الجزء الأول
[مقدمة التحقيق]
مقدمة المحقق
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فقد صحبت كتاب «التسهيل في علوم التنزيل» للعلامة الأندلسي المرحوم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المتوفي عام 741 هـ- منذ أكثر من ثلاثين سنة وأعجبت به لقوة عبارته وسهولة بيانه، وغزارة فوائده، ولكن الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد مضى عليها أكثر من خمسين سنة وهي مملوءة بالأخطاء، وخاصة وأن المؤلف يعتمد على قراءة الإمام نافع المدني رحمه الله، ورواية ورش وهي القراءة المعتمدة في شمال أفريقيا عموما، وكأني بمن صححوا الكتاب في طبعته الأولى لم يلاحظوا الفروق بين قراءة ورش وبين قراءة عاصم المعتمدة في معظم بلاد المسلمين، في آسيا ومصر والحجاز والشام والعراق وسائر بلاد المشرق، يضاف إلى ذلك أن مستوى الطباعة والإخراج قد تطور كثيرا خلال السنوات الماضية، وقد عمدت بعض دور النشر إلى تصوير الطبعة الأولى بدون أي تصحيح أو تحقيق وتوزيعها في السوق، فكنت أتمنى لو تقيض لهذا الكتاب الجليل دار كريمة تتولى تنقيحه وتصويب الأخطاء الشائعة، خدمة لكتاب الله من جهة وتقديرا لهذا التفسير الجليل الذي أستطيع الجزم بأنه يفيد العالم والمثقف وطالب المعرفة، فهو قد اطلع ولخص المؤلفات الضخمة في التفسير كالتفسير الإمام «جامع البيان» للإمام الطبري الذي هو أعظم التفاسير على الإطلاق، وكل من كتب في هذا الموضوع فلا بدّ له من مطالعة الطبري، واستفاد من الكشاف للزمخشري وهناك تفسير ابن عطية وغيره ثم إنه قدّم له بمقدمة ضافية عن علوم القرآن. كل ذلك باختصار غير مخل.
وشاء الله أن ألتقي بالأخ الحاج أحمد أكرم الطباع صاحب دار القلم العامرة وصارحته بأمنيتي الغالية، فلبّى ووافق على القيام بكل ما يلزم لإخراج هذا السفر النفيس، بأحسن صورة ممكنة، وعهد إلى هذا الفقير بتخريج الأحاديث الواردة خلال التفسير، وإصلاح ما بدا لي من أخطاء، فقمت بهذه المهمة وأنا في غاية السرور لهذا التوفيق الذي جاء على قدر وقد أعانني الله فأنجزت هذه المهمة ووضعت تراجم مختصرة لأهم الأعلام الواردة أسماؤهم ضمن جدول ألفبائي في آخر الكتاب، كما اقتبست من كتاب أستاذي الشيخ سعيد الأفغاني شيئا مما كتبه في مقدم كتاب حجة القراءات للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجله من رجال القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، وفيها بيان موجز لأئمة(1/5)
القراء: رواتهم وتواريخ حياتهم بما يفيد القارئ العادي المثقف الذي يحتاج إلى معرفة هؤلاء الأعلام.
وفي الختام لا أرى أني قد وفيت الكتاب حقه كما يجب، ولكني بذلت جهدي حسب الوقت المتاح لي، والكمال لله وحده، رحم الله المؤلف وأجزل مثوبته وجعل مقامه في عليين. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
بيروت في 1/ رجب/ 1416 هـ الموافق 24/ 11/ 1995 م.
خادم أهل العلم عبد الله الخالدي(1/6)
شرح حال المؤلف ابن جزي
رحمه الله هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي الأندلسي.
وردت ترجمته في الإحاطة للسان الدين بن الخطيب. كما ذكره صاحب نفح الطيب في ج/ 3/ 272 وقال عنه: فقد وهو يحرض الناس يوم معركة طريف 741 رحمه الله تعالى.
نزل أجداده وقائدهم أبو الخطار الكلبي وهو الحسام بن ضرار في «بوله» أحد حصون الأندلس في «شنت مرية» مددا لأقاربهم من اليمنية حوالي عام 125/ هـ.
وكان أحد أجداده قاضيا في جيّان ويدعى يحيى.
وقد عكف الإمام محمد المذكور على طلب العلم واكتساب القوت الحلال، وكان عالما حافظا لكتاب الله، وله مشاركة قوية في علوم العربية والفقه، والأصول والقراءات والحديث والأدب والشعر، وقد كان واسع الإطلاع على التفاسير مستوعبا للأقوال جامعا للكتب، وكان في تدريسه ممتع المحاضرة، صحيح الإعتقاد، وخطب منذ نشأته بالجامع الأعظم في بلده، ثم استمر شأوه في ارتفاع، ماضيا على سنن الأصالة والنبالة، وأورث ذلك لابنه عبد الله كاتب رحلة ابن بطوطة.
مشايخه وتلاميذه.
قرأ ابن جزي على أبي جعفر بن الزبير وهو أجل أساتذته، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. كما روى عن ابن عصفور، وروى أيضا القرآن عن القارئ المكثر أبي عبد الله بن الكمّاد وغيرهم كثير.
تلاميذه:
وأخذ عنه أبناؤه محمد وأبو بكر أحمد وعبد الله، ولسان الدين بن الخطيب وابراهيم الخزرجي، وكان أشهر أولاده أبو عبد الله محمد الذي أخذ عن أبيه، وصار فيما بعد كاتبا مجيدا، وذا رأي فقيها، عالما، بصيرا بالحديث والأصول.
مؤلفاته:
ترك كثيرا من الآثار في مختلف فنون العلوم كالفقه والحديث والتصوف والقراءات، وكان ينظم الشعر أيضا في التصوف.(1/7)
ومن أهم كتبه:
1- وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم.
2- الأنوار السنية في الكلمات السنية.
3- كتاب الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار.
4- كتاب القوانين الفقهية المطبوع في بيروت، وهو من الكتب المعتبرة في الفقه، لأنه لخص آراء المذاهب الأربعة مع المقارنة فيما بينها. وقد حققه الأستاذ الجليل عبد العزيز سيد الأهل ومنه استفدنا هذه النبذة في ترجمة المؤلف.
5- وأخيرا كتاب التسهيل لعلوم التنزيل. وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا. وهو ربما كان أفضل آثاره. وقد ذكرت عنه في مقدمة التحقيق ما فيه الكفاية.
رحم الله المؤلف، ما أروع بيانه وأوجز كلامه وأغزر فوائده.(1/8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلم العلامة، فريد دهره، ووحيد عصره، أبو عبد الله محمد المدعو بالقاسم بن أحمد بن محمد بن جزيّ الكلبي، رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه، بحرمة النبي الأوّاه:
الحمد لله العزيز الوهاب، مالك الملوك ورب الأرباب، هو الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [المؤمن: 54] ، وأودعه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة: غاية الحكمة وفصل الخطاب وخصصه من الخصائص العلية، واللطائف الخفية، والدلائل الجلية، والأسرار الربانية، العجب بكل عجب عجاب وجعله في الطبقة العليا من البيان، حتى أعجز الإنسان والجان، واعترف علماء أرباب اللسان بما تضمنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب ويسر حفظه في الصدور، وضمن حفظه من التبديل والتغيير، فلم يتغير ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب وجعله قولا فصلا، وحكما عدلا، وآية بادية، ومعجزة باقية: يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوّاب، والحجة على الكافر المرتاب وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيّن الحلال والحرام، وعلّم من شعائر الإسلام، وصرّف من النواهي والأوامر والمواعظ والزواجر، والبشارة بالثواب، والنذارة بالعقاب، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصته، واصطفاهم من عباده، وأورثهم الجنة وحسن المآب.
فسبحان مولانا الكريم الذي خصنا بكتابه، وشرفنا بخطابه، فيا له من نعمة سابغة، وحجة بالغة، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها، وتوفية حقها، ومعرفة قدرها، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: 88] ، هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: 30] .
وصلاة الله وسلامه، وتحياته وبركاته وإكرامه، على من دلنا على الله، وبلغنا رسالة الله، وجاءنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حق الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلم ونصح وبيّن وأوضح حتى قامت الحجة، ولاحت المحجة، وتبين الرشد من الغيّ، وظهر طريق الحق والصواب، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب. ذلك: سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، القرشي الهاشمي، المختار من لباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائدا للغرّ المحجلين والوجوه الناضرة، فهو أوّل من يشفع يوم الحساب، وأوّل من يدخل الجنة ويقرع الباب، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الأكرمين، خير أهل(1/9)
وأصحاب، صلاة زاكية نامية، لا يحصر مقدارها العدّ والحساب، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتاب.
أما بعد فإنّ علم القرآن العظيم: هو أرفع العلوم قدرا، وأجلها خطرا، وأعظمها أجرا، وأشرفها. ذكرا وإن الله أنعم عليّ بأن شغلني بخدمة القرآن، وتعلّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنف العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوّل حتى كثّر الأسفار، ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقا نحاه، وذهب مذهبا ارتضاه، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95] ، فرغبت في سلوك طريقهم، والانخراط في مساق فريقهم، وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكا نافعا، إذ جعلته وجيزا جامعا، قصدت به أربع مقاصد: تتضمن أربع فوائد:
الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم، في كتاب صغير الحجم تسهيلا على الطالبين، وتقريبا على الراغبين فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها ولقد أودعته من كل فنّ من فنون علم القرآن: اللباب المرغوب فيه، دون القشر المرغوب عنه، من غير إفراط ولا تفريط. ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار.
الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة، وفوائد غريبة، قلما توجد في كتاب لأنها من بنات صدري، وينابيع ذكرى. ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر.
الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العقد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات، وبيان المجملات.
الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين، السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح. وذلك أن أقوال الناس على مراتب: فمنها الصحيح الذي يعوّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد. ثم إنّ هذا الاحتمال قد يكون متساويا أو متفاوتا، والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا، وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة، تعرف بها كل مرتبة وكل قول فأدناها ما أصرح بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه إنه ضعيف أو بعيد، ثم ما أقول إنّ غيره أرجح أو أقوى أو أظهر أو أشهر ثم ما أقدّم غيره عليه إشعارا بترجيح المتقدّم أو بالقول فيه: قيل كذا، قصدا للخروج من عهدته، وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما(1/10)
لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به، على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلّا قليلا، وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وأما إذا ذكرت شيئا دون حكاية قوله عن أحد فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء نفسي، أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيها للكتاب، وربما ذكرته تحذيرا منه، وهذا الذي من الترجيح والتصحيح مبنيّ على القواعد العلمية، أو ما تقتضيه اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا بابا في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله. وسميته كتاب التسهيل: لعلوم التنزيل وقدّمت في أوّله مقدّمتين: إحداهما في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة. وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم: أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملا مبرورا. وسعيا مشكورا، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.
[رحم الله المؤلف ما أوجز عبارته وأكثر فائدته وقد وفى بكل ما وعد به جزاه الله خيرا عن الدين وأهله](1/11)
المقدمة الأولى
وفيها إثنا عشر بابا
الباب الأوّل: في نزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أوّل ما بعثه الله بمكة، وهو ابن أربعين سنة، إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفاه الله، فكانت مدّة نزوله عليه عشرون سنة، وقيل كانت ثلاثا وعشرين سنة على حسب الاختلاف في سنّه صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي، هل كان ابن ستين سنة، أو ثلاث وستين سنة؟ وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة، وربما تنزل عليه آيات مفترقات، فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة.
وأوّل ما نزل عليه من القرآن: صدر سورة العلق، ثم المدّثّر والمزمل، وقيل: أوّل ما نزل المدّثّر وقيل: فاتحة الكتاب، والأوّل هو الصحيح لما ورد في الحديث الصحيح، عن عائشة في حديثها الطويل في ابتداء الوحي قالت فيه: جاءه الملك وهو بغار حراء، قال اقرأ، قال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال فأخذني وغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فقال زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع» «1» ، وفي رواية من طريق جابر بن عبد الله: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمّلوني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وآخر ما نزل إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وقيل آية الزنى التي في البقرة، وقيل الآية قبلها.
وكان القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته، فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنه لم يوجد. فلما قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يذهب بموت القراء. فجمعه في صحف غير مرتّب السور وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر بعده، ثم عند بنته حفصة أم
__________
(1) . أخرجه مسلم ج أول ص 139 كتاب الإيمان باب رقم 73.(1/12)
المؤمنين، وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة، وكان بينها اختلاف، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم، فانتدب لذلك عثمان، وأمر زيد بن ثابت فجمعه، وجعل معه ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن العاصي بن أمية، وقال لهم إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش، وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماما في هذا الجمع الأخير، وكان عثمان رضي الله عنه يتعهدهم ويشاركهم في ذلك، فلما كمل المصحف نسخ عثمان رضي الله عنه منه نسخا ووجهها إلى الأمصار وأمر بما سواها أن تخرق أو تحرق «يروى بالحاء والخاء المنقوطة» فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف، وقد قيل إنه من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك ضعيف تردّه الآثار الواردة في ذلك.
وأما نقط القرآن وشكله فأوّل من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان وزاد الحجاج تحزيبه وقيل: أوّل من نقطه يحيى بن يعمر وقيل أبو الأسود الدؤلي، وأما وضع الأعشار فيه فقيل: إنّ الحجاج فعل ذلك وقيل بل أمر به المأمون العباسي.
وأما أسماؤه فهي أربعة: القرآن، والفرقان، والكتاب، والذكر. وسائر ما يسمى صفات لا أسماء: كوصفه بالعظيم، والكريم، والمتين، والعزيز، والمجيد، وغير ذلك.
فأما القرآن: فأصله مصدر قرأ، ثم أطلق على المقروء، وأما الفرقان: فمصدر أيضا معناه التفرقة بين الحق والباطل، وأما الكتاب: فمصدر ثم أطلق على المكتوب، وأما الذكر:
فسمي القرآن به لما فيه من ذكر الله أو من التذكير والمواعظ، ويجوز في السورة من القرآن الهمز، وترك الهمز لغة قريش، وأما الآية فأصلها العلامة ثم سميت الجملة من القرآن بها لأنها علامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم.
الباب الثاني: في السور المكية والمدنية. اعلم أنّ السور المكية هي التي نزلت بمكة ويعد منها كل ما نزل قبل الهجرة، وإن نزل بغير مكة، كما أنّ المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويعدّ منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة، وتنقسم السور ثلاثة أقسام: قسم مدنية باتفاق، وهي اثنتان وعشرون سورة، وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والنور، والأحزاب، والقتال، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم، وإذا جاء نصر الله. وقسم فيها خلاف، هل هي مكية أو مدنية؟ وهي ثلاثة عشر سورة: أم القرآن والرعد، والنحل، والحج، والإنسان، والمطففون، والقدر ولم يكن، وإذا زلزلت، وأ رأيت، والإخلاص والمعوّذتين. وقسم مكية باتفاق، وهي سائر(1/13)
السور، وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية، كما وقعت آيات مكية في سور مدنية، وذلك قليل، مختلف في أكثره.
[خصائص السور المكية والمدنية]
واعلم أنّ السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد والردّ على المشركين، وفي قصص الأنبياء. وأنّ السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية، وفي الردّ على اليهود والنصارى، وذكر المنافقين، والفتوى في مسائل، وذكر غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم. وحيث ما ورد:
يا أيها الذين آمنوا فهو مدني، وأما: يا أيها الناس، فقد وقع في المكيّ والمدنيّ.
الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن. ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل. أما الجملة، فاعلم أنّ المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه، ثم إنّ هذا المقصد يقتضي أمرين، لا بد منها، وإليهما ترجع معاني القرآن كله: أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وتردّدهم إليها، فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين، وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال.
وأما البواعث عليها فأمران وهما: الترغيب والترهيب، وأما على التفصيل فاعلم أنّ معاني القرآن سبعة: هي علم الربوبية، والنبوة، والمعاد، والأحكام، والوعد، والوعيد والقصص. فأما علم الربوبية: فمنه إثبات وجود الباري جل جلاله، والاستدلال عليه بمخلوقاته، فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات، والاعتبار في خلقة الأرض والسموات، والحيوان والنبات. والريح والأمطار، والشمس والقمر، والليل والنهار، وغير ذلك من الموجودات، فهو دليل على خالقه، ومنه إثبات الوحدانية، والردّ على المشركين، والتعريف بصفات الله: من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، وغير ذلك من أسمائه وصفاته، والتنزيه عما لا يليق به.
وأما النبوّة: فإثبات نبوّة الأنبياء عليهم السلام على العموم، ونبوة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم على الخصوص، وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم، ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم، والردّ على من كفر بشيء من ذلك، وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن من تأنيس النبي صلّى الله عليه وسلّم وكرامته والثناء عليه، وسائر الأنبياء صلّى الله عليه وعليهم أجمعين.
وأما المعاد فإثبات الحشر، وإقامة البراهين، والردّ على من خالف فيه، وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار، والحساب والميزان، وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال، ونحو ذلك.
وأما الأحكام: فهي الأوامر والنواهي وتنقسم خمسة أنواع: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح. ومنها ما يتعلق بالأبدان: كالصلاة والصيام، وما يتعلق بالأموال(1/14)
كالزكاة، وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك.
وأما الوعد: فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك، ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها.
وأما الوعيد: فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا، ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة وهو الأكثر: كأوصاف جهنم وعذابها. وأوصاف القيامة وأهوالها، وتأمّل القرآن تجد الوعد مقرونا بالوعيد، قد ذكر أحدهما على إثر ذكر الآخر، ليجمع بين الترغيب والترهيب، وليتبين أحدهما بالآخر، كما قيل:
فبضدّها تتبين الأشياء وأما القصص: فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدّمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف، وذي القرنين. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأوّل: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى: الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريق الإطناب. وفي مواضع على طريق الإيجاز، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين.
الثالث: أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدّد ذكرها بتعدّد تلك المقاصد، فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدّمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك من كذّبهم بأنواع من المهالك. ومنها إثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49] ومنها إثبات الوحدانية. ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود: 101] ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدّة عقابه لمن كفر. ومنها تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدّم من الأنبياء: كقوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] ومنها تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله. ومنها تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم، إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء. وردّهم على الكفار وغير ذلك. فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة: ذكرت في مواضع كثيرة. ولكل مقام مقال.
الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن.
اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنا من العلوم، وهي:
التفسير، والقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوّف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان.
فأما التفسير فهو المقصود بنفسه وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه، ومعنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه.(1/15)
واعلم أنّ التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه، ثم إنّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع:
الأوّل: اختلاف في العبارة، مع اتفاق في المعنى: فهذا عدّه كثير من المؤلفين خلافا، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولا واحدا، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها.
الثاني: اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه، فهذا عدّه أيضا كثير من المؤلفين خلافا، وليس في الحقيقة بخلاف لأنّ كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعدّه نحن خلافا: بل عبّرنا عنه بعبارة عامّة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل، مع التنبيه على العموم المقصود.
الثالث: اختلاف المعنى فهذا هو الذي عددناه خلافا، ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب.
فإن قيل: ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال: الأوّل أنهما بمعنى واحد. الثاني: أن التفسير للفظ، والتأويل للمعنى. الثالث: وهو الصواب: أن التفسير: هو الشرح، والتأويل: هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره وأما القراءات: فإنها بمنزلة الرواية في الحديث، فلا بد من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته.
ثم إنّ القراءات على قسمين: مشهورة. وشاذة. فالمشهورة: هي القراءات السبع وما جرى مجراها: كقراءة يعقوب، وابن محيصن. والشاذة ما سوى ذلك. وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع «1» لوجهين: أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب. والأخرى اقتداء بالمدينة شرفها الله لأنها قراءة أهل المدينة. وقال مالك بن أنس: قراءة نافع سنة. وذكرنا من سائر القراءة ما فيها فائدة في المعنى والإعراب وغير ذلك. دون ما لا فائدة فيه زائدة. واستغنينا عن استيفاء القراءات لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها. وقد ألفنا فيها كتبا نفع الله بها. وأيضا فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة وقد ذكرنا في هذه المقدّمات بابا في قواعد أصول القراءات.
وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي. والمسائل الفقهية. وقال بعض العلماء إنّ آيات الأحكام خمسمائة آية. وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا استقصى تتبعها في مواضعها. وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة. ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها: تأليف إسماعيل [بن إسحاق المالكي] القاضي وابن الحسن كباه «2»
__________
(1) . وهي المعروفة اليوم في شمال افريقيا بقراءة ورش وهو ممن أخذ عن نافع المدني وانظر ترجمتهما في آخر الكتاب.
(2) . كذا في النسخة المطبوعة.(1/16)
ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي والقاضي الحافظ بن محمد بن عبد المنعم بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس. وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار ولا بدّ من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ، والمحكم وهو ما لم ينسخ، وقد صنف الناس في ناسخ القرآن ومنسوخه تصانيف كثيرة وأحسنها تأليف القاضي أبي بكر بن العربي. وقد ذكرنا في هذه المقدمات بابا في قواعد النسخ، وذكر ما تقرّر في القرآن من المنسوخ، وذكرنا سائره في مواضعه.
وأما الحديث فيحتاج المفسر إلى روايته وحفظه لوجهين: الأوّل: أنّ كثيرا من الآيات في القرآن نزلت في قوم مخصوصين ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغزوات والنوازل والسؤالات، ولا بدّ من معرفة ذلك ليعلم فيمن نزلت الآية وفيما نزلت ومتى نزلت فإنّ الناسخ يبنى على معرفة تاريخ النزول لأنّ المتأخر ناسخ للمتقدم. الثاني:
أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثير من تفسير القرآن فيجب معرفته لأنّ قوله عليه السلام مقدم على أقوال الناس.
وأما القصص فهي من جملة العلوم التي تضمنها القرآن فلا بد من تفسيره إلّا أنّ الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه. وما سوى ذلك زائد مستغنى عنه وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح. حتى أنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب الأنبياء عليهم السلام أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه. وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص على ما يتوقف التفسير عليه وعلى ما ورد منه في الحديث الصحيح.
وأما التصوّف فله تعلق بالقرآن. لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس. وتنوير القلوب. وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة. واجتناب الأخلاق الذميمة. وقد تكلمت المتصوّفة في تفسير القرآن. فمنهم من أحسن وأجاد. ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني. ووقف على حقيقة المراد. ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية.
وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتاب سماه «الحقائق» وقال بعض العلماء: بل هي البواطل. وإذا انصفنا قلنا: فيه حقائق وبواطل. وقد ذكرنا هذا في كتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية. دون ما يعترض أو يقدح فيه.
وتكلمنا أيضا على اثني عشر مقاما من [مقامات] التصوف في مواضعها من القرآن:
فتكلمنا على الشكر في أم القرآن. لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى. وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وعلى الذكر في قوله فيها فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 153] وعلى الصبر في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] وعلى(1/17)
التوحيد في قوله فيها: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] وعلى محبة الله في قوله فيها:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] وعلى التوكل في قوله في آل عمران: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] وعلى المراقبة في قوله في النساء: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] وعلى الخوف والرجاء في قوله في الأعراف: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الأعراف: 56] وعلى التوبة في قوله في النور: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور:
31] وعلى الإخلاص في قوله في لم يكن: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 4] .
وأما أصول الدين فيتعلق بالقرآن من طرفين: أحدهما: ما ورد في القرآن من إثبات العقائد وإقامة البراهين عليها. والردّ على أصناف الكفار. والآخر: أنّ الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن وكل طائفة منهم تحتجّ لمذهبها بالقرآن وترد على من خالفها.
وتزعم أنه خالف القرآن. ولا شك أنّ منهم المحق والمبطل. فمعرفة تفسير القرآن أن توصل في ذلك إلى التحقيق مع التشديد والتأييد من الله والتوفيق.
وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن. على أنّ كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها. وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال. وما أحوج المفسر إلى معرفة النص. والظاهر. والمجمل. والمبين. والعام. والخاص. والمطلق. والمقيد.
وفحوى الخطاب. ولحن الخطاب. ودليل الخطاب. وشروط النسخ. ووجوه التعارض.
وأسباب الخلاف. وغير ذلك من علم الأصول.
وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها. وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير. وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة. وقد ذكرنا بعد هذه المقدّمة: مقدّمة في اللغات الكثيرة الدوران في القرآن. لئلا نحتاج أن نذكرها حيث وقعت فيطول الكتاب بكثرة تكرارها.
وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته. فإنّ القرآن نزل بلسان العرب فيحتاج إلى معرفة اللسان. والنحو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: عوامل الإعراب. وهي أحكام الكلام المركب. والآخر: التصريف وهي أحكام الكلمات من قبل تركيبها. وقد ذكرنا في هذا الكتاب من إعراب القرآن ما يحتاج إليه من المشكل والمختلف. أو ما يفيد فهم المعنى. أو ما يختلف المعنى باختلافه ولم نتعرض لما سوى ذلك من الإعراب السهل الذي لا يحتاج إليه إلّا المبتدئ فإنّ ذلك يطول بغير فائدة كبيرة.
وأما علم البيان: فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن. وقد ذكرنا منه في هذا الكتاب فوائد فائقة. ونكات مستحسنة رائقة. وجعلنا في المقدّمات بابا في أدوات البيان ليفهم به ما يرد منها مفرّقا في مواضعه من القرآن.
الباب الخامس: في أسباب الخلاف بين المفسرين. والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم. فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر: الأول: اختلاف القرآن. الثاني: اختلاف وجوه(1/18)
الإعراب وإن اتفقت القراءات. الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة. الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر. الخامس: احتمال العموم والخصوص. السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد. السابع: احتمال الحقيقة أو المجاز. الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال. التاسع:
احتمال الكلمة زائدة. العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير.
الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخا أو محكما. الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وعن السلف رضي الله عنهم.
وأما وجوه الترجيح فهي اثنا عشر الأول: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. الثاني: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوّلنا عليه. لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح. الثالث: أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين: فإنّ كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه. الرابع: أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس: لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «1» . الخامس: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. السادس: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام ويدل عليه ما قبله أو ما بعده. السابع: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإنّ ذلك دليل على ظهوره ورجحانه. الثامن: تقديم الحقيقة على المجاز. فإنّ الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين. وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالا من الحقيقة ويسمى مجازا راجحا والحقيقة مرجوحة. وقد اختلف العلماء أيهما يقدم: فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه. وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح. التاسع: تقديم العمومي على الخصوصي فإنّ العمومي أولى لأنه الأصل إلّا أن يدل دليل على التخصيص.
العاشر: تقديم الإطلاق على التقييد، إلّا أن يدل دليل على التقييد. الحادي عشر: تقديم الاستقلال على الإضمار إلّا أن يدل دليل على الإضمار. الثاني عشر: حمل الكلام على ترتيبه إلّا أن يدل دليل على التقديم والتأخير.
الباب السادس: في ذكر المفسرين.
اعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين:
فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه. وهم الأكثرون. ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطا لما ورد من التشديد في ذلك. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسر من القرآن الآيات إلّا بعد علمه إياهن من جبريل. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» «2» . وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنها بأنه
__________
(1) . رواه أحمد في المسند عن ابن عباس ج 1 ص: 391.
(2) . ذكره في التيسير ص 434/ 2 ج عن سمرة بن جندب وحسّنه وعزاه للشيخين والنسائي.(1/19)
في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلّا بتوقيف من الله تعالى. وتأول الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدّمين فإنّ هذا لم يقل في القرآن برأيه.
واعلم أن المفسرين على طبقات فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم.
وأكثرهم كلاما في التفسير ابن عباس. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس. ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقال ابن عباس ما عندي من تفسير القرآن فهو عن عليّ بن أبي طالب. ويتلوهما عبد الله بن مسعود. وأبيّ بن كعب. وزيد بن ثابت. وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكلما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن.
والطبقة الثانية: التابعون. وأحسنهم كلاما في التفسير الحسن بن أبي الحسن البصري. وسعيد بن جبير ومجاهد مولى ابن عباس. وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود.
ويتلوهم: عكرمة. وقتادة. والسّدي. والضحاك بن مزاحم. وأبو صالح. وأبو العالية.
ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كالمفضل. وعبد الرزاق.
وعبد بن حميد. والبخاري. وعلي بن أبي طلحة. وغيرهم. ثم إن محمدا بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين وأحسن النظر فيها. وممن صنف في التفسير أشياء: أبو بكر النقّاش.
والثعلبي «1» . والماوردي. إلّا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح. وقد استدرك الناس على بعضهم.
وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين: كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس.
وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتابا في غريب القرآن وتفسيره. ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب الهداية في تفسير القرآن.
وكتابا في غريب القرآن. وكتابا في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكتابا في إعراب القرآن. إلى غير ذلك من تآليفه. فإنها نحو ثمانين تأليفا: أكثرها في علوم القرآن والقراءات والتفسير وغير ذلك. وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين. إلّا أن أكثرها في القرآن.
ولم يؤلف في التفسير إلّا قليلا. وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف. حسن الترتيب.
جامع لفنون علوم القرآن: ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي وأبو محمد عبد الحق بن عطية. فأبدع كل واحد وأجمل. واحتفل وأكمل. فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن: فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلّا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه. وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها. فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها. وهو مع ذلك حسن العبارة. مسدّد النظر، محافظ على السنة. ثم ختم علم القرآن
__________
(1) . هو أحمد بن محمد بن إبراهيم المفسر. انظر وفيات الأعيان ج أول ص 79.(1/20)
بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير. فلقد قطع عمره في خدمة القرآن وآتاه الله بسطة في علمه. وقوّة في فهمه. وله فيه تحقيق. ونظر دقيق. ومما بأيدينا من تأليف أهل المشرق تفسير أبو القاسم [محمود بن عمر] الزمخشري فمسدّد النظر بارع في الإعراب متقن في علم البيان. إلّا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة وشرهم. وحمل آيات القرآن على طريقتهم. فتكدر صفوه. وتمرّر حلوه. فخذ منه ما صفا ودع ما كدر. وأما القرنوي فكتابه مختصر. وفيه من التصوف نكت بديعة. وأما ابن الخطيب فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري وزاد عليه إشباعا في قواعد علم الكلام. ونمقه بترتيب المسائل. وتدقيق النظر في بعض المواضع. وهو على الجملة كتاب كبير الحجم. ربما يحتاج إلى تلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه. ويجزيهم أفضل ثوابه.
الباب السنابع في الناسخ والمنسوخ: النسخ في اللغة: هو الإزالة والنقل. ومعناه في الشريعة: رفع الحكم الشرعي بعد ما نزل، ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه: الأوّل: نسخ اللفظ والمعنى كقوله: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) «1» . الثاني: نسخ اللفظ دون المعنى كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) .
الثالث: نسخ المعنى دون اللفظ وهو كثير وقع منه في القرآن على ما عدّ بعض العلماء مائتا موضع وثنتا عشرة مواضع منسوخة، إلّا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخا، والاستثناء نسخا، وبين هذه الأشياء وبين النسخ: فروق معروفة، وسنتكلم على ذلك في مواضعه.
ونقدّم هنا ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم، بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين آية، ففي البقرة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] وَلَنا أَعْمالُنا [البقرة: 139] وَلا تَعْتَدُوا [البقرة: 190] أي لا تبدءوا بالقتال وَلا تُقاتِلُوهُمْ [البقرة: 191] قُلْ قِتالٌ [البقرة: 217] لا إِكْراهَ [البقرة: 256] وفي آل عمران فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران: 20] مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران: 28] وفي النساء فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: 63- 81] في موضعين فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:
79] لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 83] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء: 89] وفي المائدة وَلَا آمِّينَ [المائدة: 2] عَلَيْكَ الْبَلاغُ [المائدة: 3- 20] عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] وفي الأنعام لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 66] ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام:
91] عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] وَأَعْرِضْ [الأنعام: 106] عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الأنعام: 107] وَلا تَسُبُّوا [الأنعام: 108] قدرهم في موضعين يا قَوْمِ اعْمَلُوا [الأنعام: 135] قُلِ انْتَظِرُوا [الأنعام: 158] لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] وفي الأعراف: وَأَعْرِضْ [الأعراف: 68] وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف: 182] وفي الأنفال
__________
(1) . ذكرها السيوطي في الإتقان ج 2 ص 25.(1/21)
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ [الأنفال: 72] يعني المجاهدين. وفي التوبة فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 8] وفي يونس فَانْتَظِرُوا [يونس: 20] فَقُلْ لِي عَمَلِي [يونس: 41] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ [يونس: 46] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس: 65] لما يقتضي من الإمهال أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ [يونس: 99] فَمَنِ اهْتَدى [يونس: 108] لأن معناه الإمهال وَاصْبِرْ [يونس:
109] وفي هود إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] أي تنذر ولا تجبر اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [هود: 93] انْتَظِرُوا [هود: 122] وفي الرعد عَلَيْكَ الْبَلاغُ [الرعد: 42] وفي النحل إِلَّا الْبَلاغُ [النحل: 35] عَلَيْكَ الْبَلاغُ [النحل: 82] وَجادِلْهُمْ [النحل: 125] وَاصْبِرْ [النحل: 127] وفي الإسراء رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الإسراء: 25] وفي مريم وَأَنْذِرْهُمْ [مريم: 39] فَلْيَمْدُدْ [مريم: 75] وَلا تَعْجَلْ [مريم: 85] وفي طه قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ [طه: 135] وفي الحج وَإِنْ جادَلُوكَ [الحج: 68] وفي المؤمنين فَذَرْهُمْ [المؤمنين: 55] ادْفَعْ [المؤمنين: 97] وفي النور فَإِنْ تَوَلَّوْا [النور: 54] وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور: 54] وفي النمل فَمَنِ اهْتَدى [النمل: 92] وفي القصص لَنا أَعْمالُنا [القصص: 55] وفي العنكبوت أَنَا نَذِيرٌ [العنكبوت: 50] لما يقتضي من عدم الإجبار، وفي الروم فَاصْبِرْ [الروم: 60] وفي لقمان وَمَنْ كَفَرَ [لقمان: 23] وفي السجدة وَانْتَظِرْ [السجدة: 30] وفي الأحزاب وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: 48] وفي سبأ قُلْ لا تُسْئَلُونَ [سبأ: 25] وفي فاطر إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 23] وفي يس فَلا يَحْزُنْكَ [ياسين: 76] وفي الصافات قَوْلُ وقَوْلُ [الصافات: 31] وما يليهما، وفي ص اصْبِرْ [ص: 17] أَنَا نَذِيرٌ [ص: 70] وفي الزمر إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الزمر: 3] لما فيه من الإمهال فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ [الزمر:
15] يا قَوْمِ اعْمَلُوا [الزمر: 39] فَمَنِ اهْتَدى [الزمر: 41] أَنْتَ تَحْكُمُ [الزمر:
46] لأنّ فيه تفويضا، وفي المؤمن فَاصْبِرْ [المؤمن: 55- 76] في موضعين، وفي فصّلت ادْفَعْ [فصّلت: 34] وفي الشورى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] لَنا أَعْمالُنا [الشورى: 15] فَإِنْ أَعْرَضُوا [الشورى: 48] وفي الزخرف فَذَرْهُمْ [الزخرف: 13] فَاصْفَحْ [الزخرف: 89] وفي الدخان فَارْتَقِبْ [الدخان: 10] وفي الجاثية يَغْفِرُوا [الجاثية: 14] وفي الأحقاف فَاصْبِرْ [الأحقاف: 35] وفي القتال [محمد] فَإِمَّا مَنًّا [محمد: 4] وفي ق فَاصْبِرْ [ق: 39] وَما أَنْتَ [ق: 45] وفي الذاريات قَوْلٍ [الذاريات: 8] وفي الطور قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور: 31] وَاصْبِرْ [الطور: 48] فَذَرْهُمْ [الطور: 45] وفي النجم فَأَعْرِضْ [النجم: 29] وفي القمر يَقُولُ وفي ن فَاصْبِرْ [ن: 48] سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [ن: 44] وفي المعارج فَاصْبِرْ [المعارج: 5] فَذَرْهُمْ [المعارج: 42] وفي المزمّل وَاهْجُرْهُمْ [المزمّل: 10] وَذَرْنِي [المزمّل: 11] وفي المدّثّر ذَرْنِي [المدّثّر: 11] وفي الإنسان فَاصْبِرْ [الإنسان: 24] وفي الطارق فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ [الطارق: 17] وفي الغاشية لَسْتَ عَلَيْهِمْ(1/22)
بِمُصَيْطِرٍ
[الغاشية: 22] وفي الكافرين لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرين: 6] نسخ ذلك كلّه:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 6] وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216] .
الباب الثامن في جوامع القراءة، وهو على نوعين: مشهورة، وشاذة.
فالمشهورة القراءات السبع، وهو حرف نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم، وحمزة والكسائي الكوفيين. ويجري مجراهم في الصحة والشهرة: يعقوب الحضرمي بن محيصن، ويزيد بن القعقاع. والشاذة ما سوى ذلك، وإنما سميت شاذة لعدم استقامتها في النقل، وقد تكون فصيحة اللفظ، أو قوية المعنى. ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلّا بثلاث شروط: موافقته لمصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وموافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات، ونقله نقلا متواترا أو مستفيضا.
واعلم أنّ اختلاف القرّاء على نوعين: أصول، وفرش الحروف.
فأما الفرش: فهو ما لا يرجع إلى أصل مضطرد، ولا قانون كلي، وهو في وجهين:
اختلاف على القراءة باختلاف المعنى، وباتفاق المعنى. وأما الأصول فالاختلاف فيها لا يغير المعنى. وهي ترجع إلى ثمان قواعد: الأولى: الهمزة: وهي في حروف المدّ الثلاث، ويزاد فيها على المدّ الطبيعي بسبب الهمزة والتقاء الساكنين. الثانية وأصله التحقيق ثم قد يحقق على سبعة أوجه: إبدال واو أو ياء أو ألف وتسهيل بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاط. الثالثة: الإدغام، والإظهار، والأصل الإظهار، ثم يحدث الإدغام في المثلين، أو المتقاربين وفي كلمة، وفي كلمتين، وهو نوعان: إدغام كبير انفرد به أبو عمرو: وهو إدغام المتحرّك. وإدغام صغير لجميع القرّاء: وهو إدغام الساكن. الرابعة: الإمالة، وهي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة. وبالألف نحو الياء، والأصل الفتح، ويوجب الإمالة الكسرة والياء. الخامسة: الترقيق والتفخيم، والحروف على ثلاثة أقسام يفخم في كل حال، وهي حروف الاستعلاء السبعة ومفخم تارة ومرقق أخرى وهي الراء واللام والألف فأما الراء فأصلها التفخيم وترقق للكسر والياء، وأما اللّام فأصلها الترقيق وتفخم لحروف الأطباق وأما الألف فهي تابعة للتفخيم والترقيق لما قبلها، والمرقق على كل حال سائر الحروف. السادسة: الوقف، وهو على ثلاثة أنواع، سكون جائز في الحركات الثلاث وروم في المضموم والمكسور، وإشمام في المضموم خاصة. السابعة:
مراعاة الخط في الوقف. الثامنة: إثبات الياءات وحذفها.
الباب التاسع في الوقف، وهو أربعة أنوع: وقف تام، وحسن، وكاف، وقبيح، وذلك بالنظر إلى الإعراب والمعنى، فإن كان الكلام مفتقرا إلى ما بعده في إعرابه أو معناه، وما بعده مفتقرا إليه كذلك لم يجز إليه الفصل بين كل معمول وعامله، وبين كل ذي خبر وخبره، وبين كل ذي جواب وجوابه، وبين كل ذي موصول وصلته، وإن كان الكلام الأوّل مستقلا يفهم دون الثاني إلا أن الثاني غير مستقل إلا بما قبله، فالوقف على الأوّل كاف،(1/23)
وذلك في التوابع والفضلات: كالحال، والتمييز، والاستثناء وشبه ذلك، إلا أنّ وصل المستثنى المتصل آكد من المنقطع، ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مع ذات آكد من وصلها إذا كانت جملة، وإن كان الكلام مستقلا والثاني كذلك، فإن كانا في قصة واحدة فالوقف على الأوّل حسن، وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تامّ. وقد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو المعنى، وكذلك اختلف الناس في كثير من الوقف. من أقوالهم فيها:
راجح، ومرجوح، وباطل، وقد يقف لبيان المراد وإن لم يتم الكلام.
تنبيه
هذا الذي ذكرنا من رعي الإعراب والمعنى في المواقف: استقرّ عليه العمل، وأخذ به شيوخ المقرئين، وكان الأوائل يراعون رؤوس الآيات، فيقفون عندها لأنها في القرآن كالفقر في النثر والقوافي في الشعر، ويؤكد ذلك ما أخرجه الترمذي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقطع قراءته يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف.
الباب العاشر: في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان.
أما الفصاحة فلها خمسة شروط: الأوّل أن تكون الألفاظ عربية لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامّة، الثاني أن تكون من الألفاظ المستعملة لا من الوحشية المستثقلة، الثالث أن تكون العبارة واقعة على المعنى موفية له لا قاصرة عنه، الرابع أن تكون العبارة سهلة سالمة من التعقيد. الخامس: أن يكون الكلام سالما من الحشو الذي لا يحتاج إليه.
وأما البلاغة فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقال من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل والتعظيم والتحقير، ومن التصريح والكناية والإشارة وشبه ذلك، بحيث يهز النفوس ويؤثر في القلوب، ويقود السامع إلى المراد أو يكاد.
وأما أدوات البيان: فهي صناعة البديع، وهو تزيين الكلام كما يزين العلم الثوب، وقد وجدنا في القرآن منها اثنين وعشرين نوعا، ونبهنا على كل نوع في المواضع التي وقع فيها من القرآن وقد ذكرنا هنا أسماءها ونبين معناه:
الأوّل: المجاز: وهو اللفظ المستعمل في غير مواضع له لعلاقة بينهما، وهو اثنا عشر نوعا: التشبيه والاستعارة، والزيادة، والنقصان، وتشبيه المجاور باسم مجاوره، والملابس باسم ملابسه، والكل، وإطلاق اسم الكل على البعض، وعكسه، والتسمية باعتبار ما يستقبل، والتسمية باعتبار ما مضى، وفي هذا خلاف هل هو حقيقة أو مجاز.
واتفق أهل علم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن لأنّ القرآن نزل بلسان العرب وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه لأنّ الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى.
الثاني: الكناية: وهي العبارة عن الشيء فيما يلازمه من غير تصريح.(1/24)
الثالث: الالتفات: وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى الخطاب أو الغيبة، وخروج من الخطاب إلى التكلم أو الغيبة، وخروج من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب.
الرابع: التمديد: وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عامّ متقدّم، والقصد بالتجديد تعظيم المجدّد ذكره أو تحقيره، أو رفع الاحتمال.
الخامس: الاعتراض: وهو إدراج كلام بين شيئين متلازمين: كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، وإدخاله في أثناء كلام متصل. والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه.
السادس: التجنيس: وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، ثم الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف.
السابع: الطباق: وهو ذكر الأشياء المتضادّة كالسواد والبياض والحياة والموت، والليل والنهار، وشبه ذلك.
الثامن: المقابلة، وهو أن يجمع بين شيئين فصاعدا ثم يقابلهما بأشياء أخر.
التاسع: المشاكلة: وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته.
العاشر: الترديد: وهو ردّ الكلام على آخره ويسمى في الشعر ردّ العجز على الصدر.
الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم: وهو أن يلتزم قبل حروف الرويّ حرفا آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات.
الثاني عشر: القلب: وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوّله وآخره نحو دعد أو تعكس كلماته فتقدّم المؤخر منها وتؤخر المقدّم.
الثالث عشر: التقسيم: وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه.
الرابع عشر: التتميم: وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه ويؤكده وإن كان مستقلا دون هذه الزيادة.
الخامس عشر: التكرار: وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر، فتكرّر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل، أو مدح المذكور أو ذمّه أو للبيان.
السادس عشر: التهكم: وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر، كذلك البشارة في موضع النذارة.
السابع عشر: اللف والنشر وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقات بها، وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأوّل، وأن تبدأ بالآخر.
الثامن عشر: الجمع: وهو أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبر واحد، وفي صف واحد وشبه ذلك.
التاسع عشر: الترصيع: وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن، أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوّله.
العشرون: التشجيع: وهو أن يكون كلمات الآي على رويّ واحد.
الحادي والعشرون: الاستطراد: وهو أن يتطرّق من كلام إلى كلام آخر بوجه يصل ما(1/25)
بينهما، ويكون الكلام الثاني هو المقصود: كخروج الشاعر من السب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين، مع أنه قصد المدح.
الثاني والعشرون: المبالغة: وقد تكون بصيغة الكلمة نحو صيغة فعال ومفعال وقد تكون بالمبالغة في الإخبار أو الوصف، فإن اشتدّت المبالغة فهو غلوّ وإغراب. وذلك مستكره عند أهل هذا الشأن.
الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل، ويدل على ذاك عشرة أوجه:
الأوّل: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين. الثاني: نظمه العجيب وأسلوبه الغريب من قواطع آياته وفواصل كلماته. الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله. الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعلم ذلك ولا قرأه في كتاب. الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال. السادس: ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله. وذكر صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه. وما يستحيل عليه، ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والردّ على أصناف الكفار، وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه، بل بوحي من العليم الخبير، ولا يشك عاقل في صدق من عرف الله تلك المعرفة وعظم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد الله إلى صراطه المستقيم. السابع: ما شرع فيه من الأحكام وبين من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم. الثامن: كونه محفوظا عن الزيادة والنقصان، محروسا عن التغيير والتبديل على طول الزمان، بخلاف سائر الكتب. التاسع: تيسيره للحفظ وذلك معلوم بالمعاينة. العاشر:
كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، بخلاف سائر الكلام.
الباب الثاني عشر: في فضل القرآن. وإنما نذكر منه ما ورد في الحديث الصحيح، فمن ذلك ما ورد عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» «1» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه ويتعتع به وهو عليه شاق فله أجران» «2» وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة: لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها
__________
(1) . رواه مسلم نقلا عن النووي في رياض الصالحين باب فضائل القرآن.
(2) . متفق عليه نقلا عن النووي.(1/26)
مرّ» «1» وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استذكروا القرآن فلهو أشدّ تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها» «2» وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «3» ، «فإنّ الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين» «4» وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلّا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة» «5» وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «6» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» «7» وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم. قلت: الله لا إله إلّا هو الحي القيوم. فضرب في صدري، وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر» «8» وعن النوّاس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران- وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهما بعد- قال وإنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجّان عن صاحبهما» «9» وعن أبي الدرداء أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدجال» «10» وعن أبي الدرداء أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» «11» وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت عليّ لم ير مثلهنّ قط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» «12» .
__________
(1) . متفق عليه نقلا عن النووي.
(2) . رواه أحمد في مسنده ص 522/ 1.
(3) . رواه البخاري عن رياض الصالحين.
(4) . رواه مسلم عن عمر بن الخطاب عن رياض الصالحين.
(5) . رواه مسلم نقلا عن رياض الصالحين. [.....]
(6) . رواه أحمد 5/ 314.
(7) . رواه مسلم ص 539/ 1 من كتاب صلاة المسافرين.
(8) . رواه مسلم ص 556/ 1.
(9) . رواه مسلم ص 554/ 1.
(10) . رواه مسلم.
(11) رواه مسلم ص 556/ 1.
(12) رواه مسلم ص 558/ 1.(1/27)
المقدمة الثانية
في تفسير معاني اللغات
نذكر في هذه المقدمة الكلمات التي يكثر دورها في القرآن، أو تقع في موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف، وإنما جمعناها في هذا الباب لثلاثة فوائد: أحدها:
تفسيرها للحفظ فإنها وقعت في القرآن متفرّقة فجمعها أسهل لحفظها، والثانية:
ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير لما أن تآليف القرآن جمعت فيها الأصول المطردة والكثيرة الدور، والثالثة:
الاقتصار فنستغني بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها من القرآن خوف التطويل بتكرارها، وربما نبهنا على بعضها للحاجة إلى ذلك، ورتبناها في هذا الكتاب على حروف المعجم، فمن لم يجد تفسير كلمة في موضعها من القرآن: فلينظر في هذا الباب، واعتبرنا في هذه الحروف: الحرف الذي يكون فاء الكلمة وهو الأصلي دون الحروف الزائدة في أوّل الكلمات.
حرف الهمزة
آية لها معنيان أحدهما: علامة وبرهان والثاني: آية من القرآن، وهي كلام متصل إلى الفاصلة، والفواصل هي رؤوس الآيات أتى بقصر الهمزة معناه جاء، ومضارعه يأتي، ومصدره إتيان، واسم الفاعل منه آت، واسم المفعول منه مأتي، ومنه قوله تعالى آتى بمدّ الهمزة معناه أعطى، ومضارعه يؤتي، واسم الفاعل مؤت، ومنه والمؤتون الزكاة أبى يأبى أي امتنع أثر الشيء بقيته وأمارته، وجمعه آثار والأثر أيضا الحديث، وأثارة من علم بقية، وأثاروا الأرض حرثوها وأثر الرجل الشيء يؤثره فضّله إثم ذنب، ومنه آثم وأثيم أي مذنب أجر ثواب وبمعنى الأجرة، ومنه استأجره وعلى أن تأجرني، وأما استجارك فأجره ويجركم من عذاب أليم، ومن يجيرني من الله، وهو يجير ولا يجار عليه: فذلك كله من الجوار بمعنى التأمين آمن إيمانا أي صدق، والإيمان في اللغة التصديق مطلقا، وفي الشرع التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والمؤمن في الشرع المصدّق بهذه الأمور، والمؤمن اسم الله تعالى: أي المصدّق لنفسه وقيل إنه من الأمن: أي يؤمن أوليائه من عذابه، وأمن بقصر الهمزة وكسر الميم أمنا وأمانة: ضدّ الخوف وأمن من الأمانة، وأمّن غيره من التأمين أليم مؤلم أي موجع ومنه تألمون إمام له أربعة معان: القدوة والكتاب، والطريق، وجمع أمّ أي تابع، وهي للمتقين إماما أمّة لها أربعة معان: الجماعة من الناس، والدين والحين، والإمام أي القدوة أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك وصف العرب بالأميين أم لها معنيان الوالدة،(1/28)
والأصل، وأمّ القرى مكة أخرى مؤنثة آخر وآخر آل له معنيان الأهل، ومنه آل لوط، والأتباع والجنود، ومنه آل فرعون أمس اليوم الذي قبل يومك والزمان الماضي إناه:
وقته، وجمعه إنا ومنه آناء الليل أمر له معنيان: أحدهما: طلب الفعل على الوجوب أو الندب أو الإباحة، وقد تأتي صفة الأمر لغير الطلب، والتهديد، والتعجيز، والتعجب والخبر، والثاني: بمعنى الشأن والصفة، وقد يراد به العذاب، ومنه جاء أمرنا إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وهو والد الأسباط واليهود ذريتهم إياب رجوع ومنه مآب أي مرجع، ورجل أوّاب كثير الرجوع إلى الله، والتأويب التسبيح، «يا جبال أوّبي» [سبأ:
10] إفك أشدّ الكذب، والأفاك:
الكذاب، وأفك الرجل عن الشيء: أي صرف عنه، ومنه تؤفكون أوى الرجل إلى الموضع بالقصر، وآواه غيره بالمدّ، ومنه المأوى أف كلمة شر آلاء الله نعمه، ومنه آلاء ربكما أسف له معنيان: الحزن، والغضب، ومنه: فلما آسفونا أسوة بكسر الهمزة وضمها قدوة أسى الرجل يأسى أسا: أي حزن، ومنه: فلا تأس، وكيف آسى أذان بالقصر إعلام بالشيء ومنه الأذان بالصلاة، والآذان بالمدّ: جمع أذن إذن الله بمعنى العلم والإرادة والإباحة، وأذنت بالشيء أعلمت به بكسر الذال، وآذنت به غيري بالمدّ إصر له معنيان، الذنب، والعهد. وأصرّ على الذنب يصرّ إصرارا:
دام عليه ولم يتب منه. أيد أي قوّة، ومنه أيدناه، وبنيناها بأيد، والأيدي جمع يد، فهمزتها زائدة أكل بضم الهمزة اسم المأكول، ويجوز فيه ضم الهمزة وإسكانها، والأكل بضم الهمزة المصدر أيلة غيضة أثاث متاع البيت أجاج مرّ أرائك أسرّة واحدها أريكة آنية له معنيان أحدهما: جمع إناء، ومنه: آنية من فضة، وشديدة الحر، ومنه:
عين آنية، ووزن الأولى أفعلة، والثانية فاعلة ومذكرها آن أحد له معنيان واحد، ومنه: الله أحد واسم جنس بمعنى إنسان أيّان معناه متى أنى بمعنى كيف ومتى وأين للحصر إن المكسورة المخففة أربعة أنواع شرطية ونافية وزائدة ومخففة من الثقيلة أن المفتوحة المخففة أربعة أنواع مصدرية وزائدة ومخففة من الثقيلة وعبارة عن القول إنما نوعان ظرف زمان مستقبل ومعناها الشرط وقد تخلو عن الشرط ومجانبة إذا لها معنيان: ظرف زمان ماضي وسببية للتقليل أو العاطفة لها خمسة معان:
الشك، والإبهام، والإباحة، والتخيير، والناصبة للفعل بمعنى إلى أو إلّا أم استفهامية وقد يكون فيها معنى الإنكار والإضراب وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها ومنفصلة مما قبلها إما المكسورة المشدّدة للتنويع، والشك والتخيير، وقد تكون مركبة من إن الشرطية وما الزائدة إلّا المفتوحة المشدّدة أداة استثناء وتكون للإيجاب بعد غير الواجب، وتكون مركبة من إن الشرطية ولا النافية أيّ المشدّدة سبعة أنواع: شرطية، واستفهامية وموصولة، ومنادى، وصفة، وظرفية إذا أضيفت إلى ظرف، ومصدرية إذا أضيفت إلى مصدر إي المكسورة المخففة ومعناها التصديق إلى معناه انتهاء الغاية، وقيل تكون بمعنى مع الهمزة للاستفهام، والتقرير، والتوبيخ، والتسوية، وللمتكلم وأملية، وزائدة للبناء) «1» .
__________
(1) . انظر المغني اللبيب ج 1/ 18.(1/29)
حرف الباء
باري خالق، ومنه البرية أي الخلق بعث له معنيان بعث الرسل وبعث الموتى من القبور بسط الله الرزق وسعه ومعنى قبض وقدر الرزق: أي ضيقه، ومن أسماء الله تعالى: القابض والباسط، وبسطة: زيادة بشّر: من البشارة وهي الإعلام بالخير قبل وروده، وقد يكون للشر إذا ذكر معها، ويجوز في الفعل التشديد والتخفيف، ومنه المبشر والبشير، واستبشر بالشيء فرح به بعد: له معنيان ضدّ القرب والفعل منه بعد بضم العين، والهلاك والفعل منه بكسرها ومنه كما بعدت ثمود بلاء: له معنيان:
العذاب، والاختبار ومنه أيضا ونبلوكم برّ:
له معنيان: الكرامة ومنه برّ الوالدين وأن تبروهم، والتقوى، والجمع لخصال الخير ومنه: البرّ من اتقى، ورجل بارّ وبرّ والجمع أبرار والبرّ من أسماء الله تعالى بات: معروف ومصدره بيات وبيّت الأمر دبّره بالليل بغتة: فجأة بروج: جمع برج وهو الحصن، وبروج السماء منازل الشمس والقمر بين: ظرف وبين يدي الشيء ما تقدّم قبله، والبين الفراق والاجتماع لأنه من الأضداد بينات: براهين من المعجزة وغيرها ومبيّنة من البيان يبين: من البيان وله معنيان: بيّن غير متعد، ومبين لغيره بدا: يبدو بغير همز: ظهر، وأبديته:
أظهرته، والبادي أيضا من البداية، ومنه:
بادون في الإعراب بدأ: بالهمزة من الابتداء ويقال بدأ الخلق وأبدأه، وقد جاء القرآن بالوجهين بغي: له معنيان: العدوان على الناس، والحسد، والبغاء بكسر الباء:
الزنا، ومنه: امرأة بغيّ أي زانية، وابتغاء الشيء وبغاه: أي طلبه بثّ: الحديث وغيره نشره، والمبثوث: المنتشر، مبثوثة متفرقة، والبثّ: الحزن الشديد، ومنه أشكو بثي بوّأ: أنزل الرجل ومنه: بوّأكم في الأرض، ولنبوأنهم، ومبوّأ بوار: هلك، ومنه قوما بورا أي هلكى باء: بالشيء رجع به، وقد يقال بمعنى اعترف بأساء: الفقر والبؤس والشدّة والمحنة، والبائس: الفقير من البؤس، والبأس: القتال والشجاعة، والمكروه، وبأس الله عذابه وبئس كلمة ذمّ برزخ: شيء بين شيئين، والبرزخ ما بين الموت والقيامة بديع: له معنيان جميل، ومبدع أي خالق الشيء ابتداء بسر: عبس ومنه: باسرة بصير: من أبصر، يقال:
أبصرته وبصرته، والبصائر: البراهين جمع بصيرة برز: ظهر ومنه: بارزة وبارزون بطش: أخذ بشدّة بخس: نقص بعل: له معنيان زوج المرأة وجمعه بعولة، والبعل أيضا: الرب، وقيل اسم صنم، ومنه:
أتدعون بعلا بهجة: حسن، وبهيج حسن مبلسون جمع مبلس وهو البائس، وقيل:
الساكت الذي انقطعت حجته، وقيل:
الحزين النادم، منه يبلس ومنه اشتق إبليس بهت: انقطعت حجته تبارك: من البركة، وهي الكثرة والنماء، وقيل: تقدّس بلى:
جواب يقتضي إثبات الشيء بل: معناها الإضراب عما قبلها الباء: للإلصاق، ولنقل الفعل في التعدّي، وللقسم، وللتعليل، وللمصاحبة، وللاستعانة، وظرفية وزائدة.
حرف التاء
تلا يتلو: له معنيان: قرأ، واتبع تقوى:
مصدر مشتق من الوقاية فالتاء بدل من الواو معناه: الخوف والتزام طاعة الله وترك معاصيه، فهو جامع لكل خير تاب:(1/30)
يتوب رجع توبة وتوبا فهو تائب، وتوّاب:
كثير التوبة، وتوّاب: اسم الله تعالى: أي كثير التوبة على عباده، وتاب الله على العبد: ألهمه التوبة وقبل توبته تباب:
خسران، وتب: خسر تبار: هلاك، ومنه متبرّ أترفوا: أنعموا، والمترفون: المنعمون في الدنيا.
حرف الثاء
ثمود قبيلة من العرب الأقدمين ثوى:
في الموضع: أقام فيه ومنه مثوى ثبور:
هلاك، ومنه: دعوا هنالك ثبورا أي صاحوا هلاكا ثمر: ما يؤكل مما تنبت الأرض ويقال بالفتح والضم ثقفوا: أخذوا وظفر بهم، ومنه: فإمّا تثقفنّهم في الحرب ثاقب: مضيء ثم: بالفتح ظرف، وبالضم حرف عطف يقتضي الترتيب والمهلة، وقد يرد لغير الترتيب، كالتأكيد، وترتيب الأخبار.
حرف الجيم
جعل له أربعة معان: صيّر، وألقى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا جناح: الطائر:
معروف وجناح الإنسان إبطه، ومنه:
اضمم إليك جناحك، ولا جناح: لا إثم فمعناه الإباحة، وجنح للشيء مال إليه لا جرم: لا بد اجتبى: أختار جدال: مخالفة ومخاصمة واحتجاج تجأرون: تصيحون بالدعاء جواري: جمع جارية وهي السفينة أجرم: فهو مجرم، له معنيان: الكفر، والعصيان جنة: الجنون، وقد جاء بمعنى الملائكة جانّ: له معنيان: الجن والحية الصغيرة جنة: بالفتح البستان، وبالكسر الجنون، وبالضم الترس وما أشبهه مما يستتر به، ومنه استعير: أيمانهم جنة جاثية: أي على ركبهم لا يستطيعون مما هم فيه وقوله جثيا جمع جاث الجرز:
الأرض التي لا نبات فيها جاثمين: باركين على ركبهم جبار: اسم الله تعالى له معنيان: قهار، ومتكبر. وقد يكون من الجبر للكسير وشبهه، والجبار أيضا الظالم أجداث: قبور جزى: له معنيان من الجزاء بالخير والشر وبمعنى أغنى، ومنه: لا تجزي نفس. وأما أجزأ بالهمز فمعناه:
كفى جرح: له معنيان من الجروح وبمعنى الكسب والعمل، ومنه: جرحتم بالنهار، واجترحوا السيئات. ولذلك سميت كلاب الصيد: جوارح لأنها كواسب لأهلها جنب: له معنيان: من الجنابة وبمعنى البعد. ومنه: عن جنب.
