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والقاف والدال، والأول هو الأظهر لأن عادة العرب الاشتراك في الرأي، وأن يتكلم كل أحد بما يظهر له، فربما فعل ذلك قوم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنهاهم الله عن ذلك، ولذلك قال مجاهد: معناه لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يذكره على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما قال: بين يدي الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتكلم بوحي من الله لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أمر الله المؤمنين أن يتأدبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب، كرامة له وتعظيما، وسببها أن بعض جفاة الأعراب كانوا يرفعون أصواتهم أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله تقديره: مخافة أن تحبط أعمالكم إذا رفعتم أصواتكم فوق صوته، أو جهرتم له بالقول صلى الله عليه وسلم، فالمفعول من أجله يتعلق بالفعلين معا من طريق المعنى، وأما من طريق الإعراب فيتعلق عند البصريين بالثاني وهو: لا تَجْهَرُوا وعند الكوفيين بالأول وهو لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ، وهذا الإحباط لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات وإن فعله مؤمن، لعظيم ما وقع فيه من ذلك. وقيل:
إن الآية خطاب للمنافقين وهذا ضعيف، لقوله في أولها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقوله:
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنه لا يصح أن يقال هذا لمنافق، فإنه يفعله «جرأة» وهو يقصده.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنه لما نزلت الآية قبلها قال أبو بكر: والله يا رسول الله لا أكلمنك إلا سرا. وكان عمر يخفي كلامه حين يستفهمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظها مع ذلك على
(2/294)
عمومه، ومعنى امْتَحَنَ: اختبر فوجدها كما يجب، مثل ما يختبر الذهب بالنار، فيوجد طيبا، وقيل معناها: درّبها للتقوى حتى صارت قوية على احتماله بغير تكلف. وقيل: معناه أخلصها الله للتقوى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الحجرات:
جمع حجرة وهي قطعة من الأرض يحجر عليها بحائط، وكان لكل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حجرة. ونزلت الآية في وفد بني تميم، قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ووقفوا خارجها ونادوا: يا محمد أخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة ثم خرج إليهم، فقال له واحد منهم وهو الأقرع بن حابس: يا محمد إنّ مدحي زين وذمّي شين.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ذلك الله تعالى أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فيهم قليل ممن يعقل ونفي العقل عن أكثرهم لا عن جميعهم، والآخر أن يكون جميعهم ممن لا يعقل، وأوقع القلة موضع النفي والأول أظهر في مقتضى اللفظ. والثاني أبلغ في الذم وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني خيرا في الثواب، وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وقضائه حوائجهم، وإنكار فعلهم فيه تأديب لهم، وتعليم لغيرهم.
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ زكاتهم، فروي أنه كان معاديا لهم، فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ بغزوهم، ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك، وروي أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له [بالسلاح] ، فرآهم على بعد ففزع منهم وظنّ بهم الشر، فانصرف فقال ما قال. وروي أنه بلغه أنهم قالوا: لا نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف، وقال ما قال. فالفاسق المشار إليه في الآية هو الوليد بن عقبة، ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق، حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران، ثم قال لهم: أزيدكم إن شئتم، ثم هي باقية في كل من اتصف بهذه الصفة إلى آخر الدهر، وقرئ فتبينوا من التبين، وتثبتوا بالثاء من التثبت، ويقوي هذه القراءة أنها لما نزلت روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التثبت من الله والعجلة من الشيطان، واستدل بهذه الآية القائلون بقبول خبر الواحد، لأن دليل الخطاب يقتضي أن خبر غير الفاسق مقبول، قال المنذر بن سعيد البلوطي: وهذه الآية تردّ على من قال: إن المسلمين كلهم عدول، لأن الله أمر بالتبين قبل القبول، فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ في موضع المفعول من أجله تقديره: مخافة أن تصيبوا قوما بجهالة، والإشارة إلى قتال بني
(2/295)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
المصطلق لما ذكر عنهم الوليد ما ذكر
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لشقيتم، والعنت المشقة، وإنما قال: لو يطيعكم ولم يقل لو أطاعكم، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم، والحق خلاف ذلك، وإنما الواجب أن يطيعوه هم لا أن يطيعهم هو، وذلك أن رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأصوب من رأي غيره، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا، فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره، وإلى ذلك الإشارة بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ الآية.
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما اختلف في سبب نزولها، فقال الجمهور: هو ما وقع بين المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مر به رسول صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، فبال حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله بن أبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد آذاني نتن حمارك، فردّ عليه عبد الله بن رواحة وتلاحى الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد، وقيل: بالحديد، وقيل: سببها أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد، ثم حكمها باق إلى آخر الدهر. وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس، فهي في معنى الجمع فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية، وذلك إذا تبين أنها باغية، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتال المسلم كفر «1» . وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن، والقول الثاني أن النهوض فيها واجب لتكفّ الطائفة الباغية، وهذا قول علي وعائشة وطلحة والزبير وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتهم هذه الآية فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدّى ذلك إلى قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد «2» ، وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفتن فقيل: مع السواد الأعظم وقيل: مع العلماء وقيل: مع من يرى أن الحق معه، وحكم القتال في الفتن: أن لا يجهز على جريح، ولا يطلب هارب، ولا يقتل أسير ولا يقسم فيء حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إلى
__________
(1) . الحديث رواه سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد ج 1 ص 178.
(2) . الحديث رواه عبد الله بن عمرو وأخرجه أحمد ج 2 ص 217.
(2/296)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
الحق
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إنما ذكره بلفظ التثنية لأن أقل من يقع بينهم البغي اثنان، وقيل أراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرأ ابن عامر بين إخوتكم بالتاء على الجمع، وقرئ بين إخوانكم بالنون على الجمع أيضا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ نهى عن السخرية وهي الاستهزاء بالناس عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أي لعل المسخور منه خير من الساخر عند الله، وهذا تعليل للنهي وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ لما كان القوم لا يقع إلا على الذكور عطف النساء عليهم وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يطعن بعضكم على بعض واللمز:
العيب، سواء كان بقول أو إشارة أو غير ذلك، وسنذكر الفرق بينه وبين الهمز في سورة الهمزة وأنفسكم هنا بمنزلة قوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 27] وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع أحد أحدا بلقب، والتنابز بالألقاب التداعي بها، وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة ولم يقصد النقص والاستخفاف.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يريد بالاسم أن يسمى الإنسان فاسقا بعد أن سمي مؤمنا، وفي ذلك ثلاثة أوجه: أحدها استقباح الجمع بين الفسق وبين الإيمان، فمعنى ذلك أن من فعل شيئا من هذه الأشياء التي نهي عنها فهو فاسق وإن كان مؤمنا، والآخر بئس ما يقوله الرجل للآخر يا فاسق بعد إيمانه، كقولهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي، الثالث أن يجعل من فسق غير مؤمن وهذا على مذهب المعتزلة
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يعني ظن السوء بالمسلمين، وأما ظن الخير فهو حسن إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قيل: في معنى الإثم هنا الكذب لقوله صلى الله عليه وسلم: الظن أكذب الحديث «1» لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر، وقيل: إنما يكون إثما إذا تكلم به وأما إذا لم يتكلم به فهو في فسحة لأنه لا يقدر على دفع الخواطر، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع، لأنه أمر باجتناب كثير من الظن، وأخبر أن بعضه إثم باجتناب الأكثر من الإثم احترازا من الوقوع في البعض الذي هو إثم وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن مخبآت الناس وقرأ الحسن: تحسسوا بالحاء والتجسس بالجيم في الشر وبالحاء في الخير، وقيل: التجسس ما كان من وراء والتحسس بالحاء الدخول والاستعلام وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً المعنى: لا يذكر أحدكم من أخيه المسلم ما يكره لو سمعه، والغيبة هي ما يكره الإنسان ذكره من خلقه أو خلقه أو دينه أو أفعاله أو غير ذلك، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: الغيبة أن تذكر
__________
(1) . الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأوله: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ج 2 ص 245.
(2/297)
أخاك المؤمن بما يكره، قيل يا رسول الله وإن كان حقا، قال إذا قلت باطلا فذلك بهتان «1» وقد رخّص في الغيبة في مواضع منها: في التجريح في الشهادة، والرواية، والنكاح، وشبهه وفي التحذير من أهل الضلال، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وقرأ نافع: ميّتا شبه الله الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ثم زاد في تقبيحه أن جعله ميتا لأن الجيفة مستقذرة، ويجوز أن يكون ميتا حال من الأخ أو من لحمه، وقيل: فكرهتموه إخبار عن حالهم بعد التقرير. كأنه لما قررهم قال: هل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا أجابوا فقالوا: لا نحب ذلك فقال لهم. فكرهتموه وبعد هذا محذوف تقديره: فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي تشبهه، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه، وعلى هذا المحذوف يعطف قوله: واتقوا الله، قاله أبو علي الفارسي، وقال الرماني: كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل، وهو أحق أن يجاب لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل، وقال الزمخشري: في هذه الآية مبالغات كثيرة منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم، والإشعار بأن أحد من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله ميتا، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا له. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الذكر والأنثى هنا آدم وزوجه قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الجنس كأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم من ذكر وأنثى، والأول أظهر وأصح لقوله صلى الله عليه وسلم: أنتم من آدم وآدم من التراب «2» ومقصود الآية: التسوية بين الناس، والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، فبين الله أن الكرم والشرف عند الله ليس بالحسب والنسب إنما هو بالتقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله «3» ، وروي أن سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا كيف نزوج بناتنا لموالينا وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا الشعوب: جمع شعب بفتح الشين، وهو أعظم من القبيلة، وتحته القبيلة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة، وهم القرابة
__________
(1) . الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأبي داود عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عنه بلفظ: أتدرون ما الغيبة؟ إلخ.
(2) . أورد المناوي هذا الحديث بلفظ: كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب وعزاه للبزار عن حذيفة وتوجد رواية للترمذي وأبي داود وأحمد انظر كشف الخفاء ص 326 ج 2.
(3) . لم أعثر عليه بهذا اللفظ ولكن يوجد حديث بمعناه وجوابا على سؤال: من أكرم الناس؟ قال: اتقاهم رواه أحمد ج 2 ص 431.
(2/298)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
الأدنون فمضر وربيعة وأمثالها شعوبا، وقريش قبيلة، وبني عبد مناف بطن، وبنو هاشم فخذ، ويقال بإسكان الخاء فرقا بينه وبين الجارحة، وبنو عبد المطلب فصيلة. وقيل:
الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل، ومعنى لتعارفوا ليعرف بعضكم بعضا
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا نزلت في بني أسد بن خزيمة، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة أظهروا الإسلام، وكانوا إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا، فأكذبهم الله في قولهم آمنا وصدقهم لو قالوا أسلمنا، وهذا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإسلام هو الانقياد بالنطق بالشهادتين، والعمل بالجوارح فالإسلام والإيمان في هذا الموضع متباينان في المعنى، وقد يكونان متفقان، وقد يكون الإسلام أعم من الإيمان فيدخل فيه الإيمان حسبما ورد في مواضع أخر وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً معنى لا يلتكم لا ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم، وفيه لغتان يقال لات وعليه قراءة نافع لا يلتكم بغير همز، ويقال: ألت وعليه قراءة أبو عمرو لا يألتكم بهمزة قبل اللام، فإن قيل: كيف يعطيهم أجور أعمالهم وقد قال: إنهم لم يؤمنوا ولا يقبل عمل إلا من مؤمن؟ فالجواب:
أن طاعة الله ورسوله تجمع صدق الإيمان وصلاح الأعمال، فالمعنى إن رجعتم عما أنتم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالا صالحة فإن الله لا ينقصكم منها شيئا ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين بأنهم في شك وكذلك قوله في هؤلاء: أولئك هم الصادقون تعريض أيضا بالأعراب إذ كذبوا في قولهم آمنا. وإنما عطف ثم لم يرتابوا بثم إشعارا بثبوت إيمانهم في الأزمنة المتراخية المتطاولة وَجاهَدُوا يريد جهاد الكفار، لأنه دليل على صحة الإيمان، ويبعد أن يريد جهاد النفس والشيطان لقوله: بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا نزلت في بني أسد أيضا فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت هوازن وغطفان وغيرهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي هداكم للإيمان على زعمكم، ولذلك قال: إن كنتم صادقين، ويمنّ عليكم يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم أو بمعنى: يذكر إنعامه، وهذا أحسن لأنه في مقابلة يمنون عليك.
(2/299)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
سورة ق
مكية إلا آية 38 فمدنية وآياتها 45 نزلت بعد المرسلات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة ق) تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص ق بأنه قيل: إنه من اسم الله القاهر، أو القدير وقيل: هو اسم للقرآن وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ من المجد، وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره: ما ردّوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك، وعبّر عن هذا المحذوف، وقع الإضراب ببل وقيل: الجواب ما يلفظ من قول، وقيل: إن في ذلك لذكرى، وقيل: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الضمير في عجبوا لكفار قريش، والمنذر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الضمير لجميع الناس واختاره ابن عطية قال: ولذلك قال تعالى: فقال الكافرون أي الكافرون من الناس، والصحيح أنه لقريش، وقوله: قال الكافرون وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فقال الفاجر كذا، إذا قصدت ذمه وقوله: منذر منهم إن كان الضمير لقريش فمعنى منهم من قبيلتهم يعرفون صدقه وأمانته وحسبه فيهم، وإن كان الضمير لجميع الناس فمعنى منهم إنسان مثلهم، وتعجبهم يحتمل أن يكون من أن بعث الله بشرا أو من الأمر الذي يتضمنه الإنذار وهو الحشر، ويؤيد هذا ما يأتي بعد أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً العامل في إذا محذوف تقديره: أنبعث إذا متنا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ الرجع مصدر: رجعته والمراد به: البعث بعد الموت، ومعنى بعيد أي: بعيد الوقوع عندهم، وقيل: الرجع: الجواب، أي جوابهم هذا بعيد عن الحق، وعلى هذا يكون قوله: ذلك رجع بعيد من كلام الله تعالى، وأما على الأول فهو حكاية كلام الكفار وهو أظهر.
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ هذا رد على الكفار في إنكارهم للبعث معناه: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم من لحومهم وعظامهم فلا يصعب علينا بعثهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب «1» .
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 499 ولفظه: يبلى كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب وفيه يركب الخلق يوم القيامة.
(2/300)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
وقيل: المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، والأول قول ابن عباس والجمهور وهو أظهر وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يعني اللوح المحفوظ، ومعنى حفيظ: جامع لا يشذ عنه شيء. وقيل: معناه محفوظ من التغيير والتبديل.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أقبح من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة، وما تضمنته من الإخبار بالحشر وغير ذلك، وقال ابن عطية: هذا الإضراب عن كلام محذوف تقديره: ما أجادوا النظر ونحو ذلك فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مضطرب، لأنهم تارة يقولون: شاعر، وتارة ساحر، وغير ذلك من أقوالهم. وقيل: معناه منكر، وقيل: ملتبس. وقيل: مختلط.
وَزَيَّنَّاها يعني بالنجوم وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من شقوق، وذلك دليل على إتقان الصنعة رَواسِيَ يعني الجبال مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل نوع جميل ماءً مُبارَكاً يعني المطر كله وقيل: الماء المبارك ماء مخصوص ينزله الله كل سنة، وليس كل مطر يتصف بالمبارك، وهذا ضعيف حَبَّ الْحَصِيدِ هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد باسِقاتٍ أي طويلات طَلْعٌ نَضِيدٌ الطلع أول ما يظهر من الثمر، وهو أبيض منضد كحب الرمان، فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا تفرق فليس بنضيد كَذلِكَ الْخُرُوجُ تمثيل لخروج الموتى من القبور بخروج النبات من الأرض وَأَصْحابُ الرَّسِّ قوم كانت لهم بئر عظيم وهي الرس، بعث إليهم نبي فجعلوه في الرس وردموا عليه فأهلكهم الله وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ يعني قوم شعيب وقد ذكر وَقَوْمُ تُبَّعٍ ذكر في الدخان [37] فَحَقَّ وَعِيدِ أي حل بهم الهلاك أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقال: عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه، والخلق الأول: خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وقيل: يعني خلق آدم، وقيل خلق السموات والأرض، والأول أظهر، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي هم في شك من البعث، وإنما نكّر الخلق الجديد لأنه كان غير معروف عند الكفار المخاطبين، وعرّف الخلق الأول لأنه معروف معهود.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني جنس الإنسان، ومعنى توسوس به نفسه: تحدثه نفسه في فكرتها. وذلك أخفى الأشياء وقيل: يعني آدم ووسوسته عند أكله من الشجرة، والأول
(2/301)
أظهر وأشهر وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هو عرق كبير في العنق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وهذا مثل في فرط القرب، والمراد به: قرب علم الله واطلاعه على عبده، وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك: مسجد الجامع أو يراد بالحبل: العاتق إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني الملكين الحافظين الكاتبين للأعمال، والتلقي هو: تلقّي الكلام بحفظه وكتابته، والعامل في إذ نحن أقرب، وقيل: مضمر تقديره: اذكر. واختاره ابن عطية عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي قاعد، وقيل: مقاعد بمعنى مجالس، وردّه ابن عطية بأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، والقاعد يكون على جميع هيئة الإنسان، وإنما أفرده وهما اثنان لأن التقدير: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقال الفراء: لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة فلا يحتاج إلى حذف.
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ العتيد: الحاضر، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق «1» ، وعموم الآية يقتضي أن الملكين يكتبان جميع أعمال العبد، ولذلك قال الحسن وقتادة: يكتبان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك، وقال عكرمة: إنما تكتب الحسنات والسيئات لا غير وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي بلقاء الله أو فراق الدنيا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك قرأها أبو بكر الصديق، وإنما قال: جاءت بالماضي لتحقق الأمر وقربه، وكذلك ما بعده من الأفعال ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تفر وتهرب، والخطاب للإنسان سائِقٌ وَشَهِيدٌ السائق ملك يسوقه، وأما الشهيد فقيل: ملك آخر يشهد عليه وهو الأظهر، وقيل: صحائف الأعمال، وقيل: جوارح الإنسان لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا خطاب للإنسان الذي يقتضيه قوله: كل نفس، يريد أنه كان غافلا عما لقي في الآخرة، وقيل: هو خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي كنت في غفلة من هذا القصص وهذا في غاية الضعف لأنه خروج عن سياق الكلام فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قيل: كشف الغطاء معاينته أمور الآخرة فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي يبصر ما لم يبصره قبل، وقد ورد: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «2» وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ القرين هنا: الشيطان الذي كان يغويه،
__________
(1) . لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.
(2) . قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/ 23: لم أجده مرفوعا وإنما ينسب للإمام علي بن أبي طالب.
(2/302)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
وقيل: الملك الذي يتولى عذابه في جهنم، والأول أرجح لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] ومعنى قوله: هذا ما لديّ عتيد، أي هذا الإنسان حاضر لدي أعتدته ويسرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا: إن القرين هو الملك السائق، وإن قلنا: إنه أحد الزبانية فمعناه هذا العذاب لديّ حاضر، ويحتمل أن يكون ما في قوله، ما لديّ، موصوفة أو موصولة، فإن كانت موصوفة فعتيد وصف لها، وإن كانت موصولة، فعتيد بدل منها، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، وما هي خبر المبتدأ على هذه الوجوه، ويحتمل أن يكون عتيد الخبر وتكون ما بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ الخطاب للملكين السائق والشهيد، وقيل: إنه خطاب لواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة، ثم أبدل منها ألف، أو على أن يكون معناه: ألق ألق مثنى مبالغة وتأكيدا، أو على أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقولهم: خليلي وصاحبي وهذا كله تكلف بعيد، ومما يدل على أن الخطاب لاثنين قوله: فألقياه في العذاب الشديد مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قيل: مناع للزكاة المفروضة والصحيح العموم مُرِيبٍ شاك في الدين فهو من الريب بمعنى الشك الَّذِي جَعَلَ يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره فألقياه وأدخل فيه ألفا لتضمنه معنى الشرط، أو يكون بدلا أو صفة، ويكون فألقياه تكرار للتوكيد.
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ القرين هنا شيطانه الذي وكّل به في الدنيا، بلا خلاف ومعنى ما أطغيته: ما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى باختياره، وإنما حذف الواو هنا لأن هذه جملة مستأنفة بخلاف قوله: وقال قرينه قبل هذا فإنه عطف لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ خطاب للناس وقرنائهم من الشياطين ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي قد حكمت بتعذيب الكفار فلا تبديل لذلك، وقيل: معناه لا يكذب أحد لدي لعلمي بجميع الأمور، فالإشارة على هذا إلى قول القرين ما أطغيته «1»
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ الفعل مسند إلى جهنم، وقيل:
إلى خزنتها من الملائكة، والأول أظهر واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة أو مجازا بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومعنى قوله: «هل من مزيد» إنما تطلب الزيادة وكانت لم تمتلئ. وقيل: معناه لا مزيد أي ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت والأول أظهر وأرجح، لما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها
__________
(1) . قوله: يوم نقول لجهنم: قرأ نافع وأبو بكر: يوم يقول لجهنم بالياء وقرأ الباقون: نقول بالنون.
(2/303)
وتقول: هل من مزيد حتى يلقى فيها الجبار قدمه «1» » ، وفي الحديث كلام ليس هذا موضعه، والمزيد يحتمل أن يكون مصدرا كالمحيض أو اسم مفعول فإن كان مصدرا فوزنه مفعل، وإن كان اسم مفعول فوزنه مفعول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قرّبت ثم أكد ذلك بقوله غير بعيد لِكُلِّ أَوَّابٍ أي كثير الرجوع إلى الله، فهو من آب يؤوب إذا رجع، وقيل: هو المسبح لله من قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 1] حَفِيظٍ أي حافظ لأوامر الله فيفعلها، ولنواهيه فيتركها مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتقى الله وهو غائب عن الناس، فالمجرور في موضع الحال، من خشي بدل أو مبتدأ، فإن قيل: كيف قرن بالخشية الاسم الدال على الرحمة؟ فالجواب: أن ذلك لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله لأنه يخشاه مع علمه برحمته وعفوه، قال ذلك الزمخشري ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن صار يستعمل استعمال الاسم الذي ليس بصفة كقولنا الله وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قيل معناه النظر إلى وجه الله، كقوله: الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وقيل: يعني ما لم يخطر على قلوبهم كما ورد في الحديث مما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «2» هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً الضمير في هم للقرون المتقدمة، وفي منهم لكفار قريش فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، أو من التنقب عن الأمر، بمعنى البحث عنه هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي قالوا: هل من مهرب من الله أو من العذاب لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يعقل ويفهم أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع وهو حاضر القلب وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ اللغوب الإعياء والتعب.
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني كفار قريش وغيرهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يحتمل أن يريد التسبيح باللسان، أو يريد الصلاة وقد ذكر الزمخشري فيه الوجهين وقال ابن عطية:
معناه: صلّ بإجماع من المتأوّلين، وهي على هذا إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس: الصبح، وقبل الغروب: الظهر والعصر. ومن الليل: المغرب والعشاء، وقيل:
__________
(1) . رواه أحمد عن أنس ج 3 ص 234 بلفظ قريب منه. [.....]
(2) . الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وانظر رياض الصالحين.
(2/304)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
هي النوافل
وَأَدْبارَ السُّجُودِ «1» قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: الركعتين بعد المغرب وقال ابن عباس: هي النوافل بعد الفرائض، وقيل: الوتر وَاسْتَمِعْ معناه انتظر. فهو عامل في يوم يناد على أنه مفعول به صريح، وقيل: المعنى استمع لما نقص عليك من أهوال القيامة. فعلى هذا لا يكون عاملا في يوم يناد فيوقف على استمع والأول أظهر يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ المنادي «2» هنا إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وقيل: إنما وصفه بالقرب لأنه يسمعه جميع الخلق، وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقرب لقربها من مكة يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني خروج الناس من القبور وَيَوْمَ تَشَقَّقُ «3» العامل في هذا الظرف معنى قوله: حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أو هو بدل مما قبله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بقهار تقهرهم على الإيمان كقوله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] وقيل إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم رؤوف بهم غير جبار عليهم، وهذا أظهر فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ كقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [فاطر: 18] لأنه لا ينفع التذكير إلا من يخاف.
__________
(1) . قرأ نافع وابن كثير وحمزة: وإدبار السجود بكسر الهمزة وقرأ الباقون: وأدبار بالفتح.
(2) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: ينادي المنادي بإثبات الياء في الوصل وقرأ الباقون: المناد بدون ياء.
(3) . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: تشّقّق بتشديد الشين وقرأ الباقون: تشقّق بتخفيف الشين.
(2/305)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
سورة الذاريات
مكية وآياتها 60 نزلت بعد الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الذاريات) وَالذَّارِياتِ ذَرْواً هي الرياح تذرو التراب وغيره، ومنه قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الكهف: 45] وانتصب ذروا على المصدرية فَالْحامِلاتِ وِقْراً هي السحاب تحمل المطر، والوقر: الحمل وهو مفعول به فَالْجارِياتِ يُسْراً هي السفن تجري في البحر، وإعراب يسرا صفة لمصدر محذوف ومعناه بسهولة فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك، وأمرا مفعول به، وقيل: إن الحاملات وقرا: السفن، وقيل: جميع الحيوان الحامل، وقيل: إن الجاريات يسرا:
السحاب، وقيل: الجواري من الكواكب والأول أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ هذا جواب القسم ويحتمل: توعدون أن يكون من الوعد أو من الوعيد، والأظهر أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ الدين هنا الجزاء، وقيل: الحساب وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي ذات الطرائق، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت عليه الرياح، وكذلك حبك الزرع، وهي الطرائق التي فيه. وقيل:
الحبك: النجوم. وقيل: زينة السماء وقيل: حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس، لأنهم اختلفوا فمنهم مؤمن ومنهم كافر، ويحتمل أن يكون خطابا للكفار خاصة، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: كاهن وقال بعضهم: شاعر يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ معنى يؤفك: يصرف، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. الثاني: أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين، والمعنى يصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث: أن يكون الضمير للقول المختلف، والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته، وهذا القول حسن، إلا أن عرف الاستعمال
(2/306)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
في أفك ويؤفك إنما هو في العرف من خير إلى شر، وهذا من شر إلى خير. الرابع: أن يكون الضمير للقول المختلف، وتكون عن سببية والمعنى: يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم كقولهم: قاتلك الله، وقيل: قتل بمعنى لعن، قال ابن عطية: واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقتل، ثم جرى مجرى لعن وقبح، والخراصون الكذابون، وأصل الخرص: التخمين والقول بالظن والإشارة إلى الكفار، وقيل: إلى الكهان والأول أظهر الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ الغمرة ما يغطي عقل الإنسان، وأصله من غمرة الماء، والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ هذا جواب عن سؤالهم، ومعنى يفتنون: يحرقون ويعذبون، ومنه قيل للحرّة: فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها، ويحتمل أن يكون يومهم معربا والعامل فيه مضمر تقديره: يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون، وأن يكون مبنيا لإضافته إلى مبني، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع والتقدير هو: يوم هم على النار يفتنون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا حرقتكم.
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يعنى يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم، وقيل: المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه، والأول أظهر وأرجح لدلالة الكلام عليه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وهو الصحيح: أنهم كانوا ينامون قليلا من الليل، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة والتضرع والدعاء، والآخر: أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلا ولا كثيرا، ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه: الأول أن يكون قليلا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلا، لأن قليلا صفة مشبهة باسم الفاعل، وتكون ما مصدرية، والتقدير: كانوا قليلا هجوعهم من الليل، والثاني: مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير: كانوا قليلا الذي يهجعون فيه من الليل، والثالث: أن تكون ما زائدة، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل، والرابع مثل هذا إلا أن قليلا صفة لمصدر محذوف، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعا قليلا، وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل، والآخر أن تكون ما نافية، وقليلا خبر كان، والمعنى كانوا قليلا في الناس، ثم ابتدأ بقوله من الليل ما يهجعون وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعف هذا المعنى لبطلان إعرابه.
(2/307)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم، والأسحار آخر الليل، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل: من يستغفرني فأغفر له «1» ، وقيل: معنى يستغفرون: يصلون وهذا بعيد من اللفظ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ الحق هنا نوافل الصدقات، وقيل: المراد الزكاة وهذا بعيد لأن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، وقيل: إن الآية منسوخة بالزكاة، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] وإن كان غير واجب، وقال بعض العلماء:
حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي:
أعياني أن أعلم ما المحروم، وقيل: المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم، وقيل الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: الذي ماتت ماشيته، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال وَفِي أَنْفُسِكُمْ إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر، ولقد قال بعض العلماء فيه: إن فيه خمسة آلاف حكمة، وقال بعضهم: الإنسان نسخة مختصرة من العالم وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ معنى: في السماء رزقكم: المطر، وقيل: القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون ما توعدون من الوعد والوعيد والكل في السماء، ولذلك قيل: يعني الجنة والنار. وقيل: الخير والشر إِنَّهُ لَحَقٌّ هذا جواب القسم، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه، وما زائدة: وقرئ مثل بالنصب والرفع «2» فالرفع صفة لحق، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه، أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو أينما وكلما.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ المراد بالاستفهام في مثل هذا التفخيم والتهويل، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بالولد وبإهلاك قوم لوط، ووصفهم بالمكرمين لأنهم مكرمون عند الله، ولأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم، لأنه خدمهم بنفسه وعجل لهم الضيافة، والعامل في إذ دخلوا على هذا: المكرمين، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكر فَقالُوا سَلاماً نصب هذا لأنه في معنى الطلب
__________
(1) . هو جزء من حديث النزول وهو من الصحيح المتفق عليه رواه أبو هريرة وأوله: ينزل الله تعالى كل ليلة ... إلخ راجع البخاري ج 2 كتاب التجهد باب: 14 ص 47.
(2) . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: لحق مثل بالضم والباقون: مثل بالفتح.
(2/308)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
وهو مفعول بفعل مضمر، ورفع الثاني لأنه خبر تقديره: أمري سلام، وهذا على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنما رفع الثاني ليدل على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيوه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية تقديره:
سلمنا عليك سلاما، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره: سلام عليكم قوم منكرون أي لم يعرفهم
قالَ أَلا تَأْكُلُونَ يحتمل أن يكون ألا حضا على الأكل، أو تكون الهمزة للإنكار دخلت على لا النافية فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً إنما خاف منهم لما لم يأكلوا.
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ هو إسحاق عليه السلام لقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] فِي صَرَّةٍ أي صيحة، وذلك قولها: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود: 72] وهو من صرّ القلم وغيره إذا صوّت، وقيل: معناه في جماعة في النساء فَصَكَّتْ وَجْهَها أي ضربته حياء منهم وتعجبا من ولادتها وهي عجوز وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ تقديره: قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو تقديره: أتلد عجوز عقيم؟ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي ما شأنكم وخبركم، والخطب أكثر ما يقال في الشدائد قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم سيدنا لوط، وقد ذكرنا الحجارة ومسومة في هود فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضمير المجرور لقرية قوم سيدنا لوط، لأن الكلام يدل عليها وإن لم يتقدم ذكرها، والمراد بالمؤمنين لوط وأهله: أمرهم الله بالخروج من القرية لينجو من العذاب الذي أصاب أهلها، ووصفهم بالمؤمنين وبالمسلمين لأنهم جمعوا الوصفين وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان في الأحزاب وَفِي مُوسى معطوف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين أو على قوله:
وتركنا فيها آية فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ معنى تولى أعرض عن الإيمان، وركنه سلطانه وقوته قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي قالوا إن موسى ساحر أو مجنون: فأو للشك أو للتقسيم، وقيل: بمعنى الواو وهذا ضعيف ولا يستقيم هنا هُوَ مُلِيمٌ
أي فعل ما يلام عليه يعني فرعون الرِّيحَ الْعَقِيمَ وصفها بالعقم، لأنها لا بركة فيها من إنشاء المطر أو إلقاح الشجر كَالرَّمِيمِ أي الفاني المنقطع، والعموم هنا يراد به الخصوص فيما أذن للريح أن تهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما أن الحين هي الثلاثة الأيام
(2/309)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
بعد عقرهم الناقة والآخر أن الحين من بعد ما بعث صالح عليه السلام إلى حين هلاكهم، وعلى هذا يكون: فعتوا مترتبا بعد تمتعهم، وأما على الأول فيكن إخبارا عن حالهم غير مرتب على ما قبله
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني الصيحة التي صاحها جبريل وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يعاينونها لأنها كانت بالنهار.
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة، وانتصاب السماء بفعل مضمر وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن معناه قادرون فهو من الوسع وهو الطاقة، ومنه عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
[البقرة: 236] أي القوي على الإنفاق، والآخر جعلنا السماء واسعة، أو جعلنا بينها وبين الأرض سعة، والثالث أوسعنا الأرزاق بمطر السماء فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الماهد الموطئ للموضع وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي نوعين مختلفين كالليل والنهار، والسواد والبياض، والصحة والمرض وغير ذلك فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أمر بالرجوع إليه بالتوبة والطاعة وفي اللفظ تحذير وترهيب أَتَواصَوْا بِهِ توقيف [سؤال] وتعجيب أي هم بمثابة من أوصى بعضهم بعضا أن يقول ذلك فَتَوَلَّ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي قد بلغت الرسالة فلا لوم عليك وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل: معناه خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي، وقيل ليتذللوا لي: فإن جميع الإنس والجن متذلل ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي لا أريد أن يطعمون، لأني منزه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غني عن العالمين، وقيل: المعنى ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوزا، وقيل: معناه ما أريد أن ينفعوني لأني غنيّ عنهم، وعبّر عن النفع العام بالإطعام، والأول أظهر الْمَتِينُ أي الشديد القوة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً الذنوب النصيب، ويريد به هنا نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب الدلو، والمراد بالذين ظلموا كفار قريش، وبأصحابهم من تقدم من الكفار فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يحتمل أن يريد يوم القيامة أو يوم هلاكهم ببدر، والأول أرجح لقوله في المعارج ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [44] يعني يوم القيامة.
(2/310)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
سورة الطور
مكية وآياتها 49 نزلت بعد السجدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الطور) وَالطُّورِ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وقيل: الطور كل جبل فكأنه أقسم بجنس الجبال وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن، وقيل: صحائف الأعمال فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق في اللغة: الصحيفة، وخصصت في العرف بما كان من جلد، والمنشور خلاف المطوي وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبدا وبهذا عمرانه، وهو حيال الكعبة، وقيل: البيت المعمور: الكعبة وعمرانها بالحجاج والطائفين، والأول أظهر، وهو قول علي وابن عباس وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ هو بحر الدنيا، وقيل: بحر في السماء تحت العرش: والأول أظهر وأشهر، ومعنى المسجور: المملوء ماء، وقيل: الفارغ من الماء، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة، واللغة تقتضي الوجهين:
لأن اللفظ من الأضداد، وقيل: معناه الموقد نارا من قولك: سجرت التنور، واللغة أيضا تقتضي هذا، وروي أن جهنم في البحر إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هذا جواب القسم، ويعني عذاب الآخرة يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي: تجيء وتذهب، وقيل: تدور، وقيل: تتشقق، والعامل في الظرف واقع ودافع أو محذوف الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ الخوض: التخبط في الأباطيل شبّه بخوض الماء يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون بتعنيف، ويوم بدل من الظرف المتقدم.
أَفَسِحْرٌ هذا؟ توبيخ للكفار على ما كانوا يقولونه في الدنيا من أن القرآن سحر أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ توبيخ أيضا لهم، وتهكم بهم أي هل أنتم لا تبصرون هذا العذاب الذي حل بكم كما كنتم في الدنيا لا تبصرون الحقائق؟
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ليس المراد بذلك الأمر بالصبر ولا النهي عنه، وإنما المراد التسوية بين الصبر وعدمه في أن كل واحد من الحالين لا ينفعهم، ولا يخفف عنهم شيئا من العذاب إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا
(2/311)
تعليل لما ذكر من عذابهم، وليس تعليلا للصبر ولا لعدمه كما قال بعض الناس فاكِهِينَ يحتمل أن يكون معناه أصحاب فاكهة، فيكون نحو لابن وتامر صاحب لبن وصاحب تمر أو يكون من الفكاهة بمعنى السرور وَوَقاهُمْ معطوف على قوله: في جنات أو على آتاهم ربهم، أو تكون الواو للحال كُلُوا وَاشْرَبُوا أي يقال لهم: كلوا هَنِيئاً صفة لمصدر محذوف تقديره: كلوا أكلا هنيئا، ويحتمل أن يكون وقع موقع فعل تقديره: هنأكم الأكل والشرب بِحُورٍ عِينٍ الحور: جمع حوراء وهي الشديدة بياض بياض العين وسواد سوادها، والعين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالها، وإنما دخلت الباء في قوله بحور لأنه تضمن قوله: زوّجناهم معنى قرناهم، قاله الزمخشري وقال: إن الذين آمنوا معطوف على بحور عين أي قرناهم بحور للتلذذ بهن، وبالذين آمنوا للأنس معهم. والأظهر أن الكلام تمّ في قوله «بحور عين» ويكون والذين آمنوا مبتدأ خبره ألحقنا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» معنى الآية ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه» «2» فذلك كرامة للأبناء بسبب الآباء، قيل: إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا، وقيل: على الإطلاق في الأبناء المؤمنين، وبإيمان في موضع الحال من الذرية، والمعنى أنهم اتبعوا آباءهم في الإيمان، وقال الزمخشري: إن هذا المجرور يتعلق بألحقنا، والمعنى عنده بسبب الإيمان ألحقنا بهم ذريتهم، والأول أظهر، فإن قيل: لم قال بإيمان بالتنكير؟ فالجواب: أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلا لدرجة آبائهم، ولكنهم لحقوا بهم كرامة لآباء، فالمراد تقليل إيمان الذرية ولكنه رفع درجتهم، فكيف إذا كان إيمانا عظيما وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي ما أنقصناهم من ثواب أعمالهم بل وفينا لهم أجورهم، وقيل المعنى: ألحقنا ذريتهم بهم، وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم بسبب ذلك، بل فعلنا ذلك تفضلا زيادة إلى ثواب أعمالهم، والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا، وقيل: إنه يعود على الذرية كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي مرتهن، فإما أن تنجيه حسناته، وإما أن تهلكه
__________
(1) . اختلف القراء في قراءتها: فقرأ أهل الكوفة ذريتهم بالافراد الأولى بالرفع والثانية بالنصب وقرأ نافع ذريتهم الأولى بالافراد: ذرياتهم. والثاني بالجمع والكسر: ذرياتهم وقرأ أبو عمر: وأتبعناهم ذرياتهم، وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر وقرأ ابن عامر: وأتبعتهم ذرياتهم بالألف والضم. وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر.
(2) . لم أعثر عليه ولا شك بأن معناه صحيح لورود القرآن به، وقد أورده الطبري موقوفا على ابن عباس.
(2/312)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
سيئاته
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ الإمداد هو الزيادة مرة بعد مرة يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطونها إذ هم جلساء على الشراب لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «1» اللغو الكلام الساقط، والتأثيم: الذنب فهي بخلاف خمر الدنيا غِلْمانٌ لَهُمْ يعني خدامهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ اللؤلؤ الجوهر، والمكنون المصون، وذلك لحسنه وقيل: هو الذي لم يخرج من الصدف قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي كنا في الدنيا خائفين من الله، والإشفاق شدة الخوف السَّمُومِ أشد الحر وقيل: هو من أسماء جهنم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ يحتمل أن يكون بمعنى نعبده، أو من الدعاء بمعنى الرغبة، ومن قبل يعنون في الدنيا قبل لقاء الله إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ البر الذي يبرّ عباده ويحسن إليهم، وقرأ نافع والكسائي أنه بفتح الهمزة على أن يكون مفعولا من أجله، أو يكون هذا اللفظ هو المدعو به وقرأ الباقون بكسرها على الاستئناف.
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ذكّر الناس. ثم نفى عنه ما نسبه إليه الكفار من الكهانة والجنون. ومعنى: بنعمة ربك: بسبب إنعام الله عليك أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أم في هذا الموضع وفيما بعده للاستفهام بمعنى الإنكار، والتربص الانتظار، وريب المنون، حوادث الدهر، وقيل:
الموت، وكانت قريش قد قالت: إنما هو شاعر ننتظر به ريب المنون فيهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء كزهير والنابغة قُلْ تَرَبَّصُوا أمر على وجه التهديد أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا الأحلام العقول: أي كيف تأمرهم عقولهم بهذا، والإشارة إلى قولهم هو شاعر، أو إلى ما هم عليه من الكفر والتكذيب، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز كقوله:
أصلاتك تأمرك [هود: 87] أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أم هنا بمعنى بل، ويحتمل أن تكون بمعنى بل وهمزة الاستفهام بمعنى الإنكار كما هي في هذه المواضع كلها أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه، وضمير الفاعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضمير المفعول للقرآن فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ردّ عليهم وإقامة حجة عليهم، والأمر هنا للتعجيز
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن معناه أم خلقوا من غير رب أنشأهم واستعبدهم،
__________
(1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب: لا لغو فيها ولا تأثيم مثل الآية: [196] البقرة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
(2/313)
فهم من أجل ذلك لا يعبدون الله: الثاني أم خلقوا من غير أب ولا أم كالجمادات فهم لا يؤمرون ولا ينهون كحال الجمادات: الثالث أم خلقوا من غير أن يحاسبوا ولا يجازوا بأعمالهم فهو على هذا كقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ معناه أهم الخالقون لأنفسهم بحيث لا يعبدون الخالق؟ أم هم الخالقون للمخلوقات بحيث يتكبرون؟ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ المعنى أعندهم خزائن الله بحيث يستغنون عن عبادته؟ وقيل: أعندهم خزائن الله بحيث يعطون من شاءوا ويمنعون من شاءوا؟ ويخصون بالنبوّة من شاءوا أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «1» أي الأرباب الغالبون، وقيل:
المسيطر المسلط القاهر أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يعني أم لهم سلم يصعدون به إلى السماء، فيسمعون ما تقول الملائكة، بحيث يعلمون صحة دعواهم. ثم عجّزهم بقوله:
فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة على دعواهم أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ معناه أتسألهم على الإسلام أجرة، فيثقل عليهم غرمها فيشق عليهم اتباعك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ المعنى أعندهم علم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى يقولوا: لا نبعث وإن بعثنا لا نعذب؟ وقيل: المعنى فهم يكتبون للناس سننا وشرائع من عبادة الأصنام وتسييب السوائب وشبه ذلك أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً إشارة إلى كيدهم في دار الندوة «2» بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي المغلوبون في الكيد، والذين كفروا يعني من تقدم الكلام فيهم وهم كفار قريش، فوضع الظاهر موضع المضمر، ويحتمل أن يريد جميع الكفار أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ المعنى هل لهم إله غير الله يعصمهم من عذاب الله ويمنعهم منه؟ وحصر الله في هذه الآية جميع المعاني التي توجب التكبر والبعد من الدخول في الإسلام ونفاها عنهم ليبين أن تكبرهم من غير موجب وكفرهم من غير حجة.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ كانوا قد طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، فالمعنى أنهم لو رأوا الكسف ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغيان والجهل والعناد أن يقولوا: ليس بكسف وإنما هو سحاب مركوم: أي كثيف بعضه فوق
__________
(1) . قرأ ابن كثير وحفص: المسيطرون وقرأ حمزة بالإشمام وقرأ الباقون بالصاد المصيطرون.
(2) . مركز اجتماعات كان في مكة قبل الإسلام.
(2/314)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
بعض
فَذَرْهُمْ منسوخ بالسيف يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «1» يعني يوم القيامة والصعقة فيه هي النفخة الأولى، وقيل: غير ذلك والصحيح ما ذكرنا لقوله في المعارج [44] عن يوم القيامة ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، عَذاباً دُونَ ذلِكَ يعني قتلهم يوم بدر، وقيل الجوع بالقحط، وقيل: عذاب القبر وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على تكذيبهم لك وإمهالنا لهم فإنا نراك وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه قول سبحان الله، ومعنى حين تقوم من كل مجلس، وقيل: أراد حين تقوم وتقعد، وفي كل حال وجعل القيام مثالا: الثاني أنه الصلوات النوافل والثالث أنه الصلوات الفرائض، فحين تقوم الظهر والعصر: أي حين تقوم من نوم القائلة، ومن الليل المغرب والعشاء، وإدبار النجوم: الصبح ومن قال: هي النوافل، جعل إدبار النجوم ركعتي الفجر.
__________
(1) . قرأ ابن عامر وعاصم: يصعقون، وقرأ الباقون: يصعقون بفتح الياء.
(2/315)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
سورة النجم
مكية إلا آية 32 فمدنية وآياتها 62 نزلت بعد الإخلاص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النجم) وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها الثريا لأنها غلب عليها التسمية بالنجم، ومعنى هوى غرب وانتثر يوم القيامة، الثاني أنه جنس النجوم، ومعنى هوى كما ذكرنا، أو انقضت ترجم الشياطين. الثالث أنه من نجوم القرآن، وهو الجملة التي تنزل، وهوى على هذا معناه نزل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى هذا جواب القسم، والخطاب لقريش، وصاحبكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فنفى عنه الضلال والغيّ، والفرق بينهما: أن الضلال بغير قصد، والغيّ بقصد وتكسب وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي ليس يتكلم بهواه وشهوته، إنما يتكلم بما يوحي الله إليه إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يعني القرآن عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ضمير المفعول للقرآن أو للنبي صلى الله عليه وسلم، والشديد القوى: جبريل، وقيل: الله تعالى، والأول أرجح لقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير: 20] والقوى جمع: قوة ذُو مِرَّةٍ أي ذو قوّة، وقيل: ذو هيئة حسنة، والأول هو الصحيح في اللغة فَاسْتَوى أي استوى جبريل في الجو إذ رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ب [غار] حراء، وقيل: معنى استوى: ظهر في صورته على ستمائة جناح، قد سدّ الأفق بخلاف ما كان يتمثل به من الصور إذا نزل بالوحي، وكان غالبا ما ينزل في صورة الصحابي دحية الكلبي وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الضمير لجبريل وقيل: لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأول أصح ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى الضميران لجبريل أي دنا من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتدلّى في الهواء، وهو عند بعضهم من المقلوب تقديره: فتدلى فدنا.
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى القاب: مقدار المسافة، أي كان جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام في القرب بمقدار قوسين عربيتين، ومعناه من طرف العود إلى الطرف الآخر، وقيل: من الوتر إلى العود، وقيل: ليس القوس التي يرمى بها، وإنما هي ذراع تقاس بها المقادير ذكره الثعلبي. وقال: إنه من لغة أهل الحجاز، وتقدير الكلام:
فكان مقدار مسافة جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام مثل قاب قوسين. ثم
(2/316)
حذفت هذه المضافات، ومعنى أو أدنى أو أقرب وأو هنا مثل قوله: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل عنده أن يكون قاب قوسين أو يكون أدنى، وهذا الذي ذكرنا أن هذه الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح، وقد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح، وقيل: إنها لله تعالى، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنو والتدلي وغير ذلك فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
في هذه الضمائر ثلاثة أقوال: الأول أن المعنى أوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى.
الثاني أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وعاد الضمير على الله في القولين، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره، فهو كقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر. الثالث أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، وفي قوله: ما أوحى إبهام مراد يقتضي التفخيم والتعظيم ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1» أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بعينه، بل صدق بقلبه أن الذي رآه بعينه حق، والذي رأى هو جبريل، يعني حين رآه بمقدار ملأ الأفق، وقيل: رأى ملكوت السموات والأرض، والأول أرجح لقوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وقيل: الذي رآه هو الله تعالى، وقد أنكرت «2» ذلك عائشة، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّى أراه؟ «3» أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى «4» هذا خطاب لقريش، والمعنى أتجادلونه على ما يرى، وكانت قريش قد كذبت لما قال إنه رأى ما رأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام مرة أخرى وهو ليلة الإسراء، وقيل: ضمير المفعول لله تعالى، وأنكرت ذلك عائشة، وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه ليلة الإسراء فقد أعظم الفرية على الله تعالى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «5» هي شجرة في السماء السابعة قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ثمرتها كالقلال وورقها كآذان الفيلة، وسميت سدرة المنتهى لأن إليها ينتهي علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى.
وقيل: سميت بذلك لأن ما نزل من أمر الله يلتقي عندها، فلا يتجاوزها ملائكة العلو إلى أسفل، ولا يتجاوزها ملائكة السفل إلى أعلى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى يعني أن الجنة التي
__________
(1) . قرأ هشام عن ابن عامر: ما كذّب الفؤاد. وقرأ الباقون بالتخفيف: ما كذب.
(2) . روى الترمذي في كتاب التفسير (6) ص 262 ج 5 عن عائشة قالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله العزية: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم العزية على الله والله يقول: لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.. إلخ. [.....]
(3) . رواه مسلم عن أبي ذر ج 1/ 161 كتاب الإيمان.
(4) . أفتمارونه على ما يرى: قرأها حمزة والكسائي أفتمرونه: بدون ألف والباقون بالألف.
(5) . ورد الحديث عن سدرة المنتهى في البخاري كتاب مناقب الأنصار ص 248 ج 4.
(2/317)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
وعدها الله عباده هي عند سدرة المنتهى، وقيل: هي جنة أخرى تأوي إليها أرواح الشهداء، والأول أظهر وأشهر
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى فيه إبهام لقصد التعظيم، قال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب، وقيل: كثرة الملائكة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فغشيها ألوان لا أدري ما هي، وهذا أولى أن تفسر به الآية ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أي ما زاغ بصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عما رآه من العجائب، بل أثبتها وتيقنها، وما طغى: أي ما تجاوز ما رأى إلى غيره لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني ما رأى ليلة الإسراء من السموات والجنة والنار والملائكة والأنبياء وغير ذلك. ويحتمل أن تكون الكبرى مفعولا أو نعتا لآيات ربه، والمعنى يختلف على ذلك أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هذه أوثان كانت تبعد من دون الله، فخاطب الله من كان يعبدها من العرب على وجه التوبيخ لهم، وقال ابن عطية: الرؤيا هنا رؤية العين لأن الأوثان المذكورة أجرام مرئية، فأما اللات فصنم كان بالطائف، وقيل: كان بالكعبة، وأما العزّى فكانت صخرة بالطائف، وقيل: شجرة فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها تدعو بالويل فضربها بالسيف حتى قتلها، وقيل: كانت بيتا تعظمه العرب وأصل لفظ العزى مؤنثة الأعز، وأما مناة فصخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة. وكانت أعظم هذه الأوثان، قال ابن عطية: ولذلك قال تعالى: الثالثة الأخرى فأكدها بهاتين الصفتين، وقال الزمخشري: الأخرى ذم وتحقير أي المتأخرة الوضيعة القدر.
ومنه: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف: 38] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأوثان بنات الله، فأنكر الله عليهم ذلك أي كيف تجعلون لأنفسكم الأولاد الذكور، وتجعلون لله البنات التي هي عندكم حقيرة بغيضة، وقد ذكر هذا المعنى في النحل وغيرها، ويحتمل أن يكون أنكر عليهم جعل هذه الأوثان شركاء لله تعالى مع أنهن إناث والإناث حقيرة بغيضة عندهم تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» أي هذه القسمة التي قسمتم جائرة غير عادلة، يعني جعلهم الذكور لأنفسهم والإناث لله تعالى ووزن ضيزى فعلى بضم الفاء، ولكنها كسرت لأجل الياء التي بعدها إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها الضمير للأوثان، وقد ذكر هذا المعنى في الأعراف: 71 في قوله أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أنهم يقولون أقوالا بغير حجة كقولهم: إن الملائكة بنات الله، وقولهم: إن الأصنام تشفع لهم وغير ذلك أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أم هنا
__________
(1) . ضيزى: قرأها ابن كثير بالهمز: ضئزى والباقون بالياء.
(2/318)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
للإنكار، والإنسان هنا جنس بني آدم: أي ليس لأحد ما يتمنى بل الأمر بيد الله، وقيل: إن الإشارة إلى ما طمع فيه الكفار من شفاعة الأصنام، وقيل: إلى قول العاصي بن وائل: لأوتين مالا وولدا، وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون نبيا، والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ الآية: رد على الكفار في قولهم: إن الأوثان تشفع لهم، كأنه يقول: الملائكة الكرام لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بإذن الله فكيف أوثانكم؟ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى معناه أن الملائكة لا يشفعون لشخص إلا بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فيه ويرضى عنه لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى يعني قولهم: إن الملائكة بنات الله، ثم ردّ عليهم بقوله: وما لهم به من علم ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إلى ذلك انتهى علمهم لأنهم علموا ما ينفع في الدنيا، ولم يعلموا ما ينفع في الآخرة لِيَجْزِيَ اللام متعلقة بمعنى ما قبلها، والتقدير: أن الله مالك أمر السموات والأرض ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا. وقيل: يتعلق بضل واهتدى كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» ذكرنا الكبائر في النساء [31] إِلَّا اللَّمَمَ فيه أربعة أقوال: الأول: أنه صغائر الذنوب فالاستثناء على هذا منقطع. الثاني: أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفلتة والسقطة دون دوام عليها. الثالث: أنه ما ألموا به في الجاهلية من الشرك والمعاصي: الرابع: أنه الهمّ بالذنوب وحديث النفس به دون أن يفعل أَجِنَّةٌ جمع جنين فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون نهى عن أن يزكي بعض الناس بعضا، وهذا بعيد لأنه تجوز التزكية في الشهادة وغيرها.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآية: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل نزلت في العاصي بن وائل وَأَكْدى أي قطع العطاء وأمسك وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قيل: وفي طاعة الله في ذبح ولده، وقيل: وفي تبليغ الرسالة، وقيل: وفي شرائع الإسلام، وقيل: وفي الكلمات التي ابتلاه الله بهن، وقيل: وفي هذه العشر الآيات
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ذكر فيما تقدم،
__________
(1) . كبائر الإثم: قرأها حمزة والكسائي: كبير الإثم والباقون: كبائر.
(2/319)
وهذه الجملة تفسير لما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى السعي هنا بمعنى العمل، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعتق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره، ويصل نفعها إلى من فعلت عنه، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والصحيح أنها محكمة لأنها خبر: والأخبار لا تنسخ. وفي تأويلها ثلاثة أقوال: الأول: أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا فلا يلزم في شريعتنا الثاني: أن للإنسان ما عمل بحق وله ما عمل له غيره بهبة العامل له، فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها. الثالث: أنها في الذنوب، وقد اتفق أنه لا يحتمل أحد ذنب أحد، ويدل على هذا قوله بعدها: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وكأنه يقول: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يؤاخذ إلا بذنب نفسه وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى قيل: معناه يراه الخلق يوم القيامة، والأظهر أنه صاحبه لقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فيه قولان أحدهما أن معناه إلى الله المصير في الآخرة، والآخر أن معناه أن العلوم تنتهي إلى الله، ثم يقف العلماء عند ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا فكرة في الرب «1» .
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى قيل: معناه أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار، وهذا تخصيص لا دليل عليه، وقيل: أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات، وهذا مجاز وقيل: خلق في بني آدم الضحك والبكاء والصحيح أنه عبارة عن الفرح والحزن لأن الضحك دليل على السرور والفرح، كما أن البكاء دليل على الحزن. فالمعنى أن الله تعالى أحزن من شاء من عباده، وأسر من شاء أَماتَ وَأَحْيا يعني الحياة المعروفة والموت المعروف وقيل: أحيا بالإيمان وأمات بالكفر والأول أرجح، لأنه حقيقة مِنْ نُطْفَةٍ يعني المني إِذا تُمْنى من قولك: أمنى الرجل إذا خرج منه المنيّ النَّشْأَةَ الْأُخْرى يعني الإعادة للحشر وأقنى يعني أكسب عباده المال، وهو من قنية المال وهو كسبه وادخاره وقيل: معنى أقنى: أفقر وهذا لا تقتضيه اللغة، وقيل: معناه أرضى وقيل: قنع عبده
__________
(1) . لم أجده بهذا اللفظ وجاء في تخريج أحاديث الإحياء ج 4 ص 424. تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره. وعزاه لأبي نعيم في الحلية وإسناده ضعيف والطبراني في الأوسط عن ابن عمر.
(2/320)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
الشِّعْرى نجم في السماء، وتسمى كلب الجبار وهما شعريان وهما: الغميصاء والعبور.
وخصها بالذكر دون سائر النجوم لأن بعض العرب كان يعبدها عاداً الْأُولى وصفها بالأولى لأنها كانت في قديم الزمان، فهي الأولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة، وقيل: إنما سميت أولى لأن ثم عادا أخرى متأخرة وهذا لا يصح، وقرأ نافع عاد لّولى بإدغام تنوين عاد في لام الأولى بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام وضعّف المزني والمبرد هذه القراءة وهمز قالون الأولى دون ورش وقرأ الباقون على الأصل بكسر تنوين عادا وإسكان لام الأولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى «1» أي ما أبقى منهم أحدا، وقيل: ما أبقى عليهم
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى هي مدينة قوم لوط، ومعنى أهوى طرحها من علو إلى أسفل، وفي قوله ما غشى تعظيم للأمر.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هذا مخاطبة للإنسان على الإطلاق معناه: بأي نعم ربك تشك هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى يعني القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى من النذر الأولى من نوعها وصفتها أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة كاشِفَةٌ يحتمل لفظه ثلاثة أوجه: أن يكون مصدرا كالعافية، أي ليس لها كشف وأن يكون بمعنى كاشف والتاء للمبالغة كعلامة، وأن يكون صفة لمحذوف تقديره: نفس كاشفة أو جماعة كاشفة ويحتمل معناه وجهين:
أحدهما أن يكون من الكشف بمعنى: الإزالة أي ليس لها من يزيلها إذا وقعت والآخر أن يكون بمعنى الاطلاع أي ليس لها من يعلم وقتها إلا الله أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ الإشارة إلى القرآن وتعجبهم منه إنكاره وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاعبون لاهون، وقيل:
غافلون مفرطون فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره، وقد قال ابن مسعود قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد وسجد كل من كان معه.
__________
(1) . وثمود: قرأها عاصم وحمزة بفتحة، وقرأها الباقون، وثمودا.
(2/321)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
سورة القمر
مكية إلا الآيات 4 و 45 و 46 فمدنية وآياتها 55 نزلت بعد الطارق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة القمر) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة، ومعنى قربها أنها بقي لها من الزمان [شيء] قليل بالنسبة إلى ما مضى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين «1» ، وأشار بالسبابة والوسطى وَانْشَقَّ الْقَمَرُ هذا إخبار بما جرى في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن قريشا سألته آية فأراهم انشقاق القمر. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اشهدوا «2» ، وقال ابن مسعود: انشق القمر فرأيته فرقتين فرقة وراء الجبل وأخرى دونه، وقيل: معنى انشق القمر أنه ينشق يوم القيامة، وهذا قول باطل تردّه الأحاديث الصحيحة الواردة بانشقاق القمر، وقد اتفقت الأمة على وقوع ذلك وعلى تفسير الآية بذلك إلا من لا يعتبر قوله وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هذه الضمائر لقريش والآية المشار إليها انشقاق القمر وعند ذلك قالت قريش: سحر محمد القمر ومعنى مستمر: دائم- وقيل: معناه ذاهب يزول عن قريب- وقيل: شديد وهو على هذا المعنى من المرة وهي القوة وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي كل شيء لا بد له من غاية، فالحق يحق والباطل يبطل وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ الأنباء هنا، يراد بها ما ورد في القرآن من القصص والبراهين والمواعظ، ومزدجر اسم مصدر بمعنى الازدجار أو اسم موضع بمعنى أنه مظنة أن يزدجر به حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدل من ما فيه أو خبر ابتداء مضمر فَما تُغْنِ النُّذُرُ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية لمعنى الاستبعاد والإنكار فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم.
__________
(1) . قال العجلوني فيه: رواه الشيخان عن أنس وأحمد عن سهل بن سعد وجابر بن عبد الله.
(2) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص 456.
(2/322)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ «1» العامل في يوم مضمر تقديره: اذكر أو قوله:
يَخْرُجُونَ بعد ذلك، وليس العامل فيه تول عنهم لفساد المعنى. فقد تم الكلام في قوله: تول عنهم فيوقف عليه وقيل: المعنى تولّ عنهم أي يوم يدع الداع والأول أظهر وأشهر. والداعي جبريل أو إسرافيل إذ ينفخ في الصور، والشيء النكر الشديد الفظيع. وأصله من الإنكار.
أي: هو منكور لأنه لم ير قط مثله، والمراد به يوم القيامة
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ كناية عن الذلة وانتصب خشعا على الحال من الضمير في يخرجون يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ شبّههم بالجراد في خروجهم من الأرض، فكأنه استدلال على البعث كالاستدلال بخروج النبات. وقيل: إنما شبههم بالجراد في كثرتهم، وأن بعضهم يموج في بعض مُهْطِعِينَ أي مسرعين وقيل: ناظرين إلى الداع «2» فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا عليه السلام، ووصفه هنا بالعبودية تشريفا له واختصاصا وَازْدُجِرَ أي زجروه بالشتم والتخويف وقالوا له: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ عبارة عن كثرة المطر، فكأنه يخرج من أبواب، وقيل: فتحت في السماء أبواب يومئذ حقيقة، والمنهمر الكثير فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي قد قضي في الأزل، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قدر بمقدار معلوم، وروي في ذلك أنه علا فوق الأرض أربعين ذراعا وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة والدسر هي المسامير واحدها دسار، وقيل: هي مقادم السفينة، وقيل: أضلاعها والأول أشهر تَجْرِي بِأَعْيُنِنا عبارة عن حفظ الله ورعيه لها جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي جزاء لنوح:
وقيل: جزاء لله تعالى والأول أظهر، وانتصب جزاء على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ما تقدم من فتح أبواب السماء وما بعده من الأفعال أي جعلنا ذلك كله جزاء لنوح، ويحتمل أن يكون قوله: كفر من الكفر بالدين والتقدير لمن كفر به فحذف الضمير، أو يكون من الكفر بالنعمة لأن نوحا عليه السلام نعمة من الله كفرها قومه، فلا يحتاج على هذا إلى الضمير المحذوف.
__________
(1) . قوله: يدع الداع: قرأ قالون عن نافع والبزي وأبو عمرو: يوم يدع الداعي بإثبات الياء وصلا وحذفها الباقون.
(2) . قوله: مهطعين إلى الداع. قرأ أهل الحجاز والبصرة: (مهطعين إلى الداعي) بإثبات الياء وصلا وأثبتها ابن كثير وقفا وحذفها الباقون وصلا ووقفا.
(2/323)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً الضمير للقصة المذكورة أو الفعلة أو السفينة وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تحضيض على الادّكار فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده، ووزن مدكر مفتعل وأصله مدتكر ثم أبدل من التاء دالا وأدغمت فيها الدال فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «1» توقيف [سؤال] فيه تهديد لقريش والنذر جمع نذير وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي يسرناه للحفظ، وهذا معلوم بالمشاهدة، فإنه يحفظه الأطفال الأصاغر وغيرهم حفظا بالغا بخلاف غيره من الكتب، وقد روي أنه لم يحفظ شيء من كتب الله عن ظهر قلب إلا القرآن. وقيل: معنى الآية سهلناه للفهم والاتعاظ به لما تضمن من البراهين والحكم البليغة، وإنما كرر هذه الآية البليغة وقوله: فذوقوا عذابي ونذر لينبه السامع عند كل قصة، فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي ذكرت عبرة وموعظة، فختم كل واحدة بما يوقظ السامع من الوعيد في قوله: فكيف كان عذابي ونذر، ومن الملاطفة في قوله: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر رِيحاً صَرْصَراً أي مصوتة فهو من الصرير يعني الصوت وقيل: معناه باردة فهو من الصر يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ روي أنه كان يوم أربعاء، حتى رأى بعضهم أن كل يوم أربعاء نحس ورووا:
آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر «2» تَنْزِعُ النَّاسَ أي تقلعهم من مواضعهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أعجاز النخل هي: أصولها، والمنقعر: المنقطع. فشبه الله عادا لما هلكوا بذلك لأنهم طوال عظام الأجساد كالنخل، وقيل: كانت الريح تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس، فشبههم بأعجاز النخل لأنها دون أغصان: وقيل: كانوا حفروا حفرا يمتنعون بها من الريح. فهلكوا فيها فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت في حفرها أَبَشَراً هو صالح عليه السلام، وانتصب بفعل مضمر والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشرا وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم جماعة كثيرون وَسُعُرٍ أي عناد، وقيل: معناه جنون، وقيل: معناه هم وغم وأصله من السعير بمعنى النار. وكأنه احتراق النفس بالهم.
__________
(1) . قوله تعالى: وَنُذُرِ تكررت عدة مرات في هذه السورة وقد قرأها ورش عن نافع بالياء: ونذري وحذفها الباقون.
(2) . هذا الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لوكيع بن الجراح في الغرر وابن مردويه وهو ضعيف.
(2/324)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أنكروا أن يخصه الله بالنبوة دونهم، وذلك جهل منهم، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء أَشِرٌ بطر متكبر
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي لهم يوم وللناقة يوم من غير أن يتعدوا على الناقة، فالضمير في نبئهم يعود على ثمود. وعلى الناقة تغليبا للعقلاء، وقيل: إن الضمير لثمود، والمعنى لا يتعدى بعضهم على بعض كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي مشهود فَنادَوْا صاحِبَهُمْ يعني: عاقر الناقة واسمه قدار وهو أحيمر ثمود وأشقاها فَتَعاطى أي اجترأ على أمر عظيم، وهو عقر الناقة وقيل: تعاطى السيف صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبريل صيحة فماتوا منها فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ الهشيم هو ما تكسر وتفتت من الشجر وغيرها، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وهي حائط من الأغصان أو القصب ونحو ذلك، أو يكون تحليقا للمواشي أو السكنى فشبه الله ثمود لما هلكوا بما يتفتت من الحظيرة من الأوراق وغيرها، وقيل: المحتظر المحترق حاصِباً ذكر في العنكبوت [40] فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ تشككوا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ الضيف هنا هم: الملائكة الذين أرسلهم الله إلى لوط، ليهلكوا قومه. وكان قومه قد ظنوا أنهم من بني آدم، وأرادوا منهم الفاحشة فطمس الله على أعينهم، فاستوت مع وجوههم، وقيل: إن الطمس عبارة عن عدم رؤيتهم لهم، وأنهم دخلوا منزل لوط فلم يروا فيه أحدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ هذا خطاب لقريش على وجه التهديد، والهمزة للإنكار ومعناه: هل الكفار منكم خير عند الله من الكفار المتقدمين المذكورين، بحيث أهلكناهم لما كذبوا الرسل وتنجون أنتم وقد كذبتم رسلكم؟ بل الذي أهلكهم يهلككم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ معناه أم لكم في كتاب الله براءة من العذاب؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي نحن نجتمع وننتصر لأنفسنا بالقتال سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيهزم جمع قريش، وقد ظهر ذلك يوم بدر وفتح مكة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ المراد بالمجرمين هنا الكفار وضلالهم في الدنيا، والسعر لهم في الآخرة
(2/325)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
وهو الاحتراق، وقيل: أراد بالمجرمين القدرية لقوله في الرد عليهم: إنا كل شيء خلقناه بقدر والأول أظهر
يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ أي يجرون فيها إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ المعنى أن الله خلق كل شيء بقدر، أي بقضاء معلوم سابق في الأزل، ويحتمل أن يكون معنى بقدر بمقدار في هيئته وصفته وغير ذلك، والأول أرجح وفيه حجة لأهل السنة على القدرية. وانتصب كل شيء بفعل مضمر يفسره خلقناه وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ عبارة عن سرعة التكوين ونفوذ أمر الله، والواحدة يراد بها الكلمة وهي قوله كن وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ يعني أشياعكم من الكفار وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي كل ما فعلوه مكتوب في صحائف الأعمال مُسْتَطَرٌ أي مكتوب وهو من السطر. تقول سطرت واستطرت بمعنى واحد، والمراد الصغير والكبير من أعمالهم وقيل: جميع الأشياء وَنَهَرٍ يعني أنهار الماء والخمر واللبن والعسل واكتفى باسم الجنس فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مكان مرضي.
(2/326)
الرَّحْمَنُ (1)
سورة الرحمن
مدنية وآياتها 78 نزلت بعد الرعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الرحمن عز وجل) الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ هذا تعديد نعمة على من علمه الله القرآن، وقيل: معنى علّم القرآن جعله علامة وآية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والأول أظهر وارتفع الرحمن بالابتداء، والأفعال التي بعده أخبار متوالية، ويدل على ذلك مجيئها بدون حرف عطف خَلَقَ الْإِنْسانَ قيل:
جنس الناس وقيل: يعني آدم وقيل: يعني سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على التخصيص.
والأول أرجح عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني النطق والكلام الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي يجريان في الفلك بحسبان معلوم وترتيب مقدر، وفي ذلك دليل على الصانع الحكيم المريد القدير وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ النجم عند ابن عباس النبات الذي لا ساق له كالبقول، والشجر النبات الذي له ساق، وقيل: النجم جنس نجوم السماء. والسجود عبارة عن التذلل والانقياد لله تعالى: وقيل: سجود الشمس: غروبها وسجود الشجر ظله وَوَضَعَ الْمِيزانَ يعني الميزان المعروف الذي يوزن به الطعام وغيره، وكرر ذكره اهتماما به وقيل:
أراد العدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوا إذا وزنتم لِلْأَنامِ أي للناس وقيل:
الإنس والجن وقيل: الحيوان كله. الأكمام: يحتمل أن يكون جمع كم بالضم، وهو ما يغطي ويلف النخل من الليف، وبه شبّه كم القميص، أو يكون جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة الْعَصْفِ «1» ورق الزرع وقيل: التبن وَالرَّيْحانُ قيل: هو الريحان المعروف، وقيل: كل مشموم طيب الريح من النبات، وقيل: هو الرزق.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الآلاء هي: النعم. واحدها إلى على وزن معي. وقيل:
__________
(1) . قوله: والحبّ ذو العصف. قرأها ابن عامر: والحبّ ذا العصف بالنصب والباقون بالرفع. [.....]
(2/327)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
ألى على وزن قضى وقيل: ألي على وزن أمد أو على وزن حصر، والخطاب للثقلين الإنس والجن بدليل قوله: سنفرغ لكم أيها الثقلان. روي أن هذه الآية لما قرأها رسول صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال: جواب الجن خير من سكوتكم. إني لما قرأتها على الجن قالوا: لا نكذب بشيء من آلاء ربنا «1» وكرر هذه الآية تأكيدا ومبالغة وقيل: إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبله فليس بتأكيد، لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ الإنسان هو آدم، والصلصال الطين اليابس، فإذا طبخ فهو فخار وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الجان الجن يعني إبليس والد الجن، والمارج اللهيب المضطرب من النار رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يريد مشرق الشمس والقمر ومغرب الشمس والقمر. وقيل: مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ذكر في الفرقان، أي يلتقى ماء هذا وماء هذا، وذلك إذ نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر، وأما على القول بأن البحر العذب هو الأنهار والعيون، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر، وأما على قول من قال إن البحرين بحر فارس وبحر الروم، أو بحر القلزم الأحمر واليمن فضعيف لقوله في الفرقان [53] هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وكل واحد من هذه أجاج، والمراد بالبحرين في هذه السورة ما أراد في الفرقان بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز يعني جرم الأرض، أو حاجز من قدرة الله لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالاختلاط، وقيل: لا يبغيان على الناس بالفيض.
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره، وقيل:
بالعكس وقيل: إن المرجان أحجار حمر، قال ابن عطية: وهذا هو الصواب «3» وأما قوله منهما ولا يخرج إلا من أحدهما، فقد تكلمنا عليه في فاطر.
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ يعني السفن وسماها منشآت لأن الناس ينشئونها، وقرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنشئ
__________
(1) . روى الطبري هذا الحديث بسنده إلى عبد الله بن عمر.
(2) . قوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. قرأ نافع وأبو عمر: يخرج بضم الياء.
(3) . اللؤلؤ هي حبوب تستخرج من أصداف بحرية مخصوصة تسمى واحدتها المحارة وهي ذات ألوان فمنها الأبيض والأسود والزهري، وأما المرجان فهو عروق تنمو على بعض الصخور في البحر كعروق النبات ثم تقطع وتصير صلبة حمراء.
(2/328)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
الموج، والأعلام الجبال شبه السفن بها
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الضمير في عليها للأرض يدل على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان، ولكنه غلّب العقلاء وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الوجه هنا عبارة عن الذات، وذو الجلال صفة للذات لأن من أسمائه تعالى الجليل، ومعناه يقرب من معنى العظيم، وأما وصفه بالإكرام فيحتمل أن يكون بمعنى أنه يكرم عباده كما قال في الإسراء [7] : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أو بمعنى أن عباده يكرمونه بتوحيده وتسبيحه وعبادته يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن كل من في السموات والأرض يسأل حاجته من الله، فمنهم من يسأله بلسان المقال، وهم المؤمنون، ومنهم من يسأله بلسان الحال لافتقار الجميع إليه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ المعنى أنه تعالى يتصرف في ملكوته تصرفا يظهر في كل يوم من العطاء والمنع، والإماتة والإحياء وغير ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فقيل له وما ذلك الشأن، قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين «1» وسئل بعضهم. كيف قال: كل يوم هو في شأن والقلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة؟ فقال: هو في شأن يبديه لا في شأن يبتديه.
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «2» معناه الوعيد كقولك لمن تهدده: سأفرغ لعقوبتك، وليس المراد التفرغ من شغل، ويحتمل أن يريد انتهاء مدة الدنيا، وإنه حينئذ ينقضي شأنها، فلا يبقى إلا شأن الآخرة فعبّر عن ذلك بالتفرغ. قال الإمام جعفر بن محمد: سمى الإنس والجن ثقلين، كأنهما ثقلا بالذنوب إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا هذا كلام يقال للجن والإنس يوم القيامة أي: إن قدرتم على الهروب والخروج من أقطار السموات والأرض فافعلوا، وروي أنهم يفرون يومئذ لما يرون من أهوال القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة، قد أحاطت بالأرض فيرجعون، وقيل: بل خوطبوا بذلك في الدنيا والمعنى: إن استطعتم الخروج عن قهر الله وقضائه عليكم فافعلوا، وقوله: فانفذوا أمر يراد به التعجيز لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وليس لكم قوة
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ الشواظ لهيب النار، والنحاس الدخان وقيل: هو الصفر يذاب ويصب على رؤوسهم وقرئ شواظ بضم الشين
__________
(1) . رواه الطبري بسنده إلى عبد الله الأزدي.
(2) . قوله: سنفرغ: قرأها حمزة والكسائي: سيفرغ. والباقون بالنون: سنفرغ.
(2/329)
وابن كثير بكسرها وهما لغتان وقرئ «1» نحاس بالرفع على شواظ وبالخفض عطف على نار فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ جواب إذا قوله: فيومئذ وقال ابن عطية: جوابها محذوف فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ معنى وردة حمراء كالوردة، وقيل: هو من الفرس الورد، قال قتادة السماء اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء، والدهان جمع دهن كالزيت وشبهه شبه السماء يوم القيامة به لأنها تذاب من شدّة الهول، وقيل: يشبه لمعانها بلمعان الدهن، وقيل: إن الدهان هو الجلد الأحمر فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ السؤال المنفي هنا هو على وجه الاستخبار وطلب المغفرة إذ لا يحتاج إلى ذلك، لأن المجرمين يعرفون بسيماهم، ولأن أعمالهم معلومة عند الله مكتوبة في صحائفهم، وأما السؤال الثابت في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] وغيره، فهو سؤال على وجه الحساب والتوبيخ، فلا تعارض بين المنفي والمثبت وقيل: إن ذلك باختلاف المواطن والأول أحسن.
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ يعني بعلامتهم وهي سواد الوجوه وغير ذلك، والمجرمون هنا الكفار بدليل قوله: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قيل معناه: يؤخذ بعض الكفار بناصيته وبعضهم بقدميه، وقيل: بل يؤخذ كل واحد بناصيته وقدميه فيطوى ويطرح في النار يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الحميم الماء السخن، والآن الشديد الحرارة، وقيل: الحاضر من قولك آن الشيء إذا حضر، والأول أظهر وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ مقام ربه القيام بين يديه للحساب، ومنه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] ، وقيل: قيام الله بأعماله، ومنه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] ، وقيل: معناه لمن خاف ربه وأقحم المقام، كقولك:
خفت جانب فلان. واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراده؟ أو للصنف الخائف وذلك مبنى على قوله: لمن خاف مقام ربه هل يراد به واحد أو جماعة؟ وقال الزمخشري: إنما قال جنتان، لأنه خاطب الثقلين فكأنه قال جنة للإنس وجنة للجن، ذَواتا أَفْنانٍ ثنى ذات هنا على الأصل لأن أصله ذوات، قاله ابن عطية، والأفنان جمع فنن وهو الغصن، أو جمع فن
__________
(1) . قوله: من نار ونحاس فلا تنتصران. قرأها كل من ابن كثير وأبو عمرو: ونحاس وقرأ الباقون:
ونحاس.
(2/330)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)
وهو الصنف من الفواكه وغيرها
مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي نوعان وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ الجنا هو ما يجتنى من الثمار، ودان قريب، وروي أن الإنسان يجتنى الفاكهة في الجنة على أي حال كان من قيام أو قعود أو اضطجاع لأنها تتدلى له إذا أرادها وفي قوله جنا الجنتين ضرب من ضروب التجنيس قاصِراتُ الطَّرْفِ ذكر في الصافات [48] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ المعنى أنهن أبكار، ولم يطمثهن معناه لم يفتضهن، وقيل: الطمث الجماع سواء كان لبكر أو غيرها، ونفي أن يطمثهن إنس أو جان، مبالغة وقصدا للعموم، فكأنه قال لم يطمثهن شيء، وقيل: أراد لم يطمث نساء الإنس إنس ولم يطمث نساء الجن جن، وهذا القول يفيد بأن الجن يدخلون الجنة ويتلذذون فيها بما يتلذذ البشر كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ شبه النساء بالياقوت والمرجان في الحمرة والجمال، وقد ذكرنا المرجان في أول السورة.
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ المعنى أن جزاء من أحسن بطاعة الله أن يحسن الله إليه بالجنة، ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» ، وذلك هو مقام المراقبة والمشاهدة، فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويقوي هذا أنه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العلي، وجعل جنتين دونها لمن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولا للسابقين، والجنتان المذكورتين ثانيا بعد ذلك لأصحاب اليمين حسبما ورد في الواقعة، وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين، أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما فقال هنا: عينان تجريان وقال في الآخرتين: عينان نضّاختان، والجري أشد من النضخ وقال هنالك: من كل فاكهة زوجان، وقال هنا فاكهة ونخل ورمان، وكذلك صفة الحور هنا أبلغ من صفتها هنالك، وكذلك صفة البسط ويفسر ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
جنتان من ذهب آنيتهما وكل ما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وكل ما فيهما «2» مُدْهامَّتانِ أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرةيْنانِ نَضَّاخَتانِ
أي تفوران بالماء والنضخ بالخاء المعجمة أشد من النضح بالحاء المهملة فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ خص النخل
__________
(1) . هذا جزء من حديث صحيح رواه مسلم عن عمر بن الخطاب، انظر الأربعين النووية الحديث الثاني.
(2) . الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعري) كتاب الإيمان 163/ 1.
(2/331)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
والرمان بالذكر بعد دخولهما في الفاكهة تشريفا لهما، وبيانا لفضلهما على سائر الفواكه.
وهذا هو التجريد
خَيْراتٌ حِسانٌ خيرات جمع خيرة وقال الزمخشري وغيره: أصله خيرات بالتشديد ثم خفف كميت وقرئ بالتشديد، قالت أم سلمة يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه «1» حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الحور جمع حوراء والمقصورات المحجوبات، لأن النساء يمدحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج، والخيام هي البيوت التي من الخشب والحشيش ونحو ذلك، وخيام الجنة من اللؤلؤ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ الرفرف البسط، وقيل الوسائد وقيل رياض الجنة وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ العبقري الطنافس، وقيل الزرابي [أي السجاد بلغة اليوم] ، وقيل الديباج الغليظ، وهو منسوب إلى عبقري وتزعم العرب أنه بلد الجن فإذا أعجبتها شيء نسبته إليه تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذكر تبارك في الفرقان وغيرها، والاسم هنا يراد به المسمى على الأظهر. وقرأ الجمهور ذي الجلال بالياء صفة لربك، وقرأ ابن عامر بالواو صفة للاسم، وقد ذكر معنى ذي الجلال والإكرام.
__________
(1) . رواه الطبري بسنده إلى أم سلمة رضي الله عنها.
(2/332)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
سورة الواقعة
مكية إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان وآياتها 96 نزلت بعد طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الواقعة) روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدا»
ولما حضرت ابن مسعود الوفاة قيل له ما تركت لبناتك، قال: تركت لهن سورة الواقعة إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعني إذا قامت القيامة فالواقعة اسم من أسماء القيامة، تدل على هولها كالطامة والصاخة وقيل: الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ يحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن تكون الكاذبة مصدر كالعافية والمعنى ليس لها كذب ولا رد.
الثاني أن تكون كاذبة صفة محذوف كأنه قال: ليس لها حالة كاذبة أي هي صادقة الوقوع ولا بدّ، وهذا المعنى قريب من الأول. الثالث أن يكون التقدير: ليس لها نفس كاذبة أي تكذيب في إنكار البعث، لأن كل نفس تؤمن حينئذ خافِضَةٌ رافِعَةٌ تقديره: هي خافضة رافعة، فينبغي أن يوقف على ما قبله لبيان المعنى، والمراد بالخفض والرفع أنها تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة، وقيل: ذلك عبارة عن هولها، لأن السماء تنشق والأرض تتزلزل وتمر، والجبال تنسف فكأنها تخفض بعض هذه الأجرام وترفع بعضها إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا وإذا هنا بدل من إذا وقعت ويحتمل أن يكون العامل فيه خافضة رافعة وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتت وقيل: سيرت هَباءً مُنْبَثًّا الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا تكاد ترى إلا في الشمس إذا دخلت على كوّة قاله ابن عباس. وقال عليّ بن أبي طالب: هو ما يتطاير من حوافر الدواب من التراب، وقيل: ما تطاير من شرر النار، فإذا طفى لم يوجد شيئا والمنبث المتفرق.
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً هذا خطاب لجميع الناس لأنهم ينقسمون يوم القيامة إلى هذه الأصناف الثلاثة: وهم السابقون، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأما السابقون فهم:
أهل الدرجات العلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال
__________
(1) . قال في تخريج أحاديث الإحياء ج 342 أول إن الحديث ضعيف.
(2/333)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
فهم أهل النار
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هذا ابتداء خبر فيه معنى التعظيم، كقولك:
زيد ما زيد، والميمنة يحتمل أن تكون مشتقة من اليمن وهو ضد الشؤم، وتكون المشأمة به مشتقة من الشؤم أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية الشمال، واليد الشؤمى هي الشمال، وذلك لأن العرب تجعل الخير من اليمين، والشر من الشمال، أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين، وأهل النار يحملون إلى جهة الشمال، أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الأول مبتدأ والثاني خبره على وجه التعظيم كقولك: أنت أنت أو على معنى أن السابقين إلى طاعة الله هم السابقون إلى الجنة، وقيل: إن السابقون الثاني صفة للأول أو تأكيد، والخبر أولئك المقربون، والأرجح أن يكون الثاني خبر الأول لأنه في مقابلة قوله:
أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، وعلى هذا يوقف على السابقون الثاني ويبتدئ بما بعده.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الثلة الجماعة من الناس، فالمعنى أن السابقين من الأولين أكثر من السابقين من الآخرين، والأولون هم أول هذه الأمة والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، والدليل على ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفرقتان في أمتي، وذلك لأن صدر هذه الأمة خير ممن بعدهم فكثر السابقون من السلف الصالح، وقلوا بعد ذلك ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم «1» وقيل إن الفرقتين في أمة كل نبيّ، فالسابقون في كل أمة يكثرون في أولها ويقلون في آخرها، وقيل: إن الأولين هم من كان قبل هذه الأمة، والآخرين هم هذه الأمة، فيقتضي هذا أن السابقين من الأمم المتقدمة أكثر من السابقين من هذه الأمة وهذا بعيد، وقيل إن السابقين يراد بهم الأنبياء، لأنهم كانوا في أول الزمان أكثر مما كانوا في آخره عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ السرر جمع سرير والموضونة المنسوجة وقيل المشبكة بالدر والياقوت، وقيل معناه متواصلة قد أدنى بعضها من بعض مُتَقابِلِينَ أي وجوه بعضهم إلى بعض وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الولدان صغار الخدم، والمخلدون الذين لا يموتون، وقيل المقرطون بالخلدات وهي ضرب من الاقراط، والأول أظهر بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ الأكواب جمع كوب، وهو الإناء وهو الذي لا أذن له ولا خرطوم يمسك به، والأباريق جمع إبريق وهو الإناء الذي له خرطوم أو أذن يمسك وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ذكر في الصافات [45] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ أي
__________
(1) . أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال:
«قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ج 2 ص 1863، وثمة روايات بألفاظ متقاربة.
(2/334)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يصيب من خمر الدنيا، وقيل لا يفرقون عنها فهو من الصدع وهو الفرقة، ومعنى لا ينزفون «1» لا يسكرون
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ قيل: يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها، وقيل: مخيرة مرضية وَحُورٌ عِينٌ قدمنا معناه، والقراءة بالرفع على تقدير فيها حور، أو عطف على الضمير في متكئين، أو على ولدان وقرأ حمزة والكسائي حور بالخفض عطف على المعنى كأنه قال: ينعمون بهذا كله وبحور عين، وقيل: خفض على الجوار كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ شبههن باللؤلؤ في البياض ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً اللغو الكلام الساقط كالفحش وغيره، والتأثيم مصدر بمعنى لا يؤثم أحد هناك نفسه ولا غيره إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً انتصب سلاما على أنه بدل من قيلا أو صفة له أو مفعول به لقيلا، لأن معناه قولا، ومعنى السلام على هذا التحية، والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاما بعد سلام، ويحتمل أن يكون معناه السلامة، فينتصب بفعل مضمر تقديره اسلموا سلاما.
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هذا مبتدأ وخبره قصد به التعظيم فيوقف عليه، ويبتدأ بما بعده ويحتمل أن يكون الخبر في سدر، ويكون ما أصحاب اليمين اعتراضا، والأول أحسن، وكذلك إعراب أصحاب الشمال فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ السدر شجر معروف، قال ابن عطية هو الذي يقال له شجر أم غيلان النبق وهو كثير في بلاد المشرق وهي في بعض بلاد الأندلس دون بعض، والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه، وذلك أن سدر الدنيا له شوك، فوصف سدر الجنة بضد ذلك وقيل: المخضود هو الموقر الذي انثنت أغصانه من كثرة حمله، فهو على هذا من خضد الغصن إذا ثناه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح شجر عظيم كثير الشوك، قاله ابن عطية وقال الزمخشري هو شجر الموز، وحكي ابن عطية هذا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وقرأ علي بن أبي طالب: وطلع منضود بالعين فقيل له إنما هو، وطلح بالحاء فقال: ما للطلح والجنة فقيل له أنصلحها في المصحف فقال: المصحف اليوم لا يغيّر، والمنضود الذي تنضد بالثمر من أعلاه إلى أسفله، حتى لا يظهر له ساق وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي منبسط لا يزول لأنه لا تنسخه الشمس، وقال رسول صلى الله عليه وسلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. اقرءوا إن شئتم وظل ممدود «2» .
وَماءٍ مَسْكُوبٍ: أي مصبوب، وذلك عبارة عن كثرته وقيل: المعنى
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ينزفون بكسر الفاء وقرأ الباقون ينزفون بالفتح.
(2) . أخرجه البخاري في عدة كتب منها التفسير والرقاق وبدء الخلق عن سهل بن سعد ج 7/ 201.
(2/335)
أنه جار في غير أخاديد وقيل: المعنى أنه يجري من غير ساقية ولا دلو ولا تعب لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي لا ينقطع إبّانها كفاكهة الدنيا، فإن شجر الجنة يثمر في كل وقت، ولا تمتنع ببعد تناولها ولا بغير ذلك من وجوه المنع وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ هي الأسرة، وقد روي ارتفاع السرير منها مسيرة خمسمائة عام وقيل: هي النساء وهذا بعيد إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ الضمير لنساء الجنة، فإن سياق الكلام يقتضي ذلك، وإن لم يتقدم ذكرهن، ولكن تقدّم ذكر الفرش وهي تدل على النساء وأما من قال: إن الفرش هي النساء فالضمير عائد عليها وقيل: يعود على الحور العين المذكورة قبل هذا وذلك بعيد، فإن ذلك في وصف جنات السابقين، وهذا في وصف جنات أصحاب اليمين، ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقا آخر في غاية الحسن، بخلاف الدنيا فالعجوز ترجع شابة والقبيحة ترجع حسنة فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً جمع عروب وهي المتوددة إلى زوجها بإظهار محبته، وعبّر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق لأزواجهن، وقيل: هي الحسنة الكلام أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أي مستويات في السن مع أزواجهن، وروي أنهن يكونون في سن أبناء ثلاث وثلاثين عاما ولأصحاب اليمين يتعلق بقوله أنشأناهن على ما قاله الزمخشري. ويحتمل أن يتعلق بأترابا، وهذا هو الذي يقتضيه المعنى أي أترابا لأزواجهن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من آخرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقتان من أمتي، وفي ذلك رد على من قال إنهما من غير هذه الأمة. وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، بخلاف السابقين فإنهم قليل في الآخرين وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر منهم في آخرها لفضيلة السلف الصالح، وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها.
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ السموم الحر الشديد والحميم الماء الحار جدّا واليحموم هو الأسود وظل من يحموم هو الدخان في قول الجمهور، وقيل: سرادق النار المحيط بأهلها فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم وقيل: هو جبل في جهنم وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ معنى يصرون يدومون من غير إقلاع والحنث هو الإثم، وقيل: هو الشرك، وقيل: هو الحنث في اليمين أو اليمين الغموس أَإِذا مِتْنا الآية معناها أنهم أنكروا البعث بعد الموت، وقد ذكرنا قراءة الاستفهامين في الرعد، وآباؤنا في
(2/336)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
الصافات
أَيُّهَا الضَّالُّونَ خطاب لكفار قريش وسائر الكفار فَشارِبُونَ عَلَيْهِ الضمير للمأكول فَشارِبُونَ شُرْبَ «1» الْهِيمِ وزن الهيم فعل بضم الفاء، وكسرت الهاء لأجل الياء وهو جمع أهيم، وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء. وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقم، والأنثى هيماء، وقيل: جمع هائم وهائمة، وقيل: الهيم الرمال التي لا تروى من الماء، وهو على هذا جمع هيام بفتح الهاء. وقرئ شرب بضم الشين «2» واختلف هل هو مصدر أو اسم المشروب وقرئ بالفتح وهو مصدر فإن قيل: كيف عطف قوله: فشاربون على شاربون ومعناهما واحد، فالجواب أن المعنى مختلف لأن الأول يقتضى الشرب مطلقا، والآخر يقتضي الشرب الكثير المشبه لشرب الهيم هذا نُزُلُهُمْ النزل أول ما يأكله الضيف فكأنه يقول: هذا أول عذابهم فما ظنك بسائره فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ تحضيض على التصديق إما بالخالق تعالى، وإما بالبعث لأن الخلقة الأولى دليل عليه.
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ هذه الآية وما بعدها تتضمن إقامة براهين على الوحدانية، وعلى البعث وتتضمن أيضا وعيدا وتعديد نعم. ومعنى تمنون: تقذفون المني أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ هذا توقيف [سؤال] يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق لا إله إلا هو نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «3» أي جعلناه مقدرا بآجال معلومة وأعمار منها طويل وقصير ومتوسط وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ المسبوق على الشيء هو المغلوب عليه بحيث لا يقدر عليه ونبدل أمثالكم: معناه نهلككم ونستبدل قوما غيركم، وقيل: نمسخكم قردة وخنازير وننشئكم معناه نبعثكم بعد هلاككم وفيما لا تعلمون معناه ننشئكم في خلقة لا تعلمونها على وجه لا تصل عقولكم إلى فهمه. فمعنى الآية أن الله قادر على أن يهلكهم وعلى أن يبعثهم ففيها تهديد واحتجاج [إقامة الحجة] على البعث فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ تحضيض على التذكير والاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، وفي هذا دليل على صحة القياس أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المراد بالزراعة هنا إنبات ما يزرع وتمام خلقته، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يدعيه غيره، قال
__________
(1) . قوله أو آباؤنا قرأ نافع وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو في أو وقرأ الباقون بالفتح. [.....]
(2) . قرأ عاصم ونافع وحمزة: شرب بضم الشين وقرأ الباقون بالفتح: شرب.
(3) . قرأ ابن كثير: قدرنا بدون تشديد والباقون: قدّرنا. وهما لغتان بمعنى واحد.
(2/337)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقولنّ أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت «1» والمراد بالحرث قلب الأرض وإلقاء الزريعة فيها وقد يقال لهذا زرع ومنه قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ الحطام اليابس المفتت وقيل: معناه تبن بلا قمح فظلتم تفكهون أي: تطرحون الفاكهة وهي المسرة، يقال: رجل فكه إذا كان مسرورا منبسط النفس ويقال: تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا، لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال الشيء كقولهم: تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم. فالمعنى: صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حطاما. وقد عبر بعضهم عن تفكهون بأن معناه: تتفجعون وقيل: تندمون وقيل:
تعجبون وهذه معان متقاربة والأصل ما ذكرنا إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ تقديره: تقولون ذلك لو جعل الله زرعكم حطاما والمغرم المعذب. لأن الغرام هو أشد العذاب، ويحتمل أن يكون من الغرم أي مثقلون بما غرمنا من النفقة على الزرع، والمحروم الذي حرمه الله الخير.
مِنَ الْمُزْنِ هي السحاب، والأجاج الشديد الملوحة، فإن قيل: لم ثبتت اللام في قوله لو نشاء لجعلناه حطاما وسقطت في قوله: لو نشاء جعلناه أجاجا؟ فالجواب من وجهين أحدهما أنه أغنى إثباتها أولا عن إثباتها ثانيا مع قرب الموضعين. والآخر أن هذه اللام تدخل للتأكيد، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن الطعام أوكد من الشراب، لأن الإنسان لا يشرب إلا بعد أن يأكل النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها من الزناد، والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر وحديدة، ومن شجر وهو المرخ والعفار ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر، قال الله تعالى «أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها» أي الشجرة التي توقد النار منها. وقيل: أراد بالشجرة نفس النار كأنه يقول: نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك وهذا بعيد نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً أي تذكر بنار جهنم وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ المتاع ما يتمتع به، ويحتمل المقوين أن يكون من الأرض القواء وهي الفيافي، ومعنى المقوين الذين دخلوا في القواء، ولذلك عبر ابن عباس عنه بالمسافرين، ويحتمل أن يكون من قولهم: أقوى المنزل إذا خلا فمعناه الذين خلت بطونهم أو موائدهم من الطعام، ولذلك عبّر بعضهم عنه بالجائعين.
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة، وكأنها زيدت لتأكيد القسم، أو لاستفتاح الكلام نحو ألا. وقيل: هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول: لا صحة
__________
(1) . الحديث المذكور رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى أبي هريرة.
(2/338)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
لما يقول الكفار وهذا ضعيف والأول حسن، لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب، ومواقع النجوم فيه قولان: أحدهما قال ابن عباس: إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم والآخر قول كثير من المفسرين: أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها، وقيل: مواضعها من السماء وقيل: انكدارها يوم القيامة.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ هذه جملة اعتراض بين القسم وجوابه، وقوله: لو تعلمون اعتراض بين الموصوف وصفته فهو اعتراض في اعتراض، والمقصود بذلك تعظيم المقسم به وهو مواقع النجوم وجواب القسم: إنه لقرآن كريم وأعاد الضمير على القرآن لأن المعنى يقتضيه، أو لأنه مذكور على قول من قال إن مواقع النجوم نزول القرآن فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي مصون، والمراد بهذا الكتاب المكنون المصاحف التي كتب فيها القرآن، أو صحف القرآن التي بأيدي الملائكة عليهم السلام.
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الضمير يعود على الكتاب المكنون، ويحتمل أن يعود على القرآن المذكور قبله إلا أن هذا ضعيف لوجهين أحدهما: أن مسّ الكتاب حقيقة ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز والآخر أن الكتاب أقرب والضمير يعود على أقرب مذكور فإذا قلنا: إنه يعود على الكتاب المكنون فإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهرون يراد بهم الملائكة، لأنهم مطهرون من الذنوب والعيوب والآية إخبار بأنه لا يمسه إلا هم دون غيرهم، وإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس، فيحتمل أن يريد بالمطهرين المسلمين، لأنهم مطهرون من الكفر أو يريد المطهرين من الحدث الأكبر، وهي الجنابة أو الحيض، فالطهارة على هذا الاغتسال أو المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا الوضوء ويحتمل أن يكون قوله: لا يمسه خبرا أو نهيا. على أنه قد أنكر بعض الناس أن يكون نهيا وقال لو كان نهيا لكان بفتح السين. وقال المحققون: إن النهي يصح مع ضم السين لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوما أو اتصل به ضمير المفرد المذكر ضمّ عند التقاء الساكنين اتباعا لحركة الضمير، وإذا جعلناه خبرا فيحتمل أن يقصد به مجرد الإخبار، أو يكون خبرا بمعنى النهي. وإذا كان لمجرّد الإخبار فالمعنى أنه: لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون. أي هذا حقه وإن وقع خلاف ذلك واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مس المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يجوز أن يمسه كافر لأنه إن أراد بالمطهرين المسلمين، فذلك طاهر وإن أراد الطهارة من الحدث فالإسلام حاصل مع ذلك. وأما الحدث ففيه ثلاثة أقوال:
الأول أنه لا يجوز أن يمسه الجنب ولا الحائض ولا المحدث حدثا أصغر وهو قول مالك وأصحابه، ومنعوا أيضا أن يحمله بعلاقة أو وسادة. وحجتهم الآية على أن يراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر. وقد احتج مالك في الموطأ بالآية على المسألة. ومن
(2/339)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
حجتهم أيضا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» «1» ، الثاني أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدث حدثا أصغر وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية وحملوا المطهرون على أنهم المسلمون والملائكة أو جعلوا لا يمسه لمجرد الإخبار، والقول الثالث أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، ورخص مالك في مسه على غير وضوء للمعلم والصبيان، لأجل المشقة. واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقا، وأجازه الظاهرية مطلقا، وأجاز مالك قراءة الآية اليسيرة.
واختلف في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظهر قلب فعن مالك في ذلك روايتان، وفرق بعضهم بين اليسير والكثير.
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ هذا خطاب للكفار، والحديث المشار إليه هو القرآن، ومدهنون معناه متهاونون، وأصله من المداهنة وهي لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن قال ابن عباس معناه مكذبون وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن عطية:
أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنوء كذا وكذا، والمعنى تجعلون شكر رزقكم التكذيب، فحذف شكر أنكم تكذبون وكذلك قرأ ابن عباس إلا أنه قرأ تكذّبون بضم التاء والتشديد كقراءة الجماعة وقراءة علي بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب أي يكذبون في قولهم: نزل المطر بنوء كذا ومن هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى يقول أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب وكافر بي مؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكوكب كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» «2» . والمنهي عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكوكب تأثيرا في المطر، وأما مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بأس به لقوله صلى الله عليه وسلم:
إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة «3» ، وقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء: كم بقي من نوء الثريا فقال العباس: العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا، قال ابن الطيب: فما مضت سبع حتى مطروا، وقيل: إن معنى الآية تجعلون سبب رزقكم تكذيبكم للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يقولون: إن آمنا به حرمنا الله الرزق، كقولهم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص: 57] فأنكر الله عليهم ذلك. وإعراب أنكم على هذا القول مفعول بتجعلون على حذف مضاف تقديره: تجعلون
__________
(1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه للطبراني عن ابن عمر وإسناده صحيح.
(2) . رواه البخاري في كتاب الأذان باب 156 ص 205 عن زيد بن خالد الجهني.
(3) . رواه مالك في الموطأ كتاب الاستسقاء حديث 5 ص 192 وهو الحديث الرابع الموقوف إسناده على مالك.
(2/340)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
سبب رزقكم التكذيب، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله تقديره: تجعلون رزقكم حاصلا من أجل أنكم تكذبون، وأما على القول الأول فإعراب أنكم تكذبون مفعول لا غير.
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ لولا هنا عرض والضمير في بلغت للنفس، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وبلوغها للحلقوم حين الموت، والفعل الذي دخلت عليه لولا هو قوله ترجعونها أي: هلا رددتم النفس حين الموت، ومعنى الآية احتجاج على البشر وإظهار لعجزهم لأنهم إذا حضر أحدهم الموت لم يقدروا أن يردوا روحه إلى جسده، وذلك دليل على أنهم عبيد مقهورون وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ هذا خطاب لمن يحضر الميت من أقاربه وغيرهم، يعني تنظرون إليه ولا تقدرون له على شيء وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يحتمل أن يريد قرب نفسه تعالى بعلمه واطلاعه، أو قرب الملائكة الذين يقبضون الأرواح، فيكون من قرب المسافة وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ إن أراد بقوله نحن أقرب الملائكة فقوله: لا تبصرون من رؤية العين، وإن أراد نفسه تعالى فهو من رؤية القلب فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لولا هنا عرض كالأولى وكررت للتأكيد والبيان لما طال الكلام، والفعل الذي دخلت عليه لولا الأولى والثانية قوله ترجعونها أي: هلا رددتم النفس إلى الجسد إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، وغير مربوبين ومقهورين، فافعلوا ذلك إن كنتم صادقين في كفركم. وترتيب الكلام: فلولا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوا إن كنتم صادقين فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الضمير في كان للمتوفي وكرر هنا ما ذكره في أول السورة من تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فالمراد بالمقربين هنا السابقون المذكورون هناك فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ الروح الاستراحة وقيل: الرحمة روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فروح بضم الراء ومعناه الرحمة وقيل:
الخلود أي بقاء الروح وأما الريحان فقيل: إنه الرزق وقيل: الاستراحة وقيل: الطيب وقيل الريحان المعروف وفي قوله: روح وريحان ضرب من ضروب التجنيس.
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ معنى هذا على الجملة نجاة أصحاب اليمين وسعادتهم، والسلام هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية، والخطاب في ذلك يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد من أصحاب اليمين فإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالسلام بمعنى السلامة والمعنى: سلام لك يا محمد منهم أي لا ترى منهم إلا السلامة من العذاب، وإن كان الخطاب لأحد من أصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية والمعنى: سلام لك أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك، وهم أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك فهو كقوله:
إلا قيلا سلاما سلاما، أو يكون بمعنى السلامة والتقدير: سلامة لك يا صاحب اليمين، ثم
(2/341)
يكون قوله: من أصحاب اليمين خبر ابتداء مضمر تقديره أنت من أصحاب اليمين وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ يعني الكفار وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ النزل أول شيء يقدّم للضيف إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الإشارة إلى ما تضمنته هذه السورة من أحوال الخلق في الآخرة، وحق اليقين معناه: الثابت من اليقين، وقيل: إن الحق واليقين بمعنى واحد، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه كقوله: مسجد الجامع، واختار ابن عطية أن يكون كقولك في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال عليه السلام:
اجعلوها في سجودكم، فلذلك استحب مالك وغيره أن يقول في السجود سبحان ربي الأعلى وفي الركوع سبحان ربي العظيم وأوجبه الظاهرية، ويحتمل أن يكون المعنى تسبيح الله بذكر أسمائه، والاسم هنا جنس الأسماء والتعظيم صفة للرب أو يكون الاسم هنا واحدا والعظيم صفة له، وكأنه أمره أن يسبح بالاسم الأعظم. ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد بها وفي أولها التسبيح وجملة من أسماء الله وصفاته، قال ابن عباس: اسم الله العظيم الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد، وروي أن الدعاء عند قراءتها مستجاب.
(2/342)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحديد
مدنية وآياتها 29 نزلت بعد الزلزلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحديد) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات يحتمل أن يكون حقيقة، أو أن يكون بلسان الحال لأن كل ما في السموات والأرض دليل على وجود الله وقدرته، وحكمته، والأول أرجح لقوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ، وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ يسبح المضارع، وكل واحد منهما يقتضي الدوام هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أي الظاهر للعقول بالأدلة، والبراهين الدالة على الباطن، الذي لا تدركه الأبصار، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته، وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء فهو من قولك: ظهرت على الشيء إذا علوت عليه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها، مع اختلاف معانيها، وفي ذلك مطابقة لفظية، وهي من أحسن أدوات البيان ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد ذكر في الأعراف [53] وكذلك ما بعده وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على تأويل هذه الآية بذلك يُولِجُ اللَّيْلَ ذكر في الحج ولقمان [29] وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته، وروي أنها نزلت في الإنفاق في غزوة تبوك، وعلى هذا روي أن قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا» نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهز جيش العسرة يومئذ،
(2/343)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم، كما خلفها لكم من كان قبلكم، والمقصود على كل وجه: تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله: ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم.
في قوله والرسول يدعوكم واو الحال وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص، والآيات هنا القرآن وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية: معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الفتح هنا فتح مكة، وقيل: صلح الحديبية، والأول أظهر وأشهر، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرا ممن أنفق في حال الرخاء، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله: أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه «1» ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج 3 ص 11، 63.
(2/344)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
كل واحدة من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده وعدهم الله الجنة.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» ذكر في [البقرة: 245] يَوْمَ تَرَى العامل في الظرف أجر كريم أو تقدير اذكر يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قيل: إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان، والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور يضيء قدّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل: يكون أصله في إيمانهم يحملونه فينبسط نوره قدامهم، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه، فمنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه، ومنهم من يضيء مرة ويهمّ بالإطفاء مرة، قال ابن عطية: ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتق بالشمعة قدّام معتقه إذا مات بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي يقال لهم ذلك.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يوم بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم، أو بمحذوف: تقديره اذكر ومعنى الآية: أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيبقى نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين، فيقول المنافقون للمؤمنين، انظرونا نقتبس من نوركم أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا:
انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر أي انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاءوا بنورهم. ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى، وقرئ أنظرونا «2» بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نلحقكم قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين، أو قول الملائكة ومعناه الطرد للمنافقين، والتهكم بهم لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور، ووراءكم ظرف العامل فيه ارجعوا وقيل: إنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال:
ارجعوا ومعنى هذا الرجوع، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم، وفي ذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل: إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار. وقيل: هو الجدار الشرقي من بيت المقدس وهذا بعيد
__________
(1) . بقية الآية: فيضاعفه له. قرأ عاصم بفتح الفاء وقرأ نافع وغيره فيضاعفه بضم الفاء وقرأ ابن كثير: فيضعّفه.
(2) . قرأ حمزة: أنظرونا بهمزة القطع أي: أمهلونا. وقال الفراء هي أيضا بمعنى: انتظرونا.
(2/345)
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ باطنه هو جهة المؤمنين، وظاهره هو جهة المنافقين وهي خارجه. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون للسور أو للباب والأول أظهر يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها وأضللتموها بالنفاق وَتَرَبَّصْتُمْ أي أبطأتم بإيمانكم وقيل:
تربصتم الدوائر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في الإيمان وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي طول الأمل والتمني، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الفتح وظهور الإسلام، أو موت المنافقين على الحال الموجبة للعذاب الْغَرُورُ هو الشيطان هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي أولى بكم، وحقيقة المولى الولي الناصر، فكان هذا استعارة منه، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ «1» معنى ألم يأن: ألم يحن. يقال:
أنى الأمر إذا حان وقته، وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر، أو التذكير بالمواعظ وهذه آية موعظة وتذكير قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن، وسمع الفضيل بن عياض قارئا يقرأ هذه الآية فقال: قد آن فكان سبب رجوعه إلى الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابن المبارك، وتاب إلى الله وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف ولا يكونوا على أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيا، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي مدة الحياة وقيل: انتظار القيامة، وقيل: انتظار الفتح والأول أظهر اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات، وقيل: إنه تمثيل للقلوب أي: يحيى الله القلوب بالمواعظ كما يحيى الأرض بالمطر، وفي هذا تأنيس للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين، وكذلك
__________
(1) . بقية الآية: وما نزل من الحق. هكذا قرأها نافع وحفص وقرأ الباقون: وما نزّل من الحق بالتشديد.
(2/346)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قرأ أبيّ بن كعب وقرأ بالتخفيف من التصديق، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ معطوف على المعنى، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله: من ذا الذي يقرض الله
الصِّدِّيقُونَ مبالغة من الصدق أو من التصديق، وكونه من الصدق أرجح لأن صيغة فعّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر، وقد حكي بناؤها من رباعي كقولهم: رجل مسّيك من أمسك وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده، أو يكون معطوفا على الصديقين، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان: أحدهما أنه جمع شهيد في سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد، ويراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم يشهدون على قومهم، وإن كان معطوفا ففي المعنى قولان، أحدهما: أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء: أي جمعوا الوصفين، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مؤمنو أمتي شهداء «1» وتلا هذه الآية، والآخر أنه جمع شاهد، لأن المؤمنين يشهدون على الناس كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ، أو خبر عن المؤمنين إن كان الشهداء معطوفا، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة، حسبما ذكره في هذه السورة، وقيل: هو عبارة عن الهدى والإيمان، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله: كفرت الحبّ إذا سترته تحت الأرض: وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب، وقيل: أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر لأنهم أشد إعجابا بالدنيا وأكثر حرصا عليها.
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة، فقيل: المعنى كونوا في أول صف من القتال، وقيل: احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقيل: كونوا أول داخل إلى المسجد، وأول خارج منه وهذه أمثلة، والمعنى العام:
المسابقة إلى جميع الأعمال الصالحات، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت
__________
(1) . روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى البراء بن عازب.
(2/347)
أفضل وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في آل عمران [133] ، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» «1» وعرشه على الماء، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من خير أو شر، وقيل: أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك بالذكر لأنه أهم على الناس، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك، وفي أنفسكم يعني الموت، والفقر، وغير ذلك ونبرأها معناه: نخلقها والضمير يعود على المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض، وقيل: يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في كلها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم، ومعنى لا تأسوا: لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها، وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل: إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتي بمال كثير اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، فالجواب: أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ المختال صاحب الخيلاء، والفخور شديد الفخر على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «2» بدل من كل مختال فخور أو خبر ابتداء مضمر تقديره: هم الذين أو منصوب بإضمار: أعني أو مبتدأ وخبره محذوف وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل: الميزان الذي يوزن به، وروي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له: مر قومك يزنوا به وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل: بل أنزله حقيقة، لأن آدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني أنه يعمل منه سلاح
__________
(1) . لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.
(2) . بقية الآية: فإن الله هو الغني الحميد. قرأ نافع وابن عامر: فإن الله الغني الحميد.. بدون هو.
(2/348)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
للقتال ولذلك قال: وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس: سكك الحرث والمسامير وغير ذلك
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون، وأكثرهم فاسقون لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
وَقَفَّيْنا ذكر في البقرة [87] وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم رحماء بينهم وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها الرهبانية هي الانفراد في الجبال، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية، وابتدعوها صفة للرهبانية، والجعل هنا بمعنى الخلق. والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ كتبنا هنا بمعنى، فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان: أحدهما أن الاستثناء منقطع، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم، ابتغاء رضوان الله، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله «ابتدعوها» ولقراءة عبد الله بن مسعود: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها، يعني أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم. والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل: الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم.
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ إن قيل: كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان وأثبتوا عليه، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيد هذا قوله: يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي «1» الحديث وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يحتمل أن يريد النور
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري ج 4 ص 402، 405. [.....]
(2/349)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة، ويؤيد الثاني قوله: وجعلنا له نورا يمشي به في الناس
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لا في قوله لئلا زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب وكذلك قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم، والمعنى: إن كان الخطاب لأهل الكتاب: يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء من فضل الله الذي وعد من آمن منكم، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة، لأنهم لم يسلموا، فلم ينالوا شيئا، من ذلك، وإن كان الخطاب للمسلمين، فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئا مما أعطى الله المسلمين من تضعيف الأجر والنور والمغفرة، وقد روي في سبب نزول الآية:
أن اليهود افتخرت على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم، وهو يقوي هذا القول، وروي أيضا أن سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك.
(2/350)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سورة المجادلة
مدنية وآياتها 22 نزلت بعد المنافقون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المجادلة) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها نزلت الآية في خولة بنت حكيم، وقيل خولة بنت ثعلبة، وقيل خولة بنت خويلد، وقيل: اسمها جميلة وكانت امرأة أوس بن الصامت الأنصاري أخي عبادة بن الصامت. فظاهر منها، وكان الظهار في الجاهلية يوجب تحريما مؤبدا، فلما فعل أوس ذلك جاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيتك إلا قد حرمت عليه، فقالت يا رسول الله لا تفعل إني وحيدة، ليس لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثل مقالته فراجعته، فهذا هو جدالها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ كانت تقول اللهم: إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفقري، وروي أنها كانت تقول: اللهم إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما المحاورة هي المراجعة في الكلام قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع الله كلامها، ونزل القرآن في ذلك فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى زوجها وقال له: أتعتق رقبة؟، فقال: والله ما أملكها. فقال:
أتصوم شهرين متتابعين؟، فقال والله، ما أقدر، فقال له: أتطعم ستين مسكينا؟ فقال لا أجد إلا أن يعينني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعونة وصلاة، يريد الدعاء فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا. وقيل: بثلاثين صاعا ودعا له، فكفّر بالإطعام وأمسك زوجته.
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قرئ يظاهرون «1» بألف بعد الظاء وبحذفها
__________
(1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويظّهّرون بتشديد الظاء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظّاهرون. وقرأ عاصم يظاهرون.
(2/351)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
وبالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة محرّمة على التأبيد، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع والمصاهرة، سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله: أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار. لأنه وقف عند لفظ الآية وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه حلال بحرام ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة، وأخبر تعالى: أن تصير الزوجة أمّا باطل، فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب. وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصيّر امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبدا. والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء أحدها قوله تعالى: ما هن أمهاتهم فإن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سماه منكرا والثالث أنه سماه زورا والرابع قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ جعل الله الكفارة في الظهار «1» على ثلاثة أنواع مرتبة لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجز عن الأول ولا ينتقل إلى الثالث حتى يعجز عن الثاني فالأول تحرير رقبة والثاني صيام شهرين متتابعين والثالث إطعام ستين مسكينا والطعام يكون من غالب قوت البلد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مذهب مالك والجمهور أن المسيس هنا يراد به الوطء وما دونه من اللمس والتقبيل فلا يجوز للمظاهر أن يفعل شيئا من ذلك حتى يكفر، ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا قال ابن عطية: الإشارة إلى الرخصة في النقل من التحرير إلى الصوم وقال الزمخشري: المعنى: ذلك البيان والتعليم لتؤمنوا، وهذا أظهر لأنه أعم.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ أي يخالفون ويعادون كُبِتُوا أي هلكوا وقيل: لعنوا وقيل: كبت الرجل إذا بقي خزيان ونزلت الآية في المنافقين واليهود
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يحتمل أن يكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فيكون ثلاثة مضاف إليه بمعنى
__________
(1) . الظهار من الأمور التي أصبحت من الماضي ولا حاجة إلى كل ما ذكره المصنف ولذلك رأيت الاختصار أولى.