حرف الحاء
حمد هو الثناء، سواء كان جزاء على نعمة أو ابتداء، والشكر إنما يكون جزاء، فالحمد من هذا الوجه أعم، والشكر باللسان والقلب والجوارح، ولا يكون الحمد إلّا باللسان، فالشكر من هذا الوجه أعم حميد: اسم الله تعالى أي بمعنى محمود حكمة: عقل أو علم، وقيل في الكتاب والحكمة هي السنة حكيم: اسم الله من الحكمة، ومن الحكم بين العباد، أو من إحكام الأمور وإتقانها حليم: الحلم: العقل وقد يقال بمعنى العفو، والأحلام العقول، والحليم من أسماء الله تعالى، قيل الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، وقيل:
معناه العفو عن الذنوب، والأحلام ما يرى في النوم حبط: بطل وأحبطه الله أبطله حنيف: مسلم وموحد الله، وقيل حاجّ،(1/31)
وقيل مختتن، والجمع حنفاء محصنين ومحصنات: الإحصان له أربع معان:
الإسلام والحرّية، والعفاف، والتزوّج وليحصنكم من بأسكم: بغيكم حجة:
بالضم: دليل وبرهان وحاجّ فلان فلانا:
جادله، وحجة عليه: بالحجة، والحج بالفتح والكسر: القصد، ومنه أخذ: حجّ البيت، وحجة بالكسر: سنة، وجمعها حجج حطة: أي حط عنا ذنوبنا، وقيل:
كلمة بالعبرانية تفسيرها لا إله إلّا الله حضر: بالضاد من الحضور، ومنه محضرون، وشرب محتضر، وبالظاء: من المنع، ومنه: وما كان عطاء ربك محظورا، وكهشيم المحتظر، وبالذال من الحذر وهو الخوف، ومنه: إنّ عذاب ربك كان محذورا حفظ: العلم: وعيه وحفظ الشيء حراسته، والحفيظ: اسم الله تعالى، قيل معناه العليم، وقيل حافظ الخلق كالئهم من المهالك حاق: بهم أي حل بهم حبل: من الله ومن الناس، أي عهد، وحبل الله القرآن وأصله بالحبل المعروف حسب:
بكسر السين: ظن، مضارعه بالفتح والكسر وحسب بالفتح: من العدد ومضارعه بالضم، ومنه الحساب والحسبان، وحسبانا من السماء: أي مرام، وإحداها: حسبانة حساب: من الظن والعدد، وبغير حساب:
يحتمل الوجهين، وأن يكون من المحاسبة أن لا يحاسب عليه، ومن التقدير: أي بغير تضييق، وعطاء حسابا: أي كافيا حسيب:
اسم الله تعالى، فيه أربعة أقوال: كافي، وعالم، وقادر، ومحاسب حسبك الله: أي كافيك حزن: تأسف على ماض أو حال الخوف ترفع في المستقبل، ويقال حزن بكسر الزاي، وحزنه غيره، وأحزنه أيضا حصير: مجلس من الحصر، وأحصر عن الشيء: حبس عنه، وحسير بالسين: كليل حصيد: هو ما يحصد من الزرع وغيره، واستعير: قائم وحصيد، أي باق وذاهب حميم: له معنيان: الصديق، والماء الحار محيص: مهرب حجر: له أربعة معان:
الحرام، والعقل، ومنازل ثمود، وحجر الكعبة حمل: بكسر الحاء: ما على ظهر الدابة وغيرها، ويستعار للذنوب، وبالفتح:
ما في بطن المرأة، وجمعه أحمال إحسان: له ثلاث معان: فعل الحسنات، والإنعام على الناس، ومراقبة الله تعالى المشار إليها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» «1» حق: له أربعة معان: الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب والحق: اسم الله تعالى: أي الواجب الوجود حاصب: أي ريح شديدة سمّيت بذلك لأنها ترمي بالحصباء أي الحصى، والحاصب أيضا: الحجارة حلية:
حلى حرج: ضيق أو مشقة حول: له معنيان: العام، والحيلة، وحولا بكسر الحاء: انتقالا حرث: الأرض مصدر، ثم استعمل بمعنى الأرض والزرع والجنات حس: بغير ألف قتل ومنه: إذ تحسونهم، وأحس من الحس حرم: بضمتين محرمون بالحج حقب: بضمتين، وأحقاب جمع حقب، وهو مدّة من الدهر يقال إنه:
__________
(1) . من حديث مشهور رواه مسلم عن عمر بن الخطاب. انظره في الأربعين النووية.(1/32)
ثمانون سنة حفّ: الشيء بالشيء أطاف به من جوانبه، ومنه: حففناهما بنخل، والملائكة حافين حل: بالمكان يحل بالضم والكسر، وحلّ من إحرامه يحل بالكسر لا غير حطام: فتات، والحطام ما تحطم من عيون الزرع اليابس.
حرف الخاء
خلق له معنيان: من الخلقة ومن الخالق اسم الله، وكذا الخلاق. وخلّق الرجل:
كذب ومنه: تخلقون إفكا. واختلاق: أي كذب خلاق: نصيب خير: ضدّ الشر، وله أربعة معان: العمل الصالح والمال، والخيرة، والتفضيل بين شيئين خلا: له معنيان: من الخلوة، وبمعنى ذهب ومنه: أمّة قد خلت خطيئة: ذنب، وجمعه خطايا وخطيات، والفعل منه خطىء فهو خاطئ، وأما الخطأ بغير عمد فالفعل منه:
أخطأ خاسئين: مطرودين من قولك:
خسأت الكلب ومنه: اخسئوا فيها خلف:
بفتح الخاء وإسكان اللام، وله معنيان وراء، ومن خلف خلفه: بشر، فإذا خلفه بخير قيل بفتح اللام خلاف: له معنيان من المخالفة، وبمعنى بعد، أو دون، ومنه:
بمقعدهم خلاف رسول الله خوّل: أعطى خلة: بضم الخاء: مودّة، ومنه الخليل، وجمعه أخلّاء خلال: له معنيان: وداد، ومنه: لا بيع فيه ولا خلال، وبمعنى:
بين، ومنه: خلال الديار، وخلالكم خرّ:
يخرّ سقط على وجهه خامدون: هالكون، وأصله: من خمود النار خطب: الخطب:
سبب الأمر والخطب أيضا الأمر العظيم.
وخطبة النساء بالكسر، وخطبة الخطيب بالضم يخرصون: يكذبون، ومنه:
يخرصون والخرص أيضا: التقدير وقيل:
يخرصون منه: أي يقولون بالظن من غير تحقيق خوّان: كثير الخيانة مختال: من الخيلاء مخمصة: من الخمص وهو الجوع أخدان: جمع خدن وهو الخليل خراج: وخرج: أي أجرة وعطية.
حرف الدال
دين له خمسة معان: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر دأب: له معنيان: عادة، وجدّ، وملازمة، ومنه:
سبع سنين دأبا: متتابعة للزراعة من قولك:
دأبت على الشيء: دمت عليه أدنى: له معنيان: أقرب من الدنوّ، وأقل فهو من:
الداني، الحقير دار السلام: الجنة دوائر:
صروف الدهر، واحدها دائرة، ومنه دائرة السّوء دعاء: له خمسة معان: الطلب من الله، والعبادة، ومنه: تدعون من دون الله، والتمني: ولهم فيها ما يدّعون، والنداء:
ادعوا شهداءكم، والدعوة إلى الشيء: ادع إلى سبيل ربك دابة: كل ما يدب فيجمع جميع الحيوان دحور: إبعاد، ومنه المدحور: المطرود دعّ: بتشديد العين، يدعّ: أي دفع بعنف، ومنه يدّع اليتيم، ويدّعون إلى نار جهنم دعا درأ: دفع، ومنه يدرؤون مدرارا: من: درّ المطر، إذا صب داخرين: صاغرين دكّت: الأرض: أي:
دقت جبالها حتى استوت مع وجه الأرض ومنه: جعله دكّا: أي مستويا مع الأرض.
حرف الذال
ذكر له أربعة معان: ضد النسيان،(1/33)
والذكر باللسان، والقرآن، ومنه: نزلنا الذكر، والشرف ومذكّر مفعّل من الذكر ذنوب: بضم الذال: جمع ذنب، وبالفتح النصيب، ومنه ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم:
أي نصيبا من العذاب، والذنوب أيضا:
الدلو ذبح: بكسر الذال: المذبوح، وبالفتح: المصدر ذرأ: خلق ونشر ذلول:
مذللة للعمل من الفك «1» ومنه: ذللناهم لهم، ورجل ذلول: من الذل بالضم، وذللت قطوفها أدنيت أذقان: جمع ذقن.
حرف الراء
ربّ له أربعة معان: الإله، والسيد، والمالك الشيء، والمصلح للأمر ريب:
شك، ومنه: ارتابوا. ومريب، وريب المنون: حوادث الدهر رجع: يستعمل متعديا بمعنى ردّ وغير متعد، والمرجع:
اسم مصدر أو زمان أو مكان من الرجوع رعى: له معنيان: من النظر، ومن رعي الغنم روح: له أربعة معان: للنفس التي بها الحياة: يسألونك عن الروح، والوحي:
ينزّل الملائكة بالروح، وجبريل: نزل به الروح الأمين، وملك عظيم: تنزّل الملائكة والروح، وروح بفتح الراء: رائحة طيبة، والريحان: الرزق، وقيل الشجر المعروف ركام: بعضه فوق بعض، ومنه مركوم، ويركمه رجا: طمع وقد يستعمل في الخوف، ومنه لا يرجون لقاءنا رجال:
جمع رجل، وجمع راجل: أي غير راكب، ومنه: يأتوك رجالا، ومثله:
بخيلك ورجلك رفث: له معنيان:
__________
(1) . كذا في الأصل ولعل الصواب: الذل.
الجماع، والكلام بهذا المعنى رجز:
عذاب: والرجز فاهجر: فهي الأوثان والرجس بالسين: النجس حقيقة، أو مجازا، وقد يستعمل بمعنى العذاب رهب:
خوف، ومنه: يرهبون رؤوف: من الرأفة وهي الرحمة إلّا أنّ الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في دفع المكروه وفعل الجميل، فهي أعم من الرأفة مرضاة:
مفعلة من الرضا راسيات: ثابتات، ومنه:
قيل للجبال: رواسي، ومنه: مرساها رغدا: أي كثيرا ربوة: مكان مرتفع ربا:
هو في اللغة الزيادة، ومنه: ويربي الصدقات، وربت الأرض: انفتحت أرحام: جمع رحم، وهو فرج المرأة «2» ويستعمل أيضا في القرابة أرجئه: أخره، ومنه: ترجي ويرجون، ويجوز فيه الهمز وتركه رأى: من رؤية العين يتعدّى إلى واحد، ومن رؤية القلب بمعنى العلم:
يتعدّى إلى مفعولين تربص: انتظر رفات:
فتات. أرذل العمر: الهرم، والأرذلون:
من الرذالة رقي: من الرقية بفتح القاف، ومنه: وقيل من راق، ورقي في السلم بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل أرداكم: أهلككم، والردى الهلاك، ومنه:
تردين، وتردى رجفة: زلزلة وشدّة.
حرف الزاي
زبر بضمتين ككتب، والزبور: كتاب داود عليه السلام زخرف: زينة، والزخرف أيضا: الذهب زكاة: له في اللغة معنيان:
الزكاة، والطهارة، ثم استعمله الشرع في
(2) . بل الصواب هو مقر الجنين في أسفل بطن المرأة.(1/34)
إعطاء المال، وهو من الزيادة، لأنه يبارك له فيه فيزيد، أو من الطهارة لأنه يطهره من الذنوب، وزكيت الرجل: أثنيت عليه، وزكا هو مخففة أي: صار زكيا زوج: له ثلاث معان: الرجل، والمرأة، وقد يقال زوجة، والمعنى: الصنف والنوع، ومنه: أزواج من نبات، ومن كل زوج كريم زلّ: له معنيان:
زلّ القدم عن الموضع، وفعل الزلل زاغ:
عن الشيء زيغا: مال عنه، وأزاغه غيره:
أماله زلفى: قربى، وأزلفت: قربت، وزلفا من الليل: ساعات زعم: أي ادّعى، ولم يوافقه غيره، قال ابن عباس: زعم كناية عن كذب زعيم: ضامن تزجي: تسوق زلزلة الأرض: اهتزازها، وتستعمل بمعنى الشدّة والخوف، ومنه: زلزلوا زجرة واحدة: صيحة بمعنى نفخة الصور، والزجرة: الصيحة بشدّة وانتهار، وازدجر: من الزجر.
حرف السين
أسباط جمع سبط وهم ذرية يعقوب عليه السلام كان له اثنا عشر ولدا ذكرا، فأعقب كل واحد منهم عقبا. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب سبيل: هو الطريق، وجمعه سبل، ثم استعمل في طريق الخير والشر، وسبيل الله: الجهاد. وابن السبيل، الضيف وقيل القريب سوّى:
بالتشديد له معنيان: من التسوية بين الأشياء وجعلها سواء، وبمعنى أتقن وأحسن، ومنه: فسوّاك فعدلك سواء: بالفتح والهمز من التسوية بين الأشياء، وسواء الجحيم:
وسطها، وسواء الصراط قصد الطريق سوى: بالكسر والضم مع ترك الهمزة استثناء، وقد يكون من التسوية سفهاء: جمع سفيه وهو الناقص العقل، وأصل السّفه:
الحمق ولذلك قيل لمبذر المال: سفيه، وللكفار والمنافقين: سفهاء سلوى: طائر يشبه السماني، وكان ينزل على بني إسرائيل مع المنّ سأل: له معنيان طلب الشيء، والاستفهام عنه، وسال بغير همز: من المعنيين المذكورين، ومن السيل سبحان:
تنزيه، وسبحان الله: أي نزهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأنداد وصفات الحدوث وجميع العيوب والنقائص سار: يسير مشى ليلا أو نهارا سرى يسري:
مشي ليلا، ويقال أيضا: أسرى بألف سخر:
يسخر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع: أي استهزأ، وسخر بالتشديد من التسخير سخريّا: بضم السين من السخرة وهي تكليف الأعمال، وبالكسر من الاستهزاء سلطان: له معنيان البرهان، والقوة، ومنه: لا تنفذون إلا بسلطان. سام يسوم: أي كلف الأمر وألزمه ومنه يسومونكم سوء العذاب وأصله من سوم السلعة في البيع سئم: يسأم: أي ملّ، ومنه:
وهم لا يسأمون سنة: أي عادة سلف:
الأمر: أي تقدّم، وأسلفه الرجل: أي قدّمه، ومنه: هنيئا بما أسلفتم سرّاء: فعلاء من:
السرور سارع: إلى الشيء: بادر إليه سوءة:
عورة، والسوء: ما يسوء بالفتح والضم، والسوأى: فعلاء من السوء، وسيء بهم:
فعل بهم السوء سنة: بفتح السين: عام، ولامها محذوفة وجمعها سنون وقد تقال بمعنى الحفظ «1» والجدب سنة: بكسر
__________
(1) . صوابها القحط.(1/35)
السين: ابتداء النوم وفاؤها واو محذوفة لأنها من الوسن سلك: يسلك: له معنيان: أدخل ومنه اسلك يدك وسلكه ينابيع، ومنه:
سلوك الطريق، أسفار جمع سفر بفتحتين وجمع سفر وهو الكتاب. ساح يسيح فسيحوا في الأرض. والسائحون: الصائمون سوّل: بتشديد الواو: زيّن، ومنه: سوّلت لكم أنفسكم أمرا سرابيل: جمع سربال وهو القميص سبأ: قبيلة من العرب سموم: شدّة الحر سلام: له ثلاثة معان: التحية، والسلامة، والقول الحسن، ومنه: إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما سلام: اسم الله تعالى معناه: السلامة من كل نقص، فهو من أسماء التنزيه، وقيل: سلّم العباد من المهالك، وقيل: ذو السلام على المؤمنين في الجنة سلّم: بفتحتين: انقياد وإلقاء باليد، وهو أيضا: بيع سلّم: بفتح السين وإسكان اللام: صلح ومهادنة سلّم: بكسر السين وإسكان اللام ومعناه الإسلام، وبضم السين وفتح اللام مشدّدة: هو الذي يصعد فيه أسلم يسلم له ثلاث معان: الدخول في الإسلام، والإخلاص لله، والانقياد، ومنه: فلما أسلما سعى يسعى، له ثلاث معان: عمل عملا، ومنه: وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى، ومشى، ومنه: فاسعوا إلى ذكر الله، وأسرع في مشيه، ومنه: رجل يسعى سكن يسكن له معنيان: من السكون ضد الحركة، ومن السكنى في الموضع سكينة: وقار وطمأنينة سائغ: سهل الشرب لا يغصّ به من شربه سابغات: دروع واسعات أساطير الأوّلين:
ما كتبه المتقدّمون مسيطر: أي مسلط، وأم هم المسيطرون: الأرباب سندس: وإستبرق: ثياب حرير، قيل: السندس رقيق الديباج، والإستبرق: صفيقه سحقا: بعدا، ومنه مكان سحيق: أي بعيد سعير: جهنم، وسعرت: أوقدت سبب: وجمعه أسباب له خمسة معان: الحبل، ومنه: فليمدد بسبب إلى السماء، والاستعارة من الحبل في المودّة والقرابة، ومنه: وتقطعت بهم الأسباب، والطريق ومنه: فأتبع سببا، والباب ومنه:
أسباب السموات، وسبب الأمر: موجبه.
حرف الشين
شعر بالأمر يشعر: أي علمه، والشعور: العلم من طريق الحس، ومنه:
لا يشعرون شهد يشهد له معنيان: من الشهادة على الشيء، ومن الحضور، ومنه الشهادة في سبيل الله شكرا: قد تقدّم في الحمد والشكر، والشكور: اسم الله المجازي لعباده على أعمالهم بجزيل الثواب، وقيل: المثني على العباد شرى:
أي باع، وقد يكون بمعنى اشترى شقاق:
عداوة ومعاندة، ومنه: ومن يشاقق الله شهاب: كوكب، وقد يطلق على شعلة النار شجر: هو كل ما ينبت في الأرض، وشجر بينهم: أي اختلفوا فيه شنآن: عداوة وشر، ويجوز فيه فتح النون وإسكانها شرع الله الأمر: أي أمر به، والشريعة والشرعة:
الملة، وشرعة الماء: في الدواب «1» ، شعائر الله: معالم دينه، واحدها شعيرة أو شعارة شرك: له معنيان: من الإشراك، وهو أيضا النصيب، ومنه: أم لهم شرك
__________
(1) . في الكلام نقص والله أعلم. شرعة الماء: هي مكان الورود والشرب.(1/36)
في السموات شركاء: جمع شريك مشحون: أي مملوء.
حرف الصاد
صراط هو في اللغة: الطريق ثم استعمل في القرآن بمعنى: الطريقة الدينية، وأصله بالسين ثم قلبت صادا لحرف الإطباق بعدها، وفيه ثلاث لغات: بالصاد، والسين، وبين الصاد والزاي صلاة: إذا كانت من الله فمعناها رحمة، وإذا كانت من المخلوق فلها معنيين: الدعاء، والأفعال المعلومة صوم:
أصله في اللغة: الإمساك مطلقا، ثم استعمل شرعا في الإمساك عن الطعام والشراب، وقد جاء بمعنى الصمت في قوله: إني نذرت للرحمن صوما، لأنه إمساك عن الكلام صدقة: يطلق على الزكاة الواجبة، وعلى التطوّع، ومنه: إن المصدّقين والمصدقات، وأما: «أإنك لمن المصدّقين» بالتخفيف فهو من التصديق صدقة: بضم الدال صداق المرأة، ومنه: وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة.
والصدق في القول: ضدّ الكذب، والصدق في الفعل صدق النية فيه، والصدق في القصد: العزم الصادق صعد يصعد: أي ارتفع، وأصعد بالألف يصعد بالضم: أي أبعد في الهروب، ومنه: إذ تصعدون، صعيدا طيبا: أي ترابا، والصعيد: وجه الأرض صدّ: له معنيان فالمتعدّي بمعنى:
منع غيره من شيء، ومصدره صدّ، ومضارعه بالضم، وغيره بمعنى أعرض ومصدره صدود صار له معنيان: من الانتقال ومنه: تصير الأمور، والمصير، وبمعنى:
ضم، ومضارعه يصور ومنه: فصرّهن إليك صاعقة: له ثلاثة معان: الموت، وكل بلاء يصيب، وقطعة نار تنزل من شدّة الرعد والمطر، وجمعها صواعق صواع: مكيال وهو السقاية والصاع، وسواع بالسين اسم صنم صابئين: قوم يعبدون الملائكة ويقولون: إنها بنات الله. وقيل: إنهم يرون تأثير الكواكب. وفيه لغتان. الهمز وتركه.
من صبأ إلى الشيء: إذا مال إليه تصطلون:
تفتعلون من: صبأ بالنار إذا تسخن بها، والطاء بدل من التاء اصطفى: أي اختار.
وأصله من الصفي. أي اتخذه صفيا صغار:
بفتح الصاد ذلة. ومنه صاغرون. والصغير ضدّ الكبير صدف عن الشيء يصدف أعرض عنه صريخ: مغيث ومنه: ما أنا بمصرخكم صلصال: طين يابس. فإذا مسته النار فهو فخّار صرح: قصر وهو أيضا: البناء العالي.
حرف الضاد
ضرب له أربعة معان: من الضرب باليد وشبهه. ومن ضرب الأمثال. ومن السفر.
ومنه: ضربتم في الأرض. ومن الالتزام.
ومنه: ضربت عليهم الذلة. أي ألزموها، وضربنا على آذانهم: أي ألقينا عليهم النوم.
و «أفنضرب عنكم الذكر» أي نمسك عنكم الذكر ضاعف الشيء: كثّره. ويجوز فيه التشديد وضعف الشيء بكسر الضاد مثلاه، وقيل: مثله. والضعف أيضا: العذاب.
والضعف: بالضم ويجوز فيه الفتح ضرّ بفتح الضاد وضمها بمعنى واحد. وكذلك الضير بالياء. ومنه: لا يضركم كيدهم. والضرّ: ما يصيب من المرض وشبهه ضحى: أوّل النهار. والفعل منه: أضحى. وأما ضحي بكسر الحاء يضحى في المضارع. فمعناه:
برز للشمس وأصابه حرّها. ومنه: لا تظمأ(1/37)
فيها ولا تضحى ضيف: يقال للواحد والاثنين والجماعة ضيق: بكسر الضاد مصدر. وبفتحها مع إسكان الياء: تخفيف من ضيّق المشدّد: كميّت وميت.
حرف الطاء
طبع ختم، والخاتم الطابع طول: بفتح الطاء: فضل أو غنى طائر: له معنيان: من الطيران ومن الطيرة طوى: قيل اسم الوادي، وقيل معناه: مرتين، أي قدس الوادي مرتين طهارة: له معنيان: الطهارة بالماء، ومنه:
جنبا فاطّهروا، والماء الطهور، وهو المطهر، والطهارة من القبائح والرذائل، ومنه: أناس يتطهرون. طيّب: له معنيان:
اللذيذ، والحلال طوفان: السيل العظيم طاغوت: أصنام وشياطين، ويكون مفردا أو جمعا، والطاغوت أيضا: رؤوس النصارى على قول طباق: بعضها على بعض، وطبقا عن طبق: حالا بعد حال طور: جبل وهو الطور طفق: يفعل كذا: أي جعل يفعله طائفين: من الطواف، وطائف من الشيطان:
لمم، وقرئ طيف.
حرف الظاء
ظهر الأمر: بدا، وأظهره غيره: أبداه، وظهير: معين ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر، وتظهّر: أي قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وهو الظاهر ظهر البيت:
أعلاه، وظهرته: أي ارتفعت عليه، ومنه:
فما استطاعوا أن يظهروه ظلم: وقع في القرآن على ثلاثة معان: الكفر، والمعاصي، وظلم الناس: أي التعدي عليهم ظنّ: له ثلاثة معان: التحقيق، وغلبة أحد الاعتقادين، والتهمة ظمئ: عطش ظلال: جمع ظل، وظلل بالضم جمع: ظلة، وهي ما كان من فوقه، وظلّ بالنهار: بمنزلة بات بالليل.
حرف العين
عاذ بالله يعوذ أي: استجار به ليدفع عنه ما يخاف، ويقال أيضا: استعاذ يستعيذ، ومنه عذت بربي، ومعاذ الله العالمين: جمع عالم، وهو عند المتكلمين: كل موجود سوى الله تعالى، وقيل: العالمين: الإنس والجن والملائكة، فجمعه جمع العقلاء، وقيل: الإنس خاصة، لقوله، أتأتون الذكران من العالمين يعمهون: يتحيرون في ضلالهم، والعمه: الحيرة عدل يعدل: ضدّ جار، وعدل عن الحق، عدولا، وعدلت فلانا بفلان: سويت بينهما، ومنه: أو عدل ذلك صياما عزيز: اسم الله تعالى، معناه:
الغالب، وعزّ: غلب، ومنه: وعزّني في الخطاب، والغلبة ترجع إلى القوّة والقدرة، ومنه: فعززنا بثالث: أي قوّينا، وقيل العزيز العديم المثل عفا: له أربعة معان: عفا عن الذنب: أي صفح عنه، وعفا: أسقط حقه، ومنه: إلّا أن يعفون أو يعفو الذي، وعفا القوم: كثروا، ومنه: حتى عفوا، وعفا المنزل: إذا درس عفو: له ثلاث معان، العفو عن الذنب، والإسقاط، والسهل من غير كلفة: ومنه: ماذا ينفقون قل: العفو عين: بكسر العين وإسكان الياء: وهو جمع عيناء عنت: معناه الهلاك أو المشقة، ومنه:
ولو شاء الله لأعنتكم: أي أهلككم، أو ضيّق عليكم، والعنت أيضا: الزنا، ومنه: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأمّا: عنت الوجوه: فليس من هذا، لأنّ لامه واو فهو(1/38)
من عنا يعنو: إذا خضع عاقب: له معنيان:
من العقوبة على الذنب، ومن العقبى، ومنه:
وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم: أي أصبتم عقبا أعجاز نخل:
أصولها، أعجز الشيء: إذا فات ولم يقدر عليه، ومنه: وما هم بمعجزين، وما كان الله ليعجزه من شيء، وأما معاجزين بالألف:
فمعناه مسابقين عال: يعيل عيلة: أي افتقر ومنه: ووجدك عائلا، وعال يعول، عدل عن الحق، وعال يعول أيضا: كثر عياله، والأشهر أن يقال في هذا المعنى: أعال بالألف عرج: يعرج بفتح الراء في الماضي، وضمها في المضارع صعد وارتقى ومنه:
المعارج، وعرج بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل: صار أعرج عتبى: معناه الرضى، ومنه: فما هم من المعتبين، ولا هم يستعتبون، العتاب: العذل أعد: بالألف يعدّ الشيء: هيأه، وعدّ بغير الألف من العدد عرش: سرير الملك، ومنه: ورفع أبويه على العرش، أهكذا عرشك؟ وعرش الله: فوق السماء، وتعرشون: تبنون، وعلى عروشها:
سقوفها عورة: أصل معناه: الانكشاف فيما يكره كشفه، ولذلك قيل: عورة الإنسان عورات، أي: أوقات انكشاف، وبيوتنا عورة: أي خالية معرّضة للسراق عاقر: له معنيان: المرأة العقيم، واسم فاعل من: عقر الحيوان عبر: يعبر، له معنيان: من عبارة الرؤيا ومنه: إن كنتم للرؤيا تعبرون، ومن الجواز على الموضع، ومنه: عابر سبيل عمون: جمع عم، وهو صفة على وزن فعل بكسر العين من العمى في البصر أو في البصيرة علا يعلو: تكبر، ومنه: قوما عالين، وعلا في الأرض، والعليّ اسم الله، والمتعالي، والأعلى: من العلوّ بمعنى الجلال والعظمة، وقيل: بمعنى التنزيه عما لا يليق به عزب الشيء: غاب، ومنه: لا يعزب عن ربك: أي لا يخفى عنه عصبة:
جماعة من العشرة إلى الأربعين علقة: واحدة العلق: وهو الدم عاصف: ريح شديدة عصف: ورق الزرع.
حرف الغين
غشاوة غطاء إما حقيقة أو مجازا غمام:
هو السحاب غلف: جمع أغلف، وهو كل شيء جعلته في غلاف: أي قلوبنا محجوبة غرفة: بضم الغين لها معنيان: المسكن المرتفع، والغرفة من الماء بالضم وبالفتح:
المرة الواحدة غادر: ترك، ومنه: لم نغادر غلّ يغل: من الغلول، وهو الخيانة، والأخذ من المغنم بغير حق، والغلّ: الحقد أغلال:
جمع غل بالضم، وهو ما بجعل في العنق، ومنه: مغلولة غلا يغلو من الغلو وهو مجاوزة الحد والإفراط، ومنه: لا تغلوا في دينكم أي: لا تجاوزوا الحدّ غائط: المكان المنخفض، ثم استعمل في حاجة الإنسان غشي الأمر يغشى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع معناه: غطى حسّا ومعنى، ومنه: والليل إذا يغشى لأنه يغطي بظلامه، وينقل بالهمزة والتشديد، فيقال غشّى وأغشى: ومن فوقهم غواش يعني ما يغشاهم من العذاب أو يصيبهم، ومنه: غاشية من عذاب الله، والغاشية أيضا: القيامة لأنها تغشى الخلق غبر له معنيان: ذهب وبقي، ومنه: عجوزا في الغابرين: أي في الهالكين أو في الباقين في العذاب غرور: بضم الغين.(1/39)
وبفتحها: اسم فاعل مبالغة، ويراد به إبليس غاض الشيء: نقص، ومنه: وغيض الماء.
وتغيض الأرحام. وغاظ بالظاء يغيظ من:
الغيظ غور: غاير من غار الماء إذا ذهب غرام: عذاب ومنه: إنا لمغرمون، والمغرم:
غرم المال ومنه: من مغرم مثقلون.
حرف الفاء
فرقان مفرّق بين الحق الباطل. ومنه:
يجعل لكم فرقانا: أي تفرقة. لذلك سمي القرآن بالفرقان فئة جماعة من الناس فصال فطام من الرضاع فضل له معنيان: الإحسان.
والربح في التجارة وغيرها. ومنه: يبتغون من فضل الله فسق أصله الخروج وتارة يرد بمعنى الكفر. وتارة بمعنى العصيان فتنة لها ثلاثة معان: الكفر. والاختبار. والتعذيب فاء يفيء أي رجع فلك بضم الفاء: سفينة.
ويستوي فيه المفرد والجمع فلك بفتحتين:
القطب الذي تدور به الكواكب فزع له معنيان: الخوف من الإسراع. ومنه: إذا فزعوا فلا فوت فرح له معنيان: السرور والبطر فاحشة وفحشاء: هي كل ما يقبح ذكره من المعاصي فرض له معنيان:
الوجوب. والتقدير فتح له معنيان: فتح الأبواب. ومنه: فتح البلاد وشبهها.
والحكم ومنه: افتح بيننا وبين قومنا. ويقال للقاضي: فاتح. واسم الله الفتاح، قيل:
الحاكم. وقيل: خالق الفتح والنصر انفضوا تفرقوا فطره خلقه ابتداء. ومنه: فاطر السموات والأرض. وفطرة الله: التي خلق الخلق عليها. وأفطر بالألف: من الطعام فطور شقوق. ومنه انفطرت أي: انشقت.
ويتفطّرن فجّ طريق واسع وجمعه: فجاج فار التنور يقال: لكل شيء هاج وعلا حتى فاض. ومنه: وهي تفور. وقولهم: فارت القدر فوج جماعة من الناس وجمعه: أفواج فاكهين من التلذذ بالفاكهة أو من الفكهة وهي السرور واللهو فؤاد هو القلب، وجمعه أفئدة استفز يستفز: أي استخف فقه فهم. ومنه:
لا يفقهون. وما نفقه كثيرا في حرف جر بمعنى الظرفية. وقد تكون للتعليل. وقد تكون بمعنى مع. وقيل: بمعنى على الفاء لها ثلاثة أنواع: عاطفة. ورابطة. وناصبة للفعل بإضمار أن. ومعناها: الترتيب والتعقيب والسبب.
حرف القاف
قرآن القرآن العزيز. ومصدره قرأ: أي تلا. ومنه: إنّ علينا جمعه وقرآنه قنوت له خمسة معان: العبادة، والطاعة والقيام في الصلاة، والدعاء، والسكوت قضاء له سبعة معان: الحكم. والأمر. والقدر السابق.
وفعل الشيء، والفراغ منه، والموت، والإعلام بالشيء، ومنه: قضينا إليه ذلك الأمر قدر له خمسة معان: من القدرة، ومن التقدير، ومن المقدار، ومن القدر، والقضاء، وبمعنى التضييق نحو: فقدر عليه رزقه، وقد يشدّ الفعل ويخفف. والقدر بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار وبالفتح لا غير من القضاء قام له معنيان: من القيام على الرجلين، ومن القيام بالأمر بتقديره وإصلاحه، ومنه: الرجال قوّامون على النساء، وقام الأمر: ظهر واستقام، ومنه:
الدين القيّم دينا قيّما له ثلاثة معان: أقام الرجل غيره من القيام، ومن التقويم ومنه:
جدارا يريد أن ينقض فأقامه، وأقام في(1/40)
الموضع: سكن، ومنه، مقيم: أي دائم قيوم اسم الله تعالى وزنه فيعول وهو بناء مبالغة من القيام على الأمور: معناه مدبر الخلائق في الدنيا وفي الآخرة ومنه: قائم على كل نفس:
له معنيان: مصدر قام على اختلاف معانيه، وبمعنى قوام الأمر وملاكه، وقيم بغير ألف:
جمع قيمة قرض سلف والفعل منه أقرض يقرض أقسط بألف قسطا: عدلا في الحكم، ومنه يحب المقسطين، وقسط بغير ألف:
جار، ومنه: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا مقاليد فيه قولان: خزائن، مفاتح قدّس يقدس من التنزيه والطهارة، وقيل من التعظيم، والقدوس: اسم الله تعالى فعول من النزاهة عما لا يليق به قال يقول من القول، وقد يكون بمعنى الظن ومصدره قول، وقال يقيل: من القائلة، ومنه أو هم قائلون، وأحسن مقيلا قفّى أتبع، وأصله من القفا، يقال: أقفوته، إذا حبيت «1» في أثره وقفّيته بالتشديد إذا سقت شيئا في أثره، ومنه: وقفينا من بعده بالرسل قرن جماعة من الناس، وجمعه: قرون قواعد البيت: أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء: واحدة قاعد، وهي العجوز قربان ما يتقرّب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وقربان أيضا: من القرابة قلى يقلي: أبغض، ومنه: وما قلى، ولعملكم من القالين اقترف اكتسب حسنة أو سيئة قصص له معنيان: من الحديث، ومن قص الأثر، ومنه: على آثارهما قصصا، وقصيّه قررت «2» به عينا، قرر بالكسر في
__________
(1) . كذا في الأصل ولعلها خطأ والصواب: جئت. [.....]
(2) . قرّ: لم أجدها في القاموس إلّا مشدّدة، والله أعلم.
الماضي والفتح في المضارع قسطاس ميزان قتر وقترة: غبار، وعبارة عن تغير الوجه، وقتور من التقتير قارعة داهية وأمر عظيم قبس شعلة نار قنط يئس من الخير قرطاس صحيفة وجمعه قراطيس.
حرف الكاف
كافر له معنيان: من الكفر وهو الجحود، وبمعنى الزرع، ومنه: أعجب الكفار نباته أي الزراع، وتكفير الذنوب غفرانها كرّة رجعة كبر بكسر الباء في السن يكبر بالفتح في المضارع، وكبر الأمر بالضم في المضارع والماضي، وكبر بضم الكاف وفتح الباء: جمع كبرى، وكبّار بالضم والتشديد: كبير مبالغة، والكبر:
التكبر، وكبر الشيء بكسر الكاف وضمها:
معظمه، والكبرياء: الملك والعظمة، والمتكبر: اسم الله تعالى من الكبرياء وبمعنى العظمة كفل يكفل: أي ضم الصبيّ وحضنه، وأكفلنيها: اجعلني كافلها كفيل نصيب «3» كلالة هي أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد كاد قارب الأمر ولم يفعله، فإذا نفي اقتضى الإثبات كريم من الكرم وهو الحسب والجلالة والفضل، وكريم: اسم الله تعالى، أي محسن أكنة أغطية وأكنان جمع: كنّ، وهو ما وقى من الحر والبرد كهل هو الذي انتهى شبابه أكمام الثمار والنخيل جمع كم، وهو ما تكون الثمرة فيه قبل خروجها أكب الرجل على وجهه فهو مكب، وكبّه غيره بغير
(3) . وقد فسرها المؤلف في سورة النحل: 91 بمعنى: رقيب.(1/41)
ألف كهف غار كيد هو من المخلوق احتيال، ومن الله مشيئة أمر ينزل بالعبد من حيث لا يشعر كسفا بفتح السين جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء، وبالسكون كذلك أو مفرد كبتوا أي أهلكوا: أي يكبتهم، ثم يهلكهم، أو يخذلهم أكمه هو الذي ولد أعمى كان على نوعين: تامّة بمعنى حضر أو حدث أو وقع، وهي ترفع الفاعل. وناقصة ترفع الاسم وتنصب الخبر، وتقتضي ثبوت الخبر للمخبر عنه في زمانها، وقد تأتي بمعنى الدوام في مثل قوله: وكان الله غفورا رحيما، وكان ربك قديرا، وشبه ذلك، وهو كثير في القرآن، ومعناه: لم يزل ولا يزال موصوفا بذلك الوصف كأنّ معناها التشبيه كي معناها التعليل كم معناها التكثير، وهي خبرية واستفهامية كأيّن بمعنى كم، وهي عند سيبويه كاف التشبيه دخلت على أي كلا حرف ردع وزجر، وقيل: إنها تكون للنفي: أي ليس الأمر كما ظننت، وقيل:
إنها استفتاح كلام بمعنى: إلّا الكاف بمعنى التشبيه وبمعنى التعليل، وقيل إنها تكون زائدة.
حرف اللام
لبس الأمر أي خلطه بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المستقبل ألباب عقول، وهو جمع لب، لبث في المكان أقام فيه لمز يلمز أي عاب الشيء لؤلؤ جوهر «1» لغو الكلام الباطل منه، والفحش، ولغو اليمين: ما لا يلزم لها بفتح الهاء من اللهو،
__________
(1) . هو نوع من المجوهرات وتستخرج من المحار في قعر البحر.
ومضارعه يلهو، ولهى عن الشيء بالكسر والياء يلهى بالفتح. إذا أعرض عنه وألهاه الشيء. إذا أشغله، ومنه لا تلهكم أموالكم لطيف اسم الله تعالى، قيل: معناه رفيق، وقيل خبير بخفيات الأمور لدى ولدن معناها عند ليت معناها التمني لعل معناها الترجي في المحبوبات، والتوقع للمكروهات، وأشكل ذلك في حق الله تعالى، فقيل جاءت في القرآن على منهاج كلام العرب وبالنظر إلى المخاطب: أي ذلك مما يرتجى عندكم أي يتوقع، وقد يكون معناها التعليل، أو مقاربة الأمر فلا إشكال لولا لها معنيان:
التمني، وامتناع شيء لامتناع غيره لما لها معنيان: النفي وهي الجازمة، ووجود شيء لوجود غيره، وأما «لما» بالتخفيف، فهي لام التأكيد دخلت على ما، وقال الكوفيون: هي بمعنى إلّا الموجبة بعد النفي لا ثلاثة أنواع:
نافية وناهية، وزائدة اللام خمسة أنواع لام الجر، ولام كي، ولام الأمر، ولام التأكيد في القسم وغيره وهي المفتوحة، ثم إن لام الجر لها ثلاثة معان. الملك، والاستحقاق، والتعليل. وقد تأتي للتعدّي إذا ضعف العامل، وقد تأتي بمعنى عند، نحو: أقم الصلاة لدلوك الشمس، ولام كي معناها:
التشبيه والتعليل، وقد تأتي بمعنى الصيرورة والعاقبة، نحو: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا. وقد تأتي بمعنى أن المصدرية، ومنه: يريد الله ليبين لكم.
حرف الميم
مرض الجسد معروف، ومرض القلب الشك في الإيمان، والبغض في الدين المنّ شبه العسل، والسلوى طائر، والمنّ أيضا:(1/42)
الإنعام، والمنّ أيضا: العطية، والمنّ أيضا:
القطع، ومنه: أجر غير ممنون أماني جمع أمنية ولها ثلاثة معان: ما تتمناه النفس، والتلاوة، والكذب، وكذلك تمنى، له هذه المعاني الثلاثة ملأ القوم: أشرفهم، وذوو الرأي منهم مثل بفتح الميم والمثلثة، لها أربعة معان: الشبيه والنظير ومن المثل المضروب، وأصله من التشبيه، ومثل الشيء حاله وصفته، والمثل الكلام الذي يتمثل به، ومثل الشيء بكسر الميم: شبهه مرية شك، ومنه: الممترين أي الشاكين، لا تمار. من المراء وهو: الجدال أملي لهم: أمهلهم وزادهم مهاد فراش مدّ يمدّ: أي أملى، وقد تكون بمعنى زاد مثل أمدّ بألف من المداد مضغة قطعة لحم إملاق فقر مرد فهو مارد: من العتو والضلال مكانة بمعنى مكان أي من التمكين والعز، ومنه مكين مواخر فواعل من المخر يقال مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مجيد من المجد وهو الكرم والشرف مقت هو الذم أو البغض على ما فعل من القبيح معين ماء كثير جار، وهو من قولك معن الماء: إذا كثر، وقيل: هو مشتق من العين، ووزنه مفعول، فالميم زائدة مارج مختلط، والمارج: لهب النار، من قولك مرج الشيء إذا اضطرب، وقيل: من الاختلاط أي خلط نوعين من النار مرج البحرين، أي خلى بينهما، وقيل: خلطهما، وقيل: فاض أحدهما في الآخر مهل فيه قولان: درديّ الزيت، وما أذيب من النحاس منون له معنيان: الموت، والدهر مسّ له معنيان: اللمس باليد وغيره، والجنون من لها أربعة أنواع: شرطية، وموصولة، واستفهامية، ونكرة موصوفة ما إذا كانت اسما فلها ستة أنواع: شرطية، وموصولة، واستفهامية، وموصوفة، وصفة، وتعجبية، وإذا كانت حرفا فلها خمسة أنواع: نافية ومصدرية وزائدة وكافيّة ومبهمة من لها ستة أنواع: لابتداء الغاية، ولجملة الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس والتعليل، وزائدة مهما اسم شرط.
حرف النون
نظر له معنيان: من النظر، ومن الانتظار، فإذا كان من الانتظار تعدّى بغير حرف، ومن نظر العين يتعدّى بإلى ومن نظر القلب يتعدّى بفي أنظر بالألف أخّر، ومنه أنظرني، ومن المنظرين ونظرة إلى ميسرة نضرة بالضاد من التنعم، ومنه: وجوه يومئذ ناضرة أي ناعمة، وأمّا: إلى ربها ناظرة، فمن النظر نعمة بفتح النون من النعيم وبكسرها من الإنعام أنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم.
دون سائر البهائم ويجوز تذكيرها وتأنيثها.
ويقال لها أيضا نعم، ونعم كلمة مدح، ويجوز فيها كسر النون وفتحها، وإسكان العين وكسرها نعم بفتح العين والنون كلمة تصديق وموافقة على ما قبلها بالنفي أو الإثبات، بخلاف بلى: فإنها للإثبات خاصة، ويجوز في نعم فتح العين وكسرها ندّ هو المضاهي والمماثل والمعانت «1» ، وجمعه أنداد أنذر أعلم بالمكروه قبل وقوعه، ومنه. نذير، ومنذر، والمنذرين، وكيف كان نذير: أي إنذاري فهو مصدر، ومنه عذابي ونذر، والنذر بغير ألف ومنه نذر، ثم من نذر: فليوفوا نذورهم نكال له
__________
(1) . كذا ولعل الصواب: معاند.(1/43)
معنيان: العقوبة. والعبرة نجّي بتشديد الجيم له معنيان: من النجاة ومن النجوة: وهو الموضع المرتفع ومنه: ننجيك ببدنك على قول نجوى معناه: كلام خفي، ومنه: ناجي وقرّبناه نجيا، وقيل: إنه يكون بمعنى الجماعة من الناس في قوله: وإذ هم نجوى، وقد يجمع ذلك على حذف مضاف تقديره وإذ هم أصحاب نجوى نسيان له معنيان:
الذهول، ومنه: إن نسينا أو أخطأنا، والترك، ومنه: نسوا الله فنسيهم نسخ له معنيان: الكتابة، ومنه: نستنسخ ما كنتم تعملون، والإزالة، ومنه: ما ننسخ من آية أو ننسها نصر بالصاد المهملة معروف، وبالسين اسم صنم: ويعوق ونسرا، أو اسم طائر أيضا نشوز بالزاي: له معنيان: شرّ بين الرجل والمرأة، وارتفاع، ومنه: انشزوا أي: قوموا من المكان نزل بضمتين: رزق، وهو ما يطعم الضيف نأى بعد ومنه: ينأون عنه نكص رجع إلى وراء نفر نفورا عن الشيء ونفر ينفر بضم المضارع، ومنه: نفرت الدابة، ونفر ينفر بكسر المضارع نفيرا: أتى، أسرع، وجد، ومنه: انفروا في سبيل الله نبأ خبر، ومنه اشتق النبيء بالهمز، وترك الهمز تخفيفا، وقيل: إنه عند من ترك مشتق من النبوة، وهي الارتفاع نطفة أي نقطة من ماء، ومنه: خلقكم من نطفة يعني: من المني أناب إلى الشيء: رجع ومال إليه، ومنه:
منيب نفذ ينفذ أي: تم وانقطع نهر بفتح الهاء الوادي ويجوز الإسكان. وأمّا السائل فلا تنهر: فهو من الانتهار، وهو الزجر منير من النور، وهو الضوء حسا أو معنى نصب بضمتين وبضم النون وإسكان الصاد، وبفتح النون وإسكان الصاد بمعنى واحد، وهو حجر أو صنم كان المشركون يذبحون عنده وجمعه أنصاب نصب بفتحتين تعب، ومسّني الشيطان بنصب: أي بلاء وشر نقم الشيء ينقمه أي كرهه وعابه نضيد أي منصوب بعضه إلى بعض نكير إنكار، ويقال نكر الشيء وأنكره نسل بمعنى أسرع ومنه:
ينسلون، من النسلان وهو الإسراع في المشي مع قرب الخطا.
حرف الهاء
الهدى له معنيان: الإرشاد والبيان، ومن البيان: فأما ثمود فهديناهم، والإرشاد قد يكون إلى الطريق، إلى الدين، وبمعنى التوفيق والإلهام هدي بفتح الهاء وإسكان الدال: ما يهدى إلى الكعبة من البهائم هاد يهود: أي تاب، ومنه: هدنا إليك، والذين هادوا: أي تهوّدوا أي صاروا يهودا وأصله من قولهم: هدنا إليك هود له معنيان: اسم نبي عاد عليه السلام وبمعنى اليهود، ومنه كونوا هودا هوى النفس: مقصور وهو ما تحبه وتميل إليه، والفعل منه: بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع والهواء بالمدّ والهمز: ما بين السماء والأرض، وأفئدتهم هواء: أي متحرّقة لا تعي شيئا وهوى يهوي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع: وقع من علو، ويقال أيضا:
بمعنى الميل، ومنه: أفئدة من الناس تهوي إليهم هاجر خرج من بلاده، ومنه سمي المهاجرون هجر من الهجران، ومنه الهجر أيضا، وهو فحش الكلام، وقد يقال في هذا أهجر بالألف أهلّ لغير الله به أي صيّح، والإهلال: الصياح، وفي النية أي أريد به(1/44)
غير الله مهيمن عليه شاهد، وقيل: مؤتمن، والمهيمن. اسم الله القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، وقيل الشهيد، وقيل: الرقيب هوان، هون أي ذل مهين بضم الميم أي مفعل مشتق من الهوان:
أي مذل، وأما مهين، بفتح الميم فمعناه:
ضعيف أو ذليل.
حرف الواو
وقود النار بفتح الواو: ما توقد به من الحطب وشبهه، والوقود بالضم المصدر وجه له معنيان: الجارحة، والجهة، وأما وجه الله: ففي قوله: ابتغاء وجه الله أي طلب رضاه، وفي قوله: كل شيء هالك إلّا وجهه، ويبقى وجه ربك: قيل: الوجه الذات، وقيل: صفة كاليدين، وهو من المتشابه وعد يعد وعدا بالخير، وقد يقال:
في الشر وأوعد بالألف يوعد وعيدا بالشر لا غير ودّ يودّ له معنيان: من المودة والمحبة، وبمعنى تمنى: ودّوا لو تكفرون، والودّ بالضم: المحبة، وودّ: اسم صنم بضم الواو وفتحها ودود اسم الله تعالى أي محب لأوليائه، وقيل محبوب ويل كلمة شر، وقيل: إن الويل واد في جهنم وجب له معنيان: من وجوب الحق، وبمعنى سقط، كقولهم: وجب الحائط إذا سقط، ومنه وجبت جنوبها وسط وأوسط له معنيان: من التوسط بين الشيئين، وبمعنى الخيار والأحسن وسع يسع سعة: من الاتساع ضد الضيق، والسعة الغنى، والواسع اسم الله تعالى: أي واسع العلم والقدرة والغنى والرحمة واسع جواد موسع غنّي أي: واسع الحال وهو ضدّ المقتر: وإنا لموسعون قيل: أغنياء، وقيل قادرون، وإلّا وسعها: طاقتها ولى له معنيان: أدبر، وجعل واليا، وتولى له ثلاث معان: أدبر، وأعرض بالبدن أو بالقلب، وصار واليا، واتخذ وليا، ومنه:
ومن يتولى الله ورسوله وليّ ناصر، والولي اسم الله، قيل: ناصر، وقيل: متولي أمر الخلائق مولى له سبعة معان: السيد والأعظم، والناصر، والوالي أي القريب، والمالك والمعتق، وبمعنى أولى، ومنه:
النار مولاكم ولج يلج أي دخل، ومنه: ما يلج في الأرض، وأولج: أدخل، ومنه:
يولج الليل في النهار وهن يهن: ضعف، ومنه: وهن العظم، والوهن الضعف ورد الماء يرده: إذا جاء إليه وأورده غيره، وأرسلوا واردهم، الذي يتقدّمهم إلى الماء فيسقي لهم أوزعني أي ألهمني ووفقني يوزعون يدفعون وليد صبي والجمع: ولدان وجل يوجل وجلا: خاف. ومنه: لا توجل أوجس وجد في نفسه وأضمر وارى يواري:
أي يستر ومنه: يواري سوأة أخيه، وما ووري عنهما، وتواروا أي استتروا واستخفوا وطئ يطأ. له ثلاث معان: جماع المرأة.
ومن الوطء بالأقدام. ومنه: أرضا لم تطؤها. والإهلاك. ومنه: لم تعلموهم أن تطؤهم وقر بفتح الواو وهو الصمم والثقل في الأذن. والوقر بكسر الواو: الحمل.
ومنه: فالحاملات وقرا ودق هو المطر واصب أي دائم وكيل كفيل بالأمر. وقيل:
كاف وزر بفتحتين أي: ملجأ وزير أي معين.
وأصله من الوزر بمعنى: الثقل. لأنّ الوزير يحمل عن الملك أثقاله وسوس الشيطان إلى الإنسان: ألقى في نفسه. والوسواس:(1/45)
الشيطان أوحى يوحي وحيا، له ثلاث معان:
كلام الملك من الله للأنبياء. ومنه قيل للقرآن: وحي. وبمعنى الإلهام، ومنه:
أوحى ربك إلى النحل، وبمعنى الإشارة.
ومنه: فأوحى إليهم أن سبحوا: أي أشار وعى العلم يعي: حفظه. ومنه: أذن واعية، وأوعى بالألف: يوعي جمع المال في وعاء.
ومنه: جمع فأوعى.
حرف الياء
يمين له أربعة معان: اليد اليمين.
وبمعنى القوّة. وبمعنى الحلف «1» . وأيمن أي إلى الجهة اليمين يسير له معنيان قليل، ومنه: كيل يسير، وهين، ومنه: ذلك على الله يسير، واليسر: ضدّ العسر يئس أي انقطع رجاؤه، ومنه: لا تيئسوا من روح
__________
(1) . والمعنى الرابع هو البركة. ومنه اليمن كما في القاموس للفيروزآبادي.
الله، وإنه ليؤوس وأما: أفلم ييئس الذين آمنوا: فمعناه ألم يعلم يم هو البحر ميسر هو القمار في النرد والشطرنج وغير ذلك.
وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب.
واليسر بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل بالميسر. وجمعه أيسار. وميسر العرب أنهم كانوا لهم عشرة قداح، وهم الأزلام لكل واحد منها نصيب معلوم، من ناقة ينحرونها. وبعضها لا نصيب له.
ويجزئونها عشرة أجزاء ثم يدخلون الأزلام في خريطة ويضعونها على يد عدل. ثم يدخل يده فيها فيخرج باسم رجل قدحا.
فمن خرج له قدح له نصيب: أخذ ذلك النصيب. ومن خرج له قدح لا نصيب له:
غرم ثمن الناقة كلها ينبوع أي عين من ماء والجمع ينابيع.(1/46)
الكلام على الاستعاذة في عشرة فوائد من فنون مختلفة
الأولى: لفظ التعوّذ على خمسة أوجه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمختار عند القراء. وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ. أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد. وهي محدثة:
وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وهو مرويّ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الثانية: يؤمر القارئ بالاستعاذة قبل القراءة سواء ابتدأ بأول سورة أو جزء سورة على الندب الثالثة: يجهر بالاستعاذة عند الجمهور وهو المختار. وروي الإخفاء عن حمزة ونافع الرابعة لا يتعوّذ في الصلاة عند مالك. ويتعوّذ في أوّل ركعة عند الشافعي وأبي حنيفة. وفي كل ركعة عند قوم. فحجة مالك عمل أهل المدينة وحجة قول غيره: قول الله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] وذلك يعم الصلاة وغيرها الخامسة: إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي لأنّ معنى الاستعاذة لا يتعلق إلّا بالمستقبل لأنها كالدعاء وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده مشاكلة للأمر به في قوله: «فاستعذ» السادسة: الشيطان: يحتمل أن يراد به الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين، أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس. وهو من شطن إذا بعد فالنون أصلية والياء زائدة. وزنه فيعال. وقيل من شاط إذا هاج فالنون زائدة. والياء أصلية ووزنه فعلان. وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف والنون، وانصرف على الأوّل السابعة: الرجيم فعيل بمعنى مفعول، ويحتمل معنيين: أن يكون بمعنى لعين وطريد. وهذا يناسب إبليس لقوله وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] والأوّل أظهر الثامنة: من استعاذ بالله صادقا أعاذه فعليك بالصدق ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذرّيتها عصمها الله. ففي الحديث الصحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من مولود إلّا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلّا ابن مريم وأمه «1» » التاسعة: الشيطان عدوّ. وحذر الله منه إذ لا مطمع في زوال علة عداوته. وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم. فيأمره أوّلا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلّا أمره بالمعاصي. فإن أطاعه وإلّا ثبطه عن الطاعة. فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب العاشرة القواطع عن الله أربعة: الشيطان، والنفس، والدنيا، والخلق. فعلاج الشيطان: الاستعاذة والمخالفة له، وعلاج النفس: بالقهر، وعلاج الدنيا: بالزهد، وعلاج الخلق: بالانقباض والعزلة.
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة بلفظ قريب منه.(1/47)
الكلام على البسملة
فيه عشر فوائد. الأولى: ليست البسملة عند مالك آية من الفاتحة ولا من غيرها، إلّا في النمل خاصة، وهي عند الشافعي آية من الفاتحة، وعند ابن عباس آية من أوّل كل سورة، فحجة مالك ما ورد في الحديث الصحيح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أنزلت عليّ سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، ثم قال:
الحمد لله رب العالمين» فبدأ بها دون البسملة، وما ورد في الحديث الصحيح: «إنّ الله يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: يقول العبد الحمد لله رب العالمين «1» » فبدأ بها دون البسملة: وحجة الشافعي ما ورد في الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقرأ. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وحجة ابن عباس ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف الثانية: إذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلّا براءة.
وسنذكر علة سقوطها من براءة في موضعه، وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير بين البسملة وتركها عند أبي عمرو الداني، وتترك البسملة عند غيره، وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى، فاختلف القرّاء في البسملة وتركها الثالثة: لا يبسمل في الصلاة عند مالك، ويبسمل عند الشافعي جهرا في الجهر، وسرّا في السرّ، وعند أبي حنيفة سرّا في الجهر والسرّ فحجة مالك من وجهين: أحدهما أنه ليست عنده آية في الفاتحة حسبما ذكرنا «والآخر ما ورد في الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: «صلّيت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل الفاتحة ولا في آخرها» «2» ، وحجة الشافعي من وجهين: أحدهما أنّ البسملة عنده آية من الفاتحة، والأخرى ما ورد في الحديث من قراءتها حسبما ذكرنا الرابعة: كانوا يكتبون: «باسمك اللهم» حتى نزلت «بسم الله مجراها» «3» فكتبوا: «بسم الله» ، حتى نزلت:
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: «بسم الله الرحمن» ، حتى نزل: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» فكتبوها، وحذفت الألف في بسم الله لكثرة الاستعمال الخامسة: الباء من بسم الله: متعلقة باسم محذوف عند البصريين والتقدير: ابتداء كائن بسم الله فموضعها رفع، وعند الكوفيين تتعلق بفعل تقديره أبدأ أو أتلو فموضعها نصب وينبغي أن يقدّر متأخرا لوجهين: أحدهما: إفادة الحصر والاختصاص، والأخرى: تقديم اسم الله اعتناء كما قدم في بسم الله مجراها السادسة: الاسم مشتق من السموّ عند البصريين فلامه واو «محذوفة» ، وعند الكوفيين: مشتق من السمة وهي العلامة، ففاؤه محذوفة، ودليل البصريين التصغير والتكبير لأنهما يردّان الكلمات إلى أصولها، وقول الكوفيين أظهر في المعنى، لأنّ الاسم علامة على المسمى السابعة: قولك «الله» اسم مرتجل جامد «والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، وقيل: إنه مشتق من التأله وهو التعبد، وقيل: من الولهان: وهي الحيرة لتحير
__________
(1) . رواه مسلم عن أبي هريرة.
(2) . رواه أحمد ج 3 ص 264.
(3) . مجراها: تقرأ بالإمالة نحو الياء.(1/48)
العقول في شأنه، وقيل: أصله إله من غير ألف ولام، ثم حذفت الهمزة من أوّله على غير قياس، ثم أدخلت الألف واللام عليه، وقيل: أصله الإله بالألف واللام ثم حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى اللام كما نقلت إلى الأرض وشبهه، فاجتمع لامان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وفخم للتعظيم إلّا إذا كان قبله كسرة الثامنة: الرحمن الرحيم صفتان من الرحم ومعناهما الإحسان فهي صفة فعل وقيل: إرادة الإحسان، فهي صفة ذات التاسعة:
الرحمن الرحيم على ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة، وقيل: الرحمن عام في رحمة المؤمنين والكافرين لقوله: وكان بالمؤمنين رحيما فالرحمن أعمّ وأبلغ، وقيل: الرحمن أبلغ لوقوعه بعده، على طريقة الارتقاء إلى الأعلى العاشرة إنما قدّم الرحمن لوجهين: اختصاصه بالله، وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات. انتهى والله أعلم.(1/49)
تمهيد في القراءات وتأريخها
رغبة مني في إعطاء القارئ لمحة موجزة عن القراءات وشيوخ القراء لم أر أفضل من نقل ما كتبه أستاذنا الجليل المرحوم الشيخ سعيد الأفغاني الدمشقي في مقدمته الرائعة الجامعة لكتاب «حجة القراءات» للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة المتوفي في أوائل القرن الخامس الهجري وفيها أفاض بقلمه وبيانه كل ما يهمّ العالم والمثقف حول موضوع القراءات والقراء، لذلك اقتبست منها موجزا مفيدا ورأيت إضافته لهذا السفر الجليل من تفسير الإمام بن جزي ليكون جامعا لأقصى ما يمكن من الفائدة والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل «1» .
«تضافرت جهود أهل العلم والفكر وأولي العبقريات النادرة في هذه الأمة العظيمة، على خدمة اللغة العربية من أنحاء شتى متقاربة حينا ومتباعدة حينا، من حيث كانت لغة القرآن الكريم مصدر التشريع والتنظيم الكافلين خير الناس قاطبة. ونمت من هذه الجهود المباركة- فيما نمى- علوم اللغة العربية: من نحو وصرف ولغة وبلاغة وفقه لغة ...
وفن الاحتجاج للقراءات الذي نقدم اليوم إحدى ثمراته، هو أحد الفنون التي اشتغل العلماء بها خدمة للقرآن العظيم، ولا بد من عرض تاريخي موجز للقراءات ثم للاحتجاج لها يكون تمهيدا وتزويدا للقارئ قبل الكلام على الكتاب ومؤلفه.
لم يكن كتبة الوحي الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يملي عليهم كلما أوحي إليه شيء، من قبيلة واحدة، بل كانوا من قبائل عدة فيهم القرشي وغيره. وكان الناس- على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم- في سعة من أمرهم في قراءة القرآن: كلّ يقرؤه بلحن قومه، حتى إذا آنس أحدهم اختلافا في قراءة سمعها من إنسان عما أقرأه الرسول، هرع إليه شاكيا، فسمع الرسول من كلّ قراءته فأقره عليها قائلا: (هكذا أنزلت) «2» .
وكان التغيير لا يعدو تنوع أداء أحيانا من حيث الإمالة أو الترقيق لبعض الحروف أو التفخيم، أو ضبط المضارع الرباعي مثل (ننزل) أو (ننزّل) تخفيفا أو تشديدا، أو تغاير لفظين والمعنى واحد ... إلى آخر ما أحصوا من أحوال أطلقوا عليها (خلافا) وما هي
__________
(1) . كتاب «حجة القراءات» المذكور مطبوع في مؤسسة الرسالة بيروت 1399 هـ 1879 م.
(2) . انظر مثلا الجامع الصحيح للبخاري تر كيف لبّب عمر بن الخطاب هشام بن حكيم لما سمعه يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئها الرسول لعمر، فقاده إلى الرسول فلما سمع من هشام قال: (كذلك أنزلت) ، ولما سمعها من عمر قال: (كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) - 6/ 227 الطبعة الشعبية.(1/50)
بخلاف، إذ لم تكن تؤدي إلى نقض معنى أو تغيير حكم. وكلها مسندة إسنادا صحيحا إلى رسول الله تعدّد السامعوها منه، وعرفوا من أمر هذه الرخصة ما لم يكونوا على علم به «1» .
واندرجت هذه الوجوه الكثيرة في القراءة في تعبير «الأحرف السبعة» الواردة في الحديث، أريد بها التعدد والكثرة لا تحديد العدد سبعة.
كثرت الوجوه المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القراءة، وتفرق الصحابة في الأمصار، كلّ يقرئ أهل مصره بما سمع على لهجته، وتعارف الناس هذه الوجوه واللهجات، ولم ينكر أحد على أخيه قراءته.. حتى إذا امتد الزمان قليلا وكثر الآخذون عن الصحابة، وقع بين أتباعهم شيء من خلاف أو تنافس أو إنكار، فخشي الأجلاء من الصحابة مغبته مع الزمن، فحملوا الخليفة الثالث عثمان بن عفان على معالجة الأمر ففعل، وكان من رأيه المبارك كتابة مصاحف يجتمع عليها قراء الصحابة وكتبة الوحي، وهؤلاء وأولئك كثيرون متوافرون.. حتى إذا وقع خلاف كتبوه على لغة قريش، وكذلك كان.
مدخل في أعلام القراءات الأربعة عشر ورواتهم
جرى اصطلاح المؤلفين في فن القراءات على إطلاق كلمة (قراءة) على ما ينسب إلى إمام من أئمة القراء مما اجتمعت عليه الروايات والطرق عنه، وكلمة (رواية) على ما ينسب إلى الآخذ عن هذا الإمام ولو بوساطة، وكلمة (طريق) على ما ينسب للآخذ عن الراوي ولو سفل «2» .
ولكل إمام صاحب قراءة رواة كثيرون رووا عنه، ولكل راو طرق متعددة. وأنا مثبت لك تراجم موجزة لأعلام القراءة بادئا بالقراء السبعة فبقية العشرة فبقية الأربعة عشر، ذاكرا لكل إمام منهم راويين من رواته، معرفا بهم جميعا بما لا يخرج عن ألفاظ شيخ هذا الفن ومحرره الإمام شمس الدين بن الجزري في كتابيه المشهورين: (النشر في القراءات العشر) و (غاية النهاية في طبقات القراء) «3» مع ذكر وفياتهم بما لا يكون فيه إطالة، ليكون القارئ على إلمام بشيء عن هؤلاء الأعلام.
القرّاء السّبعة
1- نافع المدني: بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم الليثي بالولاء (70- 169
__________
(1) . كان من كلام عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة لجماعة أصحابه المودّعين: (.. ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى ازداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن «فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنّها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنّه رغبة عنه، فإن من جحد بآية جحد به كله» .
(2) . انظر (إتحاف فضلاء البشر ص 88) و (غيث النفع بذيل شرح بن القاصح على الشاطبية ص 14) .
(3) . مع إضافة يسيرة من (بغية الوعاة) للسيوطي حينا، و (الأعلام) للزركلي أحيانا. [.....](1/51)
هـ) أحد الأعلام، ثقة صالح، أصله من أصبهان، وكان أسود اللون حالكا صبيح الوجه، حسن الخلق، فيه دعابة.
أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبي جعفر القارئ، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والزهري وغيرهم. وبلغ شيوخه السبعين.
روى القراءة عنه عرضا وسماعا جماعة منهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب، وقالون من أهل المدينة، والأصمعي وأبو عمرو بن العلاء من أهل البصرة، وورش والليث بن سعد من أهل مصر، وأبو مسهر الدمشقي وخويلد بن معدان من أهل الشام، وكردم المغربي، والغاز بن قيس الأندلسي ... وغيرهم خلق كثير من مختلف الأمصار.
أقرأ الناس سبعين سنة ونيفا وانتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة وتمسك أهلها بقراءته، وكان الإمام مالك يقول: (قراءة أهل المدينة سنة) ، قيل له: (قراءة نافع) ؟ قال: (نعم) .
وكانت أحب القراءات إلى الإمام أحمد بن حنبل. كان نافع عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده، زاهدا، جوادا، صلّى في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ستين سنة.
قالون: أبو موسى، بن مينا الزرقي مولى بني زهرة (120- 220 هـ) .
قارئ المدينة ونحويها، يقال إنه ربيب نافع، وقد اختص به كثيرا وهو الذي لقبه قالون (بمعنى جيد في الرومية) لجودة قراءته. كان جد جده من سبي الروم. سئل: (كم قرأت على نافع) ؟ فأجاب: (ما لا أحصيه كثرة) حتى قال له نافع: (إلى كم تقرأ عليّ؟
اجلس إلى اسطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ) . قرأ عليه جماعة، وكان أصمّ يقرئ القرآن وينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ.
ورش: عثمان بن سعيد القبطي المصري مولى قريش (110- 197 هـ) شيخ القراء المحققين، وإمام أهل الأداء المرتلين، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية. رحل إلى نافع فعرض عليه القرآن عدة ختمات في سنة 155. وله اختيار خالف فيه نافعا، وكان ثقة حجة، جيد القراءة، حسن الصوت، إذا قرأ يهمز ويمد ويشدّد ويبين الأعراب، لا يمله سامعه.
كان قصيرا أشقر أزرق أبيض اللون، يلبس ثيابا قصارا فشبهه نافع ب (الورشان) الطائر المعروف، ثم خفّف فقيل: ورش.
2- ابن كثير المكي: عبد الله، أبو معبد العطار الداري الفارسي الأصل، إمام أهل مكة في القراءة (45- 120 هـ) .
روى عن عدد من الصحابة لقيهم: عبد الله بن الزبير وأبي أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك وغيرهم. وأخذ القراءة عرضا على درباس مولى بن عباس ومجاهد بن جبر وعبد الله بن السائب وغيرهم.
وروى القراءة عنه جماعة منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة والخليل بن أحمد(1/52)
وعيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة وغيرهم.
كان فصيحا بليغا مفوّها طويلا جسيما عليه السكينة والوقار. قال أبو عمرو بن العلاء: (ختمت على ابن كثير بعد ما ختمت على مجاهد، وكان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد) . ولم يزل ابن كثير هو الإمام المجتمع عليه في القراءة بمكة حتى مات.
البزي: أحمد بن محمد بن عبد الله، أبو الحسن البزي مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام (170- 250 هـ) فارسي الأصل، أستاذ محقق ضابط متقن. قرأ على أبيه وعلى عبد الله بن زياد وعكرمة بن سليمان ووهب بن واضح. وقرأ عليه جماعة وروى عنه القراءة قنبل.
قنبل: محمد بن عبد الرحمن المخزومي بالولاء، أبو عمر المكي الملقب بقنبل (195- 291 هـ) .
شيخ القراء بالحجاز، أخذ القراءة عرضا عن أحمد بن محمد النبّال وخلفه بالقيام بها بمكة، وروى القراءة عن البزي. روى القراءة عنه جماعة كثيرة منهم أبو ربيعة محمد بن إسحاق وابن مجاهد وابن شنبوذ وغيرهم.
انتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، ورحل الناس إليه من الأقطار، وكان على الشرطة بمكة لأنه كان لا يليها إلا رجل من أهل الفضل والخير والصلاح ليكون على صواب فيما يأتيه من الحدود والأحكام فحمدت سيرته. ولما طعن في السن قطع الإقراء، ومات بعد ذلك بسبع سنوات عن 96 سنة.
3- أبو عمرو بن العلاء: زبان بن العلاء التميمي المازني البصري (68- 154 هـ) .
إمام العربية والإقراء مع الصدق والثقة والزهد، ليس في السبعة أكثر شيوخا منه.
توجه مع أبيه لما هرب من الحجاج، فقرأ بمكة والمدينة، وقرأ أيضا بالكوفة والبصرة على جماعة كثيرة. سمع أنس بن مالك وغيره، وقرأ على الحسن البصري وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن أبي النجود وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وابن كثير المكي وعكرمة مولى ابن عباس وابن محيصن ونصر بن عاصم ويزيد بن القعقاع المدني ويحيى بن يعمر.
روى القراءة عنه عرضا جماعة كثيرة منهم مشهورون جدا مثل أبي زيد الأنصاري والأصمعي وعيسى بن عمر ويحيى اليزيدي وسيبويه. كانت دفاتره ملء بيت إلى السقف.
مر الحسن البصري بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال: (لا إله إلا الله، كادت العلماء أن يكونوا أربابا، كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول) . وراجت قراءته بين العلماء ثم بين العامة. وقد شهد بن الجزري أن (القراءة التي عليها الناس اليوم) المائة التاسعة للهجرة بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدا(1/53)
يلقن القرآن إلّا على حرفه خاصة في الفرش. وقد صحت فراسة شعبة حين قال: (انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا) . وكان يونس بن حبيب يقول:
(لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهادا والله لو رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسرّه ما هو عليه) .
حفص الدوري: هو ابن عمر بن العزيز، أبو عمر الأزدي البغدادي النحوي الضرير (246 هـ) . إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط. أول من جمع القراءات، وقرأ بالسبعة وبالشواذ وسمع من ذلك شيئا كثيرا.
قرأ على الكسائي، وأخذ قراءة نافع عن إسماعيل بن جعفر، وقراءة يزيد بن القعقاع عن بن جمّاز. وقراءة حمزة عن محمد بن سعدان، ولأبي بكر عن عاصم، وعن يحيى اليزيدي قراءة أبي عمرو.. وغيرهم.
وأخذ عنه القراءة جمع كبير، قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري.
السوسي: صالح بن زياد، أبو شعيب السوسي الرقي (261 هـ) مقرئ ضابط محرر ثقة. أخذ القراءة عرضا وسماعا عن أبي محمد اليزيدي (قراءة أبي عمرو) ، وقرأ على حفص قراءة عاصم. وأخذ عنه القراءة جماعة. مات وقد قارب السبعين.
4- ابن عامر الدمشقي: عبد الله أبو عمران اليحصبي (8- 118 هـ) .
إمام أهل الشام في القراءة، وإليه انتهت مشيخة الإقراء فيها. أخذ القراءة عرضا عن الصحابي الجليل أبي الدرداء مقرئ أهل الشام، وعلى المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان، وعلى قراءته أهل الشام والجزيرة تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب الخمسمائة. تولى قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني وإمامة الجامع بدمشق وكان ناظرا على عمارته حتى فرغ، لا يرى فيه بدعة إلا غيّرها، وائتمّ به الخليفة عمر بن عبد العزيز.
كان إماما عالما ثقة فيما أتاه، متقنا لما وعاه، عارفا فهما قيما فيما جاء به، صادقا فيما نقله، من أفاضل المسلمين وخيار التابعين وأجلة الراوين.
روى القراءة عنه جماعة منهم يحيى بن الحارث الذماري وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة، وأخوه عبد الرحمن بن عامر وخلاد بن يزيد وغيرهم.
هشام بن عمار: أبو الوليد السلمي الدمشقي (153- 245 هـ) . إمام أهل دمشق وخطيبهم ومحدثهم ومقرئهم ومفتيهم. أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم وعراك بن خالد وسويد بن عبد العزيز وغيرهم.
وروى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلّام قبل وفاته بنحو أربعين سنة، وأحمد بن يزيد الحلواني وخلق كثير. لما توفي أيوب بن تميم رجعت القراءة في الشام إلى ابن ذكوان(1/54)
وهشام. وكان هشام مشهورا بالعقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية. رزق كبر السن وصحة العقل والرأي فارتحل الناس إليه في القراءات والحديث.
ابن ذكوان: أبو عمرو عبد الله بن أحمد الفهري الدمشقي (173- 242 هـ) .
الإمام الأستاذ المشهور الراوي الثقة، شيخ الإقراء بالشام وإمام جامع دمشق. أخذ القراءة عن أيوب بن تميم وخلفه في القيام بها بدمشق. وقرأ على الكسائي لما قدم الشام، وروى الحروف سماعا عن إسحاق بن المسيبي عن نافع. وروى عنه جماعة.
ألف كتاب (أقسام القرآن وجوابها) و (ما يجب على قارئ القرآن عند حركة لسانه) .
قال أبو زرعة الدمشقي وهو من تلاميذه: لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمان ابن ذكوان أقرأ منه.
5- عاصم بن أبي النجود الكوفي: أبو بكر بن بهدلة الحناط مولى بني أسد (127 هـ) .
شيخ الإقراء بالكوفة، جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد، أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال أبو بكر بن عياش: لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ما رأيت أحدا أقرأ للقرآن من عاصم.
أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي عمرو الشيباني.
روى القراءة عنه أبان بن تغلب وحفص بن سليمان وحماد بن زيد وأبو بكر بن عياش وجماعة. وروى عنه حروفا من القرآن أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وحمزة الزيات.
قال راويته حفص قال لي عاصم: (ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وما كان من القراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود) .
لم يكن عاصم يعدّ فواتح السور (الم، حم، كهيعص، طه، آيات على خلاف مذهب الكوفيين، وكان أحمد بن حنبل لا يفضل على قراءة عاصم إلا قراءة أهل المدينة.
شعبة: أبو بكر بن عياش الأسدي النهشلي الكوفي الحناط (95- 193 هـ) .
الإمام العلم راوي عاصم، عرض عليه القرآن ثلاث مرات، وعلى عطاء بن السائب وأسلم المنقري. وأخذ عنه جماعة، وأخذ عنه الحروف آخرون منهم الكسائي وخلاد الصيرفي.
عمر دهرا إلا أنه قطع الإقراء قبل موته بسبع سنوات. وكان من أئمة السنة، وهو صاحب الكلمة المشهورة في أبي بكر الصديق: (ما فضلكم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره) . ذكر أبو عبد الله النخعي ويحيى بن معين (أنه لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة) . وهو الذي يريده المصنف بقوله: وقرأ أبو بكر.
حفص بن سليمان: أبو عمر الأسدي الكوفي البزار (90- 180- هـ) . أعلم(1/55)
أصحاب عاصم بقراءته. كان ربيبه بن زوجته، ثقة في الإقراء، ثبت، ضابط. بروايته يقرأ أهل المشرق اليوم. أقرأ ببغداد ومكة والكوفة، وهو الذي أخذ على الناس قراءة عاصم تلاوة. قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة التي رويت عن قراءة عاصم هي رواية حفص بن سليمان.
6- حمزة بن حبيب الزيات: أبو عمارة الكوفي التيمي بالولاء (80- 156 هـ) .
حبر القرآن، إمام الناس بعد عاصم والأعمش، زاهد عابد خاشع، قيم بالعربية والفرائض. أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش وحمران بن أعين وأبي إسحاق السبيعي وجعفر بن محمد الصادق، واختار مذهب حمران الذي يقرأ قراءة بن مسعود ولا يخالف مصحف عثمان.
روى عنه القراءة كثيرون منهم إبراهيم بن أدهم والحسين الجعفي وسليم بن عيسى أضبط أصحابه، والكسائي أجل أصحابه ويحيى بن زياد الفراء ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهم.
وروى عنه رواة الإفراط في المد والهمز مع تكلف جعل الإمام أحمد بن حنبل يكره قراءة حمزة. وكان حمزة نفسه ينهاهم عن ذلك.
خلف بن هشام: أبو محمد الأسدي البزار البغدادي (150- 229 هـ) .
الإمام العلم، أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، ثقة كبير، زاهد عالم عابد. أخذ القرآن عرضا عن سليم بن عيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن حمزة، وأبي زيد الأنصاري عن المفضل الضبي. وروى الحروف عن إسحاق المسيبي ويحيى بن آدم، وروى رواية ابن قتيبة عن عبيد بن عقيل من طريق بن شنبوذ المطوعي أداء وسماعا، وسمع من الكسائي ولم يقرأ عليه القرآن.
روى القراءة عنه عرضا وسماعا ورّاقه أحمد بن إبراهيم وأحمد بن يزيد الحلواني.
كان خلف يأخذ بمذهب حمزة إلا أنه خالفه في مائة وعشرين حرفا في اختياره. مات ببغداد وهو مختف من الجهمية.
خلاد: أبو عيسى بن خالد الشيباني بالولاء، الصيرفي الكوفي (220 هـ) .
إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ. أخذ القراءة عن سليم وهو من أضبط أصحابه وأجلهم، ورواها عن حسين بن علي الجعفي عن أبي بكر، وعن أبي بكر نفسه عن عاصم.
روى القراءة عنه عرضا أحمد بن يزيد الحلواني والقاسم الوزان وهو أنبل أصحابه وآخرون.
7- الكسائي: أبو الحسن علي بن حمزة، فارسي الأصل، أسدي الولاء (119- 189) .
انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات. أخذ القراءة عرضا عن حمزة أربع مرات وعليه اعتماده وعن محمد بن أبي ليلى وعيسى بن عمر الهمداني، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش، وعن إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع، وعن(1/56)
المفضل الضبيّ. ورحل إلى البصرة فأخذ اللغة عن الخليل.
أخذ القراءة عرضا وسماعا جمع منهم إبراهيم بن زاذان وحفص الدوري وأبو عبيد القاسم بن سلام وقتيبة بن مهران وخلف بن هشام البزار ويحيى بن زياد الفرّاء وغيرهم، وروى عنه الحروف يعقوب الحضرمي.
ذكر أبو عبيد في كتاب (القراءات) أن الكسائي (كان يتخيّر القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا، وكان من أهل القراءة وهي كانت علمه وصناعته، ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه. وكانت قراءته متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة إلا أن الناس كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم ويجلس على كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادي، وربما وقع منه خطأ فيأمرهم بمحوه من كتبهم) .
ألف كتبا كثيرة في اللغة والنحو والقراءة منها: معاني القرآن، القراءات، مقطوع القرآن وموصوله، الهاءات. مات بقرية (بنويه) من عمل (الريّ) هو ومحمد بن الحسن القاضي صاحب أبي حنيفة مع الرشيد متوجّها إلى خراسان، فقال الرشيد: (دفنا الفقه والنحو بالريّ) وكان إمام الكوفيين في العربية.
أبو الحارث: الليث بن خالد البغدادي (240 هـ) .
ثقة معروف حاذق ضابط. عرض القراءة على الكسائي وهو من جلة أصحابه، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول وعن اليزيدي.
روى القراءة عنه عرضا وسماعا سلمة بن عاصم صاحب الفراء وغيره.
الدوري: حفص بن عمر، أبو عمر الأزدي البغدادي النحوي الضرير (246 هـ) .
نزيل (سامرا) ، إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط، أول من جمع القراءات. رحل في طلبها وقرأ بجميع الحروف السبعة وبالشواذ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا. قرأ على إسماعيل بن جعفر عن نافع وعن أبي جعفر، وعلى الكسائي لنفسه، ولأبي بكر عن عاصم وغيرهم.
وروى القراءة عنه وقرأ عليه جماعة منهم الإمام الطبري المفسر المؤرخ. ورئي أحمد بن حنبل يكتب عنه.
بقية العشرة
8- أبو جعفر يزيد بن القعقاع: المخزومي المدني القارئ (130 هـ) إمام تابعي مشهور، صالح متعبد كبير القدر. عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش وعبد الله بن عباس وأبي هريرة، وروى عنهم وصلّى بابن عمر وأقرأ الناس.
روى القراءة عنه نافع وسليمان بن مسلم بن جماز. وعيسى بن وردان وجماعة.(1/57)
كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي القارئ. وشهد أبو الزناد أنه (لم يكن أحد أقرأ للسنة منه، وكان يقدم في زمانه على عبد الرحمن بن هرمز الأعرج) .
عيسى بن وردان: أبو الحارث المدني الحذاء (160 هـ) .
إمام مقرئ حاذق وراو محقق ضابط، عرض على أبي جعفر وشيبة، ثم عرض على نافع وهو من جلة أصحابه وشاركه في الإسناد. عرض عليه إسماعيل بن جعفر وقالون.
ابن جماز سليمان بن مسلم بن جماز، أبو الربيع الزهري بالولاء، المدني (توفي بعد سنة 170 هـ) .
مقرئ جليل ضابط، عرض على أبي جعفر وشيبة ثم على نافع، وأقرأ بحرف أبي جعفر وشيبة. عرض عليه إسماعيل بن جعفر وقتيبة بن مهران.
9- يعقوب الحضرميّ: بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق، أبو محمد مولى الحضرميين (117- 205 هـ) .
إمام أهل البصرة ومقرئها، ثقة عالم صالح ديّن، إليه انتهت رئاسة القراءة بعد أبي عمرو، أعلم الناس بمذاهب النحويين في القراءات. أخذ القراءة عرضا عن جماعة منهم سلام الطويل ومهدي بن ميمون، وروى عن سلام حروف أبي عمرو بالإدغام، وسمع الحروف من الكسائي ومحمد بن زريق الكوفي عن عاصم، وسمع من حمزة حروفا، وقرأ على شهاب بن شرنقة قراءة أبي الأسود الدؤلي عن علي بن أبي طالب، وقراءته على أبي الأشهب عن أبي رجاء عن أبي موسى في غاية العلو.
روى القراءة عنه عرضا جماعة كثيرة منهم أبو حاتم السجستاني وأبو عمر الدوري، قال السجستاني: (هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن، وعلله ومذاهبه ومذاهب النحو، وأروى الناس لحروف القرآن ولحديث الفقهاء) . وائتم به في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو، ولا يقرأ إمام الجامع بالبصرة إلا بقراءته حتى المائة التاسعة زمن ابن الجزري الذي استنكر قول من عد قراءته من الشواذ فقال: (فليعلم أنه لا فرق بين قراءة يعقوب وقراءة غيره من السبعة عند أئمة المحققين، وهو الحق الذي لا محيد عنه) .
وبلغ من جاهه في البصرة أنه كان يحبس ويطلق.
رويس: محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري (- 238 هـ) .
مقرئ حاذق ضابط مشهور جليل. أخذ القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي وختم عليه ختمات، وهو من أحذق أصحابه. روى القراءة عنه عرضا محمد بن هارون التمار والإمام أبو عبد الله الزبيري. كان يأخذ على المبتدئين بتحقيق الهمزتين معا في مثل «أأنذرتهم» و «جاء أجلهم» ، وكان يأخذ على الماهر بتخفيف الهمزة الثانية.
روح بن عبد المؤمن: أبو الحسن البصري النحوي الهذلي بالولاء (- 234 هـ) .
مقرئ جليل، ثقة ضابط مشهور من أجل أصحاب يعقوب، عرض عليه، وروى الحروف عن جماعة عن أبي عمرو. وعرض عليه جماعة منهم أحمد بن يزيد الحلواني.(1/58)
10- خلف بن هشام البزار: راوية حمزة (تقدمت ترجمته) .
إسحاق الوراق: أبو يعقوب المروزي ثم البغدادي (- 286 هـ) .
وراق خلف وراوي اختياره عنه، ثقة قيم بالقراءة، ضابط. قرأ على خلف اختياره وقام به بعده، وعلى الوليد بن مسلم. وقرأ عليه جماعة منهم بن شنبوذ.
إدريس الحداد: أبو الحسن بن عبد الكريم البغدادي (189- 292 هـ) .
إمام ضابط متقن ثقة، قرأ على خلف اختياره وروايته، وعلى محمد بن حبيب الشموني. وروى القراءة عنه سماعا بن مجاهد، وعرضا محمد بن أحمد بن شنبوذ وابن مقسم وأبو بكر النقاش وجماعة.
فائدة
ذكر العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير 1/ 57 طبعة سنة 1964) ما يلي:
«القراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر هي:
1- قراءة نافع برواية قالون: في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبية.
وبرواية ورش: في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى وما يتبعه من البلاد، والسودان.
2- وقراءة عاصم برواية حفص عنه: في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية، [وجزيرة العرب] والهند، وباكستان، وتركية والأفغان.
3- وقراءة أبي عمرو البصري: فيما بلغني يقرأ بها في السودان المجاور لمصر (- 1 هـ) «1» .
__________
(1) . قلت: كانت قراءة أبي عمرو غالبة على الأمصار الإسلامية. قال بن الجزري في أهل المائة التاسعة:
«القراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه، خاصة في الفرش» .
والظاهر أن تقلب القراءات على مصر ما يتبع قراءة القارئ المقتدى به عند أهل المصر، فقد ذكر بن الجزري بعد ما تقدم أن الشام كانت تقرأ بحرف بن عامر إلى حدود الخمسمائة، فتركوا ذلك لأن شخصا قدم من أهل العراق وكان يلقن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو، فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه وأقام سنين كذا بلغني وإلا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو. وأنا أعد ذلك من كرامات شعبة» .
وكان قد نقل قبل أسطر قول شعبة الذي مر بك: «أنظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا» - النشر 1/ 291.
هذا وعلمت من فاضل سوداني أن قراءة أبي عمرو يقرأ بها في السودان اليوم في الخرطوم إلى (كسلا) ، إلى شمال أريتيريا، وفي شرقي (تشاد) .
وحدثني آخر من أهل المدينة أنه اقتدى بتاجر بخاري صلّى في الحرم المدني فقرأ قراءة ابن كثير برواية الدوري، فلما سألوه قال: إنها قراءة أهل بلاده.(1/59)
بقية الأربعة عشر
11- ابن محيصن: محمد بن عبد الرحمن السهمي بالولاء المكي (- 123 هـ) .
مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، أعلم قراء مكة بالعربية وأقواهم عليها.
عرض على مجاهد بن جبر ودرباس مولى ابن عباس وسعيد بن جبير.
عرض عليه شبل بن عباد وأبو عمرو بن العلاء، وسمع منه حروفا إسماعيل بن مسلم المكي وعيسى بن عمر البصري.
ولولا ما في قراءته من مخالفة المصحف لألحق بالقراءات المشهورة. قال ابن مجاهد: «كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه» .
البزي: أحد راويي ابن كثير أيضا، تقدمت ترجمته.
ابن شنبوذ: محمد بن أحمد بن أيوب، أبو الحسن البغدادي (- 328 هـ) .
شيخ الإقراء بالعراق، أستاذ، كبير، رحالة في طلب العلم، مع الثقة والخير والصلاح والعلم وقوة الحفظ. أخذ القراءة عرضا عن أحمد بن إبراهيم وراق خلف، وعن إبراهيم الحربي وقنبل وجماعة في أمصار عدة. وقرأ عليه جماعة كثيرة منهم أبو بكر بن مقسم والمعافى بن زكريا. وكانت العلاقة ساءت بينه وبين بن مجاهد فلم يقرئ من قرأ على بن مجاهد، ويقول فيه: (لم تغبّر قدماه في هذا العلم) . وكان يجوّز القراءة بالشاذ وهو ما خالف رسم المصحف، وعقد له بسبب ذلك مجلس استتيب به فاعترف وكتب عليه محضر بذلك.
12- اليزيدي: يحيى بن المبارك، الإمام أبو محمد العدويّ بالولاء، البصري (128- 202 هـ) .
نحوي مقرئ ثقة علامة كبير في النحو والعربية والقراءة.
أخذ القراءة عرضا عن أبي عمرو بن العلاء وخلفه بالقيام بها، وأخذ عن حمزة.
روى القراءة عنه أولاده محمد وعبد الله وإبراهيم وإسماعيل، وأبو عمر الدوري وسليمان بن أيوب بن الحكم وسليمان بن خلاد وجماعة، وروى عنه الحروف أبو عبيد القاسم بن سلام.
وله اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة وهو أضبط أصحاب أبي عمرو عنه.
وتصدى لروايتها عنه والاشتغال بها. قيل أنه أملى عشرة آلاف ورقة عن أبي عمرو خاصة.
وكثيرا ما ينقل أبو زرعة في هذا الكتاب حججه في مثل قوله: وحجته ذكرها اليزيدي..
أو: وحجة أخرى ذكرها اليزيدي وهي..
سليمان: أبو أيوب بن الحكم الخياط البغدادي صاحب البصري (- 235 هـ) .(1/60)
مقرئ جليل ثقة صدوق، حافظ لما يكتب عنه. قرأ على اليزيدي، وقرأ عليه أحمد بن حرب المعدل وجماعة.
أحمد بن فرج: أبو جعفر الضرير البغدادي المفسر (- 303 هـ) .
ثقة كبير، قرأ على الدوري تلميذ اليزيدي بجميع ما عنده من القراءات، وعلى عبد الرحمن بن واقد وعلى البزي وعمر بن شبة. وقرأ عليه جماعة منهم بن مقسم وابن مجاهد وابن شنبوذ. قارب التسعين.
13- الحسن البصري: أبو سعيد بن يسار (21- 110 هـ) .
إمام زمانه علما وعملا، أشهر من أن يعرّف. وقرأ على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري، وعن أبي العالية عن أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وعمر بن الخطاب.
روى عنه أبو عمرو بن العلاء وسلام الطويل ويونس بن عبيد وعيسى بن عمر النحوي.
قال الشافعي: لو أشاء أقول إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت، لفصاحته.
شجاع بن أبي نصر البلخي: أبو نعيم البغدادي الزاهد (120- 190 هـ) .
ثقة كبير. عرض على أبي عمرو بن العلاء وهو من جلة أصحابه وسمع من عيسى بن عمر.
روى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو عمر الدوري وغيرهما. سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال: «بخ بخ، وأين مثله اليوم» .
الدوري: أحد راويي أبي عمرو بن العلاء أيضا، تقدمت ترجمته.
14- الأعمش: سليمان بن مهران، أبو محمد الكوفي مولي بني أسد (60- 148 هـ) . الإمام الجليل، مقرئ الأئمة، صاحب نوادر.
أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي وزر بن حبيش وعاصم بن أبي النجود ومجاهد بن جبر وأبي العالية الرياحي وغيرهم. روى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة. وروى عنه الحروف محمد بن عبد الله المعروف بزاهر ومحمد بن ميمون.
قال هشام: (ما رأيت في الكوفة أقرأ لكتاب الله من الأعمش) . وكان يقول: «إن الله زيّن بالقرآن أقواما، وإني ممن زينه الله بالقرآن، ولولا ذلك لكان على عنقي دنّ أطوف به في سكك الكوفة» .
الحسن بن سعيد المطوعي: أبو العباس العباداني البصري العمري (- 371 هـ) .
إمام عارف ثقة في القراءة. رحل فيها إلى الأقطار فقرأ على إدريس بن عبد الكريم(1/61)
ومحمد الأصبهاني ويوسف الواسطي والحسن بن حبيب الدمشقي وابن مجاهد ويموت بن المزرع وابن شنبوذ وجماعة.
وقرأ عليه جماعة، وعمّر حتى جاوز المائة فانتهى إليه علو الإسناد في القراءات. له كتاب معرفة اللامات وتفسيرها.
أبو الفرج الشنبوذي: محمد بن أحمد إبراهيم الشطوي البغدادي (300- 388 هـ) .
أستاذ من أئمة القراءة، مشهور نبيل حافظ حاذق، رحل ولقي الشيوخ وأكثر وتبحر في التفسير. أخذ القراءة عرضا عن ابن مجاهد وأبي بكر النقاش وأبي الحسن بن شنبوذ (ولازمه فنسب إليه) وغيرهم. وقرأ عليه جماعة واشتهر اسمه، وطال عمره مع علمه بالتفسير وعلل القراءات» اه.(1/62)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
سورة الفاتحة
وهي سبع آيات
(سورة أم القرآن) وتسمى سورة الحمد لله، وفاتحة الكتاب، والواقية، والشافية، والسبع المثاني.
وفيها عشرون فائدة، سوى ما تقدّم في اللغات من تفسير ألفاظها، واختلف هل هي مكية أو مدنية؟ ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات، إلّا أنّ الشافعي يعدّ البسملة آية منها، والمالكيّ يسقطها، ويعدّ أنعمت عليهم آية.
الفائدة الأولى: قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي، خلافا لأبي حنيفة وحجتهما قوله صلّى الله عليه واله وسلّم للذي علمه الصلاة: «اقرأ ما تيسر من القرآن» «1» .
الفائدة الثانية: اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد: أي قولوا:
الحمد لله، أو هو ابتداء كلام الله، ولا بدّ من إضمار القول في: «إياك نعبد» وما بعده.
الفائدة الثالثة: الحمد أعمّ من الشكر لأنّ الشكر لا يكون إلّا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ثناء ابتداء، كما أنّ الشكر قد يكون أعم من الحمد، لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب، والجوارح. فإذا فهمت عموم الحمد:
علمت أنّ قولك: الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، واتفق دون عدّه عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أوّل كتابه، وآخر دعوى أهل الجنة.
الفائدة الرابعة: الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم، قال رسول الله
__________
(1) . ذكر المناوي في التيسير حديثا عن أنس بن مالك: «أفضل القرآن: الحمد لله رب العالمين» وعزاه للحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وذكر الشافعي في الأم حديثا بسنده إلى عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب» .(1/63)
صلّى الله عليه واله وسلّم: «التحدّث بالنعم شكر» «1» والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة. والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد. وأعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام: نعم دنيوية: كالعافية والمال، ونعم دينية: كالعلم، والتقوى. ونعم أخروية: وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير. والناس في الشكر على مقامين: منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم، والشكر على ثلاث درجات: فدرجات العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم:
الفقراء إذا منعوا شكروا. وإذا أعطوا آثروا «2» ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق، ومن صفات الخلق فإنّ من أسماء الله: الشاكر والشكور، وقد فسرتهما في اللغة.
الفائدة الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من لا إله إلّا الله لوجهين: أحدهما ما خرّجه النسائي عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من قال لا إله إلّا الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة» والثاني: أنّ التوحيد الذي يقتضيه لا إله إلّا الله حاصل في قولك «رب العالمين» وزادت بقولك الحمد لله، وفيه من المعاني ما قدّمنا، وأما قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلّا الله» «3» ، فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه، وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها، وهذا المؤمن يقولها لطلب الثواب، أما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلّا الله.
الفائدة السادسة: الرب وزنه فعل بكسر العين ثم أدغم، ومعانيه أربعة: الإله، والسيد، والمالك، والمصلح. وكلها في رب العالمين، إلّا أن الأرجح معنى الإله:
لاختصاصه لله تعالى، كما أنّ الأرجح في العالمين: أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى، فيعم جميع المخلوقات.
الفائدة السابعة: ملك قراءة الجماعة بغير ألف من الملك، وقرأ عاصم والكسائي
__________
(1) . أورده العجلوني في كشف الخفاء ص 298 ج 1 بلفظ: «التحدث بالنعمة شكر» وعزاه لأحمد والطبراني عن النعمان بن بشير.
(2) . كذا بالأصل، والكلام فيه نقص والحكاية معروفة عن حدّ الشكر.
(3) . هو جزء من حديث: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت ... عزاه العجلوني في كشف الخفاء لمالك مرسلا وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب.(1/64)
بالألف والتقدير على هذا: مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين، وقراءة الجماعة أرجح من ثلاثة أوجه. الأوّل: أنّ الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما الملك فهو سيد الناس، والثاني: قوله: وله الملك يوم ينفخ في الصور والثالث: أنها لا تقتضي حذفا، والأخرى تقتضيه لأنّ تقديرها مالك الأمر، أو مالك مجيء يوم الدين، والحذف على خلاف الأصل. وأمّا قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين فهي على طريقة الاتساع، وأجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية:
أي الملك في يوم الدين، ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وقد قرئ ملك بوجوه كثيرة إلّا أنها شاذة.
الفائدة الثامنة: الرحمن، الرحيم، مالك: صفات، فإن قيل: كيف جرّ مالك ومالك صفة للمعرفة، وإضافة اسم الفاعل غير محضة؟ فالجواب: أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وأما هذا فهو مستمر دائما فإضافته محضة.
الفائدة التاسعة: هو يوم القيامة ويصلح هنا في معاني الحساب والجزاء والقهر، ومنه إنا لمدينون.
الفائدة العاشرة: إياك في الموضعين مفعول بالفعل الذي بعده، وإنما قدّم ليفيد الحصر فإنّ تقديم المعمولات يقتضي الحصر، فاقتضى قول العبد إياك نعبد أن يعبد الله وحده لا شريك له، واقتضى قوله: «وإياك نستعين» اعترافا بالعجز والفقر وأنا لا نستعين إلّا بالله وحده.
الفائدة الحادية عشرة: إياك نستعين: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنّ الحق بين ذلك.
الفائدة الثانية عشرة: اهدنا: دعاء بالهدى. فإن قيل كيف يطلب المؤمنون الهدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب إن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه فإنّ الارتقاء في المقامات لا نهاية له.
الفائدة الثالثة عشرة: قدم الحمد والثناء على الدعاء لأنّ تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة. وكذلك قدّم الرحمن على ملك يوم الدين لأنّ رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قدّم إياك نعبد على إياك نستعين لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة.
الفائدة الرابعة عشرة: ذكر الله تعالى في أوّل هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على(1/65)
الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أنّ العبد إذا ذكر الله تقرّب منه فصار من أهل الحضور فناداه.
الفائدة الخامسة عشرة: الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير والشر، ومعنى المستقيم القويم الذي لا عوج فيه، فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل القرآن، والمعنيان متقاربان، لأنّ القرآن يضمن شرائع الإسلام وكلاهما مروي عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ الصراط بالصاد والسين وبين الصاد والزاي، وقد قيل إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر.
الفائدة السادسة عشرة: الذين أنعمت عليهم: قال ابن عباس: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون. وقيل: المؤمنون وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا، والأوّل أرجح لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] .
الفائدة السابعة عشرة: إعراب غير المغضوب بدل، ويبعد النعت لأنّ إضافته غير مخصوصة وهو قد جرى عن معرفة وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال.
الفائدة الثامنة عشرة: إسناد أنعمت عليهم إلى الله. والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب: كقوله: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وعليهم أوّل في موضع نصب، والثاني في موضع رفع.
الفائدة التاسعة عشرة: المغضوب عليهم اليهود، والضالين: النصارى، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه، وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجلالة قائله وذكر ولا في قوله: ولا الضالين دليل على تغاير الطائفتين وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: كقوله فَباؤُ بِغَضَبٍ [البقرة: 90] ، والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى بن مريم عليه السلام، ولقول الله فيه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
الفائدة العشرون: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدّمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والدار الآخرة: في قوله مالك يوم الدين، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله(1/66)
إياك نعبد والشريعة كلها في قوله: الصراط المستقيم، والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم، وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: آمين اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مدّ الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر.(1/67)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
سورة البقرة
مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البقرة) الم اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك:
الله لأفعلن ذلِكَ الْكِتابُ هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن.
والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا «ذلك الكتاب» جملة مستقلة فيوقف عليه لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب:
فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على «لا ريب» . والأول أرجح لتعيّنه في قوله: «لا ريب» في مواضع أخر.
فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله: «لا فيها غول» ؟ فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب، كما أن «لا فيها غول» إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.(1/68)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
هُدىً هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: هُدىً لِلنَّاسِ. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عند ما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة لِلْمُتَّقِينَ مفتعلين من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول.
الأوّل: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والنصرة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128] والولاية لقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18] والمحبة لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [براءة:
4] والمغفرة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] الآية وتيسير الأمور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5] وتقبل الأعمال لقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] والفلاح لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189] والبشرى لقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس: 64] ودخول الجنة لقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:
34] والنجاة من النار لقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] .
الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل: -
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ولله درّ القائل: -
قالت وقد سألت عن حال عاشقها: ... لله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على(1/69)
هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفا في فعيل: كميت، والآخر:
يؤمنون في حال غيبهم، أي باطنا وظاهرا، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت، أو نصبا على إضمار فعل، أو رفعا على أنه خبر مبتدأ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامتها: علمها من قولك: قامت السوق «1» ، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها، وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم، وهو الأرجح:
لأنه لا دليل على التخصيص، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفا للمغايرة، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل، فإن كان الذين للجنس: فلفظها عام يراد به الخصوص، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم فقيل: المراد من قتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان سَواءٌ خبر إن وأَنْذَرْتَهُمْ فاعل به لأنه في تقدير المصدر، وسواء مبتدأ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن، ولا يُؤْمِنُونَ على هذه الوجوه: استئنافا للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضا، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة فيء أنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام خَتَمَ الآية تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعا إصبعا حتى يختم عليه، والأوّل أبرع، وعَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأوّل أرجح لقوله: «وختم على سمعه وقلبه» [الجاثية: 23] غِشاوَةٌ مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع ومِنَ النَّاسِ أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس
__________
(1) . المراد بإقامة الصلاة: عدم التهاون بها. راجع تفسير الطبري.(1/70)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا مَنْ يَقُولُ إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة، وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ:
ومن وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك:
زنديقا، وهم في الآخرة مخلدون في النار، وأما في الدنيا إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك:
القتل، دون الاستتابة، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم «آمنا» جملة فعلية «وما هم بمؤمنين» جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب: أن قولهم «1» «وما هم بمؤمنين» أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا، فإن قيل: لم جاء قولهم: آمنا مقيدا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقا؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين: التقييد فتركه لدلالة الأوّل عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان
يُخادِعُونَ أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون، وقيل:
معناه يخدعون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أظهر وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم، وقرئ: وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف «2» من خدع وهو أبلغ في المعنى، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له وَما يَشْعُرُونَ حذف معموله أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد فَزادَهُمُ يحتمل الدعاء والخبر يَكْذِبُونَ بالتشديد أي يكذبون الرسول صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ: بالتخفيف أي يكذبون «3» في قولهم آمنا لا تُفْسِدُوا أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح كَما آمَنَ النَّاسُ أصحاب النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية أَنُؤْمِنُ إنكار منهم وتقبيح هُمُ السُّفَهاءُ ردّ عليهم وإناطة السفه بهم، وكذلك هم المفسدون، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه
__________
(1) . الأصح أن يقول: قوله بإعادة الضمير إلى الله.
(2) . وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68.
(3) . وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68.(1/71)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
والفساد فيهم، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب
قالُوا آمَنَّا كذبوا خوفا من المؤمنين خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطين الجن، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا، وقيل: إلى بمعنى مع، أو بمعنى الباء وجه قولهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بجملة اسمية مبالغة وتأكيد، بخلاف قولهم: آمنا، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فيه ثلاثة أقوال:
تسمية للعقوبة باسم الذنب: كقوله «ومكروا ومكر الله» وقيل: يملي لهم بدليل قوله:
«ويمدّهم» وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد: 13 ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً الآية وَيَمُدُّهُمْ يزيدهم، وقيل يملي لهم، وقد ذكروا يعمهون اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ترشيح للمجاز، لمّا ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذا الشراء، أو على الإطلاق. وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: وما كانوا مهتدين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة اسْتَوْقَدَ أي أوقد، وقيل: طلب الوقود على الأصل في استفعل فَلَمَّا أَضاءَتْ إن تعدّى فما حوله مفعول به، وإن لم يتعدّ فما زائدة أو ظرفية ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهبه، وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره: طفيت النار، وذهب الله بنورهم: جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين، فعلى هذا يكون «الذي» على بابه من الإفراد، والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي: واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا سواء كان واحدا أو جماعة، ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه، لأنهم جماعة، فإن قيل: ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، والثاني: أن استخفاء كفرهم كالنور، وفضيحتهم كالظلمة، والثالث: أنّ ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر، فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة، ويرجح هذا قوله: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» فإن قيل: لم قال:(1/72)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: أذهب الله نورهم، مشاكلة لقوله: فَلَمَّا أَضاءَتْ فالجواب:
أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير، بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ يحتمل أن يراد به المنافقون، والمستوقد المشبه بهم، وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم، وليس المراد فقد الحواس فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إن أريد به المنافقون: فمعناه لا يرجعون إلى الهدى، وإن أريد به أصحاب النار: فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة، لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق أَوْ كَصَيِّبٍ عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب، أو للتنويع لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، والصيب: المطر، وأصله صيوب، ووزنه فعيل، وهو مشتق من قولك صاب يصوب، وفي قوله مِنَ السَّماءِ إشارة إلى قوته وشدّة انصبابه، قال ابن مسعود: إنّ رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وحسن إسلامهما، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين، وقيل: المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فضلّ عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه، وهذا التشبيه على الجملة، وقيل: إنّ التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة، فإن قيل: لم قال رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعه كما جمع ظلمات؟ فالجواب: أن الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع، ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما «1» لأنهما في الأصل مصدران يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصواعق، قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم. فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان، وقيل: لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم، والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد، ونزول قطعة نار والموت أيضا حقيقة. وقيل: إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد، فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه بل هم تحت قهره، وهو قادر على عقابهم
__________
(1) . ربما كان الأصل: ولم يجمعهما.(1/73)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين:
فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين: فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين:
أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم، والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان: ثبتوا على كفرهم، وقيل:
إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا: فهذا مثل الظلمة، فإن قيل: لم قال مع الإضاءة كلما، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية: إن رجع إلى أصحاب المطر: فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين:
أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعث إلى جميع الناس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي:
دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن. وقيل: يتعلق بقوله: «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريا على عادة كلام العرب، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها أطباع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى:
الْأَرْضَ فِراشاً تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها(1/74)
والباء في به سببية، أو كقولك: كتبت بالقلم لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأوّل أظهر أَنْداداً «1» يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «اعبدوا» والأوّل أظهر.
فوائد ثلاث
الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين: أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أوّلا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جعل لكم، ورزقا لكم: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.
الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فلا تجعلوا لله أندادا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلّا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات «2» ، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي: أنّ الله موجود، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له، لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] وأنه حيّ قدير عالم مريد، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث، وأنه باق، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه، وأنه حكيم، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على
__________
(1) . جمع ند ومعناه: النظير، والشبيه.
(2) . ربما في الكلام نقص. والله أعلم.(1/75)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع، فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا؟ فالجواب أنّ التقوى غاية العبادة وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية إثبات لنبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟
فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى لا رَيْبَ فِيهِ عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل:
لا تدعني إلّا بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي
فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل يعود على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فمن على هذا: لابتداء الغاية من بشر مثله، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة شُهَداءَكُمْ آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار ظهير «1» مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين:
أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح، والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه، والإعجاز حاصل على الوجهين، وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدّمة فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف وَقُودُهَا حطبها الْحِجارَةُ قال ابن مسعود: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها، وقيل الحجارة المعبودة، وقيل الحجارة على الإطلاق أُعِدَّتْ دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة، خلافا لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة
وَبَشِّرِ يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو خطابا لكل
__________
(1) . والصواب: ظهر.(1/76)
أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافا لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافا للمرجئة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً من الأولى: للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس، ومن الثانية: لبيان الجنس، مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، بدليل قولهم: «إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين» [الطور: 26] في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه، وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى مُطَهَّرَةٌ من الحيض وسائر الأقذار، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق لا يَسْتَحْيِي تأوّل قوم أن معناه لا يترك، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر، وليس كذلك وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب، ويردّ عليهم قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إنّ الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا» «1» أَنْ يَضْرِبَ سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت، عاب الكفار على ذلك، وقيل: المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك فنزلت الآية ردّا عليهم «2» مَثَلًا ما بَعُوضَةً إعراب بعوضة مفعول بيضرب، ومثلا حال، أو: مثلا مفعول، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان، أو هما مفعولان بيضرب لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين، وما صفة للنكرة أو زائدة فَما فَوْقَها في الكبر، وقيل: في الصغر، والأول أصح فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة: وضرب أمثال، وبيان للناس، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله ماذا أَرادَ اللَّهُ لفظه الاستفهام، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب، وفي إعراب ماذا: وجهان أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره وهي موصولة، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد، ومثلا منصوب على الحال أو التمييز يُضِلُّ بِهِ من كلام الله جوابا للذين قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا، وهو أيضا تفسير لما أراد الله
__________
(1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وإسناده جيد عن سلمان الفارسي. [.....]
(2) . في الكلام تشويش ولعل الصواب: سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك [وقالوا: ما بال العنكبوت والذباب يذكران] فنزلت الآية عليهم. راجع الطبري في تفسير الآية المذكورة.(1/77)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
بضرب المثل من الهدى والضلال
عَهْدَ اللَّهِ مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد، ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود، لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ويشار بقطع ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قريش لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين، ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين لأن الفساد من أفعالهم، حسبما تقدّم في وصفهم مِيثاقِهِ الضمير للعهد أو لله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ موضعها الاستفهام، ومعناها هنا: الإنكار والتوبيخ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أي معدومين أي: في أصلاب الآباء، أو نطفا في الأرحام فأحياكم أي أخرجكم إلى الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ الموت المعروف ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وقيل: الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد، وقيل: في الحياة الثانية إنها في القبور، والراجح القول الأول لتعينه في قوله: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج: 66] .
فوائد ثلاثة
الأولى: هذه الآية في معرض الردّ على الكفار، وإقامة البرهان على بطلان قولهم، فإن قيل: إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به، فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له؟
فالجواب أنه ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث، لأن القدرة صالحة لذلك كله. الثانية: قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً في موضع الحال، فإن قيل: كيف جاز ترك قد وهي لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب: أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل، والمراد مجموع الكلام. كأنه يقول: وحالهم هذه. فلذلك لم تلزم قد. الثالثة: عطف فأحياكم بالفاء لأنّ الحياة إثر العدم ولا تراخي بينهما، وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم للتراخي الذي بينهما خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض ثُمَّ اسْتَوى أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة فسوّاهنّ أي أتقن خلقهن: كقوله: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 7] ، وقيل جعلهنّ سواء.
(فائدة) هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما: أنّ الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار
لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك واختلف في وزنه فقيل: فعل فالميم أصلية، ووزن ملائكة على هذا(1/78)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
مفاعلة وقيل: هي من الألوكة وهي الرسالة، فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة، ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد خَلِيفَةً هو آدم عليه السلام لأنّ الله استخلفه في الأرض، وقيل ذريته لأنّ بعضهم يخلف بعضا، والأوّل أرجح، ولو أراد الثاني لقال خلفاء أَتَجْعَلُ فِيها الآية: سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس فيه اعتراض لأنّ الملائكة منزهون عنه، وإنما علموا أنّ بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اعتراف، والتزام للتسبيح لا افتخار بِحَمْدِكَ أي حامدين لك والتقدير: نسبح متلبسين بحمدك، فهو في موضع الحال وَنُقَدِّسُ لَكَ يحتمل أن تكون الكاف مفعولا، ودخلت عليها اللام كقولك. ضربت لزيدا، وأن يكون المفعول محذوفا، أي نقدسك على معنى: ننزهك أو نعظمك، وتكون اللام في ذلك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير: نقدس أنفسنا أي نطهرها لك ما لا تَعْلَمُونَ أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة الْأَسْماءَ كُلَّها أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر وغير ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي عرض المسميات، وبيّن أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء أَنْبِئُونِي أمر على وجه التعجيز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم: إنّ الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء لا عِلْمَ لَنا اعتراف أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء اسْجُدُوا لِآدَمَ السجود على وجه التحية وقيل: عبادة لله، وآدم كالقبلة فسجدوا روي أنّ من أوّل من سجد إسرافيل، ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل عند من قال: إنه كان ملكا. ومنقطع عند من قال:
كان من الجن «1» اسْتَكْبَرَ لقوله: أنا خير منه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل: كفر بإباءته من السجود، وذلك بناء على أن المعصية كفر. والأظهر: أنه كفر باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية
وَزَوْجُكَ هي حواء خلقها الله من ضلع آدم، ويقال زوجة، وزوج هنا أفصح الْجَنَّةَ هي جنة الخلد عند الجماعة وعند
__________
(1) . وهو الأصح لأن الملائكة منزهون عن المعصية.(1/79)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
أهل السنة، خلافا لمن قال: هي غيرها لا تَقْرَبا النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدّا للذريعة، فهذا أصل في سدّ الذرائع الشَّجَرَةَ قيل هي شجرة العنب، وقيل شجرة التين «1» ، وقيل الحنطة، وذلك مفتقر إلى نقل صحيح، واللفظ مبهم فَتَكُونا عطف على تقربا، أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي فَأَزَلَّهُمَا متعدّ من أزل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال عَنْها الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا.
فائدة: اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان: لقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها، وهذا باطل لأن خمر الجنة لا تسكر، وقيل: أكل عمدا وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذبا اهْبِطُوا خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل: بعضكم لبعض عدوّ مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار وهو في مدّة الحياة، وقيل في بطن الأرض بعد الموت وَمَتاعٌ ما يتمتع به إِلى حِينٍ إلى الموت فَتَلَقَّى أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة «2» ، وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء كَلِماتٍ هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بدليل ورودها في الأعراف: 23 وقيل غير ذلك اهْبِطُوا كرر ليناط به ما بعده، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء، والآخر من الجنة، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ إن شرطية وما زائدة للتأكيد، والهدى هنا: يراد به كتاب الله ورسالته فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأوّل، وقيل: فلا خوف جواب الشرطين
يا بَنِي إِسْرائِيلَ لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:
49] ، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] ، وبَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56] ،
__________
(1) . ورد في الأبريز للسيد عبد العزيز الدباغ أنها شجرة التين بغير شك.
(2) . في الكلام نقص والله أعلم.(1/80)
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [البقرة: 57] ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [البقرة: 57] ، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [البقرة: 52] ، فَتابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54] ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] ، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60] .
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه، وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزا من السماء، وأخذتكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب [به] المعاصرون لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ العاندين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم بتوبيخات أخر، وهي: كتمانهم أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم مع معرفتهم به، ويحرّفون الكلم ويقولون هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر، وقولهم نحن أبناء الله، وقولهم يد الله مغلولة.
نِعْمَتِيَ اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، ومعناه: عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى، وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة، واللفظ يعم النعم جميعا بِعَهْدِي مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل: الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وذلك قويّ لأنه مقصود الكلام بِعَهْدِكُمْ دخول الجنة وَإِيَّايَ مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير، وليفيد الحصر يفسره فارهبون، ولا يصح أن يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله، وكذلك إياي فاتقون بِما أَنْزَلْتُ يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي مصدّقا للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلّى الله عليه واله وسلّم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به، والآخر: أنه صلّى الله عليه واله وسلّم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم، والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الضمير عائد على القرآن، وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال لأن هذا مفهوم معطل بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا:(1/81)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال: كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى، والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رئاستهم، وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وغير ذلك، وقيل:
كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن
الْحَقَّ بِالْباطِلِ الحق هنا يراد به نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها. وَتَكْتُمُونَ معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأوّل أرجح، لأنّ العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام وَارْكَعُوا خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأنّ صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد مَعَ الرَّاكِعِينَ مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة.
أَتَأْمُرُونَ تقريع وتوبيخ لليهود بِالْبِرِّ عام في أنواعه فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم تَنْسَوْنَ أي تتركون، وهذا تقريع تَتْلُونَ الْكِتابَ حجة عليهم أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل:
معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «1» ونعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلّى ركعتين وقرأ الآية، وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة، وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء وَإِنَّها الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة، أو على الاستعانة أو على الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي شاقة صعبة يَظُنُّونَ هنا: يتيقنون عَلَى الْعالَمِينَ أي أهل زمانهم، وقيل: تفضيل من وجه مّا هو كثرة الأنبياء وغير ذلك
__________
(1) . ذكره المناوي في التيسير ج 2 ص 245 بلفظ: «كان إذا حزبه أمر صلى» وعزاه لأحمد وأبي داود عن حذيفة بن اليمان.(1/82)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
لا تَجْزِي لا تغني. وشيئا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ليس نفي الشفاعة مطلقا، فإنّ مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ولقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] ولقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وانظر ما ورد أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يستأذن في الشفاعة فيقال له: اشفع تشفع. فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقا يحمل على هذا لأنّ المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة عَدْلٌ هنا فدية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمع لأنّ النفس المذكورة يراد بها نفوس وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: اذكروا إذ نجيناكم أي: نجينا آباءكم، وجاء الخطاب للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم لأنهم ذرّيتهم وعلى دينهم ومتبعون لهم، فحكمهم كحكمهم، وكذلك فيما بعد هذا من تعداد النعم، لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، ومن ذكر مساويهم لأنّ ذرّيتهم راضون بها مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ المراد من فرعون واله، وحذف لدلالة المعنى، وآل فرعون هم جنوده وأشياعه وآل دينه لا قرابته خاصة، ويقال إنّ اسمه الوليد بن مصعب، وهو من ذرّية عمليق، ويقال فرعون لكل من ولي مصر، وأصل آل: ثم هل أبدلت من الهاء همزة وأبدل من الهمزة ألف.