(2/352)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
الجماعة من الناس فيكون ثلاثة بدل أو صفة، والأول أحسن إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني بعلمه وإحاطته، وكذلك سادسهم، وهو معهم أينما كانوا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى نزل في قوم من اليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون على المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعادوا، وقيل: نزلت في المنافقين، والأول أرجح لقوله: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ لأن هذا من فعل اليهود والأحسن أن المراد اليهود والمنافقين معا لقوله: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم فنزلت الآية في الطائفتين وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك يا محمد بدلا من السلام: عليكم.
والسام: الموت. وهو ما أرادوه بقولهم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: وعليكم. فسمعتهم عائشة يوما فقالت: بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش فقالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال أما سمعت ما قلت لهم إني قلت: وعليكم. ويريد بقوله ما لم يحيك به الله قوله تعالى: قل الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل: 59] وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ كانوا يقولون: لو كان نبيا لعذبنا الله بإذايته فقال الله حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ أي يكفيهم ذلك عذابا إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: يعني النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وحذف وصفها بذلك لدلالة الأول عليه وقيل: أراد نجوى اليهود والمنافقين ويؤيد هذا قوله: ليحزن الذين آمنوا.
إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا اختلف في سبب نزول الآية فقيل:
نزلت في مقاعد الحرب والقتال، وقيل: نزلت بسبب ازدحام الناس، في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على القرب منه، وقيل: أقام النبي صلى الله عليه وسلم قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم، فنزلت الآية. ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو هي عامة في جميع المجالس؟ فقال قوم إنها مخصوصة ويدل على ذلك قراءة المجلس بالإفراد «1» ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس بالجمع، وهذا هو الأصح ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس، والتفسيح المأمور به
__________
(1) . قرأ المجالس بالجمع عاصم وقرأ الباقون: المجلس بالإفراد..
(2/353)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
هو التوسع دون القيام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا «1» وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو على التحريم أو الكراهة يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع لكم في جنته ورحمته وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا «2» أي إذا قيل لكم: ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، واختلف في هذا النشوز المأمور به فقيل: إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة، وقيل: إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا، وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، وقيل: المراد القيام في المجلس للتوسع.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فيها قولان أحدهما: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله: والذين أوتوا العلم درجات صفة للذين آمنوا كقوله:
جاءني العاقل الكريم وأنت تريد رجلا واحدا، والثاني: يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله صلى الله عليه وسلم «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «3» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم «4» رجلا» وقوله عليه السلام: «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» «5» فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال ابن عباس: سببها أن قوما من شبان المسلمين كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة، لتظهر منزلتهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا، فنزلت الآية مشددة في أمر المناجاة، وقيل: سببها أن الأغنياء غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية منسوخة باتفاق نسخها قوله بعدها
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية: فأباح الله لهم المناجاة دون تقديم صدقة، بعد أن كان أوجب تقديم
__________
(1) . ورد الحديث في مسند أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 22 ونصه: لا يقيم الرجل الرجل عند مقعده ثم يقعد فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا.
(2) . قرأ نافع وحفص وابن عامر: فانشزوا بضم الشين وقرأ الباقون فانشزوا بكسرها. وهما لغتان.
(3) . حديث فضل العالم على العابد رواه أحمد عن أبي الدرداء ج 5 ص 196.
(4) . وحديث فضل العالم.. كفضلي على أدناكم: في الإحياء عزاه للترمذي عن أبي أمامة.
(5) . حديث يشفع يوم القيامة.. قال في الإحياء: رواه ابن ماجة عن عثمان بإسناد ضعيف.
(2/354)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الصدقة قبل مناجاته عليه السلام، واختلف هل كان هذا النسخ بعد أن عمل بالآية أم لا؟
فقال قوم: لم يعمل بها أحد وقال قوم: عمل بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه روي أنه كان له دينار فصرفه بعشرة دراهم وناجاه عشر مرات، تصدق في كل مرة منها بدرهم.
وقيل: تصدق في كل مرة بدينار، ثم أنزل الله الرخصة لمن كان قادرا على الصدقة، وأما من لم يجد فالرخصة لم تزل ثابتة له بقوله: فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ التوبة هنا يراد بها عفو الله عنهم في تركهم للصدقة التي أمروا بها، أو تخفيفها بعد وجوبها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم، دون ما كنتم قد كلفتم من الصدقة عند المناجاة.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود، وهم الذين غضب الله عليهم ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ يعني أن المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود فهو كقوله فيهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا على سوء أقوالهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا، ولا فعلوا وقد صدر ذلك منهم مرارا كثيرة وهي مذكورة في السير وغيرها اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أصل الجنة ما يستتر به ويتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإسلام لتعصم دماؤهم وأموالهم، وقرئ اتخذوا بكسر الهمزة اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب عليهم وتملك نفوسهم فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة الأذلين: أي معهم كَتَبَ اللَّهُ أي قضى وقدر.
لا تَجِدُ قَوْماً الآية: معناها لا تجد مؤمنا يحب كافرا ولو كان أقرب الناس إليه، وهذه حال المؤمن الصادق الإيمان، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم إذا كانوا كفارا، فقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه يوم أحد، وقتل مصعب بن عمير أخاه عزيزا بن عمير يوم أحد، ودعا أبو بكر الصديق ابنه يوم بدر للبراز فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد، وقيل: إن الآية نزلت في حاطب حين كتب إلى المشركين يخبرهم بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحسن أنها على العموم، وقيل: نزلت فيمن يصحب
(2/355)
السلطان وذلك بعيد يُوادُّونَ هذه مفاعلة من المودّة فتقتضي أن المودّة من الجهتين مَنْ حَادَّ اللَّهَ أي عاداه وخالفه كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته فيها كأنه مكتوب وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي بلطف وهدى وتوفيق وقيل بالقرآن، وقيل بجبريل أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ هذه في مقابلة قوله: أولئك حزب الشيطان، والحزب هم الجماعة المتحزبون لمن أضيفوا إليه.
(2/356)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الحشر
مدنية وآياتها 24 نزل بعد البينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحشر) نزلت هذه السورة في يهود بني النضير وكانوا في حصون بمقربة من المدينة، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأرادوا غدره فأطلعه الله على ذلك، فخرج إليهم وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى صالحوه على أن يخرجوا من حصونهم، فخرجوا منها وتفرقوا في البلاد هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بني النضير لِأَوَّلِ الْحَشْرِ في معناه أربعة أقوال: أحدها أنه حشر القيامة أي خروجهم من حصونهم أول الحشر والقيام من القبور آخره، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم:
امضوا هذا أول الحشر، وأنا على الأثر: الثاني أن: المعنى لأول موضع الحشر وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير خرجوا إلى الشام، وقد جاء في الأثر أن حشر القيامة إلى أرض الشام، وروي في هذا المعنى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لبني النضير: أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. الثالث أن المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فإخراجهم من حصونهم أول الحشر، وإخراج أهل خيبر آخره. الرابع أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزمخشري: اللام في قوله لأول بمعنى عند كقولك جئت لوقت كذا ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا يعني لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم فَأَتاهُمُ اللَّهُ عبارة عن أخذ الله لهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ «1» أما إخراب المؤمنين فهو هدم أسوار الحصون ليدخلوها، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله يخربون لأنه كان بسبب كفرهم وغدرهم، وأما إخراب الكفار لبيوتهم فلثلاثة مقاصد: أحدها حاجتهم إلى الخشب
__________
(1) . قرأ أبو عمرو: يخرّبون بالتشديد والباقون بالتخفيف.
(2/357)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ويحصنوا ما خرّبه المسلمون من الأسوار، والثاني ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسواري وغير ذلك. الثالث أن لا تبقى مساكنهم مبنية للمسلمين فهدموها شحا عليها فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ استدل الذين أثبتوا القياس في الفقه بهذه الآية، واستدلالهم بها ضعيف خارج عن معناها
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا الجلاء هو الخروج عن الوطن، فالمعنى لولا أن كتب الله على بني النضير خروجهم عن أوطانهم لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإخوانهم بني قريظة، ولهم مع ذلك عذاب النار شَاقُّوا ذكر في الأنفال.
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ اللينة هي النخلة وقيل: هي الكريمة من النخل، وقيل: النخلة التي ليست بعجوة، وقيل: ألوان النخل المختلط، وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير قطع المسلمون بعض نخلهم، وأحرقوه فقال بنو النضير: ما هذا إلا فساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع أو إمساك فإن الله أذن للمسلمين في ذلك لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني بني النضير، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب، فإن الله قد صوب فعل من قطع النخل ومن تركها، واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فأجازه الجمهور لهذه الآية، ولإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريق نخل بني النضير، وكرهه قوم لوصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه الجيش الذي وجهه إلى الشام أن لا يقطعوا شجرا مثمرا.
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ معنى أفاء الله:
جعله فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوجفتم من الوجيف وهو سرعة السير، والركاب هي الإبل، والمعنى أن ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يمش المسلمون إليه بخيل ولا إبل ولا تعبوا فيه ولا حصلوه بقتال، ولكن حصل بتسليط رسوله صلى الله عليه وسلم على بني النضير، فأعلم الله من هذه الآية أن ما أخذه من بني النضير وما أخذه من فدك: فهو فيء خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما يشاء، لأنه لم يوجف عليها، ولا قوتلت كبير قتال. فهما بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لنفسه من أموال بني النضير قوت عياله، وقسم سائرها في المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا غير أن أبا دجانة وسهل بن حنيف شكوا فاقة فأعطاهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها سهما، هذا قول جماعة، وقال عمر بن الخطاب كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
(2/358)
وقال قوم من العلماء: وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة يأخذون منه حاجتهم ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية اضطرب الناس في تفسير هذه الآية وحكمها اضطرابا عظيما فإن ظاهرها أن الأموال التي تؤخذ للكفار تكون لله وللرسول ومن ذكر بعد ذلك ولا يخرج منها خمس، ولا تقسم على من حضر الوقيعة وذلك يعارض ما ورد في الأنفال من إخراج الخمس، وقسمة سائر الغنيمة على من حضر الوقيعة فقال بعضهم: إن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال، وهذه خطأ لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه بمدة. وقال بعضهم: إن آية الأنفال في الأموال التي تغنم ما عدا الأرض، وأن هذه الآية في أرض الكفار. قالوا:
ولذلك لم يقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض مصر والعراق بل تركها لمصالح المسلمين، وهذا التخصيص لا دليل عليه وقيل: غير ذلك، والصحيح أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإيجاف الخيل والركاب، فهذا يخرج منه الخمس ويقسم باقية على الغانمين، وأما هذه الآية ففي حكم الفيء وهو ما يؤخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، وإذا كان كذلك فكل واحدة من الآيتين في معنى غير معنى الأخرى. ولها حكم غير حكم الأخرى فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء وفي الأنفال لفظ الغنيمة وقد تقرر في الفقه الفرق بين الفيء والغنيمة، وأن حكمهما مختلف، قاله أبو محمد بن الفرس: وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو أظهر الأقوال.
وأما فعل عمر في أرض مصر والعراق، فالصحيح أنه فعل ذلك لمصلحة المسلمين بعد استطابة نفوس الغانمين بقوله تعالى ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يريد بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كما كانت أموال بني النضير، ولكنه حذف هذا لقوله في الآية قبل هذا: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، فاستغنى بذكر ذلك أولا عن ذكره ثانيا، ولذلك لم تدخل الواو العاطفة في هذه الجملة لأنها من تمام الأولى فهي غير أجنبية منها فإنه بين في الآية الأولى حكم أموال بني النضير، وبين في هذه الآية حكم ما كان مثلها من أموال غيرهم على العموم، ويصرف الفيء فيما يصرف فيه خمس الغنائم لأن الله سوّى بينهما في قوله: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وقد ذكرنا ذلك في الأنفال فأغنى عن إعادته، وقد ذكرنا في الأنفال معنى قوله: لله وللرسول وما بعد ذلك كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ
أي كيلا يكون الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة ينتفع به الأغنياء دون الفقراء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإنهم كانوا حينئذ فقراء، ولم يعط الأنصار منها شيئا، فإنهم كانوا أغنياء فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل
(2/359)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
الله هذه الآية، والدولة بالضم والفتح ما يدول الإنسان أي يدور عليه من الخير، ويحتمل أن يكون من المداولة، أي كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بينهم ويبقى الفقراء بلا شيء.
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا نزلت بسبب الفيء المذكور: أي ما أتاكم الرسول من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار عنه، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نواهيه، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لِلْفُقَراءِ هذا بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ليبين بذلك أن المراد المهاجرين، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها أموالهم وديارهم
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم، والضمير في قبلهم للمهاجرين، فإن قيل: كيف قال تبوؤا الدار والإيمان وإنما تتبوّأ الدار. أي تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟ فالجواب من وجهين: الأول أن معناه تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك: فعلفتها تبنا وماء باردا: تقديره: علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، الثاني أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك. فإن قيل: قوله من قبلهم يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار. فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد بقوله من قبلهم من قبل هجرتهم، والآخر أنه أراد تبوؤا الدار مع الإيمان معا. أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوّئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولا معه، وهذا الوجه أحسن، لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول، فإنه إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفا على الدار.
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا قيل: إن الحاجة هنا بمعنى الحسد، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها، والضمير في يجدون للأنصار، وفي أوتوا المهاجرين، والمعنى. أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره، ولا يجدون في صدورهم شيئا بسبب ذلك وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج، والخصاصة هي الفاقة، وروي أن سبب هذه
(2/360)
الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة «1» ، وروي أيضا أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته: والله ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال لها:
نوّمي صبيانك وأطفئي السراج، وقدمي ما عندك للضيف، ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل.
ففعلا ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ شحّ النفس: هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا معطوف على المهاجرين والأنصار المذكورين قبل، فالمعنى أن الفيء للمهاجرين والأنصار ولهؤلاء الذين جاءوا من بعدهم، ويعني بهم الفرقة الثالثة من الصحابة وهم من عدا المهاجرين والأنصار كالذين أسلموا يوم فتح مكة. وقيل:
يعني من جاء بعد الصحابة وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة، وعلى هذا حملها مالك فقال: إن من قال في أحد من الصحابة قول سوء فلا حظ له في الغنيمة والفيء، لأن الله وصف الذين جاءوا بعد الصحابة بأنهم: يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فمن قال ضدّ ذلك فقد خرج عن الذين وصفهم الله.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا الآية: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وقوم من المنافقين بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في حصونكم فإنا معكم كيف ما تقلبت حالكم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم، ثم كذبهم الله في هذه المواعيد التي وعدوا بها، فإن قيل: كيف قال لئن نصروهم ليولنّ الأدبار بعد قوله لا ينصرونهم؟ فالجواب: أن المعنى على الفرض والتقدير أي لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ الرهبة هي
__________
(1) . هذا معنى: ويؤثرون على أنفسهم. وقد مدحهم الله بالإيثار ولو كان بهم خصاصة.
(2/361)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
الخوف، والمعنى أن المنافقين واليهود يخافون الناس أكثر مما يخافون الله
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إلا وهم في قرى محصنة بالأسوار والخنادق أو من وراء الحيطان دون أن يخرجوا إليكم بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني عداوة بعضهم لبعض تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظن أنهم مجتمعون بالألفة والمودة وقلوبهم متفرقة بالمخالفة والشحناء كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً أي هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم يعني: يهود بني قينقاع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا أمثالهم. وقيل: يعني أهل بدر الكفار، فإنهم قبلهم ومثلا لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح: لأن قوله: قريبا يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة، وذلك أوقع على بني قينقاع وأيضا فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع أليق لأنهم يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم كما فعل بهم وذلك هو المراد بقوله: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وقريبا ظرف زمان.
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ مثّل الله المنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان فإنه يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس، وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشا يوم بدر وقال لهم: إني جار لكم، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ الضميران يعودان على الشيطان والإنسان، وفي ذلك تمثيل للمنافقين واليهود.
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ هذا أمر بأن تنظر كل نفس ما قدمت من أعمالها ليوم القيامة، ومعنى ذلك محاسبة النفس لتكف عن السيئات وتزيد من الحسنات، وإنما عبّر عن يوم القيامة بغد تقريبا له، لأن كل ما هو آت قريب، فإن قيل: لم كرر الأمر بالتقوى؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أنه تأكيد، والآخر وهو الأحسن أنه أمر أولا بالتقوى استعدادا ليوم القيامة، ثم أمر به ثانيا لأن الله خبير بما يعلمون، فلما اختلف الموجبات كرره مع كل واحد منهما وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني الكفار، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الغفلة، أي نسوا حقّ الله فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها.
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ الآية: توبيخ لابن آدم على قسوة قلبه، وقلة
(2/362)
خشوعه عند تلاوة القرآن فإنه إذا كان الجبل يخشع ويتصدع لو سمع القرآن فما ظنك بابن آدم عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه، وقيل: الغيب الآخرة والشهادة الدنيا، والعموم أحسن الْقُدُّوسُ مشتق من التقديس، وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب وصيغة فعول للمبالغة كالسبوح السَّلامُ في معناه قولان: أحدهما الذي سلّم عباده من الجور، والآخر السليم من النقائص، وأصله مصدر بمعنى السلامة، وصف به مبالغة أو على حذف مضاف تقديره ذو السلام الْمُؤْمِنُ فيه قولان: أحدهما أنه من الأمن أي الذي أمّن عباده، والآخر أنه من الإيمان أي المصدق لعباده في إيمانهم، أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة، أو المصدق نفسه في أقواله الْمُهَيْمِنُ في معناه ثلاثة أقوال الرقيب والشاهد والأمين، قال الزمخشري أصله مؤيمن بالهمزة ثم أبدلت هاء الْجَبَّارُ في معناه قولان: أحدهما أنه من الإجبار بمعنى القهر، والآخر أنه من الجبر أن يجبر عباده برحمته، والأول أظهر الْمُتَكَبِّرُ أي الذي له التكبر حقا الْبارِئُ أي الخالق يقال: أبرأ الله الخلق أي خلقهم ولكن البارئ والفاطر يراد بهما الذي برأ الخلق واخترعه الْمُصَوِّرُ أي خالق الصور لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة «1» ، قال المؤلف قرأت القرآن على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن الكماد فلما بلغت إلى آخر سورة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك فقلت له ولم ذلك؟ قال لأني قرأت على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي، ضع يدك على رأسك وأسند الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال: قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك قلت ولم ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟
قال: أقرأني جبريل القرآن فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر، قال لي ضع يدك على رأسك يا محمد قلت: ولم ذاك قال: إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر الملائكة أن تضع أيديها على رؤوسها. فقالت: يا ربنا ولم ذاك قال إنه شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت.
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 258.
(2/363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
سورة الممتحنة
مدنية وآياتها 13 نزلت بعد الأحزاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الممتحنة)
لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ العدو يطلق على الواحد والجماعة، والمراد به هنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية، فورّى عن ذلك بخيبر. فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده إلى مكة. منهم حاطب فكتب بذلك حاطب إلى قوم من أهل مكة، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء. فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة «1» معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة فقالوا لها: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا فقال بعضهم: ما معها كتاب. فقال عليّ بن أبي طالب: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب الله، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنك قالت: أعرضوا عني، فأخرجته من قرون رأسها وضفائرها وقيل: أخرجته من حجزتها فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: من كتب هذا؟ قال: أنا يا رسول الله. ولكن لا تعجل عليّ، فو الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني، ولا رغبة في الكفر، ولكني كنت أمرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق حاطب إنه من أهل بدر، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. لا تقولوا لحاطب إلا خيرا «2» . فنزلت الآية عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تشريف له، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله يا أيها الذين آمنوا.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ عبارة عن إيصال المودّة إليهم، وألقى يتعدى بحرف جر
__________
(1) . المرأة التي تسافر على الجمل ضمن الهودج.
(2) . انظر لمزيد تفصيل ما جاء في الطبري.
(2/364)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
وبغير حرف جر كقوله أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وهذه الجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: لا تتخذوا أو في موضع الصفة لأولياء أو استئناف وَقَدْ كَفَرُوا حال من الضمير في لا تتخذوا أو في تلقون يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي يخرجون الرسول ويخرجونكم: يعني إخراجهم من مكة، فإنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة، ومنهم من خرج إلى أرض الحبشة أَنْ تُؤْمِنُوا مفعول من أجله أي يخرجونكم من أجل إيمانكم إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو: لا تتخذوا، والتقدير إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، وجهادا مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله وكذلك ابتغاء إِنْ يَثْقَفُوكُمْ معناه إن يظفروا بكم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي تمنوا أن تكفروا فتكونون مثلهم، قال الزمخشري: وإنما قال: ودّوا بلفظ الماضي بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع لأنهم أرادوا كفركم قبل كل شيء لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إشارة إلى ما قصد حاطب من رعي قرابته يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «1» يحتمل أن يكون من الفصل بالحكم بينهم أو من الفصل بمعنى التفريق، أي يفرق بينكم وبين قرابتكم يوم القيامة، وقيل: إن العامل في يوم القيامة ما قبله وذلك بعيد.
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الأسوة هو الذي يقتدى به، فأمر الله المسلمين أن يقتدوا بإبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة الكفار والتبري منهم، ومعنى: والذين معه من آمن به من الناس، وقيل: الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره، ورجح ابن عطية هذا القول بما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه السلام قال لزوجته: ما على الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك بَراءٌ جمع بريء كَفَرْنا بِكُمْ أي كذبناكم في أقوالكم، ويحتمل أن يكون عبارة عن إفراط البغض والمقاطعة لهم إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هذا استثناء من قوله أسوة حسنة، فالمعنى اقتدوا بهم في عداوتهم للكفار، ولا تقتدوا بهم في هذا، لأن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، فلما
__________
(1) . قوله: يفصل بينكم: قرأها عاصم: يفصل بينكم وقرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو: يفصل. وقرأ حمزة والكسائي: يفصّل بالتشديد والكسر، وقرأ ابن عامر: يفصّل بالتشديد والفتح. [.....]
(2/365)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقيل: الاستثناء من التبري والقطيعة، والمعنى تبرأ إبراهيم والذين معه من الكفار، إلا أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا هذا من كلام سيدنا إبراهيم عليه السلام، والذين معه وهو متصل بما قبل الاستثناء، فهو من جملة ما أمروا أن يقتدوا به رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في معناه قولان: أحدهما لا تنصرهم علينا فيكون ذلك لهم فتنة وسبب ضلالهم لأنهم يقولون: غلبناهم فيكون ذلك لهم، لأنا على الحق وهم على الباطل. والآخر: لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، ورجح ابن عطية هذا، لأنه دعاء لأنفسهم وأما على القول الأول فهو دعاء للكفار، ولكن مقصدهم ليس الدعاء للكفار، وإنما هو دعاء لأنفسهم بالنصر بحيث لا يفتتن الكفار بذلك.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم فامتثلوا ذلك على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة، فعلم الله صدقهم فآنسهم بهذه الآية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإنه أسلم حينئذ سائر قريش، وقيل: المودّة تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب سيد قريش، ورد ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ رخص الله للمسلمين في مبرة من لم يقاتلهم من الكفار، واختلف فيهم على أربعة أقوال، الأول أنهم قبائل من العرب منهم خزاعة وبنو الحارث بن كعب كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن لا يقاتلوا، ولا يعينوا عليه. الثاني أنهم كانوا من كفار قريش لم يقاتلوا المسلمين ولا أخرجوهم من مكة، والآية على هذين القولين منسوخة بالقتال: الثالث أنهم النساء والصبيان، وفي هذا ورد أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك «1» . الرابع أنه أراد من كان بمكة من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وأما الذين نهى الله عن مودتهم لأنهم قاتلوا المسلمين وظاهروا على إخراجهم فهم كفار قريش.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي اختبروهن
__________
(1) . الحديث متفق عليه وأورده النووي في رياض الصالحين باب بر الوالدين.
(2/366)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
لتعلموا صدق إيمانهن، وإنما سماهن مؤمنات لظاهر حالهن، وقد اختلف في هذا الامتحان على ثلاثة أقوال: أحدها أن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغضها في زوجها، ولا لخوف وغير ذلك من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة، والثاني أن يعرض عليها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، والثالث أن تعرض عليها الشروط المذكورة بعد هذا من ترك الإشراك والسرقة، وقتل أولادهن وترك الزنا والبهتان، والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها قالته عائشة رضي الله تعالى عنها فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ نزلت هذه الآية أثر صلح الحديبية، وكان ذلك الصلح قد تضمن أن يردّ المسلمون إلى الكفار كل من جاءهم مسلما من الرجال والنساء، فنسخ الله أمر النساء بهذه الآية، ومنع من رد المؤمنة إلى الكفار إذا هاجرت إلى المسلمين، وكانت المرأة التي هاجرت حينئذ أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة، وقيل: سبيعة الأسلمية، ولما هاجرت جاء زوجها فقال يا محمد ردها علينا، فإن ذلك في الشرط الذي لنا عليك فنزلت الآية: فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردها، وأعطى مهرها لزوجها، وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، هربت من زوجها إلى المسلمين، واختلف في الرجال هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على ردّ من أسلم منهم، أو يجوز حتى الآن على قولين: والأظهر الجواز لأنه إنما نسخ ذلك في النساء لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ هذا تعليل للمنع من ردّ المرأة إلى الكفار، وفيه دليل على ارتفاع النكاح بين المشركين والمسلمات.
وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يعني أعطوا الكفار ما أعطوا نساءهم من الصدقات إذا هاجرن، ثم أباح للمسلمين تزوجهن بالصداق وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1» العصم جمع عصمة أي النكاح، فأمر الله المسلمين أن يفارقوا نساءهم الكوافر، يعني المشركات من عبدة الأوثان، فالآية على هذا محكمة، وقيل: يعني كل كافرة. فعلى هذا نسخ منها جواز تزوج الكتابيات لقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] ، وروي أن الآية نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلقها وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي اطلبوا من الكفار ما أنفقتم من الصدقات على أزواجكم، اللاتي فررن إلى الكفار وليطلب الكفار منكم ما أنفقوا على أزواجهم، اللاتي هاجرن إلى المسلمين
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا
__________
(1) . قوله تمسكوا. قرأ أبو عمرو: تمسّكوا بالتشديد والباقون: بالتخفيف.
(2/367)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
معنى فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار: هروب نساء المسلمين إلى الكفار، والخطاب في قوله فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ للمسلمين وقوله: عاقبتم ليس من العقاب على الذنب، وإنما هو من العقبى أي أصبتم عقبى، وهي الغنيمة أو من التعاقب على الشيء، كما يتعاقب الرجلان على الدابة إذا ركبها هذا مرة وهذا مرة أخرى، فلما كان بعض نساء المسلمين يهربون إلى الكفار وبعض نساء الكفار يهربون إلى المسلمين جعل ذلك كالتعاقب على النساء، وسبب الآية أنه لما قال الله: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا: قال الكفار: لا نرضى بهذا الحكم، ولا نعطي صداق من هربت زوجته إلينا من المسلمين، فأنزل الله هذه الآية الأخرى وأمر الله المسلمين أن يدفعوا الصداق لمن هربت زوجته إلينا من المسلمين إلى الكفار «1» ، ويكون هذا المدفوع من مال الغنائم على قول من قال: إن معنى فعاقبتم غنمتم، وقيل: من مال الفيء، وقيل: من الصدقات التي كانت تدفع للكفار إذا فر أزواجهم إلى المسلمين فأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه.
وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية، قد ارتفعت [أي لا يعمل بها] لأنها نزلت في قضايا معينة، وهي مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة فلا تجوز مهادنة المشركين من العرب، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف، وإنما تجوز مهادنة أهل الكتاب والمجوس لأن الله قال في المشركين: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقال في أهل الكتاب: حتى يعطوا الجزية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: في المجوس:
سنّوا بهم سنة أهل الكتاب «2» .
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعهن بالكلام، ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث الصحيح عن عائشة وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ معناه عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له، واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم، بأن ينسب للرجل غير ولده، أو تفتري على أحد بالقول، أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي، ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان
__________
(1) . تبدو العبارة مضطربة وصوابها: أمر الله المسلمين بدفع الصداق للزوج المسلم الذي هربت زوجته إلى الكفار. والله أعلم.
(2) . أي عاملوهم كأهل الكتاب ما عدا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم والحديث رواه مالك بن أنس في الموطأ عن عبد الرحمن بن عوف ج أول ص 278.
(2/368)
نساء الجاهلية يفعلنه، وورد في الحديث أن النساء لما بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبايعة، فقررهنّ على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة: وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليّ إن أخذت من ماله بغير إذنه، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف «1» فلما قررهن على أن لا يزنين، قالت هند يا رسول الله أتزني الحرة؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا تزني الحرة يعني في غالب المرأة، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال: ولا يقتلن أولادهن فقالت: نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف، قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك.
وهذه المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا فإما أن تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود، وكان بعض فقراء المسلمين يتودّد إليهم ليصيبوا من أموالهم، وقيل: يعني كفار قريش، والأول أظهر لأن الغضب قد صار عرفا لليهود كقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من قال: إن القوم الذين غضب الله عليهم هو اليهود، فمعنى يئسوا من الآخرة يئسوا من خير الآخرة والسعادة فيها، ومن قال: إن القوم الذين غضب الله عليهم هم كفار قريش، فالمعنى يئسوا من وجود الآخرة، وصحتها لأنهم مكذبون بها تكذيبا جزما وقوله كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد كما يئس الكفار المكذبون بالبعث من بعث أصحاب القبور، فقوله: من أصحاب يتعلق بيئس، وهو على حذف مضاف، والآخر أن يكون من أصحاب القبور لبيان الجنس أي كما يئس الذين في القبور من سعادة الآخرة، لأنهم تيقنوا أنهم يعذبون فيها.
__________
(1) . انظر الحديث في البخاري ج 3 ص 101 عن عائشة.
(2/369)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سورة الصف
مدنية وآياتها 14 نزلت بعد التغابن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحواريين) لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سببها ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن عباس أن جماعة قالوا: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية والآخر أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية زجرا لهم والثالث أنها نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف، لأنه خاطبهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم، وفيما يظهرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول: أخاف من مقت الله، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها، وانتصب مقتا على التمييز وأن تقولوا فاعل وقيل: فاعل كبر محذوف تقديره: كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال، وقال بعض الناس: قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان، لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف، خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفس التراص، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض. وقيل: هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى [69] وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي
(2/370)
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم، وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هذه عقوبة على الذنب بذنب، وزيغ القلب هو ميله عن الحق وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إنما قال موسى يا قوم، وقال عيسى يا بني إسرائيل، لأنه لم يكن له فيهم أب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ معناه مذكور في [البقرة: 41] في قوله مصدقا لما معكم ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار اسْمُهُ أَحْمَدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي «1» وأحمد مشتق من الحمد، ويحتمل أن يكون فعلا سمي به، أو يكون صفة سمي بها كأحمد، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ «2» يحتمل أن يريد عيسى أو محمدا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله، ويؤيد الثاني قوله وهو يدعى إلى الإسلام لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «3» ذكر في براءة [32] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية تفسير للتجارة المذكورة، قال الأخفش: هو عطف بيان عليها يَغْفِرْ لَكُمْ جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر، وقد قرأه ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر لأنه يقتضي التحضيض وَأُخْرى تُحِبُّونَها ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره:
ولكم نعمة أخرى، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: ويمنحكم أخرى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ تفسير لأخرى فهو بدل منها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري عطف على تؤمنون
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب المناقب ص 162 ج 4 عن جبير بن مطعم.
(2) . بقية الآية: سحر مبين: قرأها حمزة والكسائي: ساحر مبين.
(3) . بقية الآية: متم نوره، قرأ نافع وأبو عمرو وغيرهما: والله متمّ نوره بالتنوين.
(2/371)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
بالله لأنه في معنى الأمر
كونوا أنصارا لله «1» جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج، سماهم الله به وليس ذلك المراد هنا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره: كونوا أنصار الله كقول عيسى والمعنى: كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقد ذكر في آل عمران [52] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قيل: إنهم ظهروا بالحجة، وقيل: إنهم غلبوا الكفار بالقتال بعد رفع عيسى عليه السلام، وقيل: إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) . كونوا أنصار الله: قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو كونوا أنصارا لله.
(2/372)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
سورة الجمعة
مدنية وآياتها 11 نزلت بعد الصف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الجمعة) الْقُدُّوسِ ذكر في الحشر [24] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، والأميين: هم العرب، وقد ذكر معنى الأمي في الأعراف [157] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ عطفا على الأميين، وأراد بهؤلاء فارس وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الآخرون فأخذ بيد سلمان الفارسي، وقال لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء «1» يعني فارس، وقيل: هم الروم ومنهم على هذين القولين يريد به في البشرية وفي الدين، لا في النسب وقيل: هم أهل اليمن وقيل: التابعون، وقيل: هم سائر المسلمين، والأول أرجح لوروده في الحديث الصحيح لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي لما يلحقوا بهم بالنفي وسيلحقون، وذلك أن لما لذكر الماضي القريب من الحال ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إشارة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهداية الناس به مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود ومعنى حملوا التوراة كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها لَمْ يَحْمِلُوها لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها، شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولم يدر ما فيها بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها لأن التوراة تنطق بنبوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف التوراة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ذكر في البقرة [94] .
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 297 وله عدة ألفاظ: لو كان الإيمان، لو كان الدين.
(2/373)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ النداء للصلاة هو الأذان لها، ومن في قوله من يوم الجمعة لبيان إذا، وتفسير له وذكر الله: يراد به الخطبة والصلاة، ويتعلق بهذه الآية ثمان مسائل الأولى اختلف في الأذان للجمعة هل هو سنة كالأذان لسائر الصلوات؟ أو واجب لظاهر الآية لأنه شرط في السعي لها أن يكون عند الأذان والسعي واجب فالأذان واجب. الثانية كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جدار المسجد وقيل: على باب المسجد وقيل: كان بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر، وقد كان بنو أمية يأخذون بهذا، وبقي بقرطبة زمانا وهو باق في المشرق إلى الآن. قال أبو محمد بن الفرس. قال مالك في المجموعة إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه قال: وهذا دليل على أن الحديث في ذلك ضعيف. الثالث كان الأذان للجمعة واحدا ثم زاد عثمان رضي الله عنه النداء على الزوراء [مكان وسط السوق] ليسمع الناس.
واختلف الفقهاء هل المستحب أن يؤذن فيها اثنان أو ثلاثة: الرابعة، السعي في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري، وقرأ عمر بن الخطاب: فامضوا إلى ذكر الله وهذا تفسير للسعي، فهو بخلاف السعي في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم تسعون. الخامسة، حضور الجمعة واجب، لحمل الأمر الذي في الآية على الوجوب باتفاق، إلا أنها لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على المريض باتفاق، ولا على العبد والمسافر عند مالك والجمهور خلافا للظاهرية. وتعلقوا بعموم الآية وحجة الجمهور قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض «1» وحجتهم في المسافر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر، واختلف هل تسقط الجمعة بسبب المطر أم لا؟ وهل يجوز للعروس «2» التخلف عنها أم لا، والمشهور أنها لا تسقط عنه لعموم الآية، السادسة اختلف متى يتعين الإقبال إلى الصلاة؟ فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا أذن المؤذن وهو ظاهر الآية، السابعة اختلف في الموضع الذي يجب منه السعي إلى الجمعة. فقيل:
ثلاثة أميال وهو مذهب مالك، وقيل: ستة أميال وقيل: على من كان داخل المصر، وقيل:
على من سمع النداء، وقيل: على من آواه الليل إلى أهله، الثامنة اختلف في الوالي «3» هل هو من شرط الجمعة أم لا على قولين، والمشهور سقوطه لأن الله لم يشترطه في الآية.
__________
(1) . حديث وجوب الجمعة رواه الإمام الشافعي في الأمّ ونصه: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا.
(2) . العروس: كلمة تطلق على الرجل والمرأة لغة وهو الحديث عهد بعرس.
(3) . الوالي يراد به الحاكم أو الحكومة باصطلاح: زماننا.
(2/374)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وَذَرُوا الْبَيْعَ أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان، وذلك على الوجوب، فيقتضي تحريم البيع. واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزمهم الجمعة من النساء والعبد هل يجوز في ذلك الوقت أم لا؟ والأظهر جوازه لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هذا الأمر للإباحة باتفاق، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية وابن الفرس وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل: معناه طلب المعاش، فالأمر على هذا للإباحة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة وقيل: هو طلب العلم وإن صح الحديث لم يعدل إلى سواه.
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير [قافلة] من الشام بطعام، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورا بها، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا. قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة واختلف في الثاني عشر فقيل: عبد الله بن مسعود وقيل:
عمار بن ياسر وقيل: إنما بقي معه صلى الله عليه وسلم ثمانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: لقد كانت الحجارة سوّمت في السماء على المنفضين. وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك ليس في ذلك عدد محدود، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون. وقال الشافعي: أربعون وقال أبو حنيفة: ثلاثة مع الإمام وقيل: اثنا عشر عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك مهتما بالتجارة إذ كانت أهم، وكانت هي سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها قاله ابن عطية.
وَتَرَكُوكَ قائِماً اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو واجب أم لا؟ وإذا قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام. ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين وقال أبو حنيفة: لا يجلس بين الخطبتين
(2/375)
لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس «1» ، وحجة مالك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ إن قيل: لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر كقولك: فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير. من باب أولى وأحرى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها. قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله: خير من اللهو ومن التجارة قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضا خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.
__________
(1) . هنا غير صحيح فقد ورد في كتاب الهداية للمرغيناني: (ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة) به جرى التوارث. [.....]
(2/376)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
سورة المنافقون
مدنية وآياتها 11 نزلت بعد الحج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المنافقون) إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فلذلك كذبهم الله بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي كذبوا في دعواهم الشهادة بالرسالة، وأما قوله: والله يعلم إنك لرسوله فليس من كلام المنافقين، وإنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطال للرسالة، فوسطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة، وعلى هذا ينبغي أن يوقف على قوله: لرسول الله جُنَّةً ذكر في المجادلة [16] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الإشارة إلى سوء عملهم وفضيحتهم وتوبيخهم، وأما قوله: آمنوا ثم كفروا فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فيمن آمن منهم إيمانا صحيحا ثم نافق بعد ذلك، والآخر أن يريد آمنوا في الظاهر كقوله: إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا [البقرة: 14] .
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني أنهم حسان الصور وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ يعني أنهم فصحاء الخطاب، والضمير في قوله: وإذا رأيتهم تعجبك وفي قوله:
تسمع لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مخاطب كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ «1» شبههم بالخشب في قلة أفهامهم، فكان لهم منظر بلا مخبر، وقال الزمخشري: إنما شبههم بالخشب المسندة إلى حائط، لأن الخشب إذا كانت كذلك لم يكن فيها منفعة، بخلاف الخشب التي في سقف أو مغروسة في جدار فإن فيها حينئذ منفعة. فالتشبيه على هذا في عدم المنفعة، وقيل: كانوا يستندون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فشبههم في استنادهم بالخشب المسندة إلى الحائط
__________
(1) . خشب: قرأها أبو عمرو والكسائي بتسكين الشين: خشب والباقون بالضم.
(2/377)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ عبارة عن شدّة خوفهم من المسلمين، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتلهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ الدعاء عليهم يتضمن ذمّهم وتقبيح أحوالهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإيمان مع ظهوره.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ «1» أي أمالوها إعراضا واستكبارا. وقصص هذه الآية وما بعدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء ازدحموا عليه، فكان ممن ازدحم عليه جهجاه بن سعيد أجير لعمر بن الخطاب وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فلطم الجهجاه سنانا، فغضب سنان ودعا بالأنصار ودعا جهجاه بالمهاجرين، فقال عبد الله بن أبيّ: والله ما مثلنا ومثل هؤلاء يعني المهاجرين إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني: بالأعز نفسه وأتباعه، ويعني بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم قال لقومه: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون بالمدينة بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفرّوا عن مدينتكم. فسمعه زيد بن أرقم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فحلف أنه ما قال من ذلك شيئا. وكذّب زيدا فنزلت السورة عند ذلك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد، وقال: لقد صدّقك الله يا زيد، فخزي عبد الله بن أبي بن سلول ومقته الناس، فقيل له: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال: أمرتموني بالإسلام فأسلمت، وأمرتموني بأداء زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني أن أسجد لمحمد. ثم مات عبد الله بن أبيّ بعد ذلك بقليل. وأسندت هذه الأقوال التي قالها عبد لله بن أبيّ إلى ضمير الجماعة، لأنه كان له أتباع من المنافقين يوافقونه عليها.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ روي أنه لما نزلت إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 8] قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لأزيدن على السبعين. فلما فعل عبد لله بن أبيّ وأصحابه ما فعلوا شدّد الله عليهم في هذه
__________
(1) . لوّوا: قرأها بالتشديد عامة القراء وقرأ نافع لووا بدون تشديد.
(2/378)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
السورة، وأخبر أنه لا يغفر لهم بوجه. وفي هذا نظر لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني المصطلق قبل الآية الأخرى بمدّة لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا تشغلكم. وذكر الله هنا على العموم في الصلاة والدعاء والعبادة، وقيل: يعني الصلاة المكتوبة والعموم أولى
وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ عموم في الزكاة وصدقة التطوع والنفقة في الجهاد وغير ذلك، وقيل: يعني الزكاة المفروضة والعموم أولى وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالجزم عطف على موضع جواب الشرط، وقرأ أبو عمرو فأكون بالنصب عطف على فأصدق «1» .
__________
(1) . قوله: في آخر آية: [والله خبير بما تعملون] قرأها الجميع. تعملون بالتاء ما عدا أبي بكر فقد قرأها، [بالياء يعملون] .
(2/379)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة التغابن
مدنية وآياتها 18 نزلت بعد التحريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة التغابن) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ في تأويل الآية وجهان:
أحدهما الذي خلقكم فكان يجب على كل واحد منكم الإيمان به، لكن منكم من كفر ومنكم من آمن، فالكفر والإيمان على هذا هو من اكتساب العبد. والآخر أن المعنى هو الذي خلقكم على صنفين: فمنكم من خلقه مؤمنا ومنكم من خلقه كافرا، فالإيمان والكفر على هذا هو ما قضى الله على كل واحد، والأول أظهر، لأنه عطفه على خلقكم بالفاء يقتضي أنّ الكفر والإيمان واقعان بعد الخلقة لا في أصل الخلقة خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ذكر معناه في مواضع وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ تعديد نعمة في حسن خلقة بني آدم لأنهم أحسن صورة من جميع أنواع الحيوان وإن وجد بعض الناس قبيح المنظر، فلا يخرجه ذلك عن حسن الصورة الإنسانية، وإنما هو قبيح بالنظر إلى من هو أحسن منه من الناس. وقيل: يعني العقل والإدراك الذي خصّ به الإنسان. والأول أرجح لأن الصورة إنما تطلق على الشكل أَلَمْ يَأْتِكُمْ خطاب لقريش وسائر الكفار فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا معناه أنهم استبعدوا أن يرسل الله بشرا أو تكبروا عن اتباع بشر، والبشر يقع على الواحد والجماعة زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قال عبد الله بن عمر: زعم كناية عن كذب.
(2/380)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ «1» العامل في يوم لتنبؤن أو محذوف تقديره اذكر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره ذلك يوم التغابن يعني، يوم القيامة. والتغابن مستعار من تغابن الناس في التجارة، وذلك إذا فاز السعداء بالجنة، فكأنهم غبنوا الأشقياء في منازلهم التي كانوا ينزلون منها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونه بين اثنين، كقولك تضارب وتقاتل إنما هي فعل واحد كقولك: تواضع قال ابن عطية والزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء ونزول الأشقياء منازل السعداء، والتغابن على هذا بين اثنين قال: وفيه تهكم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن للسعداء ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يحتمل أن يريد بالمصيبة الرزايا، وخصها بالذكر لأنها أهم على الناس. أو يريد جميع الحوادث من خير أو شر وبإذن الله عبارة عن قضائه وإرادته تعالى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قيل: معناه من يؤمن بأن كل شيء بإذن الله يهد الله قلبه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا أحسن إلا أن العموم أحسن منه.
إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ سببها أن قوما أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فحذرهم الله من طاعتهم في ذلك.
وقيل: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أراد الجهاد فاجتمع أهله وأولاده فشكوا من فراقه، فرقّ لهم ورجع. ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم، فنزلت الآية محذرة من فتنة الأولاد، ثم صرف الله تعالى عن معاقبتهم بقوله: وإن تعفوا وتصفحوا الآية، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه في التحذير ممن يكون للإنسان عدوا من أهله وأولاده، سواء كانت عداوتهم بسبب الدين أو الدنيا اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
ترغيب في الآخرة وتزهيد في الأموال والأولاد، التي فتن الناس بها
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قيل: إن هذا ناسخ لقوله:
__________
(1) . بقية الآية: يعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله: قرأ نافع وابن عامر: نكفر بالنون وندخله وقرأ الباقون بالياء في كلا الكلمتين.
(2/381)
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وروي أنه لما نزل حق تقاته شق ذلك على الناس حتى نزل ما استطعتم وقيل: لا نسخ بينهما لأن حق تقاته معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحد إلا ما يستطيع. وهذه الآية على هذا مبينة لتلك، وتحرز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان وما لا يؤاخذ به العبد، وإعراب ما في قوله ما استطعتم ظرفية خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منصوب بإضمار فعل لا يظهر عند سيبويه، وقيل هو مفعول بأنفقوا، لأن الخير بمعنى المال وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ذكر في الحشر [9] إِنْ تُقْرِضُوا «1» ذكر في البقرة: 245 وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ذكر في اللغات.
__________
(1) . قوله سبحانه: يضاعفه قرأ ابن كثير وابن عامر: يضعّفه.
(2/382)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سورة الطلاق
مدنية وآياتها 12 نزلت بعد الإنسان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الطلاق)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إن قيل: لم نودي النبي صلى الله عليه وسلم وحده ثم جاء بعد ذلك خطاب الجماعة؟ فالجواب: أنه لما كان حكم الطلاق يشترك فيه النبي صلى الله عليه وآله وأمته، قيل: إذا طلقتم خطابا له ولهم، وخصّ هو عليه الصلاة والسلام بالنداء تعظيما له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي: افعل أنت وقومك، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لأمته، فكأنه قال: يا أيها النبي إذا طلقت أنت وأمتك. وقيل: تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم. وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن هذا الحكم مختص بأمته دونه، وقيل: إنه خوطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطلقتم تعظيما له، كما تقول للرجل المعظم: أنتم فعلتم، وهذا أيضا ضعيف، لأنه يقتضي اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالحكم دون أمته، ومعنى إذا طلقتم هنا: إذا أردتم الطلاق.
واختلف في الطلاق هل هو مباح أو مكروه؟ فأما إذا كان على غير وجه السنة فهو ممنوع. ولكن يلزم، وأما اليمين بالطلاق فممنوع «1» فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ تقديره: طلقوهن مستقبلات لعدتهن، ولذلك قرأ عثمان وابن عباس وأبيّ بن كعب: فطلقوهن في قبل عدتهن وقرأ ابن عمر: لقبل عدتهن ورويت القراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك كله:
لا يطلقها وهي حائض، فهو منهي عنه بإجماع، لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله بها وهو استقبال العدة، واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو معلل بتطويل العدة، أو هو تعبد، والصحيح أنه معلل بذلك، وينبني على هذا الخلاف فروع منها: هل يجوز إذا رضيت به المرأة أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها وهي حامل أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدّة يقتضي جواز هذه الفروع، والتعبد يقتضي المنع، ومن طلق في الحيض لزمه الطلاق، ثم يؤمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك، وبدون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم
__________
(1) . قول المصنف: ممنوع، عجيب، إذ يؤخذ به من المذاهب ما عدا قول ابن تيمية ومن وافقه.
(2/383)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، حسبما ورد في حديث ابن عمر، حين طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك. واشترط مالك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، ليعتد بذلك الطهر، فإنه إن طلقها في طهر بعد أن جامعها فيه، فلا تدري هل تعتد بالوضع [وضع الحمل] أو بالأقراء فليس طلاقا لعدتها كما أمر الله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام، في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ نهى الله سبحانه وتعالى أن يخرج الرجل المرأة المطلقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجا عن بيتها ولا أن تغيب عنه نهارا إلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، فإن كان المسكن ملكا للزوج، أو مكترى عنده، لزمه إسكانها فيه، وإن كان المسكن لها فعليه كراؤه مدة العدة، وإن كانت قد أمتعته فيه مدة الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب [المالكي] والصحيح لزومه لأن الامتناع قد انقطع بالطلاق إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «1» اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هي؟ على خمسة أقوال:
الأول أنها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ، قاله الليث بن سعد والشعبي. الثاني أنه سوء الكلام مع الأصهار فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب، قاله ابن عباس ويؤيده قراءة أبي بن كعب، إلا أن يفحشن عليكم. الثالث أنه جميع المعاصي من القذف والزنا والسرقة وغير ذلك، فمتى فعلت شيئا من ذلك سقط حقها في السكنى، قاله ابن عباس أيضا وإليه مال الطبري الرابع أنه الخروج عن بيتها خروج انتقال فمتى فعلت ذلك سقط حقها في السكنى قاله ابن الفرس: وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة، الخامس أنه النشوز قبل الطلاق، فإذا طلقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى قاله قتادة.
لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً المراد به الرجعة عند الجمهور، أي أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به، لعل الله يحدث الرجعة لنسائكم، وقيل: إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة بنت عمر فأمره الله بمراجعتها
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو:
تحسين العشرة وتوفية النفقة، والفراق بالمعروف هو: أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط ونحو ذلك وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ هذا خطاب للأزواج، والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند الجمهور، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على
__________
(1) . مبينة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء: مبينة وقرأ الباقون بكسر الياء.
(2/384)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
قولين في المذهب. وقال ابن عباس: هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله: ذوي عدل يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء، وهو مذهب مالك. خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك. وقوله: منكم يريد من المسلمين وقيل: من الأحرار فيؤخذ من ذلك ردّ شهادة العبيد، وهو مذهب مالك وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ هذا خطاب للشهود، وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله: لله وهو كقوله كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] شهداء لله ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من الأحكام.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قيل إنها في الطلاق، ومعناها: من يتق الله فيطلق طلقة واحدة، حسبما تقتضيه السنة يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق، وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلق ثلاثا: إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجا أي لا رجعة لك. وقيل: إنها على العموم أي من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس، وهذا أرجح لخمسة أوجه أحدها حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره، الثاني أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه، فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه، والثالث أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. والرابع روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» الآية: فما زال يقرؤها ويعيدها الخامس قوله: ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم.
قال بعض العلماء: الرزق على نوعين رزق مضمون لكل حي طول عمره، وهو الغذاء الذي تقوم به الحياة وإليه الإشارة بقوله: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ورزق موعود للمتقين خاصة، وهو المذكور في هذه الآية
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه بحيث لا يحتاج معه إلى غيره، وقد تكلمنا على التوكل في آل عمران إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ «1» أي يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، هذا حض على التوكل وتأكيد له، لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله توكل عليه وحده ولم يعوّل على سواه
__________
(1) . بالغ أمره: قرأ حفص بالإضافة وقرأ الباقون: بالغ أمره.
(2/385)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي مقدارا معلوما ووقتا محدودا.
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ روي أنه لما نزل قوله: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية معلمة أن المطلقة إذا كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر فقوله: اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: يعني التي انقطعت حيضتها لكبر سنها وقوله وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني الصغيرة التي لم تبلغ المحيض وهو معطوف على اللائي يئسن أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره واللائي لم يحضن كذلك وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ هو من الريب بمعنى الشك وفي معناه قولان: أحدهما إن ارتبتم في حكم عدتها فاعلموا أنها ثلاثة أشهر.
والآخر: إن ارتبتم في حيضها هل انقطع أو لم ينقطع فهي على التأويل الأول في التي انقطعت حيضتها لكبر سنها حسبما ذكرنا وهو الصحيح وهي على التأويل الثاني في المرتابة وهي التي غابت عنها الحيضة وهي في سن من تحيض. وقد اختلف العلماء في عدتها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها ثلاثة أشهر خاصة حسبما تقتضيه الآية على هذا التأويل، والآخر أنها ثلاثة أشهر بعد تسعة أشهر تستبرئ بها أمد الحمل وهذا مذهب مالك: وقدوته في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثالث أنها تعتد بالأقراء ولو بقيت ثلاثين سنة حتى تبلغ سن من لا تحيض وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ هذه الآية عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء عامة في المطلقات والمتوفى عنهن، فمتى كانت إحداهن حاملا فعدتها وضع حملها. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس إنما هذه الآية في المطلقات الحوامل فهن اللاتي عدتهن وضع حملهن. وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملا فعدتها عندهما أبعد الأجلين إما الوضع أو انقضاء الأربعة الأشهر وعشرا، فحجة الجمهور حديث سبيعة الأسلمية أنها كانت زوجا لسعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حبلى، فلما وضعت خطبها أبو السنابل بن بعكك، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها انكحي من شئت، وقد ذكر أن ابن عباس رجع إلى هذا الحديث لما بلغه ولو بلغ عليا رضي الله عنه لرجع إليه، وقال عبد الله بن مسعود: إن هذه الآية التي نزلت في سورة النساء القصوى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية التي في البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] فهي مخصصة لها حسبما قاله جمهور العلماء
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أمر الله بإسكان المطلقة طول العدة، فأما المطلقة غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السكنى والنفقة باتفاق، وأما المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال:
(2/386)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
أحدها أنها يجب لها السكنى دون النفقة، وهو مذهب مالك والشافعي، والثاني يجب لها السكنى والنفقة وهو مذهب أبي حنيفة، والثالث أنها ليس لها سكنى ولا نفقة، فحجة مالك حديث فاطمة بنت قيس، وهو أن زوجها طلقها البتة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لك عليه نفقة، فيؤخذ من هذا أن لها السكنى دون النفقة، وحجة من أوجب لها السكنى: قول عمر بن الخطاب: لا ندع آية من كتاب ربنا لقول امرأة. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لها السكنى والنفقة، وحجة من لا يجعل لها لا سكنى ولا نفقة أن في بعض الروايات عنها أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفقة ولا سكنى، وقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ معناه: أسكنوهن مكانا من بعض مساكنكم فمن للتبعيض، ويفسر ذلك قول قتادة لو لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه مِنْ وُجْدِكُمْ الوجد هو الطاقة والسعة في المال فالمعنى: أسكنوهن مسكنا مما تقدرون عليه، وإعرابه عطف بيان لقوله: حيث سكنتم، ويجوز في الوجد ضم الواو وفتحها وكسرها وهو بمعنى واحد، والضم أكثر وأشهر.
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ اتفق العلماء على وجوب النفقة في العدة للمطلقة الحامل عملا بهذه الآية سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، واتفقوا على أن للمطلقة غير الحامل النفقة في العدة إذا كان الطلاق رجعيا، فإن كان بائنا فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أن هذه الآية إنما هي في المطلقات، وقال قوم: لها النفقة في التركة فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ المعنى إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم فآتوهن أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن حسبما ذكر في كتب الفقه وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ هذا خطاب للرجال والنساء، والمعنى أن يأمر كل واحد صاحبه بخير من المسامحة والرفق والإحسان، وقيل: معنى ائتمروا تشاوروا ومنه: إن الملأ يأتمرون بك وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى المعنى إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيرا، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق له، إلا أن لا يقبل الطفل غير ثدي أمه، فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج.
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أمر بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، ولا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تضيّع الزوجة بل يكون الحال معتدلا. وفي الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس، وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه اعتبر الكفاية، ومن عجز عن نفقة امرأته فمذهب مالك والشافعي أنها تطلق عليه خلافا لأبي
(2/387)
حنيفة وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي حاسبنا أهلها قيل: يعني الحساب في الآخرة، وكذلك العذاب المذكور بعده، وقيل: يعني في الدنيا وهذا أرجح لأنه ذكر عذاب الآخرة بعد ذلك في قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، أو لأن قوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها بلفظ الماضي فهو حقيقة فيما وقع، مجاز فيما لم يقع فمعنى حاسبناها أي آخذناهم بذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها، والعذاب هو عقابهم في الدنيا، والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله.
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا «1» الذكر هنا هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، وإعراب رسولا مفعول بفعل مضمر تقديره: أرسل رسولا. وهذا الذي اختاره ابن عطية وهو أظهر الأقوال. وقيل: إن الذكر والرسول معا يراد بهما القرآن، والرسول على هذا بمعنى الرسالة. وقيل: إنهما يراد بهما القرآن على حذف مضاف تقديره ذكرا ذا رسول، وقيل: رسولا مفعول بالمصدر الذي هو الذكر. وقال الزمخشري: الرسول هو جبريل بدل من الذكر، لأنه نزل به أو سمى ذكرا لكثرة ذكره لله وهذا كله بعيد وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ لا خلاف أن السموات سبع، وأما الأرض فاختلف فيها فقيل: إنها سبع أرضين لظاهر هذه الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم: من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين «2» . وقيل:
إنما هي واحدة فقوله: مثلهن على القول الأول يعني به المماثلة في العدد، وعلى القول الثاني: يعني به المماثلة في عظم الجرم وكثرة العمار وغير ذلك، والأول أرجح يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يحتمل أن يريد بالأمر الوحي أو أحكام الله وتقديره لخلقه.