فائدة: كل ما ذكره في هذه الصور من الأخبار معجزات للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم لأنه أخبر بها من غير تعلم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يلزمونهم به، وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ولذلك لم يعطفه هنا، وأما حيث عطفه في سورة إبراهيم فيحتمل أن يراد بسوء العذاب غير ذلك بل فيكون عطف مغايرة، أو أراد به ذلك، وعطف لاختلاف اللفظة، وكان سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل «1» وقيل إنّ آل فرعون تذاكروا وعد الله لإبراهيم بأن يجعل في ذرّيته ملوكا وأنبياء فحسدوهم على ذلك، وروي أنه وكل بالنساء رجالا يحفظون من تحمل منهنّ، وقيل: بل وكّل على ذلك القوابل، ولأجل هذا قيل معنى يستحيون: يفتشون الحياة ضدّ الموت فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فصلناه وجعلناه فرقا اثنى عشر طريقا، على عدد الأسباط، والباء سببية أو للمصاحبة، والبحر المذكور هنا: هو بحر القلزم «2»
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هي شهر ذي القعدة وعشر ذي الحجة، وإنما
__________
(1) . ويعرف الآن بالبحر الأحمر.
(2) . في الكلام هنا نقص، وتكملته من الطبري: أن فرعون رأى رؤيا هالته فعبرها له الكهنة بأنه: يولد في بني إسرائيل غلام يكون هلاك فرعون على يده. فأمر عند ذلك بذبح الصبيان من مواليد بني إسرائيل كما هو مشهور.(1/83)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
خصّ الليالي بالذكر لأنّ العام بها «1» ، والأيام تابعة لها، والمراد أربعين ليلة بأيامها اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ اتخذتموه إلها، فحذف لدلالة المعنى مِنْ بَعْدِهِ أي بعد غيبته في الطور الْكِتابَ هنا التوراة وَالْفُرْقانَ أي المفرق بين الحق والباطل، وهو صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ، وقيل الفرقان هنا فرق البحر، وقيل آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان «وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا كقوله: «سلموا على أنفسكم» ، وروي أنّ الظلام ألقي عليهم فقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ القتلى سبعون ألفا فعفى الله عنهم. وإنما خص هنا اسم الباري لأنّ فيه توبيخا للذين عبدوا العجل كأنه يقول كيف عبدتم غير الذي برأكم، ومعنى الباري:
الخالق فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فحوى الخطاب، أي:
ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تعدى باللام لأنه تضمن معنى الانقياد جَهْرَةً عيانا الصَّاعِقَةُ الموت، وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور، فسمعوا كلام الله، ثم طلبوا الرؤية فعوقبوا لسوء أدبهم، وجراءتهم على الله، وَظَلَّلْنا أي جعلنا الغمام فوقهم كالظلة يقيهم حرّ الشمس، وكان ذلك في التيه، وكذا أنزل عليه فيه المنّ والسلوى تقدّم في اللغات «2» كُلُوا معمول لقول محذوف هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، وقيل أريحاء، وقيل قريب من بيت المقدس فَكُلُوا جاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله:
اسكنوا، لأنّ الدخول لا يتأتى معه السجود، وقيل متواضعين حِطَّةٌ تقدّم في اللغات وَسَنَزِيدُ أي نزيدهم أجرا إلى المغفرة
فَبَدَّلَ روي أنه قالوا: حنطة، وروي: حبة في شعرة الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني المذكورين، وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالظلم،
__________
(1) . لأن اليوم يبدأ عند العرب من غروب الشمس، فالليل يشمل النهار، والله أعلم.
(2) . راجع المقدمة الثانية لفظة: سلوى.(1/84)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
وكرره زيادة في تقبيح أمرهم رِجْزاً روي أنهم أصابهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا اسْتَسْقى طلب السقيا لما عطشوا في التيه الْحَجَرَ كان مربعا ذراعا في ذراع: تفجر من كل جهة ثلاث عيون، وروي أنّ آدم كان أهبطه من الجنة، وقيل هو جنس غير معين، وذلك أبلغ في الإعجاز فَانْفَجَرَتْ قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم، وكانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين كُلُوا أي من المنّ والسلوى، واشربوا من الماء المذكور فُومِها هي الثوم، وقيل: الحنطة أَدْنى من الدنيء الحقير، وقيل: أصله أدون، ثم قلب بتأخير عينه وتقديم لامه مِصْراً قيل البلد المعروف وصرف لسكون وسطه «1» . وقيل: هو غير معين فهو نكرة لما روي أنهم نزلوا بالشام. ضُرِبَتْ أي قضى عليهم بها، وألزموها. وجعله الزمخشري استعارة من ضرب القبة لأنها تعلو الإنسان وتحيط به الْمَسْكَنَةُ الفاقة، وقيل: الجزية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، والباء للتعليل بِآياتِ اللَّهِ الآيات المتلوات أو العلامات بِغَيْرِ الْحَقِّ معلوم أنه لا يقتل نبي إلّا بغير حق، وذلك أفصح [وقرأ نافع وحده: النبيئين] .
فائدة: قال هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد، لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس، وقال في الموضع الآخر من آل عمران «بغير حق» بالتنكير لاستغراق النفي، لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم.
ذلِكَ بِما عَصَوْا يحتمل أن يكون تأكيدا للأول، وتكون الإشارة بذلك إلى القتل والكفر، والباء للتعليل. أي اجترءوا على الكفر وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان والعدوان
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية. قال ابن عباس: نسختها وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] وقيل معناها: أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت، وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام، فلا نسخ، وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فلا نسخ مَنْ آمَنَ مبتدأ، خبره: فلهم أجرهم. والجملة خبر أن، أو من آمن
__________
(1) . أي لكون حرف الصاد ساكنا.(1/85)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
بدل، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبر أن وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن لم تأخذوها وقع عليكم بِقُوَّةٍ جدّ في العلم بالتوراة أو العمل بها اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اصطادوا فيه الحوت وكان محرما عليهم كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم، وخاسئين صفة أو خبر ثان، ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب فَجَعَلْناها الضمير للفعلة وهي المسخ نَكالًا أي عقوبة لما تقدّم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدّم ومن تأخر أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قصتها أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبه ليرثه، وادّعى على قوم أنهم قتلوه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، ففعلوا فقام وأخبر بمن قتله، ثم عاد ميتا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً جفاء وقلة أدب، وتكذيب فارِضٌ مسنة بِكْرٌ صغيرة عَوانٌ متوسطة بَيْنَ ذلِكَ أي بين ما ذكر، ولذلك قال ذلك مع الإشارة إلى شيئين: صَفْراءُ من الصفرة المفروقة، وقيل سوداء:
وهو بعيد، والظاهر صفراء كلها. وقيل: القرن والظلف فقط، وهو بعيد فاقِعٌ شديد الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لحسن لونها، وقيل لسمنها ومنظرها كله لا ذَلُولٌ غير مذللة للعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تحرثها وهو داخل تحت النفي على الأصح وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا يسقى عليها مُسَلَّمَةٌ من العمل أو من العيوب لا شِيَةَ لا لمعة غير الصفرة، وهو من وشى ففاؤه واو محذوفة كعدة الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ العامل في الضرب جئت بالحق، وقيل: العامل فيه مضمر تقديره الآن تذبحوها، والأول أظهر فإن كان قولهم: أتتخذنا هزوا: هكذا فهذا تصديق وإن كان غير ذلك، فالمعنى الحق المبين وَما كادُوا لعصيانهم وكثرة سؤالهم، أو لغلاء البقرة، فقد جاء بأنها كانت ليتيم وأنهم اشتروها بوزنها ذهبا، أو لقلة وجود تلك الصفة، فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة أجزأت عنهم، ولكنه شدّدوا فشدّد عليهم
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هو أوّل قصة البقرة فمرتبته التقديم (إن الله(1/86)
يأمركم) قال الزمخشري: إنما أخر لتعدّد توبيخهم لقصتين وهما: ترك المسارعة إلى الأمر، وقتل النفس ولو قدّم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد فَادَّارَأْتُمْ أي اختلفتم وهو من المدارأة أي المدافعة ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القتيل ومن قتله اضْرِبُوهُ
القتيل أو قريبه بِبَعْضِها
مطلقا، وقيل: الفخذ وقيل: اللسان، وقيل: الذنب كَذلِكَ
إشارة إلى حياة القتيل، واستدلال بها على الإحياء للبعث، وقبله محذوف لا بدّ منه تقديره: ففعلوا ذلك فقام القتيل.
فائدة: استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول: فلان قتلني، وهو ضعيف، لأن هذا المقتول قام بعد موته ومعاينة الآخرة، وقصته معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فلا يتأتى أن يكذب المقتول، بخلاف غيره، واستدلوا أيضا بها على أن: القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك «1» قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: خطابا لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء، أي: هي أشدّ، وأو هنا إما للإبهام أو للتخيير: كأن علم حالها مخيّر بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشدّ قسوة كالحديد، أو التفضيل أي: فهم أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل، لكون أشدّ أدلّ على فرط القسوة وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم يَهْبِطُ أي يتردّى من علو إلى أسفل، والخشية عبارة عن انقيادها، وقيل: حقيقة وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله أَفَتَطْمَعُونَ خطاب المؤمنين أن يُؤْمِنُوا يعني: اليهود، وتعدّى باللام لما تضمن معنى الانقياد فَرِيقٌ مِنْهُمْ السبعون الذي يسمع كلام الله على الطور ثم حرفوه، وقيل: بنو إسرائيل حرفوا التوراة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بيان لقبح حالهم قالوا آمنا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود، وقيل: قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين ويسمعوا إلى أخبارهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ توبيخ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه ثلاثة أوجه بما حكم عليهم من العقوبات، وبما في كتبهم من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام، وكل وجه حجة عليهم، ولذلك قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ قيل: في الآخرة وقيل: أي في حكم ربكم
__________
(1) . القاتل لا يرث بنص حديث نبوي: ليس لقاتل شيء. رواه أحمد عن عمر بن الخطاب.(1/87)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
وما أنزل في كتابه، فعنده بمعنى حكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية كلامهم توبيخا لقولهم
وَلا يَعْلَمُونَ الآية من كلام الله ردّا عليهم وفضيحة لهم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي الذين لا يقرءون ولا يكتبون فهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ والمراد قوم من اليهود وقيل: من المجوس وهذا غير صحيح، لأنّ الكلام كله عن اليهود إِلَّا أَمانِيَّ تلاوة بغير فهم، أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس بِأَيْدِيهِمْ تحقيق لافترائهم ثَمَناً قَلِيلًا عرض الدنيا من الرياسة والرشوة وغير ذلك مما يكسبون من الدنيا أو هي الذنوب أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوما عدد عبادتهم العجل وقيل سبعة أيام أَتَّخَذْتُمْ الآية: تقرير يقتضي إبطال بَلى تحقيق لطول مكثهم في النار، لقولهم ما لا يعلمون مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية: في الكفار لأنها ردّ على اليهود، ولقوله بعدها وَالَّذِينَ آمَنُوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جواب لقسم يدل عليه الميثاق، وقيل: خبر بمعنى النهي، ويرجحه قراءة لا يعبدون وقيل: الأصل بأن: لا تَعْبُدُونَ ثم حذفت الباء وأن وَبِالْوالِدَيْنِ يتعلق بإحسان، أو بمحذوف تقديره: أحسنوا، ووكد بإحسانا وَذِي الْقُرْبى القرابة الْيَتامى جمع يتيم:
وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه، وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم، فقدم الوالدين لحقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثم المساكين لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم بلزومه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق عليكم
هؤُلاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر، وقيل: هؤلاء مبتدأ وخبره أنتم وتقتلون حالا لازمة تم بها المعنى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويتقيه من موضعه إذا ظفر به تَظاهَرُونَ أي(1/88)
تتعاونون تُفادُوهُمْ قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد. وكذلك أسارى بالألف وحذفها «1» جمع أسير وَهُوَ مُحَرَّمٌ الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ وخبره محرّم وإِخْراجُهُمْ بدل، والضمير للأمر والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم خِزْيٌ الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم، أو مطلق وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول الْبَيِّناتِ المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل، وقيل الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ولقوله صلّى الله عليه واله وسلّم لحسان:
اللهم أيده بروح القدس «2» تَقْتُلُونَ جاء مضارعا مبالغة لأنه أيد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لولا أنّ الله عصمه غُلْفٌ جمع أغلف: أي عليها غلاف، وهو الغشاء فلا تفقه بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ردّا عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم فَقَلِيلًا أي إيمانا قليلا ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة، ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ تقدم أن له ثلاثة معان يَسْتَفْتِحُونَ أي ينتصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وقيل: يستفتحون أي يعرفون الناس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا القرآن والإسلام ومحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، قال المبرّد: كفروا جوابا لما الأولى والثانية، وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزّجّاج: كفروا جوابا
__________
(1) . أي: أسرى.
(2) . أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب 68/ 116/ 1 عن أبي هريرة.(1/89)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
لما الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه لذلك، وقال الفرّاء جواب لما الأولى فلما، وجواب الثانية كفر عَلَى الْكافِرِينَ أي عليهم يعني اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار بئسما فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له، وأن يكفروا: هو المذموم وقال الفرّاء: بئسما مركب كحبّذا وقال الكاسي: ما مصدرية أي اشتراكهم فهي فاعلة
اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن أو التوراة لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أَنْ يُنَزِّلَ في موضع مفعول من أجله مِنْ فَضْلِهِ القرآن والرسالة مَنْ يَشاءُ يعني محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والمعنى أنهم إنما كفروا حسدا لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لما تفضل الله عليه بالرسالة بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ لعبادتهم العجل، أو لقولهم: عزير ابن الله، أو لغير ذلك من قبائحهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن بِما وَراءَهُ أي بما بعده وهو القرآن فَلِمَ تَقْتُلُونَ ردّا عليهم فيما ادّعوا من الإيمان بالتوراة، وتكذيب لهم، وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته، فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطية بمعنى القدح في إيمانهم، وجوابها يدل عليه ما قبل، أو نافية فيوقف قبلها والأوّل أظهر بِالْبَيِّناتِ يعني المعجزات: كالعصا، وفلق البحر، وغير ذلك اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ذكر هنا على وجه ألزم لهم، والإبطال بقولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) وكذلك رفع الطور، وذكر قبل هذا على وجه تعداد النعم لقوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [البقرة: 52] وعطفه بثم في الموضعين إشارة إلى قبح ما فعلوه من ذلك مِنْ بَعْدِهِ الضمير لموسى عليه لسلام: أي من بعد غيبته في مناجاة الله على جبل الطور سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي:
سمعنا قولك وعصينا أمرك، ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال، أو بلسان الحال وَأُشْرِبُوا عبارة عن تمكن حب العجل في قلوبهم، فهو مجاز، تشبيها بشرب الماء، أو بشرب الصبغ في الثوب وفي الكلام محذوف أي أشربوا حب العجل وقيل: إن موسى برد العجل بالمبرد ورمى برادته في الماء فشربوه، فالشرب على هذا حقيقة، ويردّ هذا قوله: في(1/90)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قلوبهم بِكُفْرِهِمْ الباء سببية للتعليل، أو بمعنى المصابة يَأْمُرُكُمْ إسناد الأمر إلى إيمانهم، فهو مجاز على وجه التهكم، فهو كقولهم أصلاتك تأمرك؟ [هود: 87] كذلك إضافة الإيمان إليهم إِنْ كُنْتُمْ شرط أو نفي
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بالقلب أو اللسان أو باللسان خاصة، وهذا أمر على وجه التعجيز والتبكيت، لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وروي أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، وقيل: إن ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم دامت طول حياته وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ إن قيل: لم قال في هذه السورة: ولن يتمنوه، وفي سورة الجمعة: ولا يتمنونه فنفى هنا بلن، وفي الجمعة بلا، فقال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، الجواب أنه لما كان الشرط في المغفرة مستقبلا وهو قوله إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً جاء جوابه بلن التي تخص الاستقبال ولما كان الشرط في الجمعة حالا، وهو قوله إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جاء جوابه بلا: التي تدخل على الحال، أو تدخل على المستقبل بِما قَدَّمَتْ أي لسبب ذنوبهم وكفرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على ما قبله فيوصل به، ولمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة بإفراط حبهم للحياة الدنيا. والآخر أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فحذف الموصوف، وقيل: أراد به المجوس، لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة، والأوّل أظهر لأنّ الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ الآية: فيها وجهان أحدهما: أن يكون هو عائد على أحدهم، وأن يعمر فاعل لمزحزحه، والآخر: أن يكون هو للتعمير وأن يعمر بدل
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية: سببها أنّ اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: جبريل عدوّنا لأنه ملك الشدائد والعذاب فلذلك لا نؤمن به، ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك لأنه ملك الأمطار والرحمة فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فيه وجهان: الأوّل فإنّ الله نزل جبريل، والآخر فإن جبريل نزل القرآن، وهذا أظهر، لأنّ قوله: مصدّقا لما بين يديه من أوصاف القرآن، والمعنى: الردّ على اليهود بأحد وجهين: أحدهما من كان عدوّا لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه لأنه نزله على قلبك فهو مستحق للمحبة، ويؤكد هذا قوله وهدى وبشرى،(1/91)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
والثاني: من كان عدوّا لجبريل فإنما عاداه لأنه نزله على قلبك، فكان هذا تعليل لعداوتهم لجبريل وَجِبْرِيلَ، وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة تجديدا للتشريف والتعظيم أَوَكُلَّما الواو للعطف، قال الأخفش: زائدة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نزلت في مالك بن الصيف اليهودي وكان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد رسول يعني محمدا صلّى الله عليه واله وسلّم كِتابَ اللَّهِ يعني القرآن أو التوراة لما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أو المتقدّمين ما تَتْلُوا هو من القراءة أو الأتباع عَلى مُلْكِ أي في ملك أو عهد ملك سليمان وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة له مما نسبوه إليه، وذلك أنّ سليمان عليه السلام دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته، ونسبوه إليه، وقالت اليهود: إنما كان سليمان ساحرا، وقيل: إنّ الشياطين استرقوا السمع وألقوه إلى الكهان، فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك ودفنه، فلما مات قالوا: ذلك علم سليمان وما كفر سليمان بتعليم السحر وبالعمل به أو بنسبته إلى سليمان عليه السلام وَما أُنْزِلَ نفي أو عطف على السحر عليهما، إلّا أنّ ذلك يردّه آخر الآية، وإن كانت معطوفة بمعنى الذي فالمعنى أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاء من الله لعباده، أو ليعرف فيحذر، وقرئ الملكين «بكسر اللام» وقال الحسن:
هما علجان، فعلى هذا يتعين أن تكون ما غير نافية بِبابِلَ موضع معروف هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان علمان بدل من الملكين أو عطف بيان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي محنة، وذلك تحذير من السحر فَلا تَكْفُرْ أي بتعليم السحر، ومن هنا أخذ مالك أنّ الساحر: يقتل كفرا يُفَرِّقُونَ زوال العصمة أو المنع من الوطء يَضُرُّهُمْ أي في الآخرة عَلِمُوا أن اليهود والشياطين: أي اشتغلوا به، وذكر الشراء، لأنهم كانوا يعطون الأجرة عليه شَرَوْا هنا بمعنى باعوا
لَمَثُوبَةٌ من الثواب وهو جواب: لَوْ أَنَّهُمْ وإنما جاء جوابها بجملة اسمية وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره. وقيل:
الجواب محذوف أي لأثيبوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ في الموضعين نفي لعلمهم لا تَقُولُوا راعِنا(1/92)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله راعنا، وذلك من المراعاة أي: راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها: ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء، فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود، فالنهي سدّا للذريعة، وأمروا أن يقولوا: انظرنا، لخلوّه عن ذلك الاحتمال المذموم، فهو من النظر والانتظار، وقيل: إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير وَاسْمَعُوا عطف على قولوا، لا على معمولها. والمعنى: الأمر بالطاعة والانقياد ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا جنس يعم نوعين: أهل الكتاب، والمشركين من العرب، ولذلك فسره بهما، ومعنى الآية أنهم: لا يحبون أن ينزل الله خيرا على المسلمين مِنْ خَيْرٍ من للتبعيض، وقيل: زائدة لتقدم النفي في قوله: ما يودّ بِرَحْمَتِهِ قيل: القرآن وقيل: النبوة وللعموم أولى، ومعنى الآية: الردّ على من كره الخير للمسلمين ما نَنْسَخْ نزل حكمه ولفظه أو أحدهما، وقرئ بضم النون أي نأمر بنسخه أَوْ نُنْسِها من النسيان، وهو ضدّ الذكر: أي ينساها النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بإذن الله كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6/ 7] أو بمعنى الترك: أي نتركها غير منزلة: أي غير منسوخة، وقرئ بالهمز بمعنى التأخير: أن نؤخر إنزالها أو نسخها بِخَيْرٍ في خفة العمل، أو في الثواب قَدِيرٌ استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافا لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه «1» على الله. وهو جائز عقلا، وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أي تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأوّل أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم له أرنا الله جهرة
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي تمنوا، ونزلت الآية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر، وأشباههما من اليهود، الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين، ويطمعون أن يردّوهم عن الإسلام حَسَداً مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والعامل في ما قبله، فيجب وصله معه، وقيل:
هو مصدر، والعامل فيه محذوف تقديره: يحسدونكم حسدا، فعلى هذا يوقف على ما قبله،
__________
(1) . أحالوه: أي اعتبروه محالا لا يمكن حصوله. [.....](1/93)
والأوّل أظهر وأرجح مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يتعلق بحسدا وقيل: بيودّ فَاعْفُوا منسوخ بالسيف بِأَمْرِهِ يعني إباحة قتالهم أو وصول آجالهم وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الآية: أي قالت اليهود:
لن يدخل الجنة إلّا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيا هُوداً يعني اليهود، وهذه الكلمة جمع هائد أو مصدر وصف به، وقال الفرّاء: حذفت منه يا هودا على غير قياس أَمانِيُّهُمْ أكاذيبهم أو ما يتمنونه هاتُوا أمر على وجه التعجيز، والردّ عليهم، وهو من: هاتي، يهاتي، ولم ينطق به، وقيل: أصله آتوا، وأبدل من الهمزة هاء بَلى إيجاب لما نفوا أي يدخلها من ليس يهوديا، ولا نصرانيا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي دخل في الإسلام وأخلص، وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية: سببها: اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمّت كل طائفة الأخرى وَهُمْ يَتْلُونَ تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب الذين لا يَعْلَمُونَ المشركون من العرب لأنهم لا كتاب لهم مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ لفظه الاستفهام ومعناه: لا أحد أظلم منه حيث وقع قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم خائِفِينَ في حق قريش لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحج بعد هذا العام مشرك «1» في حق النصارى حربهم عند بيت المقدس أو الجزية خِزْيٌ في حق قريش غلبتهم وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية فَأَيْنَما تُوَلُّوا في الحديث الصحيح أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت، وقيل: هي في نفل المسافر حيث ما توجهت به دابته، وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي إن منعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل: إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة، فهي كقوله بعد هذا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية والقول الأوّل هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة، فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك وَجْهُ اللَّهِ المراد به هنا رضاه كقوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي رضاه، وقيل: معناه الجهة التي وجهه إليها، وأما قوله:
__________
(1) . رواه أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق ص 4 رقم 4.(1/94)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله، وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود، وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع
وَقالُوا اتَّخَذَ قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب:
الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه له عن قولهم بَلْ لَهُ الآية ردّ عليهم لأنّ الكل ملكه، والعبودية تنافي النبوة قانِتُونَ أي طائعون منقادون بَدِيعُ السَّماواتِ أي مخترعها وخالقها ابتداء وإذا قضى أمرا أي قدّره وأمضاه، قال ابن عطية: يتحد في الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة: قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة: أمضى عند الخلق والإيجاد، قلت: لا يكون قضى هنا بمعنى قدّر، لأن القدر قديم، وإذا: تقتضي الحدوث والاستقبال، وذلك يناقض القدم، وإنما قضى هنا بمعنى: أمضى أو فعل أو وجد كقوله: فقضاهنّ سبع سموات، وقد قيل إنه بمعنى ختم الأمر، وبمعنى حكم، والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال الأصوليون: هذا عبارة عن نفوذ قدرة الله تعالى: وليس بقول حقيقي، لأنه إن كان قول:
كن خطابا للشيء في حال عدمه، لم يصح لأن المعدوم لم يخاطب، وإن كان خطابا في حال وجوده لأنه قد كان، وتحصيل الحاصل غير مطلوب. وحمله المفسرون على حقيقته، وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة: أحدها: أن الشيء الذي يقول له: كن فيكون هو موجود في علم الله وإنما يقول له: كن ليخرجه إلى العيان لنا، والثاني: أن قوله: كن لا يتقدّم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه. قاله الطبري، والثالث: أنّ ذلك خطابا لمن كان موجودا على حالة، فيأمر بأن يكون على حالة أخرى كإحياء الموتى، ومسخ الكفار، وهذا ضعيف. لأنه تخصيص من غير مخصص. والرابع: أن معنى يقول له: يقول من أجله، فلا يلزم خطابه:
والأوّل أحسن هذه الأجوبة، وقال ابن عطية: تلخيص المعتقد في هذه الآية أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، فيكون رفع على الاستثناء، قال سيبويه: معناه فهو يكون، قال غيره: يكون عطف على يقول، واختاره الطبري، وقال ابن عطية: وهو فاسد من جهة المعنى، ويقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وفي هذا نظر
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح، وقيل: هم اليهود والنصارى لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ لولا هنا عرض، والمعنى أنهم قالوا: لن نؤمن حتى يكلمنا الله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة من المعجزات كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 9] وما بعده كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني اليهود والنصارى على القول: بأن(1/95)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
الذين لا يعلمون كفار العرب، وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، فالذين من قبلهم هم أمم الأنبياء المتقدمين تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الضمير للذين لا يعلمون، وللذين من قبلهم، وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ما لا يصح أن يطلب، وهو كقولهم: لولا يكلمنا الله قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أخبر تعالى أنه قد بين الآيات لعنادهم إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والمراد بالحق التوحيد، وكل ما جاءت به الشريعة بَشِيراً وَنَذِيراً تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، وهذا معناه حيث وقع وَلا تُسْئَلُ بالجزم نهي «1» ، وسببها أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله، وقرأ غير نافع بضم التاء واللام: أي لا تسأل في القيامة عن ذنوبهم مِلَّتَهُمْ ذكرها مفردة وإن كانت ملتين لأنهما متفقتان في الكفر، فكأنهما ملة واحدة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى لا ما عليه اليهود والنصارى، والمعنى: أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي لأنه هدى من عند الله بخلاف ما يدّعيه اليهود والنصارى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى، ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة والأقوال المضلة لأنهم اتبعوها بغير حجة بل بهوى النفوس والضمير لليهود والنصارى، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم، ولكن قال ذلك على وجه التهديد لو وقع ذلك، فهو على معنى الفرض والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني المسلمين، والكتاب على هذا: القرآن، وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب على هذا التوراة، ويحتمل العموم، ويكون الكتاب اسم جنس يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما يجب من التدبر له والعمل به، وقيل: معناه يتبعونه حق إتباعه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والأوّل أظهر، فإن التلاوة وإن كانت تقال بمعنى القراءة، وبمعنى الاتباع فإنه أظهر في معنى القراءة، لا سيما إذا كانت تلاوة الكتاب، ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، ويكون الخبر أولئك يؤمنون، وهذا أرجح، لأن مقصود الكلام الثناء عليهم بالإيمان، أو إقامة الحجة بإيمانهم على غيرهم ممن لم يؤمن يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية: تقدّم الكلام على نظيرتها
وَإِذِ ابْتَلى أي
__________
(1) . على قراءة المؤلف رحمه الله.(1/96)
اختبر، فالعامل في إذ فعل مضمر تقديره أذكر، وقوله بِكَلِماتٍ قيل: مناسك الحج، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، ونتف الإبطين، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقيل هي ثلاثون خصلة: عشرة ذكرت في براءة من قوله: التائبون العابدون، وعشرة في الأحزاب من قوله: إن المسلمين والمسلمات، وعشرة في المعارج من قوله: إلّا المصلين فَأَتَمَّهُنَّ أي عمل بهنّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي استفهام أو رغبة عَهْدِي الإمامة الْبَيْتَ الكعبة مَثابَةً اسم مكان من قولك: ثاب إذا رجع، لأنّ الناس يرجعون إليه عاما بعد عام وَاتَّخِذُوا بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم عليه السلام، وبالكسر إخبار لهذه الأمّة «1» ، وافق قول عمر رضي الله عنه: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى «2» ، وقيل أمر لإبراهيم وشيعته، وقيل لبني إسرائيل فهو على هذا عطف على قوله: اذكروا نعمتي، وهذا بعيد مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام وَعَهِدْنا عبارة عن الأمر والوصية طَهِّرا بَيْتِيَ عبارة عن بنيانه بنية خالصة كقوله: أسس على التقوى، وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الأصنام لِلطَّائِفِينَ هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأوّل أظهر وَالْعاكِفِينَ هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون، وقيل: المجاورون من الغرباء، وقيل: أهل مكة، والعكوف في اللغة: اللزوم بَلَداً يعني مكة آمِناً أي مما يصيب غيره من الخسف والعذاب، وقيل: آمنا من إغارة الناس على أهله، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح لقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [القصص: 57] ، فإن قيل: لم قال في البقرة بَلَداً آمِناً فعرّف في إبراهيم [35] ونكّر في البقرة؟ أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة الجواب الأوّل: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت في قوله: القواعد من البيت «3» ، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف.
__________
(1) . كما هي قراءة حفص.
(2) . روى الإمام ابن جرير في تفسيره عن أنس بن مالك قول عمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو اتخذت المقام مصلّى فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا ...
(3) . الواقع أن القواعد من البيت ستأتي في الآية التالية مباشرة.(1/97)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
الجواب الثاني قاله السهيلي: وهو أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم، لأنها مكية فلذلك قال فيه: البلد بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يعرفها بلام الحضور، وفي هذا نظر لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة «الجواب الثالث» قاله بعض المشارقة [وهو] أنه قال:
هذا بلدا آمنا قبل أن يكون بلدا، فكأنه قال اجعل هذا الموضع بلدا آمنا، وقال: هذا البلد بعد ما صار بلدا. وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حكي لفظه فيها على وجهين مَنْ آمَنَ بدل بعض من كل ومن كفر أي قال الله وأرزق من كفر لأنّ الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي يقولان ذلك وَأَرِنا مَناسِكَنا علمنا موضع الحج وقيل: العبادات فِيهِمْ أي في ذرّيتنا رَسُولًا مِنْهُمْ هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولذلك قال صلّى الله عليه واله وسلّم: أنا دعوة أبي إبراهيم «1» والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من قحطان فاختلف هل هم من ذرّية إسماعيل أم لا آياتِكَ هنا القرآن وَالْحِكْمَةَ هنا هي السنة وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الكفر والذنوب سَفِهَ نَفْسَهُ منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب وقيل: تمييز وَوَصَّى بِها أي بالكلمة والملة ويعقوب بالرفع عطف على إبراهيم، فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفا على نبيه فهو موصى أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار، وإسماعيل كان عمه، والعم يسمى أبا وَقالُوا كُونُوا أي قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل
لا نُفَرِّقُ أي لا نؤمن بالبعض دون
__________
(1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى العرباض بن سارية.(1/98)
البعض، وهذا برهان، لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبيّ فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض فَسَيَكْفِيكَهُمُ وعد ظهر مصداقه فقتل بني قريظة وأجلى بني النضير وغير ذلك صِبْغَةَ اللَّهِ أي دينه وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره، ونصبه على الإغراء، وعلى المصدر من المعاني المتقدمة، أو بدل من ملة إبراهيم كَتَمَ شَهادَةً من الشهادة بأن الأنبياء على الحنيفية مِنَ اللَّهِ يتعلق بكتم أو كأن المعنى شهادة تخلصت له من الله.
سَيَقُولُ ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه، إلّا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم السُّفَهاءُ هنا اليهود أو المشركون أو المنافقون ما وَلَّاهُمْ أي ما ولى المسلمين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى وهي بيت المقدس إلى الكعبة لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ردّا عليهم لأنّ الله يحكم ما يريد، ويولي عباده حيث شاء، لأنّ الجهات كلها له وَكَذلِكَ بعد ما هديناكم جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي بأعمالكم، قال عليه الصلاة والسلام أقول كما قال أخي عيسى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] الآية، فإن قيل: لم قدّم المجرور في قوله عليكم شهيدا وأخره في قوله: شهداء على الناس؟ فالجواب: أنّ تقديم المعمولات «1» يفيد الحصر، فقدّم المجرور في قوله: عليكم شهيدا: لاختصاص شهادة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بأمته، ولم يقدّمه في قوله شهداء على الناس لأنه لم يقصد الحصر الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فيها قولان: أحدهما: أنها الكعبة، وهو قول ابن عباس.
والآخر: هو بيت المقدس، وهو قول قتادة وعطاء والسدّي، وهذا مع ظاهر قوله: كنت عليها لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم انصرف عنه إلى الكعبة،
__________
(1) . المعمول: اصطلاح لدى أهل النحو وهو ما عدا الفعل والفاعل.(1/99)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
وأما قول ابن عباس: فتأويله بوجهين: الأوّل: أنّ: كنت بمعنى أنت، والثاني: قيل: إن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم صلّى إلى الكعبة قبل بيت المقدس، وإعراب الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مفعول بجعلنا، أو صفة للقبلة، ومعنى الآية على القولين: اختبار وفتنة للناس بأمر القبلة، وأما على قول قتادة: فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب، لأنهم كانوا يعظمون الكعبة، أو فتنة لمن أنكر تحويلها، وتقديره على هذا: ما جعلنا صرف القبلة، أمّا على قول ابن عباس: فإنّ الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود لأنهم يعظمون بيت المقدس، وهم مع ذلك ينكرون النسخ، فأنكروا صرف القبلة، أو فتنة لضعفاء المسلمين حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة لِنَعْلَمَ أي العلم الذي تقوم به الحجة على العبد وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه الله يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن الارتداد عن الإسلام، وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء وَإِنْ كانَتْ إن مخففة من الثقيلة واسم كان ضمير الفعلة وهي التحوّل عن القبلة إِيمانَكُمْ قيل صلاتكم إلى بيت المقدس واستدل به من قال إنّ الأعمال من الإيمان، وقيل: معناه ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة شَطْرَ الْمَسْجِدِ جهة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ خبر يتضمن النهي ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين لاتحادهم في البطلان وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأنّ اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب والنصارى المشرق يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون القرآن أو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أو أمر القبلة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام معرفتي بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم أشدّ من معرفتي بابني لأنّ ابني قد يمكن فيه الشك لِكُلٍ
أي لكل أحد أو لكل طائفةجْهَةٌ
أي جهة، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان، وقيل: إنه مصدر، وثبت فيه الواو على غير قياس وَمُوَلِّيها
أي موليها وجهه وقرئ مولاها أي ولّاه الله إليها والمعنى أن الله جعل لكل أمة قبلةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أي بادروا إلى الأعمال الصالحات أْتِ بِكُمُ اللَّهُ
أي(1/100)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
يبعثكم من قبوركم
فَوَلِّ وَجْهَكَ الأمر كرر للتأكيد أو ليناط به ما بعده لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ الآية: معناها أنّ الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، فإن أريد اليهود فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يتحوّل إلى الكعبة، فلما صلّى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين، وإن أريد قريش فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي من يتكلم بغير حجة ويعترض التحوّل إلى الكعبة، والاستثناء متصل لأنه استثناء من عموم الناس. ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة وَلِأُتِمَّ متعلق بمحذوف أي فعلت ذلك لأتمّ، أو معطوف على لئلّا يكون كَما أَرْسَلْنا متعلق بقوله لأتمّ، أو بقوله فاذكروني والأول أظهر، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
قال: سعيد بن المسيب: معناه اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب وقيل اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك، وقد أكثر المفسرون، لا سيما المتصوّفة في تفسير هذا الموضع بألفاظ لها معاني مخصوصة، ولا دليل على التخصيص، وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر وبينها قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم كما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه: ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ: ذكرته في ملأ خير منهم» «1» .
والذكر ثلاثة أنواع: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وبهما معا، واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة، وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال: كالصلاة وغيرها فإنّ ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى.
والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه الأوّل النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله» «2» . وسئل رسول الله صلّى الله
__________
(1) . متفق عليه وعزاه المناوي في الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية للبيهقي عن أبي هريرة وروى مسلم بعضه عن أنس.
(2) . رواه الترمذي عن أبي الدرداء ص 459 ج 5.(1/101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
عليه واله وسلّم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ذكر الله، قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟
فقال: لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما: لكان الذاكر أفضل منه «1» . الوجه الثاني: أنّ الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذكر: اشترط فيه الكثرة، فقال: اذكروا الله ذكرا كثيرا، والذاكرين الله كثيرا، ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال الوجه الثالث: أنّ للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره: وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإنّ الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني «2» ، ويقول: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» متفق عليه من حديث أبي هريرة. وفي رواية البيهقي: وأنا معه حين يذكرني.
وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور، وما بين المقامين بون بعيد. فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب.
واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والحمد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والاستغفار، وغير ذلك. ولكل ذكر خاصيته وثمرته. وأما التهليل: فثمرته التوحيد: أعني التوحيد الخاص فإنّ التوحيد العام حاصل لكل مؤمن، وأما التكبير: فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال، وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك: فثمرتها ثلاث مقامات، وهي الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة. فإنّ المحسن محبوب لا محالة. وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتها التوكل على الله والتفويض إلى الله، والثقة بالله: وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك: فثمرتها المراقبة. وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: فثمرتها شدّة المحبة فيه، والمحافظة على اتباع سنته، وأما الاستغفار: فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدّمة.
ثم إنّ ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا:
الله، الله. فهذا هو الغاية وإليه المنتهى
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي بمعونته
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ قيل إنها نزلت في الشهداء المقتولين
__________
(1) . رواه الترمذي في كتاب الدعاء ص 458 ج 5 عن أبي سعيد الخدري وأوله: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، قلت ومن الغازين في سبيل الله؟ قال لو ضرب» .
(2) . قال عنه العجلوني في كشف الخفاء: رواه البيهقي في الشعب عن أبي بن كعب أوله: قال موسى عليه السلام يا رب: أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟ فقيل له يا موسى: أنا ... » .(1/102)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا لما قتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية مبينة لمنزلة الشهداء عند الله وتسلية لأقاربهم، ولا يخصها نزولها فيهم بل حكمها على العموم في الشهداء وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبركم، وحيث ما جاء الاختبار في حق الله فمعناه: أن يظهر في الوجود ما في علمه، لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضا، لأن الله يعلم ما كان وما يكون، والخطاب بهذا الابتلاء للمسلمين، وقيل: لكفار قريش، والأول أظهر لقوله بعد هذا وبشر الصابرين بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ من الأعداء وَالْجُوعِ بالجدب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالخسارة وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ بالجوانح، وقيل ذلك كله بسبب الجهاد إِنَّا لِلَّهِ اللام للملك، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء راجِعُونَ تذكروا الآخرة لتهون عليهم مصائب الدنيا، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: من أصابته مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها أخلف الله له خيرا مما أصابه. قالت أمّ سلمة فلما مات زوجي أبو سلمة قلت ذلك فأبدلني الله به رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم [أخرجه أحمد عن أم سلمة ج 6 ص 358] .
فائدة: ورد ذكر الصبر من القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وذلك لعظمة موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلّا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] . وذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أوّلها: المحبة، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] . والثاني: النصر قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] . والثالث: غرفات الجنة،. قال: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الفرقان: 75] والرابع: الأجر الجزيل قال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الفرقان: 4] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، ففيها البشارة، قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [الزمر: 10] والصلاة والرحمة والهداية أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ والصابرون على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع. وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر، وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها. وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها. وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهرا، وترك الكراهة باطنا، وفوق التسليم: الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلان صغيران بمكة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي معالم دينه واحدها شعيرة أو شعارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ إباحة للسعي بين(1/103)
الصفا والمروة، والسعي بينهما واجب عند مالك والشافعي، وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما، لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك، ثم إنّ السعي بينهما للسنّة، قالت عائشة رضي الله عنها، «سن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم السعي بين الصفا والمروة، وليس لأحد تركه، وقيل: إنّ الوجوب يؤخذ من قوله «شعائر الله» وهذا ضعيف لأنّ شعائر الله: منها واجبة، ومنها مندوبة، وقد قيل: إنّ السعي مندوب يَطَّوَّفَ أصله يتطوف ثم أدغمت التاء في الطاء وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط وَمَنْ تَطَوَّعَ عاما في أفعال البر، وخاصة في الوجوب من السنة أو معنى التطوّع بحج بعد حج الفريضة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم في الكتاب التوراة هنا اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، وقيل: المخلوقات إلّا الثقلين، وقيل: البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق وبينوا أي شرط في توبتهم أن يبينوا لأنهم كتموا وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المؤمنون فهو عموم يراد به الخصوص، لأنّ المؤمنين هم الذين يعتد بلعنهم للكافرين، وقيل يلعنهم جميع الناس خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وقيل في النار وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من أنظر إذا أخر، أي لا يؤخرون عن العذاب ولا يمهلون أو من نظر لقوله: «لا ينظر إليهم» إلّا أن يتعدّى بإلى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها: أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد، والآخر: أنه لا شريك له، والثالث: أنه لا يتبعض ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله لا إله إلّا هو.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولى: توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد. الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني «1» في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلّا الله، ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلّا إياه
__________
(1) . لعل مراد المؤلف رحمه الله: يقع أو يحصل. والله أعلم.(1/104)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، والدرجة الثالثة ألّا يرى في الوجود إلّا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيها على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من التجارة وغيرها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ إرسالها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر، وعقيم، وصر، وللنصر، وللهلاك.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين: إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة، واعلم أنّ سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإنّ الموجب للمحبة أحد أمرين: وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال. الموجب الأوّل الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإنّ الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، والإجمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار، وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.(1/105)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
واعلم أنّ محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه، قال الحارث المحاسبي: المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك، ثم موافقته سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه ولو ترى «1» من رؤية العين والذين ظلموا مفعول، وجواب لو محذوف وهو العامل في أن التقدير لو ترى الذين ظلموا لعلمت أنّ القوّة لله أو لعلموا أنّ القوّة لله، ويرى بالياء، وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب، والذين ظلموا فاعل، وأن القوّة مفعول يرى، وجواب لو محذوف والتقدير لو يرى الذين ظلموا أنّ القوّة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم
إِذْ تَبَرَّأَ بدل من إذ يرون، أو استئناف والعامل فيه محذوف وتقديره اذكر الَّذِينَ اتُّبِعُوا هم الآلهة أو الشياطين أو الرؤساء من الكفار والعموم أولى الْأَسْبابُ هنا الوصلات من الأرحام والمودّات أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي سيادتهم «2» وقيل حسنتهم إذا لم تقبل منهم أو ما عملوا لآلهتهم كُلُوا أمر محمول على الإباحة حَلالًا حال مما في الأرض، أو مفعول بكلوا أو صفة لمفعول محذوف أي: شيئا حلالا طَيِّباً يحتمل أن يريد الحلال خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يأمر به، وأصله من خطوت الشيء. وقال المنذر بن سعيد: يحتمل أن يكون من الخطيئة ثم سهلت همزته، وقرئ بضم الطاء وإسكانها وهي لغتان بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ المعاصي وَأَنْ تَقُولُوا الإشراك وتحريم الحلال كالبحيرة وغير ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ردّا على قولهم: بل نتبع الآية في كفار العرب. وقيل في اليهود: أنهم يتبعونهم ولو كانوا لا يَعْقِلُونَ فدخلت همزة الإنكار على واو الحال وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: في معناها قولان: الأوّل تشبيه الذين كفروا بالبهائم لقلة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم، ولا بد في هذا من محذوف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المحذوف أوّل الآية والتقدير
__________
(1) . حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وأما في المصحف فحسب قراءة حفص: يرى.
(2) . كذا في الأصل ولعل الصواب: سيئاتهم. [.....](1/106)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يصيح بِما لا يَسْمَعُ وهي البهائم التي لا تسمع إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ولا يعقل معنى، والآخر: أن يكون المحذوف بعد ذلك، والتقدير: مثل الذين كفروا كمثل مدعوّ الذي ينعق. ويكون دعاء ونداء على الوجهين مفعولا: يسمع والنعيق: هو زجر الغنم، والصياح عليها، فعلى هذا القول شبه الكفار بالغنم وداعيهم بالذي يزجرها وهو يصيح عليها، الثاني: تشبيه الذين كفروا في دعائهم، وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا، ويكون دعاء ونداء على هذا منعطف: أي أن الداعي يتعب نفسه بالدعاء أو النداء لمن لم يسمعه من غير فائدة، فعلى هذا شبه الكفار بالنعق صم وما بعده راجع إلى الكفار وذلك غير التآويل الأول ورفعوا على إضمار مبتدأ واشكروا الآية: دليل على وجوب الشكر لقوله:
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الْمَيْتَةَ ما مات حتف أنفه، وهو عموم خص منه الحوت «1» والجراد، وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت، ومنعه أبو حنيفة، ومنع مالك الجراد حتى تسيب في بيوتها بقطع عضو منها أو وضعها في الماء وغير ذلك، وأجازه عبد الحكم دون ذلك وَالدَّمَ يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام، ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو حرام سواء ذكّي أو لم يذكّ، وكذلك شحمه بإجماع، وإنما خص اللحم بالذكر، لأنه الغالب في الأكل ولأن الشحم تابع له، وكذلك من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث بخلاف العكس وَما أُهِلَّ بِهِ أي: صيح لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له، ثم استعمل في النية في الذبح لِغَيْرِ اللَّهِ الأصنام وشبهها اضْطُرَّ بالجوع أو بالإكراه، وهو مشتق من الضرورة ووزنه افتعل، وأبدل من التاء طاء غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قيل: باغ على المسلمين، وعاد عليهم، ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة، والمشهور عنه الترخيص له، وقيل: غير باغ باستعمالها من غير اضطرار وقيل: باغ أي متزايد على إمساك رمقه. ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة. قال مالك: بل يشبع ويتزوّد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع للحرج، ويجب على المضطر أكل الميتة لئلا يقتل نفسه بالجوع وإنما تدل الآية على الإباحة لا على الوجوب، وقد اختلف هل يباح له ميتة بني آدم أم لا، فمنعه مالك وأجازه الشافعي لعموم الآية
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار،
__________
(1) . بلغة المغرب يشمل أنواع السمك.(1/107)
فوضع السبب موضع المسبب، وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه عليهم، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من جرأتهم على ما يقودهم إلى النار أو من صبرهم على عذاب النار في الآخرة، وقيل: إنها استفهام، وأصبرهم بمعنى صبرهم، وهذا بعيد، وإنما حمل قائله عليه اعتقاده أن التعجب مستحيل على الله لأنه استعظام خفي سببه، وذلك لا يلزم فإنه في حق الله غير خفي السبب ذلِكَ إشارة إلى العذاب ورفعه بالابتداء أو بفعل مضمر بِأَنَّ اللَّهَ الباء سببية نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن هنا بِالْحَقِّ أي بالواجب، أو بالإخبار الحق أي الصادق، والباء فيه سببية أو للمصاحبة الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اليهود والنصارى، والكتاب على هذا التوراة والإنجيل، وقيل: الذين اختلفوا العرب، والكتاب على هذا القرآن، ويحتمل جنس الكتاب في الموضعين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي بعيد من الحق والاستقامة.
لَيْسَ الْبِرَّ الآية: خطاب لأهل الكتاب لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى: أي إنما البر التوجه إلى الكعبة، وقيل خطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ لا يصح أن يكون خبرا عن البر فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البرّ برّ من أمن أو يكون البر مصدرا وصف به وَآتَى الْمالَ صدقة التطوّع، وليست بالزكاة لقوله بعد ذلك: وآتى الزكاة عَلى حُبِّهِ الضمير عائد على المال لقوله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية وهو الراجح من طريق المعنى. وعود الضمير على الأقرب وهو على هذا تتميم وهو من أدوات البيان، وقيل يعود على مصدر آتى، وقيل على الله ذَوِي الْقُرْبى وما بعده ترتيب بتقديم الأهم فالأهم، والأفضل لأنّ الصدقة على القرابة صدقة وصلة بخلاف من بعدهم. ثم اليتامى لصغرهم وحاجتهم ثم المساكين للحاجة خاصة، وابن السبيل الغريب، وقيل الضعيف، والسائلين وإن كانوا غير محتاجين، وفي الرقاب عتقها وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ أي العهد مع الله ومع الناس وَالصَّابِرِينَ نصب على المدح بإضمار فعل فِي الْبَأْساءِ الفقر وَالضَّرَّاءِ المرض وَحِينَ الْبَأْسِ القتال صَدَقُوا في القول والفعل والعزيمة(1/108)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي شرع لكم، وليس بمعنى فرض، لأنّ ولي المقتول مخيّر بين القصاص والدية والعفو، وقيل: بمعنى فرض أي: فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره كفعل الجهلة. وعلى الحاكم التمكين من القصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ظاهره اعتبار التساوي بين القاتل والمقتول في الحرية والذكورية، ولا يقتل حر بعبد، ولا ذكر بأنثى إلّا أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى، وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذ نصف الدية لأولياء الرجل المقتصّ منه خلافا لمالك وللشافعي وأبو حنيفة، وأما قتل الحرّ بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافا لمالك والشافعي، فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية لا في الذكورية ولا في الحرية لأنها عنده منسوخة، وأخذ مالك بظاهرها في الحرية كما في الذكورية، وتأويلها عنده: أن قوله: الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد عموم يدخل فيه: الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، ثم تكرر قوله: والأنثى بالأنثى:
تأكيد للتجديد، لأنّ بعض العرب إذا قتل منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرا وعدوانا، وقد يتوجّه قول مالك على نسخ جميعها، ثم يكون عدم قتل الحرّ بالعبد من السنة، وهو قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا يقتل حرّ بعبد» «1» ، والناسخ لها على القول بالنسخ: عموم قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] على أن هذا ضعيف، لأنه إخبار عن حكم بني إسرائيل فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الآية: فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها على وفاء، فعلى هذا: من كناية عن القاتل، وأخيه هو المقتول أو واليه، وعفي من العفو من القصاص، وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدّى هنا باللام لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه، وعلى الثاني: من أعطيته الدية فعليه اتباع المعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا: من كناية عن أولياء المقتول، وأخيه هو القاتل أو عاقلته، وعفي بمعنى يسّر: كقوله: خذ العفو أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدّي عفى باللام على هذا المعنى ذلِكَ تَخْفِيفٌ إشارة إلى جواز أخذ الدية، لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية. وإنما هو القصاص فَمَنِ اعْتَدى أي قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية عَذابٌ أَلِيمٌ القصاص منه وقيل: عذاب الآخرة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بمعنى قولهم: القتل أنفى للقتل أي أن القصاص يردع الناس عن القتل، وقيل: المعنى أن القصاص أقل قتلا، لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف ما كان في
__________
(1) . ذكره المناوي في التفسير وعزاه للبيهقي عن ابن عباس وقال: وبه أخذ الشافعي والجمهور وضعفه الذهبي وابن حجر وغيرهما.(1/109)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل والمقتول، حتى يقتل بسبب ذلك جماعة
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت فرضا قبل الميراث ثم نسختها آية الميراث مع قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا وصية لوارث» «1» وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين، وقيل:
معناها الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها وبين المواريث، ولا نسخ، والأوّل أشهر كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي: فرض، والقصد بقوله:
كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وبقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ تسهيل الصيام على المسلمين، وملاطفة جميلة، والذي كتب على الذين من قبلنا الصيام مطلقا، وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه أَيَّاماً منصوب بالصيام وهو مصدر أو بمحذوف، ويبعد انتصابه بتتقون فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: إباحة للفطر مع المرض والسفر، وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب، والتقدير: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، ولم يفعل الظاهرية «2» بهذا المحذوف فرأوا أنّ صيام المسافر والمريض لا يصح، وأوجبوا عليه عدّة من أيام أخر، وإن صام في رمضان، وهذا منهم جهل بكلام العرب، وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وبذلك قال الظاهرية، وحدّه في مشهور مذهب مالك: أربعة برد «3» وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قيل: يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفرون. ثم نسخ جواز الإفطار بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، وقيل: يطيقونه بمشقة كالشيخ الهرم، فيجوز له الفطر فلا نسخ على هذا، فَمَنْ تَطَوَّعَ أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة، وذلك على القول بالنسخ، وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الإطعام، وذلك على القول بعدم النسخ.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر أو بدل من الصيام أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في
__________
(1) . الحديث جزء من خطبة حجة الوداع وقد رواه أحمد عن عمرو بن خارجة ج 4 ص 256.
(2) . أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة 70 كلم.
(3) . أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة 70 كلم.(1/110)
شأنه القرآن: كقولك أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو مع ذلك من مبينات الهدى، وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق وموصوف بالبينات، فالهدى الأوّل هنا على الإطلاق، وقوله من البينات والهدى أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات كقولك:
فلان عالم وجليل من العلماء فَمَنْ شَهِدَ أي كان حاضرا غير مسافر، والشهر منصوب على الظرفية، واليسر والعسر على الإطلاق، وقيل: اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره شرع، أو عطف على اليسر الْعِدَّةَ الأيام التي أفطر فيها وَلِتُكَبِّرُوا التكبير يوم العيد أو مطلقا أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ مقيد بمشيئة الله، وموافقة القدر، وهذا جواب من قال: كيف لا يستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي امتثال ما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة أُحِلَّ لَكُمْ الآية: كان الأكل والجماع محرّما بعد النوم في ليل رمضان، فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولصرمة بن مالك «1» ، فأحلهما الله تخفيفا على عباده الرَّفَثُ هنا الجماع، وإنما تعدّى بإلى لأنه في معنى الإفضاء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ تشبيه بالثياب، لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك، وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم بَاشِرُوهُنَّ إباحة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: الولد يبتغى بالجماع، وقيل: الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض لا للأسود لأنّ الفجر ليس له سواد، والخيط هنا استعارة:
يراد بالخيط الأبيض بياض الفجر، وبالخيط الأسود: سواد الليل، وروي أن قوله من الفجر: نزل بعد ذلك بيانا لهذا المعنى، لأنّ بعضهم جعل خيطا أبيض وخيطا أسود تحت وسادته، وأكل حتى تبين له، فقال له النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إنما هو بياض النهار وسواد الليل إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أوّل الليل، وهو غروب الشمس. فمن أفطر قبل ذلك
__________
(1) . في الطبري: أبو قيس بن صرمة من الخزرج. وقيل: صرمة بن أنس أو أبي أنس.(1/111)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
فعليه القضاء والكفارة، ومن شك هل غربت أم لا فأفطر، فعليه القضاء والكفارة وأيضا وقيل القضاء فقط، وقالت عائشة رضي الله عنها: «إلى الليل» يقتضي المنع من الوصال، وقد جاء ذلك في الحديث وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ تحريم للمباشرة حين الاعتكاف، قال الجمهور:
المباشرة هنا الجماع فما دونه. وقيل الجماع فقط، فِي الْمَساجِدِ دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد خلافا لمن قال: لا اعتكاف إلّا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس: وفيه أيضا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلّا في المساجد، لا في غيرها خلافا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية حُدُودُ اللَّهِ أحكامه التي أمر بالوقوف عندها فَلا تَقْرَبُوها أي لا تقربوا مخالفتها، واستدل بعضهم به على سدّ الذرائع لأنّ المقصود النهي عن المخالفة للحدود لقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] ، ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدّا للذريعة
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم مال بعض بِالْباطِلِ كالقمار، والغصب، وجحد الحقوق وغير ذلك وَتُدْلُوا عطف على: لا تأكلوا، أو نصب بإضمار أن وهو من: أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى: نهى عن أن يحتج بحجة باطلة، ليصل بها إلى أكل مال الناس، وقيل:
نهى عن رشوة الحكام بأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأوّل سببية، وعلى الثاني للإلصاق بِالْإِثْمِ الباء سببية أو للمصاحبة، والإثم على القول الأوّل في تدلوا: إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وعلى القول الثاني: الرشوة.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ سببها أنهم سألوا عن الهلال، وما فائدته ومخالفته لحال الشمس، والهلال ليلتان من أوّل الشهر، وقيل: ثلاث، ثم يقال له قمر مَواقِيتُ جمع ميقات لمحل الديون والأكرية «1» والقضاء والعدد وغير ذلك. ثم ذكر الحج اهتماما بذكره، وإن كان قد دخل في المواقيت للناس وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية: كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، وإنما يدخلون من ظهورها، ويقولون: لا يحول بيننا وبين السماء شيء فنزلت الآية:
إعلاما بأنّ ذلك ليس من البر، وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج لأنه كان عندهم من تمام الحج، وقيل: المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها مما لا فائدة لكم فيه، فتأتون الأمور على غير ما يجب، فعلى هذا البيوت وأبوابها وظهورها استعارة: يراد بالبيوت المسائل، وبظهورها السؤال عما لا يفيد، وأبوابها السؤال عما يحتاج إليه الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تأويله مثل البر من آمن.
__________
(1) . جمع كراء أي إجارة وجمعها أجور، والعدد جمع: عدّة.(1/112)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان القتال غير مباح في أوّل الإسلام، ثم أمر بقتال الكفار الذين يقاتلون المسلمين دون من لم يقاتل، وذلك مقتضى هذه الآية، ثم أمر بقتال جميع الكفار في قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فهذه الآية منسوخة، وقيل:
إنها محكمة وأنّ المعنى: قاتلوا الرجال الذين هم بحال من يقاتلونكم، دون النساء والصبيان الذين لا يقاتلونكم، والأوّل أرجح وأشهر وَلا تَعْتَدُوا أي بقتال من لم يقاتلكم على القول الأول، وبقتال النساء والصبيان على القول الثاني وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، لأن قريشا أخرجوا منها المسلمين وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي فتنة المؤمن عن دينه أشدّ عليه من قتله، وقيل: كفر الكفار أشدّ من قتل المؤمنين لهم في الجهاد عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله: حيث وجدتموهم، وهذا يقوّي نسخ الذين يقاتلونكم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فأسلموا بدليل قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ. وإنما يغفر للكافر إذا أسلم لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يبقى دين كفر الشَّهْرُ الْحَرامُ الآية: نزلت لما صدّ الكفار النبي صلّى الله عليه واله وسلّم عن دخول مكة للعمرة، عام الحديبية في شهر ذي الحجة، فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة، أي: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي حرمة الشهر والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر، والبلد حين صددتم عنها فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تسمية للعقوبة باسم الذنب، أي: قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة من صدّكم عن دخول مكة تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة وقيل: لا تقنطوا من التوبة، وقيل:
لا تقتحموا المهالك، والباء في بأيديكم زائدة، وقيل: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي: أكملوهما إذا ابتدأتم عملهما، قال ابن عباس: إتمامهما إكمال المناسك. وقال عليّ: إتمامهما أن تحرم بهما من دارك، ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ المشهور في اللغة: أحصره المرض، بالألف، وحصره العدوّ. وقيل: بالعكس، وقيل: هما بمعنى واحد، فقال(1/113)
مالك: أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدي «1» ولم يوجبه على من حصره العدوّ، وقال الشافعي وأشهب: «2» يجب الهدي على من حصره العدو، وعمل الآية على ذلك، واستدلا بنحر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم الهدي بالحديبية، وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصر بعدوّ وبمرض فَمَا اسْتَيْسَرَ أي فعليكم ما استيسر من الهدي وذلك شاة، وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطابا للمحصر وغيره فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: نزلت في كعب بن عجرة حين رآه النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فقال له:
لعلك يؤذيك هوامّ رأسك: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة «3» ، فمعنى الآية: أن من كان في الحج واضطره مرض أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النحر جاز له حلقه وعليه صيام أو صدقة أو نسك حسبما تفسر في الحديث، وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج منها إلّا الصيد، والوطء، وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بدّ في الآية من مضمر لا ينتقل الكلام عنه، وهو المسمى فحوى الخطاب، وتقديرها: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه فدية فَإِذا أَمِنْتُمْ أي من المرض على قول مالك، ومن العدوّ على قول غيره، والمعنى: إذا كنتم بحال أمن سواء تقدم مرض أو خوف عدوّ أو لم يتقدم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ التمتع عند مالك وغيره: هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه، فهو قد تمتع بإسقاط أحد السفرين للحج أو العمرة، وقال عبد الله بن الزبير: التمتع هو أن يحصر عن الحج بعدوّ حتى يفوته الحج، فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج من قابل قضاء لحجته، فهو قد تمتع بفعل الممنوعات من الحج، في وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل، وقيل: التمتع هو قران الحج والعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وقتها من إحرامه إلى يوم عرفة فإن فاته صام أيام التشريق إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم أو في الطريق تِلْكَ عَشَرَةٌ فائدته أن السبع تصام بعد الثلاثة فتكون عشرة، ورفع لئلا يتوهم أن السبعة بدل من الثلاثة، وقيل: هو مثل الفذلكة وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا، وقيل: كاملة في الثواب لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني غير أهل مكة وذي طوى بإجماع، وقيل: أهل الحرم كله، وقيل: من كان دون الميقات، وقوله ذلك. إشارة إلى الهدي أو الصيام: أي إنما يجب
__________
(1) . الهدي: هو ما يهدى من الإبل وغيرها ينحر في الحرم.