__________
(1) . في الآية [11] قوله: يعمل صالحا يدخله جنات. قرأ نافع وابن عامر: ندخله جنات بالنون وقرأ الباقون: ويعمل صالحا يدخله جنات.
(2) . الحديث ذكره في التيسير وأوله: من ظلم وعزاه للشيخين وأحمد عن عائشة وسعيد بن زيد. وهو في المسند ج 1 ص 187، وج 6 ص 79.
(2/388)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
سورة التحريم
مدنية وآياتها 12 نزلت بعد الحجرات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة التحريم) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ في سبب نزولها روايتان أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب، فوجدها قد خرجت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت، فجاءت حفصة فقالت: يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني. أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مترضيا لها: أيرضيك أن أحرمها قالت: نعم فقال: إني قد حرّمتها، والرواية الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فاتفقت عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول من دنا منها: أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو كريه الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكني شربت عسلا، فقلن له: جرست نحله العرفط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أشربه أبدا. وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت: ألا أسقيك من ذلك: فقال لا حاجة لي به، فنزلت الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل، والرواية الأولى أشهر، وعليها تكلم الناس في فقه السورة، وقد خرج الرواية الثانية البخاري وغيره.
ولنتكلم على فقه التحريم، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء، فلا يلزم، ولا شيء عليه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة، وأما تحريم الأمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم. وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام. وأما تحريم الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. وقال مالك في المشهور عنه:
ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقة أو اثنتين أو ثلاث، وقال ابن الماجشون هي ثلاث في الوجهين، وروي عن مالك أنها طلقة بائنة، وقيل طلقة رجعية.
(2/389)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أرب، وبئس ما قال الزمخشري في أن هذا كان منه زلة لأنه حرّم ما أحل الله، وذلك قلة أدب على منصب النبوة
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ التحلة هي الكفارة وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورة المائدة [89] من صفتها، واختلف في المراد بها هنا فأما على قول من قال: إن الآية نزلت في تحريم الجارية فاختلف في ذلك. فمن قال إن التحريم يلزم فيه كفارة يمين استدل بها، ومن قال: إن التحريم يلزم فيه طلاق قال: إن الكفارة هنا إنما هي لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلف وقال: والله لا أطؤها أبدا. وأما على القول بأن الآية نزلت في تحريم العسل فاختلف أيضا فمن أوجب في تحريم الطعام كفارة قال:
هذه الكفارة للتحريم ومن قال: لا كفارة فيه قال: إنما هذه الكفارة لأنه حلف ألا يشربه، وقيل: هي في يمينه عليه السلام أن لا يدخل على نسائه شهرا وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ يحتمل أن يكون المولى بمعنى الناصر أو بمعنى السيد الأعظم.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً اختلف في هذا الحديث على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه تحريم الجارية، فإنه لما حرمها قال لحفصة: لا تخبري بذلك أحدا، والآخر أنه قال: إن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده، والثالث أنه قوله شربت عسلا والأول أشهر وبعض أزواجه حفصة فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ كانت حفصة قد أخبرت عائشة بما أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم الجارية، فأخبر الله رسوله عليه السلام بذلك، فعاقب حفصة على إفشائها لسره فطلقها، ثم أمره الله بمراجعتها فراجعها. وقيل: لم يطلقها. فقوله فلما نبأت به حذف المفعول وهو عائشة. وقوله:
وأظهره الله عليه أي أطلعه على إخبارها به، وقوله: عرف بعضه أي عاتب حفصة على بعضه وأعرض عن بعض حياء وتكريما، فإن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات والتقصير في العتاب، وقرأ [الكسائي] عرف بالتخفيف من المعرفة فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بأنها قد أفشت سره، ظنت بأن عائشة هي التي أخبرته فقالت له: من أنبأك هذا؟ فلما أخبرها أن الله هو الذي أنبأه سكتت وسلمت.
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما هذا خطاب لعائشة وحفصة، وتوبتهما مما
(2/390)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
جرى منهما في قصة تحريم الجارية أو العسل. ومعنى صغت أي: مالت عن الصواب وقرأ ابن مسعود زاغت والمعنى: إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ «1» المعنى إن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسؤوه من إفراط الغيرة، وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له من ينصره، ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم، فيوقف على مولاه ويكون جبريل مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون جبريل معطوف فيوصل مع ما قبله، ويوقف على صالح المؤمنين ويكون الملائكة مبتدأ وظهير خبره، وهذا أظهر وأرجح لوجهين: أحدهما أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفا له، وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره، لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزية له، الوجه الثاني أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله يقتضي معك النصرة وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ اختلف في صالح هل هو مفرد أو جمع محذوف النون للإضافة؟ فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر، وقيل:
علي بن أبي طالب، وعلى القول بأنه جمع فهو على العموم في كل صالح.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «2» الآية، نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن عمر قال ذلك ونزل القرآن بموافقته، ولقد قال عمر حينئذ للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله لئن أمرتني بضرب عنق حفصة لضربت عنقها، وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان والقنوت، والسائحات: معناه الصائمات قاله ابن عباس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل معناه مهاجرات وقيل ذاهبات إلى الله، لأن أصل السياحة الذهاب في الأرض، وقوله: ثيبات وأبكارا، قال بعضهم: المراد بالأبكار هنا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون فإن الله يزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهما في الجنة وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، ودخلت الواو هنا للتقسيم. ولو سقطت لاختل المعنى لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، وقال الكوفيون: هي واو الثمانية وذلك ضعيف
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته، لتقوا أنفسكم وأهليكم بطاعته من النار، فعبر بالمسبب وهو وقاية
__________
(1) . قوله: تظاهرا عليه: قرأ حمزة والكسائي وعاصم: تظاهرا بدون تشديد وقرأ الباقون: تظّاهرا والأصل:
تتظاهرا.
(2) . بقية الآية: أن يبدله. قرأها نافع وأبو عمرو: أن يبدّله. بتشديد الدال والباقون بالتخفيف.
(2/391)
النار عن السبب وهو الطاعة وَقُودُهَا ذكر في البقرة [24] مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ يعني زبانية النار وغلظهم وشدتهم، يحتمل أن يريد في أجرامهم وفي قساوة قلوبهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قيل: إن هذا تأكيد لقوله: لا يعصون الله، وقيل: إن معنى لا يعصون امتثال الأمر، ومعنى يفعلون ما يؤمرون جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يعني يوم القيامة، ويحتمل أن يكون هذا خطاب من الله للكفار أو خطاب من الملائكة.
تَوْبَةً نَصُوحاً قال عمر بن الخطاب التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم لا تعود إليه أبدا، ولا تريد أن تعود. وقيل: معناه توبة خالصة فهو من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وقيل هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت كتوبة الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118] قال الزمخشري: وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح في الحقيقة صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، وقد تكلمنا على التوبة في قوله: وتوبوا إلى الله جميعا: في النور [31] يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ العامل في يوم يحتمل أن يكون ما قبله، أو ما بعده أو محذوف تقديره: اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك وَالَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره بعده نُورُهُمْ يَسْعى ذكر في الحديد [19] جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ذكر في براءة [88] امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ قيل اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة، وهذا يفتقر إلى صحة نقل فَخانَتاهُما قال ابن عباس: خيانة امرأة نوح في أنها كانت تقول: إنه مجنون وخيانة امرأة لوط بأنها كانت تخبر قومه بأضيافه إذا قدموا عليه، وكانتا مع ذلك كافرتين، وقيل: خانتا بالزنا، وأنكر ابن عباس ذلك وقال: ما زنت امرأة نبي قط تنزيها من الله لهم عن هذا النقص، وضرب الله المثل بهاتين المرأتين للكفار الذين بينهم وبين الأنبياء وسائل كأنه يقول: لا يغني أحد عن أحد ولو كان أقرب الناس إليه كقرب امرأة نوح وامرأة لوط من أزواجهما. وقيل: هذا مثال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول السورة، وهذا باطل لأن الله إنما ضربه للذين كفروا. وامرأة فرعون اسمها آسية وكانت قد آمنت بموسى عليه السلام
(2/392)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فدعت بهذا الدعاء فقبض الله روحها، وروي في قصصها غير هذا مما يطول وهو غير صحيح
مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ تعني: كفره وظلمه، وقيل: مضاجعته لها وهذا ضعيف.
أَحْصَنَتْ فَرْجَها يعني الفرج الذي هو الجارحة، وإحصانها له هو صيانتها وعفتها عن كل مكروه فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا عبارة عن نفخ جبريل في فرجها «1» ، فخلق الله فيه عيسى عليه السلام وأضاف الله الروح إلى نفسه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفي ذلك تشريف له وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ كلمات ربها يحتمل أن يريد بها الكتب التي أنزل الله أو كلامه مع الملائكة وغيرهم، وكتابه «2» بالإفراد يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل أو جنس الكتب، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني: جميع كتب الله مِنَ الْقانِتِينَ أي من العابدين، فإن قيل: لم قال من القانتين بجمع المذكر وهي أنثى؟
فالجواب: أن القنوت صفة تجمع الرجال والنساء فغلب الذكور.
__________
(1) . قوله في الآية: وكتابه بالإفراد قرأها معظم القراء ما عدا حفص وأبي عمرو.
(2) . قال الطبري: وكل ما كان في الدرع من خرق أو فتق فإنه يسمى فرجا. (فنفخنا فيه) : فنفخنا في جيب درعها. [.....]
(2/393)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة الملك
مكية وآياتها 30 نزلت بعد الطور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الملك) ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة كل ليلة إذا أخذ مضجعه وأنه عليه الصلاة والسلام قال: إنها تنجي من عذاب القبر «1» تَبارَكَ فعل مشتق من البركة، وقيل معناه تعاظم وهو مختص بالله تعالى ولم ينطق له بمضارع بِيَدِهِ الْمُلْكُ يعني ملك السموات والأرض والدنيا والآخرة، وقيل: يعني ملك الملوك في الدنيا فهو كقوله: مالك الملك والأول أعم وأعظم خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ يعني موت الخلق وحياتهم، وقيل: الموت الدنيا لأن أهلها يموتون، والحياة الآخرة لأنها باقية فهو كقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] وهو على هذا وصف بالمصدر والأول أظهر لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم، واختبار الله لعباده إنما هو لتقوم عليهم الحجة بما يصدر منهم، وقد كان الله علم ما يفعلون قبل كونه، والمعنى ليبلوكم فيجازيكم بما ظهر منكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فقال: أيكم أحسن عملا وأشدكم الله خوفا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي بعضها فوق بعض، والطباق مصدر وصفت به السموات، أو على حذف مضاف تقديره: ذوات طباق وقيل: إنه جمع طبقة.
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: من قلة تناسب وخروج عن الإتقان، والمعنى أن خلقة السموات في غاية الإتقان وقيل: أراد خلقة جميع المخلوقات، ولا شك أن جميع المخلوقات متقنة، ولكن تخصيص الآية بخلقة السموات أظهر لورودها بعد قوله خلق سبع سموات طباقا فبان قوله: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت بيان وتكميل ما قبله، والخطاب في قوله: ما ترى وارجع البصر وما بعده للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب ليعتبر
__________
(1) . روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له. وقال:
حديث حسن.
(2/394)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ الفطور الشقوق جمع فطر، وهو الشق. وإرجاع البصر:
ترديده في النظر، ومعنى الآية: الأمر بالنظر إلى السماء فلا يرى فيها شقاق ولا خلل بل هي ملتئمة مستوية
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي انظر نظرا بعد نظر للتثبت والتحقق، وقال الزمخشري: معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصة. كقولهم: لبيك فإن معناه إجابات كثيرة يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ الخاسئ هو المبعد عن الشيء الذي طلبه، والحسير هو الكليل الذي أدركه التعب، فمعنى الآية أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقا أو خلالا رجع بصرك ولم تر شيئا من ذلك فكأنه خاسئ لأنه لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل، وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التأمل.
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ السماء الدنيا: هي القريبة منا، والمصابيح يراد بها النجوم فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال، لأنها ظاهرة فيها لنا، ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها. على أن القول بموضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يرد في الشريعة وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي جعلنا منها رجوما، لأن الكواكب الثابتة ليست ترجم الشياطين، فهو كقولك: أكرمت بني فلان إذا أكرمت بعضهم، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به، قال الزمخشري: معنى كون النجوم رجوما للشياطين: والشهب تنقض من النجوم لرجم الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء، فالشهب الراجمة منفصلة من نار الكواكب «1» ، لا أن الراجمة هي الكواكب أنفسها لأنها ثابتة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء زينة السماء ورجوم الشياطين ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ يعني للشياطين سَمِعُوا لَها شَهِيقاً الشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار، ويعني به هنا ما يسمع من صوت جهنم لشدّة غليانها وهولها أو شهيق أهلها، والأول أظهر وَهِيَ تَفُورُ أي تغلي بأهلها غليان القدر بما فيها
تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض لشدّة غيظها على الكفار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غيظ الزبانية والأول أظهر لأن حال الزبانية يذكر بعد هذا، وغيظ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراك يخلقه الله لها، أو يكون عبارة عن شدتها كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألتهم الزبانية هل جاءكم من نذير؟ أي رسول، وهذا السؤال على وجه
__________
(1) . الشهب هي قطع صغيرة من حجارة أو معدن تلمع عند ما تصدم بالغلاف الجوي وتتناثر في الهواء والنيازك قطع كبيرة تصل إلى الأرض فتحدث فيها الحرائق أو الحفر العميقة. وهذا لا يعارض معنى الآية.
(2/395)
التوبيخ وإقامة الحجة عليهم، ولذلك اعترفوا فقالوا: بلى قد جاءنا نذير، وقوله: كلما يقتضي أن يقال ذلك لكل جماعة تلقى في النار إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار، أو من قول الكفار للرسل في الدنيا.
وَقالُوا الضمير للكفار أي لو كنا نسمع كلام الرسل ونعقل الصواب ما كنا في أصحاب السعير فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ اعترافهم هذا في وقت لا ينفعهم الاعتراف، وذنبهم هنا يراد به تكذيب الرسل فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ انتصب فسحقا بفعل مضمر على معنى الدعاء عليهم بِالْغَيْبِ فيه قولان: أحدهما أن معناه وهم غائبون عن الناس، ففي ذلك وصف لهم بالإخلاص والآخر أن الغيب ما غاب عنهم من أمور الآخرة وغيرها. على أن هذا القول إنما يحسن في قوله يؤمنون بالغيب وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ المعنى سواء جهرتم أو أسررتم، فإن الله يعلم الجهر والسر أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء، لأن الخالق يعلم مخلوقاته، ويحتمل أن يكون من خلق فاعلا يراد به الخالق والمفعول محذوف تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه أو يكون من خلق مفعولا والفاعل مضمر تقديره: ألا يعلم الله من خلق، والأول أرجح لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل، والمعنى الأول يعم من يعقل ومن لا يعقل الْأَرْضَ ذَلُولًا فعول هنا بمعنى:
مفعول، أي ذلولة فهي كركوب وحلوب فَامْشُوا فِي مَناكِبِها قال ابن عباس: هي الجبال وقيل: الجوانب والنواحي وقيل: الطرق والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذل والمناكب تشبيها بالدواب وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يعني البعث يوم القيامة أَأَمِنْتُمْ «1» الآية مقصودها التهديد والتخويف للكفار، وكذلك الآية التي بعدها تَمُورُ ذكر في الطور [9] حاصِباً يحتمل أن يريد حجارة أو ريحا شديدة نَذِيرِ بمعنى الإنذار وكذلك النكير بمعنى الإنكار أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ تنبيه على الاعتبار بطيران الطيور في الهواء من غير شيء يمسكها، وصافّات جمع صافة وهي التي تبسط جناحها للطيران، والقبض: ضم الجناحين إلى الجنب وعطف يقبض على صافات، لأن الفعل في معنى الاسم تقديره: قابضات فإن قيل: لم لم يقل قابضات على
__________
(1) . أأمنتم: هكذا قرأها أهل الشام والكوفة (عاصم) وقرأها نافع وأبو عمر: آمنتم ومثلها في البقرة: أَأَنْذَرْتَهُمْ.
(2/396)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
طريقة صافات؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكر بصيغة اسم الفاعل لدوامه وكثرته، وأما قبض الجناحين فإنما يفعله الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة، فذكر بلفظ الفعل لقلته
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ خطاب للكفار على وجه التوبيخ والتهديد وإقامة الحجة عليهم، ودخلت أم التي يراد بها الإنكار على من فأدغمت فيها، وكذلك أمّن هذا الذي يرزقكم والضمير في أمسك لله أي من يرزقكم إن منع الله رزقه، بل لجّوا أي تمادوا في العتوّ والنفور عن الإيمان.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ الآية توقيف على الحالتين، أيهما أهدى والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان: أحدهما أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى والضلال في الدنيا، والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة لأن الكافر يحمل على المشي إلى جهنم على وجهه، فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبا أبو جهل والذي يمشي سويا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: حمزة وقيل: هي على العموم في كل مؤمن وكافر، وقد تمشي هذه الأقوال أيضا على الثاني، والمكب هو الذي يقع على وجهه يقال: أكب الرجل وكبه غيره، فالمعدي دون همزة والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الضمير للكفار والوعد يراد به البعث أو عذابهم في الدنيا فَلَمَّا رَأَوْهُ ضمير الفاعل للكفار وضمير المفعول للعذاب الذي يتضمنه الوعد زُلْفَةً أي قريبا وقيل:
عيانا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظهر فيها السوء لما حل بها وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تفتعلون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به، والقائلون لذلك الملائكة أو يقال لهم بلسان الحال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ الآية سببها أن الكفار كانوا يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إن أهلكني الله وأهلك من معي أو رحمنا فإنكم لا تنجون من العذاب الأليم على كل حال، والهلاك هنا يحتمل أن يراد به الموت أو غيره، ومعنى من يجير الكافرين من عذاب أليم: من يمنعهم من العذاب قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً الآية احتجاج على المشركين، والغور مصدر وصف به فهو بمعنى غاير أي ذاهب في الأرض، والمعين الكثير، واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول فالمعنى إن غار ماؤكم الذي تشربون هل يأتيكم غير الله بماء معين؟
(2/397)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
سورة القلم
مكية إلا آية 17 إلى غاية آية 33 ومن آية 48 إلى غاية آية 50 فمدنية وآياتها 52 نزلت بعد العلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة القلم) ن حرف من حروف الهجاء وقد تقدم الكلام عليها في البقرة، ويختص ن بأنه قيل: إنه حرف من الرحمن فإن حروف الرحمن ألف ولام وراء وحاء وميم ون وقيل: إن نون هنا يراد به الحوت، ومنه ذو النون يونس وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ اختلف فيه على قولين أحدهما: أنه القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، فالضمير في يسطرون للملائكة والآخر: أنه القلم المعروف عند الناس، أقسم الله به لما فيه من المنافع والحكم، والضمير في يسطرون على هذا لبني آدم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هذا جواب القسم وهو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم معناه: نفي نسبة الكفار له من الجنون، وبنعمة ربك اعتراض بين ما وخبرها كما تقول: أنت بحول الله أفضل والمجرور في موضع الحال، وقال الزمخشري: إن العامل فيه بمجنون غَيْرَ مَمْنُونٍ ذكر في فصلت [8] .
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ هذا ثناء على خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن «1» ، تعني التأدب بآدابه وامتثال أوامره، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك رأس الخلق، وتفصيل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك شرف النسب ووفور العقل وصحة الفهم، وكثرة العلم، وشدّة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودد والاقتصاد والزهد والتواضع والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ وصلة الرحم وحسن المعاشرة وحسن التدبير وفصاحة اللسان وقوة الحواس وحسن الصورة وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسيره صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «2» ، وقال
__________
(1) . حديث عائشة أخرجه المنادى في التيسير وعزاه لأحمد ومسلم وأبي داود.
(2) . الحديث قال العجلوني فيه: رواه مالك في الموطأ بلاغا وأوله: إنما بعثت وقال ابن عبد البر هو متصل بسند صحيح إلى أبي هريرة فانظره هناك.
(2/398)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
الجنيد: سمى خلقه عظيما، لأنه لم تكن له همة سوى الله عز وجل
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قيل: إن المفتون هنا بمعنى المجنون، ويحتمل غير ذلك من معاني الفتنة، والخطاب في قوله: فستبصر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله ويبصرون لكفار قريش، واختلف في الباء التي في قوله بأيكم على أربعة أقوال: الأول أنها زائدة، الثاني أنها غير زائدة والمعنى بأيكم الفتنة فأوقع المفتون موقع الفتنة كقولهم: ماله معقول أي عقل، الثالث أن الباء بمعنى في والمعنى في أي فريق منكم المفتون واستحسن ابن عطية هذا، الرابع أن المعنى بأيكم فتنة المفتون ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ المداهنة هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي، وروي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك، فنزلت الآية ولم ينتصب فيدهنون في جواب التمني بل رفعه بالعطف على تدهن قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم يدهنون حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل مَهِينٍ هو الضعيف الرأي والعقل قال ابن عطية: هو من مهن إذا ضعف، فالميم فاء الفعل، وقال الزمخشري: هو من المهانة وهي الذلة والحقارة وقال ابن عباس: المهين الكذاب هَمَّازٍ هو الذي يعيب الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي كثير المشي بالنميمة، يقال: نميم ونميمة بمعنى واحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة نمام «1» مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي شحيح، لأن الخير هنا هو المال. وقيل: معناه مناع من الخير، أي يمنع الناس من الإسلام، والعمل الصالح مُعْتَدٍ هو من العدوان وهو الظلم أَثِيمٍ من الإثم وهو ارتكاب المحرمات عُتُلٍّ أي غليظ الجسم، قاسي القلب بعيد الفهم، كثير الجهل زَنِيمٍ أي ولد زنا وقيل: هو الذي في عنقه زنمة كزنمة الشاة التي تعلق في حلقها، وقيل: معناه مريب قبيح الأفعال. وقيل:
ظلوم، وقيل: لئيم وقوله: بعد ذلك أي بعد ما ذكرنا من عيوبه، فهذا الترتيب في الوصف لا في الزمان، واختلف في الموصوف بهذه الأوصاف الذميمة، فقيل: لم يقصد بها شخص معين، بل كل من اتصف بها، وقيل: المقصود بها الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بأنه ذو مال وبنين، وكذلك كان، وقيل: أبو جهل وقيل: الأخنس بن شريق، ويؤيد هذا أنه كانت له زنمة في عنقه، قال ابن عباس: عرفناه بزنمته وكان لقيطا من ثقيف، ويعدّ في بني زهرة، فيصح وصفه بزنيم على القولين، وقيل: الأسود بن عبد يغوث أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ في موضع مفعول من أجله يتعلق بقوله: لا تطع أي لا تطعه بسبب كثرة ماله وبنيه، ويجوز أن
__________
(1) . رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن حذيفة وفي رواية (قتات) .
(2/399)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
يتعلق بما بعده، والمعنى على هذا أنه قال في القرآن أساطير الأولين، لأنه ذو مال وبنين، يتكبر بماله وبنيه، والعامل في أن كان على هذا فعل من المعنى، ولا يجوز أن يعمل فيه قال الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله والأول أظهر، وقد تقدم معنى أساطير الأولين
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أصل الخرطوم: أنف السبع [والفيل] ثم استعير للإنسان استخفافا به، وتقبيحا له والمعنى نجعل له سمة. وهي العلامة على خرطومه، واختلف في هذه السمة قيل: هي الضربة بالسيف يوم بدر، وقيل: علامة من نار تجعل على أنفه في جهنم. وقيل: علامة تجعل على أنفه يوم القيامة ليعرف بها.
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي بلونا قريشا كما بلونا أصحاب الجنة، وكانوا إخوة من بني إسرائيل لهم جنة، روي أنها بمقربة من صنعاء، فحلفوا أن لا يعطوا مسكينا منها شيئا، وباتوا عازمين على ذلك، فأرسل الله على جنتهم طائفا من نار فأحرقتها، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها، فحسبوا أنهم أخطئوا الطريق، ثم تبينوها فعرفوها، وعلموا أن الله عاقبهم فيها بما قالوا، فندموا وتابوا إلى الله، ووجه تشبيه قريش بأصحاب الجنة أن الله أنعم على قريش ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنعم على أصحاب الجنة بالجنة، فكفر هؤلاء بهذه النعمة كما فعل أولئك، فعاقبهم الله كما عاقبهم وقيل: شبّه قريشا لما أصابهم الجوع بشدة القحط، حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحاب الجنة لما هلكت جنتهم إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أي حلفوا أن يقطعوا غلة جنتهم عند الصباح وكانت الغلة ثمرا وَلا يَسْتَثْنُونَ في معناه ثلاثة أقوال: أحدها لم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا ليصرمنها، والآخر لا يستثنون شيئا من ثمرها إلا أخذوه لأنفسهم والثالث لا يتوقفون في رأيهم ولا ينتهون عنه أي لا يرجعون عنه فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ قال الفراء: الطائف الأمر الذي يأتي بالليل فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فيه أربعة أقوال: الأول أصبحت كالليل لأنها اسودّت لما أصابها، والصريم في اللغة الليل الثاني أصبحت كالنهار لأنها ابيضت كالحصيد ويقال: صريم لليل والنهار. الثالث أن الصريم: الرماد الأسود بلغة بعض العرب الرابع أصبحت كالمصرومة أي المقطوعة فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي نادى بعضهم بعضا حين أصبحوا وقال بعضهم لبعض: اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي جنتكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي حاصدين لثمرتها يَتَخافَتُونَ يكلم بعضهم بعضا في السر ويقولون: لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وأن في قوله: أن اغدوا وأن لا يدخلنها حرف عبارة وتفسير.
(2/400)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ في الحرد أربعة أقوال: الأول أنه المنع الثاني أنه القصد الثالث أنه الغضب الرابع أن الحرد اسم للجنة وقادرين يحتمل أن يكون من القدرة، أي قادرين في زعمهم أو من التقدير: بمعنى التضييق أي ضيقوا على المساكين إِنَّا لَضَالُّونَ أي أخطأنا طريق الجنة. قالوا ذلك لما لم يعرفوها، فلما عرفوها ورأوا ما أصابها قالوا:
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي حرمنا الله خيرها قالَ أَوْسَطُهُمْ أي خيرهم وأفضلهم ومنه أمة وسطا أي خيارا: لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي تقولون: سبحان الله وقيل: هو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه، وقيل: أراد الاستثناء في اليمين كقولهم: إن شاء الله. والأول أظهر لقولهم بعد ذلك سبحان ربنا. والمعنى أن هذا الذي هو أفضلهم كان قد حضهم على التسبيح يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا عزموا عليه من منع المساكين، أو على غفلتهم عن التسبيح بدليل قوله: ألم أقل لكم لولا تسبحون عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها يحتمل أنهم طلبوا البدل في الدنيا، أو في الآخرة. والأول أرجح لأنه روي عن ابن مسعود أن الله أبدلهم جنة يحمل البغل منها عنقودا كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل هذا العذاب الذي ينزل بأهل الجنة ينزل بقريش.
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الهمزة للإنكار أي كيف يسوّي الله بين المسلمين والمجرمين؟ بل يجازي كل أحد بعمله، والمراد بالمجرمين هنا الكفار ما لَكُمْ توبيخ للكفار وما مبتدأ ولكم خبره، وتم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه كَيْفَ تَحْكُمُونَ توبيخ آخر أي كيف تحكمون بأهوائكم وتقولون ما ليس لكم به علم؟ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ هذه الجملة معمول تدرسون، وكان أصل إن الفتح وكسرت لأجل اللام التي في خبرها. وتخيّرون معناه تختارون لأنفسكم، ومعنى الآية: هل لكم كتاب، من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارونه لأنفسكم أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ المعنى هل حلفنا لكم أيمانا أن لكم ما تحكمون؟ ومعنى بالغة ثابتة واصلة إلى يوم القيامة، وقوله: إن لكم هو جواب القسم الذي يقتضيه الأيمان، ولذلك أكده بإن واللام وما تحكمون هو اسم إن دخلت عليه اللام المؤكدة سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟ أي يا محمد اسأل قريشا أيهم زعيم بهذه الأمور، والزعيم: هو الضامن للأمر القائم به أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ هذا تعجيز للكفار، ومعناه: إن كان لكم شركاء يقدرون على
(2/401)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
شيء فأتوا بهم، واختلف هل قوله: فليأتوا بهم في الدنيا، أي أحضروهم حتى يرى حالهم أو يقال لهم ذلك يوم القيامة والشركاء هم المعبودون من الأصنام وغيرها. وقال الزمخشري: معناه أم لكم ناس يشاركونكم في هذا القول، ويوافقونكم عليه فأتوا بهم.
يعني أنهم لا يوافقهم أحد عليه، والأول أظهر.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال المتأولون ذلك عبارة عن هول يوم القيامة وشدّته، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «1» : ينادي مناد يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع الشمس من كان يعبد الشمس، ويتبع القمر من كان يعبد القمر، ويتبع كل أحد ما كان يعبد، ثم تبقى هذه الأمة وغبرات من أهل الكتاب معهم منافقوهم فيقال لهم:
ما شأنكم فيقولون ننتظر ربنا قال فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون نعم فيكشف لهم عن ساق فيقولون: نعم أنت ربنا ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن، وترجع أصلاب المنافقين عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا وتأويل الحديث كتأويل الآية وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ تفسيره في الحديث الذي ذكرنا، فإن قيل: كيف يدعون في الآخرة إلى السجود وليست الآخر دار تكليف؟ فالجواب: أنهم يدعون إليه على وجه التوبيخ لهم على تركهم السجود في الدنيا لا على وجه التكليف والعبادة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أي قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود فيمتنعون منه، وهم سالمون في أعضائهم قادرون عليه فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ تهديد للمكذبين بالقرآن وإعراب من يكذب مفعول معه أو معطوف، وقد ذكرنا في الأعراف [182] سنستدرجهم وما بعده أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً معناه أنت لا تسألهم أجرة على الإسلام فتثقل عليهم، فلا عذر لهم في تركهم الإسلام، وقد فسرنا هذا وما بعده في الطور [40] فَاصْبِرْ يقتضي مسالمة للكفار، نسخت بالسيف وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام وسماه صاحب الحوت، لأن الحوت ابتلعه، وهو أيضا ذو النون، والنون هو الحوت، وقد ذكرنا قصته في الأنبياء والصافات، فنهى الله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يكون مثله في الضجر والاستعجال، حتى ذهب مغاضبا، وروي أن هذه الآية نزلت لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على الكفار إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ
__________
(1) . الحديث رواه الإمام الطبري في تفسير هذه الآية بسنده إلى أبي سعيد الخدري بألفاظ قريبة فانظره فيه.
(2/402)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
هذا آخر ما جرى ليونس ونداؤه هو قوله في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، والمكظوم الشديد الحزن
لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ هو جواب لولا، والمنفي هو الذم لا نبذه بالعراء، فإنه قد قال في الصافات فنبذناه بالعراء فالمعنى لولا رحمة الله لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكنه نبذ وهو غير مذموم، وقد ذكرنا العراء في الصافات وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ عبارة عن شدة عداوتهم، وإن مخففة من الثقيلة بدليل دخول اللام وليزلقونك معناه يهلكونك كقولك: نظر فلان إلى عدوه نظرة كاد يصرعه، وأصله من زلق القدم، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان وقيل: إن المعنى: يأخذونه بالعين، وكان ذلك في بني أسد كان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام فلا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فأراد بعضهم أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم فعصمه الله من ذلك، وقال الحسن دواء من أصيب بالعين قراءة هذه الآية وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني القرآن أو هو موعظة وتذكير للخلق.
(2/403)
الْحَاقَّةُ (1)
سورة الحاقة
مكية وآياتها 52 نزلت بعد الملك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحاقة) الْحَاقَّةُ هي القيامة، ووزنها فاعلة وسميت الحاقة لأنها تحق، أي يصح وجودها، ولا ريب في وقوعها ولأنها حقت لكل أحد جزاء عمله، أو لأنها تبدئ حقائق الأمور مَا الْحَاقَّةُ ما استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده والجملة خبر الحاقة، وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك، وما أدراك ما الحاقة لفظه استفهام والمراد به التعظيم والتهويل بِالْقارِعَةِ هي القيامة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها بِالطَّاغِيَةِ يعني الصيحة التي أخذت ثمود، وسميت بذلك لأنها جاوزت الحدّ في الشدة، وقيل: الطاغية مصدر فكأنه قال:
أهلكوا بطغيانهم، فهو كقوله: كذبت ثمود بطغواها وقيل: هي صفة لمحذوف تقديره أهلكوا بسبب الفعلة الطاغية، أو الفئة الطاغية والباء، على هذين القولين سببية. وعلى القول الأول كقولك: قتلت زيدا بالسيف بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ذكر في فصلت [16] ، وعاتية أي شديدة. وسميت بذلك لأنها عتت على عاد، وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بغير إذنهم سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ روي أنها بدت صبيحة يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر حُسُوماً قال ابن عباس:
معناه كاملة متتابعة لم يتخللها غير ذلك، وقيل: معناه شؤما وقيل: هو جمع حاسم من الحسم. وهو القطع أي قطعتهم بالإهلاك، فحسوما على القول الأول والثاني مصدر في موضع الحال، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى جمع صريع وهو المطروح بالأرض، والضمير المجرور يعود على منازلهم، لأن المعنى يقتضيها وإن لم يتقدم ذكرها، أو على الأيام والليالي، أو على الريح كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تقدم في القمر معنى تشبيههم بأعجاز النخل، والخاوية هي التي خلت من طول بلائها
(2/404)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وفسادها
مِنْ باقِيَةٍ أي من بقية، وقيل: من فئة باقية وقيل: إنه مصدر بمعنى البقاء.
وَمَنْ قَبْلَهُ يريد من تقدم قبله من الأمم الكافرة، وأقربهم إليه قوم شعيب، والظاهر أنهم المراد لأن عادا وثمود قد ذكرا، وقوم لوط هم المؤتفكات، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: لما طغى الماء حملناكم في الجارية، وقرأ [أبو عمرو والكسائي قبله] بكسر القاف وفتح الباء ومعناه: جنده وأتباعه بِالْخاطِئَةِ إما أن يكون مصدرا بمعنى الخطيئة أو صفة لمحذوف تقديره: بالفعلة الخاطئة فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ إن عاد الضمير على فرعون وقومه، فالرسول موسى عليه السلام، وإن عاد على المؤتفكات: فالرسول لوط عليه السلام، وإن عاد على الجميع: فالرسول اسم جنس أو بمعنى الرسالة رابِيَةً أي عظيمة وهي من قولك: ربا الشيء إذا كثر طَغَى الْماءُ عبارة عن كثرته، فيحتمل أن يريد أنه طغى على أهل الأرض، أو على خزانه يعني وقت طوفان نوح عليه السلام حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ هي السفينة، فإن أراد سفينة نوح فمعنى حملناكم حملنا آباءكم لأن كل من على الأرض من ذرية نوح وأولاده الثلاثة الذين كانوا معه في السفينة، وإن أراد جنس السفن فالخطاب على حقيقته.
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
الضمير للفعلة وهي الحمل في السفينة وقيل: للسفينة، فإن أراد جنس السفن: فالمعنى أنها تذكرة بقدرة الله ونعمته لمن ركب أو سمع بها، وإن أراد سفينة نوح فقد قيل: إن الله أبقاها حتى رأى بعض عيدانها أول هذه الأمة وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير لنجعلها، وهذا يقوي أن يكون للفعلة، والأذن الواعية: هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه، يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله، وروي «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ، قال عليّ فما نسيت بعد ذلك شيئا سمعته، قال الزمخشري: إنما قال: أذن واعية بالتوحيد والتنكير، للدلالة على قلة الوعاة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالى فهي المعتبرة عند الله دون غيرها نَفْخَةٌ واحِدَةٌ يعني نفخة الصور وهي الأولى فَدُكَّتا الضمير للأرض والجبال، ومعنى دكتا ضرب بعضها ببعض حتى تندق، وقال الزمخشري:
الدك أبلغ من الدق، وقيل: معناه بسطت حتى تستوي الأرض والجبال.
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة، وقيل: وقعت صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف
__________
(1) . روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى مكحول وبريدة الأسلمي.
(2/405)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
واهِيَةٌ أي مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية أي ضعيفة الجدران وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها الملك هنا اسم جنس والأرجاء الجوانب واحدها رجى مقصور، والضمير يعود على السماء، والمعنى إن الملائكة يكونون يوم القيامة على جوانب السماء، لأنها إذا وهيت وقفوا على أطرافها، وقيل: يعود على الأرض لأن المعنى يقتضيه، وإن لم يتقدم ذكرها، وروي في ذلك أن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفا على جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدّتهم. وقيل: ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش وأرجلهم تحت الأرض السابعة، ويؤيد هذا ما روي «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هو اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله بأربعة سواهم.
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ خطاب لجميع العالم، والعرض: البعث أو الحساب خافِيَةٌ أي حال خافية من الأعمال والسرائر، ويحتمل المعنى لا يخفى من أجسادهم لأنهم يحشرون حفاة عراة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الكتاب هنا صحائف الأعمال هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاؤم اسم فعل، قال ابن عطية: معناه تعالوا وقال الزمخشري: هو صوت يفهم منه معنى خذ، وكتابيه مفعول يطلبه هاؤم واقرءوا من ضمير المعنى تقديره هاؤم كتاب اقرؤا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل، الثاني: وهو اقرءوا عند البصريين، والعامل الأول هو هاؤم عند الكوفيين، والدليل على صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرءوه، والهاء في كتابيه للوقف، وكذلك في حسابيه وماليه وسلطانيه، وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف وقد أسقطها في الوصل [حمزة] ، ومعنى الآية:
أن العبد الذي يعطى كتابه بيمينه يقول للناس: اقرءوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه إِنِّي ظَنَنْتُ الظن هنا بمعنى اليقين راضِيَةٍ أي ذات رضا كقولهم: تامر لصاحب التمر. قال ابن عطية: ليست بياء اسم فاعل، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون اسم فاعل نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة قُطُوفُها جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود دانِيَةٌ أي قريبة، وروي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها، على أي حال كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية يعني أيام الدنيا.
__________
(1) . هذا الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى ابن إسحاق فقط.
(2/406)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ هم الكفار بدليل قوله: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم فجعل علة إعطائهم كتبهم بشمالهم عدم إيمانهم، وأما المؤمنون فيعطون كتبهم بأيمانهم، لكن اختلف فيمن يدخل النار منهم، هل يعطى كتابه قبل دخول النار أو بعد خروجه منها؟
وهذا أرجح لقوله: هاؤم اقرءوا كتابيه، لأن هذا كلام سرور فيبعد أن يقوله من يحمل إلى النار فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أي يتمنى أنه لم يعط كتابه وقال ابن عطية: يتمنى أن يكون معدوما لا يجري عليه شيء والأول أظهر يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أي ليت الموتة الأولى كانت القاضية بحيث لا يكون بعدها بعث ولا إحياء ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «1» يحتمل أن يكون نفيا، أو استفهاما يراد به النفي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي زال عني ملكي وقدرتي وقيل: ذهبت عني حجتي.
خُذُوهُ خطاب للزبانية يقوله لهم الله تعالى أو الملائكة بأمر الله فَغُلُّوهُ أي اجعلوا غلا في عنقه وروي أنها نزلت في أبي جهل ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً معنى ذرعها أي طولها، واختلف في هذا الذراع فقيل: إنه الذراع المعروف، وقيل: بذراع الملك وقيل: في الذراع سبعون باعا، كل باع ما بين مكة والكوفة، ولله در الحسن البصري في قوله: الله أعلم بأي ذراع هي، وجعلها سبعين ذراعا لإرادة وصفها بالطول، فإن السبعين من الأعداد التي تقصد بها العرب التكثير، ويحتمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحد من أهل النار، أو تكون بين جميعهم وقد حكى الثعلبي ذلك فَاسْلُكُوهُ أي أدخلوه روي أنها تلتوي عليه حتى تعمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك فيها، وإنما قدم قوله: في سلسلة على اسلكوه لإرادة الحصر، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة وكذلك قدّم الحميم على صلّوه لإرادة الحصر أيضا طَعامِ الْمِسْكِينِ يحتمل أنه أراد إطعام مسكين، فوضع الاسم موضع المضمر أو يقدر: لا يحض على بذل طعام المسكين، وأضاف الطعام إلى المسكين لأن له إليه نسبة، ووصفه بأنه لا يحض على طعام المسكين يدل على أنه لا يطعمه من باب أولى، وهذه الآية تدل على عظم الصدقة وفضلها، لأنه قرن منع طعام المسكين بالكفر بالله فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ فيه قولان: أحدهما ليس له صديق والآخر: ليس له شراب وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ فإن الحميم الماء
__________
(1) . قوله: ماليه، سلطانيه: قرأ حمزة بحذف الهاء فيهما وصلا. وقرأ الباقون بإثبات الهاء. وأجمع الجميع على إثبات الهاء في الوقف.
(2/407)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل: شجر يأكله أهل النار، وقال اللغويون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت وهو فعلين من الغسل
الْخاطِؤُنَ جمع خاطئ وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمّدا، والمخطئ الذي يفعله بغير تعمد.
فَلا أُقْسِمُ لا زائدة غير نافية بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يعني جميع الأشياء لأنها تنقسم إلى ما يبصر وما لا يبصر، كالدنيا والآخرة والإنس والجن والأجسام والأرواح وغير ذلك إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جواب القسم والضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل: لمحمد عليه الصلاة والسلام قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ «1» قال ابن عطية: يحتمل أن تكون ما نافية، فنفى إيمانهم بالجملة أو تكون مصدرية فوصف إيمانهم بالقلة، وقال الزمخشري: القلة هنا بمعنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة.
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ التقوّل هو أن ينسب إلى أحد ما لم يقل، ومعنى الآية: لو تقوّل علينا محمد لعاقبناه، ففي ذلك برهان على أن القرآن من عند الله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن عباس: هنا القوة ومعناه: لو تقوّل علينا لأخذناه بقوتنا وقيل: هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن: أخذ بيده وبيمينه، قال الزمخشري: معناه لو تقوّل علينا لقتلناه، ثم صور صورة القتل ليكون أهول، عبر عن ذلك بقوله: لأخذنا منه باليمين، لأن السيّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جسده أخذ بيده اليمنى ليكون ذلك أشد عليه لنظره إلى السيف الْوَتِينَ نياط القلب، وهو عرق إذا قطع مات صاحبه، فالمعنى لقتلناه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ الحاجز المانع، والمعنى: لو عاقبناه لم يمنعه أحد منكم ولم يدفع عنه وإنما جمع حاجزين، لأن أحد في معنى الجماعة وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ الضمير للقرآن وقيل: لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والأول أظهر وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي حسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إذا رأوا ثواب المؤمنين وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ قال الكوفيون هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: مسجد الجامع، وقال الزمخشري: المعنى: عين اليقين ومحض اليقين، وقال ابن عطية: ذهب الحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه.
__________
(1) . قوله تؤمنون ثم تذكرون: قرأهما ابن كثير بالياء: يؤمنون يذكرون.
(2/408)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
سورة المعارج
مكية وآياتها 44 نزلت بعد الحاقة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المعارج) سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ من قرأ «1» سأل بالهمز احتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب واقع، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار: أمطر علينا حجارة من السماء، وكان الذي قالها النضر بن الحرث، والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذاب واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارة إلى قوله متى هذا الوعد؟ وغير ذلك، وأما من قرأ سال بغير همز فيحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون مخففا من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران، والثاني أن يكون من سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس:
سال سيل، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت بزيد، وإذا كان من السيل احتمل وجهين:
أحدهما أن يكون شبّه العذاب في شدته وسرعة وقوعه بالسيل وثانيهما أن تكون حقيقة قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سائل، فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة معان لِلْكافِرينَ يحتمل أن يتعلق بواقع وتكون اللام بمعنى على، أو تكون صفة للعذاب، أو يتعلق بسأل إذا كانت بمعنى دعا، أي دعا للكافرين بعذاب، أو تكون مستأنفا كأنه قال: هو للكافرين مِنَ اللَّهِ يحتمل أن يتعلق بواقع أي واقع من عند الله، أو بدافع أي ليس له دافع من عند الله، أو يكون صفة للعذاب أو مستأنفا ذِي الْمَعارِجِ جمع معرج وهو المصعد إلى علو كالسلم، والمدارج التي يرتقى بها قال ابن عطية: هي هنا مستعارة في الفضائل والصفات الحميدة، وقيل: هي المراقي إلى السماء، وهذا أظهر لأنه فسرها بما بعدها من عروج الملائكة.
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أي إلى عرشه، ومن حيث تهبط أوامره وقضاياه، فالعروج هو من الأرض إلى العرش، والروح هنا جبريل عليه السلام بدليل قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] وقيل: الروح ملائكة حفظة على الملائكة، وهذا ضعيف مفتقر إلى صحة نقل. وقيل: الروح جنس أرواح الناس وغيرهم فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
__________
(1) . وهي قراءة نافع وابن عامر.
(2/409)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
اختلف في هذا اليوم على قولين: أحدهما أنه يوم القيامة والآخر أنه في الدنيا والصحيح أنه يوم القيامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مانع الزكاة: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» «1» يعني يوم القيامة ثم اختلف هل مقداره خمسون ألف سنة حقيقة؟ وهذا هو الأظهر، أو هل وصف بذلك لشدة أهواله؟ كما يقال: يوم طويل إذا كان فيه مصائب وهموم، وإذا قلنا إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة وقيل: الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا والملائكة تعرج وتنزل في هذه المدة، وهذا كله على أن يكون قوله: في يوم يتعلق بتعرج ويحتمل أن يكون في يوم صفة للعذاب، فيتعين أن يكون اليوم يوم القيامة والمعنى على هذا مستقيم.
فَاصْبِرْ هذا متصل بما قبله من العذاب وغيره، أي: اصبر على أقوال الكافرين حتى يأتيهم العذاب، ولذلك وصفه بالقرب مبالغة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً يحتمل أن يعود الضمير على العذاب، أو على اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة، والبعيد يحتمل أن يراد به بعد الزمان أو بعد الإمكان، وكذلك القرب يحتمل أن يراد به قرب الزمان لأن كل آت قريب، ولأن الساعة قد قربت، وقرب الإمكان لقدرة الله عليه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ يوم هنا بدل من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو بدل من الضمير المنصوب في نراه أو منصوب بقوله: قريبا أو بقوله يود المجرم أو بفعل مضمر تقديره: أذكر والمهل: هو دردي الزيت شبه السماء به في سوادها وانكدار أنوارها يوم القيامة، وقيل: هو ما أذيب من الفضة ونحوها شبّه السماء به في تلوّنه وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ العهن هو الصوف، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه وقيل: هو الصوف المصبوغ ألوانا فيكون التشبيه في الانتفاش، وفي اختلاف الألوان، لأن الجبال منها بيض وسود وحمر وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً الحميم هنا الصديق والمعنى لا يسأل أحد من حميمه نصرة ولا إعانة لعلمه أنه لا يقدر له على شيء، وقيل: لا يسأله عن حاله لأن كل أحد مشغول بنفسه.
يُبَصَّرُونَهُمْ يقال: بصر الرجل بالرجل إذا رآه، وبصّرته إياه بالتشديد إذا أريته إياه، والضميران يعودان على الحميمين لأنهما في معنى الجمع، والمعنى أن كل حميم يبصر حميمه يوم القيامة فيراه ولكنه لا يسأله «2» وَصاحِبَتِهِ يعني امرأته وَفَصِيلَتِهِ يعني القرابة الأقربين تُؤْوِيهِ أي تضمه، فيحتمل أن يريد تضمه في الانتماء إليها أو في نصرته وحفظه
__________
(1) . رواه الإمام أحمد ج 2 ص 262 وص 383 بطوله وأوله: ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه.. من حديث أبي هريرة.
(2) . في بقية الآية: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ قرأ نافع والكسائي: يومئذ بفتح الميم. [.....]
(2/410)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
من المضرات
ثُمَّ يُنْجِيهِ الفاعل الافتداء الذي يقتضيه لو يفتدي، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدى وإنما عطفه بثم إشعارا ببعد النجاة وامتناعها، ولذلك زجره عن ذلك بقوله كَلَّا إِنَّها لَظى الضمير للنار لأن العذاب يدل عليها، ويحتمل أن يكون ضمير القصة وفسره بالخبر ولظى علم لجهنم مشتق من اللظى بمعنى اللهب نَزَّاعَةً لِلشَّوى الشوى أطراف الجسد، وقيل: جلد الرأس، فالمعنى أن النار تنزعها ثم تعود، ونزاعة بالرفع «1» بدل من لظى أو خبر ابتداء مضمر أو خبر لأنها إن جعلنا لظى منصوبا على التخصيص أو بدل من الضمير، أو خبر ثان لأنها إن جعلنا لظى خبر لها ونزاعة بالنصب حال تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يعني الكفار الذين تولوا عن الإسلام، ودعاؤها لهم عبارة عن أخذها لهم، وقال ابن عباس: تدعوهم حقيقة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقيل: معناه تهلك، حكاه الخليل عن العرب وَجَمَعَ فَأَوْعى يقال: أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعاء، فالمعنى جمع المال وجعله في وعاء، وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير حله ومنعوه من حقه.
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه، سئل أحمد بن يحيى مؤلف الفصيح عن الهلوع فقال: قد فسره الله فلا تفسيرا أبين من تفسيره وهو قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق، ولذلك استثنى منه المصلين، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ الدوام عليها هو المواظبة بطول العمر، والمحافظة عليها المذكورة بعد ذلك هي أداؤها في أوقاتها وتوفية الطهارة لها حَقٌّ مَعْلُومٌ قد ذكرنا في الذاريات [19] معنى حق والسائل والمحروم، ووصفه هنا بالمعلوم إن أراد الزكاة فهي معلومة المقدار شرعا، وإن أراد غيرها فمعنى المعلوم، أن العبد يجعل على نفسه وظيفة معلومة عنده غَيْرُ مَأْمُونٍ أي لا يكون أحد آمنا منه فإن الأمن من عذاب الله حرام، فلا ينبغي للعبد أن يزيل عنه الخوف حتى يدخل الجنة لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ذكر في المؤمنين [8] وكذلك لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ «2» قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،
__________
(1) . قرأ حفص: نزاعة بالنصب والباقون بالرفع.
(2) . قوله لأماناتهم وبشهاداتهم هي قراءة حفص: وقرأ الباقون أماناتهم ما عدا ابن كثير، كما قرءوا بشهادتهم بالإفراد ما عدا حفص.
(2/411)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
وقال الجمهور: يعني الشهادة عند الحكام، ثم اختلف على هذا في معنى القيام بها فقيل: هو التحقيق لها كقوله صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهدوا» . وقيل هو المبادرة إلى أدائها من غير امتناع، فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه، وأما إذا لم يدع إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام أحدها حقوق الناس، فلا يجوز أداؤها حتى يدعوه صاحب الحق إلى ذلك، والثاني حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق والعتق والأحباس، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع الثالث حقوق الله التي لا يستدام فيها التحريم كالحدود، فهذا ينبغي ستره، حتى يدعى إليه.
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي مسرعين مقبلين إليك بأبصارهم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل [سارع] الكفار ينظرون إليه ويستمعون قراءته، ومعنى قبلك في جهتك وما يليك عِزِينَ أي جماعات شتى وهو: جمع عزة بتخفيف الزاي وأصله عزوة، وقيل عزهة ثم حذفت لامها وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كانوا يقولون إن كان ثم جنة فنحن أهلها كَلَّا ردع لهم عما طمعوا فيه من دخول الجنة إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ كناية عن المنيّ الذي خلق الإنسان منه، وفي المقصود بهذا الكلام ثلاثة أوجه أحدها: تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين.
الثاني: الردّ على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة كأنه يقول: إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح لأنكم سواء في الخلقة، الثالث:
الاحتجاج على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين، فهو قادر على أن يعيدهم كقوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة: 37] إلى آخر السورة.
فَلا أُقْسِمُ معناه أقسم ولا زائدة بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ذكر في الصافات [5] إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ تهديد للكفار بإهلاكهم، وإبدال خير منهم وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي مغلوبين، والمعنى: إنا لا نعجز عن التبديل المذكور أو عن البعث فَذَرْهُمْ وعيد لهم، وفيه مهادنة منسوخة بالسيف يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ وهي القبور كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ النصب الأصنام، وأصله كل ما نصب إلى الإنسان، فهو يقصد إليه مسرعا من علم أو بناء أو غير ذلك، وفيه لغات «1» فتح النون وإسكان الصاد، وضم النون وإسكان الصاد وضمها، ويوفضون معناه: يسرعون والمعنى أنهم يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر، كما يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا.
__________
(1) . قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد: نصب وقرأ الباقون: نصب وقرأ أبو العالية: نصب.
(2/412)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
سورة نوح
مكية وآياتها 28 نزلت بعد النحل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة نوح عليه السلام) أَنْ أَنْذِرْ وأَنِ اعْبُدُوا يحتمل أن تكون أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن أنذر وبأن اعبدوا والأول أظهر عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يريد عذاب الآخرة أو الغرق الذي أصابهم
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ من هنا للتبعيض أي يغفر لكم ما فعلتم من الذنوب قبل أن تسلموا لأن الإسلام يجبّ ما قبله، ولم يضمن أن يغفر لهم ما بعد إسلامهم، لأن ذلك في مشيئة الله تعالى، وقيل: إن من هنا زائدة وذلك باطل لأن من لا تزاد عند سيبويه إلا في غير الواجب. وقيل: هي لبيان الجنس وقيل: لابتداء الغاية وهذان القولان ضعيفان في المعنى، والأول هو الصحيح لأن التبعيض فيه متجه وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ظاهر هذا يقتضي أنهم إن فعلوا ما أمروا به أخروا إلى أجل مسمى وإن لم يفعلوا لم يؤخروا، وذلك يقتضى القول بالأجلين. وهو مذهب المعتزلة وعلى هذا حملها الزمخشري، وأما على مذهب أهل السنة، فهي من المشكلات وتأولها ابن عطية فقال:
ليس للمعتزلة في الآية مجال لأن المعنى أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم: إنكم تؤخرون عن أجل قد حان. لكن قد سبق في الأزل إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير أو ممن قضى له بالكفر والمعاجلة. وكأن نوحا عليه السلام قال لهم: آمنوا يظهر في الوجود أنكم ممن قضى له بالإيمان والتأخير.
وإن بقيتم على كفركم يظهر في الوجود أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة، فكان الاحتمال الذي يقتضيه ظاهر الآية إنما هو فيما يبرزه الغيب من حالهم إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير، وإما الكفر والمعاجلة، وأما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم مقدر محتوم.
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ هذا يقتضي أن الأجل محتوم كما قال تعالى: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] وفي هذا حجة لأهل السنة
(2/413)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
وتقوية للتأويل الذي ذكرنا، وفيه أيضا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين، ولما كان كذلك قال الزمخشري: إن ظاهر هذا مناقض لما قبله من الوعد بالتأخير إن آمنوا، وتأول ذلك على مقتضى مذهبه بأن الأجل الذي لا يؤخر هو الأجل الثاني. وذلك أن قوم نوح قضى الله أنهم إن آمنوا عمرهم الله مثلا ألف عام، وإن لم يؤمنوا عمرهم تسعمائة عام فالألف عام هي التي تؤخر إذا جاءت والتسعمائة عام هي التي وعدوا بالتأخير عنها إلى الألف عام إن أمنوا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم، فذكر المغفرة التي هي سبب عن الإيمان ليظهر قبح إعراضهم عنه فإنهم أعرضوا عن سعادتهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه، أو لئلا يراهم ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إعراضهم وَأَصَرُّوا أي داوموا على كفرهم دَعَوْتُهُمْ جِهاراً إعراب جهارا مصدر من المعنى كقولك: قعد القرفصاء، أو صفة لمصدر محذوف تقديره: دعا جهارا أو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهارا، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، قال ابن عطية: الجهاد دعاؤهم في المحافل ومواضع اجتماعهم، والإسرار دعاء كل واحد على حدته يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً مفعول من الدرّ وهو كثرة الماء، وفي الآية دليل على أن الاستغفار يوجب نزول الأمطار، ولذلك خرج عمر بن الخطاب إلى الاستسقاء فلم يزد على أن استغفر ثم انصرف، فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال والله لقد استسقيت أبلغ الاستسقاء ثم نزل المطر، وشكا رجل إلى الحسن الجدب فقال له: استغفر الله.
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه أربع تأويلات: أحدها أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى: ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه. قال ذلك الزمخشري.
وقوله: لله على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفة لوقارا. والثاني أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت والمعنى ما لكم لا ترجون لله وقارا، متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم وقوله: لله على هذا مفعول دخلت عليه اللام كقولك: ضربت لزيد وإعراب وقارا على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث أن الرجاء هنا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالمعنى: ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ولله على هذا صفة للوقار في
(2/414)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
المعنى، الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف، والوقار بمعنى الاستقرار من قولك: وقر بالمكان إذا استقر فيه والمعنى: ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي طورا بعد طور، يعني أن الإنسان كان نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى سائر أحواله، وقيل: الأطوار الأنواع المختلفة، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم وأخلاقهم وألسنتهم وغير ذلك طِباقاً ذكر في الملك [3] وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً القمر إنما هو في السماء الدنيا، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع كقولك: فلان في الأندلس، إذا كان في بعضها، وجعل القمر نورا والشمس سراجا، لأن ضوء السراج أقوى من النور، فإن السراج هو الذي يضيء فيبصر به والنور قد يكون أقل من ذلك.