(2) . هو أحد علماء المالكية أخذ عن مالك واسمه أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي المصري توفي 204 هـ بمصر.
(3) . رواه البخاري ج 2/ 208 كتاب المحصر.(1/114)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
الهدي أو الصيام بدلا منه على الغرباء، لا على أهل مكة، وقيل: ذلك إشارة إلى التمتع.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر وهي: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، وقيل: العشر الأول منه، وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة: فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على قول بجميع الشهر، واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك على كراهة. ولم يجزه الشافعي وداود لتعيين هذا الاسم كذلك فكأنها كوقت الصلاة فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزم بالحج نفسه فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الرفث: الجماع، وقيل الفحش من الكلام، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء مطلقا، وقيل: المجادلة في مواقيت الحج، وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله وَتَزَوَّدُوا قيل: احملوا زادا في السفر، وقيل:
تزوّدوا للآخرة بالتقوى، وهو الأرجح لما بعده فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي التجارة في أيام الحج أباحها الله تعالى، وقرأ ابن عباس: فضلا من ربكم في مواسم الحج أَفَضْتُمْ اندفعتم جملة واحدة مِنْ عَرَفاتٍ اسم علم للموقف، والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف والتأنيث الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي المزدلفة، والوقوف بها سنة كَما هَداكُمْ الكاف للتعليل وَإِنْ كُنْتُمْ إن مخففة من الثقيلة، ولذلك جاء اللام في خبرها مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الهدى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فيه قولان: أحدهما: أنه أمر للجنس وهم قريش ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم، ولا يقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حلّ، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نقف إلّا بالحرم، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس ويفيضوا منها، وقد كان النبي صلى الله عليه واله وسلّم قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقا من الله تعالى له، والقول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس، ومعناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، فثم: على هذا القول على بابها من الترتيب، وأما على القول الأوّل فليست للترتيب، بل للعطف خاصة، قال الزمخشري: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإن معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها أوكد قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فرغتم من أعمال الحج كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأن الإنسان كثيرا ما يذكر آباءه، وقيل: كانت العرب يذكرون(1/115)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
آباءهم مفاخرة عند الجمرة، فأمروا بذكر الله عوضا من ذلك
آتِنا فِي الدُّنْيا كان الكفار إنما يدعون بخير الدنيا خاصة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة حَسَنَةً قيل: العمل الصالح وقيل:
المرأة الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنة نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يحتمل أن تكون من سببية أي لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وجهان: أحدهما أن يراد به سرعة مجيء يوم القيامة، لأن الله لا يحتاج إلى عدّة ولا فكرة وقيل لعليّ رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال كما يرزقهم على كثرتهم فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والذكر فيها:
التكبير في أدبار الصلوات، وعند الجمار وغير ذلك فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار، وأما المتعجل فقيل: يترك رمي الجمار اليوم «1» ، وقيل: يقدّمها في اليوم الثاني فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في الموضعين، قيل إنه إباحة للتعجل والتأخر، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم وهو الذنب للحاج، سواء تعجل أو تأخر لِمَنِ اتَّقى أما على القول بأن معنى: فلا إثم عليه الإباحة، فالمعنى أن الإباحة في التعجيل والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما، فقد أبيح له ذلك من غير إثم، وأمّا على القول: بأن معنى فلا إثم عليه إخبار بغفران الذنوب، فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه، كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «2» فاللام متعلقة إمّا بالغفران أو بالإباحة المفهومين من الآية مَنْ يُعْجِبُكَ الآية قيل نزلت في الأخنس بن شريق، فإنه أظهر الإسلام، ثم خرج فقتل دواب المسلمين وأحرق لهم زرعا، وقيل: في المنافقين، وقيل: عامة في كل من كان على هذه الصفة فِي الْحَياةِ متعلق بقوله:
يعجبك: أي يعجبك ما يقول أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا ويحتمل أن يتعلق بيعجبك وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله أعلم أنّه لصادق. أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة تَوَلَّى أدبر بجسده أو أعرض بقلبه، وقيل: صار واليا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على القول بأنها في الأخنس، فإهلاك الحرث حرقه الزرع، وإهلاك النسل قتله الدواب، وعلى القول
__________
(1) . الثالث.
(2) . أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج 2 ص 640.(1/116)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
بالعموم: فالمعنى مبالغته في الفساد، وعبّر عن ذلك بإهلاك الحرث والنسل لأنهما قوام معيشة ابن آدم، فإنّ الحرث هو الزرع والفواكه وغير ذلك من النبات، والنسل هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ المعنى: أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرا والباء يحتمل أن تكون سببية أو بمعنى مع. وقال الزمخشري: هي كقولك:
أخذ الأمير الناس بكذا أي ألزمهم إياه، فالمعنى حملته العزة على الإثم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها، قيل: نزلت في صهيب. وقيل: على العموم، وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأنّ الذي قبلها فيمن غيّر عليه فلم ينزجر السِّلْمِ بفتح السين المسالمة، والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة، وقيل: هو الإسلام، وكذلك هو بكسر السين «1» ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب، وعلى معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام، وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه، والدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي كَافَّةً عموم في المخاطبين، في شرائع الإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تهديد لمن زل بعد البيان هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ تأويله عند المتأوّلين: يأتيهم عذاب الله في الآخرة، أو أمره في الدنيا، وهي عند السلف الصالح من المتشابه يجب الإيمان بها من غير تكييف ويحتمل أن لا تكون من المتشابه لأنّ قوله: ينظرون بمعنى يطلبون بجهلهم كقولهم: لولا يكلمنا الله فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهي: ما علاك من فوق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال وإن كان لله فهو من المتشابه الْغَمامِ السحاب وَقُضِيَ الْأَمْرُ فرغ منه، وذلك كناية عن وقوع العذاب.
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: على وجه التوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم مِنْ آيَةٍ معجزات موسى، أو الدلالات على نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَمَنْ يُبَدِّلْ وعيد
وَيَسْخَرُونَ كفار قريش سخروا من فقراء المسلمين كبلال وصهيب وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
__________
(1) . كما هي رواية حفص عن عاصم الكوفي.(1/117)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
هم المؤمنون الذين سخر الكفار منهم فَوْقَهُمْ أي أحسن حالا منهم، ويحتمل فوقية المكان، لأنّ الجنة في السماء يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إن أراد في الآخرة، ف مِنَ كناية عن المؤمنين، والمعنى ردّ على الكفار أي إن رزق الله الكفار في الدنيا، فإن المؤمنين يرزقون في الآخرة، وإن أراد في الدنيا فيحتمل أن يكون مِنَ كناية عن المؤمنين أي سيرزقهم، ففيه وعد لهم، وأن تكون كناية عن الكافرين أي أنّ رزقهم في الدنيا بمشيئة الله، لا على وجه الكرامة لهم بِغَيْرِ حِسابٍ إن كان للمؤمنين فيحتمل أن يريد بغير تضييق ومن حيث لا يحتسبون، أو لا يحاسبون عليه، وإن كان للكفار فمن غير تضييق أُمَّةً واحِدَةً أي متفقين في الدين، وقيل: كفارا في زمن نوح عليه السلام، وقيل: مؤمنين ما بين آدم ونوح، أو من كان مع نوح في السفينة وعلى ذلك يقدر: فاختلفوا بعد اتفاقهم، ويدل عليه أمّة واحدة فاختلفوا الْكِتابَ هنا: جنس أو في كل نبيّ وكتابه وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الضمير المجرور يعود على الكتاب، أو على الضمير المجرور المتقدم، وقال الزمخشري: يعود على الحق، وأما الضمير في أوتوه، فيعود على الكتاب، المعنى: تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات بَغْياً أي حسدا أو عدوانا، وهو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أمّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي للحق لما اختلفوا فيه فما بمعنى الذي وقبلها مضاف محذوف، والضمير في اختلفوا لجميع الناس، يريد اختلافهم في الأديان، فهدى الله المؤمنين لدين الحق، وتقدير الكلام: فهدى الله الذين آمنوا لإصابة ما اختلف فيه الناس من الحق، ومن في قوله من الحق لبيان الجنس أي جنس ما وقع فيه الخلاف بِإِذْنِهِ قيل: بعلمه، وقيل بأمره.
أَمْ حَسِبْتُمْ: خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم مَثَلُ الَّذِينَ أي حالهم وعبّر عنه بالمثل لأنه في شدته يضرب به المثل وَزُلْزِلُوا بالتخويف والشدائد ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جوابا للذين قالوا: متى نصر الله؟ وأن يكون إخبارا مستأنفا، وقيل: إن الرسول قال ذلك لما قال الذين معه: متى نصر الله
فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إن أريد بالنفقة الزكاة، فذلك منسوخ والصواب أن المراد التطوّع(1/118)
فلا نسخ، وقدم في الترتيب الأهم فالأهم، وورد السؤال على المنفق، والجواب عن مصرفه لأنه كان المقصود بالسؤال، وقد حصل الجواب عن المنفق في قوله: من خير.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ: إن كان فرضا على الأعيان فنسخه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] فصار القتال فرض كفاية، وإن كان على الكفاية فلا نسخ كُرْهٌ مصدر ذكر للمبالغة، أو اسم مفعول كالخبز بمعنى المخبوز وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا حض على القتال.
الشَّهْرِ الْحَرامِ: جنس وهو أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة وذو الحجة، والمحرم قتال فيه بدل من الشهر وهو مقصود السؤال قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «1» أي ممنوع ثم نسخه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وذلك بعيد فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه وقاتلوا المشركين كافة بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] ، ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام: أي إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أوّل الإسلام، ومن تحريم القتال في الأشهر الحرم وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابتداء، وما بعده معطوف عليه، وأكبر عند الله خبر الجميع، أي أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار: أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام الذي عيّر به الكفار المسلمين سرية عبد الله بن جحش، حين قاتل في أوّل يوم من رجب، وقد قيل:
إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى وَالْمَسْجِدِ عطف على سبيل الله حَتَّى يَرُدُّوكُمْ قال الزمخشري: حتى هنا للتعليل فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ذهب مالك على أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد، سواء رجع إلى الإسلام، أو مات على الارتداد. ومن ذلك انتقاض وضوئه، وبطلان صومه، وذهب الشافعي إلى أنه: لا يحبط إلّا إن مات كافرا لقوله:
فيمت وهو كافر، وأجاب المالكية بقوله حبطت أعمالهم جزاء على الردة، وقوله:
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء على الموت على الكفر، وفي ذلك نظر إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) . كبير هنا بمعنى أمر كبير، أي منكر. راجع الطبري. [.....](1/119)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
الآية: نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه
الْخَمْرِ كل مسكر من العنب وغيره وَالْمَيْسِرِ القمار، وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور، ثم يدخل في ذلك النرد والشطرنج وغيرهما، وروي أن السائل عنهما كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إِثْمٌ كَبِيرٌ نص في التحريم وأنهما من الكبائر «1» ، لأن الإثم حرام لقوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم [الأعراف: 33] خلافا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة لا هذه الآية وَمَنافِعُ في الخمر التلذذ والطرب، وفي القمار: الاكتساب به. ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة قال ابن عباس: المنافع قبل التحريم، والإثم بعده وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ تغليبا للإثم على المنفعة، وذلك أيضا بيان للتحريم قُلِ الْعَفْوَ أي السهل من غير مشقة، وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل مشاكلة للسؤال، على أن يكون ما مبتدأ، وذا خبره تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمرهما وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كانوا قد تجنبوا اليتامى تورّعا، فنزلت إباحة مخالطتهم بالإصلاح لهم، فإن قيل: لم جاء ويسألونك بالواو ثلاث مرات، وبغير واو ثلاث مرات قبلها؟ فالجواب: أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأولى وقع في أوقات مفترقة فلم يأت بحرف عطف وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانتا متناسقة وَاللَّهُ يَعْلَمُ تحذير من الفساد، وهو أكل أموال اليتامى لَأَعْنَتَكُمْ لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم، قال ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى
وَلا تَنْكِحُوا أي لا تتزوّجوا، والنكاح مشترك بين الوطء والعقد الْمُشْرِكاتِ عبّاد الأوثان من العرب، فلا تتناول اليهود ولا النصارى المباح نكاحهن في المائدة، فلا تعارض بين الموضعين، ولا نسخ، خلافا لمن قال: آية المائدة نسخت هذه، ولمن قال:
هذه نسخت آية المائدة فمنع نكاح الكتابيات، ونزول الآية بسبب مرثد الغنوي أراد أن يتزوّج امرأة مشركة وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي أمة لله، حرّة كانت أو مملوكة وقيل: أمة مملوكة خير من حرّة مشركة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ في الجمال والمال وغير ذلك وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوّجوهم نساءكم. وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يتزوّج مسلمة، سواء كان كتابيا أو غيره، واستدل المالكية على وجوب الولاية في النكاح بقوله: ولا
__________
(1) . هذه الآية تمهيد للتحريم بدليل استمرار بعض المسلمين على تناولها حتى نزلت آية المائدة: 90 والله أعلم.(1/120)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
تنكحوا المشركين لأنه أسند نكاح النساء إلى الرجال وَلَعَبْدٌ أي عبد لله، وقيل: مملوك أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إلى الكفر الموجب إلى النار بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو علمه.
وَيَسْئَلُونَكَ سأل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن حضير قال لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ألا نجامع النساء في المحيض، خلافا لليهود هُوَ أَذىً مستقذر، وهذا تعليل لتحريم الجماع في المحيض فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ اجتنبوا جماعهن وقد فسر ذلك الحديث بقوله لتشدّ عليها إزارها، وشأنك بأعلاها حَتَّى يَطْهُرْنَ أي ينقطع عنهن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن بالماء، وتعلق الحكم بالآية الأخيرة عند مالك والشافعي، فلا يجوز عندهما وطء حتى تغتسل، وبالغاية الأولى عند أبي حنيفة فأجاز الوطء عند انقطاع الدم وقبل الغسل، وقرئ حتى يطّهرن بالتشديد، ومعنى هذه الآية بالماء، فتكون الغايتان بمعنى واحد، وذلك حجة لمالك مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قبل المرأة التَّوَّابِينَ من الذنوب الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء أو من الذنوب حَرْثٌ لَكُمْ أي موضع حرث، وذلك تشبيه للجماع في إلقاء النطفة وانتظار الولد: بالحرث في إلقاء البذر وانتظار الزرع أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم من الهيئات أو من شئتم، لا أين شئتم لأنه يوهم الإتيان في الدبر، وقد افترى من نسب جوازه إلى مالك، وقد تبرأ هو من ذلك وقال: إنما الحرث في موضع الزرع وقدموا لِأَنْفُسِكُمْ أي الأعمال الصالحة عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، وأن تبروا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله: أي نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا وتتقوا، وافعلوا البرّ والتقوى دون يمين، فأن تبروا على هذا هو المحلوف عليه، والعرضة على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عرضة ما منع، من قولك: عرض له أمر حال بينه وبين كذا، أي لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فأن تبروا على هذا: علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بعرضة، لأنها بمعنى مانع
بِاللَّغْوِ الساقط وهو عند مالك قولك نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقا للشافعي، وقيل أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه وفاقا لأبي حنيفة وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب، وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة(1/121)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدت، فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدا، وهو حرام إجماعا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافا للشافعي يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن وإنما تعدى بمن. لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله الذين: كل حالف حرّا كان أو عبدا، إلّا أنّ مالك جعل مدّة إيلاء العبد شهرين، خلافا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافا للشافعي في قصر الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليا عند مالك والشافعي، إلّا إذا حلف على مدّة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر: وقف المولي عند مالك والشافعي، فإما فاء وإلّا طلّق، فإن أبى الطلاق: طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر: وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين فَإِنْ فاؤُ رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة عَزَمُوا الطَّلاقَ العزيمة على قول مالك: التطليق أو الإباية فيطلق عليه الحاكم، وعند أبي حنيفة: ترك الفيء حتى تنقضي الأربعة الأشهر، والطلاق في الإيلاء رجعيّ عند مالك، بائن عند الشافعي وأبي حنيفة وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بيان للعدة، وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] . واليائسة والصغيرة بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية [الأحزاب: 49] . والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب:
49] فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي سن من تحيض وقد خص مالك منها الأمة، فجعل عدّتها قرءين ويتربصن خبر بمعنى الأمر ثَلاثَةَ قُرُوءٍ انتصب ثلاثة على أنه مفعول به هكذا قال الزمخشري، وقروء: جمع قرء وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحمله مالك والشافعي على الطهر لقول عائشة: الأقراء هي الأطهار، وحمله أبو حنيفة على الحيض لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدّة، ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ يعني الحمل والحيض، وبعولتهن جمع بعل، وهو هنا الزوج فِي ذلِكَ أي في زمان العدّة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الاستمتاع وحسن المعاشرة دَرَجَةٌ في الكرامة وقيل: الإنفاق وقيل: كون الطلاق بيده
الطَّلاقُ مَرَّتانِ بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه(1/122)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة فَإِمْساكٌ ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء أو بالخبر بِمَعْرُوفٍ حسن المعاشرة وتوفية الحقوق أَوْ تَسْرِيحٌ هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه بِإِحْسانٍ المتعة «1» ، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف وهو بعيد لأنّ قوله تعالى بعد ذلك فَإِنْ طَلَّقَها هو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارا، والطلقة الرابعة لا معنى لها وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية: نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فقال لها أتردّين عليه حديقته، قالت: نعم فدعاه فطلقها على ذلك. وحكمها على العموم. وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية، وهي الخلع، وظاهرها أنه: لا يجوز الخلع إلّا إذا خاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وذلك إذا ساء ما بينهما وقبحت معاشرتهما.
ثم إنّ المخالعة على أربعة أحوال: الأوّل: أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة: فأجازه مالك وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ الآية [النساء: 4] ومنعها قوم لقوله تعالى: إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعا فمنعه مالك في المشهور لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] وأجازه الشافعي لقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية، والرابع:
أن يكون الضرر من الزوج خاصة: فمنعه الجمهور لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء: 20] وأجازه أبو حنيفة مطلقا، وقوله في ذلك مخالف للكتاب والسنة فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام والمتوسطين في هذا الأمر
فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطلاق مرتان حتى تنكح زوجا غيره أجمعت الأئمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول والوطء، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم للمطلقة ثلاثا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك «2» وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء، وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحا لا شبهة فيه، والوطء مباحا في غير حيض ولا إحرام ولا اعتكاف ولا صيام، خلافا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل
__________
(1) . المقصود بها إعطاء المطلقة شيئا من المال أو الملابس تخفيفا لصدمة الطلاق.
(2) . الحديث مشهور وقد رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده: إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.(1/123)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
الزوجة لزوجها عند مالك، خلافا لأبي حنيفة والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجة والزوج الأوّل أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أوامره فيما يجب من حقوق الزوجة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للأزواج، وهي نهي عن أن يطول الرجل العدّة على المرأة مضارة منه لها، بل يرتجع قرب انقضاء العدّة، ثم يطلق بعد ذلك، ومعنى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ في هذا الموضع: قاربن انقضاء العدّة، وليس المراد انقضاؤها، لأنه ليس بيده إمساك حينئذ، ومعنى أمسكوهنّ راجعوهنّ بمعروف هنا قبل: هو الإشهاد وقيل: النفقة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية: هذه الأخرى خطاب للأولياء، وبلوغ الأجل هنا: انقضاء العدّة فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن أي:
يراجعن الأزواج الذين طلقوهن، قال السهيلي: نزلت في معقل بن يسار كان له أخت، فطلقها زوجها ثم أراد مراجعتها وأرادت هي مراجعته، فمنعها أخوها، وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله وذلك أنّ رجلا طلق أخته وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد مراجعتها فمنعها جابر وقال: تركتها وأنت أملك بها، لا زوّجتكها أبدا، فنزلت الآية، والمعروف هنا: العدل، وقيل: الإشهاد، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في نكاح وليته خلافا لأبي حنيفة ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ولكل واحد على حدته، ولذلك وحد ضمير الخطاب ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ خطابا للمؤمنين والإشارة إلى ترك العضل، ومعنى أزكى أطيب للنفس، ومعنى أطهر: أي للدين والعرض
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر بمعنى الأمر، وتقتضي الآية حكمين: الحكم الأوّل: من يرضع الولد؟
المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده، وإن كان والده قد مات وليس للولد مال: لزمها رضاعه في المشهور، وقيل أجرة رضاعه على بيت المال، وإن كانت مطلقة طلاقا بائنا: لم يلزمها رضاعه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] إلّا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل، فإن لم يقبل الطفل غيرها وجب عليها إرضاعه، وقال أبو ثور: يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب، الحكم الثاني: مدة الرضاع وقد ذكرها في قوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وإنما وصفهما(1/124)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
بكاملين لأنه يجوز أن يقال في حول وبعض آخر: حولين، فرفع ذلك الاحتمال، وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الآية، فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فلا جناح عليهما، ومن دعا منهما إلى تمام الحولين: فذلك له، وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له، وقال ابن العباس: إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر، فمن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون، لقوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ في هذه النفقة والكسوة: قولان: أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري وابن العربي، الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وقال منذر بن سعيد البلوطي: هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته، وعلى هذا حملها ابن الفرس بِالْمَعْرُوفِ أي: على قدر حال الزوج في ماله، والزوجة في منصبها، وقد بين ذلك بقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الانعام: 152] لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعهما على الخبر، ومعناها النهي، ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورا قبل الإدغام، أو يكون مسندا إلى المفعول، فيكون مفتوحا، والمعنى على الوجهين: النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، ويدخل في عموم النهي: وجوه الضرر كلها والباء في قوله بولدها وبولده: سببية، والمراد بقوله ولا مولود له الوالد، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلاما بأنّ الولد ينسب له لا للأم وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف في الوارث فقيل: وارث المولود له، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي نفسه، وقيل: من بقي من أبويه، واختلف في المراد بقوله: مثل ذلك فقال مالك وأصحابه: عدم المضارة، وذلك يجري مع كل قول في الوارث لأن ترك الضرر واجب على كل أحد وقيل المراد أجرة الرضاع في النفقة والكسوة ويختلف هذا القول بحسب الإختلاف في الوارث، فأما على القول بأنّ الوارث هو الصبي فلا إشكال لأن أجرة رضاعه في ماله، وأما على سائر الأقوال، فقيل: إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد، وقيل: إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات، أو على وارث الوالد، وهو قول قتادة والحسن البصري وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا إباحة لاتخاذ الغير إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي دفعتم أجرة الرضاع
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً الآية: عموم في كل متوفى(1/125)
عنها، سواء توفي زوجها قبل الدخول أو بعده، إلّا الحامل فعدتها وضع حملها، سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشر أو بعدها عند مالك والشافعي وجمهور العلماء، وقال عليّ بن أبي طالب: عدتها أبعد الأجلين، وخص مالك من ذلك الأمة فعدّتها في الوفاة شهران وخمس ليال، ويتربصن: معناه عن التزويج، وقيل: عن الزينة فيكون أمرا بالإحداد، وإعراب الذين مبتدأ، وخبره: يتربصن على تقدير أزواجهم يتربصن، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وقال الكوفيون: الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزويج والزينة بِالْمَعْرُوفِ هنا إذا كان غير منكر وقيل معناه الإشهاد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الآية: إباحة التعريض بخطبة المرأة المعتدّة، ويقتضي ذلك النهي عن التصريح، ثم أباح ما يضمر في النفس بقوله: أو أكننتم في أنفسكم عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي تذكروهنّ في أنفسكم وبألسنتكم لم يخف عليكم وقيل: أي ستخطبونهنّ إن لم تنتهوا عن ذلك لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تواعدوهنّ في العدة خفية بأن تتزوّجوهنّ بعد العدة، وقال مالك فيمن يخطب في العدّة ثم يتزوّج بعدها: فراقها أحب إليّ، ثم يكون خاطبا من الخطاب، وقال ابن القاسم: يجب فراقها إلّا أن تقولوا قولا معروفا استثناء منقطع، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض: كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إنّ الله سيفعل معك خيرا، وشبه ذلك وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الآية: نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدّة، والكتاب هنا:
القدر الذي شرع فيه من المدّة، ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقا، فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافا للشافعي وأبي حنيفة. لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الآية: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولما نهي عن التزويج بمعنى الذوق، وأمر بالتزويج طلبا للعصمة ودوام الصحبة ظنّ قوم أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك، وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول، وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يفرض لها صداقا وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق، ويؤمر بالمتعة لقوله تعالى: ومتعوهنّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق لقوله تعالى: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ولا متعة عليه، لأنّ المتعة إنما ذكرت فيما لم يفرض لها بقوله: أو تفرضوا أو فيه بمعنى الواو وَمَتِّعُوهُنَّ أي أحسنوا إليهنّ، وأعطوهنّ شيئا عند الطلاق، والأمر بالمتعة(1/126)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
مندوب عند مالك، وواجب عند الشافعي عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ أي يمتع كل واحد على قدر ما يجد، والموسع الغني، الْمُقْتِرِ الضّيق الحال، وقرئ بإسكان دال قدره وفتحها، وهما بمعنى واحد وبالمعروف هنا: أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حقا، وتعلق مالك بالندب في قوله: على المحسنين لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ بيان أن المطلقة قبل البناء لها نصف الصداق إذا كان فرض لها صداق مسمى، بخلاف نكاح التفويض إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ النون فيه نون جماعة النسوة: يريد المطلقات، والعفو هنا بمعنى الإسقاط، أي للمطلقات قبل الدخول نصف الصداق، إلّا أن يسقطنه، وإنما يجوز إسقاط المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ قال ابن عباس ومالك وغيرهما: هو الوالي الذي تكون المرأة في حجره كالأب في ابنته المحجورة، والسيد في أمته، فيجوز له أن يسقط نصف الصداق الواجب لها بالطلاق قبل الدخول، وأجاز شريح إسقاط غير الأب من الأولياء، وقال علي بن أبي طالب والشافعي:
الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق، ولا يجوز عندهما أن يسقط الأب النصف الواجب لابنته، وحجة مالك أن قوله الذي بيده عقدة النكاح في الحال والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح وحجة الشافعي قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن الزوج إذا تطوّع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه فذلك فضل، وأما إسقاط الأب لحق ابنته فليس فيه تقوى لأنه إسقاط حق الغير وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قيل إنه يعني إسقاط المرأة نصف صداقها أو دفع الرجل النصف الساقط عنه، واللفظ أعم من ذلك وَالصَّلاةِ الْوُسْطى جدّد ذكرها بعد دخولها في الصلاة اعتناء بها وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة، والعصر عند عليّ بن أبي طالب لقوله: صلى الله عليه واله وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر «1» ، وقيل: هي الظهر وقيل المغرب، وقيل هي: العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وسميت وسطى لتوسطها في عدد الركعات، وعلى القول بأنها المغرب لأنها بين الركعتين والأربع، أو لتوسط وقتها، وعلى القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار، وعلى القول بأنها الظهر أو الجمعة لأنها في وسط النهار، أو لفضلها من الوسط: وهو الخيار، وعلى هذا يجري اختلاف الأقوال فيها وَقُومُوا لِلَّهِ معناه في صلاتكم قانِتِينَ هنا ساكتين وكانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت، قاله ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وقيل: خاشعين، وقيل: طول القيام
__________
(1) . الحديث مشهور وقد أخرجه أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب وغيره ج 1 ص 138.(1/127)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
فَإِنْ خِفْتُمْ أي من عدوّ أو سبع أو غير ذلك مما يخاف منه على النفس فَرِجالًا جمع راجل أي على رجليه أَوْ رُكْباناً جمع راكب: أي: صلوا كيف ما كنتم من ركوب أو غيره، وذلك في صلاة المسايفة «1» ، ولا تنقص منها عن ركعتين في السفر، وأربع في الحضر عند مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها وهي التامة، وقيل إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل في حال الصلاة، وعلى الثاني بمعنى الشكر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ هذه الآية منسوخة ومعناها:
أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها ثم نسخ إقامتها سنة بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع أو الثمن الذي لها في الميراث حسبما ذكر في سورة النساء، وإعراب وصية مبتدأ، وأزواجهم خبر، أو مضمر تقديره: فعليهم وصية، وقرئت بالنصب على المصدر، تقديره: ليوصوا وصية، ومتاعا نصب على المصدر غَيْرَ إِخْراجٍ أي ليس لأولياء الميت إخراج المرأة فإن خرجت معناه إذا كان الخروج من قبل المرأة فلا جناح على أحد فيما فعلت في نفسها من تزوّج وزينة وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ عام في إمتاع كل مطلقة، وبعمومه أخذ أبو ثور، واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول، وقد فرض لها بالآية المتقدمة منه، واستثنى مالك المختلعة والملاعنة حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يدل على وجوب المتعة وهي الإحسان للمطلقات. لأن التقوى واجبة ولذلك قال بعضهم: نزلت مؤكدة للمتعة لأنه نزل قبلها حقا على المحسنين، فقال رجل:
فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حقا على المتقين.
أَلَمْ تَرَ رؤية قلب إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، وقيل: بل فرّوا من الطاعون وَهُمْ أُلُوفٌ جمع ألف، قيل ثمانون ألفا، وقيل: ثلاثون ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: هو من الألفة، وهو ضعيف فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبارة عن إماتتهم، وقيل: إن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا ثم
__________
(1) . هكذا وجدت في الطبري أيضا ثم بينها بقوله: فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا. هذا في المطاردة.(1/128)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
أحياهم ليستوفوا آجالهم وَقاتِلُوا خطاب لهذه الأمّة، وقيل: للذين أماتهم الله ثم أحياهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ استفهام يراد به الطلب والحض على الإنفاق، وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظر المسلف ردّ ما أسلف، وروي أن الآية نزلت في أبي الدحداح حين تصدّق بحائط لم يكن له غيره قَرْضاً حَسَناً أي خالصا طيبا من حلال من غير منّ ولا أذى فَيُضاعِفَهُ قرئ بالتشديد والتخفيف، وبالرفع على الاستئناف أو عطفا على يقرض، وبالنصب في جواب الاستفهام أَضْعافاً كَثِيرَةً عشرة فما فوقها إلى سبعمائة يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ إخبار يراد به الترغيب في الإنفاق.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ رؤية قلب، وكانوا قوما نالهم الذلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال فلما أمروا به كرهوه لِنَبِيٍّ لَهُمُ قيل اسمه شمويل، وقيل شمعون هَلْ عَسَيْتُمْ أي: قاربتم، وأراد النبي المذكور أن يتوثق منهم، ويجوز في السين من عسيتم الكسر والفتح، وهو أفصح ولذلك انفرد نافع بالكسر، وأما إذا لم يتصل بعسى ضمير فلا يجوز فيها إلّا الفتح طالُوتَ مَلِكاً قال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبيهم إذا دخل عليك رجل فنشّ «1» الدهن الذي في القرن فهو ملكهم، وقال السدّي: أرسل الله إلى نبيهم عصا، وقال له إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم فكان ذلك طالوت وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ روي أنه كان دباغا ولم يكن من بيت الملك، والواو في قوله ونحن واو الحال والواو في قوله: ولم يؤت لعطف الجملة على الأخرى بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ كان عالما بالعلوم وقيل: بالحروب وكان أطول رجل يصل إلى منكبه وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ رد عليهم في اعتقادهم أن الملك يستحق بالبيت أو المال
أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ كان هذا التابوت قد تركه موسى عند يوشع فجعله يوشع في البرية، فبعث الله ملائكة حملته
__________
(1) . نشّ بمعنى: خرج منه صوت كصوت اللحم عند ما يقلى.(1/129)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
فجعلته في دار طالوت، وفيه قصص كثيرة غير ثابتة فِيهِ سَكِينَةٌ قيل رمح فيه رأس ووجه كوجه الإنسان، وقيل طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء وقيل رحمة، وقيل وقار وبقية قال ابن عباس: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقيل: العصا والنعلان وقيل:
ألواح من التوراة آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني: أقاربهما، قال الزمخشري: يعني الأنبياء من بني إسرائيل، ويحتمل أن يريد موسى وهارون، وأقحم الأهل فَصَلَ طالُوتُ أي خرج من موضعه إلى الجهاد بِنَهَرٍ قيل هو نهر في فلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ الآية:
اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب باليد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً رخص لهم في الغرفة باليد، وقرئ بفتح الغين وهو المصدر، وبضمها هو الاسم فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا قيل: كانوا ثمانين ألفا فشربوا منه كلهم إلّا ثلاثمائة وبضعة عشر: عدد أصحاب بدر، فأما من شرب فاشتد عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ كان كافرا عدوّا لهم وهو ملك العمالقة، يظنون أي يوقنون وهم أهل البصائر من أصحابه قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ كان داود في جند طالوت فقتل جالوت، فأعطاه الله ملك بني إسرائيل، وفي ذلك قصص كثيرة غير صحيحة وَالْحِكْمَةَ هنا النبوّة والزبور، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ صنعة الدروع، ومنطق الطيور، وغير ذلك وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الآية: منه على العباد بدفع بعضهم ببعض، وقرئ دفاع بالألف، ودفع بغير ألف، والمعنى متفق.
تِلْكَ الرُّسُلُ الإشارة إلى جماعتهم فَضَّلْنا نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول: كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا تخيروا بين الأنبياء» «1» ، «ولا تفضلوني على يونس بن متى» «2» : فإنّ معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه تنقيص له،
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج 3 ص 40.
(2) . وجدت في مسند أحمد حديثا عن عبد الله بن جعفر وابن عباس ونصه: ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى.(1/130)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح صلّى الله عليه واله وسلّم بفضله على جميع الأنبياء بقوله «أنا سيد ولد آدم» «1» لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قيل: هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لتفضيله على الأنبياء بأشياء كثيرة، وقيل: هو إدريس لقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم:
57] فالرفعة على هذا في المسافة وقيل: هو مطلق في كل من فضله الله منهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الأنبياء، والمعنى: بعد كل نبيّ لا بعد الجميع وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرره تأكيدا وليبنى عليه ما بعده أَنْفِقُوا يعم الزكاة والتطوّع لا بَيْعٌ فِيهِ أي:
لا يتصرف أحد في ماله، والمراد: لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق في الدنيا ويدخل فيه نفي الفدية لأنه بشراء الإنسان نفسه وَلا خُلَّةٌ أي مودّة نافعة لأن كل أحد يومئذ مشغول بنفسه وَلا شَفاعَةٌ أي ليس في يوم القيامة شفاعة إلّا بإذن الله فهو في الحقيقة رحمة من الله للمشفوع فيه، وكرامة للشافع ليس فيها تحكم على الله، وعلى هذا يحمل ما ورد من نفي الشفاعة في القرآن أعني أن لا تقع إلّا بإذن الله فلا تعارض بينه وبين إثباتها، وحيث ما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة، والتخويف بها نفيت الشفاعة على الإطلاق، ومبالغة في التهويل. وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نفيت الشفاعة إلّا بإذنه وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال هكذا، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن حسبما ورد في الحديث، وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح وفي غيره لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية، والفرق بين السنة والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم لا نفسه: كقول القائل:
في عينه سنة وليس بنائم
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ استفهام مراد به نفي الشفاعة إلّا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعة إليه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضمير عائد على من يعقل ممن
__________
(1) . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة 2/ 715.(1/131)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
تضمنه قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ والمعنى: يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم، وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة مِنْ عِلْمِهِ من معلوماته أي لا يعلم عباده من معلوماته إلّا ما شاء هو أن يعلموه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، وهو أعظم من السموات والأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء، وقيل: كرسيه علمه. وقيل: كرسيه ملكه وَلا يَؤُدُهُ أي لا يشغله ولا يشق عليه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه ويدل على ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه، وقيل: معناها الموادعة، وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة في الأجرام هي:
موضع الإمساك وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان لَا انْفِصامَ لَها لا انكسار لها ولا انفصال يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ جمع الطاغوت هنا وأفرد في غير هذا الموضع فكأنه اسم جنس لما عبد من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين وبني آدم الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ هو نمروذ الملك وكان يدّعي الربوبية فقال لإبراهيم: من ربك؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فقال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فقال قد أحييت هذا وأمت هذا، فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ أي انقطع وقامت عليه الحجة، فإن قيل: لم انتقل إبراهيم عن دليله الأوّل إلى هذا الدليل الثاني، والانتقال علامة الانقطاع؟ فالجواب: أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأوّل وهو الإحياء والإماتة كان له حقيقة، وهو فعل الله ومجازا وهو فعل غيره فتعلق نمروذ بالمجاز غلطا منه أو مغالطة، فحينئذ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه أصلا
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ تقديره: أو رأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب،(1/132)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية وهذا المارّ قيل إنه عزير، وقيل الخضر، فقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ليس إنكارا للبعث ولا استبعادا ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيي الموتى، أو سؤال عن كيفية الإحياء وصورته، لا شك في وقوعه، وذلك مقتضى كلمة أنّى فأراه الله ذلك عيانا ليزداد بصيرة، وقيل: بل كان كافرا وقالها إنكارا للبعث واستبعادا، فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه، وذلك أعظم برهان وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي خالية من الناس، وقال السدّي:
سقطت سقوفها وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السقف أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى إحياء أهلها بعد موتهم لأنّ هذا الذي يمكن فيه الشك والإنكار ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما أخربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف كَمْ لَبِثْتَ سؤال على وجه التقرير قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله: يوما فقال: أو بعض يوم فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل كان طعامه تينا وعنبا وأنّ شرابه كان عصيرا ولبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ معناه: لم يتغير، بل بقي على حاله طول مائة عام، وذلك أعجوبة إلهية، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقا من السنة، لأنّ لامها هاء، فتكون الهاء في يتسنه أصلية. أي لم يتغير السنون ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك تسنن الشيء إذا فسد، ومنه الحمأ المسنون، ثم قلبت النون حرف علة كقولهم: قصيت أظفاري، ثم حذف حرف العلة للجازم، والهاء على هذا هاء السكت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قيل: بقي حماره حيا طول المائة عام، دون علف ولا ماء، وقيل: مات ثم أحياه الله، وهو ينظر إليه وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ التقدير: فعلنا بك هذا لتكون آية للناس، وروى أنه قام شابا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخا وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ هي عظام نفسه، وقيل: عظام الحمار على القول بأنه مات ننشرها بالراء نحييها، وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء قالَ أَعْلَمُ بهمزة قطع وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافا، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر أي قال له الملك ذلك
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الآية: قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة، لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات(1/133)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كيف، فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بالمعاينة أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل هي الديك، والطاوس، والحمام، والغراب، فقطعها وخلط أجزاءها ثم جعل من المجموع جزءا على كل جبل، وأمسك رأسها بيده، ثم قال: تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته تسعى حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت بإذن الله فَصُرْهُنَّ أي ضمهن، وقيل: قطّعهن على كل جبل، قيل: أربعة جبال، وقيل سبعة، وقيل: الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظاهره الجهاد، وقد يحمل على جميع وجوه البر كَمَثَلِ حَبَّةٍ كل ما يزرع ويقتات وأشهره: القمح» وفي الكلام حذف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة أو يقدر في آخر الكلام كمثل صاحب حبة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ بيان أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث أن رجلا جاء بناقة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي يزيده على سبعمائة وقيل هو تأكيد وبيان للسبعمائة، والأول أرجح، لأنه ورد في الحديث ما يدل عليه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية:
قيل نزلت في عثمان، وقيل في عليّ وقيل في عبد الرحمن بن عوف مَنًّا وَلا أَذىً المن. ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى السب قول معروف هو ردّ السائل بجميل من القول: كالدعاء له والتأنيس وَمَغْفِرَةٌ عفو عن السائل إذا وجد منه جفاء، وقيل: مغفرة من الله لسبب الردّ الجميل، والمعنى: تفضيل عدم العطاء إذا كان بقول معروف ومغفرة، على العطاء الذي يتبعه أذى
لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عقيدة أهل السنة أن السيئات لا تبطل الحسنات فقالوا في هذه الآية: إنّ الصدقة التي يعلم من صاحبها أنه يمن أو يؤذي لا تقبل منه، وقيل: إنّ المن والأذى دليل على أن نيته لم تكن خالصة، فلذلك بطلت صدقته كَالَّذِي يُنْفِقُ تمثيل لمن يمنّ ويؤذي بالذي ينفق رياء وهو غير مؤمن فَمَثَلُهُ أي مثل المرائي في نفقته كحجر عليه تراب يظنه من يراه أرضا منبتة طيبة، فإذا أنزل عليها المطر انكشف التراب، فيبقى الحجر لا منفعة فيه، فكذلك المرائي يظن أن له أجرا، فإذا كان يوم القيامة انكشف سره ولم تنفعه نفقته صَفْوانٍ حجر كبير وابِلٌ(1/134)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
مطر كثير صَلْداً أملس لا يَقْدِرُونَ أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم وَتَثْبِيتاً أي تيقنا وتحقيقا للثواب لأن أنفسهم لها بصائر تحملهم على الإنفاق، ويحتمل أن يكون معنى التثبيت أنهم يثبتون أنفسهم على الإيمان باحتمال المشقة في بذل المال، وانتصاب ابتغاء على المصدر في موضع الحال وعطف عليه وتثبيتا، ولا يصح في تثبيتا أن يكون مفعولا من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت فامتنع ذلك في المعطوف عليه وهو ابتغاء كَمَثَلِ حَبَّةٍ تقديره: كمثل صاحب حبة أو يقدر ولا مثل نفقة الذي ينفقون بِرَبْوَةٍ لأن ارتفاع موضع الجنة أطيب لتربتها وهوائها فَطَلٌّ الطل الرقيق الخفيف، فالمعنى يكفي هذه الجنة لكرم أرضها أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية: مثل ضرب للإنسان يعمل صالحا، حتى إذا كان عند آخر عمره ختم له بعمل السوء، أو مثل للكافر أو المنافق أو المرائي المتقدّم ذكره آنفا أو ذي المن والأذى، فإنّ كل واحد منهم يظن أنه ينتفع بعمله، فإذا كان وقت حاجة إليه لم يجد شيئا، فشبههم الله بمن كانت له جنة، ثم أصابتها الجائحة المهلكة، أحوج ما كان إليها لشيخوخته، وضعف ذريته، قالوا في قوله: وأصابه الكبر للحال إِعْصارٌ أي ريح فيها سموم محرقة مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والطيبات هنا عند الجمهور: الجيد غير الرديء، فقيل: إنّ ذلك في الزكاة فيكون واجبا وقيل: في التطوع فيكون مندوبا لا واجبا لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء وَمِمَّا أَخْرَجْنا من النبات والمعادن وغير ذلك وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي لا تقصدوا الرديء منه تنفقون في موضع الحال وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ الواو للحال. والمعنى: أنكم لا تأخذونه في حقوقكم وديونكم، إلّا أن تتسامحوا بأخذه وتغمضوا من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه: إذا لم يستوفه وإذا غض بصره الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الآية: دفع لما يوسوس به الشيطان من خوف الفقر، ففي ضمن ذلك حض على الإنفاق، ثم بين عداوة الشيطان بأمره بالفحشاء، وهي المعاصي، وقيل: الفحشاء البخل، والفاحش عند العرب البخيل، قال ابن عباس: في الآية اثنتان من الشيطان واثنتان من الله، والفضل هو الرزق والتوسعة
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قيل:(1/135)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
هي المعرفة بالقرآن، وقيل: النبوة، وقيل: الإصابة في القول والعمل وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية. ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرعا، وما يفعله بعد إلزامه نفسه بالنذر، وفي قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وعد بالثواب، وقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وعيد لمن يمنع الزكاة أو ينفق لغير الله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ هي التطوع عند الجمهور لأنها يحسن إخفاؤها وإبداء الواجبة كالصلوات فَنِعِمَّا هِيَ ثناء على الإظهار، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء وما من نعما في موضع نصب تفسير للمضمر والتقدير: فنعم شيء إبداؤها لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قيل: إنّ المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة، فنزلت الآية مبيحة للصدقة على من ليس على دين الإسلام، وذلك في التطوع، وأما الزكاة فلا تدفع لكافر أصلا، فالضمير في هداهم على هذا القول للكافر، وقيل: ليس عليك أن تهديهم لما أمروا به من الانفاق، وترك المن والأذى والرياء، والانفاق من الخبيث، إنما عليك أن تبلغهم والهدى بيد الله فالضمير على هذا للمسلمين وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي إن منفعته لكم لقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت: 46] وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قيل: إنه خبر عن الصحابة أنهم لا ينفقون إلّا ابتغاء وجه الله، ففيه تزكية لهم وشهادة بفضلهم، وقيل: ما تنفقون نفقة تقبل منكم إلّا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حض على الإخلاص لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف تقديره: الانفاق للفقراء وهم هنا المهاجرون أُحْصِرُوا حبسوا بالعدو، وبالمرض فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل الجهاد والدخول في الإسلام ضَرْباً فِي الْأَرْضِ هو التصرف في التجارة وغيرها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ أي يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لقلة سؤالهم. والتعفف هنا هو عن الطلب. ومن سببية، وقال ابن عطية: لبيان الجنس تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ علامة وجوههم وهي ظهور الجهد والفاقة، وقلة النعمة. وقيل: الخشوع وقيل: السجود لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً الإلحاف: هو الإلحاح في السؤال، والمعنى: أنهم إذا سألوا يتلطفون ولا يلحون، وقيل: هو نفي السؤال والإلحاح معا وباقي الآية وعد
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً تعميم(1/136)
لوجوه الإنفاق وأوقاته، قال ابن عباس: نزلت في عليّ فإنه تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سرا وبدرهم علانية. وقال أبو هريرة: نزلت في علف الخيل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي ينتفعون به، وعبر عن ذلك بالأكل لأنه أغلب المنافع. وسواء من أعطاه أو من أخذه، والربا في اللغة الزيادة، ثم استعمل في الشريعة في بيوعات ممنوعة أكثرها راجع إلى الزيادة، فإنّ غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم: أتقضي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ثم إن الربا على نوعين: ربا النسيئة، وربا التفاضل وكلاهما يكون في الذهب والفضة، وفي الطعام. فأما النسيئة فتحرم في بيع الذهب بالذهب وبيع الفضة بالفضة وفي بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف، وفي الطعام «1» بالطعام مطلقا، وأما التفاضل: فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين ومن الطعام، ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام، ومذهب الشافعي أنه يحرم في كل طعام، ومذهب أبي حنيفة أنه يحرم في المكيل والموزون من الطعام وغيره لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلّا كالمجنون، ويتخبطه يتفعله من قولك: خبط يخبط، والمس الجنون، ومن تتعلق بيقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ تعليل للعقاب الذي يصيبهم، وإنما هذا للكفار، لأن قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا: ردّ على الشريعة وتكذيب للإثم وقد يأخذ العصاة بحظ من هذا الوعيد، فإن قيل: هلا قيل إنما الربا مثل البيع، لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز، فالجواب: أن هذا مبالغة، فإنهم جعلوا الربا أصلا حتى شبهوا به البيع وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عموم يخرج منه البيوع الممنوعة شرعا، وقد عددناها في الفقه ثمانين نوعا وَحَرَّمَ الرِّبا ردّ على الكفار وإنكار للتسوية بين البيع والربا، وفي ذلك دليل على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم تحليل الله وتحريمه فَلَهُ ما سَلَفَ أي له ما أخذ من الربا، أي لا يؤاخذ بما فعل منه قبل نزول التحريم وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الضمير عائد على صاحب الربا، والمعنى أن الله يحكم فيه يوم القيامة، فلا تؤاخذوه في الدنيا، وقيل: الضمير عائد على الربا، والمعنى أن أمر الربا إلى الله في تحريم أو غير ذلك وَمَنْ عادَ الآية: يعني من عاد إلى فعل الربا وإلى القول: إنما البيع مثل الربا،
__________
(1) . الطعام في اللغة هو الحبوب كالقمح والشعير.(1/137)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
ولذلك حكم عليه بالخلود في النار، لأن ذلك القول لا يصدر إلّا من كافر، فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة لكونها في الكفار
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ينقصه ويذهبه وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب كَفَّارٍ أَثِيمٍ أي من يجمع بين الكفر والإثم بفعل الربا، وهذا يدل على أن الآية في الكفار وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا سبب الآية أنه كان بين قريش وثقيف ربا في الجاهلية، فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مكة قال في خطبته: «كل ربا كان في الجاهلية موضوع» «1» ، ثم إنّ ثقيف أرسلت تطلب الربا الذي كان لهم على قريش، فأبوا من دفعه وقالوا: قد وضع الربا.
فتحاكموا إلى عتّاب بن أسيد أمير مكة، فكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فنزلت الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط لمن خوطب به من قريش وغيرهم فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ أي إن لم تنتهوا عن الربا حوربتم ومعنى فأذنوا: اعلموا، وقرئ بالمد [آذنوا] أي أعلموا غيركم، ولما نزلت قالت ثقيف: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون بأخذ زيادة على رؤوس أموالكم، ولا تظلمون بالنقص منها وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان تامة بمعنى حضر ووقع، وقرئ ذا عسرة، أي إن كان الغريم ذا عسرة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ حكم الله للمعسر بالإنظار إلى أن يوسر، وقد كان قبل ذلك يباع فيما عليه، ونظرة مصدر، معناه: التأخير، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره فالجواب: نظرة أو مبتدأ، وميسرة أيضا مصدر وقرئ بضم السين وفتحها وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب الله إلى الصدقة على المعسر بإسقاط الدين عنه فذلك أفضل من إنظاره، وباقي الآية وعظ، وقيل إنّ آخر آية نزلت آية الربا، وقيل بل قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، الآية. وقيل آية الدين المذكورة بعد
إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي إذا عامل بعضكم بعضا بدين، وإنما ذكر الدين وإن كان مذكورا في تداينتم ليعود عليه الضمير في اكتبوه وليزول الاشتراك الذي في تداينتم، إذ يقال لمعنى الجزاء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى دليل على أنه لا يجوز إلى أجل مجهول، وأجاز مالك البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه
__________
(1) . تحريم الربا كان ضمن خطبة حجة الوداع فانظرها في كتب السيرة وموضوع يعني: باطل.(1/138)
معروف عند الناس، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، قال ابن عباس: نزلت الآية في السلم خاصة يعني: أن سلّم أهل المدينة كان سبب نزولها، قال مالك وهذا يجمع الدين كله، يعني: أنه يجوز التأخير في السلم والسلف وغيرهما فَاكْتُبُوهُ ذهب قوم إلى أن كتابة الدين واجبة بهذه الآية، وقال قوم: إنها منسوخة لقوله: فإن أمن بعضكم بعضا وقال قوم:
إنها على الندب وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ قال قوم: يجب على الكاتب أن يكتب، وقال قوم نسخ ذلك بقوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد، وقال آخرون: يجب عليه إذا لم يوجد كاتب سواه، وقال قوم: إنّ الأمر بذلك على الندب، ولذلك جاز أخذ الأجرة على كتب الوثائق بِالْعَدْلِ يتعلق عند ابن عطية بقوله: وليكتب، وعند الزمخشري بقوله: كاتب فعلى الأوّل: تكون الكتابة بالعدل، وإن كان الكاتب غير مرضيّ، وعلى الثاني: يجب أن يكون الكاتب مرضيا في نفسه، قال مالك: لا يكتب الوثائق إلّا عارف بها، عدل في نفسه مأمون وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ نهي عن الإباية، وهو يقوّي الوجوب كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ يتعلق بقوله أن يكتب، والكاف للتشبيه أي: يكتب مثل ما علمه الله أو للتعليل: أي ينفع الناس بالكتابة كما علمه الله لقوله: أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] وقيل: يتعلق بقوله بعدها فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ يقال أمللت الكتاب، وأمليته، فورد هنا على اللغة الواحدة، وفي قوله تملي عليه على الأخرى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لأنّ الشهادة إنما هي باعترافه، فإن كتب الوثيقة دون إملاله، ثم أقرّ بها جاز وَلا يَبْخَسْ أمر الله بالتقوى فيما يملي، ونهاه عن البخس وهو نقص الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ السفيه الذي لا يحسن النظر في ماله، والضعيف الصغير وشبهه، والذي لا يستطيع أن يمل الأخرس وشبهه وَلِيُّهُ أبوه، أو وصيه، والضمير عائد على الذي عليه الحق وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم، ولذلك أجاز ابن حنبل شهادتهم، ومنعها مالك والشافعي لنقص الرق فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ قال قوم: لا تجوز شهادة المرأتين إلّا مع الرجال، وقال معنى الآية: إن لم يكونا أي إن لم يوجدا وأجاز الجمهور أن المعنى إن لم يشهد رجلان، فرجل وامرأتان، وإنما يجوز عند مالك شهادة الرجل والمرأتين في الأموال لا في غيرها، وتجوز شهادة المرأتين دون رجل، فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والاستهلال، وعيوب النساء، وارتفع رجل بفعل مضمر تقديره: فليكن رجل، فهو فاعل، أو تقديره: فليستشهد رجل فهو مفعول لم يسم فاعله، أو بالابتداء تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ صفة للرجل والمرأتين، وهو مشترط أيضا في الرجلين الشاهدين، لأن الرضا مشترط في الجميع وهو(1/139)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
العدالة، ومعناها اجتناب الذنوب الكبائر، وتوقي الصغائر مع المحافظة على المروءة أَنْ تَضِلَّ مفعول من أجله، والعامل فيه هو المقدر العامل في رجل وامرأتان والضلال في الشهادة هو نسيانها أو نسيان بعضها، وإنما جعل ضلال إحدى المرأتين مفعولا من أجله، وليس هو المراد، لأنه سبب لتذكير الأخرى لها وهو المراد، فأقيم السبب مقام المسبب، وقرئ: إن تضل: بكسر الهمزة على الشرط، وجوابه الفاء في فتذكر، ولذلك رفعه من كسر الهمزة، ونصبه من فتحها على العطف، وقرئ تذكر بالتشديد والتخفيف، والمعنى واحد وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ أي لا يمتنعون إِذا ما دُعُوا إلى أداء الشهادة، وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجب إذا دعي إليها، وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها. وقيل: إلى الأمرين وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيرا أو كبيرا، ونصب صغيرا على الحال ذلِكُمْ إشارة إلى الكتابة أَقْسَطُ من القسط وهو العدل (وأقوم) بمعنى أشد إقامة، وينبني أفعل فيهما من الرباعي وهو قليل وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى عدم الشك في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل، والمعنى: إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، وهو ما يباع بالنقد وغيره، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يقتضي القبض والبينونة وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ذهب قوم إلى وجوب الإشهاد على كل بيع صغيرا أو كبيرا، وهم الظاهرية، خلافا للجمهور. وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: فإن أمن بعضكم بعضا، وذهب قوم إلى أنه على الندب وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل أن يكون كاتب فاعلا على تقدير كسر الراء المدغمة من يضارّ، والمعنى على هذا نهي للكاتب والشاهد أن يضارّ صاحب
الحق أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة أو الشهادة، ويحتمل أن يكون كاتب مفعولا لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، «لا يضارر» بالتفكيك وفتح الراء، والمعنى: النهي عن الإضرار بالكاتب والشاهد بإذايتهما بالقول أو بالفعل وَإِنْ تَفْعَلُوا أي إن وقعتم في الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ حال بكم وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ إخبار على وجه الامتنان، وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه، لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ الآية: لما(1/140)
أمر الله تعالى بكتب الدين: جعل الرهن توثيقا للحق، عوضا عن الكتابة، حيث تتعذر الكتابة في السفر، وقال الظاهرية: لا يجوز الرهن إلّا في السفر لظاهر الآية. وأجازه مالك وغيره في الحضر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رهن درعه بالمدينة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله. وأجاز مالك والجمهور وضعه على يد عدل، والقبض للرهن شرط في الصحة عند الشافعي وغيره، لقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ وهو عند مالك شرط كمال لا صحة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الآية: أي إن أمن صاحب الحق المدين لحسن ظنه به، فليستغن عن الكتابة وعن الرهن، فأمر أولا بالكتابة، ثم بالرهن ثم بالائتمان، فللدين ثلاثة أحوال ثم أمر المديان بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ محمول على الوجوب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ معناه: قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خبر إن، وقلبه فاعل به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، وآثم خبره، وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كان جملة الكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القلب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية: مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواء أبدوه أم أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن يشاء الله أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكال لمعارضته لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها» «1» ، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أنه لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا هلكنا إن حوسبنا على خواطر أنفسنا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا» ، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها، فكشف الله عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية، وقيل: هي في معنى كتم الشهادة وإبدائها، وذلك محاسب به، وقيل يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين، والصحيح التأويل الأوّل لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضا عن ابن عباس وغيره، فإن قيل: إنّ الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فالجواب: أنّ النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبر، ومعناها حكم فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ قرئ بجزمهما عطفا على يحاسبكم وبرفعهما «2» على تقدير فهو يغفر
__________
(1) . أخرجه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 561 وفيه: ما لم تكلم به.
(2) . قرأ عاصم وابن عامر بالرفع والباقون بالجزم عطفا على: يحاسبكم.(1/141)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
آمَنَ الرَّسُولُ الآية سببها ما تقدّم في حديث أبي هريرة: لما قالوا سمعنا وأطعنا مدحهم الله بهذه الآية، وقدّم ذلك قبل كشف ما شق عليهم وَالْمُؤْمِنُونَ عطف على الرسول أو مبتدأ، فعلى الأوّل يوقف على المؤمنون وعلى الثاني يوقف على من ربّه والأوّل أحسن كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إن كان المؤمنون معطوفا فكل عموم في الرسول والمؤمنون، وإن كان مبتدأ فكل عموم في المؤمنين ووحد الضمير في آمن على معنى أن كل واحد منهم آمن وَكُتُبِهِ قرئ «1» بالجمع أي كل كتاب أنزله الله، وقرئ بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ التقدير يقولون: لا نفرّق، والمعنى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وبين غيره في الإيمان بل نؤمن بجميعهم، ولسنا كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا حكاية عن قول المؤمنين على وجه المدح لهم غُفْرانَكَ مصدر، والعامل فيه مضمر ونصبه على المصدرية تقديره اغفر غفرانك، وقيل على المفعولية تقديره: نطلب غفرانك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إقرار بالبعث مع تذلل وانقياد، وهنا تمت حكاية كلام المؤمنين
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إخبار من الله تعالى برفع تكليف ما لا يطاق، وهو جائز عقلا عند الأشعرية ومحال عقلا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة لَها ما كَسَبَتْ أي من الحسنات وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي من السيئات، وجاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع بالعبد به، وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر العبد، وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشرّ اكتسبت، لأنّ في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله، ويتعدّاه بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادّة من غير تكلف أو لأنّ السيئات يجدّ في فعلها لميل النفس إليها، فجعلت لذلك مكتسبة، ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك: وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي قولوا ذلك في دعائكم ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكاية قولهم كما حكى عنهم قولهم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، والنسيان هنا هو ذهول القلب على الإنسان، والخطأ غير العمد فذلك معنى قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» «2» وقد كان يجوز أن يأخذ به لولا أنّ الله رفعه وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً التكاليف الصعبة، وقد كانت لمن تقدّم من الأمم كقتل أنفسهم، وقرض أبدانهم، ورفعت عن هذه الأمة. قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم. وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي: وكتابه بالافراد والباقون بالجمع. [.....]