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً هذا عبارة عن إنشائهم من تراب الأرض، ونباتا مصدر على غير المصدر أو يكون تقديره: أنبتكم فنبتم إنباتا، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها يعني بالدفن وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً يعني بالبعث من القبور وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من لفظ البساط أن الأرض بسيطة غير كروية، خلافا لما ذهب إليه أهل التعديل وفي ذلك نظر سُبُلًا فِجاجاً ذكر في الأنبياء [31] وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يعني اتبعوا أغنياءهم وكبراءهم وقرئ ولده بفتحتين «1» وولد بضم الواو وسكون اللام وهما بمعنى واحد وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً الكبّار بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف، والكبار بالتخفيف أبلغ من الكبير.
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي وصى بعضهم بعضا بذلك وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً هذه أسماء أصنامهم، كان قوم نوح يعبدونها، وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا، فلما ماتوا صوّرهم أهل ذلك العصر من حجارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة، فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور، حتى عبدوها من دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل العرب، فكان ودّا لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لمراد وكان يعوق لهمدان، وكان نسرا لذي الكلاع من حمير. وقرئ ودا بفتح الواو وضمها ودا «2» وهما
__________
(1) . قرأ نافع وابن عامر وعاصم: وولده. وقرأ الباقون: وولده. وهما لغتان.
(2) . قرأ نافع ودا بضم الواو. والباقون بفتحها.
(2/415)
لغتان وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء من قوم نوح، والمعنى أضلوا كثيرا من أتباعهم، وهذا من كلام نوح عليه السلام، وكذلك لا تزد الظالمين إلا ضلالا من كلامه، وهو دعاء عليهم. وقال الزمخشري: إنه معطوف على قوله: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والتقدير: قال رب إنهم عصوني وقال: «لا تزد الظالمين إلا ضلالا» مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «1» هذا من كلام الله إخبارا عن أمرهم، وما زائدة للتأكيد وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار، إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي فَأُدْخِلُوا ناراً يعني جهنم. وعبّر عن ذلك بالفعل الماضي لأن الأمر محقق، وقيل: أراد عرضهم على النار وعبر عنه بالإدخال.
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ديّارا من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما في الدار ديار، أي ما فيها أحد، ووزنه فيعال وكان أصله ديوار ثم قبلت الواو ياء وأدغمت في الياء، وليس وزنه فعال لأنه لو كان كذلك لقيل: دوار لأنه مشتق من الدور أو من الدار، وروي أن نوحا عليه السلام لم يدع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس من إيمانهم، وبعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ يؤخذ من هذا أن سنة الدعاء أن يقدم الإنسان الدعاء لنفسه على الدعاء لغيره، وكان والدا نوح عليه السلام مؤمنين قال ابن عباس: لم يكن لنوح أب كافر ما بينه وبين آدم عليهما السلام واسم والد نوح لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت أنوش، حكاه الزمخشري وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قيل: بيته المسجد، وقيل السفينة. وقيل شريعته سماها بيتا استعارة وهذا بعيد وقيل: داره وهذا أرجح لأنه الحقيقة وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ هذا دعاء بالمغفرة لكل مؤمن ومؤمنة على العموم، وفيه دليل على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين: إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع المؤمنين على العموم، وهذا خطأ وتضييق لرحمة الله الواسعة، قال بعض العلماء: إن الإله الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار حقيق أن يستجيب له فيرحم بدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات تَباراً أي هلاكا والله أعلم.
__________
(1) . قرأ أبو عمرو: خطاياهم. والباقون: خطيئاتهم.
(2/416)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
سورة الجن
مكية وآياتها 28 نزلت بعد الأعراف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الجن) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ تقدمت في الأحقاف [29] قصة هؤلاء الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي قال ذلك بعضهم لبعض، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة لأن العجب مصدر قولك: عجبت عجبا وقيل: هو على حذف مضاف تقديره ذا عجب وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا جدّ الله: جلاله وعظمته وقيل: معناه من قولك: فلان مجدود إذا استغنى، وقرئ أنه في هذا الموضع بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسرها وكذلك فيما بعده إلى قوله: وأنا منا المسلمون. فأما الكسر فاستئناف أو عطف على إنا سمعنا، لكنه كسر في معمول القول، فيكون ما عطف عليه من قول الجن، وأما الفتح فقيل: إنه عطف على قوله: أنه استمع نفر وهذا خطأ من طريق المعنى لأن قوله: استمع نفر في موضع معمول أوحي، فيلزم أن يكون المعطوف عليه مما أوحي وأن لا يكون من كلام الجن. وقيل: إنه معطوف على الضمير المجرور في قوله: آمنا به وهذا ضعيف، لأن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض.
وقال الزمخشري: هو معطوف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وكذلك ما بعده ولا خلاف في فتح ثلاث مواضع هي: أنه استمع، وأن لو استقاموا، وأن المساجد لله لأن ذلك مما أوحي لا من كلام الجن وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً «1» هذا من كلام الجن، وسفيههم أبوهم إبليس، وقيل: هو اسم جنس لكل سفيه منهم، واختار ذلك ابن عطية، والشطط: التعدي ومجاوزة الحد وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً «2» أي ظننا أن الأقوال التي كان الإنس والجن يقولونها على الله صادقة وليست بكذب لأنا ظننا أنه لا يكذب أحد على الله.
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «3» تفسير هذا ما روي أن
__________
(1) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه.
(2) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه.
(3) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه.
(2/417)
العرب كانوا إذا حل أحد منهم بواد صاح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجن الذي بالوادي يحميه فَزادُوهُمْ رَهَقاً ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس، والمعنى: أن الجن زادوا الإنس ضلالا وإثما لما عاذوا بهم، أو زادوهم تخويفا لما رأوا ضعف عقولهم، وقيل: ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن: والمعنى أن الإنس زادوا الجن تكبرا وطغيانا لما عاذوا بهم، حتى كان الجن يقول: أنا سيد الجن والإنس وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً «1» الضمير في ظنوا لكفار الإنس، وظننتم خطاب الجن بعضهم لبعض، فالمعنى أن كفار الإنس والجن ظنوا أن لن يبعث الله أحدا، والبعث هنا يحتمل أن يريد به بعث الرسل أو البعث من القبور وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً «2» هذا إخبار عن ما حدث عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من منع الجن من استراق السمع من السماء ورجمهم، واللمس المس، واستعير هنا للطلب، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام، ولذلك وصف بشديد وهو مفرد، ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس، أو النجوم الحارسة، وكرر الشهب لاختلاف اللفظ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «3» المقاعد جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان للكلمة مائة كذبة، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً الرصد اسم جمع للراصد، كالحراس للحارس وقال ابن عطية: هو مصدر وصف به ومعناه منتظر قال بعضهم: إن رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم واختار ابن عطية والزمخشري أنه كان قبل المبعث قليلا، ثم زاد بعد المبعث وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، والدليل أنه كان قبل المبعث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا انقض: ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول ولد ملك أو مات ملك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الأمر كذلك، ثم وصف استراق الجن للسمع وقد ذكر شعراء الجاهلية ذلك في أشعارهم.
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ «4» الآية: قال ابن عطية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدوا، أو يكفرون به فينزل بهم الشر؟ وقال الزمخشري: معناه لا ندري هل أراد الله بأهل الأرض خيرا أو شرا من عذاب أو رحمة أو من خذلان أو من توفيق؟
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ «5» أي منا قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأراد به الذين ليس صلاحهم كاملا، أو الذين ليس لهم صلاح، فإن دون قد تكون بمعنى أقل أو
__________
(1) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون.
(2) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون.
(3) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون.
(4) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون.
(5) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. [.....]
(2/418)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
بمعنى غير كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الطرائق: المذاهب والسير وشبهها، والقدد المختلفة وهو جمع قدة. وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل، وهو على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظن هنا بمعنى العلم، وقال ابن عطية: هذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا هذا الاعتقاد قبل إسلامهم سَمِعْنَا الْهُدى يعنون القرآن فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً البخس النقص والظلم، والرهق تحمل ما لا يطاق، وقال ابن عباس: البخس نقص الحسنات، والرهق الزيادة في السيئات.
وَمِنَّا الْقاسِطُونَ يعني الظالمين: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط بالألف إذا عدل. هاهنا انتهى ما حكاه الله من كلام الجن، وأما قوله: فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا يحتمل أن يكون من بقية كلامهم. أو يكون ابتداء كلام الله تعالى وهو الذي اختاره ابن عطية، وأما قوله: وأن لو استقاموا فهو من كلام الله باتفاق وليس من كلامهم تَحَرَّوْا أي قصدوا الرشد وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً الماء الغدق الكثير وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإسلام وطاعة الله، فالمعنى لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وقيل: هي طريقة الكفر، والمعنى على هذا: لو استقاموا على الكفر لوسع الله عليهم في الدنيا أملاكهم استدراجا، ويؤيد هذا قوله لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ والأول أظهر، والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للقاسطين المذكورين، أو لجميع الجن أو للجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لجميع الخلق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إن كانت الطريقة الإيمان والطاعة، فمعنى الفتنة الاختبار هل يسلمون أم لا؟ وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الإضلال والاستدراج نسلكه عذابا صعدا «1» معنى نسلكه ندخله والصعد الشديد المشقة، وهو مصدر صعد يصعد، ووصف بالمصدر للمبالغة يقال: فلان في صعد أي في مشقة. وقيل: صعدا جبل في النار.
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أراد المساجد على الإطلاق وهي بيوت عبادة الله، وروي أن الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، وقيل: أراد الأعضاء التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم وهذا بعيد، وعطف أن المساجد لله على أوحي إليّ أنه استمع وقال الخليل:
معنى الآية: لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا، أي لهذا السبب فلا تعبدوا غير الله.
__________
(1) . قرأ نافع وآخرون بالنون: نسلكه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يسلكه بالياء.
(2/419)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «1» عبد الله هنا محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية اختصاصا له وتقريبا وتشريفا وقال الزمخشري: أنه سماه هنا عبد الله ولم يقل الرسول أو النبي؟ لأن هذا واقع في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، لأنه مما أوحى إليه فذكر صلى الله عليه وسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل، وهذا الذي قاله بعيد مع أنه إنما يمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفا على أوحي إلي أنه استمع وأما على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، أو من جملة كلام الجن فيبطل ما قاله كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً «2» اللبد الجماعات واحدها لبدة، والضمير في كادوا يحتمل أن يكون للكفار من الناس، أي كادوا يجتمعون على الردّ عليه وإبطال أمره، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن والبركة به «3» مُلْتَحَداً أي ملجأ إِلَّا بَلاغاً بدل من ملتحدا أي لا أجد ملجأ إلا بلاغ الرسالة، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا مِنَ اللَّهِ قال الزمخشري: هذا الجار والمجرور ليس بصلة البلاغ إنما هو بمعنى بلاغا كائنا من الله، ويحتمل عندي أن يكون متعلقا ببلاغا والمعنى بلاغ من الله وَرِسالاتِهِ قال الزمخشري: إنه معطوف على بلاغا كأنه قال: إلا التبليغ والرسالة، ويحتمل أن يكون ورسالاته معطوفا على اسم الله.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمع خالدين على معنى من يعص لأنه في معنى الجمع، والآية في الكفار، وحملها المعتزلة على عصاة المؤمنين لأن مذهبهم خلودهم في النار. والدليل على أنها في الكفار وجهان: أحدهما أنها مكية والسورة المكية إنما الكلام فيها مع الكفار. والآخر دلالة ما قبلها وما بعدها على أن المراد بها الكفار حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ تعلقت حتى بقوله يكونون عليه لبدا وجعلت غاية لذلك. والمعنى: أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال ذلك الزمخشري وقال أيضا: يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل على المعنى كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه من الكفر حتى إذا رأوا ما يوعدون، وهذا أظهر قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ إن هنا نافية. والمعنى قل: لا أدري أقريب ما توعدون أم بعيد وعبر عن بعده بقوله: أم يجعل له ربي أمدا ويعني بما توعدون قتلهم يوم بدر، أو يوم القيامة.
__________
(1) . وأنه قرأ نافع بفتح الهمزة كالجميع ما عدا ابن كثير وأبو عمرو.
(2) . قرأ هشام فقط: لبدا بضم اللام والباقون بكسرها.
(3) . الآية [20] وأوّلها: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قرأ عاصم وحمزة: قل على الأمر والباقون، قال على الخبر.
(2/420)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أي لا يطلع أحدا على علم الغيب إلا من ارتضى، وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك. ومن في قوله: من رسول لبيان الجنس لا للتبعيض، والرسل هنا يحتمل أن يراد بهم الرسل من الملائكة وعلى هذا حملها ابن عطية، أو الرسل من بني آدم، وعلى هذا حملها الزمخشري. واستدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. وفيها أيضا دليل على إبطال الكهانة والتنجيم وسائر الوجوه التي يدعي أهلها الاطلاع على الغيب لأنهم ليسوا من الرسل فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً المعنى أن الله يسلك من بين يدي الرسل ومن خلفه ملائكة يكونون رصدا يحفظونه من الشياطين، وقد ذكرنا رصدا في هذه السورة قال بعضهم: ما بعث الله رسولا إلا ومعه ملائكة يحرسونه حتى يبلغ رسالة ربه لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال: الأول أي ليعلم الله أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم أي يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه. الثاني ليعلم محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم.
الثالث ليعلم من كفر أن الرسل قد بلغوا الرسالة والأول أظهر وجمع الضمير في أبلغوا وفي ربهم حملا على المعنى، لأن من ارتضى من رسول يراد به جماعة وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع، وهذه الجملة معطوفة على قوله: ليعلم لأن معناه أنه قد علم قال ذلك ابن عطية ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً هذا عموم في جميع الأشياء وعددا منصوب على الحال أو تمييز أو مصدر من معنى أحصى.
(2/421)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
سورة المزمل
مكية إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية وآياتها 20 نزلت بعد القلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المزمل) يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، ووزن المزمل متفعل فأصله متزمل. ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالمزمل ثلاثة أقول أحدها أنه كان في وقت نزول الآية متزملا في كساء أو لحاف، والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير هذا قول عائشة والجمهور، والثاني أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة، الثالث أن معناه المتزمل للنبوّة أي المتشمر، المجدّ في أمرها والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال:
زملوني زملوني فنزلت يا أيها المدثر، وعلى هذا نزلت يا أيها المزمل فالمزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاءه جبريل. وقال الزمخشري: كان نائما في قطيفة فنودي:
يا أيها المزمل، ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غير سديد.
وقال السهيلي في ندائه بالمزمل فائدتان: إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لعلي: قم أبا تراب، والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبه إلى ذكر الله، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة قُمِ اللَّيْلَ هذا الأمر بقيام الليل اختلف هل هو واجب أو مندوب، فعلى القول بالندب فهو ثابت غير منسوخ، وأما على القول بالوجوب ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولم يزل فرضا عليه حتى توفي، الثاني أنه فرض عليه وعلى أمته فقاموا حتى انتفخت أقدامهم، ثم نسخ بقوله في آخر السورة: إن ربك يعلم أنك تقوم الآية: وصار تطوعا، هذا قول عائشة رضي الله عنها وهو الصحيح، واختلف كم بقي فرضا فقالت عائشة عاما وقيل: ثمانية أشهر وقيل: عشرة أعوام فالآية الناسخة على هذا مدنية، الثالث أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته وهو ثابت غير منسوخ، ولكن ليس الليل كله إلا ما تيسر منه، وهو مذهب الحسن وابن سيرين إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
(2/422)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
في معنى هذا الكلام أربعة أقوال: الأول وهو الأشهر والأظهر أن الاستثناء من الليل، وقوله نصفه بدل من الليل أو من قليلا، وجعل النصف قليلا بالنسبة إلى الجميع والضميران في قوله: أو انقص منه، أو زد عليه: عائدان على النصف. والمعنى أن الله خيّره بين ثلاثة أحوال: وهو أن يقوم نصف الليل، أو ينقص من النصف قليلا أو يزد عليه. الثاني: قال الزمخشري: إلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال: نصف الليل إلا قليلا. فخيّره على هذا بين حالتين وهما أن يقوم أقل من النصف أو أكثر منه وهذا ضعيف، لأن قوله أو انقص منه قليلا تضمن معنى النقص من النصف فلا فائدة زائدة في استثناء القليل من النصف، القول الثالث قاله الزمخشري أيضا: يجوز أن يريد بقوله أو انقص منه قليلا نصف النصف وهو الربع ويكون الضمير في قوله أو زد عليه يعود على ذلك، أي زد على الربع فيكون ثلثا فيكون التخيير على هذا بين قيام النصف أو الثلث أو الربع، وهذا أيضا بعيد، القول الرابع قاله ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى إلا قليلا الليالي التي يمنعه العذر من القيام فيها، والمراد بالليل على هذا: الليالي، فهو جنس. وهذا بعيد، لأنه قد فسر هذا القليل المستثنى بما بعد ذلك من نصف الليل أو النقص منه أو الزيادة عليه، فدل ذلك على أن المراد بالليل المستثنى بعض أجزاء الليل، لا بعض الليالي، إن قيل: لم قيد النقص من النصف بالقلة.
فقال: أو انقص منه قليلا وأطلق في الزيادة فقال: أو زد عليه ولم يقل قليلا؟ فالجواب: أن الزيادة تحسن فيها الكثرة فلذلك لم يقيدها بالقلة بخلاف النقص، فإنه لو أطلقه لاحتمل أن ينقص من النصف كثيرا.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا الترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطّع قراءته حرفا حرفا ولا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا هذه الآية اعتراض بين آية قيام الليل، والقول الثقيل هو القرآن واختلف في وصفه بالثقل على خمسة أقوال أحدها: أنه سمى ثقيلا لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحي عليه، حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وقد كان يثقل جسمه عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إنه إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به، وأوحي إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد، والثقل على هذا حقيقة، الثاني أنه ثقيل على الكفار بإعجازه ووعيده، الثالث أنه ثقيل في الميزان، الرابع أنه كلام له وزن ورجحان، الخامس أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهي، وهذا اختيار ابن عطية. وعلى هذا يناسب الاعتراض بهذه الآية، قيام الليل لمشقته.
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ في الناشئة سبعة أقوال: الأول أنه النفس الناشئة بالليل، أي التي
(2/423)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
تنشأ من مضجعها وتقوم للصلاة، الثاني الجماعات الناشئة الذين يقومون للصلاة، الثالث العبادة الناشئة بالليل أي تحدث فيه، الرابع الناشئة القيام بعد النوم فمن قام أول الليل قبل أن ينام فلم يقم ناشئة، الخامس الناشئة القيام أول الليل بعد العشاء، السادس الناشئة بعد المغرب والعشاء، السابع ناشئة الليل ساعاته كلها هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً يحتمل معنيين أحدهما: أثقل وأصعب على المصلي ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر «1» ، والأثقل أعظم أجرا، فالمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر. الثاني أشدّ ثبوتا من أجل الخلوة وحضور الذهن والبعد عن الناس، ويقرب هذا من معنى أقوم قيلا وقرأ أبو عمرو وابن عامر وطاء بكسر الواو على وزن فعال ومعناه موافقة. أي يوافق القلب اللسان بحضور الذهن
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا السبح هنا عبارة عن التصرف في الاشتغال، والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك وتفرغ بالليل لعبادة ربك، وقيل: المعنى إن فاتك شيء من صلاة الليل فأدّه بالنهار فإنه طويل يسع ذلك وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ قيل: معناه قل: بسم الله الرحمن الرحيم في أول صلاتك.
واللفظ أعم من ذلك وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه وحده. وقيل:
التبتل رفض الدنيا. وتبتيلا مصدر على غير قياس فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا الوكيل هو القائم بالأمور والذي توكل إليه الأشياء، فهو أمر بالتوكل على الله.
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار. والآية منسوخة بالسيف وقيل:
إنما المنسوخ المهادنة التي يقتضيها قوله: اهجرهم هجرا جميلا وأما الصبر فمأمور به في كل وقت وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ هذا تهديد لهم وانتصب المكذبين على أنه مفعول معه أو معطوف أُولِي النَّعْمَةِ أي التنعم في الدنيا، وروي أن الآية نزلت في بني المغيرة وهم قوم من قريش كانوا متنعمين في الدنيا أَنْكالًا جمع نكل وهو القيد من الحديد. روي أنها قيود سود من نار وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ شجرة الزقوم ومعنى ذا غصة: أي يغصّ به آكلوه وقيل: هو شوك يعترض في حلوقهم لا ينزل ولا يخرج، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية فصعق يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي تهتز وتتزلزل والعامل في يوم معنى الكلام المتقدم وهو «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا» وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا الكثيب كدس الرمل، والمهيل اللين الرخو، الذي تهيله الريح أي تنشره وزنه مفعول، والمعنى أن الجبال تصير إذا نسفت يوم القيامة مثل الكثيب إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا خطاب لجميع الناس، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وقال الزمخشري: هو خطاب لأهل مكة
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ج 3 ص 234 عن أبي هريرة.
(2/424)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
شاهِداً عَلَيْكُمْ أي يشهد على أعمالكم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية، وإنما يشهد على من أدركه لقوله صلى الله عليه وسلم: أقول كما قال أخي عيسى وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117] كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى عليه السلام وهو المراد بقوله: فعصى فرعون الرسول فاللام للعهد
أَخْذاً وَبِيلًا أي عظيما شديدا.
يَوْماً مفعول به، وناصبه تتقون أي: كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم وقيل: هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم، وقيل، هو ظرف أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا قوله السماء منفطر به يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً الولدان جمع وليد وهو الطفل الصغير، والشيب بكسر الشين جمع أشيب ووزنه فعل بضم الفاء وكسرت لأجل الياء، ويجعل يحتمل أن يكون مسندا إلى الله تعالى أو إلى اليوم، والمعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة، فقيل: إن ذلك حقيقة، وقيل:
إنه عبارة عن هول ذلك اليوم، وقيل: إنه عبارة عن طوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الانفطار:
الانشقاق، والضمير المجرور يعود على اليوم أي: تتفطر السماء لشدة هوله ويحتمل أن يعود على الله أي تنفطر بأمره وقدرته والأول أظهر، والسماء مؤنثة. وجاء منفطر بالتذكير لأن تأنيثها غير حقيقة أو على الإضافة تقديره: ذات انفطار أو لأنه أراد السقف كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير في وعده يحتمل أن يعود على اليوم أو على الله والأول أظهر لأنه ملفوظ به إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ الإشارة إلى ما تقدم من المواعظ والوعيد فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يريد سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حض على ذلك وترغيب فيه.
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام الليل، ومعناها أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا، مرة يكثر ومرة يقل، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرأوا ما تيسر من القرآن وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ من قرأها بالخفض [مثل نافع وابن عامر وأبو عمرو] فهو عطف على ثلثي الليل، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وثلثه، ومن قرأ بالنصب [باقي القراء] فهو عطف على أدنى أي تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة وَطائِفَةٌ يعني المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في تقوم عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام، أي لن تحصوا تقدير الليل، وقيل: معناه لن تطيقوه أي: لن تطيقوا
(2/425)
قيام الليل كله فَتابَ عَلَيْكُمْ عبارة عن التخفيف كقوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي إذا لم تقدروا على قيام الليل كله، فقوموا بعضه، واقرءوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب، وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور.
وقال قوم منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لا بد منه ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر، وقيل: كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس، وقال بعضهم: هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله ومنها الجهاد ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر، تأكيدا للأمر به أو تأكيدا للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يعني المكتوبتين وَأَقْرِضُوا اللَّهَ معناه تصدقوا، وقد ذكر في البقرة [245] هُوَ خَيْراً نصب خيرا لأنه مفعول ثان لتجدوه والضمير فصل وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ قال بعض العلماء إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا.
(2/426)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
سورة المدثر
مكية وآياتها 56 نزلت بعد المزمّل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المدثر) يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وزنه متفعل ومعناه الذي تدثر في كساء أو ثياب وتسميته بذلك كتسميته بالمزمل، حسبما ذكرنا في موضعه. وقال السهيلي: في ندائه بالمدثر ثلاثة فوائد:
الاثنتان اللتان ذكرنا في المزمل وفائدة ثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير، والنذير بالثياب ضد هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير، وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن: والصحيح أن سورة اقرأ نزلت قبلها قُمْ فَأَنْذِرْ أي أنذر الناس وهذه بعثة عامة وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظّمه ويحتمل أن يريد قول: الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا: بم نفتتح صلاتنا فنزلت: وربك فكبر وقوله: وربك فكبر: من المقلوب الذي يقرأ طردا وعكسا من أوله وآخره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه حقيقة في تطهير الثياب من النجاسة واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون إزالة النجاسة واجبة أو على الندب فتكون سنة، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب، فالثياب على هذا مجاز، الثالث: أن معناه لا تلبس الثياب من مكسب خبيث وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن الرجز الأوثان، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول عائشة، والآخر أن الرجز السخط والعذاب وهذا أصله في اللغة، فمعناه اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، الثالث: أنه المعاصي والفجور، قال بعضهم كل معصية رجز وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يحتمل قوله: تَمْنُنْ أن يكون بمعنى العطاء أو بمعنى المنّ وهو ذكر العطاء وشبهه، أو بمعنى الضعف فإن كان بمعنى العطاء ففيه وجهان، أحدهما: أن معناه لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه، قال بعضهم: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمّته، والآخر: لا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كثيرا، وإن كان من المنّ بالشيء ففيه وجهان،
__________
(1) . قرأ حفص والرّجز بضم الراء والباقون بكسر الراء.
(2/427)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
الأول: لا تمنن على الناس بنبوتك تستكثر بأجر أو مكسب تطلبه، الثاني: لا تمنن على الله بعملك تستكثر أعمالك وتقع لك بها إعجاب، وإن كان من الضعف فمعناه لا تضعف عن تبليغ الرسالة وتستكثر ما حملناك من ذلك
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي اصبر لوجهه وطلب رضاه، ويحتمل أن يريد الصبر على المكاره والمصائب، أو على إذاية الكفار له، أو على العبادة فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ يعني نفخ في الصور، ويحتمل أن يريد النفخة الأولى والثانية.
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً هذا وعيد وتهديد، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة باتفاق، وفي معنى وَحِيداً ثلاثة أقوال: أحدها: روي أنه كان يلقب الوحيد، أي لا نظير له في ماله وشرفه، وكونه وحيدا نعمة عددها الله عليه، الثاني: أن معناه خلقته منفردا ذليلا، الثالث: أن معناه خلقته وحدي فوحيدا على هذا من صفة الله تعالى، وإعرابه على هذا حال من الضمير الفاعل في قوله خلقت وهو على القولين الأولين حال من الضمير المفعول وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثيرا، واختلف في مقداره فقيل: ألف دينار، وقيل عشرة آلاف دينار، وقيل: يعني الأرض لأنها مدت وَبَنِينَ شُهُوداً أي حضورا، وروي أنه كان له عشرة من الأولاد، وقيل: ثلاث عشرة لا يفارقونه. وأسلم منهم ثلاثة وهم: خالد وهشام وعمار وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في الدنيا بالمال والقوة وطيب العيش ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، وهذا غاية الحرص كَلَّا زجر عما طمع فيه من الزيادة عَنِيداً أي معاندا مخالفا، والآيات هنا يراد بها القرآن لأن الوليد قال فيه:
إنه سحر، ويحتمل أن يريد الدلائل سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً الصعود العقبة الصعبة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها عقبة في جهنم، كلما صعدها الإنسان ذاب ثم يعود، فالمعنى سأشق عليه بتكليفه الصعود فيها.
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي فكر فيما يقول، وقدر في نفسه ما يقول في القرآن أي: هيّأ كلامه، روي أن الوليد سمع القرآن فأعجبه وكاد يسلم، ودخل إلى أبي بكر الصديق فعاتبه أبو جهل، وقال له: إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في كلام محمد قولا يرضيهم، فافتتن وقال: أفعل ذلك ثم فكر فيما يقول في القرآن فقال: أقول شعر ما هو شعر، أقول كهانة ما هو بكهانة، أقول إنه سحر وإنه قول البشر ليس منزلا من عند الله فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ دعاء عليه وذم، وكرره تأكيدا لذمه وتقبيح حاله، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه استحسان منزعه الأول حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: قتل لا يراد به الدعاء عليه، وإنما هو كقولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه، يريدون التعجب من حاله واستعظام وصفه، وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه
(2/428)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
على طريقة الاستهزاء أو حكاية لقول قريش تهكما بهم
ثُمَّ نَظَرَ أي نظر في قوله ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ البسور هو تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس، وفعل ذلك من حسده للنبي صلى الله عليه وسلم أي عبس في وجهه عليه الصلاة والسلام، أو عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الإسلام سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي ينقل عمن تقدم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تعظيم لها وتهويل لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ مبالغة في وصف عذابها، أي لا تدع غاية من العذاب إلا أذاقته إياها أو لا تبقي شيئا ألقي فيها إلا أهلكته وإذا أهلك لم تذره هالكا بل يعود للعذاب لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ معنى لوّاحة مغيّرة يقال: لوّحه السفر إذا غيره والبشر جمع بشرة وهي الجلدة، فالمعنى أنها تحرق الجلود وتسودها وقيل: لواحة من لاح إذا ظهر، والبشر الناس أي تلوح للناس، وقال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام.
تِسْعَةَ عَشَرَ يعني الزبانية خزنة جهنم فقيل: هم تسعة عشر ملكا وقيل: تسعة عشر صفا من الملائكة والأول أشهر وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً سبب الآية أنه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به، فنزلت الآية ومعناها أنهم ملائكة لا طاقة لكم بهم وروي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي جعلناهم هذا العدد ليفتتن الكفار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم ويقولون ما قالوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليعلم أهل التوراة والإنجيل أن ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم من عدد ملائكة النار حق لأنه موافق لما في كتبهم وَلا يَرْتابَ أي لا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أن ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم حق، فإن قيل: كيف نفى عنهم الشك بعد أن وصفهم باليقين والمعنى واحد، وهو تكرار؟
فالجواب أنه لما وصفهم باليقين نفى عنهم أن يشكوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال، وقال الزمخشري ذلك مبالغة وتأكيد وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ المرض عبارة عن الشك، وأكثر ما يطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين. فإن قيل: هذه السورة مكية ولم يكن حينئذ منافقون وإنما حدث المنافقون بالمدينة، فالجواب من وجهين أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا ففيه إخبار بالغيب، والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك. وقولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلا: استبعاد لأن يكون هذا من عند الله وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يحتمل القصد بهذا وجهين أحدهما وصف جنود الله بالكثرة أي: هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله، والآخر رفع اعتراض الكفار
(2/429)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
على التسعة عشر أي لا يعلم أعداد جنود الله إلا هو لأن منهم عددا قليلا ومنهم عددا قليلا ومنهم عددا كثيرا حسبما أراد الله وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ الضمير لجهنم أو للآيات المتقدمة.
كَلَّا ردع للكفار عن كفرهم، وقال الزمخشري: هي إنكار لأن تكون لهم ذكرى إذ أدبر «1» أي ولى وقرئ دبر بغير ألف والمعنى واحد. وقيل: معناه دبر الليل والنهار أي جاء في دبره وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء، ومنه الإسفار بصلاة الصبح إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ الضمير لجهنم، أو للآيات والنذارة أي هي من الأمور العظام، والكبر جمع كبرى وقال ابن عطية: جمع كبيرة والأول هو الصحيح نَذِيراً لِلْبَشَرِ تمييز أو حال من إحدى الكبر وقيل: النذير هنا الله، فالعامل فيه على هذا محذوف. وهذا ضعيف وقيل: هو حال من هذه السورة أي قم فأنذر نذيرا وهذا بعيد قال الزمخشري: هو من بدع التفاسير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده، ولمن شاء بدل من البشر أي هم متمكنون من التقدم والتأخر وقيل: معناه الوعيد كقوله:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وعلى هذا أعرب الزمخشري أن يتقدم مبتدأ ولمن شاء خبره والأول أظهر رَهِينَةٌ قال ابن عطية الهاء في رهينة للمبالغة أو على تأنيث النفس. وقال الزمخشري: ليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي بمعنى الرهن أي كل نفس رهن عند الله بعملها إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي أهل السعادة فإنهم فكوا رقابهم بأعمالهم الصالحة، كما فكّ الراهن رهنه بأداء الحق وقال علي بن أبي طالب: أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقال ابن عباس: هم الملائكة يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين الذين في النار ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين يحتمل أن خاطبهم به المسلمون أو الملائكة فأجابوهم بقولهم: لم نك من المصلين وما بعده أي هذا الذي أوجب دخولهم النار، وإنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيما له لأنه أعظم جرائمهم نَخُوضُ الخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ هو الموت عند المفسرين وقال ابن عطية: إنما اليقين الذي أرادوا ما كانوا يكذبون في الدنيا، فيتيقنونه بعد الموت فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ إنما ذلك لأنهم كفار، وأجمع العلماء أنه لا يشفع أحد في الكفار، وجمع الشافعين دليل على
__________
(1) . قرأ نافع وحمزة وحفص: والليل إذ أدبر. وقرأ الباقون: إذا دبر. وهما لغتان.
(2/430)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
كثرتهم كما ورد في الآثار، تشفع الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ يعني كفار قريش كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ المستنفرة بفتح الفاء «1» التي استنفرها الفزع، وبالكسر بمعنى النافرة شبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام ويعني حمر الوحش.
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال ابن عباس: القسورة الرماة وقال أيضا هو: الأسد، وقيل:
أصوات الناس، وقيل: الرجال الشداد، وقيل: سواد أول الليل بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً المعنى: يطمع كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتابا من الله، ومعنى منشرة: منشورة غير مطوية أي طرية كما كتبت لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم:
لا نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء فيه من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر باتباعك كَلَّا ردع عما أرادوه بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي هذه هي العلة والسبب في إعراضهم كَلَّا تأكيد للردع الأول أو ردع عن عدم خوفهم الآخرة إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ الضمير لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «2» فاعل شاء ضمير يعود على من، وفي ذلك حض وترغيب وقيل: الفاعل هو الله ثم قيد فعل العبد بمشيئة الله هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي هو أهل لأن يتّقى لشدة عقابه، وهو أهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته وفضله.
__________
(1) . قرأ نافع وابن عامر: مستنفرة بفتح الفاء وقرأ الباقون بكسر الفاء.
(2) . وبقية الآية: وما يذكرون قرأ نافع: وما تذكرون بالتاء والباقون بالياء.
(2/431)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
سورة القيامة
مكية وآياتها 40 نزلت بعد القارعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة القيامة) لا أُقْسِمُ في الموضعين معناه أقسم. ولا زائدة لتأكيد القسم، وقيل: هي استفتاح كلام بمنزلة ألا. وقيل: هي نفي لكلام الكفار بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب، أو التقصير في الطاعات، فإن النفوس على ثلاثة أنواع فخيرها النفس المطمئنة وشرها النفس الأمارة بالسوء وبينهما النفس اللوامة، وقيل: اللوامة هي المذمومة الفاجرة، وهذا بعيد لأن الله لا يقسم إلا بما يعظم من المخلوقات، ويستقيم إن كان لا أقسم نفيا للقسم أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الإنسان هنا للجنس، أو الإشارة به للكفار المنكرين للبعث، ومعناه أيظن أن لن نجمع عظامه للبعث بعد فنائها في التراب؟
وهذه الجملة هي التي تدل على جواب القسم المتقدم بَلى تقديره نجمعها قادِرِينَ منصوب على الحال من الضمير في نجمع، والتقدير: نجمعها ونحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ البنان الأصابع، وفي المعنى قولان: أحدهما أنه إخبار بالقدرة على البعث أي قادرين على أن نسوى أصابعه أي نخلقها بعد فنائها مستوية متقنة «1» ، وإنما خص الأصابع دون سائر الأعضاء لدقة عظامها وتفرقها، والآخر أنه تهديد في الدنيا، أي قادرين على أن نجعل أصابعه مستوية، ملتصقة كيد الحمار وخف الجمل، فلا يمكنه تصريف يديه في منافعه. والأول أليق بسياق الكلام بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هذه الجملة معطوفة على أيحسب الإنسان، ويجوز أن يكون استفهاما مثلها أو تكون خبرا، وليست بل هنا للإضراب عن الكلام الأول بمعنى إبطاله وإنما هي للخروج منه إلى ما بعده، وليفجر:
معناه ليفعل أفعال الفجور، وفي معنى أمامه ثلاثة أقوال: أحدها أنه عبارة عما يستقبل من
__________
(1) . رؤوس الأصابع اكتشف حديثا ما في خلقها من أعجاز وهو عدم تشابه الخطوط التي على رأس كل إصبع فالبصمات لكل إنسان تختلف عن غيره
(2/432)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
الزمان، أي يفجر بقية عمره الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته، يقال: مشى فلان قدامه إذا لم يرجع عن شيء يريده، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان، الثالث أن الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يفجر قبل يوم القيامة.
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أيان معناها متى وهذا السؤال على يوم القيامة هو على وجه الاستخفاف والاستعداد بَرِقَ الْبَصَرُ هذا إخبار عن يوم القيامة، وقيل: عن حالة الموت وهذا خطأ لأن القمر لا يخسف عند موت أحد، ولا يجمع بينه وبين الشمس وبرق «1» بفتح الراء معناه لمع وصار له برق وقرئ بكسر الراء ومعناه تحيّر من الفزع، وقيل: معناه شخص فيتقارب معنى الفتح والكسر وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوؤه، يقال: خسف هو وخسفه الله والخسوف للقمر والكسوف للشمس، وقيل: الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وقيل: بمعنى واحد وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في جمعهما ثلاثة أقوال: أحدها أنهما يجمعان حيث يطلعهما الله من المغرب، والآخر أنهما يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في النار، وقيل: في البحر، فتكون النار الكبرى. الثالث أنهما يجمعان فيذهب ضوؤهما لا وَزَرَ أي لا ملجأ ولا مغيث بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أي بجميع أعماله ما قدّم منها في أول عمره وما أخر في آخره، وقيل: ما تقدم في حياته وما أخر من سنة أو وصية بعد مماته، وقيل: ما قدم لنفسه من ماله وما أخر منه لورثته.
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
في معناه قولان: أحدهما: أنه شاهد على نفسه بأعماله، إذ تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، والآخر: أنه حجة بينة لأن خلقته تدل على خالقه، فوصف بالبصارة مجازا لأن من نظر فيه أبصر الحق، والأول أليق بما قبله وما بعده كأنه قال: ينبؤ الإنسان يومئذ بأعماله بل هو يشهد بأعماله وإن لم ينبأ بها، وكذلك يلتئم مع قوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
، ويكون هو جواب لو حسبما نذكره وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
فيه قولان، أحدهما: أن المعاذير الأعذار أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله ولو اعتذر عن قبائحها والآخر أن المعاذير: الستور، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو سدل الستور على نفسه في الدنيا، حين يفعل القبائح لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
الضمير في به يعود على القرآن دلت على ذلك قرينة الحال وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يحرك به شفتيه، مخافة أن ينساه لحينه، فأمره الله أن ينصت ويستمع، وقيل: كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب عليه ذلك، وشق عليه فنزلت
__________
(1) . هي قراءة نافع والباقون: برق بكسر الراء.
(2/433)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
الآية والأول هو الصحيح. لأنه ورد في البخاري وغيره
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
ضمن الله له أن يجمعه في صدره، فلا يحتاج إلى تحريك شفيته عند نزوله، ويحتمل قرآنه هنا وجهين، أحدهما: أن يكون بمعنى القراءة فإن القرآن قد يكون مصدرا من قرأت، والآخر:
أن يكون معناه تأليفه في صدره فهو مصدر من قولك: قرأت الشيء أي جمعته فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي إذا قرأه جبريل، فاجعل قراءة جبريل قراءة الله لأنها من عنده، ومعنى اتبع قرآنه اسمع قراءته واتبعها بذهنك لتحفظها، وقيل: اتبع القرآن في الأوامر والنواهي ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي علينا أن نبينه لك ونجعلك تحفظه، وقيل: علينا أن نبين معانيه وأحكامه، فإن قيل: ما مناسبة قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
الآية لما قبلها فالجواب أنه لعله نزل معه في حين واحد فجعل على ترتيب النزول.
بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ «1» أي تحبون الدنيا، وهذا الخطاب توبيخ للكفار، ومن كان على مثل حالهم في حب الدنيا، وكلا ردع عن ذلك وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ بالضاد أي ناعمة، ومنه نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هذا من النظر بالعين، وهو نص في نظر المؤمنين إلى الله تعالى في الآخرة، وهو مذهب أهل السنة، وأنكره المعتزلة وتأولوا ناظرة بأن معناه منتظرة، وهذا باطل لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف جر، تقول نظرتك أي انتظرتك، وأما المتعدي بإلى فهو من نظر العين، ومنه قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال بعضهم: إلى هنا ليست بحرف جر وإنما هي واحد الآلاء بمعنى النعم، وهذا تكلف في غاية البعد، وتأوله الزمخشري بأن معناه كقول الناس: فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه ويتعلق به، وهذا بعيد وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النظر إلى الله أحاديث صحيحة مستفيضة صريحة المعنى لا تحتمل التأويل فهي تفسير الآية «2» . باسِرَةٌ أي عابسة تظهر عليها الكآبة والبسور أشد من العبوس تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي مصيبة قاصمة الظهر، والظن هنا يحتمل أن يكون على أصله أو بمعنى اليقين.
إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ يعني حالة الموت والتراقي جمع ترقوة وهو عظام أعلى الصدر،
__________
(1) . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: يحبون العاجلة: ويذرون الآخرة بالياء وقرأ الباقون بالتاء تحبون وتذرون.
(2) . ومنها الحديث المتفق عليه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته» صدقت يا رسول الله، من رياض الصالحين.
(2/434)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
والفاعل لبلغت نفس الإنسان دل على ذلك سياق الكلام، وهو عبارة عن حال الحشرجة وسياق الموت
وَقِيلَ مَنْ راقٍ
«1» أي قال أهل المريض: من يرقيه عسى أن يشفيه؟
وقيل: معناه أن الملائكة تقول: من يرقى بروحه أي يصعد بها إلى السماء؟ فالأول من الرقية وهو أشهر وأظهر، والثاني من الرقيّ وهو العلو وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي تيقن المريض أن ذلك الحال فراق الدنيا وفراق أهله وماله وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا عبارة عن شدة كرب الموت وسكراته، أي التفت ساقه على الأخرى عند السياق وقيل هو مجاز كقوله كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتدت، وقيل: معناه ماتت ساقه فلا تحمله وقيل: التفت أي لفها الكافر إذا كفر وفي قوله: الساق والمساق ضرب من ضروب التجنيس إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ هذا جواب إذا بلغت التراقي والمساق مصدر من السوق كقوله: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا هنا نافية وصدّق هنا يحتمل أن يكون من التصديق بالله ورسله أو من الصدقة، ونزلت هذه الآية وما بعدها في أبي جهل يَتَمَطَّى أي يتبختر في مشيته، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم الذين كان أبو جهل منهم أَوْلى لَكَ وعيد وتهديد فَأَوْلى وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيدا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبّب أبا جهل وقال له: إن الله يقول لك: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فنزل القرآن بموافقة ذلك.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً هذا توبيخ ومعناه أيظن أن يترك من غير بعث ولا حساب ولا جزاء، فهو كقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] ، والإنسان هنا جنس، وقيل نزلت في أبي جهل ولا يبعد أن يكون سببها خاصا ومعناها عام أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى النطفة النقطة وتمنى «2» من قولك: أمنى الرجل، ومعنى الآية:
الاستدلال بخلقة الإنسان على بعثه، كقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [ياسين:
79] والعلق: الدم لأن المني يصير في الرحم دما فَخَلَقَ فَسَوَّى أي خلقه بشرا فسوى صورته أي أتقنها أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى هذا تقرير واحتجاج، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ آخر هذه السورة قال بلى وفي رواية: سبحانك اللهم بلى.
__________
(1) . قرأ حفص: من راق بإظهار النون وقرأها الباقون بالإدغام. [.....]
(2) . يمنى بالياء هي قراءة حفص والباقون: تمنى بالتاء.
(2/435)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
سورة الإنسان
مدنية وآياتها 31 نزلت بعد الرحمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الإنسان) هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً هل هنا بمعنى التقرير لا لمجرد الاستفهام، وقيل: هل بمعنى قل، والإنسان هنا جنس، والحين الذي أتى عليه حين كان معدوما قبل أن يخلق، وقيل: الإنسان هنا آدم، والحين الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه الروح وهذا ضعيف لوجهين أحدهما قوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ وهو هنا جنسها باتفاق إذ لا يصح هنا في آدم، والآخر أن مقصد الآية تحقير الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين وقيل: مشج بوزن عدل، وقال الزمخشري: ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم: برمة أعشار، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا فقيل: اختلاط ماء الرجل والمرأة وقيل: معناه ألوان وأطوار، أي يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة نَبْتَلِيهِ أي نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي: خلقناه مبتلين له وقيل: معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً هذا معطوف على خلقنا الإنسان، ومن جعل نبتليه بمعنى نصرفه في بطن أمه فهذا عطف عليه، وقيل أن نبتليه مؤخر في المعنى أي جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وهذا تكلف بعيد.
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي سبيل الخير والشر ولذلك قسم الإنسان إلى قسمين شاكرا أو كفورا وهما حالان من الضمير في هديناه والهدى هنا بمعنى: بيان الطريقين، وموهبة العقل الذي يميز به بينهما، ويحتمل أن يكون بمعنى الإرشاد، أي هدى المؤمن للإيمان والكافر للكفر. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78]
سلاسلا «1» من قرأه بغير تنوين فهو الأصل إذ هو لا ينصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد. ومن قرأه بالتنوين فله ثلاث توجيهات:
__________
(1) . قرأ نافع وأبو بكر والكسائي: سلاسلا بالتنوين. وقرأ الباقون: سلاسل بفتحة واحدة لأنه ممنوع من الصرف.
(2/436)
أحدها أنها لغة لبعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا ما كان على وزن أفعل والآخر أن النون بدل من حرف الإطلاق، وأجرى الوصل مجرى الوقف والثالث أن يكون صاحب هذه القراءة راوية للشعر، قد عوّد لسانه صرف ما لا ينصرف فجرى على ذلك الْأَبْرارَ جمع بار أو برّ، ومعناه العاملون بالبر وهو غاية التقوى والعمل الصالح حتى قال بعضهم:
الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر مِنْ كَأْسٍ ذكر في الصافات [45] معنى الكأس ومن هنا يحتمل أن تكون للتبعيض أو لابتداء الغاية مِزاجُها كافُوراً أي تمزج الخمر بالكافور وقيل: المعنى أنه كافور في طيب رائحته كما تمدح طعاما فتقول هذا مسك عَيْناً بدل من كافورا على القول بأن الخمر تمزج بالكافور، أو بدل من موضع من كأس على القول الآخر كأنه قال: يشربون خمرا خمر عين وقيل: هو مفعول يشربون وقيل منصوب بإضمار فعل يَشْرَبُ بِها قال ابن عطية: الباء زائدة والمعنى يشربها وهذا ضعيف لأن الباء إنما تزاد في مواضع ليس هذا منها، وإنما هي كقولك: شربت الماء بالعسل لأن العين المذكورة تمزج بها الكأس من الخمر عِبادُ اللَّهِ وصفهم بالعبودية، وفيه معنى التشريف والاختصاص. كقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يصعب عليهم، وفي الأثر أن في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة عينا تفجر إلى قصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين مُسْتَطِيراً أي منتشرا شائعا ومنه، استطار الفجر: إذا انشق ضوؤه.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ نزلت هذه الآية وما بعدها في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم «1» فإنهم كانوا صائمين فلما وضعوا فطورهم ليأكلوه جاء مسكين فرفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين، فلما وضعوا فطورهم جاء يتيم فدفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين فلما وضعوا فطورهم جاء أسير فدفعوه له، وباتوا طاوين والآية على هذا مدنية لأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة وقيل: إنما هي مكية وليست في علي عَلى حُبِّهِ الضمير للطعام أي يطعمونه مع حبه والحاجة إليه فهو كقوله:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] ففي قوله على حبه تتميم وهو من أدوات البيان وقيل: الضمير لله وقيل: للإطعام المفهوم من يطعمون والأول أرجح وأظهر مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قد ذكرنا المسكين واليتيم وأما الأسير ففيه خمسة أقوال أحدها أن الأسير الكافر بين المسلمين ففي إطعامه أجر لأنه: «في كل ذي كبد رطبة أجر» «2» وقيل نسخ ذلك
__________
(1) . القصة مشهورة وفيها إيثار المسكين ثم اليتيم ثم الأسير ثلاث ليال متواليات على أنفسهم.
(2) . الحديث في البخاري عن أبي هريرة كتاب الشرب والمساقاة ص 77 ج 3.
(2/437)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
بالسيف، والآخر: أنه الأسير المسلم إذا خرج من دار الحرب لطلب الفدية والثالث أنه المملوك الرابع أنه المسجون الخامس أنه المرأة لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيرا لأنهن عوان عندكم وهذا بعيد والأول أرجح لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير المشرك فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ عبارة عن الإخلاص لله، ولذلك فسروه وأكدوه بقولهم: لا نريد منكم جزاء ولا شكورا والشكور مصدر كالشكر ويحتمل أنهم قالوا هذا الكلام بألسنتهم، أو قالوا في نفوسهم، فهو عبارة عن النية والقصد يَوْماً عَبُوساً وصف اليوم بالعبوس مجاز على وجهين: أحدهما أن يوصف اليوم بصفة أهله كقولهم:
نهاره صائم وليله قائم. وروي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل الدم من عينيه مثل القطران والآخر يشبّه في شدّته بالأسد العبوس قَمْطَرِيراً قال ابن عباس: معناه طويل وقيل: شديد.
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً النضرة: التنعم. وهذا في مقابلة عبوس الكافر. وقوله:
وقاهم ولقاهم من أدوات البيان بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على الجوع وإيثار غيرهم على أنفسهم، حسبما ذكرنا من قصة علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقد ذكرنا الأرائك «2» لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً عبارة عن اعتدال هوائها أي ليس فيها حر ولا برد، والزمهرير هو البرد الشديد، وقيل: هو القمر بلغة طيء، والمعنى على هذا أن للجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها معناه أن ظلال الأشجار متدلية عليهم قريبة منهم، وإعراب دانية معطوف على متكئين، وقال الزمخشري: هو معطوف على الجملة التي قبلها وهي: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، لأن هذه الجملة في حكم المفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، أي جامعين بين البعد عن الحر والبرد وبين دنو الظلال، وقيل: هو صفة لجنة عطف بالواو كقولك: فلان عالم وصالح. وقيل: هو معطوف عليها أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا القطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب، وشبه ذلك، وتذليلها هو أن تتدلى إلى الأرض، وروي أن أهل الجنة يقطعون الفواكه على أي حال كانوا من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنها تتدلى لهم كما يريدون، وهذه الجملة في موضع الحال من دانية، أي دانية في حال تذليل قطوفها أو معطوفة عليها.
بِآنِيَةٍ هي جمع إناء ووزنها أفعلة وقد ذكرنا الأكواب في الواقعة قَوارِيرَا القوارير هي الزجاج، فإن قيل: كيف يتفق أنها زجاج مع قوله من فضة؟ فالجواب: أن
__________
(1) . الحديث متفق عليه عن أبي هريرة والترمذي عن عمرو بن الأحوص، وهو من خطبة حجة الوداع.
(2) . سبق ورودها في الكهف: 31 ويس: 56.
(2/438)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
المراد أنها في أصلها من فضة وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها، وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها، ومن قرأ قوارير بغير تنوين فهو على الأصل ومن نوّنه «1» فعلى ما ذكرنا في سلاسل
قَدَّرُوها تَقْدِيراً هذه صفة للقوارير والمعنى قدّروها على قدر الأكف أو على قدر ما يحتاجون من الشراب، قال مجاهد: هي لا تغيض ولا تفيض، وقيل: قدروها على حسب ما يشتهون، والضمير الفاعل في قدّروها يحتمل أن يكون للشاربين بها أو للطائفين بها مِزاجُها زَنْجَبِيلًا هو كما ذكرنا في مزاجها كافورا سَلْسَبِيلًا معناه سلسل منقاد الجرية، وقيل: سهل الانحدار في الحلق، يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد. وزيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلاسته، فصارت الكلمة خماسية، وقيل: سل فعل أمر سبيلا مفعول به وهذا في غاية الضعف وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ذكر في الواقعة لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً شبههم باللؤلؤ في الحسن والبياض، وبالمنثور منه في كثرتهم وانتشارهم في القصور.
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ مفعول رأيت محذوف ليكون الكلام على الإطلاق في كل ما يرى فيها، وثم ظرف مكان، وقال الفراء: تقديره إذا رأيت ما ثم فما مفعوله ثم حذفت، قال الزمخشري: وهذا خطاب لأن ثمّ صلة لما، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة مُلْكاً كَبِيراً يعني كثرة ما أعطاهم الله، حتى إن أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه، حسبما ورد في الحديث «2» وقيل: أراد أن الملائكة تسلم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك عالِيَهُمْ «3» بسكون الياء مبتدأ خبره ثِيابُ سُندُسٍ أي ما يعلوهم من الثياب ثياب سندس، وقرئ عاليهم بالنصب على الحال، من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم. وقال ابن عطية: العامل فيه لقّاهم أو جزاهم، وقال أيضا يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم، وقد ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ خُضْرٌ بالخفض صفة لسندس وبالرفع صفة لثياب وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع عطف على ثياب، وبالخفض عطف على سندس وَحُلُّوا وزنه فعلوا معناه جعل لهم حلي أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ذكرنا الأساور في الكهف، فإن قيل كيف قال هنا أساور من فضة، وفي موضع آخر أساور من
__________
(1) . قرأ بالتنوين: قواريرا نافع وأبو بكر والكسائي. وقرأ الباقون: قوارير. لأنها ممنوعة من الصرف ما عدا ابن كثير فإنه قرأ الأولى بالتنوين لأنها رأس آية والثانية بدون تنوين على الأصل.
(2) . الحديث رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة وأوله: «إن موسى عليه السلام سأل ربه: ما أدنى أهل الجنة، منزلة؟ فقال: رجل يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة» . انظر الترغيب والترهيب ج 4/ ص 245.
(3) . قرأ نافع وحمزة: عاليهم بكسر اللام وسكون الياء والباقون: عاليهم بفتح الياء.
(2/439)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
ذهب؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» «1» . فلعل الذهب للمقربين، والفضة لأهل اليمين، ويحتمل أن يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معا شَراباً طَهُوراً أي ليس بنجس كخمر الدنيا. وقيل معناه: أنه لم تعصره الأقدام، وقيل معناه لا يصير بولا
إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لهم هذا يقوله الله تعالى والملائكة آثِماً أَوْ كَفُوراً أو هنا للتنويع، فالمعنى لا تطع النوعين، فاعلا للإثم ولا كفورا، وقيل:
هي بمعنى الواو أي جامعا للوصفين لأن هذه هي حالة الكفار، وروي أن الآية نزلت في أبي جهل، وقيل: أن الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة، والأحسن أنها على العموم، لأن لفظها عام، وإن كان سبب نزولها خاصا بُكْرَةً وَأَصِيلًا هذا أمر بذكر الله في كل وقت، وقيل: إشارة إلى الصلوات الخمس، فالبكرة صلاة الصبح، والأصيل الظهر والعصر، ومن الليل المغرب والعشاء.
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا والإشارة إلى الكفار واليوم الثقيل يوم القيامة، ووصفه بالثقل عبارة عن هوله وشدته وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ الأسر الخلقة وقيل: المفاصل والأوصال، وقيل: القوة بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي أهلكناهم وأبدلنا منهم غيرهم. وقيل:
مسخناهم فبدلنا صورهم وهذا تهديد إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ الإشارة إلى الآية أو السورة أو الشريعة بجملتها فَمَنْ شاءَ تحضيض وترغيب ثم قيّد مشيئتهم بمشيئة الله وَالظَّالِمِينَ منصوب بفعل مضمر تقديره: ويعذب الظالمين.
__________
(1) . الحديث رواه أحمد في الجزء 4 ص 416، 411. وأوله: «جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب» عن أبي موسى الأشعري.
(2/440)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
سورة المرسلات
مكية إلا آية 48 فمدنية وآياتها 50 نزلت بعد الهمزة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المرسلات) اختلف في معنى المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات على قولين: أحدهما أنها الملائكة والآخر أنها الرياح. فعلى القول بأنها الملائكة سماهم المرسلات لأن الله تعالى يرسلهم بالوحي وغيره، وسماهم العاصفات لأنهم يعصفون كما تعصف الرياح في سرعة مضيهم إلى امتثال أوامر الله تعالى، وسماهم ناشرات لأنهم ينشرون أجنحتهم في الجو، وينشرون الشرائع في الأرض، أو ينشرون صحائف الأعمال وسماهم الفارقات لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، وعلى القول بأنها الرياح، سماها المرسلات لقوله اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الروم: 48] وسماها العاصفات من قوله: رِيحٌ عاصِفٌ أي شديدة، وسماها الناشرات لأنها تنشر السحاب في الجو ومنه قوله: يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: 48] وسماها الفارقات لأنها تفرق بين السحاب ومنه قوله: فيجعله كسفا وأما الملقيات ذكرا فهم الملائكة لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام، والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح لأن وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة لأن الوصف بالفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن الملقيات المذكورة بعدها هي الملائكة ولم يقل أحد أنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء فقال: والمرسلات فالعاصفات ثم عطف ما ليس من جنس بالواو فقال: والناشرات ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء وقد قيل في المرسلات والملقيات أنهم الأنبياء عليهم السلام عُرْفاً معناه: فضلا وإنعاما وانتصابه على أنه مفعول من أجله وقيل: معناه متتابعة وهو مصدر في موضع الحال وأما عصفا ونشرا وفرقا فمصادر، وأما ذكرا فمفعول به عُذْراً أَوْ نُذْراً العذر فسّره ابن عطية وغيره بمعنى: إعذار الله إلى عباده لئلا تبقى لهم حجة أو عذر. وفسره الزمخشري بمعنى الاعتذار. يقال: عذر إذا محا الإساءة، وأما نذرا فمن الإنذار وهو التخويف وقرأ الأعشى التميمي بضم الذال في الموضعين وبقية القراء
(2/441)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
بإسكانها، ويحتمل أن يكونا مصدرين فيكون نصبهما على البدل من ذكرا أو مفعولا بذكر، أو يحتمل أن يكون عذرا جمع عذير أو عاذر، ونذرا جمع نذير فيكون نصبهما على الحال
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ يعني البعث والجزاء وهو جواب القسم فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي زال ضوؤها وقيل: محيت وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي انشقت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي صارت غبارا وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جعل لها وقت معلوم، فحان ذلك الوقت وجمعت للشهادة على الأمم يوم القيامة وقرأ أبو عمرو وقّتت بالواو وهو الأصل، والهمزة بدل من الواو لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ هو من الأجل كما أن التوقيت من الوقت، وفيه توقيف [سؤال] يراد به تعظيم لذلك اليوم ثم بينه بقوله: لِيَوْمِ الْفَصْلِ أي يفصل فيه بين العباد ثم عظّمه بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تكراره في هذه السورة قيل: إنه تأكيد وقيل: بل في كل آية ما يقتضي التصديق فجاء ويل يومئذ للمكذبين راجعا إلى ما قبله في كل موضع منها.
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني الكفار المتقدمين، كقوم نوح وغيرهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعني قريشا وغيرهم من الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد لهم ظهر مصداقه يوم بدر وغيره كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا الفعل نفعل بكل مجرم يعني الكفار أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني المني، والمهين الضعيف فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني رحم المرأة إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعني وقت الولادة، وهو معلوم عند تسعة أشهر، أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا بالتشديد من التقدير «1» وبالتخفيف من القدرة، فإذا كان من القدرة اتفق مع قوله فنعم القادرون، وإذا كان من التقدير فهو تجنيس أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً الكفات من: كفت إذا ضم وجمع. فالمعنى أن الأرض تكفت الأحياء على ظهرها، والموتى في بطنها. وانتصب أحياء وأمواتا على أنه مفعول بكفاتا لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع، فكأنه قال: جامعة أحياء وأمواتا ويجوز أن يكون المعنى: تكفتهم أحياء وأمواتا. فيكون نصبهما على الحال من الضمير، وإنما نكّر أحياء وأمواتا للتفخيم ودلالة على كثرتهم رَواسِيَ يعني الجبال شامِخاتٍ أي مرتفعات ماءً فُراتاً أي
__________
(1) . قرأ نافع والكسائي بالتشديد والباقون بالتخفيف.
(2/442)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
حلوا
انْطَلِقُوا خطاب للمكذبين وقرأ يعقوب بفتح اللام على أنه فعل ماض ثم كرره لبيان المنطلق إليه إِلى ظِلٍّ يعني دخان جهنم ومنه ظل من يحموم ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي يتفرع من الدخان ثلاث شعب فتظلهم، بينما يكون المؤمنون في ظلال العرش وقيل: إن هذه الآية في عبدة الصليب لأنهم على ثلاثا شعب فيقال لهم انطلقوا إليه لا ظَلِيلٍ نفى عنه أن يظلهم كما يظل العرش المؤمنين ونفى أيضا أن يمنع عنهم اللهب إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ الضمير في إنها لجهنم والقصر واحد القصور، وهي الديار العظام شبه الشرر به في عظمته وارتفاعه في الهواء، وقيل: هو الغليظ من الشجر واحده قصرة كجمرة وجمر كأنّه جمالات صفر «1» في الجمالات قولان أحدهما: أنها جمع جمال شبه بها الشرر وصفر على ظاهره لأن لون النار يضرب إلى الصفرة. وقيل: صفر هنا بمعنى سود يقال:
جمل أصفر أي أسود. وهذا أليق بوصف جهنم. الثاني أن الجمالات قطع النحاس الكبار، فكأنه مشتق من الجملة. وقرئ جمالات بضم الجيم وهي قلوس السفن وهي حبالها العظام هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذا في مواطن، وقد يتكلمون في مواطن أخر لقوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: 111] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تعجيز لهم وتعريض بكيدهم في الدنيا وتقريع عليه كُلُوا وَاشْرَبُوا يقال لهم ذلك في الجنة بلسان الحال أو بلسان المقال هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ نصب هنيئا على الحال أو على الدعاء كُلُوا وَتَمَتَّعُوا خطاب للكفار على وجه التهديد تقديره: قل لهم كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ هذا إخبار عن حال الكفار في الدنيا، وذكر الركوع عبارة عن الصلاة وقيل: معنى اركعوا اخشعوا وتواضعوا. وقيل: هو إخبار عن حال المنافقين يوم القيامة لأنهم إذا قيل لهم: اركعوا لا يقدرون على الركوع كقوله: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] والأول أشهر وأظهر فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ الضمير للقرآن.
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص: جمالة بدون ألف وقرأ الباقون: جمالات وهي جمع الجمع.
(2/443)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
سورة النبأ
مكية وآياتها 40 نزلت بعد المعارج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النبأ) عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصل عمّ عن ما ثم أدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما لأنها استفهامية، تقديرها: عن أي شيء يتساءلون، وليس المراد بها هنا مجرد الاستفهام، وإنما المراد تفخيم الأمر. والضمير في يتساءلون لكفار قريش، أو لجميع الناس ومعناه يسأل بعضهم بعضا عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ هو ما جاءت به الشريعة من التوحيد والبعث والجزاء وغير ذلك، ويتعلق عن النبإ بفعل محذوف يفسره الظاهر تقديره: يتساءلون عن النبأ. ووقعت هذه الجملة جوابا عن الاستفهام وبيانا للمسئول عنه كأنه لما قال: عم يتساءلون أجاب فقال يتساءلون عن النبأ العظيم. وقيل: يتعلق عن النبأ بيتساءلون الظاهر والمعنى على هذا لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والأول أفصح وأبرع وينبغي على ذلك أن يوقف على قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إن كان الضمير في يتساءلون لكفار قريش، فاختلافهم أن منهم من يقطع بالتكذيب، ومنهم من يشك أو يكون اختلافهم قول بعضهم سحر، وقول بعضهم شعر وكهانة وغير ذلك، وإن كان الضمير لجميع الناس فاختلافهم أن منهم المؤمن والكافر.
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع وتهديد ثم كرره للتأكيد أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا، وإنما ذكر الله تعالى هنا هذه المخلوقات على جهة التوقيف [السؤال] ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من البعث كأنه يقول: إن الإله الذي قدر على خلقة هذه المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم، ويحتمل أنه ذكرها حجة على التوحيد لأن الذي خلق هذه المخلوقات هو الإله وحده لا شريك له وَالْجِبالَ أَوْتاداً شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي من زوجين ذكرا وأنثى، وقيل: معناه أنواعا في ألوانكم وصوركم وألسنتكم وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة لكم، وقيل: معناه
(2/444)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
قطعا للأعمال والتصرف. والسبت: القطع. وقيل: معناه موتا لأن النوم هو الموت الأصغر، ومنه قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: 42]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً شبهه بالثياب التي تلبس لأنه ستر عن العيون وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي تطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش، وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السبات، الذي بمعنى الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني السموات وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني الشمس.
والوهّاج الوقاد الشديد الإضاءة، وقيل: الحار الذي يضطرم من شدة لهبه وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً يعني: المطر. والمعصرات: هي السحاب وهو مأخوذ من العصر لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء أو من العصرة بمعنى الإغاثة. ومنه: وفيه يعصرون، وقيل: هي السموات وقيل: الرياح والثجّاج السريع الاندفاع لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً الحب هو القمح والشعير وسائر الحبوب والنبات هو العشب وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي ملتفة وهو جمع لف بضم اللام، وقيل: بالكسر وقيل: لا واحد له كانَ مِيقاتاً أي في وقت معلوم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يعني نفخة القيام من القبور فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي جماعات فَكانَتْ أَبْواباً «1» أي تنفخ فتكون فيها شقاق كالأبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي حملت فَكانَتْ سَراباً عبارة عن تلاشيها وفنائها والسراب في اللغة: ما يظهر على البعد أنه ماء، وليس ذلك المراد هنا وإنما هو تشبيه في أنه لا شيء مِرْصاداً أي موضع المرصاد والرصد هو الارتقاب والانتظار، أي تنتظر الكفار ليدخلوها وقيل: معناه طريقا للمؤمنين يمرون عليه إلى الجنة لأن الصراط منصوب على جهنم مَآباً أي مرجعا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً
جمع حقبة أو حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة، وقيل إنها محدودة ثم اختلف في مقدارها، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ثمانون ألف سنة، وقال ابن عباس:
ثلاثون سنة وقيل ثلاثمائة سنة، وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقابا، كلما انقضى حقب جاء آخر إلى غير نهاية وقيل: إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي، ثم نسخ بقوله: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» وهذا خطاب لأن الأخبار لا تنسخ، وقيل: هي في عصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله: وكذبوا بآياتنا وقيل: معناها أنهم يبقون أحيانا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، ثم يبدل لهم نوع آخر
__________
(1) . أول الآية: وفتحت السماء قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد: وفتّحت.
(2/445)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
من العذاب
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً أي لا يذوقون برودة تخفف عنهم حر النار.
وقيل: لا يذوقون ماء باردا وقيل: البرد هنا النوم والأول أظهر إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً استثناء من الشراب وهو متصل، والحميم: الماء الحار. والغساق: صديد أهل النار، وقد ذكر في سورة داود [ص: 57] جَزاءً وِفاقاً أي موافقا أعمالهم لأن أعمالهم كفر وجزاؤهم النار، ووفاقا مصدر وصف به أو هو على حذف مضاف تقديره ذو وفاق إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً هذا مثل لا يرجون لقاءنا وقد ذكر «1» كِذَّاباً بالتشديد مصدر بمعنى تكذيب وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة، وهي تكذيب بعضهم لبعض فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نزل في أهل النار أشد من هذه الآية» «2» .
مَفازاً أي موضع فوز يعني الجنة حَدائِقَ أي بساتين وَكَواعِبَ جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها أَتْراباً أي على سن واحد وَكَأْساً دِهاقاً أي ملأى وقيل: صافية والأول أشهر عَطاءً حِساباً أي كافيا من أحسب الشيء إذا كفاه، وقيل:
معناه على حسب أعمالهم رَبِّ السَّماواتِ بالرفع «3» مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر وبالخفض صفة لربك، والرحمن بالخفض صفة، وبالرفع خبر المبتدأ أو خبر ابتداء مضمر لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال ابن عطية: الضمير للكفار أي لا يملكون أن يخاطبوه بمقدرة ولا غيرها، وقيل: المعنى لا يقدرون أن يخاطبهم كقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وقال الزمخشري:
الضمير لجميع الخلق أي ليس بأيديهم شيء من خطاب الله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قيل هو جبريل، وقيل: ملك عظيم يكون هو وحده صفا والملائكة صفا، وقيل: يعني أرواح بني آدم فهو اسم جنس ويوم يتعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون لا يَتَكَلَّمُونَ الضمير للملائكة والروح، أي تمنعهم الهيبة من الكلام إلا من بعد أن يأذن الله لهم. وقول الصواب يكون في ذلك الموطن على هذا. وقيل: الضمير للناس خاصة والصواب المشار إليه قول: لا إله إلا الله أي من قالها في الدنيا ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الحق وجوده ووقوعه فَمَنْ شاءَ
__________
(1) . لا يرجون لقاءنا: وردت في سورة يونس 7، 11، 15، والفرقان: 21. [.....]
(2) . روى الطبري هذا الحديث. بسنده إلى عبد الله بن عمرو في تفسير الآية.
(3) . قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو. وقرأ عاصم وابن عامر: ربّ بالكسر.
(2/446)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
تخصيص وترغيب
اباً قَرِيباً
يعني عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب، أو لأن الدنيا على آخرهاوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
المرء هنا عموم في المؤمن والكافر، وقيل: هو المؤمن وقيل: هو الكافر والعموم أحسن، لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة الآية يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يتمنى أن يكون يوم القيامة ترابا فلا يحاسب ولا يجازى، وقيل: تمنى أن يكون في الدنيا ترابا أي لم يخلق، وروي أن البهائم تحشر ليقتص لبعضهم من بعض ثم ترد ترابا، فيتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها، وهذا يقوّي الأول، وقيل: الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب، مثل آدم وذريته لما رأى ثوابهم، وقد كان احتقر التراب في قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .
(2/447)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
سورة النازعات
مكية وآياتها 46 نزلت بعد النبأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النازعات) اختلف في معنى النازعات والناشطات والسابقات والسابحات والمدبرات، فقيل: إنها الملائكة وقيل: النجوم، فعلى القول بأنها الملائكة سماهم نازعات لأنهم ينزعون نفوس بني آدم من أجسادها، وناشطات لأنهم ينشطونها أي يخرجونها فهو من قولك: نشطت الدلو من البئر: إذا أخرجتها وسابحات لأنهم يسبحون في سيرهم، أي يسرعون فيسبقون فيدبرون أمور العباد، والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمرهم الله وعلى القول بأنها النجوم سماها نازعات لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب، وناشطات لأنها تنشط من برج إلى برج، وسابحات لأنها تسبح في الفلك ومنه كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] فتسبق في جريها فتدبر أمرا من علم الحساب، وقال ابن عطية: لا أعلم خلافا أن المدبرات أمرا الملائكة، وحكى الزمخشري فيها ما ذكرنا. وقد قيل في النازعات والناشطات أنها النفوس، تنزع من معنى النزع بالموت، فتنشط من الأجساد، وقيل: في السابحات والسابقات أنها الخيل وأنها السفن غَرْقاً إن قلنا النازعات الملائكة ففي معنى غرقا وجهان: أحدهما أنها من الغرق أي تغرق الكفار في جهنم، والآخر أنه من الإغراق في الأمر، بمعنى المبالغة فيه، أي تبالغ في نزعها فتقطع الفلك كله، وإن قلنا إنها النفوس، فهو أيضا من الإغراق أي تغرق في الخروج من الجسد، والإعراب غرقا مصدر في موضع الحال، ونشطا وسبحا وسبقا مصادر، وأمرا مفعول به، وجواب القسم محذوف، وهو بعث الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة، وقيل: الجواب يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة على تقدير حذف لام التأكيد، وقيل: هو «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وهذا بعيد لبعده عن القسم، ولأنه إشارة إلى قصة فرعون لا لمعنى القسم.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قيل: الراجفة النفخة الأولى في الصور، والرادفة النفخة الثانية: لأنها تتبعها ولذلك سماها رادفة من قولك: ردفت الشيء إذا تبعته، وفي
(2/448)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
الحديث أن بينهما أربعين عاما، وقيل: الراجفة: الموت والرادفة: القيامة، وقيل: الراجفة الأرض، من قوله تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] والرادفة السماء لأنها تنشق يومئذ. والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر تقديره: لتبعثن يوم ترجف الراجفة وإن جعلنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى قوله قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ وقوله:
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ في موضع الحال، ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب، والوجيف والوجيب بمعنى واحد، وارتفع قلوب بالابتداء وواجفة خبره، وقال الزمخشري: واجفة صفة، والخبر أبصارها خاشعة أَبْصارُها خاشِعَةٌ كناية عن الذل والخوف، وإضافة الأبصار إلى القلوب على تجوز والتقدير: قلوب أصحابها.
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً هذا حكاية قول الكفار في الدنيا، ومعناه على الجملة إنكار البعث، فالهمزة في قوله «أإنا لمردودون» للإنكار. ولذلك اتفق العلماء على قراءته بالهمزتين، إلا أن منهم من سهّل الثانية ومنهم من خففها. واختلفوا في إذا كنا عظاما نخرة فمنهم من قرأه بهمزة واحدة لأنه ليس بموضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم، ثم اختلفوا في معنى الحافرة على ثلاثة أقوال: أحدها أنها الحالة الأولى. يقال: رجع فلان في حافرته إذا رجع إلى حالته الأولى.
فالمعنى أإنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت والآخر أن الحافرة الأرض بمعنى محفورة فالمعنى أإنا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدفن في القبور والثالث أن الحافرة النار والعظام النخرة البالية المتعفنة وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] ناخرة بألف [والباقون] بحذف الألف وهما بمعنى واحد إلا أن حذف الألف أبلغ لأن فعل أبلغ من فاعل وقيل:
معناه العظام المجوفة التي تمر بها الريح فيسمع لها نخير، والعامل في إذا كنا محذوف تقديره إذا كنا عظاما نبعث، ويحتمل أن يكون العامل فيه مردودون في الحافرة ولكن إنما يجوز ذلك على قراءة إذا كنا بهمزة واحدة على الخبر، ولا يجوز على قراءته بهمزتين. لأن همزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ الكرة الرجعة والخاسرة منسوبة إلى الخسران كقوله: عيشة راضية، أي ذات رضى أو معناه خاسر أصحابها ومعنى هذا الكلام أنهم قالوا: إن كان البعث حقا فكرّتنا خاسرة، لأنا ندخل النار.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ يعني النفخة في الصور للقيام من القبور. وهذا من كلام الله تعالى ردّا على الذين أنكروا البعث كأنه يقول: لا تظنوا أنه صعب على الله [بل] هو عليه يسير، فإنما ينفخ نفخة واحدة في الصور فيقوم الناس من قبورهم فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ إذا هنا فجائية والساهرة وجه الأرض، والباء ظرفية والمعنى: إذا نفخ في الصور حصلوا بالأرض أسرع شيء.
(2/449)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] وتنبيه وليس المراد به مجرد الاستفهام طُوىً ذكر في طه: 12 اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ تفسير للنداء هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «1» أن تتطهر من الكفر والذنوب والعيوب والرذائل، وقال بعضهم: تزكى تسلم وقيل: تقول لا إله إلا الله والأول أعم الْآيَةَ الْكُبْرى قلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء، وجعلهما واحدة لأن الثانية تتبع الأولى، ويحتمل أن يريد الأولى وحدها ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى الإدبار كناية عن الإعراض عن الإيمان، ويسعى عبارة عن جده في الكفر، وفي إبطال أمر موسى عليه السلام وقيل: هو حقيقة. أي قام من مجلسه يفر من مجالسة موسى أو يهرب من العصا لما صارت ثعبانا فَحَشَرَ أي جمع جنوده وأهل مملكته فَنادى أي نادى قومه وقال لهم ما قال، ويحتمل أنه ناداهم بنفسه، أو أمر من يناديهم، والأول أظهر. وروى أنه قام فيهم خطيبا فقال ما قال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال مصدر بمعنى التنكيل، والعامل فيه أخذه الله لأنه بمعناه وقيل: العامل محذوف، والآخرة هي: دار الآخرة والأولى: الدنيا فالمعنى نكال الآخرة بالنار ونكال الأولى بالغرق. وقيل: الآخرة قوله: أنا ربكم الأعلى والأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقيل: بالعكس فالمعنى أخذه الله وعاقبه على كلمة الآخرة وكلمة الأولى.
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ هذا توقيف [سؤال] قصد به الاستدلال على البعث فإن الذي خلق السماء قادر على خلق الأجساد بعد فنائها رَفَعَ سَمْكَها السمك: غلظ السماء وهو الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. ومعنى رفعه أنه جعله مسيرة خمسمائة عام وقيل: السّمك السقف فَسَوَّاها أي أتقن خلقتها وقيل: جعلها مستوية ليس فيها مرتفع ولا منخفض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما يقال: غطش الليل إذا أظلم. وأغطشه الله وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أظهر ضوء الشمس في وقت الضحى، وأضاف الضحى والليل إلى السماء من حيث أنهما ظاهران منها وفيها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها واستدل بها من قال: إن الأرض بسيطة غير كروية وقد ذكرنا في فصلت [11] الجمع بين هذا وبين قوله ثم استوى إلى السماء أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ومرعاها نسب الماء والمرعى إلى الأرض، لأنهما يخرجان منها فإن قيل: لم قال
__________
(1) . تزكّى: قرأ نافع وابن كثير: تزّكّى بالتشديد وقرأ الباقون: تزكّى.
(2/450)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
أخرج بغير حرف العطف؟ فالجواب أن هذه الجملة في موضع الحال وتفسير لما قبلها قاله الزمخشري
وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها ونصب الجبال بفعل مضمر يدل عليه الظاهر وكذلك الأرض مَتاعاً لَكُمْ تقديره: فعل ذلك كله تمتيعا لكم منه وَلِأَنْعامِكُمْ لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بما ذكر.
الطَّامَّةُ هي القيامة وقيل: النفخة الثانية واشتقاقها من قولك: طمّ الأمر إذا علا وغلب وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي أظهرت لكل من يرى، فهي لا تخفى على أحد مَقامَ رَبِّهِ ذكر في سورة الرحمن [46] وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي ردها عن شهواتها وأغراضها الفاسدة قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال سهل التستري: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين أَيَّانَ مُرْساها ذكر في الأعراف: 187 فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي من ذكر زمانها فالمعنى لست في شيء من ذكر ذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيرا فلما نزلت هذه الآية انتهى «1» إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها لا يعلم متى تكون إلا هو وحده إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: إنما بعثت لتنذر بها، وليس عليك الإخبار بوقتها، وخص الإنذار بمن يخشاها لأنه هو الذي ينفعه الإنذار لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أخبر أنهم إذا رأوا الساعة ظنوا أنهم لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا عشية يوم أو ضحى يوم، وأضاف الضحى كذلك إلى العشية لما بينهما من الملابسة إذ هما في يوم واحد.
__________
(1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره للآية.
(2/451)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
سورة عبس
مكية وآياتها 42 نزلت بعد النجم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة عبس) سبب نزول صدر هذه السورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إسلام قريش، وكان يدعو أشرافهم إلى الله تعالى ليسلموا فيسلم بإسلامهم غيرهم، فبينما هو مع رجل من عظمائهم قيل: هو الوليد بن المغيرة وقيل: عتبة بن ربيعة وقيل: أمية بن خلف، وقال ابن عباس: كانوا جماعة إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم عنه بتشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع الأعمى كلامه، فعبس وأعرض عنه.
وذهب الرجل الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم بعد ذلك يقول: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه، وقد استخلفه على المدينة مرتين عَبَسَ وَتَوَلَّى أي عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه، قال ابن عطية: في مخاطبته بلفظ الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال الزمخشري: في الإخبار بالغيبة زيادة في الإنكار، وقال غيرهما، هو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه له عن المخاطبة بالعتاب وهذا أحسن أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى في موضع مفعول من أجله، وهو منصوب بتولى أو عبس. وذكر ابن أم مكتوم بلفظ الأعمى ليدل أن عماه هو الذي أوجب احتقاره، وفي هذا دليل على أن ذكر هذه العاهات جائز إذا كان لمنفعة، أو يشهد صاحبها ومنه قول المحدثين:
سليمان الأعمش، وعبد الرحمن الأعرج وغير ذلك وَما يُدْرِيكَ أي أيّ شيء يطلعك على حال هذا الأعمى لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر وينتفع في دينه بما يسمع منك «1» .
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى «2» أي تتعرّض للغنى رجاء أن يسلم وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا حرج عليك أن لا يتزكى هذا الغني وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى إشارة إلى عبد الله بن أم مكتوم، ومعنى يسعى يسرع في مشيه من حرصه في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى الله أو يخاف
__________
(1) . في الآية التالية: أو يذكر فتنفعه الذكرى: قرأ عاصم بفتح العين والباقون: بالضم: فتنفعه.
(2) . قوله: تصدى: قرأها نافع وابن كثير: تصّدّى بالتشديد والباقون بالتخفيف.
(2/452)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
الكفار وإذايتهم له على اتباعك، وقيل: جاء وليس معه من يقوده، فكان يخشى أن يقع وهذا ضعيف
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تشتغل عنه بغيره من قولك: لهيت عن الشيء إذا تركته، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأدّب بما أدبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير ولا تعرّض لغني، وكذلك اتبعه فضلاء العلماء، فكان الفقراء في مجلس سفيان الثوري كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنون أن يكونوا فقراء.
كَلَّا ردع عن معاودة ما وقع العتاب فيه إِنَّها تَذْكِرَةٌ فيه وجهان، أحدهما: أن هذا الكلام المتقدّم تذكرة أو موعظة للنبي صلى الله عليه وسلم، والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا ينبغي أن يؤثر فيه أحد على أحد، وهذا أرجح لأنه يناسبه: فمن شاء ذكره، وما بعده، وأنث الضمير في قوله: إنها تذكرة على معنى القصة أو الموعظة أو السورة أو القراءة، وذكّرها في قوله: فمن شاء ذكره على معنى الوعظ أو الذكرى والقرآن فِي صُحُفٍ صفة لتذكرة أي ثابتة في صحف، وهي الصحف المنسوخة من اللوح المحفوظ وقيل: هي مصاحف المسلمين مَرْفُوعَةٍ إن كانت الصحف المصاحف فمعناه مرفوعة المقدار، وإن كانت صحف الملائكة فمعناه كذلك، أو مرفوعة في السماء ومطهرة أي منزهة عن أيدي الشياطين بِأَيْدِي سَفَرَةٍ هي الملائكة، والسفرة جمع سافر وهو الكاتب لأنهم يكتبون القرآن، وقيل: لأنهم سفراء بين الله وبين عبيده، وقيل: يعني القرّاء من الناس. والأول أرجح. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة «1» أي أنه يعمل مثل عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أو له من الأجر على القرآن مثل أجورهم.
قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه على ما جرت به عادة العرب من الدعاء بهذا اللفظ، ومعناه تقبيح حاله، وأنه ممن يستحق أن يقال له ذلك، وقيل: معناه لعن وهذا بعيد ما أَكْفَرَهُ تعجيب من شدّة كفره، مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ توقيف [سؤال] وتقرير ثم أجاب عنه بقوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ يعني المني ومقصد الكلام تحقير الإنسان ومعناه أنه يجب عليه أن يعظم الرب الذي خلقه فَقَدَّرَهُ أي هيأه لما يصلح له ومنه: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان: 2] ، وقيل: معناه جعله على مقدار معلوم في إعطائه وأجله ورزقه وغير ذلك ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ نصب السبيل بفعل مضمر فسره يسره، وفي معناه ثلاثة أقوال أحدها: يسر سبيل خروجه من بطن أمه والآخر أنه سبيل الخير والشر لقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ، الثالث سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان، والأول أرجح لعطفه على قوله: من نطفة خلقه فقدره
__________
(1) . الحديث رواه أحمد عن عائشة في ج 6 ص 239.
(2/453)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
وهو قول ابن عباس
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر يقال قبرت الميت إذا دفنته، وأقبرته إذا أمرت أن يدفن ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي بعثه من قبره يقال: نشر الميت إذا قام، وأنشره الله والإشارة إذا شاء ليوم القيامة، أي الوقت الذي يقدر أن ينشره فيه.
كَلَّا ردع للإنسان عما هو فيه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يقض الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، قال بعضهم: لا يقضي أحد أبدا جميع ما افترض الله عليه إذ لا بدّ للعبد من تفريط فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أمر بالاعتبار في الطعام كيف خلقه الله بقدرته ويسره برحمته، فيجب على العبد طاعته وشكره ويقبح معصيته والكفر به، وقيل:
فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا، فينظر حقارة الدنيا وخساسة نفسه، والأول أشهر، وأظهر في معنى الآية على أن القول الثاني صحيح وانظر كيف فسره بقوله أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «1» وما بعده ليعدّد النعم ويظهر القدرة، وقرئ إنا صببنا الماء بفتح الهمزة على البدل من الطعام ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ يعني يخرج البنات منها حَبًّا يعني القمح والشعير وسائر الحبوب وَقَضْباً قيل: هي الفصفصة، وقيل: هي علف البهائم واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطبا غُلْباً أي غليظة ناعمة وَأَبًّا الأبّ المرعى عند ابن عباس والجمهور، وقيل: التبن وقد توقف في تفسيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
الصَّاخَّةُ القيامة وهي مشتقة من قولك: صخ الأذن إذا أصمها بشدة صياحه، فكأنه إشارة إلى النفخة في الصور، أو إلى شدة الأمر حتى يصخ من يسمعه لصعوبته وقيل: هي من قولك: أصاخ للحديث إذا استمعه، والأول هو الموافق للاشتقاق يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ الآية ذكر فرار الإنسان من أحبابه، ورتبهم على ترتيبهم في الحنو والشفقة فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإنسان أشد شفقة على بنيه من كل من تقدم ذكره وإنما يفر منهم لاشتغاله بنفسه وقيل: إن فراره منهم لئلا يطالبوه بالتبعات والأول أرجح وأظهر، لقوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي هو مشغول بشأنه من الحساب والثواب والعقاب، حتى لا يسعه ذكر غيره، وانظر قول الأنبياء عليهم السلام، يومئذ نفسي نفسي وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار، والقترة أيضا الغبار. قال ابن عطية:
الغبرة من العبوس والكرب، كما يقتر وجه المهموم والمريض، والقترة هي غبار الأرض، وقال الزمخشري: الغبرة: غبار يعلوها، والقترة سواد فيعظم قبحها باجتماع الغبار والسواد.
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: أنا صببنا بفتح الهمزة والباقون بكسرها.
(2/454)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
سورة التكوير
مكية وآياتها 29 نزلت بعد المسد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة التكوير) ذكر الله في هذه السورة أهوال القيامة، وما يعتري الموجودات حينئذ من التغيير إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس: ذهب ضوءها وأظلمت وقيل: رمى بها وقيل: اضمحلت وأصله من تكوير العمامة لأنها إذا لفت زال انبساطها وصغر جرمها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تساقطت من مواضعها، وقيل: تغيرت والأول أرجح لأنه موافق لقوله وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وروي أن الشمس والنجوم تطرح في جهنم ليراها من عبدها، كما قال إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي حملت وبعد ذلك تفتتت فتصير هباء ثم تتلاشى وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ العشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل التي مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب وأعزها فلا تعطل إلا من شدة الهول، وتعطيلها هو تركها سائبة أي ترك حلبها وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت وفي صفة حشرها ثلاثة أقوال: أحدها أنها تحشر أي تبعث يوم القيامة، ليقتص لبعضها من بعض ثم تكون ترابا. والآخر أنها تحشر بموتها دفعة واحدة عند هول القيامة قاله ابن عباس وقال: إنها لا تبعث وأنه لا يحضر القيامة إلا الإنس والجن والثالث أنها تجمع في أول أهوال القيامة وتفر «1» في الأرض فذلك حشرها.
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «2» فيه ثلاثة أقوال: أحدها ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا والآخر ملئت نيرانا لتعذيب أهل النار والثالث فرغت من مائها ويبست وأصله من سجرت التنور إذا ملأتها فالقول الأول والثاني أليق بالأصل. والأول والثالث موافق لقوله فجرت وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن التزويج بمعنى
__________
(1) . كذا في الأصل ولعل الصواب: تقر أو تفرّق والله أعلم.
(2) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: سجرت بدون تشديد والباقون بالتشديد.
(2/455)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
التنويع لأن الأزواج هي الأنواع، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن والثاني زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور العين والثالث زوجت الأرواح والأجساد أي ردت إليها عند البعث والأول هو الأرجح، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب وابن عباس
وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ الموؤدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته لها، ومن غيرته عليها فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت على وجه التوبيخ لقاتلها، وقرأ ابن عباس وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بضم القاف وسكون اللام وضم التاء واستدل ابن عباس بهذه الآية على أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله ينتصر لهم ممن ظلمهم وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ «1» هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل أحد كتابه، وقبل: هي الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ الكشط هو التقشير كما يكشط جلدة الشاة حين تسلخ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل قاله ابن عطية وقيل: معناه كشفت وهذا أليق بالكشط وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ «2» أي أوقدت وأحميت.
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ هذا جواب إذا المكررة في المواضع قبل هذا، ومعناه علمت كل نفس ما أحضرت من عمل، فلفظ النفس مفرد يراد به الجنس والعموم وقال ابن عطية: إنما أفردها ليبين حقارتها وذلتها وقال الزمخشري: هذا من عكس كلامهم الذي يقصد به الإفراط فيما يعكس عنه رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر:
2] ومعناه التكثير، وكذلك هنا معناه أعم الجموع ما أَحْضَرَتْ عبارة عن الحسنات والسيئات فَلا أُقْسِمُ ذكرت نظائره بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ يعني الدراري السبعة وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والمشتري والزهرة وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر، فيكون النجم في البرج ثم يكرّ راجعا وهي جواري في الفلك، وهي تنكنس في أبراجها أي تستتر وهو مشتق من قولك: كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو موضعه وقيل: يعني الدراري الخمسة لأنها تستتر بضوء الشمس وقيل: يعني النجوم كلها، لأنها تخنس في جريها وتنكنس بالنهار أي تستر، وتختفي بضوء الشمس. وقيل: يعني بقر الوحش، فالخنس على هذا من خنس الأنف والكنس من سكناها في كناسها وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ يقال عسعس إذا كان غير مستحكم الظلام فقيل: ذلك في أوله وقيل: في آخره وهذا أرجح، لأن آخر الليل أفضل ولأنه أعقبه بقوله وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي استطار واتسع
__________
(1) . نشرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتخفيف والباقون نشّرت بالتشديد.
(2) . سعّرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد والباقون سعرت بالتخفيف.
(2/456)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ضوؤه
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل: محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال السهيلي: لا يجوز أن يقال إنه محمد عليه السلام لأن الآية نزلت في الرد على الذين قالوا إن محمدا قال القرآن فكيف يخبر الله أنه قوله، وإنما أراد جبريل.
وأضاف القرآن إليه لأنه جاء به، وهو في الحقيقة قول الله تعالى وهذا الذي قال السهيلي لا يلزم، فإنه قد يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه تلقاه عن جبريل عليه السلام، وجاء به إلى الناس، ومع ذلك فالأظهر أنه جبريل وصفه بقوله: ذي قوة وقد وصف جبريل بهذا لقوله شديد القوى وذو مرة عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ يتعلق بذي قوة، وقيل: بمكين، وهذا أظهر والمكين الذي له مكانة أي جاه وتقريب مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذا الظرف إشارة إلى الظرف المذكور قبله. وهو عند ذي العرش أي مطاع في ملائكة ذي العرش وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ هو محمد صلى الله عليه وسلم باتفاق وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ضمير الفاعل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضمير المفعول لجبريل عليه السلام، وهذه الرؤية له بغار حراء على كرسي بين السماء والأرض. وقيل: الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، ووصف هذا الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، وأيضا فكل أفق فهو مبين وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم. ومن قرأ بالضاد فمعناه بخيل أي لا يبخل بأداء ما ألقى إليه من الغيب، وهو الوحي، ومن قرأ بالظاء «1» فمعناه متهم أي لا يتهم على الوحي، بل هو أمين عليه. ورجح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى البخل بالوحي بل اتهموه فنفى عنه ذلك وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ الضمير للقرآن فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ خطاب لكفار قريش أي ليس لكم زوال عن هذه الحقائق. وقد تقدم تفسير بقية السورة في نظائره فيما تقدم.
__________
(1) . بظنين: هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون بالضاد: بضنين.
(2/457)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
سورة الانفطار
مكية وآياتها 19 نزلت بعد النازعات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الإنفطار) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي سقطت من مواضعها وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فرغت وقيل: فجر بعضها إلى بعض فاختلط وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي نبشت على الموتى الذين فيها، وقال الزمخشري: أصله من البعث والبحث فضمت إليها الراء والمعنى بحثت وأخرج موتاها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا هو الجواب ومعناه: علمت كل نفس جميع أعمالها، وقيل ما قدمت في حياتها وما أخرت مما تركته بعد موتها من سنّتها أو وصيّة أوصت بها، وأفردت النفس والمراد به العموم حسبما ذكرنا في التكوير.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب لجنس بني آدم ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هذا توبيخ وعتاب معناه: أي شيء غرّك بربك حتى كفرت به أو عصيته، أو غفلت عنه فدخل في العتاب الكفار وعصاة المؤمنين، ومن يغفل عن الله في بعض الأحيان من الصالحين. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ ما غرّك بربك الكريم فقال: غرّه جهله وقال عمر:
غرّه جهله وحمقه. وقرأ إنه كان ظلوما جهولا، وقيل: غرّه الشيطان المسلط عليه. وقيل:
غرّه ستر الله عليه وقيل: غرّه طمعه في عفو الله عنه. ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن كل واحد منهما مما يغرّ الإنسان، إلا أن بعضها يغرّ قوما وبعضها يغر قوما آخرين فإن قيل: ما مناسبة وصفه بالكريم هنا للتوبيخ على الغرور؟ فالجواب أن الكريم ينبغي أن يعبد ويطاع شكرا لإحسانه ومقابلة لكرمه، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر النعمة وأضاع الشكر الواجب فَعَدَلَكَ «1» بالتشديد والتخفيف أي عدل أعضاءك وجعلها متوازية فلم يجعل إحدى اليدين أطول من الأخرى، ولا إحدى العينين أكبر من الأخرى ولا إحداهما كحلاء
__________
(1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف والباقون بالتشديد. [.....]
(2/458)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
والأخرى زرقاء ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود وشبه ذلك من الموازنة
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ المجرور يتعلق بركبك وما زائدة، والمعنى ركبك في أي صورة شاء من الحسن والقبح، والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك من اختلاف الصور، ويحتمل أن يتعلق المجرور بمحذوف تقديره: ركبك حاصلا في أي صورة وقيل: يتعلق بعدلك على أن يكون بمعنى صرفك إلى أي صورة شاء هذا بعيد، ولا يمكن إلا مع قراءة عدلك بالتخفيف.
كَلَّا ردع عن الغرور المذكور قبل، والتكذيب المذكور بعد بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ هذا خطاب للكفار والدين هنا يحتمل أن يكون بمعنى الشريعة أو الحساب أو الجزاء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يعني الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعلمون الأعمال لمشاهدتهم لها، وأما ما لا يرى ولا يسمع من الخواطر والنيات والذكر بالقلب فقيل: إن الله ينفرد بعلم ذلك، وقيل إن الملك يجد لها ريحا يدركها به إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ في هذه الآية وفيما بعدها من أدوات البيان المطابقة والترصيع وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ فيه قولان: أحدهما أن معناه لا يخرجون منها إذا دخلوها والآخر لا يغيبون عنها في البرزخ قبل دخولها لأنهم يعرضون عليها غدوا وعشيا وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تعظيم له وتهويل، وكرّره للتأكيد والمعنى أنه من شدته بحيث لا يدري أحد مقدار هوله وعظمته يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي لا يقدر أحد على منفعة أحد وقرأ [ابن كثير وأبو عمرو] يوم بالرفع على البدل من يوم الدين، أو على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على الظرفية بإضمار فعل تقديره فعل يجازون يوم الدين أو النصب على المفعولية بإضمار فعل تقديره اذكر، ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في موضع رفع.
(2/459)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
سورة المطففين
مكية وآياتها 36 نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة المطففين) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف في اللغة هو البخس والنقص وفسره بذلك الزمخشري واختاره ابن عطية وقيل: هو تجاوز الحد في زيادة أو نقصان واختاره ابن الفرس وهو الأظهر لأن المراد به هنا بخس حقوق الناس في المكيال والميزان، بأن يزيد الإنسان على حقه أو ينقص من حق غيره، وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطى بالأنقص، فالسورة على هذا مدنية وقيل مكية لذكر أساطير الأولين وقيل: نزل بعضها بمكة. ونزل أمر التطفيف بالمدينة إذ كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله بهذه السورة الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ معنى اكتالوا على الناس قبضوا منهم بالكيل فعلى بمعنى من وإنما أبدلت منها لما تضمن الكلام من معنى التحامل عليهم، ويجوز أن يتعلق على الناس بيستوفون وقدم المفعول لإفادة التخصيص وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ معنى يخسرون ينقصون حقوق الناس وهو من الخسارة، يقال: خسر الرجل وأخسره غيره إذا جعله يخسر، وكالوهم معناه: كالوا لهم أو وزنوهم معناه وزنوا لهم، ثم حذف حرف الجرّ فانتصب المفعول لأن هذين الفعلين يتعدى كل واحد منهما تارة بنفسه وتارة بحرف الجرّ يقال: كلتك وكلت لك ووزنتك ووزنت لك بمعنى واحد. وحذف المفعول الثاني، وهو المكيل والموزون، والواو التي هي ضمير الفاعل للمطففين والهاء الذي هي ضمير المفعول للناس. فالمعنى إذا كالوا أو وزنوا لهم طعاما أو غيره مما يكال أو يوزن يخسرونهم حقوقهم، وقيل: إن هم في كالوهم أو وزنوهم تأكيد للضمير الفاعل وروي عن حمزة أنه كان يقف على كالوا ووزنوا ثم يبتدئ هم ليبين هذا المعنى وهو ضعيف من وجهين، أحدهما: أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد الواو في كالوا ووزنوا فدلّ ذلك على أن هم ضمير المفعول. والآخر أن المعنى على هذا أن المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا، وليس ذلك بمقصود لأن الكلام واقع في الفعل لا في المباشر، ألا ترى أنّ اكتالوا على الناس معناه: قبضوا منهم
(2/460)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
وكالوهم أو وزنوهم معناه: دفعوا لهم. فقابل القبض بالدفع. وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن المقصود، قال ابن عطية: ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائعين وليس ذلك بالجلي. قال: صدر الآية في المشترين، فهم الذين يستوفون أو يشاحّون ويطلبون الزيادة. وقوله: وإذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري.
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة، وهذا تهديد للمطففين وإنكار لفعلهم، وكان عبد الله بن عمر إذا مر بالبائع يقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ الظرف منصوب بقوله: مبعوثون وقيل: بفعل مضمر أو بدل من يوم عظيم، وقيام الناس يوم القيامة على حسب اختلافهم، فمنهم من يقوم خمسين ألف سنة وأقل من ذلك حتى أن المؤمن يقوم على قدر الصلاة مكتوبة كَلَّا ردع عن التطفيف أو افتتاح كلام إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ كتاب الفجار هو ما يكتب من أعمالهم، والفجار هنا يحتمل أن يريد به الكفار أو المطففين وإن كانوا مسلمين، والأول أظهر لقوله بعد هذا: ويل يومئذ للمكذبين.
وسجين اسم علم منقول من صفة على وزن فعيل للمبالغة، وقد عظم أمره بقوله: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ، ثم فسره بأنه كِتابٌ مَرْقُومٌ أي مسطور بين الكتابين وهو كتاب جامع يكتب فيه أعمال الشياطين والكفار، والفجار وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس، لأنه سبب الحبس والتضييق، في جهنم ولأنه في مكان الهوان والعذاب كالسجن، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الأرض السفلى، وروي عنه أنه في بئر هناك، وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية أن عدد الفجار في سجين أي كتبوا هنالك في الأزل أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قد ذكر بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» أي غطى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي وفي الحديث «2» : أن العبد إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه فإذا زاد ذنب آخر زاد السواد فلا يزال كذلك حتى يتغطى وهو الرين لَمَحْجُوبُونَ حجب
__________
(1) . بل ران: قرأها حفص بإظهار اللام وقرأ الباقون بالإدغام، كما أنّ الألف في ران قرأها بالإمالة حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأها الباقون بغير إمالة.
(2) . الحديث مشهور وقد رواه الإمام الطبري بعدة ألفاظ قريبة بسنده إلى أبي هريرة لدى تفسيره للآية.
وذكره المناوي وعزاه لأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة بأسانيد صحيحة.
(2/461)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
الكفار عن الله، على أن المؤمنين لا يحجبون وقد استدل بها مالك والشافعي على صحة رؤية المؤمن لله في الآخرة، وتأولها المعتزلة أن معناها محجوبون عن رحمته «1»
إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ عليّون اسم علم للكتاب الذي تكتب فيه الحسنات، وهذا جمع منقول من صفة علي، على وزن فعيل للمبالغة وقد عظمه بقوله: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم فسره بقوله:
كِتابٌ مَرْقُومٌ وهو مشتق من العلوّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه مرفوع في مكان علي، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تحت العرش، وقال ابن عباس: هو الجنة وارتفع كتاب مرقوم في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب، وقال ابن عطية:
كتاب مرقوم خبر إن والظرف ملغى وهذا تكلف يفسد به المعنى، وقد روى في الأثر ما روي في الآية وهو أن الملائكة تصعد بصحيفة فيها عمل العبد فإن رضيه الله قال اجعلوه في عليين، وإن لم يرضه قال اجعلوه في سجين يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة المقربين (الْأَرائِكِ) قد ذكر (يَنْظُرُونَ) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ينظرون إلى أعدائهم في النار وقيل:
ينظرون إلى الجنة وما أعطاهم الله فيها نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته ورونقه، كما يرى في وجوه أهل الرفاهية العافية والخطاب في تعرف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل مخاطب من غير تعيين.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ الرحيق الخمر الصافية، والمختوم فسره الله بأن ختامه مسك، وقرئ ختامه بألف بعد التاء، وخاتمه بألف بعد الخاء وبفتح التاء وكسرها وفي معناه ثلاثة أقوال: أحدها أنه من الختم على الشيء، بمعنى جعل الطابع عليه فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك، كما يختم على أفواه آنية الدنيا بالطين إذا قصد حفظها، وصيانتها الثاني أنه من ختم الشيء أي تمامه فمعناه: خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته الثالث أن معناه مزاجه مسك أي مزج الشراب بالمسك، وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ التنافس في الشيء هو الرغبة فيه، والمغالاة في طلبه والتزاحم عليه وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ تسنيم اسم لعين في الجنة، يشرب منها المقربون صرفا، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار، فالمقربون هم السابقون والأبرار هم أصحاب اليمين عَيْناً منصوب على المدح بفعل مضمر، أو على الحال من تسنيم يَشْرَبُ بِهَا بمعنى يشربها فالباء زائدة ويحتمل أن يكون بمعنى يشرب منها أو كقولك شربت الماء بالعسل.
__________
(1) . قول المعتزلة صادق بالنسبة إليهم، فهم محجوبون عن رحمة الله لأنهم حكموا عقولهم في النصوص.
(2/462)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ نزلت هذه الآية في صناديد قريش، كأبي جهل وغيره مر بهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أي يغمز بعضهم إلى بعض ويشير بعينيه، والضمير في مروا يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار، والضمير في يتغامزون للكفار لا غير فاكهين «1» من الفكاهة وهي اللهو، أي يتفكرون بذكر المؤمنين، والاستخفاف بهم قاله الزمخشري. ويحتمل أن يريد يتفكهون بنعيم الدنيا وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي إذا رأى الكفار المؤمنين نسبوهم إلى الضلال، وقيل: إذا رأى المؤمنون الكفار نسبوهم إلى الضلال والأول أظهر وأشهر وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي ما أرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وكأنه قال كلامهم بالمؤمنين فضول منهم فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ يعني باليوم يوم القيامة إذ قد تقدم ذكره، فيضحك المؤمنون فيه من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ معنى ثوب جوزي يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع مفعول ينظرون، فتوصل مع ما قبلها أو تكون توقيفا [سؤالا] فيوقف قبلها ويكون معمول ينظرون محذوفا حسبما ذكرنا في ينظرون الذي قبل هذا وهذا أرجح لاتفاق الموضعين.
__________
(1) . قرأ حفص وحده: فكهين بدون ألف، والمعنى واحد.
(2/463)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
سورة الانشقاق
مكية وآياتها 25 نزلت بعد الانفطار بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الانشقاق) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ اختلف في هذا الانشقاق هل هو تشققها بالغمام أو انفتاحها أبوابا، وجواب إذا محذوف ليكون أبلغ في التهويل، إذ يقدّر السامع أقصى ما يتصوره، وحذف للعلم به، اكتفاء بما في سورة التكوير والانفطار من الجواب. وقيل: الجواب ما دل عليه فملاقيه: أي إذا السماء انشقت لقي الإنسان ربه، وقيل: الجواب أذنت على زيادة الواو وهذا ضعيف وَأَذِنَتْ لِرَبِّها معنى أذنت في اللغة: استمعت، وهو عبارة عن طاعتها لربها، وأنها انقادت لله حين أراد انشقاقها، وكذلك طاعة الأرض لما أراد مدّها وإلقاء ما فيها وَحُقَّتْ أي حق لها أن تسمع وتطيع لربها، أو حق لها أن تنشق من أهوال القيامة، وهذه الكلمة من قولهم: هو حقيق بكذا، أو محقوق به. أي: عليه أن يفعله فالمعنى:
يحق على السماء أن تسمع وتطيع لربها، أو يحق عليها أن تتشقق، ويحتمل أن يكون أصله حققت بفتح الحاء وضم القاف على معنى التعجب، ثم أدغمت القاف في القاف التي بعدها ونقلت حركتها إلى الحاء وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي زال ما عليها من الجبال حتى صارت مستوية وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي ألقت ما في جوفها من الموتى للحشر، وقيل: ألقت ما فيها من الكنوز. وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال قبل القيامة، والمقصود ذكر يوم القيامة، وتخلت أي بقيت خالية مما كان فيها.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب للجنس إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ الكدح في اللغة هو: الجد والاجتهاد والسرعة، فالمعنى أنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك، لأن الزمان يطير، وأنت في كل لحظة تقطع حظا من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرع إلى الموت، ثم تلاقي ربك، وقيل: المعنى إنك ذو جد فيما تعمل من خير أو شر، ثم تلقى ربك فيجازيك به والأول أظهر، لأن كادح تعدى بإلى لما تضمن معنى السير، ولو كان بمعنى العمل لقال: لربك فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ذكر في الحاقة
فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً
(2/464)
يحتمل أن يكون اليسير بمعنى قليل، أو بمعنى هيّن سهل، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نوقش الحساب عذّب. فقالت عائشة ألم يقل الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك العرض وأما من نوقش الحساب فيهلك «1» . وفي الحديث أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه فيقول: فعلت كذا وكذا ويعدد عليه ذنوبه ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم «2» ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «من حاسب نفسه في الدنيا هون الله عليه حسابه يوم القيامة» «3» وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي يرجع إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعطاه الله، والأهل: زوجاته في الجنة من نساء الدنيا أو من الحور العين، ويحتمل أن يريد قرابته من المؤمنين، وبذلك فسره الزمخشري.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ يعني: الكافر. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان من فضلاء المؤمنين وفي أخيه أسود، وكان من عتاة الكافرين، ولفظها أعم من ذلك فإن قيل: كيف قال في الكافر هنا أن يؤتى كتابه وراء ظهره وقال في الحاقة بشماله؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه، وقيل: تدخل يده اليسرى في صدره وتخرج من ظهره فيأخذ بها كتابه يَدْعُوا ثُبُوراً أي يصيح بالويل والثبور «4» إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي كان في الدنيا مسرورا مع أهله، متنعما غافلا عن الآخرة، وهذا في مقابلة ما حكي عن المؤمن أنه ينقلب إلى أهله مسرورا في الجنة، وهو ضد ما حكي عن المؤمنين في الجنة من قولهم: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لا يرجع إلى الله، والمعنى أنه يكذب بالبعث بَلى أي يحور ويبعث فَلا أُقْسِمُ ذكر في نظائره بِالشَّفَقِ هي الحمرة التي تبقى بعد غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: هو البياض، وقيل: هو النهار كله. وهذا ضعيف والأول هو المعروف عند الفقهاء وعند أهل اللغة وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضم، ومنه الوسق «5» ، وذلك أن الليل يضم الأشياء ويسترها
__________
(1) . الحديث رواه أحمد عن عائشة ج 6 ص 48.
(2) . رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 57.
(3) . لم أعثر عليه ومعناه صحيح.
(4) . الآية: ويصلى سعيرا هكذا قرأها أبو عمرو وعاصم وحمزة وقرأها الباقون: ويصلّى بالتشديد.
(5) . مكيال يساوي 60 صاعا والصاع: 3 أمداد. والوسق يساوي تقريبا أكثر بقليل من 120 كيلو غرام.
(2/465)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
بظلامه
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي إذا كمل ليلة أربعة عشر، ووزن اتسق افتعل وهو مشتق من الوسق، فكأنه امتلأ نورا. وفي الآية من أدوات البيان لزوم ما لا يلزم، لالتزام السين قبل القاف في وسق واتسق.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ الطبق في اللغة له معنيان: أحدهما ما طابق غيره. يقال:
هذا طبق لهذا إذا طابقه والآخر جمع طبقة فعلى الأول يكون المعنى لتركبن حالا بعد حال كل واحدة منها مطابقة للأخرى، وعلى الثاني يكون المعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات بعضها فوق بعض، ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال، وفي قراءة تركبن فأما من قرأ بضم الباء «1» فهو خطاب لجنس الإنسان، وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال أحدها أنها شدائد الموت ثم البعث ثم الحساب ثم الجزاء والآخر أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم إلى أن يهرم ثم يموت والثالث لتركبن سنن من كان قبلكم. وأما من قرأ تركبنّ بفتح الباء فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا، وقيل: هي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال أحدها: لتركبن مكابدة الكفار حالا بعد حال، والآخر: لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شيء والثالث لتركبن السموات في الإسراء [سماء] بعد سماء وقوله: عن طبق في موضع الصفة لطبقا أو في موضع حال من الضمير في تركبن قاله الزمخشري.
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الضمير لكفار قريش، والمعنى أي شيء يمنعهم من الإيمان وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها وليست عند مالك من عزائم السجدات الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المذكورين ووضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالكفر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب أو بما يجمعون في صحائفهم، يقال أوعيت المال وغيره إذا جمعته فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وضع البشارة في موضع النذارة تهكما بهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني من قضى له بالإيمان من هؤلاء الكفار، فالاستثناء على هذا متصل، وإلى هذا أشار ابن عطية وقال الزمخشري هو منقطع أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قد ذكر.
__________
(1) . وهم معظم القراء ما عدا ابن كثير وحمزة والكسائي فإنهم قرءوها بفتح الباء.
(2/466)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
سورة البروج
مكية وآياتها 22 نزلت بعد الشمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البروج) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ البروج هي المنازل المعروفة وهي اثنا عشر، تقطعها الشمس في السنة، وقيل: هي النجوم العظام، لأنها تتبرج أي تظهر وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو يوم القيامة باتفاق، وقد ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر، أو يكون من معنى الحضور، وحذف المعمول وتقديره:
مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود فيه.
وقد اضطرب الناس في تفسير الشاهد والمشهود اضطرابا عظيما، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولا، الأول: أن الشاهد هو الله تعالى لقوله وكفى بالله شهيدا والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم والآخر أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها والثالث أن يكون يوم القيامة، بمعنى أنه يشهد فيه أي يحضر للحساب والجزاء، أو تقع فيه الشهادة على الناس، القول الثاني: أن الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله:
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الحج: 78] والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته لأنه يشهد عليهم أو أعمالهم، لأنه يشهد بها أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه، أي يحضر أو تقع فيه الشهادة على الأمة، القول الثالث: أن الشاهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] والمشهود على هذا سائر الأمم لأنهم يشهدون عليهم أو أعمالهم أو يوم القيامة، القول الرابع أن الشاهد هو عيسى عليه السلام والمشهود أمته لقوله: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] أو أعمالهم، أو يوم القيامة.
الخامس أن الشاهد جميع الأنبياء، والمشهود أممهم لأن كل نبيّ يشهد على أمته، أو يشهد القول بأعمالهم أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه، القول السادس أن الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود على هذا الناس لأن الملائكة يشهدون عليهم أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها أو يوم القيامة، أو صلاة الصبح لقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78]
(2/467)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
القول السابع أن الشاهد جميع الناس، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي يحضرونها، والمشهود يوم القيامة لقوله وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] والقول الثامن أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها، لقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] أو الأعمال لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة لأن الشهادة تقع فيه، القول التاسع أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] والمشهود به الوحدانية، القول العاشر: الشاهد جميع المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك، القول الحادي عشر أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث: لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد وهو النجم «1» والمشهود على هذا الليل والنهار لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل القول الثاني عشر أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الناس الذين يحجون. القول الثالث عشر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس «2» ، القول الرابع عشر أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر قاله علي بن أبي طالب.
القول الخامس عشر أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. القول السادس عشر أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة.
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الكلام هنا في ثلاثة فصول: الأول في جواب القسم وفيه أربعة أقوال أحدها أنه قوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» والثاني أنه «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذان القولان ضعيفان لبعد القسم من الجواب، وثالثها أنه «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» تقديره: لقد قتل ورابعها أنه محذوف يدل عليه قتل أصحاب الأخدود تقديره: لقد قتل هؤلاء الكفار كما قتل أصحاب الأخدود، وذلك أن الكفار من قريش كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام، فذكر الله قصة أصحاب الأخدود وعيدا للكفار وتأنيسا للمسلمين المعذبين، الفصل الثاني في تفسير لفظها، فأما قتل فاختلف هل هو دعاء أو خبر؟ واختلف هل هو بمعنى القتل حقيقة أو بمعنى اللعن؟ وأما الأخدود فهو الشق في الأرض كالخندق وشبهه، وأما أصحاب الأخدود فيحتمل أن يريد بهم الكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، أو يريد المؤمنين الذين حرقوا فيه، فيكون القتل حقيقة خبر، أو الأول أظهر. الفصل الثالث في قصة أصحاب الأخدود وفيها أربعة أقوال: الأول ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل معناه: أن ملكا كافرا أسلم أهل بلده، فأمر
__________
(1) . الحديث رواه أحمد ج 6 ص 397، عن أبي بصرة الغفاري.