(2) . قال المناوي في التيسير: رواه الطبراني عن ثوبان وهو حديث حسن وقيل بضعفه ولكنه يتقوى بكثرة شواهده.(1/142)
وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع. ثم إنّ الشرع دفع وقوعه. وتحقيق ذلك أنّ ما لا يطاق. أربعة أنواع:
الأوّل: عقلي محض: كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن. فهذا جائز وواقع بالاتفاق. والثاني: عاديّ كالطيران في الهواء. والثالث: عقلي وعادي: كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه، والرابع تكليف ما يشق ويصعب، فهذا جائز اتفاقا، فقد كلفه الله من تقدّم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمّة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أنّ العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام مَوْلانا ولينا وسيدنا.(1/143)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
سورة آل عمران
مدنية وآياتها 200 نزلت بعد الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة آل عمران) نزل صدرها إلى نيف وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنوّرة يناظرون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في عيسى عليه السلام الم تقدّم الكلام على حروف الهجاء وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل لالتقاء الساكنين نحو من الناس، وقال الزمخشري: هي حركة الهمزة نقلت إلى الميم وهذا ضعيف لأنها ألف وصل تسقط في الدرج الْحَيُّ الْقَيُّومُ ردّ على النصارى في قولهم إنّ عيسى هو الله لأنهم زعموا أنه صلب، فليس بحيّ وليس بقيوم الْكِتابَ هنا هو القرآن بِالْحَقِّ أي تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها أو بالاستحقاق مُصَدِّقاً قد تقدّم في مصدّقا لما معكم بَيْنَ يَدَيْهِ الكتب المتقدّمة التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أعجميان فلا يصح ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني القرآن وإنما كرر ذكره ليصفه بأنه الفارق بين الحق والباطل، ويحتمل أن يكون ذكره أولا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم ذكره ثانيا: على وجه الامتنان بالهدى به، كما قال في التوراة والإنجيل هدى للناس، فكأنه قال: وأنزل الفرقان هدى للناس ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأول عليه، فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارا، وقيل: الفرقان هنا كل ما فرق بين الحق والباطل من كتاب وغيره، وقيل: هو الزبور، وهذا بعيد لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ خبر عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى، ولا لغيره، ففي ذلك ردّ على النصارى هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ برهان على إثبات علم الله المذكور قبل، وفيه ردّ على النصارى لأن عيسى لا يقدر على التصوير، بل كان مصوّرا كسائر بني آدم كَيْفَ يَشاءُ من طول، وقصر، وحسن، وقبح، ولون وغير ذلك
مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم من القرآن: هو البيّن المعنى، الثابت الحكم، والمتشابه: هو(1/144)
الذي يحتاج إلى التأويل، أو يكون مستغلق المعنى: كحروف الهجاء، قال ابن عباس:
المحكمات: الناسخات والحلال والحرام، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر، وهو تمثيل لما قلنا هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي عمدة ما فيه ومعظمه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه، وقيل:
نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي ليفتنوا به الناس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي:
يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ مقطوع مما قبله، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون: آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوف على ما قبله، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مروي عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح، وقال ابن عطية: المتشابه نوعان نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول، وعطفا بالنظر إلى الثاني كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: المحكم والمتشابه من عند الله رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا حكاية عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعا على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام، وأما قوله: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: فهو من كلام الله تعالى، لا حكاية قول الراسخين.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ استدلال على البعث، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين.
أو منقطعا فهو من كلام الله كَدَأْبِ في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب آلِ فِرْعَوْنَ وفي ذلك تهديد وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آل فرعون، ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير عائد على آل فرعون بِآياتِنا البراهين أو الكتاب سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ قرئ بتاء الخطاب ليهود المدينة، وقيل لكفار قريش، وقرئ «1» بالياء إخبارا عن
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي: سيغلبون ويحشرون بالياء والباقون بالتاء.(1/145)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
يهود المدينة، وقيل: عن قريش وهو صادق على كل قول، أما اليهود فغلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع، وأما قريش ففي بدر وغيرها. والأشهر أنها في بني قينقاع لأن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر، فقالوا له: لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال فلو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فنزلت الآية. ثم أخرجهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم من المدينة
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ قيل: خطاب للمؤمنين وقيل: لليهود، وقيل: لقريش والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم: ستغلبون. ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ المسلمون والمشركون يوم بدر يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرئ:
ترونهم بالتاء «1» خطابا لمن خوطب بقوله: قد كان لكم آية. والمعنى: ترون الكفار مثلي المؤمنين.
ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم، وقرئ بالياء. والفاعل في يرونهم المؤمنون، والمفعول به هم المشركون. والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم. فإن قيل:
إنّ الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين فالجواب من وجهين أحدهما: أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين، لأن الكفار كانوا قريبا من ألف، والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر. ثم إنّ الله تعالى قلّل عدد الكفار في أعين المؤمنين حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين، ليتجاسروا على قتالهم، إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للإثنين من قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] ، وهذا المعنى موافق لقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال: 44] ، والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلا، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين، وقيل: إنّ الفاعل في يرونهم ضمير المشركين، والمفعول ضمير المؤمنين. وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين.
والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين. وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم، ويرد هذا قوله تعالى، ويقللكم في أعينهم رَأْيَ الْعَيْنِ نصب على المصدرية، ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان.
ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار «2» ، وهو ألف ومائتا أوقية، وقيل: ألف
__________
(1) . وهي قراءة نافع.
(2) . القنطار 1200 أوقية. الأوقية: 40 درهما، الدرهم: 4 غرامات تقريبا:(1/146)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
ومائتا مثقال، وكلاهما مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الْمُقَنْطَرَةِ مبنية من لفظ القناطير وللتأكيد كقولهم: ألوف مؤلفة، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم الْمُسَوَّمَةِ الراعية من قولهم: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح، وقيل: المعلمة في وجوهها شيات فهي من السمات بمعنى العلامات وقيل: المعدة للجهاد ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تحقير لها ليزهد فيها الناس قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ تفضيل للآخرة على الدنيا ليرغب فيها. وتمام الكلام في قوله: من ذلكم ثم ابتدأ قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا تفسيرا لذلك، فجنات على هذا مبتدأ وخبره لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وقيل:
إن قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلق بما قبله. وتمام الكلام في قوله: عند ربهم، فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ زيادة إلى نعيم الجنة، وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث «1» الَّذِينَ يَقُولُونَ نعت للذين اتقوا، ورفع بالابتداء، أو نصب بإضمار فعل الصَّادِقِينَ في الأقوال والأفعال وَالْقانِتِينَ العابدين والمطيعين وَالْمُسْتَغْفِرِينَ الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نستغفر؟ فقال: قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم بِالْأَسْحارِ جمع سحر وهو آخر الليل يقال: إنه الثلث الأخير، وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذ: «من يستغفرني فأغفر له» شَهِدَ اللَّهُ الآية: شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل: معناها إعلامه لعباده بذلك وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية، ويعني بأولي العلم: العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته قائِماً منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح بِالْقِسْطِ بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرر التهليل لوجهين: أحدهما: أنه ذكر أولا الشهادة بالوحدانية، ثم ذكرها ثانيا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة، والآخر: أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة ابتداء، وبفتحها بدل من أنه، وهو بدل شيء من شيء، لأن التوحيد هو الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ الآية: إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي، وهو الحسد، والآية في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل: فيهما سَرِيعُ الْحِسابِ قد تقدّم معناه في البقرة وهو هنا تهديد، ولذلك وقع في جواب من يكفر
فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين،
__________
(1) . رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي هريرة وأدلة: ينزل ربنا ... 521/ 1.(1/147)
والضمير لليهود ونصارى نجران أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي أخلصت نفسي وجملتي لِلَّهِ وعبّر بالوجه على الجملة ومعنى الآية: إقامة الحجة عليهم لأن من أسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك، فسقطت حجة من خالفه وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت ويجوز أن يكون مفعولا معه أَأَسْلَمْتُمْ تقرير بعد إقامة الحجة عليهم أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي: إنما عليك أن تبلغ رسالة ربك، فإذا أبلغتها فقد فعلت ما عليك، وقيل: إن فيها موادعة نسختها آية السيف إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية:
نزلت في اليهود والنصارى توبيخا لهم، ووعيدا على قبح أفعالهم، وأفعال أسلافهم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود، والكتاب هنا التوراة، أو جنس يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: دخل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد، فقالوا له على أي دين أنت؟ فقال لهم: على دين إبراهيم، فقالوا: إنّ إبراهيم كان يهوديا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم:
فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه فنزلت الآية، فكتاب الله على هذا التوراة، وقيل: هو القرآن: كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يدعوهم إليه فيعرضون عنه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية: والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم، والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ
أي: كيف يكون حالهم يوم القيامة، والمعنى: تهويل واستعظام لما أعدّ لهم اللَّهُمَّ منادى، والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين، ولذلك لا يجتمعان، وقال الكوفيون: أصله يا الله أمّنا بخير فالميم عندهم من أمّنا مالِكَ الْمُلْكِ منادى عند سيبويه، وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله وقيل إنّ الآية نزلت ردّا على النصارى في قولهم: إنّ عيسى هو الله «لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى، وقيل: لما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر:
استبعد ذلك المنافقون، فنزلت الآية بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل: المراد بيدك الخير والشر، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقيل: إنما خص الخير بالذكر، لأنّ الآية في معنى دعاء ورغبة(1/148)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
فكأنه يقول: بيدك الخير فأجزل حظي منه
تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال عبد الله بن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة، وقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وقيل: يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، فالحياة والموت على هذا استعارة، وفي ذكر الحي من الميت المطابقة، وهي من أدوات البيان، وفيه أيضا القلب لأنه قدم الحيّ على الميت، ثم عكس بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تضييق وقيل: بغير محاسبة لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الآية. عامة في جميع الأعصار، وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود، وقيل: كتاب حاطب إلى مشركي قريش فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ تبرؤ ممن فعل ذلك، ووعيد على موالاة الكفار، وفي الكلام حذف تقديره: ليس من التقرب إلى الله في شيء، وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله، قاله ابن عطية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم، والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن تُقاةً وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين. وفاؤه واو، وأبدل منها تاء، ولامه ياء أبدل منها ألف، وهو منصوب على المصدرية، ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تخويف يَوْمَ تَجِدُ منصوب على الظرفية، والعامل فيه فعل مضمر تقديره: أذكروا أو خافوا وقيل: العامل فيه قدير، وقيل: المصير، وقيل: يحذركم وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مبتدأ خبره تودّ، أو معطوف أَمَداً أي مسافة وَاللَّهُ رَؤُفٌ ذكر بعد التحذير تأنيسا لئلا يفرط [في] الخوف، أو لأن التحذير والتنبيه رأفة فَاتَّبِعُونِي جعل اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له، وقيل إنّ الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى الآية: لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه، وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه السلام، وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما السلام تكميلا للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء، ثم ذكر إبراهيم تدريجا إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: إنّ عمران هنا هو والد موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، والأظهر أن المراد هنا والد مريم، لذكر قصتها بعد ذلك(1/149)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ يحتمل أن يريد بآل: القرابة، أو الأتباع، وعلى الوجهين يدخل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في آل إبراهيم ذُرِّيَّةً بدل مما تقدم أو حال ووزنه فعلية منسوب إلى الذر أي النمل. لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، إِذْ قالَتِ العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا، وقيل: عليم، وقال الزجّاج: العامل فيه معنى الاصطفاء امْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بالنون، وهي أم مريم، وعمران هذا هو والد مريم نَذَرْتُ أي: جعلت نذرا عليّ أن يكون هذا الولد في بطني حبسا على خدمة بيتك، وهو بيت المقدس مُحَرَّراً أي عتيقا من كل شغل إلّا خدمة المسجد فَلَمَّا وَضَعَتْها الآية. كانوا لا يحررون الإناث للقيام بخدمة المساجد، فقالت: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى تحسرا وتلهفا على ما فاتها من النذر الذي نذرت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرئ وضعت بإسكان التاء وهو من كلام الله تعظيما لوضعها وقرئ بضم التاء «1» وإسكان العين وهو على هذا من كلامها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يحتمل أن يكون من كلام الله، فالمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لك، وأن يكون من كلامها فالمعنى: ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث سَمَّيْتُها مَرْيَمَ إنما قالت لربها سميتها مريم لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، ويؤخذ من هذا تسمية المولود يوم ولادته، وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث، وفيه أيضا العجمة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ ورد في الحديث «ما من مولود إلّا نخسه الشيطان يوم ولد فيستهل صارخا إلّا مريم وابنها» «2» ، لقوله: وإني أعيذها بك: الآية
فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي رضيها للمسجد مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مصدرا على غير المصدر، والآخر: أن يكون اسما لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً عبارة عن حسن النشأة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا «3» أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها، وقرئ كفلها بتشديد الفاء، ونصب زكريا: أي جعله الله كافلها الْمِحْرابَ في اللغة: أشرف المجالس، وبذلك سمي موضع الإمام، ويقال: إنّ زكريا بنى لها غرفة في المسجد، وهي المحراب هنا، وقيل:
المحراب موضع العبادة وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة
__________
(1) . هي قراءة ابن عامر وأبو بكر والباقون سكون التاء.
(2) . أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج 2 ص 362.
(3) . وكفلها: بدون تشديد الفاء حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وغيره وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد.(1/150)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
الصيف في الشتاء، ويقال: إنها لم ترضع ثديا قط، وكان الله يرزقها أَنَّى لَكِ هذا إشارة إلى مكان أي: كيف ومن أين؟ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ يحتمل أن يكون من كلام مريم أو من كلام الله تعالى هُنالِكَ إشارة إلى مكان، وقد يستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا أي: لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم: سأل من الله الولد فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أنث رعاية للجماعة، وقرئ فناداه بالألف «1» على التذكير، وقيل: الذي ناداه جبريل وحده وإنما قيل الملائكة:
لقولهم: فلان يركب الخيل، أي جنس الخيل وإن كان فرسا واحدا يحيى اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد، وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقا وبناء في العربية، وهو لا ينصرف، فإن كان في الإعراب أعجميا ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي مصدقا بعيسى عليه السلام مؤمنا به، وسمي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلّا بكلمة الله وحدها وهي قوله: كن لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم وَسَيِّداً السيد، الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف والفضل وَحَصُوراً أي لا يأتي النساء فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجّب استبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويقال: كان له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون سنة، وفاستبعد ذلك في العادة، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك، فسأله مع علمه بقدرة الله، واستبعده لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو شاب، وأجيب وهو شيخ، ولذلك استبعده كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي مثل هذه الفعلة العجيبة، يفعل الله ما يشاء فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلة، والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوع بالابتداء، أو كذلك خبره فيجب وصله معه، وقيل: الخبر يفعل الله ما يشاء، ويحتمل كذلك على هذا وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: يفعل ما يشاء مع ما قبله، ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله: كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: 102]
اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على حمل المرأة آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي علامتك أن
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي فناداه بألف مع الإمالة.(1/151)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
لا تقدر على كلام الناس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بمنع لسانه عن ذلك مع إبقاء الكلام بذكر الله، ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكرا على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر إِلَّا رَمْزاً إشارة باليد أو بالرأس أو غيرهما، فهو استثناء منقطع بِالْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى غروبها، والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى.
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ اختلف، هل المراد جبريل أو جمع من الملائكة؟ والعامل في إذ مضمر اصْطَفاكِ أولا حين تقبلك من أمك وَطَهَّرَكِ من كل عيب في خلق وخلق ودين وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصا بأن وهب لها عيسى من غير أب، فيكون على نساء العالمين عاما، أو يكون الاصطفاء عاما فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة، أو يكون المعنى: على نساء زمانها وقد قيل:
بتفضيلها على الإطلاق، وقيل: إنها كانت نبية لتكليم الملائكة لها اقْنُتِي القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة، وقيل: طول القيام في الصلاة وهو قول الأكثرين وَاسْجُدِي وَارْكَعِي أمرت بالصلاة فذكر القنوت والسجود لكونها من هيئة الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: اركعي مع الراكعين بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين، أو في الجماعة فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع، لأنه لم يرد الركوع والسجود المنضمين في ركعة واحدة، وقيل أراد ذلك، وقدم السجود لأن الواو لا ترتب، ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من القصص وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ احتجاجا على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لكونه أخبر بهذه الأخبار وهو لم يحضر معهم يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي أزلامهم، وهي قداحهم، وقيل: الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اقترعوا بها على كفالة مريم، حرصا عليها وتنافسا في كفالتها، وتدل الآية على جواز القرعة، وقد ثبتت أيضا من السنة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر في موضع نصب بفعل تقديره: ينظرون أيهم يَخْتَصِمُونَ يختلفون فيمن يكفلها منهم
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ إذ بدل من إذ قالت، أو من إذ يختصمون، والعامل فيه مضمر اسْمُهُ أعاد الضمير المذكر على الكلمة، لأن المسمى بها ذكر الْمَسِيحُ قيل: هو مشتق من ساح في الأرض، فوزنه مفعل، وقال الأكثرون: من مسح لأنه مسح بالبركة فوزنه فعيل وإنما قال: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم لينسبه إليها، إعلاما بأنه يولد من غير والد وَجِيهاً نصب على الحال، ووجاهته في الدنيا النبوة والتقديم على الناس، وفي الآخرة(1/152)
الشفاعة وعلوّ الدرجة في الجنة فِي الْمَهْدِ في موضع الحال، وَكَهْلًا عطف عليه، والمعنى أنه يكلم الناس صغيرا آية تدل على براءة أمّه مما قذفها به اليهود، وتدل على نبوته، ويكلمهم أيضا كبيرا ففيه إعلام بعيشه إلى أن يبلغ سن الكهولة، وأوله: ثلاث وثلاثون سنة وقيل: أربعون وَيُعَلِّمُهُ عطف على يبشرك أو ويكلم الْكِتابَ هنا جنس، وقيل الخط باليد، والحكمة هنا العلوم الدينية، أو الإصابة في القول والفعل وَرَسُولًا حال معطوف على ويعلمه إذ التقدير: ومعلما الكتاب أو يضمر له فعل تقديره أرسل رسولا أو جاء رسولا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي أرسل إليهم عيسى عليه السلام مبينا لحكم التوراة أَنِّي تقديره بأني أَخْلُقُ بفتح الهمزة بدل من أني الأولى، أو من آية وبكسرها ابتداء كلام فَأَنْفُخُ فِيهِ ذكر هنا الضمير لأنه يعود على الطين، أو على الكاف من كهيئة، وأنث في المائدة «1» لأنه يعود على الهيئة فَيَكُونُ طَيْراً قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش، وقرئ طيرا بياء ساكنة على الجمع، وبالألف وهمزة طائرا على الإفراد، ذكر بإذن الله: رفعا لوهم من توهم في عيسى الربوبية وَأُبْرِئُ روي أنه كان يجتمع إليه جماعة من العميان والبرصاء فيدعو لهم فيبرءون وَأُحْيِ الْمَوْتى روي أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلمه، وروي أنه أحيى سام بن نوح وَأُنَبِّئُكُمْ كان يقول: يا فلان أكلت كذا وادخرت في بيتك كذا وَمُصَدِّقاً عطف على رسولا أو على موضع بآية من ربكم، لأنه في موضع الحال، وهو أحسن لأنه من جملة كلام عيسى فالتقدير: جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقا وَلِأُحِلَّ لَكُمْ عطف على بآية من ربكم، وكانوا قد حرم عليهم الشحم ولحم الإبل وأشياء من الحيتان «2» والطير فأحل لهم عيسى بعض ذلك إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ردّ على من نسب الربوبية لعيسى وانتهى كلام عيسى عليه السلام إلى قوله:
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وابتداؤه من قوله: أني قد جئتكم، وكل ذلك يحتمل أن يكون مما
__________
(1) . فتنفخ فيها وهنا قال: فيه.
(2) . الحيتان المراد بها الأسماك عموما.(1/153)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
ذكرت الملائكة لمريم، حكاية عن عيسى عليه السلام أنه سيقوله، ويحتمل أن يكون خطاب مريم قد انقطع ثم استؤنف الكلام من قوله ورسولا، على تقدير جاء عيسى رسولا:
بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ثم استمر كلامه إلى آخره
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي علم علما ظاهرا كعلم ما يدرك بالحواس مَنْ أَنْصارِي طلب للنصرة، والأنصار جمع ناصر إِلَى اللَّهِ تقديره: من يضيف أنفسهم «1» في نصرتي إلى الله فلذلك قيل: إلى هنا بمعنى مع أو يتعلق بمحذوف تقديره ذاهبا أو ملتجئا إلى الله الْحَوارِيُّونَ حواري الرجل صفوته وخاصته، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبيّ حواريّ وإن حواريّ الزبير» «2» وقيل: إنّ الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها ولذلك سماهم الحواريين بِما أَنْزَلْتَ يريدون الإنجيل، والرسول هنا عيسى عليه السلام مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم، وقيل: مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يشهدون على الناس وَمَكَرُوا الضمير لكفار بني إسرائيل ومكرهم أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ أي رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل عوضا منه «3» ، وعبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة لقوله مكروا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم وهو فاعل ذلك بحق، والماكر من البشر فاعل بالباطل إِذْ قالَ اللَّهُ العامل فيه فعل مضمر، أو يمكر إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قيل: وفاة موت، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، وقيل: يعني وفاة نوم وقيل: المعنى قابضك من الأرض إلى السماء وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي إلى السماء وَمُطَهِّرُكَ أي من سوء جوارهم الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ هم المسلمون، وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر وقيل: الذين اتبعوك النصارى، والذين كفروا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود وإذلالهم لهم ذلِكَ نَتْلُوهُ إشارة إلى ما تقدم من الأخبار مِنَ الْآياتِ المتلوّات أو المعجزات الذِّكْرِ القرآن الْحَكِيمِ الناطق بالحكمة.
__________
(1) . قوله: يضيف أنفسهم: يبدو في الكلام نقص أو خطأ.
(2) . أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ج 3 ص 464.
(3) . ذكر المؤلف في تفسير الآية 58 من سورة النساء قولا آخر هو أرجح من هذا فانظره هناك. [.....](1/154)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية حجة على النصارى في قولهم: كيف يكون ابن دون أب، فمثّله الله بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب، وذلك أغرب مما استبعدوه، فهو أقطع لقولهم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ تفسير لحال آدم فيكون حكاية عن حال ماضية، والأصل لو قال: خلقه من تراب، ثم قال له كن فكان، لكنه وضع المضارع موضع الماضي ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم الْحَقُّ خبر مبتدأ مضمر فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى، وكان لهم سيدان يقال لأحدهما: السيد، والآخر، العاقب نَبْتَهِلْ نلتعن والبهلة اللعنة أي نقول: لعنة الله على الكاذب منا ومنكم، هذا أصل الابتهال: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة، ولما نزلت الآية أرسل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة فخافوا أن يهلكهم الله أو يمسخهم الله قردة وخنازير، فأبوا من الملاعنة وأعطوا الجزية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لنصارى نجران، وقيل: اليهود سَواءٍ أي عدل ونصف أَلَّا نَعْبُدَ بدل من كلمة أو رفع على تقدير هي، ودعاهم صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى توحيد الله وترك ما عبدوه من دونه كالمسيح والأحبار والرهبان لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ قالت اليهود: كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا، فنزلت الآية ردّا عليهم لأن ملة اليهود والنصارى إنما وقعت بعد موت إبراهيم بمدة طويلة ها أَنْتُمْ ها تنبيه، وقيل: بدل من همزة الاستفهام، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وحاججتم استئناف أو هؤلاء منصوب على التخصيص وحاججتم الخبر فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فيما نطقت به التوراة والإنجيل فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ما تقدم على ذلك من حال إبراهيم ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ردّ على اليهود والنصارى وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفي للإشراك الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي(1/155)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
يتضمن دين اليهود والنصارى
وَهذَا النَّبِيُّ عطف على الذين اتبعوه: أي محمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لأنه على دينه وَالَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَدَّتْ طائِفَةٌ هم اليهود، دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي لا يعود وبال الإضلال إلّا عليهم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي تعلمون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ أي تخلطون: والحق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والباطل الكفر به آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ كان قوم من اليهود لعنهم الله أظهروا الإسلام أول النهار، ثم كفروا آخره ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء إلّا عن علم، وقال السهيلي: إنّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله متصلا بقوله: إنّ الهدى هدى الله وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلا بقولهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ويكون إنّ الهدى اعتراضا بين الكلامين، فعلى الأول يكون المعنى: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم من الخداع، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله، أو منصوب بفعل مضمر تقديره: فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، وعلى الثاني فيكون المعنى. لا تؤمنوا أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم لئلا يدعوهم إلى الإسلام، فموضع أن يؤتى مفعول بتؤمنوا المضمن معنى تقروا، ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله: أي لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أن يؤتى، وضمير الفاعل للمسلمين، وضمير المفعول لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ردّ على اليهود في قولهم: لم يؤت أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة والشرف
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية: إخبار أن أهل الكتاب على قسمين: أمين، وخائن. وذكر القنطار مثالا للكثير فمن أدّاه: أدّى ما دونه، وذكر الدينار مثالا للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى قائِماً يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر، وهو(1/156)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
العزيمة عليه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى خيانتهم والباء للتعليل لَيْسَ عَلَيْنا زعموا: بأنّ أموال الأمّيين وهم العرب حلال لهم الْكَذِبَ هنا قولهم، إنّ الله أحلها عليهم في التوراة، أو كذبهم على الإطلاق بَلى عليهم سبيل وتباعة ضمان في أموال الأمّيين بِعَهْدِهِ الضمير يعود على من أو على الله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية قيل: نزلت في اليهود لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا، وقيل: نزلت بسبب خصومة بين الأشعث بن قيس وآخر، فأراد خصمه أن يحلف كاذبا وَإِنَّ مِنْهُمْ الضمير عائد على أهل الكتاب يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ أي يحرفون اللفظ أو المعنى لِتَحْسَبُوهُ الضمير يعود على ما دل عليه قوله: يلوون ألسنتهم، وهو الكلام المحرف.
ما كانَ لِبَشَرٍ الآية: هذا النفي متسلط على ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ والمعنى: لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوّة، والإشارة إلى عيسى عليه السلام، ردّ على النصارى الذين قالوا:
إنه الله، وقيل: إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن اليهود قالوا يا محمد: تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت رَبَّانِيِّينَ جمع رباني، وهو العالم، وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره «1» بِما كُنْتُمْ الباء سببية وما مصدرية تُعَلِّمُونَ بالتخفيف تعرفون. [وهي قراءة نافع وغيره] وقرئ بالتشديد من التعليم وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: استئناف، والفاعل الله أو البشر المذكور، وقرئ بالنصب «2» عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول، والفاعل على هذا البشر.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ معنى الآية أنّ الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء، واللام في قوله: لَما آتَيْتُكُمْ لام التوطئة، لأنّ أخذ الميثاق في
__________
(1) . المقصود مسائل العلم وقضاياها الابتدائية ثم العالية بالتدريج.
(2) . وهي قراءة عاصم وغيره.(1/157)
معنى الاستخلاف، واللام في لتؤمنن جواب القسم، وما يحتمل أن تكون شرطية، ولتؤمنن سدّ مسدّ جواب القسم والشرط. وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيناكموه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ والضمير في به ولتنصرنه عائد على الرسول أَأَقْرَرْتُمْ أي اعترفتم إِصْرِي عهدي فَاشْهَدُوا أي على أنفسكم وعلى أممكم بالتزام هذا العهد وَأَنَا مَعَكُمْ تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جلّ جلاله بَعْدَ ذلِكَ أي من تولى عن الإيمان بهذا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعد هذا الميثاق فهو فاسق مرتد متمرد في كفره أَفَغَيْرَ الهمزة للإنكار، والفاء عطفت جملة على جملة، وغير مفعول قدّم للاهتمام به أو للحصر وَلَهُ أَسْلَمَ أي انقاد واستسلم طَوْعاً وَكَرْهاً مصدر صدّر في موضع الحال، والطوع للمؤمنين والكره للكافر إذا عاين الموت، وقيل: عند أخذ الميثاق المتقدّم، وقيل: إقرار كل كافر بالصانع هو إسلامه كرها قُلْ آمَنَّا أمر النبيّ صلّى الله عليه واله وسلّم أن يخبر عن نفسه وعن أمّته بالإيمان وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا تعدى هنا بَعْلِي مناسبة لقوله: قل، وفي البقرة بإلى لقوله:
قولوا. لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علو. ونزوله على هذا المعنى مختص بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم. وإلى حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمّة وَمَنْ يَبْتَغِ الآية: إبطال لجميع الأديان غير الإسلام، وقيل: نسخت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى [البقرة: 62] الآية كَيْفَ سؤال، والمراد به هنا: استبعاد الهدى قَوْماً كَفَرُوا نزلت في الحرث بن سويد وغيره أسلموا ثم ارتدّوا ولحقوا بالكفار، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلة الآية إلى قوله: إلّا الذين تابوا، فرجعوا إلى الإسلام وقيل: نزلت في اليهود والنصارى شهدوا [ممن] بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث، وشهدوا عطف على إيمانهم، لأنّ معناه بعد أن آمنوا، وقيل: الواو للحال، وقال ابن عطية: عطف على كفروا والواو لا ترتب وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين، أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة خالِدِينَ فِيها الضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار وإن لم تكن ذكرت لأنّ(1/158)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
المعنى يقتضيها
ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قيل: هم اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بعداوتهم له وطعنهم عليه وقيل: هم الذين ارتدّوا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قيل: ذلك عبارة عن موتهم على الكفر: أي ليس لهم توبة فتقبل، وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر، وقيل: لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر، فذلك عامّ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ جزم بالعذاب لكل من مات على الكفر.
والواو في قوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ، قيل: زيادة وقيل: للعطف على محذوف، كأنه قال:
لن يقبل من أحدهم لو تصدّق به ولو افتدى به وقيل: نفى أولا القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفدية بالنفي كقولك: أنا لا أفعل كذا أصلا ولو رغبت إليّ.
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تكونوا من الأبرار، ولن تنالوا البر الكامل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة: إنّ أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة، وكان ابن عمر يتصدّق بالسكر ويقول: إني لأحبه. كُلُّ الطَّعامِ الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أبوهم يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حرّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبة لهم على معاصيهم، وفيها رد عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافا لليهود في قولهم: إنّ النسخ محال على هذه الأشياء، وفيها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا لله وتقرّبا إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ تعجيزا لليهود، وإقامة حجة عليهم، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فَمَنِ افْتَرى
أي: من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره، كان محرما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل صَدَقَ اللَّهُ أي الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلزام لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة(1/159)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
الإسلام هي ملة إبراهيم، التي لم يحرم فيها شيء مما هو محرم عليهم.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ أي أول مسجد بني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أي مسجد بني أول؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس «1» ، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى أنه أول بيت وضع مباركا وهدى وقد كانت قبله بيوتا بِبَكَّةَ قيل: هي مكة والباء بدل من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله مُبارَكاً نصب على الحال والعامل فيه على قول عليّ: وضع مُبارَكاً على أنه حال من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول: هو حال من الضمير المجرور. والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ آيات البيت كثيرة. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق إلى اليوم، ومنها أن الطيور لا تعلوه، ومنها إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شرب له، إلى غير ذلك مَقامُ إِبْراهِيمَ قيل: إنه بدل من الآيات أو عطف بيان، وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك، وقيل: الآيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: ومن دخله عطفا، وعلى الأول استئنافا، وقيل: التقدير منهن مقام إبراهيم، فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها كانَ آمِناً أي آمنا من العذاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب، ولا يعاقب، فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباس وأبو حنيفة: ذلك الحكم باق في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدّ أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج، وقيل: آمنا من النار.
حِجُّ الْبَيْتِ بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه مَنِ اسْتَطاعَ بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج وقيل: شرط مبتدأ أي: من استطاع فعليه الحج والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلا وإما راكبا، مع الزاد
__________
(1) . أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ص 117 ج 4.(1/160)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
المبلغ والطريق الآمن. وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة، وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديث ضعيف وَمَنْ كَفَرَ قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا كقوله صلّى الله عليه واله وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر، وقيل: أراد اليهود لأنهم لا يحجّون، وقيل: من زعم أن الحج ليس بواجب
لِمَ تَكْفُرُونَ توبيخ اليهود لِمَ تَصُدُّونَ توبيخ أيضا. وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم سَبِيلِ اللَّهِ هنا الإسلام تَبْغُونَها عِوَجاً الضمير يعود على السبيل، أي تطلبون لها الاعوجاج وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أي تشهدون أن الإسلام حق إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً الآية: لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ إنكار واستبعاد حَقَّ تُقاتِهِ قيل: نسخها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، [التغابن/ 16] وقيل: لا نسخ إذ لا تعارض، فإنّ العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزا من الإكراه وشبهه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي تمسكوا، والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة وَلا تَفَرَّقُوا نهي عن التدابر والتقاطع، إذ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم، ويحتمل أن يكون نهيا عن التفرق في أصول الدين، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة، إلى أن جمعهم الله بالإسلام شَفا حُفْرَةٍ أي حرف حفرة وذلك تشبيه، لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ الآية: دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وقوله: منكم: دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هم اليهود والنصارى، نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم، وورد في الحديث أنه عليه السلام قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها(1/161)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
في النار إلّا واحدة، قيل ومن تلك الواحدة؟ قال: من كان على ما أنا وأصحابي عليه «1» .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ العامل فيه محذوف وقيل: عذاب عظيم أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي يقال لهم: أكفرتم؟ والخطاب لمن ارتد عن الإسلام، وقيل: للخوارج، وقيل: لليهود لأنهم آمنوا بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم المذكورة في التوراة ثم كفروا به لما بعث كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله وكان الله غفورا رحيما، وقيل:
كنتم في علم الله، وقيل: كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة، وقيل: كنتم بمعنى أنتم، والخطاب لجميع المؤمنين، وقيل: للصحابة خاصة لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي بالكلام خاصة، وهو أهون المضرة يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ إخبار بغيب ظهر في الوجود صدقه ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ إخبار مستأنف غير معطوف على يولوكم، وفائدة ذلك أن توليهم الأدبار مقيد بوقت القتال، وعدم النصر على الإطلاق، وعطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء، وثم لترتيب الأحوال لأن عدم نصرهم على الإطلاق أشد من توليهم الأدبار حين القتال إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل هنا العهد والذمة لَيْسُوا سَواءً أي: ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي قائمة بالحق، وذلك فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد وأخيه أسد وغيرهم وَهُمْ يَسْجُدُونَ يدل أن تلاوتهم للكتاب في الصلاة فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [بالتاء حسب قراءة المؤلف] أي لن تحرموا ثوابه
َلُ ما يُنْفِقُونَ
الآية:
تشبيه لنفقة الكافرين بزرع أهلكته ريح باردة، فلن ينتفع به أصحابه. فكذلك لا ينتفع الكفار
__________
(1) . رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة كما أخرجه أحمد في المسند ج 2 ص 438.(1/162)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
بما ينفقون. وفي الكلام حذف تقديره: مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، وإنما احتيج لهذا لأن ما ينفقون ليس تشبيها بالريح، إنما هو تشبيه بالزرع الذي أهلكته الريح رٌّ
أي بردرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
أي عصوا الله فعاقبهم بإهلاك حرثهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
الضمير للكفار، أو المنافقين، أو لأصحاب الحرث، والأول أرجح، لأن قوله أنفسهم يظلمون فعل حال يدل على أنه للحاضرين بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي أولياء من غيركم فالمعنى: نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم.
وقيل: لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلا من النصارى لا أحد أحسن خطا منه، أفلا يكتب عنك: قال إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي: لا يقصرون في إفسادكم، والخبال: الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا مضرتكم، وما مصدرية وهذه الجملة والتي قبلها صفة للبطانة أو استئناف وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي بكل كتاب أنزله الله، واليهود لا يؤمنون بقرآنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، والأنامل: جمع أنملة بضم الميم وفتحها مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ تقريع وإغاظة، وقيل: دعاء إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: الخيرات من النصر والرزق وغير ذلك، والسيئة ضدها لا يَضُرُّكُمْ من الضير بمعنى الضرّ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
نزلت في غزوة أحد، وكان غزو رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف لأنه لا يقال: غدوت فيما بعد الزوال إلّا على المجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلّا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة مَقاعِدَ مواضع وهو جمع مقعد
طائِفَتانِ مِنْكُمْ هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، لما رأوا كثرة المشركين وقلة المؤمنين هموا بالانصراف فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ تَفْشَلا الفشل في البدن هو الإعياء، والفشل في الرأي هو العجز(1/163)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
والحيرة وفساد العزم وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي مثبتهما، وقال جابر بن عبد الله: ما وددنا أنها لم تنزل لقوله: والله وليهما وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ تذكير بنصر الله لهم يوم بدر لتقوى قلوبهم وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ الذلة هي قلة عددهم وضعف عددهم كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، ولم يكن لهم إلّا فرس واحد، وكان المشركون ما بين التسعمائة والألف، وكان معهم مائة فرس. فقتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون وانهزم سائرهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ متعلق بنصركم أو باتقوا والأول أظهر إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ كان هذا القول يوم بدر، وقيل: يوم أحد، فالعامل في إذ على الأول محذوف، وعلى الثاني: بدل من إذ غدوت أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تقرير، جوابه بلى، وإنما جاوب المتكلم لصحة الأمر وبيانه كقوله: قل مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ الضمير للمشركين، والفور السرعة: أي من ساعتهم وقيل: المعنى من سفرهم بِخَمْسَةِ آلافٍ بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم، فإن كان هذا يوم بدر، فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله: إن تصبروا وتتقوا، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة مُسَوِّمِينَ بفتح الواو وكسرها أي معلمين، أو معلمين أنفسهم أو خيلهم، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، إلّا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل:
كانت عمائمهم صفر، وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب وقيل: كانوا على خيل بلق وَما جَعَلَهُ الضمير عائد على الإنزال، أو الإمداد وَلِتَطْمَئِنَّ معطوف على بشرى لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، وقيل: يتعلق بفعل مضمر يدل عليه جعله لِيَقْطَعَ يتعلق بقوله:
ولقد نصركم الله أو بقوله: وما النصر لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جملة اعتراضية بين المعطوفين، ونزلت لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة على أحياء قبائل من العرب فترك الدعاء عليهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معناه يسلمون أَضْعافاً مُضاعَفَةً كانوا يزيدون كل ما حل عاما بعد عام
سارِعُوا بغير واو «1» استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم
__________
(1) . سارعوا بغير واو قراءة نافع وابن عامر.(1/164)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
إِلى مَغْفِرَةٍ أي إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة عَرْضُهَا قال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تقرن الثياب فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلّا الله وقيل: ليس العرض هنا خلاف الطول، وإنما المعنى سعتها كسعة السموات والأرض فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في العسر واليسر وَهُمْ يَعْلَمُونَ حذف مفعوله وتقديره: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ خطاب للمؤمنين تأنيسا لهم وقيل: للكافرين تخويفا لهم فَانْظُروا من نظر العين عند الجمهور وقيل: هو بالكفر وَلا تَهِنُوا تقوية لقلوب المؤمنين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعلو كلمة الإسلام إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ الآية معناها: إن مسكم قتل أو جراح في أحد فقد مس الكفار مثله في بدر، وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه، فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي نُداوِلُها تسلية أيضا عما جرى يوم أحد وَلِيَعْلَمَ متعلق بمحذوف تقديره: أصابكم ما أصابهم يوم أحد ليعلم والمعنى ليعلم ذلك علما ظاهرا لكم تقوم به الحجة شُهَداءَ من قتل من المسلمين يوم أحد وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ أي: يظهر، وقيل: يميز، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد، والمعنى أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين أي يهلكهم أَمْ حَسِبْتُمْ أم هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه، وهذه الآية وما بعدها معاتبة لقوم من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر، فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد وهو سبب الموت، وقيل: إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ المعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول كسائر الرسل قد بلغ الرسالة كما بلغوا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته، وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد: إنّ محمدا قد مات، فتزلزل بعض الناس أَفَإِنْ ماتَ دخلت(1/165)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
ألف التوبيخ على جملة الشرط والجزاء، ودخلت الفاء لتربط الجملة الشرطية بالجملة التي قبلها، والمعنى أن موت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو قتله لا يقتضي انقلاب أصحابه على أعقابهم، لأن شريعته قد تقررت وبراهينه قد صحت، فعاتبهم على تقدير أن لو صدر منهم انقلاب لو مات صلّى الله عليه وسلّم، أو قتل وقد علم أنه لا يقتل، ولكن ذكر ذلك لما صرخ به صارخ ووقع في نفوسهم الشَّاكِرِينَ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الثابتون على دينهم كِتاباً مُؤَجَّلًا نصب على المصدر لأنّ المعنى: كتب الموت كتابا، وقال ابن عطية:
نصب على التمييز نُؤْتِهِ مِنْها في ثواب الدنيا، مقيد بالمشيئة بدليل قوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء/ 18] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ الفعل مسند، إلى ضمير النبيّ ومعه ربيون على هذا في موضع الحال، وقيل: إنه مسند إلى الربيين، فيكون ربيون على هذا مفعولا لما لم يسم فاعله فعلى الأوّل يوقف على قوله: قتل، ويترجح الأوّل: بما صرخ به الصارخ يوم أحد:
إنّ محمدا قد مات، فضرب لهم المثل بنبيّ قتل، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل قط نبي في محاربة رِبِّيُّونَ علماء مثل ربانيين، وقيل: جموع كثيرة فَما وَهَنُوا الضمير لرِبِّيُّونَ على إسناد القتل للنبي، وهو لم يق منهم على إسناد القتل إليهم وَمَا اسْتَكانُوا أي: لم يذلوا للكفار قال بعض النحاة: الاستكان مشتق من السكون، ووزنه افتعلوا مطلت فتحة الكاف فحدث عن مطلها ألف وذلك كالإشباع، وقيل: إنه من كان يكون، فوزنه استفعلوا، وقوله تعالى فما وهنوا وما بعده:
تعريض لما صدر من بعض الناس يوم أحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي في الحرب ثَوابَ الدُّنْيا النصر ثَوابِ الْآخِرَةِ الجنة إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون الذين قالوا في قضية أحد ما قالوا، وقيل: مشركوا قريش وقيل: اليهود
الرُّعْبَ قيل: ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأحد، فرجعوا إلى مكة من غير سبب، وقيل: لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم «1» ، فأمسكوا، والآية تتناول جميع الكفار
__________
(1) . في السيرة: لقد خرج المسلمون وهم مثخنون بالجراح خلف القرشيين وأقاموا في مكان (حمراء الأسد) ثلاثة أيام فلما علم القرشيون بذلك انسحبوا عائدين إلى مكة. وسيذكرها المؤلف عند تفسيره للآية «172» من هذه السورة.(1/166)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: نصرت بالرعب وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ كان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم الله أولا، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، قد أمر الرماة أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا فلما رأوا المشركين قد انهزموا طمعوا في الغنيمة وأتبعوهم، وخالفوا ما أمروا به من الثبوت في مكانهم، فانقلبت الهزيمة على المسلمين إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي: تقتلونهم قتلا ذريعا يعني في أول الأمر وَتَنازَعْتُمْ وقع النزاع بين الرماة فثبت بعضهم كما أمروا ولم يثبت بعضهم وَعَصَيْتُمْ أي خالفتم ما أمرتم به من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم وعظا للجميع، وسترا على من فعل ذلك وجواب إذ محذوف تقديره: لانهزمتم مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا الذين حرصوا على الغنيمة معه لِيَبْتَلِيَكُمْ معناه لينزل بكم ما نزل من القتل والتمحيص وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم، لولا عفو الله عنهم، فمعناه لقد أبقى عليكم، وقيل:
هو عفو عن الذنب إِذْ تُصْعِدُونَ العامل في إذ عفا، فيوصل إذ تصعدون مع ما قبله ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمر وَلا تَلْوُونَ مبالغة في صفة الانهزام وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يقول: إليّ عباد الله، وهم يفرون فِي أُخْراكُمْ من خلفكم وفيه مدح للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم فإنّ الأخرى هي موقف الأبطال فَأَثابَكُمْ أي جازاكم غَمًّا بِغَمٍّ قيل: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وعلى المؤمنين إذ عصيتم وتنازعتم وقيل أثابكم غما متصلا بغم، وأحد الغمين: ما أصابهم من القتل والجراح والآخر: ما أرجف به من قتل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عَلى ما فاتَكُمْ من النصر والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجراح والانهزام
أَمَنَةً نُعاساً قال ابن مسعود: نعسنا يوم أحد، والنعاس في الحرب أمان من الله يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ هم المؤمنون المخلصون، غشيهم النعاس تأمينا لهم وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان، والمشركون غَيْرَ الْحَقِّ معناه(1/167)
يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن الله لا ينصرهم، وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل وهو على حذف الموصوف تقديره ظن المودة الجاهلية «1» ، أو الفرقة الجاهلية هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قالها عبد الله بن أبي بن سلول، والمعنى: ليس لنا رأي، ولا يسمع قولنا أو: لسنا على شيء من الأمر الحق، فيكون قولهم على هذا كفرا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يحتمل أن يريد الأقوال التي قالوها أو الكفر لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ قاله معتب بن قشير «2» ، ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ الآية: رد عليهم، وإعلام بأن أجل كل إنسان إنما هو واحد، وأن من لم يقتل يموت بأجله، ولا يؤخر، وأن من كتب عليه القتل لا ينجيه منه شيء وَلِيَبْتَلِيَ يتعلق بفعل تقديره فعل بكم ذلك ليبتلي إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الآية: نزلت فيمن فر يوم أحد اسْتَزَلَّهُمُ أي طلب منهم أن يزلوا، ويحتمل أن يكون معناه: أزلهم أي أوقعهم في الزلل بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بأن مكن الشيطان من استزلالهم عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي غفر لهم ما وقعوا فيه من الفرار لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي المنافقين لِإِخْوانِهِمْ هي أخوة القرابة، لأن المنافقين كانوا من الأوس والخزرج، وكان أكثر المقتولين يوم أحد منهم، ولم يقتل من المهاجرين إلّا أربعة إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا وإنما قال: إذا التي للاستقبال مع قالوا، لأنه على حكاية الحال الماضية أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز وزنه فعّل بضم الفاء وتشديد العين لَوْ كانُوا عِنْدَنا اعتقاد منهم فاسد لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يقتلوا، وهذا قول من لا يؤمن بالقدر والأجل المحتوم، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجلين لِيَجْعَلَ متعلق بقالوا. أي قالوا ذلك فكان حسرة في قلوبهم، فاللام لام الصيرورة لبيان العاقبة ذلِكَ إشارة إلى قولهم واعتقادهم الفاسد الذي أوجب لهم الحسرة، لأن الذي يتيقن بالقدر والأجل تذهب عنه
__________
(1) . ربما في النص تحريف، وفي الطبري يقول: ظن أهل الشرك.
(2) . وهو أحد بني عمرو بن عوف وكان منافقا.(1/168)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
الحسرة وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد على قولهم واعتقادهم
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن مغفرة الله ورحمته لهم إذا قتلوا وماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن من مات أو قتل فإنه يحشر إلى الله فَبِما رَحْمَةٍ ما زائدة للتأكيد لانفضوا أي تفرقوا فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله وَشاوِرْهُمْ المشاورة مأمور بها شرعا، وإنما يشاور النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم الناس في الرأي في الحروب وغيرها، لا في الأحكام الشرعية، وقال ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ والآخر: الضمان الذي في قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق/ 3] وقد يكون واجبا لقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة/ 23] فجعله شرطا في الإيمان، والظاهر قوله جل جلاله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران/ 122] فإن الأمر محمول على الوجوب.
وأعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب: الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه، والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلّا إليها، والثالثة: أن يكون العبد مع ربه: كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم نفسه إليه بالكلية، فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنيّة على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة/ 163] فهي تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، فإن قيل: هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام: أحدهما: سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى: فهذا لا يجوز تركه: كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد. والثاني: سبب مظنون: كالتجارة وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب، لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه، «1» والثالث: سبب موهوم بعيد، فهذا يقدم فعله في التوكل،
__________
(1) . رحم الله المصنف كيف غفل عن أن السعي مطلوب، وهو لا ينافي التوكل إلا لمن كان غافلا عن ربه الذي بيده نجاح الأسباب وفشلها.(1/169)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن المتوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ هو من الغلول وهو أخذ الشيء خفية من المغانم وغيرها، وقرئ «1» بفتح الياء وضم الغين، ومعناه تبرئة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، وسببها أنه فقدت من المغانم قطيفة حمراء، فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم أخذها، وقرأ نافع وغيره بضم الياء وفتح الغين، أي ليس لأحد أن يغل نبيا: أي يخونه في المغانم، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا من الأمر، لشنعة الحال مع النبي لأن المعاصي تعظم بحضرته، وقيل معنى هذه القراءة: أن يوجد غالا كما تقول أحمدت الرجل، إذا أصبته محمودا، فعلى هذا القول يرجع معنى هذه القراءة، إلى معنى فتح الياء وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ وعيد لمن غل بأن يسوق يوم القيامة على رقبته الشيء الذي غل، وقد جاء ذلك مفسرا في الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لا ألفين أحدكم على رقبته فرس لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع لا ألفين أحدكم على رقبته صامت، لا ألفين أحدكم على رقبته إنسان فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك «2» أَفَمَنِ اتَّبَعَ الآية: فقيل: إن الذي أتبع رضوان الله.
من لم يغلل، والذي باء بالسخط من غل، وقيل الذي أتبع الرضوان: من استشهد بأحد، والذي باء بالسخط: المنافقون الذين رجعوا عن الغزو هُمْ دَرَجاتٌ ذووا درجات، والمعنى تفاوت بين منازل أهل الرضوان وأهل السخط، أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان فإن بعضهم فوق بعض، فكذلك درجات أهل السخط لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الآية إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه في الجنس واللسان، فكونه من جنسهم يوجب الأنس به، وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن الفهم عنه، ولكونه منهم يعرفون حسبه وصدقه وأمانته صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ويكون، هو صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أشفق عليهم وأرحم بهم من الأجنبيين «3» أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. عتاب للمسلمين على كلامهم فيمن
__________
(1) . هي قراءة عاصم وابن كثير وأبي عمرو.
(2) . الحديث أخرجه أحمد بتفصيل عن أبي هريرة ج 2 ص 562.
(3) . الأشهر جمع أجنبي على أجانب والمراد: أغراب.(1/170)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
أصيب منهم يوم أحد، ودخلت ألف التوبيخ على واو العطف، والجملة معطوفة على ما تقدم من قصة أحد وعلى محذوف قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قتل يوم أحد من المسلمين سبعون، وكان قد قتل من المشركين يوم بدر سبعون، وأسر سبعون قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قيل: معناه أنهم عوقبوا بالهزيمة لمخالفتهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم حين أراد أن يقيم بالمدينة ولا يخرج إلى المشركين. فأبوا إلّا الخروج، وقيل: بل ذلك إشارة إلى عصيان الرماة حسبما تقدم
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمع المسلمين والمشركين يوم أحد وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الآية: كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروج قوم من المسلمين، فخرج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: غضب عبد الله، وقال: أطاعهم وعصانا، فرجع ورجع معه ثلاثمائة رجل وخمسون فمشى في أثرهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري، وقال لهم: ارجعوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، فقال له عبد الله بن أبيّ: ما أرى أن يكون لو علمنا أنه يكون قتال لكنا معكم أَوِ ادْفَعُوا أي كثروا السواد، وإن لم تقاتلوا الَّذِينَ قالُوا بدل من الذين نافقوا، أو لإخوانهم في النسب، لأنهم كانوا من الأوس والخزرج قُلْ فَادْرَؤُا أي ادفعوا المعنى ردّ عليهم بَلْ أَحْياءٌ إعلام بأن حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة بخلاف سائر الأموات من المؤمنين، فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ المعنى: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم فينالوا مثل ما نالوا من الشهادة أَلَّا خَوْفٌ في موضع المفعول أو بدل من الذين يَسْتَبْشِرُونَ كرر ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل الَّذِينَ اسْتَجابُوا صفة للمؤمنين أو مبتدأ وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية، ونزلت في الذين خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في خلف المشركين بعد غزوة أحد، فبلغ بهم إلى «حمراء الأسد» وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وكانوا قد أصابتهم جراحات وشدائد، فتجلدوا وخرجوا فمدحهم الله بذلك
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الآية: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه(1/171)
واله وسلّم إلى حمراء الأسد بعد أحد: بلغ ذلك أبا سفيان فمر عليه ركب من عبد القيس يريدون المدينة بالميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب على أن يثبطوا المسلمين عن إتباع المشركين، فخوفوهم بهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل فخرجوا، فالناس الأول ركب عبد القيس، والناس الثاني مشركو قريش وقيل: نادى أبو سفيان يوم أحد: موعدنا ببدر في القابل، فقال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: إن شاء الله فلما كان العام القابل خرج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إلى بدر للميعاد، فأرسل أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي ليثبط المسلمين، فعلى هذا الناس الأول نعيم، وإنما قيل له: الناس وهو واحد: لأنه من جنس الناس:
كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا فَزادَهُمْ الفاعل ضمير المفعول، وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قوة يقينهم وثقتهم بالله حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، ومعنى حسبنا الله: كافينا وحده فلا نخاف غيره، ومعنى: ونعم الوكيل: ثناء على الله وأنه خير من يتوكل العبد عليه ويلجأ إليه فَانْقَلَبُوا أي رجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بخروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذلِكُمُ الشَّيْطانُ المراد هنا أبو سفيان، أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أبو إبليس، وذلكم مبتدأ، والشيطان خبره وما بعده مستأنف، أو الشيطان نعت وما بعده خبر يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه وهم الكفار، فالمفعول الأول محذوف ويدل عليه قوله: فلا تخافوهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه، وقيل المعنى يخوف المنافقين وهم أولياؤه من كفار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف وَلا يَحْزُنْكَ «1» تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقرأ [الباقون ما عدا نافع] بفتح الياء وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثاني، وهو أشهر في اللغة من أحزن الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون إلى أقواله وأفعاله وهم المنافقون والكفار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الآية هم المذكورون قبل أو على العموم في جميع الكفار أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ أي نمهلهم أن مفعول يحسبن، وما اسم أن فحقها أن تكتب منفصلة وخير خبر: إنما نملي لهم، ما هنا كافة والمعنى ردّ عليهم أي أن الإملاء لهم ليس خيرا لهم إنما هو استدراج ليكتسبوا الإثم
__________
(1) . حسب قراءة نافع في كل القرآن ما عدا: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء/ 103.(1/172)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: خطاب للمؤمنين، والمعنى ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه ميز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال، التي تدل على الإيمان أو على النفاق وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ما كان الله ليطلعكم على ما في القلوب من الإيمان والنفاق، أو ما كان الله ليطلعكم على أنكم تغلبون أو تغلبون وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على ما شاء من غيبه الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يمنعون الزكاة وغيرها هُوَ خَيْراً هو فضل وخيرا مفعول ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل خيرا لهم سَيُطَوَّقُونَ أي يلزمون إثم ما بخلوا به، وقيل: يجعل ما بخلوا به حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآية: لما نزلت: من ذا الذي يقرض الله: قال بعض اليهود وهو فنحاص، أو حيي بن أخطب أو غيرهما: إنما يستقرض الفقير من الغني، فالله فقير ونحن أغنياء، فنزلت هذه الآية، وكان ذلك القول اعتراضا على القرآن أوجبه قلة فهمهم، أو تحريفهم للمعاني، فإن كانوا قالوه باعتقاد فهو كفر [يضاف إلى كفرهم] ، وإن قالوه بغير اعتقاد: فهو استخفاف، وعناد سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي تكتبه الملائكة في الصحف وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي قتل آبائهم للأنبياء، وأسند إليهم لأنهم راضون به، ومتبعون لمن فعله من آبائهم الَّذِينَ قالُوا صفة للذين، وليس صفة للعبيد حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا قبول الله لصدقة أو غيرها جعلوه في مكان، فتنزل نار من السماء فتحرقه، وإن لم تنزل فليس بمقبول، فزعموا أن الله جعل لهم ذلك علامة على صدق الرسل قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ الآية: رد عليهم بأن الرسل قد جاءتهم بمعجزات توجب الإيمان بهم، وجاءوهم أيضا بالقربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوهم وقتلوهم، فذلك يدل عل أن كفرهم عناد، فإنهم كذبوا في قولهم: إن الله عهد إلينا فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتأسي بغيره فَمَنْ زُحْزِحَ أي نحي وأبعد
لَتُبْلَوُنَّ الآية: خطاب للمسلمين، والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفي الأموال(1/173)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
بالمصائب والإنفاق وَلَتَسْمَعُنَّ الآية: سببها قول اليهود: إن الله فقير، وسبهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم وللمسلمين لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ قال ابن عباس: هي لليهود أخذ عليهم العهد في أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم فكتموه، وهي عامة في كل من علمه الله علما الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية: قال ابن عباس نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه، وقال أبو سعيد الخدري: نزلت في المنافقين: كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء «1» وفتح الباء: خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وبالياء «2» وضم الباء: أسند الفعل للذين يفرحون: أي لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب، ومن قرأ:
تحسبن بالتاء: فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والذين يفرحون مفعول به، وبمفازة المفعول الثاني، وكرر فلا تحسبنهم: للتأكيد، ومن قرأ لا يحسبن بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين، لدلالة مفعولي لا تحسبنهم عليهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ذكر في البقرة قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي يذكرون الله على كل حال فكأن هذه الهيآت حصر لحال بني آدم، وقيل: إن ذلك في الصلاة: يصلون قياما فإن لم يستطيعوا صلوا قعودا، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم رَبَّنا أي يقولون: ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة بل خلقته وخلقت البشر، لينظروا فيه فيعرفونك سَمِعْنا مُنادِياً هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى من لبيان الجنس، وقيل زائدة لتقدّم النفي بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هم المهاجرون آذاهم المشركون
__________
(1) . وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. [.....]
(2) . قرأ بها الباقون.(1/174)
بمكة حتى خرجوا منها ثَواباً منصوبا على المصدرية لا يَغُرَّنَّكَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي: لا تظنوا أن حال الكفار في الدنيا دائمة فتهتموا لذلك، وأنزل لا يغرّنك منزلة لا يحزنك مَتاعٌ قَلِيلٌ أي تقلبهم في الدنيا قليل بالنظر إلى ما فاتهم في الآخرة نُزُلًا منصوب على الحال من جنات أو على المصدرية لِلْأَبْرارِ جمع بارّ وبرّ، ومعناه العاملون بالبرّ، وهي غاية التقوى والعمل الصالح، قال بعضهم: الأبرار هم الذين لا يؤذون أحدا وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية قيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة، فإنه كان نصرانيا فأسلم، وقيل: في عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود لا يَشْتَرُونَ مدح لهم، وفيه تعريض لذم غيرهم ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا وصابروا أي صابروا عدوكم في القتال وَرابِطُوا أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم مستعدين للجهاد، وقيل: هو مرابطة العبد فيما بينه وبين الله، أي معاهدته على فعل الطاعة وترك المعصية والأوّل أظهر، قال صلّى الله عليه واله وسلّم: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» «1» وأما قوله في انتظار الصلاة فذلكم الرباط «2» فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لعظم أجره، والمرابط عند الفقهاء هو الذي يسكن الثغور فيرابط فيها وهي غير موطنه، فأما سكانها دائما بأهلهم ومعايشهم فليسوا مرابطين، ولكنهم حماة، حكاه ابن عطية.