(2) . رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس.
(2/468)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
بالأخدود فخدّ في أفواه السكك وأضرم فيها النيران فقال: من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق. الثاني أن ملكا زنى بأخته ثم أراد أن يحلل للناس نكاح الأخوات فأطاعه قوم ومنهم أخذ المجوس ذلك، وعصاه قوم فحفر لهم الأخدود فأحرقهم فيه بالنار القول الثالث أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشيا، وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود.
القول الرابع أن أصحاب الأخدود ذو نواس المذكور في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير «ويحتمل أن يكون ذو نواس الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيتفق هذا القول مع الأول فإن ذا نواس حفر أخدودا فأوقد فيه نيرانا وألقى فيها كل من وحد الله تعالى واتبع العبد الصالح عبد الله بن التامر.
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ النار بدل من الأخدود، وهو بدل اشتمال، والوقود ما توقد به النار، والقصد وصف النار بالشدة والعظم إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ الضمير للكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، وهم أصحاب الأخدود على الأظهر. والعامل في إذ قوله:
قتل فروي أن النار أحرقت من المؤمنين عشرين ألفا، وقيل: سبعين ألفا فقتل على هذا بمعنى لعن أي لعنوا حين قعدوا على النار لتحريق المؤمنين، وروي أن الله بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكفار الذين كانوا عليها، فقتل على هذا بمعنى القتل الحقيقي أي قتلتهم النار وقيل: الضمير في إذ هم للمؤمنين، والأول أشهر وأظهر لقوله: وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه فعل ما أمره الملك من التحريق، أو يشهدون بذلك على أنفسهم يوم القيامة، أو يكون بمعنى الحضور أي كانوا حاضرين على ذلك الفعل وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله، وهذا لا ينبغي أن ينكر. فإن قيل: لم قال أن يؤمنوا بلفظ المضارع ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي لأن القصة قد وقعت؟ فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل فكأنه قال: إلا أن يدوموا على الإيمان.
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنة هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفار قريش فالفتنة بمعنى المحنة، والتعذيب وهذا أظهر لقوله: ثم لم يتوبوا لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم من أسلم وتاب، وفي الآية دليل على أن الكافر إذا أسلم يغفر له ما فعل في
(2/469)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
حال كفره لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجبّ ما قبله «1» وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ يحتمل أن يكون في الآخرة، فيكون تأكيدا لعذاب جهنم، أو نوعا من العذاب زيادة إلى عذاب جهنم. ويحتمل أن يريد في الدنيا، وذلك على رواية أن الكفار أصحاب الأخدود أحرقتهم النار
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ البطش الأخذ بقوة وسرعة إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يبدئ الخلق بالنشأة الأولى، ويعيدهم بالنشأة الآخرة للبعث وقيل: يبدئ البطش ويعيده أي يبطش بهم في الدنيا والآخرة والأول أظهر وأرجح لقوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس: 4] وقد ذكرنا الودود في [مقدمة] اللغات ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أضاف العرش إلى الله وخصه بالذكر لأن العرش أعظم المخلوقات، والمجيد من المجد وهو الشرف ورفعة القدر، وقرئ المجيد بالرفع صفة لذو العرش وقرأ حمزة والكسائي بالخفض صفة للعرش هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] يراد به التنبيه وتعظيم الأمر، والمراد بذكر الجنود تهديد الكفار وتأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ تهديد لهم معناه لا يفوتونه بل يصيبهم عذابه إذا شاء فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يعني اللوح المحفوظ الذي في السماء وقرئ محفوظ بالخفض صفة للوح وقرأ نافع محفوظ بالرفع صفة للقرآن، أي حفظه الله من التبديل والتغيير، أو حفظه المؤمنون في صدورهم.
__________
(1) . الحديث سبق تخريجه وهو في قصة إسلام عمرو بن العاص راجع سيرة ابن هشام.
(2/470)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
سورة الطارق
مكية وآياتها 17 نزلت بعد البلد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الطارق) وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ هذه السماء التي أقسم الله بها هي المعروفة. وقيل: أراد المطر لأن العرب قد تسميه سماء، وهذا بعيد والطارق في اللغة ما يطرق أي يجيء ليلا، وقد فسره الله هنا بأنه النجم الثاقب وهو يطلع ليلا ومعنى الثاقب: المضيء أو المرتفع فقيل:
أراد جنس النجوم وقيل: الثريا لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم وقيل: زحل إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ هذا جواب القسم ومعناه عند الجمهور: أن كل نفس من بني آدم عليها حافظ يكتب أعمالها، يعني: الملائكة الحفظة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: أن لكل نفس حفظة من الله يذبون عنها كما يذب عن العسل، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الآفات والشياطين» «1» وإن صح هذا الحديث فهو المعوّل عليه.
وقرئ لما عليها بتخفيف الميم، وعلى هذا تكون إن مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد وما زائدة وقرئ لمّا بالتشديد «2» وعلى هذا تكون إن نافية ولما بمعنى الإيجاب بعد النفي.
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ حذف ألف ما لأنها استفهامية وجوابها خلق من ماء دافق، وسمي المني ماء دافقا من الدفق، بمعنى الدفع فقيل: معناه مدفوق وصاحبه هو الدافق في الحقيقة قال سيبويه: هو على النسب أي ذو دفق، وقال ابن عطية: يصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا، ومقصود الآية إثبات الحشر، فأمر الإنسان أن ينظر أصل خلقته ليعلم أن الذي خلقه من ماء دافق قادر على أنه يعيده، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها، أعقبه بالتنبيه على الحشر حيث تجازى كل نفس بأعمالها يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ الضمير في يخرج للماء وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للإنسان، وهذا بعيد جدا والترائب: عظام الصدر واحدها: تريبة وقيل: هي الأطراف كاليدين والرجلين، وقيل: هي عصارة القلب، ومنها
__________
(1) . لم أعثر عليه. [.....]
(2) . قرأ لمّا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بدون تشديد.
(2/471)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يكون الولد، وقيل: هي الأضلاع التي أسفل الصلب، والأول هو الصحيح المعروف في اللغة، ولذلك قال ابن عباس: هي موضع القلادة ما بين ثديي المرأة، ويعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وقيل: أراد صلب الرجل وترائب المرأة
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان، والمعنى: أن الله قادر على رجع الإنسان حيا بعد موته، والمراد إثبات البعث.
يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ يعني: يوم القيامة، والسرائر جمع سريرة وهي ما أسرّ العبد في قلبه من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها هو تعرّفها والاطلاع عليها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة وهذه معظمها. فلذلك خصّها بالذكر، والعامل في يوم قوله: رجعه أي يرجعه يوم تبلى السرائر، واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر في العمل، وقيل: العامل قادر واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أن البعث إنما يقع في ذلك اليوم. وقال من احترز من الاعتراضين في القولين المتقدمين: العامل فعل مضمر من المعنى تقديره: يرجعه يوم تبلى السرائر، وهذا كله على المعنى الصحيح في رجعه، وأما على الأقوال الأخر فالعامل في يوم مضمر تقديره: اذكر فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ الضمير للإنسان، ولما كان دفع المكاره في الدنيا إما بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبره الله أنه يعدمها يوم القيامة وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ المراد بالرجع عند الجمهور المطر وسماه رجعا بالمصدر، لأنه يرجع كل عام أو لأنه يرجع إلى الأرض، وقيل: الرجع السحاب الذي فيه المطر، وقيل: هو مصدر رجوع الشمس والكواكب من منزلة إلى منزلة وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ يعني ما تصدع عنه الأرض من النبات، وقيل: يعني ما في الأرض من الشقاق والخنادق وشبهها إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ الضمير للقرآن، لأن سياق الكلام يقتضيه، والفصل معناه الذي فصل بين الحق والباطل كما قيل له: فرقان. والهزل: اللهو يعني أنه جدّ كله إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً الضمير لكفار قريش، وكيدهم هو ما دبروه في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإضرار به وإبطال أمره وَأَكِيدُ كَيْداً هذا تسمية للعقوبة باسم الذنب، للمشاكلة بين الفعلين فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل عليهم بالعقوبة لهم أو بالدعاء عليهم، وهذا منسوخ بالسيف أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي إمهالا يسيرا قليلا يعني إلى قتلهم يوم بدر، أو إلى الدار الآخرة، وجعله يسيرا، لأن كل آت قريب، ولفظ رويدا هذا صفة لمصدر محذوف، وقد تقع بمعنى الأمر بالتساهل كقولك: رويدا يا فلان، وكرّر الأمر في قوله أمهلهم وخالف بينه وبين لفظ مهل لزيادة التسكين والتصبير قاله الزمخشري.
(2/472)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
سورة الأعلى
مكية وآياتها 19 نزلت بعد التكوير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الأعلى جل جلاله) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى التسبيح في اللغة التنزيه وذكر الاسم هنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد المسمى ويكون الإسم صلة كالزائد، ومعنى الكلام سبح اسم ربك أي نزهه عما لا يليق به، وقد يتخرج ذلك على قول من قال: إن الإسم هو المسمى، والآخر أن يكون الإسم مقصودا بالذكر، ويحتمل المعنى على هذا أربعة أوجه، الأول:
تنزيه أسماء الله تعالى عن المعاني الباطلة كالتشبيه والتعطيل، الثاني: تنزيه أسماء الله عن أن يسمى بها صنم أو وثن: الثالث: تنزيه أسماء الله عن أن تدرك في حال الغفلة دون خشوع.
الرابع أن المراد قول سبحان الله، ولما كان التسبيح باللسان لا بدّ فيه من ذكر الإسم أوقع التسبيح على الإسم، وهذا القول هو الصحيح، ويؤيده ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحان ربي الأعلى وأنها لما نزلت قال: اجعلوها في سجودكم. فدل ذلك على أن المراد هو التسبيح باللسان مع موافقة القلب، ولا بدّ في التسبيح باللسان من ذكر اسم الله تعالى فلذلك قال: سبح اسم ربك الأعلى مع أن التسبيح في الحقيقة إنما هو لله تعالى لا لاسمه، وإنما ذكر الإسم لأنه هو الذي يوصل به إلى التسبيح باللسان. وعلى هذا يكون موفقا في المعنى لقوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الواقعة: 74] لأن معناه نزّه الله بذكر اسمه ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس أن معنى سبح: صل باسم ربك أي صل واذكر في الصلاة اسم ربك، والأعلى يحتمل أن يكون صفة للرب أو للاسم والأول أظهر.
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى حذف مفعول خلق وسوّى لقصد الإجمال الذي يفيد العموم والمراد خلق كل شيء فسوّاه، أي أتقن خلقته وانظر ما ذكرنا في قوله: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 7] وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قدّر بالتشديد يحتمل أن يكون من القدر والقضاء، أو من التقدير، والموازنة بين الأشياء، وقرأ الكسائي بالتخفيف فيحتمل أن يكون من القدرة أو التقدير، وحذف المفعول ليفيد العموم. فإن كان من التقدير فالمعنى: قدّر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به، وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم
(2/473)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
للمراتع، وهذه الأقوال أمثلة والأول أعم وأرجح، فإن هداية الإنسان وسائر الحيوانات إلى مصالحها باب واسع فيه عجائب وغرائب، وقال الفراء: المعنى هدى وأضلّ واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى وهذا بعيد
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى المرعى هو النبات الذي ترعاه البهائم، والغثاء هو النبات اليابس المحتطم، وأحوى معناه أسود وهو صفة لغثاء. والمعنى أن الله أخرج المرعى أخضر فجعله بعد خضرته غثاء أسود، لأن الغثاء إذا قدم تعفن واسودّ، وقيل: إن أحوى حال من المرعى، ومعناه: الأخضر الذي يضرب إلى السواد وتقديره: الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، وفي هذا القول تكلف.
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه، وفي ذلك معجزة له عليه الصلاة والسلام لأنه كان أميا لا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام من القرآن، وقيل: معنى الآية كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
[القيامة: 16] الآية: فإنه عليه الصلاة والسلام كان يحرك به لسانه إذا أقرأه جبريل، خوفا أن ينساه فضمن الله له أن لا ينساه، وقيل: فلا تنسى نهي عن النسيان، وقد علم الله أن ترك النسيان ليس في قدرة البشر، فالمراد الأمر بتعاهده حتى لا ينساه. وهذا بعيد لإثبات الألف في تنسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه وجهان: أحدهما أن معناه لا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه كقوله: أو ننسها البقرة: 106 والآخر: أنه لا ينسى شيئا ولكن قال: إلا ما شاء الله تعظيما لله بإسناد الأمر إليه كقوله في الأنعام: 128 خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ على بعض الأقوال وعبر الزمخشري: عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي، والأول أظهر فإن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن، أو فيما قضى الله أن ينساه ثم يذكره، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشير رحمه الله: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد نسّيتها وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى عطف على سنقرئك ومعناه نوفقك للأمور المرضية التي توجب لك السعادة، وقيل: معناه للشريعة اليسرى من قوله عليه الصلاة والسلام: دين الله يسر «1» أي سهل لا حرج فيه.
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى المراد بهذا الشرط توبيخ الكفار الذين لا تنفعهم الذكرى، واستبعاد تأثير الذكرى في قلوبهم كقولك: قد أوصيتك لو سمعت، وقيل: المعنى: ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. واقتصر على أحد القسمين لدلالة الآخر عليه، وهذا بعيد
__________
(1) . قال المناوي: رواه البخاري بلفظ: إن الدين يسر.
(2/474)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
وليس عليه الرونق الذي على الأول
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي من يخاف الله يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
يعني الكافر وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة، والضمير المفعول للذكرى النَّارَ الْكُبْرى هي نار جهنم وسماها كبرى بالنظر إلى نار الدنيا، وقيل: سماها كبرى بالنظر إلى غيرها من نار جهنم، فإنها تتفاضل، وبعضها أكبر من بعض وكلا القولين صحيح. إلا أن الأول أظهر. ويؤيده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءا من نار جهنم «1» ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنيئة، وعطف هذه الجملة بثم لأن هذه الحالة أشد من صلي النار فكأنها بعده في الشدة.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يحتمل أن يكون بمعنى الطهارة من الشرك والمعاصي، أو بمعنى الطهارة للصلاة أو بمعنى أداء الزكاة وعلى هذا قال جماعة: إنها يوم الفطر والمعنى أدّى زكاة الفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام وصلى صلاة العيد، وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل المراد أدى زكاة ماله وصلى الصلوات الخمس «2» إِنَّ هذا الإشارة إلى ما ذكر من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، أو إلى ما تضمنته السورة أو إلى القرآن بجملته، والمعنى أنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين كما ثبت في هذا الكتاب.
__________
(1) . رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة.
(2) . الآية: بل تؤثرون الحياة الدنيا: قرأ أبو عمرو: بل يؤثرون. بالياء.
(2/475)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
سورة الغاشية
مكية وآياتها 26 نزلت بعد الذاريات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الغاشية) هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] يراد به التنبيه والتفخيم للأمر، قيل: هل بمعنى قد وهذا ضعيف الْغاشِيَةِ هي القيامة لأنها تغشى جميع الخلق، وقيل: هي النار من قوله: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ابراهيم: 50] وهذا ضعيف لأنه ذكر بعد ذلك قسمين أهل الشقاوة وأهل السعادة خاشِعَةٌ أي ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ هو من النصب بمعنى التعب، وفي المراد بهم ثلاثة أقوال: أحدهما أنهم الكفار ويحتمل على هذا أن يكون عملهم ونصبهم في الدنيا لأنهم كانوا يعملون أعمال السوء ويتعبون فيها، أو يكون في الآخرة فيعملون فيها عملا يتعبون فيه من جر السلاسل والأغلال وشبه ذلك ويكون زيادة في عذابهم: الثاني: أنها في الرهبان الذين يجتهدون في العبادة ولا تقبل منهم، لأنهم على غير الإسلام وبهذا تأولها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا. فعاملة ناصبة على هذا في الدنيا وناصبة إشارة إلى اجتهادهم في العمل، أو إلى أنه لا ينفعهم فليس لهم منه إلا النصب. الثالث أنها في القدرية. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القدرية فبكى وقال إن فيهم المجتهد «1» .
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي شديدة الحر، ومنه حميم آن، [الرحمن: 44] ووزن آنية هنا فاعلة بخلاف آنية من فضة فإن وزنه أفعلة لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ في الضريع أربعة أقوال: أحدهما أنه شوك يقال له الشبرق وهو سم قاتل وهذا أرجح لأقوال لأن أرباب اللغة ذكروه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الضريع شوك في النار. الثاني: أنه الزقوم لقوله:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. [الدخان: 43] الثالث: أنه نبات أخضر منتن ينبت في البحر وهذا ضعيف، الرابع أنه واد في جهنم وهذا ضعيف لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام إنما هو شراب، ولله در من قال: الضريع طعام أهل النار فإنه أعم وأسلم من عهدة التعيين.
واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة، بمعنى المشابهة لأنه يشبه الطعام الطيب وليس به،
__________
(1) . في الآية بعدها: تصلى نارا حامية. قرأ أبو عمرو وأبو بكر: تصلى. لتتوازن مع: تسقى التي بعدها.
(2/476)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
وقيل: هو بمعنى مضرع للبدن أي مضعف وقيل: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ، فإن قيل: كيف قال هنا: ليس لهم طعام إلا من ضريع وقال في الحاقة: ولا طعام إلا من غسلين؟ فالجواب أن الضريع لقوم والغسلين لقوم، أو يكون أحدهما في حال والآخر في حال
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ هذه الجملة صفة لضريع، ولطعام نفي عنه منفعة الطعام وهي التسمين وإزالة الجوع.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي متنعمة في الجنة أو يظهر عليها نضرة النعيم لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي راضية في الآخرة لأجل سعيها وهو عملها في الدنيا فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ يحتمل أن يكون من علو المكان أو من علو المقدار أو الوجهين لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «1» هو من لغو الكلام ومعناه الفحش وما يكره، فيحتمل أن يريد كلمة لاغية أو جماعة لاغية فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يحتمل أن يريد جنس العيون أو واحدة شرّفها بالتعيين وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ قد ذكرنا أكواب ومعنى موضوعة: حاضرة، معدة بشرابها وفي قوله: مرفوعة وموضوعة مطابقة وَنَمارِقُ جمع نمرقة وهي الوسادة وَزَرابِيُّ هي بسط فاخرة [السجّاد في اصطلاح اليوم] وقيل: هي الطنافس واحدها زربية مَبْثُوثَةٌ أي متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها وقيل:
مبسوطة أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ حض على النظر في خلقتها لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها وشرب ألبانها، وأبوالها وغير ذلك. وقيل: أراد بالإبل السحاب وهذا بعيد وإنما حمل قائله عليه مناسبتها للسماء والأرض والجبال. والصحيح أن المراد الحيوان المعروف، وإنما ذكره لما فيه من العجائب، ولاعتناء العرب به إذ كانت معايشهم في الغالب منه، وهو أكثر المواشي في بلادهم لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي قاهر متسلط وهذا من المنسوخ بالسيف إِلَّا مَنْ تَوَلَّى استثناء منقطع معناه لكن من تولى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ وقيل هو استثناء من مفعول فذكر، والمعنى ذكر كل أحد إلا من تولى حتى يئست منه فهو على هذا متصل، وقيل: هو استثناء من قوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي لا تسلط إلا على من تولى وكفر، وهو على هذا متصل ولا نسخ فيه إذ لا موادعة فيه وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم والآية تهديد.
__________
(1) . الآية قوله: لا تسمع فيها لاغية: قرأها أهل الشام والكوفة هكذا وقرأها نافع: لا تسمع بضم التاء وقرأها ابن كثير وأبو عمر: لا يسمع بالياء.
(2/477)
وَالْفَجْرِ (1)
سورة الفجر
مكية وآياتها 30 نزلت بعد الليل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفجر) وَالْفَجْرِ أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح، وقيل:
أراد صلاة الفجر وقيل: أراد النهار كله، وقيل: فجر يوم الجمعة وقيل: فجر يوم النحر، وقيل: فجر ذي الحجة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل: أراد انفجار العيون من الحجارة وهذا هذا بعيد والأول أظهر وأشهر وَلَيالٍ عَشْرٍ هي عشر ذي الحجة عند الجمهور وقيل العشر الأول من المحرم وفيها عاشوراء وقيل: العشر الأواخر من رمضان، وقيل العشر الأول منه وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنها الصلوات منها شفع ووتر «1» وقيل: الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة الواحدة المعروفة وقيل: الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد وقيل: الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى، وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة، وقيل الشفع قران الحج والوتر إفراده، وقيل المراد الأعداد منها شفع ووتر فهذه عشرة أقوال، وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها وهما لغتان «2» وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «3» أي إذا يذهب فهو كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم: ليله قائم والمراد على هذا ليلة جمع لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ هذا توقيف [سؤال] يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها. والحجر هنا هو: العقل. كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم محذوف وهو ليأخذنّ الله
__________
(1) . الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى عمران بن الحصين.
(2) . قرأ حمزة والكسائي: والوتر: بكسر الواو والباقون بفتحها.
(3) . يسر: قرأها أهل الكوفة والشام بدون ياء وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالياء في الوصل وابن كثير في الوقف والوصل.
(2/478)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
الكفار ويدل على ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون
إِرَمَ هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها، كما يقال: هاشم لبني هاشم، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى، فإن عادا الثانية لا يسمون بهذا الإسم. وقيل: إرم اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف تقديره: بعاد عاد إرم، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة من تنوين عاد وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث ذاتِ الْعِمادِ من قال إرم قبيلة قال: العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عمود وقال ابن عباس: ذلك كناية عن طول أبدانهم ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها وقيل القصور والأبراج الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساما يقال: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع [كذا] أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله في البلاد ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا، وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام، وكان عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة، وكانت هذه المدينة باليمن.
وروي أن بعض المسلمين مر بها في خلافة معاوية، وقيل: هي دمشق وقيل:
الإسكندرية وهذا ضعيف جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ «1» أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتا والوادي ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيها ماء، وقيل: أراد وادي القرى وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ذكر في سورة داود (ص) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوبا على الذم أو خبر ابتداء مضمر فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ استعارة السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره. قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهون من عذاب الآخرة، كما أن السوط أهون من القتل إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان، وكل زمان ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديد لكفار قريش وغيرهم، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه، وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه، والإنسان هنا جنس وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على
__________
(1) . الواد: قرأ ابن كثير وورش: بالوادي بإثبات الياء في الوصل وابن كثير في الوقف أيضا والباقون بدون ياء مطلقا.
(2/479)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
العموم، فيمن كان على هذه الصفة وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير، ثم ذكر بعده ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء: 35] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ وأنكر عليه قوله حين الخير: ربي أكرمني وقوله حين الشر: ربي أهانني ويتعلق بالآية سؤالان:
السؤال الأول: لم أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني «1» والجواب من وجهين: أحدهما: أن الإنسان يقول: ربي أكرمني على وجه الفخر بذلك والكبر، لا على وجه الشكر ويقول: ربي أهانني على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك، فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر.
والآخر: أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك.
السؤال الثاني: إن قيل: قد قال الله فأكرمه فأثبت إكرامه، فكيف أنكر عليه قوله ربي أكرمني؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشكر، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار. الثاني أنه أنكر عليه قوله: ربي أكرمني إذا اعتقد أن إكرام الله له باستحقاقه الإكرام، على وجه التفضل والإنعام كقول قارون: إنما أوتيته على علم عندي [القصص:
78] الثالث أن الإنكار إنما هو لقوله: ربي أهانني لا لقوله ربي أكرمني فإن قوله ربي أكرمني اعتراف بنعمة الله، وقوله: ربي أهانني شكاية من فعل الله
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيقه وقرئ بتشديد الدال «2» وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم.
كَلَّا زجر عما أنكر من قول الإنسان بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ «3» هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب ببل، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا اليتيم وما ذكر بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم «4»
ولا تحضون على طعام المسكين»
الحض على
__________
(1) . قوله: أكرمن، وأهانن: قرأ نافع والبزي عن ابن كثير بإثبات الياء وصلا: أكرمني وأهانني وابن كثير في الوقف أيضا.
(2) . قرأ ابن عامر وحده بالتشديد: فقدّر.
(3) . قرأ ابن عامر وحده بالتشديد: فقدّر.
(4) . الحديث: أورده في التيسير بلفظ: خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه. وعزاه للبخاري في الأدب المفرد عن عمر بسند ضعيف. [.....]
(5) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون.
(2/480)
الأمر هو الترغيب فيه، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو، كأنه ذم لترك طعام المسكين، والطعام هنا بمعنى الإطعام، وقيل: هو على حذف مضاف تقديره: لا تحضون على بذل طعام المسكين، وقرئ تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضا وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا «1» التراث هو ما يورث عن الميت من المال، والتاء فيه بدل من الواو، واللم: الجمع واللف، والتقدير: أكلا ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا بل ينفرد به الرجال وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا «2» أي شديدا كثيرا وهذا ذم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه.
دُكَّتِ الْأَرْضُ أي سوّيت جبالها دَكًّا دَكًّا أي دكا بعد دكّ كما تقول: تعلمت العلم بابا بابا وَجاءَ رَبُّكَ تأويله عند المتأولين: جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل وَالْمَلَكُ هو اسم فإنه روي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفا حول الأرض صَفًّا صَفًّا أي صفا بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: يؤتي يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها «3» يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يومئذ بدل من إذا دكت ويتذكر هو العامل وهو جواب إذا دكت، والمعنى: أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا، ويندم على تفريطه وعصيانه، والإنسان هنا جنس، وقيل: يعني عتبة بن ربيعة، وقيل: أمية بن خلف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم حين لم تنفعه الندامة يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فيه وجهان: أحدهما أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملا صالحا للآخرة، والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى: يا ليتني قدمت عملا صالحا وقت حياتي، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ من قرأ بكسر الذال من يعذب، والثاء من يوثق فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى والمعنى: أن الله
__________
(1) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون.
(2) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون.
(3) . هذا الحديث رواه المنذري موقوفا على ابن عباس وعزاه لتفسير آدم بن أبي إياس ورواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود بلفظ قريب.
(2/481)
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
يتولى عذاب الكفار ولا يكله إلى أحد، ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي وروي أن أبا عمرو رجع إليها وهي قراءة حسنة، وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الموقنة يقينا قد اطمأنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في الإيمان، وقيل: المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار، والأول أرجح، لما روي أن أبا بكر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال له: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك عند موتك راضِيَةً معناه راضية بما أعطاها، أو راضية عن الله، ومعنى المرضية مرضية عند الله، أو أرضاها الله بما أعطاها فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين. وقرئ فادخلي في عبدي بالتوحيد [الإفراد] معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس، ونزلت هذه الآية في حمزة. وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة.
(2/482)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
سورة البلد
مكية وآياتها 20 نزلت بعد ق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البلد) لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أراد مكة باتفاق، وأقسم بها تشريفا لها ولا زائدة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى أنت حالّ بهذا البلد أي ساكن، لأن السورة نزلت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، والآخر أن معنى حلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: لا أقسم يعني لا أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أحل لي ساعة من نهار «1» يعني يوم فتح مكة، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فإن قيل: إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل: إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه أراد آدم وجميع ولده، الثاني نوح وولده، الثالث إبراهيم وولده، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وولده، الخامس جنس كل والد ومولود وإنما قال: وما ولد ولم يقل ومن ولد: إشارة إلى تعظيم المولود كقوله:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] قاله الزمخشري لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم: لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده وقيل: معنى في كبد واقفا منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على هذين القولين جنس، وقيل:
__________
(1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج 1 ص 315.
(2/483)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
الإنسان آدم عليه السلام، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فيه قولان: أحدهما أن معناه أيظن أن لن يقدر أحد على بعثه وجزائه، والآخر: أيظن أن لن يقدر أحد أن يغلبه، فعلى الأول: نزلت في جنس الإنسان الكافر، وعلى الثاني: نزلت في رجل معين وهو أبو الأشد رجل من قريش، كان شديد القوة، وقيل: عمرو بن عبد ودّ وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا، وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة بالضم والكسر بمعنى الكثرة: ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفارات، فقال لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله: أهلكت مالا لبدا أو إشارة إلى أنه أنفقه رياء.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر فهو كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ، ليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وقيل: يعني ثديي الأم فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بشدّة ومشقة، والعقبة عبارة عن الأعمال، الصالحة المذكورة بعد، وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس، وقيل: هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال ولا هنا تخصيص بمعنى هلا وقيل: هي دعاء، وقيل: هي نافية واعترض هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها، وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا وقال الزجاج قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها بالإطعام وقرئ فك رقبة بضم الكاف وخفض الرقبة، وهو على هذا تفسير للعقبة وبفتح الكاف ونصب الرقبة وهو تفسير لاقتحم وفك الرقبة: هو عتقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار «1» وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به فقال: فك الرقبة وأعتق النسمة فقال الأعرابي: أليس هذا واحدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إعتاق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها، وأما فك أسارى المسلمين من أيدي
__________
(1) . الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة عن التيسير للمناوي.
(2/484)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
الكافرين فإنه أعظم أجرا من العتق لأنه واجب، ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ولكنه لا يجري في الكفارات عن عتق رقبة
أَوْ إِطْعامٌ من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بالعطف مصدر على مصدر ومن قرأ فك بالفتح قرأ أطعم بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا حاجة، يقال ترب الرجل إذا افتقر، وهو مأخوذ من الصدقة بالتراب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الذي مأواه المزابل.
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق. والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله، وكأن هذا إشارة إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم، وقيل: الرحمة كل ما يؤدي إلى رحمة الله الْمَيْمَنَةِ جهة اليمين والْمَشْأَمَةِ جهة الشمال، وروي أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان الهمزة وترك الهمزة [يعني: مؤصده وبها قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وقرأ الباقون: موصدة] .
(2/485)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
سورة الشمس
مكية وآياتها 15 نزلت بعد القدر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة والشمس) وَالشَّمْسِ وَضُحاها الضحى ارتفاع الضوء وكماله، والضحاء بالفتح والمد بعد ذلك إلى الزوال وقيل: الضحى النهار كله، والأول هو المعروف في اللغة وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها وفي اتباعه لها ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتبعها في كثرة الضوء، لأنه أضوء الكواكب بعد الشمس «1» ، ولا سيما ليلة البدر والآخر أنه يتبعها في طلوعه لأنه يطلع بعد غروبها، وذلك في النصف الأول من الشهر والضمير الفاعل للنهار، لأن الشمس تنجلي بالنهار فكأنه هو الذي جلّاها وقيل: الضمير الفاعل لله وقيل: الضمير المفعول للظلمة أو الأرض أو الدنيا، وهذا كله بعيد لأنه لم يتقدم ما يعود الضمير عليه وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغطيها وضمير المفعول للشمس وضمير الفاعل لليل على الأصح وَالسَّماءِ وَما بَناها قيل: إن ما في قوله وما بناها وما طحاها وما سوّاها موصولة بمعنى من والمراد الله تعالى وقيل: إنها مصدرية كأنه قال: والسماء وبنيانها، وضعف الزمخشري ذلك بقوله: فألهمها فإن المراد الله باتفاق، وهذا القول يؤدي إلى فساد النظم، وضعّف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق فإن قيل: لم عدل عن من إلى قوله ما في قول من جعلها موصولة؟ فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصفية كأنه قال والقادر الذي بناها طَحاها أي مدها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها تسوية النفس إكمال عقلها وفهمها، فإن قيل: لم نكّر النفس؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد الجنس كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ التكوير: [14] والآخر أنه أراد نفس آدم والأول هو المختار فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي عرّفها طريق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
__________
(1) . القمر تابع للأرض وليس كوكبا. وقوة نوره بسبب قربه من الأرض.
(2/486)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها هذا جواب القسم عند الجمهور، وقال الزمخشري:
الجواب محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما دمدم على قوم ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام، قال: وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وهذا بعيد، والفاعل بزكاها ضمير يعود على من، والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه أي طهّرها من الذنوب والعيوب، وقيل: الفاعل ضمير الله تعالى، والأول أظهر،
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي حقرها بالكفر والمعاصي، وأصله دسس بمعنى: أخفى فكأنه أخفى نفسه لما حقرها وأبدل من السين الأخيرة حرف علة كقولهم: قصّيت أظفاري وأصله قصصت بِطَغْواها هو مصدر بمعنى الطغيان قلبت فيه الياء واوا على لغة من يقول: طغيت والباء الخافضة كقولك كتبت بالقلم أو سببية، والمعنى بسبب طغيانها وقال ابن عباس معناها ثمود بعذابها ويؤيده قوله: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها العامل في إذ كذبت أو طغواها ومعنى انبعث: خرج لعقر الناقة بسرعة ونشاط، وأشقاها: هو الذي عقر الناقة وهو أحيمر ثمود واسمه قدار بن سالف، ويحتمل أن يكون أشقاها واقعا على جماعة، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته يستوي فيه الواحد والجمع والأول أظهر وأشهر.
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه السلام ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقة الله، أو احذروا ناقة الله وسقياها، شربها من الماء فَعَقَرُوها نسب العقر إلى جماعة لأنهم اتفقوا عليه وباشره واحد منهم فَدَمْدَمَ عبارة عن إنزال العذاب بهم وفيه تهويل بِذَنْبِهِمْ أي بسبب ذنبهم وهو التكذيب أو عقر الناقة فَسَوَّاها قال ابن عطية معناه فسوّى القبيلة في الهلاك لم يفلت أحد منهم وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة أي سواها بينهم وَلا يَخافُ عُقْباها ضمير الفاعل لله تعالى والضمير في عقباها للدمدمة والتسوية وهو الهلاك: أي لا يخاف عاقبة إهلاكهم، ولا درك [مسؤولية] عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقار لهم وقيل: إن ضمير الفاعل لصالح وهذا بعيد وقرأ أشقاها فلا يخاف بالفاء وبالواو وقيل: في القراءة بالواو الفاعل أشقاها. والجملة في موضع الحال أي انبعث ولم يخف عقبى فعلته وهذا بعيد.
(2/487)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
سورة الليل
مكية وآياتها 21 نزلت بعد الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الليل) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغطي وحذف المفعول وهو الشمس لقوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أو النهار لقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 53] أو كل شيء يستره الليل وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر وتبين والنهار من طلوع الشمس واليوم من طلوع الفجر وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما بمعنى من والمراد بها الله تعالى وعدل عن من لقصد الوصف كأنه قال: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى وقيل: هي مصدرية وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم ومعناه إن عملكم مختلف فمنه حسنات ومنه سيئات، وشتى جمع شتيت فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي أعطى ماله في الزكاة والصدقة وشبه ذلك، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقى الله وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالخصلة الحسنة وهي الإسلام، ولذلك عبّر عنها بعضهم بأنها لا إله إلا الله، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، وقيل: يعني الأجر والثواب على الإطلاق وقيل: يعني الخلف على المنفق فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي نهيئه للطريقة اليسرى، وهي فعل الخيرات وترك السيئات وضد ذلك تيسيره للعسرى ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «1» أي يهيؤه الله لما قدر له ويسهل عليه فعل الخير أو الشر وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى أي بخل بماله أو بطاعة الله على الإطلاق فيحتمل الوجهين لأنه في مقابلة أعطى كما أن استغنى في مقابلة اتقى، وكذلك كذب بالحسنى في مقابلة صدق بالحسنى، ونيسره للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى، ومعنى استغنى: استغنى عن الله فلم يطعه واستغنى بالدنيا عن الآخرة، ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق، لأنه أنفق ماله في مرضات الله، وكان يشتري من أسلم من العبيد فيعتقهم، وقيل نزلت في أبي الدحداح وهذا ضعيف،
__________
(1) . رواه أحمد ج 1 ص 157 عن عدد من الصحابة منهم علي وجابر وابن مسعود وذو اللحية الكلابي.
(2/488)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
لأنها مكية وإنما أسلم أبو الدحداح بالمدينة، وقيل إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حرب، وهذا ضعيف لقوله: فسنيسره للعسرى وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى هذا نفي، أو استفهام بمعنى الإنكار.
واختلف في معنى تردّى على أربعة أقوال: الأول تردّى أي هلك، فهو مشتق من الردى وهو الموت، أو تردّى أي سقط في القبر، أو سقط في جهنم، أو تردى بأكفانه من الرداء إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي بيان الخير والشر، وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية خلافا للمعتزلة فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى خطاب من الله أو من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على تقدير: قل لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى استدل المرجئة بهذه الآية على أن النار لا يدخلها إلا الكفار لقوله: الذي كذب وتولى.
وتأولها الناس بثلاثة أوجه أحدها أن المعنى لا يصلاها صلي خلود إلا الأشقى، والآخر أنه أراد نارا مخصوصة الثالث. أنه أراد بالأشقى كافرا معينا وهو أبو جهل وأمية بن خلف، وقابل به الأتقى وهو أبو بكر الصديق فخرج الكلام مخرج المدح والذم على الخصوص، لا مخرج الإخبار على العموم يَتَزَكَّى من أداء الزكاة أو من الزكاة، أي يصير زكيا عند الله، أو يتطهر من ذنوبه، وهذا الفعل بدل من يؤتى ماله أو حال من الضمير وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي لا يفعل الخير جزاء على نعمة أنعم بها عليه أحد فيما تقدم، بل يفعله ابتداء خالصا لوجه الله، وقيل: المعنى لا يقصد جزاء من أحد في المستقبل على ما يفعل، والأول أظهر ويؤيده ما روي أن سبب الآية أن أبا بكر الصديق لما أعتق بلالا قالت قريش: كان لبلال عنده يد متقدمة فنفى الله قولهم إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ استثناء منقطع وَلَسَوْفَ يَرْضى وعد بأن يرضيه في الآخرة.
(2/489)
وَالضُّحَى (1)
سورة الضحى
مكية وآياتها 11 نزلت بعد الفجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة والضحى) وَالضُّحى ذكر في الشمس وضحاها وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فيه أربعة أقوال: إذا أقبل، وإذا أدبر، وإذا أظلم، وإذا سكن أي استقر واستوى، أو سكن فيه الناس والأصوات ومنه: ليلة ساجية إذا كانت ساكنة الريح، وطرف ساج أو ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب في الاشتقاق وهو اختيار ابن عطية ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى بتشديد الدال من الوداع وقرئ بتخفيفها بمعنى: ما تركك والوداع مبالغة في الترك وَما قَلى أي ما أبغضك، وحذف ضمير المفعول من قلى وآوى وهدى وأغنى اختصارا، لظهور المعنى ولموافقة رؤوس الآي. وسبب الآية أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبطأ عليه الوحي، فقالت قريش: إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت الآية: تكذيبا لهم وقيل: رمي عليه الصلاة والسلام بحجر في إصبعه فدميت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم: فقالت امرأة:
ما أرى شيطان محمد إلا قد تركه فنزلت الآية: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي الدار الآخرة خير لك من الدنيا، قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالآخرة حاله بعد نزول هذه السورة، ويريد بالأولى حاله نزولها، وهذا بعيد والأول أظهر وأشهر.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت إذا لا أرضى أن يبقى واحد من أمتي في النار، قال بعضهم: هذه أرجى آية في القرآن، وقال ابن عباس: رضاه أن الله وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم وقيل: رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره والصحيح أنه وعد يعمّ كل ما أعطاه الله في الآخرة، وكل ما أعطاه في الدنيا من النصر والفتوح وكثرة المسلمين وغير ذلك أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى عدد الله نعمه عليه فيما مضى من عمره، ليقيس عليه ما يستقبل فتطيب نفسه، ويقوي رجاؤه ووجد في هذه المواضع تتعدى إلى مفعولين وهي بمعنى علم فالمعنى ألم تكن يتيما فآواك. وذلك أن والده عليه السلام توفي وتركه في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو ابن خمسة أعوام، وقيل: ثمانية فكفله جدّه عبد المطلب، ثم مات وتركه ابن اثني عشر عاما فكفله عمه أبو طالب، وقيل لجعفر الصادق: لم نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيما فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق.
(2/490)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: وجدك ضالا عن معرفة الشريعة فهداك إليها، فالضلال عبارة عن التوقيف [السؤال] في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند الله، فهو كقوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره ومعناه أنه لم يكون يعرف تفصيل الشريعة وفروعها حتى بعثه الله، ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوما من ذلك قبل النبوة وبعدها. والثاني وجدك في قوم ضلّال، فكأنك واحد منهم، وإن لم تكن تعبد ما يعبدون، وهذا قريب من الأول. والثالث وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها، وهذا ضعيف، لأن السورة نزلت قبل الهجرة. الرابع وجدك خامل الذكر لا تعرف، فهدى الناس إليك وهداهم بك، وهذا بعيد عن المعنى المقصود. الخامس أنه من الضلال عن الطريق، وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم ضلّ في بعض شعب مكة، وهو صغير فردّه الله إلى جده، وقيل: بل ضلّ من مرضعته حليمة فرده الله إليها، وقيل: بل ضل في طريق الشام حين خرج إليها مع أبي طالب. السادس أنه بمعنى الضلال من المحبة أي وجدك محبا لله فهداك إليه ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم، تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [95] أي محبتك ليوسف، وبهذا كان يقول شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى العائل:
الفقير يقال: عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله وهذا الفقر والغنى هو في المال، وغناؤه صلى الله عليه وآله وسلم هو أن أعطاه الله الكفاف، وقيل: هو رضاه بما أعطاه الله، وقيل: المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تغلبه على ماله وحقه لأجل ضعفه أو لا تقهره بالمنع من مصالحه ووجوه القهر كثيرة والنهي يعمّ جميعها وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ النهر هو الانتهار والزجر، والنهي عنه أمر بالقول الحسن والدعاء للسائل كما قال تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ويحتمل السائل أن يريد به سائل الطعام والمال، وهذا هو الأظهر والسائل عن العلم والدين. وفي قوله تقهر وتنهر لزوم مالا يلزم من التزام الهاء قبل الراء.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قيل: معناه بثّ القرآن وبلغ الرسالة والصحيح أنه عموم جميع النعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التحدث بالنعم شكر» «1» ولذلك كان بعض السلف يقول، لقد أعطاني الله كذا ولقد صليت البارحة كذا وهذا إنما يجوز إذا كان على وجه الشكر أو ليقتدى به، فأما على وجه الفخر والرياء فلا يجوز، وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا فقابل قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وقابل قوله:
وَوَجَدَكَ ضَالًّا بقوله، أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، على قول من قال إنه السائل عن العلم وقابله بقوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ على القول الآخر، وقابل: قوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى بقوله:
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ على القول الأظهر، وقابله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ على القول الآخر.
__________
(1) . رواه أحمد عن النعمان بن بشير ج 4 ص 278، 375.
(2/491)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
سورة الشرح
مكية وآياتها 8 نزلت بعد الضحى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة ألم نشرح) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ هذا لصدره توقيف معناه إثبات شرح صدره صلى الله عليه وسلم وتعديد ما ذكر بعده من النعم، وشرح صدره صلى الله عليه وسلم هو اتساعه لتحصيل العلم، وتنويره بالحكمة والمعرفة، وقيل هو شق جبريل لصدره في صغره، أو في وقت الإسراء حين أخرج قلبه وغسله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ فيه ثلاثة أقوال: الأول قول الجمهور أن الوزر الذنوب.
ووضعها هو غفرانها فهو كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وهذا على قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء، أو على أن ذنوبه كانت قبل النبوّة الثاني أن الوزر هو أثقال النبوة وتكاليفها، ووضعها على هذا هو إعانته عليها، وتمهيد عذره بعد ما بلغ الرسالة الثالث أن الوزر هو تحيره قبل النبوة، إذ كان يرى أن قومه على ضلال، ولم يأته من الله أمر واضح فوضعه على هذا هو بالنبوّة والهدى للشريعة الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ عبارة عن ثقل الوزر المذكور وشدته عليه، قال الحارث المحاسبي: إنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم لهمّهم بها وتحسرهم عليها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله، وهي خفيفة عند الله، وهذا كما جاء في الأثر: إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه تطير كالذبابة فوق أنفه «1» . واشتقاق أنقض ظهرك من نقض البنيان وغيره، أو من النقيض وهو الصوت فكأنه يسمع لظهره نقيض كنقيض ما يحمل عليه شيء ثقيل.
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي نوّهنا باسمك وجعلناه شهيرا في المشارق والمغارب، وقيل: معناه اقتران ذكره بذكر الله في الأذان والخطبة والتشهد. وفي مواضع من القرآن، وقد روي في هذا حديث أن الله قال له إذا ذكرت ذكرت معي «2» . فإن قيل: لم قال لك
__________
(1) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج 1، ص 383.
(2) . رواه الإمام الطبري بسنده إلى أبي سعيد الخدري وقال في التفسير رواه ابن حبان وأبي يعلى والطبراني كلهم عن أبي سعيد الخدري.
(2/492)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
ذكرك ولك صدرك مع أن المعنى مستقل دون ذلك؟ فالجواب أن قوله: لك يدل على الاعتناء به والاهتمام بأمره
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً هذا وعد لما يسّر بعد العسر، وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقاربة ليدل على قرب اليسر من العسر فإن قيل: ما وجه ارتباط هذا مع ما قبله؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان بمكة هو وأصحابه في عسر من إذاية الكفار ومن ضيق الحال ووعده الله باليسر، وقد تقدم تعديد النعم تسلية وتأنيسا، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه كأنه يقول: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظهرك ويبدّل لك هذا العسر بيسر قريب، ولذلك كرر إن مع العسر يسرا مبالغة وقال صلى الله عليه وسلم: لن يغلب عسر يسرين وقد روي ذلك عن عمر وابن مسعود «1» وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد كقولك: جاءني رجل فأكرمت الرجل. واليسر اثنان لتنكيره وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ هو من النصب بمعنى التعب، والمعنى إذا فرغت من أمر فاجتهد في آخر ثم اختلف في تعيين الأمرين فقيل: إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء. وقيل: إذا فرغت من شغل دنياك فانصب في عبادة ربك وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قدم الجار والمجرور ليدل على الحصر أي لا ترغب إلا إلى ربك وحده.
__________
(1) . رواه الطبري أيضا في تفسيره موقوفا على الحسن البصري وموصولا إلى ابن مسعود.
(2/493)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
سورة التين
مكية وآياتها 8 نزلت بعد البروج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة التين) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فيها قولان: الأول أنه التين الذين يؤكل والزيتون الذي يعصر أقسم الله بهما لفضيلتهما على سائر الثمار. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع أصحابه تينا فقال: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه: لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس. وقال صلى الله عليه وسلم: نعم السواك الزيتون فإنه من الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي «1» . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي «2» . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هما جبلان بالشام أحدهما بدمشق ينبت فيه التين والآخر بإيلياء ينبت فيه الزيتون فكأنه قال ومنابت التين والزيتون وقيل التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وقيل التين مسجد نوح والزيتون مسجد ابراهيم، والأظهر أنهما الموضعان من الشام وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى ومسكنه، وذلك أن الله ذكر بعد هذا الطور الذي كلم عليه موسى والبلد الذي بعث منه محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية نظير ما في التوراة: «أن الله تعالى جاء من طور سيناء وطلع من ساعد وهو موضع عيسى وظهر من جبال باران» وهي مكة وأقسم الله بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى هو بالشام، وأضافه الله إلى سينين ومعنى سينين مبارك فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقيل: معناه ذو الشجر واحدها سينه، قاله الأخفش وقال الزمخشري: ويجوز أن يعرب إعراب الجمع المذكر بالواو والياء وأن يلزم الياء وتحريك النون بحركات الإعراب وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ هو مكة باتفاق والأمين من الأمانة أو من الأمن لقوله: اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة: 126] .
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه قولان: أحدهما أن أحسن التقويم هو
__________
(1) . هذان الحديثان لم أعثر عليهما وإنما في الزيتون ورد قوله: كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه ينبت من شجرة مباركة. رواه أحمد عن أبي أسيد الساعدي ج 3 ص 497.
(2) . هذان الحديثان لم أعثر عليهما وإنما في الزيتون ورد قوله: كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه ينبت من شجرة مباركة. رواه أحمد عن أبي أسيد الساعدي ج 3 ص 497. [.....]
(2/494)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
حسن الصورة وكمال العقل والشباب والقوة وأسفل سافلين الضعف والهرم والخرف فهو كقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم: 54] وقوله إلا الذين آمنوا بعد هذا غير متصل بما قبله، والاستثناء على هذا القول منقطع بمعنى لكن لأنه خارج عن معنى الكلام الأول. والآخر أن حسن التقويم:
الفطرة على الإيمان وأسفل سافلين الكفر أو تشويه الصورة في النار، والاستثناء على هذا متصل، لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يردوا أسفل سافلين
غَيْرُ مَمْنُونٍ قد ذكر فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والدين شريعته، والمعنى المعنى أي شيء يكذبك بالدين بعد هذه الدلائل التي تشهد بصحة نبوّتك؟ والآخر أنه خطاب للإنسان الكافر، والدين على هذا الشريعة أو الجزاء الأخروي ومعنى يكذبك على هذا يجعلك كاذبا، لأن من أنكر الحق فهو كاذب والمعنى أي شيء يجعلك كاذبا بسبب كفرك بالدين بعد أن علمت أن الله خلقك في أحسن تقويم، ثم ردّك أسفل سافلين، ولا شك أنه يقدر على بعثك كما قدر على هذا، فلأي شيء تكذب بالبعث والجزاء؟
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ؟ تقرير ووعيد للكفار بأن يحكم عليهم بما يستحقون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
(2/495)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
سورة العلق
مكية وآياتها 19 وهي أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة العلق) نزل صدرها بغار حراء، وهو أول ما نزل من القرآن حسبما ورد عن عائشة في الحديث الذي ذكرناه في أول الكتاب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فيه وجهان: أحدهما أن معناه اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك، أو متبركا باسم ربك وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره: مفتتحا، فيحتمل أن يريد ابتداء القراءة بقول: بسم الله الرحمن الرحيم أو يريد الابتداء باسم الله مطلقا والوجه الثاني أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق فيكون باسم ربك مفعولا وهو المقروء الَّذِي خَلَقَ حذف المفعول لقصد العموم كأنه قال: الذي خلق كل شيء، ثم خصص خلقة الإنسان لما فيه من العجائب والعبر، ويحتمل أنه أراد الذي خلق الإنسان كما قال «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ» ثم فسره بقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ والعلق جمع علقة، وهي النطفة من الدم والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم، ولذلك جمع العلق لما أراد الجماعة بخلاف قوله فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج: 5] لأنه أراد كل واحد على حدته، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا لأنه لم يخلق من علقة وإنما خلق من طين اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ كرر الأمر بالقراءة تأكيدا والواو للحال والمقصود تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يقول: افعل ما أمرت به فإن ربك كريم. وصيغة أفعل للمبالغة الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ هذا تفسير للأكرم فدل على أن نعمة التعليم أكبر نعمة، وخص من التعليمات الكتابة بالقلم لما فيها من تخليد العلوم ومصالح الدين والدنيا، وقرأ ابن الزبير: علم الخط بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يحتمل أن يريد بهذا التعليم الكتابة، لأن الإنسان لم يكن يعلمها في أول أمره أو يريد التعليم لكل شيء على الإطلاق، وقيل: إن الإنسان هنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه جنس الإنسان على العموم.
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى نزل هذا وما بعده إلى آخر السورة في أبي جهل بعد نزول صدرها بمدة، وذلك أنه كان يطغى بكثرة ماله ويبالغ في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى
(2/496)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
آله وسلم، وكلا هنا يحتمل أن تكون زجرا لأبي جهل أو بمعنى حقا أو استفتاحا
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في موضع المفعول من أجله، أي يطغى من أجل غناه. والرؤية هنا بمعنى العلم، بدليل إعمال الفعل في الضمير. ولا يكون ذلك إلا في أفعال القلوب، والمعنى رأى نفسه استغنى واستغنى هو المفعول الثاني إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
هذا تهديد لأبي جهل وأمثاله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى اتفق المفسرون أن العبد الذي صلى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه أبو جهل لعنه الله وسبب الآية أن أبا جهل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في المسجد الحرام فهم بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، وروي أنه قال: لئن رأيته يصلي، لأطأنّ عنقه فجاءه وهو يصلي ثم انصرف عنه مرعوبا فقيل له ما هذا؟ فقال لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أرأيت في الموضوع الذي قبله والذي بعده بمعنى: أخبرني فكأنه سؤال يفتقر إلى جواب وفيها معنى التعجيب والتوقيف والخطاب فيها يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب من غير تعيين، وهي تتعدى إلى مفعولين وجاءت بعدها إن الشرطية في موضعين وهما قوله: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى وقوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فيحتاج إلى كلام في مفعولي أرأيت في المواضع الثلاثة، وفي جواب الشرطين وفي الضمائر المتصلة بهذه الأفعال، وهي إن كان على الهدى، وأمر بالتقوى وكذب وتولى، على من تعود هذه الضمائر؟ فقال الزمخشري: إن قوله الذي ينهى هو المفعول الأول لقوله: أرأيت الأولى وأن الجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت أرأيت بعد ذلك للتأكيد فهي زائدة لا تحتاج إلى مفعول وإن قوله: ألم يعلم بأن الله يرى هو جواب قوله إن كذب وتولى فهو في المعنى جواب للشرطين معا، وأن الضمير في قوله: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للذي نهى عن الصلاة وهو أبو جهل، وكذلك الضمير في قوله إن كذب وتولى وتقدير الكلام على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى، إن كان هذا الناهي على الهدى أو كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى جميع أحواله من هداه وضلاله وتكذيبه ونهيه عن الصلاة وغير ذلك؟ فمقصود الآية تهديد له وزجر وإعلام بأن الله يراه.
وخالفه ابن عطية في الضمائر فقال: إن الضمير في قوله: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للعبد الذي صلى، وأن الضمير في قوله: إن كذب وتولى للذي نهى عن الصلاة، وخالفه أيضا في جعله أرأيت الثانية مكررة للتأكيد وقال: إنها في المواضع الثلاثة توقيف [سؤال] وأن جوابه في المواضع الثلاثة قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى فإنه
(2/497)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
يصلح مع كل مع واحد منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اختصارا.
وخالفهما أيضا الغزنوي في الجواب فقال: إن جواب قوله: إن كان على الهدى محذوف فقال: إن تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس هو على الحق واتباعه واجب، والضمير على هذا يعود على العبد الذي صلى وفاقا لابن عطية
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أوعد أبا جهل إن لم ينته عن كفره وطغيانه أن يؤخذ بناصيته فيلقى في النار، والناصية مقدم الرأس فهو كقوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] والسفع هنا الجذب والقبض على الشيء، وقيل: هو الإحراق من قولك سفعته النار وأكد لنسفعن باللام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاة للوقف، ويظهر لي أن هذا الوعيد نفذ عليه يوم بدر حين قتل وأخذ بناصيته فجرّ إلى القليب ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أبدل ناصية من الناصية، ووصفها بالكذب والخطيئة تجوزا، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها، والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمدا، والمخطئ الذي يفعله بغير قصد فَلْيَدْعُ نادِيَهُ النادي والنّدي المجلس الذي يجتمع فيه الناس، وكان أبو جهل قد قال: أيتوعدني محمد فو الله ما بالوادي أعظم ناديا مني فنزلت الآية تهديدا وتعجيزا له، والمعنى: فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك، ثم أوعده بأن يدعو له زبانية جهنم، وهم الملائكة الموكلون بالعذاب، الزبانية في اللغة الشرط واحدهم زبنية: وقيل: زبني وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي تقرب إلى الله بالسجود كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد «1» فاجتهدوا في الدعاء وهذا موضع سجدة عند الشافعي وليست عند مالك من عزائم السجود
__________
(1) . الحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد عن أبي هريرة.
(2/498)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
سورة القدر
مكية وآياتها 5 نزلت بعد عبس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة القدر) اختلف الناس في ليلة القدر على ستة عشر قولا وهي أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، فهذه خمسة أقوال في ليالي الأوتار من العشر الأواخر من رمضان، على قول من ابتدأ عدّتها من أول العشر. وقد ابتدأ بعضهم عدتها من آخر الشهر، فجعل ليالي الأوتار ليلة ثلاثين، لأنها الأولى وليلة ثمان وعشرين لأنها الثانية، وليلة ستة وعشرين لأنها الخامسة، وليلة أربع وعشرين، لأنها السابعة وليلة اثنين وعشرين لأنها التاسعة فهذه خمسة أقوال أخر. فتلك عشرة أقوال والقول الحادي عشر أنها تدور في العشر الأواخر، ولا تثبت في ليلة واحدة منه. الثاني عشر أنها مخفية في رمضان كله وهذا ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم: التمسوها في العشر الأواخر «1» . الثالث عشر: أنها مخفية في العام كله. الرابع عشر أنها ليلة النصف من شعبان وهذان القولان باطلان لأن الله تعالى قال: إنا أنزلناه في ليلة القدر وقال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فدل ذلك على أن ليلة القدر في رمضان. القول الخامس عشر أنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف.
القول السادس عشر أنها ليلة سبعة عشر من رمضان لأن وقعة بدر كانت صبيحة هذه الليلة.
وأرجح الأقوال أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان أو ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة سبع وعشرين فقد جاءت في هذه الليالي الثلاث أحاديث صحيحة خرجها مسلم وغيره والأشهر أنها ليلة سبع وعشرين إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير في أنزلناه للقرآن، دل على ذلك سياق الكلام، وفي ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على شهرته والاستغناء عن تسميته، الثاني أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات والثالث أن الله أسند إنزاله إلى نفسه وفي كيفية إنزاله في ليلة القدر قولان: أحدهما أنه ابتدأ إنزاله فيها والآخر أنه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السماء ثم نزل به جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة وقيل: المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وذكرها وهذا ضعيف
__________
(1) . رواه أحمد عن جابر بن سمرة ج 5 ص 86.