__________
(1) . أخرجه أحمد عن عثمان بلفظ: رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ج 1 ص 79.
(2) . أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأوله: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات:
رواه النووي في فضائل الوضوء.(1/175)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
مدنية وآياتها 176 نزلت بعد الممتحنة (سورة النساء) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام زَوْجَها هي حوّاء خلقت من ضلع آدم وَبَثَّ نشر تَسائَلُونَ بِهِ أي يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله أن تفعل كذا والْأَرْحامَ بالنصب عطفا على اسم الله أي: اتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور. وهو به، لأنّ موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به، وهو ضعيف عند البصريين، لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد بأنّ الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله، وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال: كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجدّ في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقرّبين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» فقوله أن تعبد الله كأنك تراه: إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم: كمن يشاهد ملكا عظيما، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك: إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين، فأعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما
__________
(1) . جزء من الحديث المشهور أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب. راجع الأربعين النووية.(1/176)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
فسر الإحسان أوّل مرة بالمقام الأعلى رأى أنّ كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله: حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة، عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ.
خطاب للأوصياء، وقيل: للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم، وعلى القول بأنّ الخطاب للأوصياء، فالمراد أن يؤتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم، فيكون اليتيم على هذا حقيقة، وقيل: المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا، فيكون اليتيم على هذا مجاز، لأن اليتيم قد كبر وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، فنهوا عن ذلك. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث، وتدعوا مالكم وهو الطيب وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ المعنى: نهي أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم، وقيل: نهي عن خلط أموالهم بأموال اليتامى، ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم، وإنما تعدّى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل: بمعنى مع حُوباً أي ذنبا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا الآية، قالت عائشة: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن ويبخسوهن في الصداق لمكان ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن، وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك: أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى: كذلك خافوا النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب: أي ما حل، وإنما قال ما، ولم يقل من: لأنه أراد الجنس، وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله: وما ملكت أيمانكم مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا(1/177)
ينصرف «1» للعدل والوصف، وهي حال من ما طاب، وقال ابن عطية: بدل، وهي عدو له عن أعداد مكررة، ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا في ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع، وقال قوم لا يعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع: يجمع فيه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا، وأيضا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة فَواحِدَةً أي إن خفتم أن لا تعدلوا بين الاثنين أو الثلاث أو الأربع: فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير. رغبة في العدول. وانتصاب واحدة بفعل مضمر تقديره: فانكحوا واحدة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الإشارة إلى الاقتصار على الواحدة، والمعنى: أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا ومعنى تعولوا: تميلوا، وقيل يكثر عيالكم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ خطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته، وقيل: نهي عن الشغار «2» نِحْلَةً أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله، وقيل: معنى نحلة أي شرعة وديانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهن أو على الحال من ضمير المخاطبين فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ الآية: إباحة للأزواج والأولياء على ما تقدم من الخلاف أن يأخذوا ما دفعوا للنساء من صدقاتهن عن طيب أنفسهن، والضمير في منه يعود على الصداق أو على الإيتاء هَنِيئاً مَرِيئاً عبارة عن التحليل ومبالغة في الإباحة، وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وهما وصف للمصدر:
أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل، وقيل: يوقف على فكلوه ويبدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ قيل: هم أولاد الرجل وامرأته: أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير، وقيل: السفهاء المحجورون، وأموالكم. أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم قِياماً جمع قيمة، وقيل بمعنى قياما بألف، أي تقوم بها معايشكم وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: إنها فيمن تلزم الرجال نفقته من زوجته وأولاده، وقيل: في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم
__________
(1) . أي ممنوع من الصرف وهو اصطلاح نحوي معروف.
(2) . هو الزواج بالتبادل فيعطي أحدهم شقيقته إلى الآخر ويأخذ بدلا منها شقيقة الآخر أو ابنته بدون مهر لأي منهما.(1/178)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي ادعوا لهم بخير، أو عدوهم وعدا جميلا: أي إن شئتم دفعنا لكم أموالكم
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا رشدهم بَلَغُوا النِّكاحَ بلغوا مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً الرشد: هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين، واشترط قوم الدين، واعتبر مالك البلوغ والرشد، وحينئذ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه، وقوله مخالف للقرآن وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ومعناه: مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره: مخافة أن يكبروا فَلْيَسْتَعْفِفْ أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال عمر بن الخطاب: المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم، فإذا أيسر ردّه، وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته، ومعنى: بالمعروف من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «1» فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر بالتحرز والحرز فهو ندب، وقيل: فرض لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية: سببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء، فنزلت الآية ليرث الرجال النساء نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: «2» فريضة من الله، وقال الزمخشري: منصوب على التخصيص، أعني: بمعنى نصيبا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية: خطاب للوارثين أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى وعلى المساكين، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب وهو الصحيح، وقيل: نسخ بآية المواريث وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية معناها: الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في حفظ أموالهم، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة، وقيل: الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم، وحذف مفعول وليخش، وخافوا جواب لو قَوْلًا سَدِيداً على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام
__________
(1) . في الآيتين 10، 11 التاليتين.
(2) . في الآيتين 10، 11 التاليتين.(1/179)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
الحسن، وعلى القول الثاني أن يقول للمورث: لا تشرف في وصيتك وارفق بورثتك
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث، وقيل: في الأوصياء، ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي: أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار، وقيل: يأكلون النار في جهنم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال، وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر، ولم يقل: يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال: في أولادكم ولم يقل في أبنائكم، لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى ابن الابن المتوفى وليسوا من الورثة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هذا بيان للوصية المذكورة، فإن قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر، فالجواب: لأن الذكر مقدم فَإِنْ كُنَّ نِساءً إنما أنث ضمير الجماعة في كن، لأنه قصد الإناث، وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث، وقيل: يعود على المتروكات، وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور الثلثان، وتأولوا فوق اثنتين أن المراد ثنتان فما فوقهما، وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل: بالقياس على الأختين وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً بالرفع فاعل، وكان تامة، وبالنصب خبر كان، وقوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ نص على أن للبنت النصف إذا انفردت، ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد لأن للذكر مثل حظ الأنثيين إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب، أو ولد ابن، وكلهم يرد الأبوين «1» إلى السدس وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر، وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا
__________
(1) . أي يحصر الولد حق الأبوين بالسدس فقط.(1/180)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
الثلثان ولا وارث إلّا الأبوان، فاقتضى ذلك أن الأب يأخذ بقية المال وهو الثلثان فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أجمع العلماء على أن ثلاثة من الأخوة يردّون الأم إلى السدس، واختلفوا في الاثنين فذهب الجمهور أنهما يردّانها إلى السدس، ومذهب ابن عباس أنهما لا يردّانها إليه، بل هما كالأخ الواحد. وحجته أن لفظ الإخوة لا يقع على الاثنين لأنه جمع لا تثنية، وأقل الجمع ثلاثة. وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقع على الاثنين. كقوله: وكنا لحكمهم شاهدين، وتسوروا المحراب، وأطراف النهار، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «1» ، وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا، ومذهبه أن أقل الجمع اثنان، فعلى هذا: يحجب الأبوان من الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين أو لأب أو لأم أو مختلفين، وسواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكر أو أنثى، فإن كان معهما أب ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأم، ولا يرثون، وقال قوم: يأخذون السدس الذي حجبوه عن الأم، وإن لم يكن أب ورّثوا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قوله: من بعد يتعلق بالاستقرار المضمر في قوله: فلهنّ ثلثا ما ترك، أي: استقر لهنّ الثلثان من بعد وصية، ويمتنع أن يتعلق بترك، وفاعل يوصي الميت، وإنما قدمت الوصية على الدين، والدّين مقدم عليها في الشريعة: اهتماما بها، وتأكيدا للأمر بها، ولئلا يتهاون بها وأخّر الدين لأن صاحبه يتقاضاه، فلا يحتاج إلى تأكيد في الأمر بإخراجه وتخرج الوصية من الثلث، والدّين من رأس المال بعد الكفن وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين: ليدل على أنهما قد يكونان، وقد لا يكونان فدل ذلك على وجوب الوصية أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: بالإنفاق إذا احتيج إليه، وقيل: بالشفاعة في الآخرة، ويحتمل أن يريد نفعا بالميراث من ماله، وهو أليق بسياق الكلام
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية خطاب للرجال. وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة، وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة، ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة، ولا ينقص عن ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول فإن قيل: لم كرر قوله: من بعد وصية، مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلّا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين، فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو
__________
(1) . روى ابن ماجة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اثنان فما فوقهما جماعة. ولكن قيل في رواية: صفيفان.(1/181)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
الزوج، وكل واحدة قضية على انفرادها، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة بخلاف الأولى، فإن الموروث فيها واحد، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيها: من بعد وصية مرة واحدة وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة هي انقطاع عمود النسب وهو خلو الميت عن ولد ووالد، ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو على القرابة، أو على المال: فإن كانت على الميت، فإعرابها خبر كان، ويورث في موضع الصفة أو يورث خبر كان، وكلالة حال من الضمير، في يورث أو تكون كان تامة وتورث في موضع الصفة وكلالة حال من الضمير وإن كانت للورثة فهي مصدر في موضع الحال، وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله، وإن كانت للمال فهي مفعول ليورث، وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وأن تكون ناقصة ويورث خبرها وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ المراد هنا: الأخ للأم والأخت للأم بإجماع وقرأ سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت لأمه وذلك تفسير للمعنى فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ إذا كان الأخ للأم واحد فله السدس وكذلك إذا كانت الأخت للأم واحدة فهم شركاء في الثلث إذا كان الإخوة للأم اثنين فصاعدا: فلهما الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: شركاء يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك غَيْرَ مُضَارٍّ منصوب على الحال، والعامل فيه يوصي ومضار اسم فاعل، قال ابن عباس:
الضرار في الوصية من الكبائر، ووجوه المضار كثيرة: منها الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقا، واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب، والمشهور أنه ينفذ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله: يوصيكم الله ويجوز أن ينتصب بغير مصدر تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما تقدم من المواريث وغيرها وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ هي هنا الزنا مِنْ نِسائِكُمْ أو من المسلمات لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا، وأما الكافر أو الكافرة فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟ فَاسْتَشْهِدُوا(1/182)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ، وقيل: الإمساك للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما ورجحه ابن عطية بقوله: في الإمساك من نسائكم، وفي الأذى منكم، ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، وأما الجلد فمذكور في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد رجم صلّى الله عليه وسلّم ما عزا الأسلمي وغيره فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة، وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي: يغلب ذلك على الظن ولا يقطع به يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي بسفاهة وقلة تحصيل أداة إلى المعصية، وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية، قال أبو العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصية فهي بجهالة، سواء كانت عمدا أو جهلا ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل: قبل المرض والموت. وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة، وفي هذا قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية: في الذين يصرون على الذنوب إلى حين لا تقبل التوبة، وهو معاينة الموت فإن كانوا كفارا فهم مخلدون في النار بإجماع، وإن كانوا مسلمين فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. فقوله: أعتدنا لهم عذابا أليما ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من المسلمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] فعذابهم مقيد بالمشيئة
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا تزوّجها أحدهم، وإن شاؤوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها التزوّج، فنزلت
__________
(1) . رواه النووي في رياض الصالحين وعزاه للترمذي عن عبد الله بن عمر وقال: حديث حسن.(1/183)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
الآية في ذلك، فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال، كما يورث المال، وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة، ليرثوا مالها من غير غبطة بها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوّج ليرثون دون الزوج وَلا تَعْضُلُوهُنَّ معطوف على أن ترثوا أو نهي والعضل المنع، قال ابن عباس: هي أيضا في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوّج بعد موته، إلّا أنّ قوله: ما آتيتموهن على هذا معناه ما آتاها الرجل الذي مات، وقال ابن عباس: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: ما آتيتموهن، ويقويه قوله: وعاشروهن بالمعروف، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم، وقيل: هي للأولياء إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قيل: الفاحشة هنا الزنا، وقيل: نشوز المرأة وبغضها في زوجها، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها، وهذا جائز على مذهب مالك في الخلع، إذا كان الضرر من المرأة، والزنا أصعب عل الزوج من النشوز، فيجوز له أخذ الفدية فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ الآية: معناها إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه، فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر، وقيل: الخير الكثير الولد، والأحسن العموم، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي آخر» «1» وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ الآية: معناها المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فدية على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى، وعلى هذا جرى مذهب مالك وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر وأرادت الفراق من الزوج، فقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وقال قوم:
هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخة ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجه ومنعها على وجه، فلا تعارض ولا نسخ قِنْطاراً مثال على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع مِيثاقاً غَلِيظاً قيل: عقدة النكاح، وقيل: قوله:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] وقيل: الأمر بحسن العشرة
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية
__________
(1) . أخرجه مسلم عن أبي هريرة. في كتاب الرضاعة 2/ 1091.(1/184)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
تحريما لذلك، فكل امرأة تزوّجها رجل حرمت على أولاده ما سفلوا، سواء دخل بها أو لم يدخل، فالنكاح في الآية بمعنى العقد، وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهن ما، لأنّ المراد الجنس، فإن زنى رجل بامرأة فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا: فحرمه أبو حنيفة، وأجازه الشافعي، وفي المذهب قولان: واحتج من حرّمه بهذه الآية وحمل النكاح فيها على الوطء، وقال من أجازه: إنّ الآية لا تتناوله إذ النكاح فيها بمعنى العقد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي إلّا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك، وانقطع بالإسلام فقد عفى عنه فلا تؤاخذون به، ويدل على هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً بعد قوله: إلّا ما قد سلف في المرأة الأخرى في الجمع بين الأختين قال ابن عباس: كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، وقيل: المعنى إلّا ما قد سلف فانكحوه إن أمكنكم، وذلك غير ممكن فالمعنى: المبالغة في التحريم إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً كان في هذه الآية تقتضي الدوام كقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وشبه ذلك وقال المبرد: هي زائدة وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبا، وزاد هذا المقت على ما وصف من الزنا في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا: دلالة على أن هذا أقبح من الزنا
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية. معناها تحريم ما ذكر من النساء، والنساء المحرمات على التأبيد ثلاثة أصناف بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة. فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية، وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله [فروعه] ما سفلت، وأصوله ما علت، وفصول أبويه ما سفلت وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه أُمَّهاتُكُمْ يدخل فيه الوالدة والجدة من قبل الأم والأب ما علون وَبَناتُكُمْ يدخل فيه البنت وبنت الابن وبنت البنت ما سفلن وَأَخَواتُكُمْ يدخل فيه الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَعَمَّاتُكُمْ يدخل فيه أخت الوالد، وأخت الجد ما علا، سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَخالاتُكُمْ يدخل فيه أخت الأم وأخت الجدّ ما علت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأَخِ يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأُخْتِ يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم: الأم والأخت.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» ، فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب، وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وتفصيل ذلك يطول، وفي الرضاع مسائل لم نذكرها لأنها ليس لها تعلق
__________
(1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج أول ص 422.(1/185)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
بألفاظ الآية: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع: وهن زوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها، وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلّا بعد الدخول بأمها، فإن وطئها حرمت عليه بنتها بالإجماع، وإن تلذذ بها بما دون الوطء فحرّمها مالك والجمهور وإن عقد عليها ولم يدخل بها: لم تحرم بنتها إجماعا، وتحرم هذه الأربع بالرضاع كما تحرم بالنسب وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ الربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره: سميت بذلك لأنه يربيها فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله: اللاتي في حجوركم على غالب الأمر إذ الأكثر أن تكون الربيبة في حجر زوج أمّها، وهي محرّمة سواء كانت في حجره أم لا، هذا عند الجمهور من العلماء إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ اشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة، ولم يشترط في غيرها، وعلى ذلك جمهور العلماء: إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع، وقد انعقد الإجماع بعد ذلك وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل، وهو أجنبي عنه كتزويج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم زينب بنت جحش، امرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يقال له: زيد بن محمد صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يقتضي تحريم الجمع بين الأختين سواء كانتا شقيقتين أو لأب أو لأم وذلك في الزوجتين، وأما الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، ورأوا أنه داخل في عموم لفظ الأختين، وأجازه الظاهرية لأنهم قصروا الآية على الجمع بعقد النكاح، وأما الجمع بين الأختين في الملك دون وطء فجائز باتفاق إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ المعنى: إلّا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية وانقطع بالإسلام فقد عفى عنكم فلا تؤاخذون به، وهذا أرجح الأقوال حسبما تقدم في الموضع الأول
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ المراد هنا ذوات الأزواج، وهو معطوف على المحرمات المذكورة قبله، والمعنى أنه لا يحل نكاح المرأة إذا كانت في عصمة الرجل إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد السبايا في أشهر الأقوال، والاستثناء متصل، والمعنى: أن المرأة الكافرة ذا كان لها زوج، ثم سبيت: جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها، وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا من العدوّ لهنّ أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهنّ، فنزلت الآية مبيحة لذلك(1/186)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
ومذهب مالك أن السبي يهدم النكاح سواء سبي الزوجان الكافران معا أو سبي أحدهما قبل الآخر، وقال ابن المواز: لا يهدم السبي النكاح كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدرية: أي كتب الله عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم وهو عند الكوفيين منصوب على الإغراء وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ معناه: أحلّ لكم تزويج من سوى ما حرم من النساء، وعطف أحل على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله، والفاعل هو الله أي كتب الله عليكم تحريم من ذكر، وأحل لكم ما وراء ذلكم أَنْ تَبْتَغُوا مفعول من أجله، أو بدل مما وراء ذلكم، وحذف مفعوله وهو النساء مُحْصِنِينَ هنا العفة ونصبه على الحال من الفاعل في تبتغوا غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زناة، والسفاح هو الزنا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قال ابن عباس وغيره: معناها إذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء فقد وجب إعطاء الأجر، وهو الصداق كاملا. وقيل: إنها في نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل من غير ميراث، وكان جائزا في أول الإسلام فنزلت هذه الآية في وجوب الصداق فيه، ثم حرم عند جمهور العلماء، فالآية على هذا منسوخة بالخبر الثابت في تحريم نكاح المتعة، وقيل نسختها آية الفرائض لأن نكاح المتعة لا ميراث فيه، وقيل: نسختها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: 5] وروي عن ابن عباس جواز نكاح المتعة، وروي أنه رجع عنه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من قال: إن الآية المتقدمة في مهور النساء فمعنى هذه جواز ما يتراضون به من حط النساء من الصداق، أو تأخيره بعد استقرار الفريضة ومن قال: إن الآية في نكاح المتعة. فمعنى هذا جواز ما يتراضون به من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ معناها إباحة تزويج الفتيات، وهنّ الإماء للرجل إذا لم يجد طولا للمحصنات، والطول هنا هو السعة في المال، والمحصنات هنا يراد بهنّ الحرائر غير المملوكات. ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه: لا يجوز للحر نكاح أمة إلّا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة، والآخر: خوف العنت، وهو الزنا لقوله بعد هذا: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلّا أهل العراق فلم يشترطوه، وإعراب طولا: مفعولا بالاستطاعة، وأن ينكح بدل منه وهو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ويحتمل أن يكون طولا منصوبا على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه أنه يعلم(1/187)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
بواطن الأمور ولكم ظواهرها، فإذا كانت الأمة ظاهرة الإيمان، فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي إماؤكم منكم، وهذا تأنيس بنكاح الإماء، لأن بعض العرب كان يأنف من ذلك فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي بإذن ساداتهن المالكين لهنّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي صدقاتهنّ، وهذا يقتضي أنهنّ أحق بصدقاتهنّ من ساداتهنّ، وهو مذهب مالك بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع على ما تقتضيه السنة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفيفات غير زانيات، وهو منصوب على الحال والعامل فيه فانكحوهنّ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن وهو الخليل، وكان من نساء الجاهلية من تتخذ خدنا تزني معه خاصة، ومنهنّ من كانت لا تردّ يد لامس فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ معنى ذلك أن الأمة إذا زنت بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة، فإن الحرة تجلد في الزنا مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين، فإذا أحصن يريد به هنا تزوّجن، والفاحشة هنا الزنا، والمحصنات هنا الحرائر، والعذاب هنا الحدّ فاقتضت الآية حدّ الأمة إذا زنت بعد أن تزوّجت، ويؤخذ حدّ غير المتزوّجة من السنة وهو مثل حدّ المتزوّجة وهذا على قراءة أحصنّ بضم الهمزة وكسر الصاد، وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن، وقيل: تزوّجن ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ الإشارة إلى تزوّج الأمة أي إنما يجوز لمن خشي على نفسه الزنا، لا لمن يملك نفسه وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ المراد الصبر عن نكاح الإماء، وهذا يندب إلى تركه، وعلته ما يؤدي إليه من استرقاق الولد يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ قال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في لا أبالك لتأكيد إضافة الأب، وقال الكوفيون اللام مصدرية مثل أن وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرر توطئة لفساد إرادة الذين يتبعون الشهوات، وهم هنا الزناة عند مجاهد، وقيل: المجوس لنكاحهم ذات المحارم، وقيل: عام في كل متبع شهوة وهو أرجح يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يقتضي سياق الكلام التخفيف الذي وقع في إباحة نكاح الإماء، وهو مع ذلك عام في كل ما خفف الله عن عباده، وجعل دينه يسرا وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قيل: معناه لا يصبر على النساء، وذلك مقتضى سياق الكلام، واللفظ أعم من ذلك
لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يدخل فيه القمار والغصب(1/188)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
والسرقة وغير ذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً استثناء منقطع، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وفي إباحة التجارة دليل على أنه: يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة، والمشهور إمضاء البيع. وحكي عن ابن وهب أنه يرد إذا كان الغبن أكثر من الثلث.
وموضع أن نصب، وتجارة بالرفع «1» فاعل تكون وهي تامة، وقرئ بالنصب خبر تكون وهي ناقصة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي اتفاق. وبهذا استدل المالكية على تمام البيع وبالعقد، دون التفرق وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم:
«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» «2» .
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عطية أجمع المفسرون أنّ المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، قلت: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينكره رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إذ سمعه وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور، وقيل: إليه وإلى أكل المال بالباطل، وقيل: إلى كل ما تقدّم من المنهيات من أوّل السورة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «3» اختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فقال ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب، وقال ابن مسعود:
الكبائر هي الذنوب المذكورة من أول هذه السورة إلى أوّل هذه الآية، وقال بعض العلماء:
كل ما عصي الله به، فهو كبيرة، وعدّها بعضهم سبعة عشر، وفي البخاري عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «اتقوا السبع الموبقات: الإشراك بالله والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» ، فلا شك أنّ هذه من الكبائر للنص عليها في الحديث، وزاد بعضهم عليها أشياء، وورد في الأحاديث النص على أنها كبائر، وورد في القرآن أو في الحديث وعيد عليها، فمنها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول والغلول واستطالة المرء في عرض أخيه، والجور في الحكم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وعد بغفران الذنوب الصغائر إذا اجتنب الكبائر مُدْخَلًا كَرِيماً اسم مكان وهو هنا الجنة
وَلا تَتَمَنَّوْا الآية: سببها أن النساء قلن: ليتنا استوينا
__________
(1) . قراءة المؤلف رحمه الله، وفي المصحف بالنصب وهي قراءة حفص. [.....]
(2) . رواه أحمد عن ابن عمر ج أول ص: 68.
(3) . ذكره المنذري ج 3 ص 48 بلفظ: اجتنبوا السبع الموبقات وعزاه للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة.(1/189)
مع الرجال في الميراث، وشاركناهم في الغزو. فنزلت نهيا عن ذلك لأن في تمنيهم ردّ على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الآية: أي من الأجر والحسنات، وقيل: من الميراث، ويرده لفظ الاكتساب وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الآية: في معناه وجهان أحدهما: لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه، فمما ترك على هذا بيان لكل، والآخر: لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا: يتعلق بفعل مضمر، والموالي: هنا الورثة والعصبة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ اختلف هل هي منسوخة أو محكمة؟
فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية، وقيل:
بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بين أصحابه، ثم نسخها: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر، على أن يتوارثا صح ذلك، وإن لم تكن بينهما قرابة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قوّام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ الباء للتعليل، وما مصدرية، والتفضيل بالإمامة والجهاد، وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك وَبِما أَنْفَقُوا هو: الصداق والنفقة المستمرة فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعة لله في حق أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها، فيدخل في ذلك صيانة نفسها وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله ورعايته، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه، فما مصدرية أو بمعنى الذي وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ قيل: الخوف هنا اليقين فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب: بالوعظ في النشوز الخفيف، والهجران فيما هو أشد منه، والضرب فيما هو أشد ومتى انتهت عن النشوز بوجه من التأديب: لم يتعد إلى ما بعده، والهجران هنا هو ترك مضاجعتها، وقيل: ترك الجماع إذا ضاجعها، والضرب غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي إذا أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها(1/190)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
بهجران ولا ضرب
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الشقاق الشر والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] وأصله: مكر بالليل والنهار فَابْعَثُوا حَكَماً الآية. ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالة أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما، ولا علم من الظالم منهما. فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما. وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة: ليس لهما الفراق إلّا إن جعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيء إلّا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة [في زمن المؤلف] أن يبعثوا امرأة أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضمير في يريدا للحكمين، وفي بينهما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجنب هو الأجنبي، وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم: أربعون ذراعا من كل ناحية الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس: الرفيق في السعي، وقال عليّ بن أبي طالب: الزوجة مُخْتالًا اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه فَخُوراً شديد الفخر الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله مختالا أو نصب على الذمّ أو دفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود: نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات. وهي مع ذلك عامة في من فعل هذه الأفعال من المسلمين وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ عطف على الذين يبخلون، وقيل على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين قَرِيناً أي ملازما له يغويه(1/191)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية: استدعاء لهم كملاطفة أو توبيخ على ترك الإيمان والإنفاق، كأنه يقول أي مضرة عليهم في ذلك مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيها على الكثير وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالرفع فاعل «1» ، وتك تامة، وبالنصب خبر على أنها ناقصة واسمها مضمر فيها يُضاعِفْها أي يكثرها واحد البرّ بعشر إلى سبعمائة أو أكثر وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده تفضلا وزيادة على ثواب العمل فَكَيْفَ إِذا جِئْنا تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بِشَهِيدٍ هو نبيهم يشهد عليهم بأعمالهم وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً أي تشهد على قومك، ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذرفت عيناه لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يدفنوا فيها، ثم تسوّى بهم كما تسوّى بالموتى وقيل: يتمنون أن يكونوا سواء مع الأرض كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[عمّ: 40] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئا فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ [الأنعام: 23] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم، فكأنهم لم يكتموا، والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقات مختلفة، وقيل إن قوله: ولا يكتمون عطف على تسوّى أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر. قال بعض الناس: هي منسوخة بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، إنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب، وهذا بعيد من مقتضى اللفظ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكر أن لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أنّ السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ عطف ولا جنبا على موضع وأنتم سكارى، إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج وهو واقع على
__________
(1) . حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع.(1/192)
جماعة بدليل استثناء الجمع منه. واختلف في عابري سبيل فقيل: إنه المسافر، ومعنى الآية على هذا: نهي أن يقرب الصلاة وهو جنب إلّا في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال، فمقتضى الآية. إباحة التيمم للجنب في السفر، ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث، وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد بها المسجد، لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا: النهي أن يقرب المسجد الجنب إلّا خاطرا عليه، وعلى هذا أخذ الشافعي بأنه يجوز للجنب أن يمر في المسجد، ولا يجوز له أن يقعد فيه، ومنع مالك المرور والقعود، وأجازهما داود الظاهري وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ الآية سببها عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأبيح لهم التيمم لعدم الماء، ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه: أحدها: عدمه في السفر، والثاني: عدمه في المرض، فيجوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع، لأن الآية نص في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما، لقوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر ثم قال: فلم تجدوا ماء. الوجه الثالث: عدم الماء في الحضر دون مرض، فاختلف الفقهاء فيه، فمذهب أبو حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم، لأن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يعتبر مع المرض أو السفر، ومذهب مالك والشافعي: أنه يجوز فيه التيمم فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنّة. وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر، ثم ذكر الإحداث دون مرض ولا سفر، ثم قال بعد ذلك كله: فلم تجدوا ماء فيرجع قوله فلم تجدوا ماء إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر فيجوز التيمم على هذا لمن عدم الماء في غير مرض ولا سفر، فيكون في الآية حجة لمالك والشافعي، ويجوز التيمم أيضا في مذهب مالك للمريض إذا وجد الماء، ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنة، وإن قلنا إن السنة تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها على أن يتناول قوله إن كنتم مرضى أن معناه مرضى لا تقدرون على مس الماء، وحدّ المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو: أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البرء، وعند الشافعي: خوف الموت لا غير، وحدّ السفر:
الغيبة عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ في أو هنا تأويلان: أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها، والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط، وإلى من لامس، سواء كانا مريضين أو مسافرين، أم حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم(1/193)
الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضع آخر، والراجح أن تكون أو على بابها لوجهين أحدهما أن جعلها بمعنى الواو إخراج لها عن أصلها وذلك ضعيف، والآخر إن كانت على بابها: كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تعط هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها. وهذا لا يلزم، لأن العطف بأو هنا للتنويع والتفصيل. ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماء إن كنتم مرضى أو على سفر، وأحدثتم في غير مرض ولا سفر الْغائِطِ أصله المكان المنخفض، وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين، وهو العذرة، والريح، والبول، لأن من ذهب إلى الغائط يكون منه هذه الأحداث الثلاث، وقيل: إنما هو كناية عن العذرة، وأما البول والريح، فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة، وكذلك الودي والمذي.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم، والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب.
ويؤخذ جوازه من الحديث. والثالث: أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا فَتَيَمَّمُوا التيمم في اللغة: القصد، وفي الفقه: الطهارة بالتراب، وهو منقول من المعنى اللغوي صَعِيداً طَيِّباً الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان ترابا أو رملا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله، وهو عند الشافعي التراب لا غير، والطيب هنا الطاهر. واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ لا يكون التيمم إلّا في هذين العضوين، ويقدم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل، لأنه لم يحد، وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق، فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود هنا، وفي الموضع الثاني قال(1/194)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
السهيلي: فالموضع الأول نزل في رفاعة بن زيد بن التابوت، وفي الثاني نزل في كعب بن الأشرف يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ عبارة عن إيثارهم الكفر على الإيمان، فالشراء مجاز كقوله:
اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله: كفى بالله مبالغة
مِنَ الَّذِينَ هادُوا من راجعة إلى الذين أوتوا نصيبا، أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره. من الذين هادوا قوم وقيل: هي متعلقة بنصيرا على قول الفارسي يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى، وقيل: الكلم هنا التوراة، وقيل: كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: لا سمعت راعِنا ذكر في [البقرة: 104] سَمِعْنا وَأَطَعْنا عوض من قولهم:
سمعنا وعصينا، واسمع عوض من قولهم: اسمع غير مسمع، وانظرنا عوض من قولهم:
راعنا، وهو النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضا عن تلك: لكان خيرا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب مُصَدِّقاً ذكر في البقرة أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً قال ابن عباس: طمسها أن تزال العيون منها، وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر، وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت، وقد ذكر في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هذه الآية هي الحاكمة في مسألة الوعيد. وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة، والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى، ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر. ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد، ويرد على الطائفتين قوله: «ويغفر ما دون ذلك» ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بدّ وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان، ويرد عليهم قولهم: لمن يشاء، فإنه تخصيص لبعض العصاة، وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء، وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد، لأن قوله: إنّ(1/195)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
الله لا يغفر أن يشرك به في غير التائب من الشرك وكذلك قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ في غير التائب من العصيان ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد، وتأولتها المرجئة على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء: معناه لمن يشاء أن يؤمن، وهذا أيضا بعيد، لا يقتضيه اللفظ وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد فحملها المعتزلة على العصاة وحملها المرجئة على الكفار، وحملها أهل السنة على الكفار، وعلى من لا يغفر الله له من العصاة، كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا، وعلى المذنبين التائبين، وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين، فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آية الوعد وآية الوعيد، بل يجمع بين معانيها، بخلاف قول غيرهم فإنّ الآيات فيه تتعارض، وتلخيص المذاهب أن الكافر إذا تاب من كفره: غفر له بإجماع، وإن مات على كفره: لم يغفر له، وخلد في النار بإجماع، وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له، وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ هم اليهود لعنهم الله، وتزكيتهم قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: مدحهم لأنفسهم فَتِيلًا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفيك إذا فتلتهما، هو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء فيدل على الأكثر بطريق الأولى يَفْتَرُونَ دليل على أن تزكيتهم لأنفسهم بالباطل يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ قال ابن عباس: الجبت هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وقيل الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، وبالجملة هما كل ما عبد وأطيع من دون الله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية: سببها أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف أو غيرهما من اليهود، قالوا لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلا من محمد وأصحابه أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ الهمزة للاستفهام مع الإنكار نَقِيراً النقير هي النقرة في ظهر النواة وهو تمثيل، وعبارة عن أقل الأشياء، والمراد وصف اليهود بالبخل لو كان لهم نصيب من الملك، وأنهم حينئذ يبخلون بالنقير الذي هو أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب أولى
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وصفهم بالحسد مع البخل، والناس هنا يراد بهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وأمته، والفضل النبوة، وقيل: النصر والعزة، وقيل: الناس العرب والفضل كون النبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ(1/196)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
وَالْحِكْمَةَ
المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة التي علمها، والمقصود بالآية الردّ على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم، فلأيّ شيء تخصون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم مُلْكاً عَظِيماً الملك في آل إبراهيم هو ملك يوسف وداود وسليمان فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية قيل: المراد من اليهود من آمن بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو بالقرآن المذكور في قوله تعالى: مصدقا لما معكم، أو بما ذكر من حديث إبراهيم، فهذه ثلاثة أوجه في ضمير به، وقيل: منهم أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر: كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 26] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية قيل: تبدل لهم جلود بعد جلود أخرى، إذ نفوسهم هي المعذبة وقيل: تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار، وقيل: الجلود السرابيل وهو بعيد أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ذكر في البقرة ظِلًّا ظَلِيلًا صفة من لفظ الظل للتأكيد: أي دائما لا تنسخه الشمس وقيل: نفي الحر والبرد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ الآية: قيل هي خطاب للولاة وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حين أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ولفظها عام، وكذلك حكمها وَأُولِي الْأَمْرِ هم: الولاة، وقيل: العلماء نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في سرية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الردّ إلى الله هو النظر في كتابه، والردّ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته إِنْ كُنْتُمْ يحتمل أن يكون هذا الشرط راجعا إلى قوله: فردّوه أو إلى قوله أطيعوا، والأوّل أظهر، لأنه أقرب إليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي مآلا وعاقبة وقيل: أحسن نظرا منكم الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية: نزلت في المنافقين، وقيل: في منافق ويهودي كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي. وقيل: إلى كاهن
رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ وضع الظاهر موضع المضمر ليذمهم بالنفاق، ودل ذلك على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في المنافقين(1/197)
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الآية: أي كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يحتمل أن يكون هذا معطوفا على ما قبله، أو يكون معطوفا على قوله: يصدّون، ويكون قوله: فكيف إذا أصابتهم اعتراضا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن معاقبتهم، وليس المراد بالإعراض القطيعة لقوله: وَعِظْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية: وعد بالمغفرة لمن استغفر، وفيه استدعاء للاستغفار والتوبة، ومعنى:
جاءوك أتوك تائبين معتذرين من ذنوبهم، يطلبون أن تستغفر لهم الله فَلا وَرَبِّكَ لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلط واختلفوا فيه، ومعنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا، وقيل: بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار في الماء وحكمها عام وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية: معناها لو فرض عليهم ما فرض على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها، لقلة انقيادهم إلّا القليل منهم الذين هم مؤمنون حقا، وقد روي أن من هؤلاء القليل أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار بن ياسر وثابت بن قيس إِلَّا قَلِيلٌ بالرفع بدل من المضمر، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على أصل الاستثناء أو على إلّا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وطاعته والانقياد له وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقا لإيمانهم وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جواب لسؤال مقدّر عن حالهم لو فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثواب على الطاعة أي هم معهم في الجنة، وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والصدّيق فعّيل من الصدق، ومن التصديق، والمراد به المبالغة، والصدّيقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء، والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق وصاحب الهدم حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة والرفيق يقع على الواحد والجماعة كالخليط، وهو مفرد بيّن به الجنس، ومعنى الكلام(1/198)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
إخبار واستدعاء للطاعة التي ينال بها مرافقة هؤلاء
ذلِكَ الْفَضْلُ الإشارة إلى الثواب على الطاعة بمرافقة من ذكر في الجنة، والفضل صفة أو خبر خُذُوا حِذْرَكُمْ أي تحرزوا من عدوّكم واستعدّوا له فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرّقين وذلك كناية عن السرايا، وقيل إنّ الثبتة ما فوق العشرة، ووزنها فعلة بفتح العين ولامها محذوفة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين في الجيش الكثيف فخيرهم في الخروج إلى الغزو في قلة أو كثرة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الخطاب للمؤمنين، والمراد بمن المنافقين وعبر عنهم بمنكم إذ هم يزعمون أنهم من المؤمنين، ويقولون آمنا، واللام في لمن للتأكيد، وفي ليبطئن جواب قسم محذوف، ومعناه يبطئ غيره يثبطه عن الجهاد ويحمله على التخلف عن الغزو، وقيل: يبطئ يتخلف هو عن الغزو ويتثاقل فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة والمعنى أن المنافق تسره غيبته عن المؤمنين إذا هزموا وشهيدا معناه حاضرا معهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي نصر وغنيمة، والمعنى: أنّ المنافق يندم على ترك الغزو معهم إذا غنموا فيتمنى أن يكون معهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة اعتراض بين العامل ومعموله فلا يجوز الوقف عليها، وهذه المودّة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ذكر الحالتين للمقاتل ووعد بالأجر على كل واحدة منهما وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال، ما مبتدأ ولكم الجار والمجرور خبر، ولا تقاتلون في موضع الحال، والمستضعفين هم الذين حبسهم مشركوا قريش بمكة ليفتنوهم عن الإسلام، وهو عطف على اسم الله أو مفعول معه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها هي مكة حين كانت للمشركين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وما بعده إخبار، قصد به تقوية قلوب المسلمين وتحريضهم على القتال
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية، قيل: هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمروا به كرهوه، لا شكا في دينهم، ولكن خوفا من الموت، وقيل: هي في المنافقين(1/199)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وهو أليق في سياق الكلام مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وما بعده تحقير الدنيا فتضمن الرد عليهم في كراهتهم للموت فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في حصون منيعة، وقيل: المشيدة المطولة وقيل المبنية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: النصر والغنيمة وشبه ذلك من المحبوبات، والسيئة: الهزيمة والجوع وشبه ذلك، والضمير في تصبهم وفي يقولوا للذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وهذا يدل على أنها في المنافقين، لأن المؤمنين لا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ السيئات من عنده قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رد على من نسب السيئة إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وإعلام أن السيئة والحسنة والخير والشر من عند الله أي بقضائه وقدره فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ توبيخ لهم على قلة فهمهم ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان: أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله، والسيئة إلى العبد تأدبا مع الله في الكلام، وإن كان كل شيء منه في الحقيقة، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «والخير كله بيديك والشر ليس إليك» «1» وأيضا: فنسبة السيئة إلى العبد لأنها بسبب ذنوبه، لقوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 42] ، فهي من العبد بتسببه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع، والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل، والتقدير يقولون: كذا فمعناها كمعنى التي قبلها مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذه الآية من فضائل رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم، وإنما كانت طاعته كطاعة الله لأنه يأمر وينهى عن الله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي من أعرض عن طاعتك، فما أنت عليه بحفيظ تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله، وفي هذا متاركة وموادعة منسوخة بالقتال
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة لك، وهي في المنافقين بإجماع بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ بيت أي: تدبر الأمر بالليل، والضمير في تَقُولُ للمخاطب، وهو النبي صلّى الله تعالى عليه
__________
(1) . هذه الجملة من دعاء نبوي ورد في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وأوله: اللهم أنت الملك لا إله إلّا أنت أنت ربي وأنا عبدك. انظر صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء. الجمع بين الصحيحين للصاغاني.(1/200)
وعلى اله وسلّم أو للطائفة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ حض على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه اخْتِلافاً كَثِيراً أي تناقضا كما في كلام البشر أو تفاوتا في الفصاحة لكن القرآن منزّه عن ذلك، فدل على أنه كلام الله، وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من القرآن، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ قيل: هم المنافقون وقيل: قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش أو غير ذلك أذاعوا به، أي تكلموا به وشهروه قبل أن يعلموا صحته، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة وقلة التثبت، فأنكر الله ذلك عليهم وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: لو ترك هؤلاء القوم الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم، وردوه إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وإلى أولي الأمر وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم، لعلمه القوم الذين يستنبطونه أي يستخرجونه من الرسول وأولي الأمر فالذين يستنبطونه على هذا طائفة من المسلمين يسألون عنه الرسول صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وأولي الأمر، وحرف الجر في قوله يستنبطونه منهم لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر، وقيل: الذين يستنبطونه هم أولوا الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه سمع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلق نساءه، فدخل عليه، فقال: أطلّقت نساءك؟ فقال: لا، فقام على باب المسجد، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا يستنبطونه هم أولو الأمر، والضمير المجرور يعود عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطه على هذا هو: سؤالهم عنه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو بالنظر والبحث، واستنباطه على التأويل الأول وهو سؤال الذين أذاعوه للرسول عليه الصلاة والسلام ولأولي الأمر وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: هداه وتوفيقه، أو بعثه للرسل، وإنزاله للكتب، والخطاب في هذه الآية للمؤمنين إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا اتباعا قليلا فالاستثناء من المصدر، والمعنى: لولا فضل الله ورحمته لاتبعتم الشيطان إلّا في أمور قليلة كنتم لا تتبعونه فيها، وقيل: إنه استثناء من الفاعل في اتبعتم أي إلّا قليلا منكم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان كورقة بن نوفل، والفضل والرحمة على بعث الرسول وإنزال الكتاب، وقيل: إنّ الاستثناء من قوله أذاعوا به(1/201)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لما تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي ليس عليك في شأن المؤمنين إلّا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: عسى من الله واجبة «1» ، والذين كفروا هنا قريش، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وغيرها وبفتح مكة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي عقابا وعذابا شَفاعَةً حَسَنَةً هي الشفاعة في مسلم لتفرج عنه كربة، أو تدفع مظلمة أو يجلب إليه خيرا، والشفاعة السيئة بخلاف ذلك وقيل: الشفاعة الحسنة هي الطاعة والشفاعة السيئة هي المعصية، والأول أظهر، والكفل هو النصيب مُقِيتاً قيل: قديرا، وقيل:
حفيظا، وقيل: الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها معنى ذلك الأمر بردّ السلام، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل، مثل أن يقال له: سلام عليك فيردّ السلام ويزيد الرحمة والبركة، وردّ السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي، وقال بعض الناس: هو فرض عين، واختلف في الردّ على الكفار، فقيل: يردّ عليهم لعموم الآية، وقيل: لا يردّ عليهم، وقيل:
يقال لهم عليكم، حسبما جاء في الحديث، وهو مذهب مالك ولا يبتدئون بالسلام لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف، وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدّى بإلى وَمَنْ أَصْدَقُ لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ما استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فئتين: أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين؟ وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، ويرد هذا قوله: حتى يهاجروا أَرْكَسَهُمْ أي أضلهم، وأهلكهم
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا فَخُذُوهُمْ يريد به
__________
(1) . لم يتضح لي مراد المؤلف بقوله: واجبة، وقد ذكرها الطبري أيضا.(1/202)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
الأسر إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ الآية: استثناء من قوله فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. ومعناها: أن من وصل من الكفار غير المعاهدين إلى الكفار المعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهد ومهادنة فحكمه كحكمهم في المسالمة وترك قتاله، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بالقتال في أول سورة براءة، قال السهيلي وغيره: الذين يصلون هم بنو مدلج بن كنانة إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بنو خزاعة، فدخل بنو مدلج في صلح خزاعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمعنى يصلون إلى قوم: ينتهون إليهم، ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة وقيل: معنى يصلون أي ينتسبون، وهذا ضعيف جدا بدليل قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقريش، وهم أقاربه وأقارب المؤمنين فكيف لا يقاتل أقارب الكفار المعاهدين أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، عطف على يصلّون أو على صفة قوم وهي: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى يختلف باختلاف ذلك، والأول أظهر، وحصرت صدورهم: في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب حصرت، ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهم، وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم. ثم نسخ أيضا ذلك بالقتال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي إن سالموكم فلا تقاتلوهم، والسلم هنا الانقياد سَتَجِدُونَ آخَرِينَ الآية: نزلت في قوم مخادعين، وهم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم، والفتنة هنا الكفر على الأظهر، وقيل:
الاختبار
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، لكن الخطأ قد يقع، والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلّا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد إذ هو مغلوب فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيان للآية(1/203)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره، وأجمع الفقهاء عليه، واشترط مالك في الرقبة التي تعتق أن تكون مؤمنة، ليس فيها عقد من عقود الحرية، سالمة من العيوب أما إيمانها فنص هنا، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا، واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأما سلامتها من عقود الحرية فيظهر من قوله تعالى: فتحرير رقبة، لأن ظاهره أنه ابتداء عتق عند التكفير بها وأما سلامتها من العيب، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه وفي ذلك نظر، ولم يبين في الآية مقدار الدية وهي عند مالك مائة من الإبل على أهل الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم شرعية على أهل الورق، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مدفوعة إليهم، والأهل هنا الورثة، واختلف في مدة تسليمها، فقيل: هي حالّة عليهم، وقيل: يؤدونها في ثلاث سنين، وقيل: في أربع، ولفظ التسليم مطلق وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالك والجمهور، خلافا لأهل الظاهر، وحجتهم عود الضمير على الأولياء، وقال الجمهور، إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ معنى الآية: أن المقتول خطأ إن كان مؤمنا وقومه كفارا أعداء وهم المحاربون، فإنما في قتله التحرير خاصة دون الدية فلا تدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين، ورأى ابن عباس أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر، وخالفه غيره ورأى مالك أن الدية في هذا لبيت المال فالآية عنده منسوخة، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الآية: معناها أن المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين ففي مثله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إنّ المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ، وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، ولفظ الآية مطلق إلّا أن قيده قوله: وهو مؤمن في الآية التي قبلها وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوض منه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ منصوب على المصدرية ومعناه رحمة منه وتخفيفا
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الآية: نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ، ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتدّ مشركا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه(1/204)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
واله وسلّم بقتله، والمتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك، وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول: لا يخلد عصاة المؤمنين في النار، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله:
خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه: أحدها: أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا، والثاني: قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر، والثالث: قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة، والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس: الشرك والقتل من مات عليهما خلد، وبقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلّا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» «1» ، وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي، واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ والصحيح أنه يسقط عنه، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» «2» ، وبذلك قال جمهور العلماء ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا من البيان وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال «3» أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ بغير ألف أي انقاد وألقى بيده، وقرأ نافع وغيره السلام بمعنى التحية، ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم، وقال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط، وقيل: القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني الغنيمة، وكان للرجل المقتول غنم فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام، وقيل: كنتم تخفون إيمانكم من قومكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعزة والنصر حتى أظهرتموه
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: معناها تفضيل المجاهدين على من لم
__________
(1) . رواه أحمد ج 4 ص 138 عن معاوية وذكر في التيسير أنه رواه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء.
(2) . ذكره في التيسير وعزاه لأحمد عن خزيمة بن ثابت وفي سنده اضطراب.
(3) . فثبتوا.(1/205)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
يجاهد وهم القاعدون غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لما نزلت الآية: قام ابن أم مكتوم الأعمى، فقال يا رسول الله هل من رخصة فإني ضرير البصر، فنزل: غير أولي الضرر وقرئ غير بالحركات الثلاث، بالرفع صفة للقاعدين، وبالنصب «1» على الاستثناء أو الحال، وبالخفض صفة للمؤمنين دَرَجَةً قيل: هي تفضيل على القاعدين من أهل العذر والدرجات على القاعدين بغير عذر، وقيل: إنّ الدرجات مبالغة وتأكيد الدرجة الْحُسْنى الجنة أَجْراً منصوب على الحال من درجات أو المصدرية من معنى فضل، وانتصب درجات على البدل من الأجر أو بفعل مضمر، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلها: أي غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فلما كان يوم بدر خرجوا مع الكفار فقتلوا منهم قيس بن الفاكه والحارث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، ويحتمل أن يكون توفاهم ماضيا أو مضارعا، وانتصب ظالمي على الحال قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذار عن التوبيخ الذي وبخهم به الملائكة: أي لم تقدروا على الهجرة، وكان اعتذارا بالباطل قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً رد عليهم وتكذيب لهم في اعتذارهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الذين كان استضعافهم حقا، قال ابن عباس: كنت أنا وأبي وأمي ممن عنى الله بهذه الآية مُراغَماً أي متحوّلا وموضعا يرغم عدوه بالذهاب إليه وَسَعَةً أي اتساع في الأرض وقيل: في الرزق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثبت وصح وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية حكمها على العموم، ونزلت في ضمرة بن القيس وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضا فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيئ له فراش فوضع عليه وخرج فمات في الطريق، وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة.
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال: أولها: أنها في قصر
__________
(1) . قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب وقرأ غيرهم بالرفع.(1/206)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر، ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف على ظاهر الآية، وهو قول عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والثاني: أن الآية تقتضي ذلك ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة، ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب إنّ الله يقول: إن خفتم وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر في السفر وهو آمن، الثالث: أن قوله: إن خفتم راجع إلى قوله:
وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد، الرابع: أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة، قال ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. الخامس: أنها في صلاة المسايفة، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة كقوله: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر، فظاهرها أن القصر رخصة، والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: القصر أفضل، وقيل إنهما سواء، وأوجب أبو حنيفة القصر، وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة لأن قوله: إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير، ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس، وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة، أو السفر المباح، دون سفر المعصية فإنّ لفظها مطلق في السفر، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية، ومنعه مالك في سفر المعصية، ومنعه ابن حنبل في المعصية، وفي المباح. وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فأضربنا عن ذكرها، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلّى بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابة بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، واختلف الناس [العلماء] في صلاة الخوف على عشرة أقوال، لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإنّ تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل الطائفة(1/207)
المصلية وقيل الحارسة والأول أرجح، لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى:
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة: جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ الضمير في قوله: فإذا سجدوا للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء، والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم: يحتمل أن يكون للذين سجدوا: أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها، وإن كان السجود في ركعة القضاء، فيقتضى ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء، وهو مذهب مالك والشافعي، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلّين يحرسونهم وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى يعني الطائفة الحارسة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بذلك، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار، وفي قوله: ميلة واحدة: مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ الآية: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ: يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: أي إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان، وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة كِتاباً مَوْقُوتاً أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس: فرضا مفروضا(1/208)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تضعفوا في طلب الكفار إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الآية: معناها. إن أصابكم ألم من القتال فكذلك يصيب الكفار ألم مثله، ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم: النصر في الدنيا، والأجر في الآخرة وذلك تشجيع للمسلمين لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد، أو بهما، وإذا تضمنت الاجتهاد، ففيها دليل على إثبات النظر والقياس خلافا لمن منع ذلك من الظاهرية وغيرهم وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة بن الأبيرق إذ سرق طعاما وسلاحا لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنه بريء، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا، فالخائنون في الآية: هم السراق بنو الأبيرق، وقال السهيلي: هم بشر وبشير ومبشر وأسيد، ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لغيرهم وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي من خصامك عن الخائنين، على أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون ليلا وإنما سمي التدبير قولا، لأنه كلام النفس، وربما كان معه كلام باللسان وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
قيل: إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنى، وكرر لاختلاف اللفظ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
هم الذين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برّأوا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة، فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها، وبقية الآية تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقدير لنعم الله عليه
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلا على حذف مضاف(1/209)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
تقديره إلّا نجوى من أمر، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة فالاستثناء متصل وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يعاديه، والشقاق هو العداوة، ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق، لأنه ارتدّ وسار إلى المشركين ومات على الكفر، وهي عامة فيه وفي غيره وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ استدل الأصوليون بها على صحة إجماع المسلمين وأنه لا يجوز مخالفته، لأن من خالفه اتبع غير سبيل المؤمنين، وفي ذلك نظر نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نتركه مع اختياره الفاسد إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قد تقدّم الكلام على نظيرتها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً الضمير في يدعون للكفار، ومعنى يدعون يعبدون، واختلف في الإناث هنا، فقيل: هي الأصنام، لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة: كاللات والعزى، وقيل: المراد الملائكة لقول الكفار إنهم إناث وكانوا يعبدونهم فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد، وقيل: المراد الأصنام، لأنها لا تفعل فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً يعني إبليس، وإنما قال: إنهم يعبدونه، لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال، والمريد هو الشديد العتوّ والإضلال لَعَنَهُ اللَّهُ صفة للشيطان وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الضمير للشيطان: أي فرضته لنفسي من قولك فرض للجند وغيرهم، والمراد بهم أهل الضلال وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي أعدهم الأماني الكاذبة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي يقطعونها، والإشارة بذلك إلى البحيرة وشبهها فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ التغيير هو الخصاء وشبهه، وقد رخص جماعة من العلماء في خصاء البهائم، إذا كان فيه منفعة، ومنعه بعضهم لظاهر الآية، وقيل: التغيير هو الوشم وشبهه، ويدل على هذا الحديث الذي لعن فيه الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات خلق الله «1» مَحِيصاً أي معدلا ومهربا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران: الأوّل مؤكد للوعد الذي يقتضيه قوله: سندخلهم جنات، والثاني مؤكد لوعد الله
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية: اسم
__________
(1) . الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود في كتاب اللباس والزينة 3/ 1678.(1/210)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
ليس مضمر تقديره الأمر وشبهه، والخطاب للمسلمين، وقيل: للمشركين أي لا يكون ما تتمنون، ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده، ويجازيهم بأعمالهم مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وعيد حتم في الكفار، ومقيد بمشيئة الله في المسلمين وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ دخلت من للتبعيض رفقا بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر وَهُوَ مُؤْمِنٌ تقييد باشتراط الإيمان، فإنه لا يقبل عمل إلّا به نَقِيراً هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، والمعنى تمثيل بأقل الأشياء وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي دين الإسلام حَنِيفاً حال من المتبع أو من إبراهيم وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي صفيا، وهو مشتق من الخلة بمعنى المودّة، وفي ذلك تشريف لإبراهيم، وترغيب في اتباعه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عطف على اسم الله أي يفتيكم الله، والمتلوّ عليكم في الكتاب يعني القرآن فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ كان الرجل من العرب يتزوّج اليتيمة من أقاربه بدون ما تستحقه من الصداق، فقوله: ما كتب لهن يعني ما تستحقه المرأة من الصداق، وقوله: وترغبون أن تنكحوهن: يعني: لجمالهن وما لهن من غير توفية حقوقهن، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك أول السورة في قوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية، وهذه الآية هي التي تليت عليهم في يتامى النساء، والمستضعفين من الولدان: عطف على يتامى النساء، والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: يوصيكم الله في أولادكم، لأن العرب كانت لا تورث البنت ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على المستضعفين، أي والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط، ويجوز أن يكون منصوبا تقديره: ويأمركم أن تقوموا، أو الخطاب في ذلك للأولياء، والأوصياء، أو للقضاة وشبههم، والذي تلي عليهم في ذلك هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] الآية، وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة/ 188] إلى غير ذلك
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين، إذا خافت النشوز أو الإعراض، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدّم معنى(1/211)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
النشوز، وأما الإعراض فهو أخف، ووجوه الصلح كثيرة منها أن يعطيها الزوج شيئا أو تعطيه هي أو تسقط حقها من النفقة أو الاستمتاع أو غير ذلك، وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له: أمسكني في نسائك ولا تقسم لي وقد وهبت يومي لعائشة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما، وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل، واللام في الصلح للعهد وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها لأنها جبلت عليه. والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه، وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع، وشح الزوج هو منع الصداق والتضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ معناه العدل التام الكامل في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك فرفع الله ذلك عن عباده، فإنهم لا يستطيعون. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك» «1» يعني: ميله بقلبه وقيل: إنّ الآية نزلت في ميله صلّى الله عليه وسلّم بقلبه إلى عائشة، ومعناها اعتذار من الله تعالى عن عباده فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا ذات زوج ولا مطلقة وَإِنْ يَتَفَرَّقا الآية: معناها إن تفرّق الزوجان بطلاق أغنى الله كل واحد منهما من فضله عن صاحبه، وهذا وعد بخير وتأنيس وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الآية:
إخبار أنّ الله وصى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم غيركم، وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، وقال: هم قوم هذا
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا الآية: تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة، لأنه خير من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره، وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول، من كان يريد
__________
(1) . رواه: أحمد عن عائشة بلفظ: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ج 6 ص 164.(1/212)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، وعلى الثاني من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه من الله فعند الله ثواب الدنيا والآخرة كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مجتهدين في إقامة العدل شُهَداءَ لِلَّهِ معناه لوجه الله ولمرضاته وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يتعلق بشهد وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر الوالدين والأقربين، إذ هم مظنة للتعصب والميل: فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً جواب إن محذوف على الأظهر أي إن يكن المشهود عليه غنيا، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما له، وإن كان فقيرا فلا تمتنع من الشهادة عليه اتفاقا فإنّ الله أولى بالغني والفقير، أي بالنظر إليهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أن مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، فالتقدير إرادة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدل، فالتقدير كراهة أن تعدلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قيل: إنّ الخطاب للحكام، وقيل للشهود، واللفظ عام في الوجهين، والليّ: هو تحريف الكلام، أي تلووا عن الحكم بالعدل أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون، وقرئ إن تلوا بضم اللام من الولاية «1» : أي إن وليتم إقامة الشهادة، أو أعرضتم عنها آمِنُوا بِاللَّهِ الآية خطاب للمسلمين: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذكر، أو يكون أمرا بالدوام على الإيمان، وقيل: خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين: معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل:
خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر، وقيل: في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أرجح لأنّ الكلام من هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ وازداد كفرا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية:
__________
(1) . وهي قراءة حمزة وعامر.(1/213)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
إشارة إلى قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: 68] وغيرها، وفي الآية دليل على وجوب تجنب أهل المعاصي، والضمير في قوله: معهم يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ صفة للمنافقين: أي ينتظرون بكم دوائر الزمان أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال علي بن أبي طالب وغيره: ذلك في الآخرة، وقيل: السبيل هنا الحجة البالغة يُخادِعُونَ اللَّهَ
ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم مُذَبْذَبِينَ أي مضطربين متردّدين، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أي في الطبقة السفلى من جهنم، وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شرّ من الكفار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم، وقدّم الشكر على الإيمان، لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان: متقدّم عليه، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به، والشاكر اسم الله ذكر في اللغات إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلّا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، وقيل: أن يذكر ما فعل به من الظلم، وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ الآية: ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية، وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار، وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية: في اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بأنبيائهم، وكفروا(1/214)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ومعنى التفريق بين الله ورسله الإيمان به والكفر برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم، فحكم الله على من كان كذلك بحكم الكفر الحقيقي الكامل وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية: في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم آمنوا بالله وجميع رسله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية، روي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل كتاب إلى فلان، وكتاب إلى فلان بأنك رسول الله، وإنما طلبوا ذلك على وجه التعنت، فذكر الله سؤالهم من موسى، وسوء أدبهم معه تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم بالتأسي بغيره، ثم ذكر أفعالهم القبيحة ليبين أنّ كفرهم إنما هو عناد، وقد تقدّم في البقرة ذكر طلبهم للرؤيا، واتخاذهم العجل، ورفع الطور فوقهم، واعتدائهم في السبت وغير ذلك بما أشير إليه هنا فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ما زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا، أو تتعلق بقوله حرمنا عليهم، ويكون فبظلم على هذا بدلا من قوله: فبما نقضهم بُهْتاناً عَظِيماً هو أن رموا مريم بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عدّد الله في جملة قبائحهم قولهم: إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه، وهم يعتقدون أنه عيسى، وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي. فيقتل ويكون رفيقي في الجنة، فقال أحدهم أنا فألقي عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى» «1» وقيل بل دلّ على عيسى يهوديّ، فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا، حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال رَسُولَ اللَّهِ إن قيل: كيف قالوا فيه رسول الله، وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من
__________
(1) . أورد الطبري هذا الحديث بسنده عن القاسم بن أبي بزة وعن ابن جريج فلينظر هناك.(1/215)
ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، والثاني: أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا رسول الله عندكم أو بزعمكم، والثالث: أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله، وفائدة تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إنا قتلناه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ردّ عليه وتكذيب لهم وللنصارى أيضا في قولهم: إنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك. والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إنه إله أو ابن إله ثم يقولون إنه صلب وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ فيه تأويلان: أحدهما: ما ذكرناه من إلقاء شبهه على الحواري أو على اليهودي، والآخر: أنّ معناه شبه لهم الأمر أي خلط لهم القوم الذين حاولوا قتله بأنهم قتلوا رجلا آخر وصلبوه ومنعوا الناس أن يقربوا منه، حتى تغير بحيث لا يعرف، وقالوا للناس: هذا عيسى، ولم يكن عيسى، فاعتقد الناس صدقهم وكانوا متعمدين للكذب وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ روي أنه لما رفع عيسى وألقي شبهه على غيره فقتلوه، قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا، فقال بعضهم هو هو، وقال بعضهم ليس هو، فأجمعوا أن شخصا قتل، واختلفوا من كان إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع لأنّ العلم تحقيق والظن تردّد، وقال ابن عطية: هو متصل إذا الظن والعلم يجمعهما جنس المعتقدات، فإن قيل: كيف وصفهم بالشك وهو تردّد بين احتمالين على السواء ثم وصفهم بالظنّ وهو ترجيح أحد الاحتمالين؟
فالجواب أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارات فظنوا، قاله الزمخشري، وقد يقال: الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف، وقيل: هي مصدر في موضع الحال: أي ما قتلوه متيقنين، وقيل: هو تأكيد للنفي الذي في قوله: ما قتلوه أي يتقين نفي قتله، وهو على هذا منصوب على المصدرية بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فيها تأويلان: أحدهما: أنّ الضمير في موته لعيسى، والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض، قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا، وهو دين الإسلام، والثاني أنّ الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، وفي مصحف أبيّ بن كعب قبل موتهم، وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في به لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كثيرا صفة لمصدر(1/216)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
محذوف تقديره صدّا كثيرا، أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كثيرا مفعولا بالصدّ، أي صدّوا كثيرا من الناس عن سبيل الله
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ هو عبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم وَالْمُقِيمِينَ منصوب على المدح بإضمار فعل، وهو جائز كثيرا في الكلام، وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف، وفي مصحف ابن مسعود: والمقيمون، على الأصل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية: ردّ على اليهود الذين سألوا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي: كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ منصوب بفعل مضمر أو على البدل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول: لو أرسل إليّ رسولا لآمنت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية:
معناها أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده، وكذلك تشهد الملائكة بذلك، وسبب الآية: إنكار اليهود للوحي، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا: لن نشهد بما أنزل إليك، فقيل:
لكن الله يشهد بذلك، وفي الآية من أدوات البيان الترديد، وهو ذكر الشهادة أولا، ثم ذكرها في آخر الآية أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله، خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم، وقد تأوّلوا الآية بتأويل بعيد
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب عام، لأنّ النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم بعث إلى جميع الناس فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصب خبرا هنا، وفي قوله: انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره ائتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وقال الخليل: انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف، وقال الكوفيون هو خبر(1/217)
كان المحذوفة تقديره يكن الإيمان خيرا لكم وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو غني عنكم لا يضره كفركم يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ هذا خطاب للنصارى لأنهم غلوا في عيسى حتى كفروا، فلفظ أهل الكتاب عموم يراد به الخصوص في النصارى، بدليل ما بعد ذلك والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد وَكَلِمَتُهُ أي مكون عن كلمته التي هي كن من غير واسطة أب ولا نطفة وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله، فمن هنا لابتداء الغاية، والمعنى من عند الله، وجعله من عند الله لأن الله أرسل به جبريل عليه السلام إلى مريم وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ نهي عن التثليث، وهو مذهب النصارى وإعراب ثلاثة خبر مبتدأ مضمر لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ برهان على تنزيهه تعالى عن الولد، لأنه مالك كل شي ءنْ يَسْتَنْكِفَ
لن يأنف كذلك، ومعناه حيث وقع لَا الْمَلائِكَةُ
فيه دليل لمن قال: إنّ الملائكة أفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ هو القرآن، وهو أيضا النور المبين، ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج، وبالنور النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه سمّاه سراجا يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتيا، ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة، ويفتيكم أيضا طلب لها، فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه، والأوّل أظهر، وقد تقدّم معنى الكلالة في أوّل السورة والمراد بالأخت والأخ هنا: الشقائق، والذين للأب إذا عدم الشقائق، وقد تقدّم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث أَنْ تَضِلُّوا مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا.(1/218)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
سورة المائدة
مدنية إلا آية 3 فنزلت بعرفات في حجة الوداع وآياتها 120 نزلت بعد الفتح (سورة المائدة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قيل: إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج والصيام وشبه ذلك، وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه، ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله:
أحلت لكم وما بعده بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والغنم، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها، قال الزمخشري:
هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يريد الميتة وأخواتها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من محلي الصيد، وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بإلّا من البهائم المحللة، والاستثناء بغير من القوم المخاطبين
لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تحلوا شعائر الله: أي لا تغيروا عليهم ولا تصدّوهم وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك، وإحلاله: فعله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قيل: هو جنس الأشهر الحرام الأربعة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة وذو الحجة، وإحلالها هو: القتال فيها وتغيير حالها، وَلَا الْهَدْيَ هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام، ويذبح تقرّبا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه، أو يصد عن البيت وَلَا الْقَلائِدَ قيل: هي التي تعلق في أعناق الهدي، فنهى عن التعرّض لها، وقيل: أراد ذوات القلائد(1/219)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
من الهدي وهي البدن وجدّدها بالذكر بعد دخولها في الهدي اهتماما بها وتأكيدا لأمرها وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي قاصدين إلى البيت لحج أو عمرة، ونهى الله عن الإغارة عليهم أو صدّهم عن البيت، ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحطم البكري واسمه: شريح بن ضبيعة أخذته خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر، وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء: عام في المسلمين والمشركين، ثم نسخ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وبقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: 29] وبقوله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً الفضل: الربح في التجارة، والرضوان:
الرحمة في الدنيا والآخرة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم، فالأمر هنا إباحة بإجماع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا معنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم، يقال: جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه، والشنآن: هو البغض والحقد، ويقال: بفتح النون وإسكانها، وأن صدوكم: مفعول من أجله، وأن تعتدوا: مفعول ثان ليجرمنكم، ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل، لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم، لأن الله علم أنهم يؤمنون وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وصية عامة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبرّ أعمّ من التقوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ تقدّم الكلام عليها في [البقرة: 173] وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تخنق بحبل وشبهه وَالْمَوْقُوذَةُ هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه، والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبهه ذلك، والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي أكل بعضه، والسبع كل حيوان مفترس: كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قيل إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها: ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح(1/220)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
وأكل السبع، والمعنى: حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم من غيرها، فهو حلال، وهذا قول ضعيف، لأنها إن ماتت بهذه الأسباب، فهي ميتة فقد دخلت في عموم الميتة فلا فائدة لذكرها بعدها، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أريد بالمخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت ذكاته، والمعنى على هذا: إلى ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال، ثم اختلف أهل هذا القول هل يشترط أن تكون لم تنفذ مقاتلها أم لا؟ وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ عطف على المحرمات المذكورة، والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها، وليست بالأصنام لأن الأصنام مصوّرة والنصب غير مصوّرة وهي الأنصاب، والمفرد نصاب، وقد قيل: إن النصب بضمتين مفرد، وجمعه أنصاب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ عطف على المحرمات أيضا، والاستقسام. هو طلب ما قسم له، والأزلام هي السهام.