(2/499)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
وسميت ليلة القدر من تقدير الأمور فيها أو من القدر بمعنى الشرف، ويترجح الأول بقوله فيها يفرق كل أمر حكيم
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هذا تعظيم لها، قال بعضهم: كل ما قال فيه ما أدراك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم وما قال فيه ما يدريك فإنه لا يعلمه لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ معناه أن من قامها كتب الله له أجر العبادة في ألف شهر، قال بعضهم يعني في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه «1» وسبب الآية أن رسول الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا ممن تقدم عبد الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك ورأوا أن أعمارهم تنقص عن ذلك، فأعطاهم الله ليلة القدر وجعلها خيرا من العبادة في تلك المدة الطويلة.
وروي أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عوتب حين بايع معاوية فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس ألف شهر، فاهتم لذلك، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ملك بني أمية ألف شهر، ثم كشف الغيب أنه كان من بيعة الحسن لمعاوية إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية بالمشرق ألف شهر تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الروح هنا جبريل عليه السلام، وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة وتنزّلهم هو إلى الأرض، وقيل: إلى السماء الدنيا وهو تعظيم لليلة القدر ورحمة للمؤمنين القائمين فيها مِنْ كُلِّ أَمْرٍ هذا متعلق بما قبله، والمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة القدر من أجل كل أمر، يقضي الله في ذلك العام. فإنه روي أن الله يعلم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك، ليمتثلوا ذلك في العام كله، وقيل: على هذا المعنى أن من بمعنى الباء أي ينزلون بكل أمر وهذا ضعيف وقيل: إن المجرور يتعلق بعده والمعنى أنها سلام من كل أمر أي سلامة من الآفات، قال مجاهد: لا يصيب أحد فيها داء.
والأظهر أن الكلام تمّ عند قوله: من كل أمر. ثم ابتدأ قوله: سلام هي واختلف في معنى سلام فقيل إنه من السلامة وقيل: إنه من التحية، لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين فيها، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل: سلام هي مبتدأ وخبر وهذا يصح سواء جعلناه متصلا مع ما قبله أو منقطعا عنه، وقيل: سلام. خبر مبتدأ مضمر تقديره: أمرها سلام أو: القول فيها سلام. وهي مبتدأ خبره حتى مطلع «2» الفجر أي هي دائمة إلي طلوع الفجر، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب وقال ابن عباس: إن قوله هي إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين، لأن هذه الكلمة هي السابعة والعشرين من كلمات السورة.
__________
(1) . رواه أحمد ج 2 ص 408 عن أبي هريرة وهو في الصحيحين أيضا.
(2) . قرأ الكسائي: مطلع بكسر اللام والباقون بفتحها.
(2/500)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
سورة البيّنة
مدنية وآياتها 8 نزلت بعد الطلاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة لم يكن) ذكر الله الكفار ثم قسمهم إلى صنفين أهل الكتاب والمشركين، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى منفكين: منفصلين، ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال: أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة لتقوم عليهم الحجة. الثاني لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله. الثالث اختاره ابن عطية وهو لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقدرته، حتى يبعث الله إليهم رسولا يقيم عليهم الحجة الرابع وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم فقامت عليهم الحجة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه:
لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] فلما بعثه الله لم يبق لهم عذر ولا حجة، فمنفكين على هذا كقولك: لا تبرح أو لا تزول حتى يكون كذا وكذا رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يعني سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، وإعرابه بدل من البينة أو خبر ابتداء مضمر يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يعني القرآن في صحفه فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي قيمة بالحق مستقيمة بالمعاني، ووزن قيّمة فيعلة وفيه مبالغة قال ابن عطية: هذا على حذف مضاف تقديره: فيها أحكام كتب ولا يحتاج هذا إلى الحذف لأن الكتب بمعنى المكتوبات.
وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا أنه حق، ويحتمل أن يريد تفرقهم في دينهم كقوله:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [فصلت: 45] وإنما خص الذين أوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه تعالى وآله وسلم، بما يجدون في كتبهم من ذكره وَما أُمِرُوا الآية: هنا معناها: ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا أو بدّلوا، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأيّ شيء ينكرونه ويكفرون به مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد لأن الإخلاص هنا يراد
(2/501)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
به التوحيد وترك الشرك أو ترك الرياء، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وهذا الإخلاص في التوحيد من الشرك الجليّ، وهذا الإخلاص في الأعمال من الشرك الخفيّ، وهو الرياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرياء الشرك الأصغر وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إنه تعالى يقول «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه» «1» .
واعلم أن الأعمال ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها بنية أخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وجه الله، من طلب منفعة دنيوية، أو مدح أو غير ذلك فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال. وأما المنهيات فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها، ولم يكن له أجر في تركها وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر، وأما المباحات كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن فيها أجر، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إذا قصد به وجه الله مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام حُنَفاءَ جمع حنيف وقد ذكر وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ تقديره: الملة القيمة، أو الجماعة القيمة وقد فسرنا القيمة ومعناها أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين الإسلام فلأيّ شيء لا يدخلون فيه؟
الْبَرِيَّةِ الخلق لأن الله برأهم وأوجدهم بعد العدم. وقرأ [نافع وابن عامر البريئة] بالهمز وهو الأصل و [الباقون] بالياء وهو تخفيف من المهموز، وهو أكثر استعمالا عند العرب.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ اختلف هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ فرضاهم عن الله في الدنيا هو الرضا بقضائه والرضا بدينه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا «2» ، ورضاهم عنه في الآخرة: هو رضاهم بما أعطاهم الله فيها، أو رضا الله عنهم لما ورد في الحديث أن الله يقول: يا أهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا ربنا وأي شيء نريد وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول عندي أفضل من ذلك وهو رضواني فلا أسخط عليكم أبدا «3» ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي لمن خافه وهذا دليل على فضل الخوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الله رأس كل حكمة «4» .
__________
(1) . رواه مسلم عن أبي هريرة الاتحافات السنية للمناوي رقم 59.
(2) . رواه أحمد عن العباس ج 1 ص 208.
(3) . رواه المنذري وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري.
(4) . ذكره المناوي في التيسير بمعناه: رأس الحكمة مخافة الله وعزاه للحكيم في نوادره وابن لال في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود.
(2/502)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
سورة الزلزلة
مدنية وآياتها 8 نزلت بعد النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الزلزلة) إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ أي حركت واهتزت زِلْزالَها مصدر وإنما أضيف إليها تهويلا كأنه يقول الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يعني الموتى الذين في جوفها، وذلك عند النفخة الثانية في الصور. وقيل: هي الكنوز وهذا ضعيف لأن إخراجها للكنوز وقت الدجال وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي يتعجب من شأنها فيحتمل أن يريد جنس الإنسان أو الكافر خاصة لأنه الذي يرى حينئذ ما لا يظن يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها هذه عبارة عما يحدث فيها من الأهوال فهو مجاز وحديث بلسان الحال وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها فهو حقيقة، وتحدّث يتعدّى إلى مفعولين حذف المفعول منهما، والتقدير تحدث الخلق أخبارها، وانتزع بعض المحدثين من قوله تحدّث أخبارها أن قول المحدّث حدثنا وأخبرنا سواء، وهذه الجملة هي جواب إذا زلزلت وتحدث هو العامل في إذا. ويومئذ بدل من إذا ويجوز أن يكون العامل في إذا مضمر وتحدث عامل في يومئذ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء سببية متعلقة بتحدث أي تحدث بسبب أن الله أوحى لها، ويحتمل أن يكون بأن الله أوحى لها بدلا من إخبارها وهذا كما تقول: حدثت كذا وحدثت بكذا والمعنى على هذا تحدث بحديث الوحي لها، وهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما أو كلاما بواسطة الملائكة ولها بمعنى إليها، وقيل: معناها أوحى إلى الملائكة من أجلها وهذا بعيد.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً مختلفين في أحوالهم، وواحد الأشتات شتيت وصدر الناس: هو انصرافهم من موضع وردهم فقيل: الورد هو الدفن في القبور والصدر: هو القيام للبعث. وقيل الورد القيام للحشر، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار. وهذا أظهر. وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس فيظهر كونهم أشتاتا
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «1» المثقال هو الوزن والذرة هي النملة الصغيرة، والرؤية هنا ليست برؤية بصر
__________
(1) . يره: قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء: يره والباقون بإشباع الضمة: يرهو.
(2/503)
وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيها على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه قال: من يعمل قليلا أو كثيرا وهذه الآية هي في المؤمنين، لأن الكافر لا يجازى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه. واستدل أهل السنة بهذه الآية: أنه لا يخلد مؤمن في النار لأنه إذا خلد لم ير ثوابا على إيمانه وعلى ما عمل من الحسنات، وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فقيل لها في ذلك فقالت: كم فيها من مثقال ذرة، وسمع رجلا هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي الله لا أبالي أن أسمع غيرها وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» هذا على عمومه في حق الكافر، وأما المؤمنون فلا يجازون بذنوبهم إلا بستة شروط: وهي أن تكون ذنوبهم كبائر، وأن يموتوا قبل التوبة منها وأن لا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وأن لا يشفع فيهم وأن لا يكون ممن استحق المغفرة بعمل كأهل بدر، وأن لا يعفو الله عنهم فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.
__________
(1) . يره: قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء: يره والباقون بإشباع الضمة: يرهو.
(2/504)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
سورة العاديات
مكية وآياتها 11 نزلت بعد العصر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة العاديات) اختلف في العاديات والموريات والمغيرات هل يراد بها الخيل أو الإبل؟ وعلى القول بأنها الخيل اختلف هل يعني خيل المجاهدين أو الخيل على الإطلاق؟ وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل يعني إبل غزوة بدر أو إبل المجاهدين مطلقا، أو إبل الحجاج أو الإبل على الإطلاق؟ ومعنى العاديات التي تعدو في مشيها، والضبح هو تصويت جهير عند العدو الشديد، ليس بصهال. وهو مصدر منصوب على تقدير: يضبحن ضبحا أو هو مصدر في موضع الحال تقديره: العاديات في حال ضبحها، والموريات من قولك أوريت النار إذا أوقدتها، والقدح هو صك الحجارة فيخرج منها شعلة نار. وذلك عند ضرب الأرض لأرجل الخيل أو الإبل، وإعراب قدحا كإعراب صبحا، والمغيرات من قولك: أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على الأعداء، وصبحا ظرف زمان لأن عادة أهل الغارة في الأكثر أن يخرجوا في الصباح فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً هذه الجملة معطوفة على العاديات وما بعده لأنه في تقدير التي تعدو، والنقع: الغبار والضمير المجرور للوقت المذكور وهو الصبح، فالباء ظرفية أو لكان الذي يقتضيه المعنى، فالباء أيضا ظرفية أو للعدو، وهو المصدر الذي يقتضيه العاديات. فالباء سببية ومعنى أثرن حركن والضمير الفاعل للإبل أو للخيل أي حركن الغبار عند مشيهن فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً معنى وسطن توسطن، وجمعا اختلف هل المراد به جمع من الناس أو المزدلفة «1» لأن اسمها جمع والضمير المجرور للوقت أو للمكان أو للعدو أو للنقع.
إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هذا جواب القسم والكنود الكفور للنعمة فالتقدير: إن
__________
(1) . هكذا وقد ذكرها الطبري أيضا وهي مكان معروف بين عرفات ومنى حيث ينفر إليها الحجاج ليلة النحر.
(2/505)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
الإنسان لنعمة ربه لكفور، والإنسان جنس، وقيل: الكنود العاصي، وقال بعض الصوفية:
الكنود هو الذي يعبد الله على عوض [بمقابل]
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ الضمير للإنسان أي هو شاهد على نفسه بكنوده، وقيل: هو لله تعالى على معنى التهديد: والأول أرجح لأن الضمير الذي بعده الإنسان باتفاق، فيجري الكلام على نسق واحد وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الخير هنا المال، كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] والمعنى أن الإنسان شديد الحب للمال، فهو ذم لحبه والحرص عليه، وقيل: الشديد: البخيل، والمعنى على هذا أنه بخيل من أجل حب المال، والأول أظهر إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بحث عند ذلك عبارة عن البعث وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي جمع ما في الصحف وأظهر محصلا أو ميز خيره من شره إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ الضمير في ربهم وبهم يعود على الإنسان، لأنه يراد به الجنس وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما أن هذه الجملة معمول أفلا يعلم فكان الأصل أن تفتح إن، ولكنها كسرت من أجل اللام التي في خبرها الثاني أن تكون هذه الجملة مستأنفة ويكون معمول أفلا يعلم محذوفا ويكون الفاعل ضميرا يعود على الإنسان والتقدير: أفلا يعلم الإنسان حاله وما يكون منه إذا بعثر ما في القبور؟ وهذا هو الذي قاله ابن عطية ويحتمل عندي أن يكون فاعل أفلا يعلم ضميرا يعود على الله، والمفعول محذوف والتقدير: أفلا يعلم الله أعمال الإنسان إذا بعثر ما في القبور، ثم استأنف قوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير على وجه التأكيد، أو البيان للمعنى المتقدم، والعامل في إذا بعثر على هذا الوجه هو أفلا يعلم والعمل فيه على مقتضى قول ابن عطية هو المفعول المحذوف، وإذا هنا ظرفية بمعنى حين ووقت وليست بشرطية، والعامل في يومئذ خبير، وإنما خص ذلك بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء بقصد التهديد، مع أن الله خبير على الإطلاق.
(2/506)
الْقَارِعَةُ (1)
سورة القارعة
مكية وآياتها 11 نزلت بعد قريش بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة القارعة) الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بهولها، وقيل: هي النفخة في الصور لأنها تقرع الأسماع مَا الْقارِعَةُ مبتدأ وخبر في موضع خبر القارعة، والمراد به تعظيم شأنها، كذلك وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ العامل في الظرف محذوف دل عليه القارعة تقديره، تقرع في يوم، والفراش هو الطير الصغير الذي يشبه البعوض، ويدور حول المصباح. والمبثوث هو المنتشر المفترق. شبّه الله الخلق يوم القيامة به في كثرتهم وانتشارهم وذلتهم، ويحتمل أنه شبههم به لتساقطهم في جهنم. كما يتساقط الفراش في المصباح. قال بعض العلماء: الناس في أول قيامهم من القبور كالفراش المبثوث، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام، ثم يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فيكونون حينئذ كالجراد المنتشر. لأن الجراد يقصد إلى جهة واحدة، وقيل:
الفراش هنا الجراد الصغير وهو ضعيف وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ العهن هو الصوف، وقيل: الصوف الأحمر وقيل: الصوف الملون ألوانا، شبّه الله الجبال يوم القيامة به، لأنها تنسف فتصير لينة، وعلى القول بأنه الملون يكون التشبيه أيضا من طريق اختلاف ألوان الجبال لأن منها بيضاء وحمراء وسوداء.
مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ هو جمع ميزان أو جمع موزون، وميزان الأعمال يوم القيامة له لسان وكفتان عند الجمهور، وقال قوم: هو عبارة عن العدل فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ معناه ذات رضا عند سيبويه: وثقل الموازين بكثرة الحسنات وخفتها بقلتها، ولا يخف ميزان مؤمن خفة موبقة لأن الإيمان يوزن فيه فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما أن الهاوية جهنم سميت بذلك لأن الناس يهوون فيها أي يسقطون، وأمه معناه مأواه كقولك: المدينة أم فلان أي مسكنه على التشبيه بالأمّ الوالدة لأنها مأوى الولد ومرجعه. الثاني أن الأم هي الوالدة،
(2/507)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
وهاوية ساقطة وذلك عبارة عن هلاكه كقولك: أمه ثكلى إذا هلك: الثالث أن المعنى أم رأسه هاوية في جهنم. أي ساقطة فيها، لأنه يطرح فيها منكوسا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: لا أمّ لك فقال: يا رسول الله تدعوني إلى الهدى وتقول لي لا أمّ لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أردت لا نار لك، قال الله تعالى: فأمه هاوية وهذا يؤيد القول الأول
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ الهاء للسكت والضمير لجهنم على القول بأنها الهاوية، وهو للفعلة والخصلة التي يراد بها العذاب على القول الثاني والثالث، والمقصود تعظيمها ثم فسرها بقوله نارٌ حامِيَةٌ.
(2/508)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
سورة التكاثر
مكية وآياتها 8 نزلت بعد الكوثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة التكاثر) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ هذا خبر يراد به الوعظ والتوبيخ، ومعنى ألهاكم شغلكم والتكاثر المباهاة بكثرة المال والأولاد، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر ويقول هؤلاء: نحن أكثر، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ابن آدم مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت «1» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما أن معناه حتى متم فأراد بزيارة المقابر الدفن فيها. الثاني أن معناه حتى ذكرتم الموتى الذين في المقابر، فعبّر بزيارتها عن التفاخر بمن فيها لأن بعض العرب تفاخر بآبائها الموتى.
فالمعنى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حتى بلغتم فيه إلى ذكر الموتى: الثالث أن معناها زيارة المقابر حقيقة لتعظيم أهلها والتفاخر بهم فيقال: هذا قبر فلان ليشهر ذكره ويعظم قدره كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ زجر وتهديد، ثم كرره للتأكد وعطفه بثم إشارة إلى أن الثاني أعظم من الأول، وقيل: الأول تهديد للكفار والثاني: تهديد للمؤمنين وحذف معمول تعلمون وتقديره ما يحل بكم، أو تعلمون أن القرآن حق، أو تعلمون أنكم كنتم على خطأ في اشتغالكم بالدنيا، وإنما حذفه لقصد التهويل فيقدر السامع أعظم ما يخطر بباله.
لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جواب لو محذوف تقديره لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، فينبغي الوقف على اليقين ومعمول لو تعملون محذوف أيضا وعلم اليقين مصدر ومعنى علم اليقين: العلم الذي لا يشك فيه. قال بعضهم: هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولك: دار الآخرة وقال الزمخشري: معناه علم الأمور التي تتيقنونها بالمشاهدة لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «2» هذا جواب قسم محذوف، وهو تفسير لمفعول لو تعلمون تقديره: لو تعلمون
__________
(1) . الحديث ذكره المنذري وعزاه لمسلم عن أبي هريرة ص 101 ج 4 المنيرية.
(2) . قرأ الكسائي وابن عامر: لترونّ الجحيم بضم التاء والباقون بفتح التاء.
(2/509)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
عاقبة أمركم ثم فسرها بأنها رؤية الجحيم، والتفسير بعد الإبهام يدل على التهويل والتعظيم. والخطاب لجميع الناس فهو كقوله: [وإن منكم إلا واردها] [مريم: 71] وقيل:
للكفار خاصة، فالرؤية على هذا يراد بها الدخول فيها
ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ هذا تأكيد للرؤية المتقدمة وعطفه بثم للتهويل والتفخيم، والعين هنا من قولك: عين الشيء نفسه وذاته، أي لترونها الرؤية التي هي نفس اليقين ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ هذا إخبار بالسؤال في الآخرة عن نعيم الدنيا، فقيل: النعيم الأمن والصحة، وقيل: الطعام والشراب، وهذه أمثلة، والصواب العموم في كل ما يتلذذ به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت يكنّك [يؤويك] وخرقة تواريك وكسرة تشدّ قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم كل نعيم فمسؤول عنه إلا نعيم في سبيل الله، وأكل صلى الله عليه وسلم يوما مع أصحابه رطبا وشربوا عليه ماء فقال لهم هذا من النعيم الذي تسئلون عنه «1» .
__________
(1) . الحديثان مشهوران وقد رواهما الطبري في تفسيره بألفاظ مقاربة. [.....]
(2/510)
وَالْعَصْرِ (1)
سورة العصر
مكية وآياتها 3 نزلت بعد الشرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة العصر) وَالْعَصْرِ فيه ثلاثة أقوال: الأول أنه صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله «1» : الثاني أنه العشيّ أقسم به كما أقسم بالضحى، ويؤيد هذا قول أبيّ بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال:
أقسم ربكم بآخر النهار: الثالث أنه الزمان إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ الإنسان جنس ولذلك استثنى منه الذين آمنوا فهو استثناء متصل وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي وصى بعضهم بعضا بالحق وبالصبر، فالحق هو الإسلام وما يتضمنه، وفيه إشارة إلى كذب الكفار، وفي الصبر إشارة إلى صبر المؤمنين على إذاية الكفار لهم بمكة.
__________
(1) . الحديث رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 13 والشافعي في الأم.
(2/511)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
سورة الهمزة
مكية وآياتها 9 نزلت بعد القيامة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الهمزة) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ هو على الجملة الذي يعيب الناس ويأكل أعراضهم، واشتقاقه من الهمز واللمز، وصيغة فعلة للمبالغة، واختلف في الفرق بين الكلمتين فقيل: الهمز في الحضور، واللمز في الغيبة وقيل: بالعكس. وقيل: الهمز باليد والعين، واللمز باللسان، وقيل: هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق لأنه كان كثير الوقيعة في الناس وقيل: في أمية بن خلف، وقيل في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك على العموم في كل من اتصف بهذه الصفات «1» وَعَدَّدَهُ أي أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينقص فمنعه من الخيرات، وقيل: معناه استعدّه وادّخره عدّة لحوادث الدهر يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن لفرط جهله واغتراره أن ماله يخلده في الدنيا، وقيل: يظن أن ماله يوصله إلى دار الخلد كَلَّا رد عليه فيما ظنه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ هذا جواب قسم محذوف والحطمة هي جهنم، وإنما سميت حطمة لأنها تحطم ما يلقى فيها، وتلتهبه وقد عظّمها بقوله: وما أدراك ثم فسّرها بأنها نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تبلغ القلوب بإحراقها قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع على ما في القلوب من العقائد والنيّات باطلاع الله إياها مُؤْصَدَةٌ مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ العمد جمع عمود وهو عند سيبويه اسم جمع وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] في عمد بضمتين، والعمود هو: المستطيل من حديد أو خشب [أو حجر] والممددة الطويلة، وفي المعنى قولان: أحدهما أن أبواب جهنم أغلقت عليهم، ثم مدت على أبوابها عمد تشديدا في الإغلاق والثقاف كما تثقف أبواب البيوت بالعمد، وهو على هذا متعلق بمؤصدة، والآخر أنهم موثوقون مغلولون في العمد، فالمجرور على هذا في موضع خبر مبتدأ مضمر تقديره: هم موثوقون في عمد.
__________
(1) . قوله تعالى: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: جمع مالا بالتشديد والباقون بالتخفيف.
(2/512)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سورة الفيل
مكية وآياتها 5 نزلت بعد الكافرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفيل) نزلت هذه السورة منبهة على العبرة في قصة الفيل، التي وقعت في عام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تدل على كرامة الله للكعبة، وإنعامه على قريش بدفع العدو عنهم، فكان يجب عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به، وفيها مع ذلك عجائب من قدرة الله وشدة عقابه، وقد ذكرت القصة في كتب السير وغيرها واختصارها: أن أبرهة ملك الحبشة بنى بيتا باليمن، وأراد أن يحج الناس إليه كما يحجون إلى الكعبة فذهب أعرابي وأحدث في البيت [قضى حاجته] فغضب أبرهة وحلف أن يهدم الكعبة، فاحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة. فلما وصل قريبا منها فرّ أهلها إلى الجبال وأسلموا له الكعبة، وأخذ لعبد المطلب مائتي بعير. فكلّمه فيها فقال له: كيف تكلمني في الإبل ولا تكلمني في الكعبة، وقد جئت لهدمها وهي شرفك وشرف قومك؟ فقال له: أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فبرك الفيل بذي الغميس، ولم يتوجه إلى مكة فكانوا إذا وجهوه إلى غيرها هرول، وإذا وجهوه إليها توقف ولو بضعوه بالحديد، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيورا سودا وقيل: خضرا عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان الحجر يقتل من وقع عليه ووقع في سائرهم الجدري والأسقام. وانصرفوا فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل وتقطع أبرهة أنملة أنملة.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ معناه: ألم تعلم وكيف في موضع نصب بفعل ربك لا بألم تر والجملة معمول ألم تر في تضليل أي إبطال وتخسير أَبابِيلَ معناها جماعات شيئا بعد شيء قال الزمخشري واحدها أبالة وقال جمهور الناس هو جمع لا واحد له من لفظه بِحِجارَةٍ روي أن كل حجر منها كان فوق العدسة ودون الحمصة. قال ابن عباس: إنه أدرك عند أم هانئ نحو قفتين من هذه الحجارة، وأنها كانت مخططة بحمرة وروي أنه كان على كل حجر اسم من يقع عليه مكتوبا سِجِّيلٍ قد ذكر كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ العصف ورق الزرع وتبنه والمراد أنهم صاروا رميما، وفي تشبيههم به ثلاثة أوجه الأول أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثته فجمع التلف والخسة، ولكن الله كنّى عن هذا على حسب آدب القرآن. الثاني أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدود. الثالث أنه أراد كعصف مأكول زرعه وبقي هو لا شيء.
(2/513)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
سورة قريش
مكية وآياتها 4 نزلت بعد التين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة قريش) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قريش هم حيّ من عرب الحجاز الذين هم من ذرية معد بن عدنان، إلا أنه لا يقال قريشيّ إلا لمن كان من ذرية النضر بن كنانة، وهم ينقسمون إلى أفخاذ وبيوت نحو بني هاشم، وبني أمية، وبني مخزوم، وغيرهم وإنما سميت القبيلة قريشا لتقرشهم، والتقرّش التكسب وكانوا تجارا، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ قال: لدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى [القرش] ، وكانوا ساكنين بمكة، وكان لهم رحلتان في كل عام للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، وقيل: كانت الرحلتان جميعا إلى الشام، وقيل:
كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، فيقيمون بها ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسكناهم بها، والإيلاف مصدر من قولك آلفت المكان إذا ألفته وقيل: هو منقول منه بالهمزة يقال ألف الرجل الشيء، وألفه إياه غيره فالمعنى على القول الأول أن قريشا ألفوا رحلة الشتاء والصيف، وعلى الثاني أن الله ألفهم الرحلتين واختلف في تعلق قوله لايلاف قريش على ثلاثة أقوال: أحدهما أنه يتعلق بقوله فليعبدوا والمعنى فليعبدوا الله من أجل إيلافهم الرحلتين فإن ذلك نعمة من الله عليهم: الثاني أنه يتعلق بمحذوف تقديره:
أعجبوا لإيلاف قريش: الثالث أنه يتعلق بسورة الفيل، والمعنى أن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، فهو يتعلق بقوله: فجعلهم أو بما قبله من الأفعال. ويؤيد هذا أن السورتين في مصحف أبيّ بن كعب سورة واحدة لا فصل بينهما، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب، وذكر الله الإيلاف مطلقا ثم أبدل منه الإيلاف المقيّد بالرحلتين تعظيما للأمر، ونصب رحلة لأنه مفعول بإيلافهم وقال: رحلة وأراد رحلتين فهو كقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعفّوا.
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
هذا إقامة حجة عليهم بملاطفة واستدعاء لهم وتذكير بالنعم، والبيت هو المسجد الحرام
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ يحتمل أن يريد إطعامهم
(2/514)
بسبب الرحلتين، فقد روي أنهم كانوا قبل ذلك في شدة وضيق حال حتى أكلوا الجيف ويحتمل أن يريد إطعامهم على الإطلاق، فقد كان أهل مكة ساكنين بواد غير ذي زرع، ولكن الله أطعمهم مما يجلب إليهم من البلاد، بدعوة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو قوله: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [البقرة: 126] وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يحتمل أن يريد:
آمنهم من خوف أصحاب الفيل، ويحتمل أن يريد آمنهم في بلدهم بدعوة إبراهيم في قوله رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة: 126] وقد فسرناه في موضعه، أو يعني آمنهم في أسفارهم لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين، لا يتعرض لهم أحد بسوء، وكان غيرهم من الناس تؤخذ أموالهم وأنفسهم: وقيل: آمنهم من الجذام فلا يرى بمكة [أحد] مجذوما قال الزمخشري: التنكير في جوع وخوف لشدتهما.
(2/515)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
سورة الماعون
مكية ثلاث الآيات الأول، مدنية الباقي: وآياتها 7 نزلت بعد التكاثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الماعون) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قيل: إن هذا نزل في أبي جهل وأبي سفيان بن حرب، وقيل: هو مطلق والدين هنا الملة أو الجزاء فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه بعنف، وهذا الدفع يحتمل أن يكون عن إطعامه، والإحسان إليه أو عن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ والذي لا يحض على طعام المسكين لا يطعمه من باب أولى. وهذه الجملة هي جواب أرأيت لأن معناها: أخبرني فكأنه سؤال وجواب والمعنى: انظر الذي كذب بالدين، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة، والأعمال السيئة، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات فمقصود الكلام ذمّ الكفار وأحوالهم فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قيل: إن هذا نزل في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، والسورة على هذا نصفها مكي ونصفها مدني قاله أبو زيد السهيلي. وذلك أن ذكر أبي جهل وغيره من الكفار أكثر ما جاء في السور المكية، وذكر السهو عن الصلاة والرياء فيها، إنما هو من صفة الذين كانوا بالمدينة، لا سيما على قول من قال: أنها في عبد الله بن أبيّ، وقيل: إنها مكية كلها وهو الأشهر، ونزل آخرها على هذا في رجل أسلم بمكة ولم يكن صحيح الإيمان، وقيل: مدنية، والسهو عن الصلاة هو تركها أو تأخيرها تهاونا بها.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون، قال: الذين يؤخرونها عن وقتها وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل في صلاتهم الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ هو من الرياء أي صلاتهم رياء للناس لا لله وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ وصف لهم بالبخل وقلة المنفعة للناس. وفي الماعون أربعة أقوال: الأول أنه الزكاة، والثاني أنه المال بلغة قريش. الثالث أنه الماء، الرابع أنه ما يتعاطاه الناس بينهم كالآنية والفأس والدلو والمقص، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ فقال الماء والنار والملح وزاد في بعض الطرق الإبرة والخميرة.
(2/516)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر
مكية وآياتها 3 نزلت بعد العاديات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الكوثر) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والكوثر بثاء مبالغة من الكثرة وفي تفسيره سبعة أقوال: الأول حوض النبي صلى الله عليه وسلم: الثاني أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله [له] في الدنيا والآخرة. قاله ابن عباس وتبعه سعيد بن جبير، فإن قيل: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم. الثالث أن الكوثر القرآن. الرابع أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس أنه التوحيد. السادس أنه الشفاعة، السابع أنه نور وضعه الله في قلبه، ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض لما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الكوثر هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض آنيته عدد نجوم السماء «1» .
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فيه خمسة أقوال: الأول أنه أمره بالصلاة على الإطلاق وبنحر الهدي والضحايا، الثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي قبل صلاة العيد فأمره أن يصلي ثم ينحر، فالمقصود على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة الثالث أن الكفار يصلون مكاء وتصدية وينحرون للأصنام فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: صل لربك وحده وانحر له أي لوجهه لا لغيره، فهو على هذا أمر بالتوحيد والإخلاص. الرابع أن معنى انحر ضع يدك اليمنى على اليسرى عند صدرك في الصلاة فهو على هذا من النحر وهو الصدر. الخامس أن معناه ارفع يديك عند نحرك في افتتاح الصلاة إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ الشانئ هو المبغض، وهو الشنآن بمعنى العداوة، ونزلت هذه الآية في العاصي بن وائل، وقيل: في أبي جهل على وجه الرد عليه إذ قال: إن محمدا أبتر أي لا ولد له ذكر، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له أولاد لأنه مبتور من رحمة الله أي مقطوع عنها، ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المنابر والصوامع مقرون بذكر الله والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم.
__________
(1) . روى المنذري الحديث وعزاه للترمذي عن أنس ج 4 ص 255، المنيرية.
(2/517)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
سورة الكافرون
مكية وآياتها 6 نزلت بعد الماعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الكافرون) سبب هذه السورة أن قوما من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل وأبو جهل ونظراؤهم قالوا: يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك، أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئا، ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأها فقد برىء من الشرك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ هذا إخبار أنه لا يعبد أصنامهم، فإن قيل لم كرر هذا المعنى بقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم؟
فالجواب من وجهين أحدهما قاله الزمخشري وهو أن قوله: لا أعبد ما تعبدون يريد في الزمان المستقبل وقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به فيما مضى، أي ما كنت قط عابدا ما عبدتم فيما سلف، فكيف تطلبون ذلك مني الآن. الثاني قاله ابن عطية: وهو أن قوله: لا أعبد ما تعبدون لما كان يحتمل أن يراد به زمان الحال خاصة قال: ولا أنا عابد ما عبدتم أي: أبدا ما عشت. لأن لا النافية إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال فقوله: لا أعبد لا يحتمل أن يراد به الحال. ويحتمل عندي أن يكون قوله: لا أعبد ما تعبدون يراد به في المستقبل، على حسب ما تقتضيه لا من الاستقبال، ويكون قوله ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به في الحال، فيحصل من المجموع نفي عبادته الأصنام في الحال والاستقبال. ومعنى الحال في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم ثم أظهر من معنى المضي الذي قاله الزمخشري، ومن معنى الاستقبال فإن قولك: ما زيد بقائم بنفي الجملة الاسمية يقتضي الحال.
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ هذا إخبار أن هؤلاء الكفار لا يعبدون الله، كما قيل لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] إلا أن هذا في حق قوم مخصوصين ماتوا على الكفر، وقد روي أن هؤلاء الجماعة المذكورين هم أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبيّ بن خلف وأبن الحجاج وكلهم ماتوا كفارا، فإن قيل: لم قال ما أعبد بما دون من التي هي موضوعة لمن يعقل؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدهما أن ذلك لمناسبة قوله: لا أعبد ما تعبدون فإن هذا
(2/518)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
واقع على الأصنام التي لا تعقل ثم جعل ما أعبد على طريقته لتناسب اللفظ. الثاني أنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق قاله الزمخشري. الثالث أن ما مصدرية والتقدير: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وهذا ضعيف، فإن قيل لم كرّر هذا المعنى واللفظ فقال بعد ذلك: ولا أنتم عابدون ما أعبد مرة أخرى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما قول الزمخشري: وهو أن الأوّل في المستقبل والثاني فيما مضى والآخر قاله ابن عطية وهو أن الأول في الحال والثاني في الاستقبال فهو حتم عليهم أن لا يؤمنوا أبدا
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذه براءة منهم، وفيها مسالمة منسوخة بالسيف.
(2/519)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
سورة النصر
نزلت بمنى في حجة الوداع فتعد مدنية وهي آخر ما نزل من سور القرآن وآياتها 3 نزلت بعد التوبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النصر) سأل عمر بن الخطاب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن معنى هذه السورة فقالوا: إن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النصر والفتح، وذلك على ظاهر لفظها فقال لابن عباس بمحضرهم: يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما علمت. وقد قال بهذا المعنى ابن مسعود وغيره، ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم إني أستغفرك يتأول القرآن، أي هذه السورة وقال لها مرة ما أراه إلا حضور أجلي.
وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى أيام التشريق في حجة الوداع. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوما أو نحوها، وقال ابن مسعود: هذه السورة تسمى سورة التوديع.
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني بالفتح فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: إن النصر صلح الحديبية والفتح فتح مكة وقيل: النصر إسلام أهل اليمن، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخباره بغيب، فهو من أعلام النبوّة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي جماعات، وذلك أنه أسلم بعد فتح مكة بشر كثير، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في فتح مكة عشرة آلاف، وكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفا وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر «1» . وقد قيل: إن عدد المسلمين عند موته مائة ألف وأربعة عشر ألفا بل أكثر فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ قد ذكر التسبيح والاستغفار ومعنى بحمد ربك فيما تقدم، فإن قيل: لم أمره الله بالتسبيح والحمد والاستغفار عند رؤية النصر والفتح، وعند اقتراب أجله؟ فالجواب أنه أمر بالتسبيح والحمد ليكون شكرا على النصر والفتح وظهور الإسلام وأمره بذلك وبالاستغفار عند اقتراب أجله ليكون ذلك زادا للآخرة وعدة للقاء الله.
__________
(1) . هذا الكلام فيه نظر لوجود مسيلمة الكذاب على الأقل.
(2/520)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
سورة المسد
مكية وآياتها 5 نزلت بعد الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة أبي لهب) سببها أنه لما نزل قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقال لهم:
إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ثم أنذرهم عموما وخصوصا فقال له أبو لهب: تبا لك لهذا جمعتنا»
فنزلت السورة.
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ معنى تبت خسرت والتباب هو: الخسران، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وهو عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس عداوة له فإن قيل: لم ذكره الله بكنيته دون اسمه؟ فالجواب من ثلاثة أوجه أحدها أن كنيته كانت أغلب عليه من اسمه كأبي بكر وغيره ويقال: أنه كني بأبي لهب لتلهب وجهه جمالا: الثاني أنه لما كان اسمه عبد العزى عدل عنه إلى الكنية: الثالث أنه لما كان من أهل النار واللهب، كنّاه أبا لهب «2» وليناسب ذلك قوله: سيصلى نارا ذات لهب.
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية يراد بها النفي، وماله هو رأس ماله وما كسب الربح. أو ماله ما ورث وما كسب هو ما اكتسبه لنفسه، وقيل: ماله جميع ماله وما كسب سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ هذا حتم عليه بدخول النار ومات بعد ذلك كافرا وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ اسم امرأته أم جميل بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان، وفي وصفها بحمالة الحطب أربعة أقوال أحدها أنها تحمل حطبا وشوكا فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه. الثاني أن ذلك عبارة عن مشيها بالنميمة يقال:
فلان يحمل الحطب بين الناس أي: يوقد بينهم نار العداوة بالنمائم. الثالث أنه عبارة عن سعيها بالمضرة على المسلمين يقال: فلان يحطب على فلان إذا قصد الإضرار به: الرابع
__________
(1) . الحديث مشهور وقد رواه الطبري في تفسيره بسنده إلى ابن عباس.
(2) . لهب. قرأ ابن كثير: لهب بسكون الهاء. حمّالة الحطب: قرأها عاصم بالفتح والباقون: حمالة بالرفع.
(2/521)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
أنه عبارة عن ذنوبها وسوء أعمالها
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ الجيد: العنق والمسد الليف، وقيل: الحبل المفتول، وفي المراد به ثلاثة أقوال: الأول أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا على القول الأول، وفي ذلك تحقير لها وإظهار لخساسة حالها. والآخر أنه حالها في جهنم يكون كذلك أي يكون في عنقها حبل. الثالث أنها كانت لها قلادة فاخرة، فقالت لأنفقنها على عداوة محمد، فأخبر عن قلادتها بحبل المسد على جهة التفاؤل، والذم لها بتبرجها ويحتمل قوله: وامرأته وما بعده وجوها من الإعراب يختلف الوقف باختلافها وهي: أن يكون امرأته مبتدأ وحمالة الحطب خبره، أو يكون حمالة الحطب نعت والخبر: في جيدها حبل من مسد أو يكون امرأته معطوفا على الضمير في يصلى وحمالة الحطب نعت، أو خبر ابتداء مضمر.
(2/522)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
سورة الإخلاص
مكية وآياتها 4 نزلت بعد الناس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الإخلاص) سبب نزول هذه السورة أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرّ مغشيا عليه ونزل عليه جبريل بهذه السورة، وقيل: إن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنسب لنا ربك فنزلت. وعلى الرواية الأولى تكون السورة مدنية، لأن سؤال اليهود بالمدينة وعلى الرواية الثانية تكون مكية.
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن «1» . فقيل: إن ذلك في الثواب، أي لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن، وقيل: إن ذلك فيما تضمنته من المعاني والعلوم وذلك أن علوم القرآن ثلاثة توحيد وأحكام وقصص، وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد فهي ثلث القرآن بهذا الإعتبار، وهذا أظهر وعليه حمل ابن عطية الحديث. ويؤيده أن في بعض روايات الحديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن وأخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فقال: أما هذا فقد غفر له، وفي رواية أنه قال وجبت له الجنة، وأخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في الصلاة قل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه وفي رواية خرجّها الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: حبك إياها أدخلك الجنة.
وخرّج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كل يوم غفرت له ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضمير هنا عند البصريين ضمير الأمر والشأن والذي يراد به التعظيم والتفخيم، وإعرابه مبتدأ وخبره الجملة
__________
(1) . رواه مسلم عن أبي هريرة عن رياض الصالحين للنووي.
(2/523)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
التي بعده وهي المفسرة له، والله مبتدأ وأحد خبره وقيل: الله هو الخبر وأحد بدل منه وقيل: الله بدل وأحد هو الخبر. وأحد له معنيان أحدهما أن يكون من أسماء النفي التي لا تقع إلا في غير الواجب كقولك: ما جاءني أحد وليس هذا موضع هذا المعنى وإنما موضعه قوله: ولم يكن له كفوا أحد والآخر أن يكون بمعنى واحد وأصله وحد بواو ثم أبدل من الواو همزة وهذا هو المراد هنا.
واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى.
الأول أنه واحد لا ثاني معه فهو نفي للعدد. والثاني أنه واحد لا نظير ولا شريك له كما تقول: فلان واحد عصره أي لا نظير له والثالث أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض، والأظهر أن المراد في السورة نفي الشريك لقصد الرد على المشركين ومنه قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] قال الزمخشري أحد وصف بالوحدانية ونفي الشركاء قلت: وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته وذلك في القرآن كثير جدا أوضحها أربعة براهين: الأول قوله أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] لأنه إذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات لم يمكن أن يكون واحد منها شريكا له، والثاني قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] والثالث قوله قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا والرابع قوله: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] وقد فسرنا هذه الآيات في مواضعها وتكلمنا على حقيقة التوحيد في قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163]
اللَّهُ الصَّمَدُ في معنى الصمد ثلاثة أقوال: أحدها أن الصمد الذي يصمد إليه في الأمور أي يلجأ إليه والآخر أنه لا يأكل ولا يشرب فهو كقوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ والثالث أنه الذي لا جوف له، والأول هو المراد هنا على الأظهر، ورجحه ابن عطية بأن الله موجد الموجودات وبه قوامها، فهي مفتقرة إليه أي تصمد إليه إذ لا تقوم بأنفسها. ورجّحه شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير! لورود معناه في القرآن حيثما ورد نفي الولد عن الله تعالى كقوله في مريم «وقالوا اتخذ الله ولدا» ثم أعقبه بقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] وقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [البقرة: 117] وقوله:
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 116] وكذلك هنا ذكره مع قوله لم يلد فيكون برهانا على نفي الولد، قال الزمخشري: صمد فعل بمعنى مفعول لأنه مصمود إليه في الحوائج لَمْ يَلِدْ. هذا ردّ على كل من جعل لله ولدا فمنهم النصارى في قولهم: «عيسى ابن الله» واليهود في قولهم: «عزير ابن الله» والعرب في قولهم: «الملائكة بنات الله» وقد أقام الله البراهين في القرآن على نفي الولد، وأوضحها أربعة أقوال: الأول، أن الولد لا بد أن يكون من جنس والده. والله تعالى ليس له جنس فلا
(2/524)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
يمكن أن يكون له ولد وإليه الإشارة بقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] فوصفهما بصفة الحدوث لينفي عنهما صفة القدم فتبطل مقالة الكفار والثاني: أن الوالد إنما يتخذ ولدا للحاجة إليه، والله لا يفتقر إلى شيء فلا يتخذ ولدا وإلى هذا أشار بقوله: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68] الثالث: أن جميع الخلق عباد الله والعبودية تنافي النبوة وإلى هذا أشار بقوله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] الرابع أنه لا يكون له ولد إلا لمن له زوجة، والله تعالى لم يتخذ زوجة فلا يكون له ولد وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الأنعام: 101] وَلَمْ يُولَدْ هذا رد على الذين قالوا: أنسب لنا ربك، وذلك أن كل مولود محدث، والله تعالى هو الأول الذي لا افتتاح لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره، فلا يمكن أن يكون مولودا تعالى عن ذلك
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ الكفؤ هو النظير والمماثل قال الزمخشري يجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، فيكون نفيا للصاحبة وهذا بعيد والأول هو الصحيح ومعناه أن الله ليس له نظير ولا شبيه ولا مثيل، ويجوز في كفوءا ضم الفاء وإسكانها مع ضم الكاف، وقد قرئ بالوجهين ويجوز أيضا كسر الكاف وإسكان الفاء، ويجوز كسر الكاف وفتح الفاء والمدّ ويجوز فيه الهمزة والتسهيل «1» وانتصب كفوا على أنه خبر كان، وأحد اسمها قال ابن عطية: ويجوز أن يكون كفوا حالها لكونه كان صفة للنكرة فقدم عليها، فإن قيل: لم قدّم المجرور وهو له على اسم كان وخبرها، وشأن الظرف إذا وقع غير خبر أن يؤخر؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أنه قدم للاعتناء به والتعظيم، لأنه ضمير الله تعالى وشأن العرب تقديم ما هو أهم وأولى. والآخر أن هذا المجرور به يتم معنى الخبر وتكمل فائدته، فإنه ليس المقصود نفي الكفؤ مطلقا إنما المقصود نفي الكفؤ عن الله تعالى، فلذلك اعتنى بهذا المجرور الذي يحرز هذا المعنى، فقدم.
فإن قيل: إن قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقتضي نفي الولد والكفؤ فلم نص على ذلك بعده؟ فالجواب أن هذا من التجريد، وهو تخصيص الشيء بالذكر بعد دخوله في عموم ما تقدم، كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] ويفعل ذلك لوجهين يصح كل واحد منهما هنا أحدهما الاعتناء، ولا شك أن نفي الولد والكفؤ عن الله ينبغي الاعتناء به للرد على من قال خلاف ذلك من الكفار. والآخر الإيضاح والبيان، فإن دخول الشيء في ضمن العموم ليس كالنص عليه فنص على هذا بيانا. وإيضاحا للمعنى ومبالغة في الرد على الكفار، وتأكيدا لإقامة الحجة عليهم.
__________
(1) . قرأ حفص بالتسهيل: كفوا وقرأ الباقون بالهمزة: كفؤا وحمزة بسكون الفاء كفؤا.
(2/525)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
سورة الفلق
مكية وآياتها 5 نزلت بعد الفيل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفلق) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ تقدم معنى أعوذ في التعوذ ومعنى رب في اللغات والفاتحة، وفي الفلق ثلاثة أقوال: الأول أنه الصبح ومنه فالق الإصباح قال الزمخشري: هو فعل بمعنى مفعول، الثاني: أنه كل ما يفلقه الله كفلق الأرض عن النبات والجبال عن العيون: والسحاب عن المطر والأرحام عن الأولاد والحب والنوى وغير ذلك، الثالث: أنه جب في جهنم، وقد روي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ هذا عموم في جميع المخلوقات وشرهم على أنواع كثيرة، أعاذنا الله منها وما هنا موصولة أو موصوفة أو مصدرية وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ فيه سبعة أقوال، الأول: أنه الليل إذا أظلم ومنه قوله تعالى: «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» وهذا قول الأكثرين، وذلك ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن، ولذلك قال في المثل: الليل أخفى للويل. الثاني: أنه القمر. خرّج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ووقوبه هذا كسوفه، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد وبمعنى الدخول فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به. الثالث: أنه الشمس إذا غربت والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول. الرابع: أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل، وهذا قريب من الذي قبله، الخامس: أن الغاسق سقوط الثريا وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: النجم هو الغاسق فيحتمل أن يريد الثريا السادس قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقبه ضربه الرابع أنه إبليس حكى ذلك السهيلي
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ النفث شبه النفخ دون تفل وريق قاله ابن عطية وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق وهذا النفث ضرب من السحر وهو: أن ينفث على عقد تعقد في خيط أو نحوه على اسم مسحور فيضره ذلك وحكى ابن عطية: أنه حدثه ثقة أنه رأى عند بعض الناس بصحراء المغرب خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان وهي أولاد الإبل فمنعها بذلك من رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل
(2/526)
إلى أمه فرضع في الحين قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفاثات ثلاثة أوجه: أحدها أن يستعاذ من مثل عملهن وهو السحر ومن ائتمن في ذلك والثاني أن يستعاذ من خداعهن للناس وفتنتهن. والثالث أن يستعاذ مما يصيب من الشر عند نفثهن. والنفاثات بناء مبالغة والموصوف محذوف تقديره: النساء النفاثات، والجماعة النفاثات، أو النفوس النفاثات والأول أصح لأنه روي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وكنّ ساحرات سحرن هن وأبوهنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعقدن له إحدى عشر عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشر آية بعدد العقد وشفى الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: لم عرّف النفاثات بالألف واللام ونكر ما قبله وهو غاسق وما بعده وهو حاسد مع أن الجميع مستعاذ منه؟ فالجواب أنه عرف النفاثات ليفيد العموم لأنه كل نفاثة شريرة بخلاف الغاسق والحاسد فإن شرهما في بعض دون البعض مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ الحسد خلق مذموم طبعا وشرعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب «1» وقال بعض العلماء: الحسد أول معصية عصي الله بها في السماء والأرض أما في السماء فحسد إبليس لآدم وأما في الأرض فقتل قابيل لأخيه هابيل بسبب الحسد، ثم إن الحسد على درجات الأولى أن يحب الإنسان زوال النعمة عن أخيه المسلم وإن كانت لا تنتقل إليه بل يكره إنعام الله على غيره ويتألم به الثانية أن يحب زوال تلك النعمة لرغبته فيها رجاء انتقالها إليه.
الثالثة أن يتمنى لنفسه مثل تلك النعمة من غير أن يحب زوالها عن غيره وهذا جائز وليس بحسد وإنما هو غبطة. والحاسد يضر نفسه ثلاث مضرات: أحدها اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام الثانية سوء الأدب مع الله تعالى، فإن حقيقة الحسد كراهية إنعام الله على عبده واعتراض على الله في فعله الثالثة تألم قلبه من كثرة همه وغمه، فنرغب إلى الله أن يجعلنا محسودين لا حاسدين، فإن المحسود في نعمة والحاسد في كرب ونقمة، ولله در القائل:
وإني لأرحم حسّادي لفرط ما ... ضمّت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار
وقال آخر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
ثم إن الحسود لا تزال عداوته ولا تنفع مداراته وهو ظالم يشاكي كأنه مظلوم، ولقد صدق القائل:
__________
(1) . رواه ابن ماجة عن أنس في كتاب الزهد باب 22 ورقمه 4210 ج 2 وفيه راو ضعيف.
(2/527)
كل العداوة قد ترجى إزالتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال حكيم الشعراء:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
قال ابن عطية قال بعض الحذاق هذه السورة خمس آيات وهي مراد الناس بقولهم للحاسد الذي يخاف منه العين: الخمسة على عينك، فإن قيل: إذا وقب، وإذا حسد فقيد بإذا التي تقتضي تخصيص بعض الأوقات؟ فالجواب أن شر الحاسد ومضرته إنما تقع إذا أمضى حسده، فحينئذ يضر بقوله أو بفعله أو بإصابته بالعين، فإن عين الحسود قاتلة. وأما إذا لم يمض حسده ولم يتصرف بمقتضاه فشره ضعيف ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد والظن والطيرة، فمخرجه من الحسد أن لا يبقى ومخرجه من الظن أن لا يحقق ومخرجه من الطيرة ألا يرجع «1» ، فلهذا خصه بقوله إذا وقب، فإن قيل إن قوله من شر ما خلق عموم يدخل تحته كل ما ذكر بعده فلأي شيء ذكر ما بعده؟ فالجواب أن هذا من التجريد للاعتناء بالمذكور بعد العموم، ولقد تأكد ما ذكر في هذه السورة بعد العموم بسبب السحر الذي سحر اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حسدهم له.
__________
(1) . قال في التيسير: رواه الطبراني بإسناد ضعيف ومرسلا عن الحسن البصري.
(2/528)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
سورة الناس
مكية وآياتها 6 نزلت بعد الفلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الناس) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إن قيل لم أضاف الرب إلى الناس خاصة وهو رب كل شيء؟ فالجواب أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فخصهم بالذكر لأنهم المعوذين بهذا التعويذ والمقصودون هنا دون غيرهم مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ هذا عطف بيان، فإن قيل: لم قدم وصفه تعالى برب ثم بملك ثم بإله؟ فالجواب أن هذا على الترتيب في الارتقاء إلى الأعلى وذلك أن الرب قد يطلق على كثير من الناس، فيقال فلان رب الدار، وشبه ذلك فبدأ به لاشتراك معناه، وأما الملك فلا يوصف به إلا أحد من الناس، وهم الملوك ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس، فلذلك جاء به بعد الرب، وأما الإله فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعي الملوك أنهم آلهة فإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به فإن قيل: لم أظهر المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية؟ فالجواب أنه لما كان عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار، وقصد أيضا الاعتناء بالمكرر ذكره كقول الشاعر
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... يبغص الموت ذا الغنى والفقير
الْوَسْواسِ وهو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي، فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر من قول ابن عطية: الوسواس من اسماء الشيطان، ويحتمل أن يكون مصدرا وصف به الموسوس على وجه المبالغة، كعدّل وصوّم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس وقال الزمخشري: إنما المصدر وسواس بالكفر الْخَنَّاسِ معناه الراجع على عقبه المستمر أحيانا وذلك متمكن في الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبد الله وتعوذ به منه تباعد عنه، ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر، وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وسوسة
(2/529)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة منها: إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد، والحقد، والغضب، حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء واحدها الإكثار من ذكر الله وثانيها الإكثار من الاستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة وثالثها مخالفته والعزم على عصيانه فإن قيل: لم قال في الصدور الناس ولم يقل: في قلوب الناس؟ فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة، وأنها غير حالّة في القلب بل هي محوّمة في صدور حول القلب
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هذا بيان لجنس الوسواس وأنه يكون من الجن، ومن الناس، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة، فإنه الشيطان كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء، فإنها أمّارة بالسوء والأول أظهر، وقيل: من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال: أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس، وليس الناس على هذا ممن يوسوس. والأول أظهر وأشهر.
فإن قيل: لم ختم القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده، والنعم مظنة الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله. الثاني يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: أنزلت عليّ آيات لم ير مثلهن قط كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم ير مثلهما ليجمع حسن الافتتاح والاختتام، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها. الوجه الثالث يظهر لي أيضا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القراءة، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيق لا رب غيره.
تم بفضل الله كتاب التسهيل لعلوم التنزيل للإمام محمد بن أحمد بن جزي رحمه الله وأجزل مثوبته راجيا من الله حسن الختام لكل من قرأه وانتفع به ودعا لمصححه وناشره وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(2/530)
فهرس المحتويات
سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة 5 سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة 18 سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون 32 سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة 48 سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون 59 سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون 78 سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان 88 سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون 98 سورة القصص مكية وآياتها ثمان وثمانون 109 سورة العنكبوت مكية وآياتها تسع وستون 122 سورة الروم مكية وآياتها ستون 130 سورة لقمان مكية وآياتها أربع وثلاثون 137 سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون 141 سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون 145 سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون 160 سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون 171 سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون 179 سورة الصافات مكية وآياتها ثنتان وثمانون ومائة 188 سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون 201 سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون 215 سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون 227 سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون 237 سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون 244 سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون 254
(2/531)
سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون 266 سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون 270 سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون 274 سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون 280 سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون 286 سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة 294 سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون 300 سورة الذاريات مكية وآياتها ستون 306 سورة الطور مكية وآياتها تسع وأربعون 311 سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون 316 سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون 322 سورة الرحمن مدنية وآياتها ثمان وسبعون 327 سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون 333 سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون 343 سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون 351 سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون 357 سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة 364 سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة 370 سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة 373 سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة 377 سورة التغابن مدنية وآياتها ثماني عشرة 380 سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة 383 سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة 389 سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون 394 سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون 398 سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون 404 سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون 409 سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون 413 سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون 417 سورة المزمل مكية وآياتها عشرون 422 سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون 427 سورة القيامة مكية وآياتها أربعون 444
(2/532)
سورة الإنسان مدنية وآياتها إحدى وثلاثون 436 سورة المرسلات مكية وآياتها خمسون 441 سورة النبأ مكية وآياتها أربعون 444 سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون 448 سورة عبس مكية وآياتها ثنتان وأربعون 452 سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون 455 سورة الانفطار مكية وآياتها تسع عشرة 458 سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون 460 سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون 464 سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون 467 سورة الطارق مكية وآياتها سبع عشرة 471 سورة الأعلى مكية وآياتها تسع عشرة 473 سورة الغاشية مكية وآياتها ست وعشرون 476 سورة الفجر مكية وآياتها ثلاثون 478 سورة البلد مكية وآياتها عشرون 483 سورة الشمس مكية وآياتها خمس عشرة 486 سورة الليل مكية وآياتها إحدى وعشرون 488 سورة والضحى مكية وآياتها إحدى عشرة 490 سورة الشرح مكية وآياتها ثمان 492 سورة التين مكية وآياتها ثمان 494 سورة العلق مكية وآياتها تسع عشرة 496 سورة القدر مكية وآياتها خمس 499 سورة البينة مدنية وآياتها ثمان 501 سورة الزلزلة مدنية وآياتها ثمان 503 سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة 505 سورة القارعة مكية وآياتها إحدى عشرة 507 سورة التكاثر مكية وآياتها ثمان 509 سورة العصر مكية وآياتها ثلاث 511 سورة الهمزة مكية وآياتها تسع 512 سورة الفيل مكية وآياتها خمس 513 سورة قريش مكية وآياتها أربع 514 سورة الماعون مكية وآياتها سبع 516
(2/533)
سورة الكوثر مكية وآياتها ثلاث 517 سورة الكافرون مكية وآياتها ست 518 سورة النصر مدنية وآياتها ثلاث 520 سورة المسد مكية وآياتها خمس 521 سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع 523 سورة الفلق مكية وآياتها خمس 526 سورة الناس مكية وآياتها ست 529
(2/534)