واحدها زلم بضم الزاي وفتحها، وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر:
لا تفعل، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها في خريطة كيس، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه افعل: فعل ما أراد، وإن خرج له الذي فيه لا تفعل تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما حرمه الله وجعله فسقا: لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها مما يرام به الاطلاع على الغيوب الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي يئسوا أن يغلبوه ويطلبوه، ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع، فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، ويحتمل أن يكون الزمان الحاضر لا اليوم بعينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام فَمَنِ اضْطُرَّ راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا، أباحها الله عند الاضطرار فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذا بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم في البقرة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قام مقام فلا جناح عليه، وتضمن زيادة الوعد.
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ سببها أن المسلمين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل لهم من المأكل؟ وقيل: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟
فنزلت مبينة للصيد بالكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي عند مالك الحلال، وذلك ممّا لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة وعند الشافعي: الحلال المستلذ، فحرم كل مستقذر كالخنافس والضفادع وشبهها لأنها من الخبائث وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على(1/221)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
الطيبات على حذف مضاف تقديره وصيد ما علمتم، أو مبتدأ وخبره فكلوا مما أمسكن عليكم وهذا أحسن، لأنه لا خلاف فيه، والجوارح هي الكلاب ونحوها مما يصطاد به وسميت جوارح لأنها كواسب لأهلها، فهو من الجرح بمعنى الكسب ولا خلاف في جواز الصيد بالكلاب، واختلف فيما سواها ومذهب الجمهور الجواز، للأحاديث الواردة في البازات وغيرها، ومنع بعض ذلك لقوله: مكلبين، فإنه مشتق من الكلب ونزلت الآية بسبب عديّ بن حاتم، وكان له كلاب يصطاد بها، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل من الصيد ومُكَلِّبِينَ أي معلمين للكلاب الاصطياد، وقيل: معناه أصحاب الكلاب وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في علمتم ويقتضي قوله: علمتم ومكلبين أنه لا يجوز الصيد إلّا بجارح معلم، لقوله: وما علمتم وقوله مكلبين على القول الأول لتأكيده ذلك بقوله:
تعلمونهنّ، وحدّ التعليم عند ابن القاسم: أن يعلم الجارح الإشلاء «1» والزجر، وقيل:
الإشلاء خاصة، وقيل الزجر خاصة، وقيل: أن يجيب إذا دعي تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد وتأتي تحصيل الصيد، وهذا جزء مما علمه الله الإنسان، فمن للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال أو استئناف فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة ويحتمل أن يريد بما أمسكن، سواء أكلت الجوارح منه أو لم تأكل، وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك، ويحتمل أن يريد مما أمسكن ولم يأكل منه، وبذلك فسره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه وقد أخذ بهذا بعض العلماء، وقد، ورد في حديث آخر إذا أكل فكل، وهو حجة لمالك وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا أمر بالتسمية على الصيد، ويجري الذبح مجراه، وقد اختلف الناس في حكم التسمية، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر على الوجوب، فإن تركت التسمية عمدا أو نسيانا، لم تؤكل عندهم وقال الشافعي: إنها مستحبة، حملا للأمر على الندب وتؤكل عنده، سواء تركت التسمية عمدا أو نسيانا، وجعل بعضهم الضمير في عليه عائدا على الأكل فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ومذهب مالك أنه: إن تركنا التسمية عمدا لم تؤكل، وإن تركت نسيانا أكلت فهي عنده واجبة مع الذكر، ساقطة مع النسيان
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ معنى حل: حلال، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود، والنصارى، واختلف في نصارى بني تغلب من العرب، وفيمن كان مسلما ثم ارتد إلى اليهودية أو النصرانية، هل يحل لنا طعامهم أم لا؟ ولفظ الآية يقتضي الجواز لأنهم من أهل الكتاب، واختلف في المجوس والصابئين. هل هم أهل كتاب أم لا؟.
__________
(1) . الإشلاء: معناه أن ينادي الكلب باسمه فيجيب وإذا زجر عن شيء ينزجر. [.....](1/222)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وأما الطعام، فهو على ثلاثة أقسام أحدها: الذبائح وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا كل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، هل يحل لنا أم لا على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهذا الاختلاف مبني على هل هو من طعامهم أم لا فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه جاز، وإن أريد به ما يحل لهم منع، والكراهة توسط بين القولين القسم الثاني ما لا محاولة لهم فيه كالقمح والفاكهة فهو جائز لنا باتفاق، والثالث: ما فيه محاولة: كالخبز، وتعصير الزيت، وعقد الجبن وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، ولأنه يمكن أن يكون نجسا، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلا في طعامهم، هذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا، فأما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلا وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه ينجس البائع والمشتري والآلة، لأنهم يعقدونه بأنفحة الميتة، ويجري مجرى ذلك الزيت إذا علمنا أنهم يجعلونه في ظروف الميتة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ هذه إباحة للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، وقد تقدّم أن الإحصان له أربعة معان: الإسلام، والتزوج والعفة، والحرية. فأما الإسلام فلا يصح هنا لقوله من الذين أوتوا الكتاب، وأما التزوج فلا يصح أيضا لأن ذات الزوج لا تحل لغيره، ويحتمل هنا العفة والحرية، فمن حمله على العفة أجاز نكاح المرأة الكتابية سواء كانت حرة أو أمة، ومن حمله على الحرية أجاز نكاح الكتابية الحرة ومنع الأمة، وهو مذهب مالك، ولا تعارض بين هذه الآية. وبين قوله: ولا تنكحوا المشركات لأن هذه في الكتابيات، والأخرى في المشركات، وقد جعل بعض الناس هذه ناسخة لتلك، وقيل: بالعكس، وقد تقدم معنى «فآتوهن أجورهن» ومعنى الأخدان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: 25] الآية: نزلت في غزوة المريسيع، حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها، فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر، ولذلك سميت الآية آية التيمم، وقد كان الوضوء مشروعا قبلها، ثابتا بالسنة، وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا. ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة، وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة. ومذهب الجمهور: أنه لا يجب، واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال: الأول: أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ صلّى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، والثاني: أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب، والثالث: أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث، والرابع: أن تقديرها إذا قمتم من النوم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ذكر في(1/223)
هذه الآية. أربعة أعضاء اثنين محدودين «1» ، وهما اليدان والرجلان واثنين غير محدودين وهما الوجه والرأس أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع، فإنّ ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما، واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين، وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله إلى المرافق وإلى الكعبين أوجب غسلهما. ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما واختلف في الكعبين، هل هما اللذان عند معقد الشراك أو العظمان الناتئان في طرف الساق، وهو أظهر لأنه ذكرهما بلفظ التثنية، ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد وأما غير المحدودين، فاتفق على وجوب استيعاب الوجه. وحدّه طولا من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن أو اللحية، وحدّه عرضا من الأذن إلى الأذن وقيل: من العذار إلى العذار، وأما الرأس، فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه، ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما ورد في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يجزئ على أقوال كثيرة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف في هذه الباء فقال قوم: إنها للتبعيض وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الرأس، وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية، وقال القرافي: إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات وأن المعنى: امسحوا أيديكم برءوسكم، وهذا ضعيف لأن الرأس على هذا ما مسح لا ممسوح، وذلك خلاف المقصود، وقيل إنها زائدة وهو ضعيف، لأن هذا ليس موضع زيادتها والصحيح عندي: أنها باء الإلصاق التي توصل الفعل إلى مفعوله لأن المسح تارة يتعدّى بنفسه، وتارة بحرف الجر: كقوله: فامسحوا بوجوهكم، وكقوله: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص: 33] وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على الوجوه والأيدي فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين، وقرئ بالخفض «2» فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله: برءوسكم، فأجاز مسح الرجلين، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الجمهور لا يجوز مسحهما بل يجب غسلهما وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات: أحدها: أنه خفض على الجوار لا على العطف. والآخر: أنه يراد به المسح على الخفين، والثالث: أن ذلك منسوخ بالسنة. والفرق بين الغسل والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء، والغسل عند مالك إمرار اليد بالماء، وعند الشافعي إمرار الماء، وإن لم يدلك باليد وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ تقدم الكلام على نظيرتها في
__________
(1) . محدود: أي له حدود واضحة.
(2) . وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر وحجتهم ما روي عن ابن عباس.(1/224)
النساء ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «دين الله يسر» «1» ، وباقي الآية تفضل من الله على عباده ورحمة وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة وتنشيط عليها وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ هو ما وقع في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قال المسلمون فيه: سمعنا وأطعنا كُونُوا قَوَّامِينَ تقدم الكلام على نظيرتها في النساء وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ في سببها أربعة أقوال: الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني النضير من اليهود، فهمّوا أن يصبوا عليه صخرة يقتلونه بها، فأخبره جبريل بذلك فقام من المكان، ويقوي هذا القول ما ورد في الآيات بعد هذا في غدر اليهود، والثاني: أنها نزلت في شأن الأعرابي الذي سل السيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجده في سفر وهو وحده وقال له من يمنعك مني؟ قال: الله فأغمد السيف وجلس واسمه غورث بن الحارث المحاربي الغطفاني، والثالث: أنها فيما همّ به الكفار من الإيقاع بالمسلمين حين نزلت صلاة الخوف، والرابع: أنها على الإطلاق في دفع الله الكفار عن المسلمين اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم إِنِّي مَعَكُمْ أي بنصري، والخطاب لبني إسرائيل، وقيل: للنقباء يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ اختلف هل أريد تحريف الألفاظ أو المعاني؟ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي على خيانة فهو مصدر
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: إن الدين يسر. عن أبي هريرة.(1/225)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
كالعاقبة، وقيل: على طائفة خائنة، وهو إخبار بأمر مستقبل فَاعْفُ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف والجزية
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أي ادّعوا أنهم أنصار الله، وسمّوا أنفسهم بذلك، ثم كفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به، وتتعلق من الذين بأخذنا ميثاقهم والضمير عائد على النصارى فَأَغْرَيْنا أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الإغراء.
يا أَهْلَ الْكِتابِ في الموضعين يعم اليهود والنصارى وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنهم كانوا يذكرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية دلالة على صحة نبوته، لأنه بين لهم ما أخفوه مما في كتبهم، وهو أمي لم يقرأ كتبهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: يتركه ولا يفضحكم نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الآية: رد على الذين قالوا: إنّ الله هو عيسى، وهم فرقة من النصارى يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه عيسى من غير والد وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى أي قالت: كل فرقة عن نفسها إنهم أبناء الله وأحباؤه، والبنوّة هنا بنوّة الحنان والرأفة، وقال الزمخشري:
المعنى نحن أشياع أبناء الله عندهم، وهما المسيح وعزير كما يقول حشم الملوك: نحن الملوك فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ ردّ عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أياما معدودات، وقد أخذ الصوفية من الآية أن المحب لا يعذب حبيبه، ففي ذلك بشارة لمن أحبه الله وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل: جعل منكم ملوكا أي أمراء، وقيل: الملك من له مسكن وامرأة وخادم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: يعني المنّ والسلوى والغمام وغير ذلك من(1/226)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
الآيات، وعلى هذا يكون العالمين خاصا بأهل زمانهم، لأن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قد أوتيت من آياته مثل ذلك وأعظم، وقيل: المراد كثرة الأنبياء، فعلى هذا يكون عاما، لأن الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في سائر الأمم
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، وقيل:
الطور، وقيل: دمشق الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قضى أن تكون لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين والطاعة، والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه فإنه روي أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهمّوا أن يقدموا على أنفسهم رئيسا ويرجعوا إلى مصر قَوْماً جَبَّارِينَ هم العمالقة قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب يَخافُونَ أي يخافون الله، وقيل:
يخافون الجبارين، ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت لصدق إيمانهما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب المدينة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إفراط في العصيان وسوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون «1» لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قاله موسى عليه السلام ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله. وإعراب أخي عطف على نفسي لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطف على الضمير في لا أملك: أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، وقيل: مبتدأ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه فَافْرُقْ بَيْنَنا أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال. إنا لن ندخلها. ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضا. وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه، لقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، والعامل في
__________
(1) . هذا من كلام المقداد بن عمرو للنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل موقعة بدر. انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 615.(1/227)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
أربعين: محرمة على الأصح، فيجب وصله معه وقيل: العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله محرمة عليهم، وهذا ضعيف لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأوّل أكمل معنى لأنه بيان لمدّة التحريم والتيه يَتِيهُونَ أي يتحيرون، وروي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه فَلا تَأْسَ أي لا تحزن والخطاب لموسى، وقيل: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هما قابيل وهابيل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده، وكانت العادة حينئذ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي، فإذا نزلت نار من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول، فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ استدل بها المعتزلة وغيرهم على أن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله، وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ الآية، قيل: معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك، ثم اختلف على هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه تورعا وفضيلة؟ وهو الأظهر والأشهر، وكان واجبا عندهم أن لا يدافع أحد عن نفسه وهو قول مجاهد، وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه بل يجب إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» «1» ، وأما قوله بإثمي وإثمك فمعناه بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وإنما يحمل القاتل الإثمين، لأنه ظالم، فذلك مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المتسابان ما قالا» «2» فهو على البادئ، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم، وبإثمك أي في قتلك لي، وفي غير ذلك من ذنوبك وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئنافا من كلام الله تعالى
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً الآية: روي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابا واحدا يبحث ويلقي التراب على
__________
(1) . رواه أحمد من حديث خباب ج 5/ 148.
(2) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 645.(1/228)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
هابيل سَوْأَةَ أَخِيهِ أي عورته، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، والضمير في أخيه عائد على ابن آدم، ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دفن من بني آدم قالَ يا وَيْلَتى أصله يا ويلتي، ثم أبدل من الياء ألف وفتحت التاء وكذلك يا أسفا. ويا حسرتا فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على ما وقع فيه من قتل أخيه، واختلف في قابيل هل كان كافرا أو عاصيا، والصحيح أنه لم يكن في تلك المدة كافرا لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان، وأصبح هنا وفي الموضع عبارة عن جميع الأوقات لا مختصة بالصباح مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يتعلق بكتبنا، وقيل بالنادمين، وهو ضعيف كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي فرضنا عليهم أو كتبناه في كتبهم بِغَيْرِ نَفْسٍ معناه من غير أن يقتل نفسا يجب عليه القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ يعني الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يتصور من ثلاث جهات إحداها:
القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء. الثانية: انتهاك الحرمة والإقدام على العصيان، والثالثة: الإثم والعذاب الأخروي. قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها، والغضب واللعنة والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس والتشديد فيه لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه.
وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت كإنقاذ الحريق أو الغريق وشبه ذلك. وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ الضمير لبني إسرائيل. والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارة إلى ما همّوا به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: سببها عند ابن عباس: أن قوما من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وقال جماعة: نزلت في نفر من عكل وعرينة أسلموا حسب الظاهر ثم إنهم قتلوا راعي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله. ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب، والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، وقوله: يحاربون الله: تغليظ ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وذلك ضعيف، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر بعد ذلك وقيل: يحاربون عباد الله(1/229)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وهو أحسن وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بيان للحرابة وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق ثم أخذ المال ثم قتل النفس أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الصلب مضاف إلى القتل.
وقيل: يقتل ثم يصلب ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل يصلب حيا، ويقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ معناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرسغ، وقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ مشهور مذهب مالك: أن ينفى من بلد إلى بلد آخر، ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وروى عنه مطرف أنه يسجن في البلد بعينه، وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلد آخر دون أن يسجن فيه، ومذهب مالك أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه، أو يقتله ولا يصلبه أو يقطع يده ورجله، أو ينفيه، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وحجة مالك عطف هذه العقوبات بأو التي تقتضي التخيير خِزْيٌ فِي الدُّنْيا هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار. وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود، ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قيل:
هي في المشركين وهو ضعيف لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه وبعدها، وقيل: هي في المحاربين من المسلمين وهو الصحيح، وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، فقد سقط عنه حكم الحرابة لقوله:
فاعلموا أن الله غفور رحيم. واختلف [هل] يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أو لا؟ فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حدّ الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة، ووجه إسقاطها إطلاق قوله غفور رحيم.
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما يتوسل به ويتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك
لِيَفْتَدُوا بِهِ إن قيل لم وحّد الضمير وقد ذكر شيئين وهما ما في الأرض ومثله؟ فالجواب أنه وضع المفرد في موضع الاثنين، وأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة(1/230)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
كأنه قال يفتدوا بذلك، أو تكون الواو بمعنى مع عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم، وكذلك: نعيم مقيم وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما عموم الآية يقتضي قطع كل سارق إلا أن الفقهاء اشترطوا في القطع شروطا خصصوا بها العموم فمن ذلك من اضطره الجوع إلى السرقة لم يقطع عند مالك لتحليل الميتة له، وكذلك من سرق مال والده أو سيده، أو من سرق من غير حرز، [مكان محفوظ] أو سرق أقل من النصاب، وهو عند مالك ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يساوي أحدهما، وأدلة التخصيص بهذه الأشياء في غير هذه الآية، وقد قيل: إن الحرز مأخوذ من هذه الآية، لأن ما أهمل بغير حرز أو ائتمن عليه، فليس أخذه سرقة وإنما هو اختلاس أو خيانة، وإعراب السارق عند سيبويه مبتدأ، وخبره محذوف: كأنه قال فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، والخبر عند المبرد وغيره فاقطعوا أيديهما، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الآية: توبة السابق هي أن يندم على ما مضى، ويقلع فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى من يستحقه، واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القطع وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية؟ أو لا يسقط عنه وهو مذهب مالك لأن الحدود عنده لا تسقط بالتوبة إلا عن المحارب للنص عليه يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
قدم العذاب على المغفرة لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على وجه التسلية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يحتمل أن يكون عطفا على الذين قالوا آمنا، ثم يكون سماعون استئناف إخبار عن الصنفين المنافقين واليهود، ويحتمل أن يكون من الذين هادوا: استئنافا منقطعا مما قبله، وسماعون راجع إليهم خاصة سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي سماعون كلام قوم آخرين من اليهود الذين لا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم لإفراط البغضة والمجاهرة بالعداوة، فقوله: لم يأتوك صفة لقوم آخرين، والمراد بالقوم الآخرين يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يبدلونه من بعد أن يوضع في موضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، وذلك من صفة اليهود يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ نزلت بسبب أن يهوديا زنى بيهودية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عن(1/231)
حد الزاني عندهم فقالوا: نجلدهما ونحمم وجوههما. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن في التوراة الرجم، فأنكروا ذلك، فأمرهم أن يأتوا بالتوراة فقرأوها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهودي واليهودية فرجما، فمعنى قولهم إن أوتيتم هذا فخذوه: إن أوتيتم هذا الذي ذكرتم من الجلد والتحميم تسويد الوجه بالقار فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه أفتاكم محمد صلّى الله عليه وسلّم بغيره فاحذروا فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا أو عذابه في الآخرة فِي الدُّنْيا خِزْيٌ الذلة والمسكنة والجزية سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في اليهود فكررها هنا تأكيدا، وإن كان الأول في المنافقين واليهود فهذا في اليهود خاصة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي للحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا تخيير للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أن يحكم بين اليهود أو يتركهم وهو أيضا يتناول الحاكم، وقيل إنه منسوخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ الآية: استبعاد لتحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به، مع أنهم يخالفون حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها، فمعنى ثم يتولون من بعد ذلك أي: يتولون عن اتباع حكم الله في التوراة من بعد كون حكم الله فيها موجودا عندهم، ومعلوما في قضية الرجم وغيرها وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: أنهم لا يؤمنون بالتوراة وبموسى عليه السلام، وهذا إلزام لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإيمان به باطلة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم الأنبياء الذين بين موسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى أسلموا هنا أخلصوا لله وهو صفة مدح أريد به التعريض باليهود لأنهم بخلاف هذه الصفة، وليس المراد هنا الإسلام الذي هو ضد الكفر لأن الأنبياء لا يقال فيهم: أسلموا على هذا المعنى، لأنهم لم يكفروا قط، وإنما هو كقول إبراهيم عليه السلام: أسلمت لرب العالمين، وقوله تعالى فقل: أسلمت وجهي لله لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكم الأنبياء بالتوراة للذين هادوا، ويحملونهم عليها، ويتعلق بقوله فيه هدى ونور بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي كلفوا حفظه، والباء هنا سببية قاله الزمخشري، ويحتمل أن تكون بدلا من المجرور في قوله يحكم بها فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وما بعده خطابا لليهود، ويحتمل أن تكون وصية للمسلمين يراد بها التعريض باليهود، لأن ذلك من أفعالهم وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ(1/232)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، وقد روي في هذا أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال جماعة: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها كتبنا بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض والإلزام، والضمير في عليهم لبني إسرائيل، وفي قوله فيها للتوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي تقتل النفس إذا قتلت نفسا، وهذا إخبار عما في التوراة وهو حكم في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عامّ، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: لا يقتل مؤمن بكافر للحديث الوارد في ذلك ولا يقتل حر بعبد، لقوله الحر بالحر والعبد بالعبد وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة [178] وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب العين وما بعده عطف على النفس، وقرئ بالرفع «1» ولها ثلاثة أوجه:
أحدها العطف على موضع النفس لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والثاني العطف على الضمير الذي في الخبر وهو بالنفس، والثالث أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على المنصوبات قبله، وبالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يخاف على النفس منها فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه تأويلان: أحدهما من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه، فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه، والثاني من تصدّق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه، فالضمير في له على التأويل الأوّل يعود على من التي هي كناية عن المقتول أو المجروح، أو الولي، وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه، والأوّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو من، ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عفي عنه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قد تقدم معنى مصدق في
__________
(1) . وهي قراءة الكسائي فقط.(1/233)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
البقرة، ولما بين يديه: يعني التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل، لأنهما قبله، ومصدقا: عطف على موضع قوله فيه هدى ونور، لأنه في موضع الحال
وَمُهَيْمِناً ابن عباس شاهدا، وقيل مؤتمنا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ تضمن الكلام معنى: لا تنصرف أو لا تنحرف، ولذلك تعدى بعن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [قال ابن عباس] : سبيلا وسنة، والخطاب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الأمم، والمعنى أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام والفروع، وأما الاعتقاد، فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ استدل به قوم على أن: تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي أن تقديمها في أوّل وقتها أفضل، وعكس أبو حنيفة، وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل، واتفقوا أن تقديم المغرب أفضل وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ عطف على الكتاب في قوله: وأنزلنا إليك الكتاب، أو على الحق في قوله: بالحق، وقال قوم:
إن هذا وقوله قبله فاحكم بينهم ناسخ لقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم: أي ناسخ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قوم من اليهود، طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقضي أن يحكم بينهم أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ توبيخ لليهود، وقرئ بالياء إخبارا عنهم، وبالتاء «1» خطابا لهم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قال الزمخشري اللام للبيان: أي هذا الخطاب لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكما
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ سببها موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود بني قينقاع، وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم، ولفظها عام، وحكمها باق، ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تغليظ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق
__________
(1) . في قراءة ابن عامر فقط: (تبغون) .(1/234)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
العقوبة فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، والمراد هنا عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود ويستكثر بهم، ويقول: إني رجل أخشى الدوائر فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الفتح هنا هو ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، والأمر من عنده: هو هلاك الأعداء بأمر من عنده لا يكون فيه تسبب لمخلوق، أو أمر من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بقتل اليهود فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ الضمير في فيصبحوا للمنافقين والذي أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين وإضمار العداوة للمسلمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرئ: يقول: بغير واو استئناف وإخبار، وقرئ بالواو والرفع وهو عطف جملة على جملة، وبالواو والنصب «1» «عطفا على أن يأتي بالله، أو عطفا على فيصبحوا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الإشارة إلى المنافقين، لأنهم كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين، وانتصب جهد أيمانهم على المصدر المؤكد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من كلام الله، ويحتمل أن يكون دعاء أو خبرا.
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين فهو إخبار بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع فارتدّ في حياة رسول صلّى الله عليه وسلّم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وبنو مدلج قوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقتل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد الذي ادّعى النبوة ثم أسلم وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع قبائل بنو فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربوع وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم [قوم] جبلة بن الأيهم الذي تنصر من أجل اللطمة فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها، وقال: قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري «2» ، والإشارة بذلك والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين
__________
(1) . وهي قراءة أبو عمرو، وقرأ أهل الشام والحجاز: يقول بضم اللام. وقرأ أهل الكوفة: ويقول بالواو والضم.
(2) . روى الطبري بسنده إلى أبي موسى الأشعري هذا الحديث لدى تفسير هذه الآية.(1/235)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
خالفه في ذلك بعض الناس، فاشتد عزمه حتى وافقوه وأجمعوا عليه فنصرهم الله على أهل الردة، ويقوي ذلك أيضا أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وكان أبو بكر ضعيفا في نفسه قويا في الله، وكذلك قوله: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارة إلى من خالف أبا بكر ولامه في قتال أهل الردّة فلم يرجع عن عزمه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كقوله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، وإنما تعدّى أذلة بعلى، لأنه تضمن معنى العطف والحنوّ، فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ فالجواب: أنه محذوف تقديره من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم يقاتلونهم إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفرادا لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع وَهُمْ راكِعُونَ قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه سأله سائل وهو راكع في الصلاة، فأعطاه خاتمه، وقيل: هي عامّة، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال، وعلى الثاني للعطف فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر: معناه فإنهم هم الغالبون وَالْكُفَّارَ بالنصب عطف على الذين اتخذوا، وقرئ «1» بالخفض عطف على الذين أوتوا الكتاب، ويعضده قراءة ابن مسعود: ومن الكفار، ويراد بهم المشركون من العرب وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية: روي أن رجلا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله قال: حرق الله الكاذب، فوقعت النار في بيته فاحترق هو وأهله «2» ، واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود
__________
(1) . وهي قراءة أبو عمرو والكسائي.
(2) . ذكر الطبري هذه الرواية عن السدّي.(1/236)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
سألوا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عن الرسل الذين يؤمن بهم فتلا: آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قيل: إنه معطوف على آمنا، وقيل: على ما أنزل، وقيل: هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، ويحتمل أن يكون: وأنّ أكثركم مبتدأ وخبره محذوف تقديره فسقكم معلوم، أو ثابت قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ لما ذكر أن أهل الكتاب يعيبون المسلمين بالإيمان بالله ورسله، ذكر عيوب أهل الكتاب في مقابلة ذلك ردّا عليهم، فالخطاب في أنبئكم لليهود، والإشارة بذلك إلى ما تقدّم من حال المؤمنين مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ هي من الثواب، ووضع الثواب موضع العقاب تهكما بهم نحو قوله: فبشرهم بعذاب أليم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يعني اليهود ومن في موضع رفع بخبر مبتدا مضمر تقديره: هو من لعنه الله، أو في موضع خفض على البدل من بشرّ ولا بدّ في الكلام من حذف مضاف تقديره بشر من أهل ذلك وتقديره دين من لعنه الله وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ مسخ قوم من اليهود قرودا حين اعتدوا في السبت ومسخ قوم منهم خنازير حين كذبوا بعيسى ابن مريم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ القراءة بفتح الباء فعل معطوف على لعنه الله، وقرئ «1» بضم الباء وخفض الطاغوت على أن يكون عبد اسما على وجه المبالغة كيقظ أضيف إلى الطاغوت، وقرئ «2» وعابد وعباد، وهو في هذه الوجوه عطف على القردة والخنازير شَرٌّ مَكاناً أي منزلة ونسب الشرّ للمكان وهو في الحقيقة لأهله، وذلك مبالغة في الذمّ وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في منافقين من اليهود وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ تقديره: ملتبسين بالكفر، والمعنى: دخلوا كفارا وخرجوا كفارا، ودخلت قد على دخلوا وخرجوا: تقريبا للماضي من الحال أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام ب الْإِثْمِ الكذب وسائر المعاصي وَالْعُدْوانِ الظلم السُّحْتَ الحرام لَوْلا يَنْهاهُمُ عرض وتحضيض وتقريع لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ومنه:
ولا تجعل يدك مغلولة: أي لا تبخل كل البخل، ولا تبسطها كل البسط: أي لا تجد كل
__________
(1) . وقرأ حمزة (عبد) . وقال الفراء: الباء تضمها العرب للمبالغة في المدح والذم.
(2) . لم يذكرها الطبري ولا ابن خالويه في كتاب الحجة ولا ابن زرعة في حجة القراءات والله أعلم. [.....](1/237)
الجود، وروي أنّ اليهود أصابتهم سنة جهد فقالوا هذه المقالة الشنيعة، وكان الذي قالها فنحاص، ونسبت إلى جملة اليهود، لأنهم رضوا بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا، ويحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فيحتمل أن يراد به البخل أو غل أيديهم في الأسر، وإن كان في الآخرة، فهل جعل الأغلال في جهنم بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه وجوده، وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود: يد الله مغلولة، ليكون ردّا عليهم ومبالغة في وصفه تعالى بالجود: كقول العرب:
فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب، وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم، ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم، أو يراد من كان معاصرا للنبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم منهم، ومن يأت بعدهم، فيكون على هذا إخبار بغيب، وبشارة للمسلمين.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الآية: يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قيل: من فوقهم عبارة عن المطر، ومن تحت أرجلهم: عبارة عن النبات والزرع، وقيل: ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي معتدلة، ويراد به من أسلم منهم: كعبد الله بن سلام، وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان: أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا، فكأنك لم تبلغ شيئا، وصار ما بلغت لا يعتد به، فمعنى إن لم تفعل: إن لم تستوف التبليغ على الكمال، والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد وضمان للعصمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاف أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها، فلما نزلت هذه الآية قال: يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد(1/238)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
عصمني وترك الاحتراس
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية أي لستم على دين يعتد به يسمى شيئا حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة وسلام بن بشكم ورافع بن خزيمة وغيرهم من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فقالوا إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا تقدم الكلام على نظيرتها في [البقرة: 62] وَالصَّابِئُونَ قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف، وإعرابها عند أهل البصرة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك وهو مقدم في نية التأخير، وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفا على موضع اسم إن، وقيل:
إن هنا بمعنى نعم وما بعدها مرفوع بالابتداء وهو ضعيف وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار، وقرئ «1» تكون بالرفع على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة رد ملكهم ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أخرجوا المرة الثانية فلم ينجبر حالهم أبدا، وقيل: التوبة بعث عيسى عليه السلام، وقيل:
بعث محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير من عموا وصموا أو فاعل على لغة أكلوني البراغيث والبدل أرجح وأفصح وَقالَ الْمَسِيحُ الآية: رد على النصارى، وتكذيب لهم وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ الآية: رد على من جعله إلها وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
__________
(1) . وهي قراءة أبو عمرو وحمزة والكسائي.(1/239)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
أي بليغة الصدق في نفسها، أو من التصديق، ووصفها بهذه الصفة دون النبوّة يدفع قول من قال: إنها نبية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استدلال على أنهما ليسا بإلهين لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا محدث مفتقر، ومن كان كذلك فليس بإله، لأن الإله منزه عن صفة الحدوث، وعن كل ما يلحق البشر، وقيل: إن قوله يأكلان الطعام: كناية عن نقص البشر، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج اللفظ عن ظاهره، لأن الحجة قائمة بالوجهين ثُمَّ انْظُرْ دخلت ثم لتفاوت الأمرين ولقصد التعجيب من كفرهم بعد بيان الآيات قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة على من عبد عيسى وأمه وهما لا يملكان ضرا ولا نفعا قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ خطاب للنصارى، والغلوّ الإفراط وسبب ذلك كفر النصارى وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قيل: هم أئمتهم في دين النصرانية كانوا على ضلال في عيسى، وأضلوا كثيرا من الناس، ثم ضلوا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هم اليهود، والأول أرجح لوجهين: أحدهما أن الضلال وصف لازم للنصارى، ألا ترى قوله تعالى: ولا الضالين، والآخر أنه يبعد نهي النصارى عن اتباع اليهود، مع ما بينهم من الخلاف والشقاق عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي في الزبور والإنجيل لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فإن قيل: لم وصف المنكر بقوله فعلوه والنهي لا يكون بعد الفعل؟ فالجواب: أن المعنى لا يتناهون عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر إن أرادوا فعله تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ إن أراد أسلافهم، فالرؤية بالقلب، وإن أراد المعاصرين للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وهو الأظهر، فهي رؤية عين وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني: ما اتخذوا الكفار أولياء..
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الآية: إخبار عن شدة عداوة اليهود وعبدة الأوثان للمسلمين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الآية: إخبار أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر فكل يهودي شديد العداوة للإسلام والكيد لأهله ذلِكَ بِأَنَّ(1/240)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً
تعليل لقرب مودتهم، والقسيس العالم والراهب العابد وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الآية هي في النجاشي، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سبعون رجلا، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي، حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم، وقال السهيلي: نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى عشرين رجلا، فلما سمعوا القرآن بكوا مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ من الأولى سببية والثانية بيان للجنس آمَنَّا أي بالقرآن من عند الله مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع المسلمين، وكذلك مع القوم الصالحين وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ توقيف «1» لأنفسهم، أو محاجة لغيرهم وَنَطْمَعُ قال الزمخشري: الواو للحال، وقال ابن عطية: لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ سببها أن قوما من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، وبعضهم أكل اللحم، وهم بعضهم أن يختصوا، أو يسيحوا في الأرض، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: «أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «2» وَلا تَعْتَدُوا أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم وَكُلُوا أي تمتعوا بالمآكل الحلال، وبالنساء وغير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه أعظم حاجات الإنسان
بِاللَّغْوِ تقدم في البقرة بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بما قصدتم عقده بالنية، وقرئ عقدتم بالتخفيف» «3» ، وعاقدتم بالألف «4» إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزي في الكفارة إطعام غني، فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب، واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين، وليس في الآية ما يدل على ذلك مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ اختلف في هذا التوسط
__________
(1) . توقيف معناها استفهام تقريري في هذا الكتاب.
(2) . رواه الإمام أحمد عن أنس ج 3 ص 304.
(3) . وهي قراءة حمزة والكسائي.
(4) . هي قراءة ابن عامر.(1/241)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
هل هو في القدر أو في الصنف، واللفظ يحتمل الوجهين، فأما القدر فقال مالك يطعم بالمدينة مدّا بمدّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وبغيرها: وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزي المدّ في كل مكان وقال أبو حنيفة إن غدّاهم وعشاهم أجزأه، وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش أهل بلده؟ فمعنى الآية على التأويل الثاني من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة، وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال كثير من العلماء: يجزي ثوب واحد لمسكين، لأنه يقال فيه كسوة، وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فللرجل ثوب واحد، وللمرأة قميص وخمار أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ معناه إذا حلفتم وخشيتم أو أردتم الحنث، واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث أم لا وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوها فبروا فيها، ولا تحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، وقيل: احفظوها ألا تنسوها تهاونا بها الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ذكر في [البقرة: 219] وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ مذكوران في أول هذه السورة رِجْسٌ هو في اللغة: كل مكروه مذموم وقد يطلق بمعنى النجس وبمعنى الحرام وقال ابن عباس: معنى رجس سخط فَاجْتَنِبُوهُ نص في التحريم، والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تقبيح للخمر والميسر، وذكر لبعض عيوبها، وتعليل لتحريمها، وقد وقعت في زمان الصحابة عداوة بين أقوام بسبب شربهم لها قبل تحريمها، ويقال إن ذلك كان سبب نزول الآية فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ توقيف يتضمن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لما نزلت: انتهينا انتهينا
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فيها تأويلان: أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية(1/242)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
معلمة أنه: لا جناح على من شربها قبل التحريم، لأنه لم يعص الله بشربها حينئذ، والآخر أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها، وعلى هذا أخذها عمر رضي الله عنه حين قال لقدامة: إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، وكان قدامة قد شربها واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه، فقال عمر: أخطأت التأويل إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا الآية قيل: كرر التقوى مبالغة، وقيل: الرتبة الأولى: اتقاء الشرك، والثانية اتقاء المعاصي، والثالثة: اتقاء ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وقيل: الأولى للزمان الماضي والثانية للحال، والثالثة للمستقبل وَأَحْسَنُوا يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس، أو الإحسان في طاعة الله وهو المراقبة، وهذا أرجح لأنه درجة فوق التقوى، ولذلك ذكره في المرة الثالثة وهي الغاية، ولذلك قالت الصوفية: المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ثم مقام الإيمان ثم مقام الإحسان لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي يختبر طاعتكم من معصيتكم بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد من معاش العرب ومستعملا عندهم، فاختبروا بتركه كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت «1» في السبت وإنما قلله في قوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارا بأنه ليس من الفتن العظيمة، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله الأيدي الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفرّ، والذي تناله الرماح كبار الصيد، والظاهر عموم هذا التخصيص لِيَعْلَمَ اللَّهُ أي يعلمه علما تقوم به الحجة، وذلك إذا ظهر في الوجود فَمَنِ اعْتَدى أي بقتل الصيد وهو محرم، والعذاب الأليم هنا في الآخرة
لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم، والصيد هنا عامّ خصّص منه الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور «2» . وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة: كل ممّا لا يؤكل لحمه، ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله [الآتي] «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر،
__________
(1) . حيثما ورد في هذا الكتاب فالمقصود به السمك على اختلاف أنواعه كما هو معروف في المغرب.
(2) . الحديث رواه أحمد عن عائشة وأوله: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب: إلخ ج 6 ص 113.(1/243)
وقال جمهور الفقهاء: المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في قوله متعمدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه، إذ لا وعيد على الناسي، والثاني: أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد، والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ المعنى فعليه جزاء، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به، وقيل: مثل زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك أي: أكرمك، وقرئ فجزاء «1» بالتنوين، ومثل بالرفع على البدل أو الصفة، والنعم الإبل والبقر والغنم خاصة، ومعنى الآية عند مالك والشافعي: أنّ من قتل صيدا وهو محرم أنّ عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام، ومذهب أبي حنيفة أنّ المثل القيمة يقوّم الصيد المقتول، ويخير القاتل بين أن يصدّق بالقيمة أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه، فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة، فإنه لا يحتاج إلى حكمين، قاله مالك، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا فيه، لعموم الآية، وقال الشافعي: يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة هَدْياً يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى، وهو الجذع من الضأن والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم ولا يشترط السن بالِغَ الْكَعْبَةِ لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحلّ إلى الحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن اشتراه في الحرم أجزأه أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عدّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولا الجزاء من النعم، ثم الطعام ثم الصيام، ومذهب مالك والجمهور أنها: على التخيير، وهو الذي يقتضيه العطف بأو، ومذهب ابن عباس أنها: على الترتيب، ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم. لأنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام الحب أو الدراهم، ثم تقوّم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حيّ، وقال بعض أصحاب مالك: يقدّر الصيد بالطعام أي يقال: كم كان يشبع الصيد من نفس، ثم يخرج قدر شبعهم طعاما، وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له
__________
(1) . وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالضم فقط.(1/244)
أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن لأنه أقرب أو إلى الصيد، واختلف في تعديل الصيام بالطعام فقال مالك: يكون مكان كل مدّ يوما، وقال أبو حنيفة: مكان كل مدّين يوم، وقيل: مكان كل صاع يوما، ولا يجب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد، لا بأخذه دون قتل لقوله: من قتله، وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين، وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار لأن حقيقته بحاسة اللسان، والوبال سوء العاقبة، وهو هنا ما لزمه من التكفير عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي عن ذلك فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه أو بعذابه في الآخرة.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم، والصيد هنا المصيد، والبحر هو الماء الكثير: سواء كان ملحا أو عذبا، كالبرك ونحوها، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وقال ابن عباس: طعامه ما ملح منه وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله، وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام [محرم] لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع، وقيل: موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصة، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال وَالْهَدْيَ يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وَالْقَلائِدَ كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر، وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم، ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهدي، قال سعيد بن جبير: جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام ذلِكَ لِتَعْلَمُوا الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور(1/245)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة من أبي؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أبوك حذافة، وقال آخر: أين أبي قال: في النار، وقيل:
سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟
فسكت، فأعادوا، قال لا، ولو قلت: نعم لوجبت «1» ، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها: أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفا الله عن الزكاة في الخيل» «2» ، وقيل إن معنى عفا الله عنها: عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه معنى الوعيد على السؤال: كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسؤوكم، والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ الضمير في سألها راجع إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا، وهي مصدر، ولذلك لم يتعدّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده أي لم يشرعه لهم، وإنما الكفار جعلوا ذلك، فأما البحيرة: فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأما الوصيلة فكانوا: إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا: وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك
__________
(1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج 1/ 464.
(2) . روى أحمد الحديث عن عليّ بن أبي طالب بلفظ: عفوت لكم عن صدقة الخيل. ج 1 ص 179.(1/246)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
الأشياء، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم
قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي يكفينا دين آبائنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ قال الزمخشري: الواو واو الحال، دخلت عليها همزة الإنكار، كأنه قيل: أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون، قال ابن عطية: ألف التوقيف [الاستفهام] دخلت على واو العطف، وقول الزمخشري أحسن في المعنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها، كأنه يقول: لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» «1» ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ.
قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبقى الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون
__________
(1) . ورد هذا الحديث بلفظ قريب منه في جامع الترمذي وسنن ابن ماجة في كتاب الفتن عن أبي ثعلبة الخشني.(1/247)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد حين الوصية، ظرف العامل فيه حضر، ويكون بدلا من إذا ذَوا عَدْلٍ صفة للشاهدين منكم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم، ومن غيركم، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور: منكم أي من المسلمين، ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلا؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين تَحْبِسُونَهُما قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام من بعد الصلاة قال الجمهور: هي صلاة العصر، فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس، وبعدها أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي يحلفان ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً هذا هو المقسوم عليه، والضمير في به للقسم، وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيما لها
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أحق:
أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر(1/248)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
ابتداء تقديره هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة، وقرئ الأولين جمع أول «1» ، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو منصوبا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق: أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى:
أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره، ولو أريد الجواب، لقيل بماذا أجبتم قالُوا لا عِلْمَ لَنا إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس:
المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار
إِذْ قالَ اللَّهُ يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمرا، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف، لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير في تكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على
__________
(1) . قرأ حمزة وأبو بكر الأولين وقرأ حفص الأوليان.(1/249)
الكاف أيضا، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت: هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة، وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك، وقيل: المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير، والطين، وهو بعيد في المعنى بِإِذْنِي كرره مع كل معجزة ردّا على من نسب الربوبية إلى عيسى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ معطوف على ما قبله، فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام وَاشْهَدْ يحتمل أن يكون خطابا لله تعالى أو لعيسى عليه السلام إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون: يا رسول الله يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد، بخلاف ما اعتقده النصارى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ظاهر هذا اللفظ أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري، وقال ما وصفهم الله بالإيمان، ولكن حكى دعواهم في قولهم: آمنا. وقال ابن عطية وغيره: ليس كذلك لأنهم شكوا في قدرة الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا، وهل يقع منه إجابة إليه، وهذا أرجح، لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه، مع أنّ في اللفظ بشاعة تنكر، وقرئ تستطيع «1» بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء، والمائدة هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقوله لهم: اتقوا الله يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة، واقتراح الآيات، ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك، وقوله: إن كنتم مؤمنين: هو على ظاهره على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب ابن عطية وغيره، فهو تقرير لهم كما تقول: افعل كذا إن كنت رجلا، ومعلوم أنه رجل، وقيل: إنّ هذه
__________
(1) . وهي قراءة الكسائي فقط.(1/250)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي أكلا نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم، ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله، وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا قيل: نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة، ثم لمن بعدهم، وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعا لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور وَآيَةً مِنْكَ أي علامة على صدقي قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أجابهم الله إلى ما طلبوا، ونزلت المائدة عليها سمك وخبز، وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً عادة الله عز وجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير، قال عبد الله بن عمر: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون..
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن عباس والجمهور: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل، وقال السدّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، وسأل الله حينئذ عن ذلك، فقال: سبحانك الآية، فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو لفظه، وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ نفي يعضده دليل العقل لأنّ المحدث لا يكون إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ اعتذار وبراءة من ذلك القول، ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة، فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي، وبقية قوله تعظيما لله، وإخبار بما(1/251)
قال الناس في الدنيا أَنِ اعْبُدُوا أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية بدل من الضمير في به إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة، السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له، كان قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال.
هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ عموم في جميع الصادقين، وخصوصا في عيسى ابن مريم فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه، وقرأ غير نافع بقية القراء هذا يوم بالرفع على الابتداء أو الخبر، وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون يوم ظرف لقال، فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول، وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم، وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام، والآخر أن يكون هذا مبتدأ، ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع، لأنه أضيف إلى معرب، قاله الفارسي والزمخشري.(1/252)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
سورة الأنعام
مكية إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 151 و 152 و 153 فمدنية وآياتها 165 نزلت بعد الحجر (سورة الأنعام) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال كعب «1» : أول الأنعام هو أول التوراة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ جعل هنا بمعنى خلق، والظلمات: الليل، والنور النهار، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما، وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يسوون ويمثلون من قولك:
عدلت فلانا بفلان، إذا جعلته نظيره وقرينه. ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض، والظلمات والنور وكذلك قوله: ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك. وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور، وبعبدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي خلق أباكم آدم من طين ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الأجل الأوّل الموت، والثاني يوم القيامة وجعله عنده: لأنه استأثر بعلمه، وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت، ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع، لأن القضاء متقدم على الخلق
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يتعلق في السموات بمعنى اسم الله، فالمعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] ، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب، ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر: فيتعلق باسم فاعل محذوف، والمعنى على هذا قريب من الأوّل، وقيل: المعنى أنه
__________
(1) . ورد هذا الكلام في الطبري أيضا ولعله كعب الأحبار واسمه كعب بن ماتع. [.....](1/253)
في السموات والأرض بعلمه كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، والأول أرجح وأفصح لأنّ اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة، وغير ذلك، فقد جمعها مع الإيجاز، ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه، لقوله بعدها: يعلم سركم وجهركم، وقيل: يتعلق بمحذوف تقديره: المعبود في السموات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله: واسم الله على هذا القول، وعلى الأول هو خبر المبتدأ، وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ من الأولى زائدة، والثانية للتبعيض، أو لبيان الجنس بِالْحَقِّ يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه واله وسلّم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ الآية: وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا حض للكفار على الاعتبار بغيرهم، والقرن مائة سنة، وقيل سبعون، وقيل أربعون مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ الضمير عائد على القرن، لأنه في معنى الجماعة ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة، ومدرارا: بناء مبالغة وتكثير من قولك درّ المطر إذا غزر فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ التقدير: فكفروا وعصوا فأهلكناهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية: إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات، والمراد بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك، يشبه أن يكون سبب هذه الآية قول بعضهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا أصدقك وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ حكاية عن طلب بعض العرب، وروي أن العاصي بن وائل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، لو كان معك ملك وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعجل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف، وقضي الأمر على هذا: تعجيل أخذهم، وقيل: المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته، فقضي الأمر على هذا: موتهم وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل، لأنهم لا(1/254)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
طاقة لهم على رؤية الملك في صورته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان وليس بملك
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية: إخبار قصد به تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما كان يلقى من قومه فَحاقَ أي أحاط بهم، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ الآية: حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم ثُمَّ انْظُرُوا قال الزمخشري: إن قلت أي فرق بين قوله: فانظروا وبين قوله: ثم انظروا؟ قلت: جعل النظر سببا عن السير في قوله: فانظروا. كأنه قال: سيروا لأجل النظر، وأما قوله: فسيروا في الأرض ثم انظروا: فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا، لمن ما في السموات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض، وفيه «إن رحمتي سبقت غضبي» «1» ، وفي رواية: تغلب غضبي لَيَجْمَعَنَّكُمْ مقطوع مما قبله، وهو جواب لقسم محذوف، وقيل: هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره: أن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قيل: هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن، وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر، وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف، وقيل: منادى وهو باطل وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ عطف على قوله قل:
__________
(1) . الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة. وهو في كتاب التوحيد في البخاري ص 216/ 8.(1/255)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
لله، ومعنى سكن: حل، فهو من السكنى، وقيل: هو من السكون وهو ضعيف لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم، والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إقامة حجة على الكفار، ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي من هذه الأمة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته إلى الإسلام وَلا تَكُونَنَّ في الكلام حذف تقديره وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله، وقرئ يصرف «1» بفتح الياء وفاعله الله وَذلِكَ إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ معنى يمسسك: يصبك، والضر: المرض وغيره على العموم في جميع المضرات، والخير: العافية وغيرها على العموم أيضا، والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود، وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله، بمعنى أن الله أكبر شهادة، ثم يبتدئ على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، والأول أرجح لعدم الإضمار، والثاني أرجح لمطابقته للسؤال، لأنّ السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب، فلان وتقديره فلان أكبر، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإظهار معجزته الدالة على نبوّته وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل ببلغ ضمير القرآن، والمفعول محذوف يعود على من تقديره: ومن بلغه والمعنى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين، وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة، قال سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الآية: تقرير
__________
(1) . وهي قراءة حمزة والكسائي.(1/256)
المشركين على شركهم، ثم تبرأ من ذلك بقوله: لا أشهد، ثم شهد الله بالوحدانية، وروي أنها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها آخر يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ تقدّم في البقرة [146] الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون وقيل: الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد، لأن أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا إلا ليقيم الحجة على الكفار وَمَنْ أَظْلَمُ لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ وذلك تنصل من الكذب على الله، وإظهاره لبراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما نسبوه إليه من الكذب، ويحتمل أن يريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي علاماته وبراهينه أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ تَزْعُمُونَ أي تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه، والعامل في يوم نحشرهم محذوف ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر، أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه، وقيل:
فتنتهم معذرتهم، وقيل: كلامهم، وقرئ فتنتهم بالنصب «1» على خبر كان واسمها أن قالوا، وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ جحود لشركهم، فإن قيل: كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن، فيكتم قوم ويقر آخرون، ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر، لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال: إنهم جحدوا طمعا في النجاة، فختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الضمير عائد على الكفار، وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أكنة جمع كنان، وهو الغطاء، وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه، ومعنى الآية: أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة، وهي استعارة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قصصهم وأخبارهم، وهو جمع أسطار وأسطورة قال
__________
(1) . وهي قراءة نافع وأبو عمرو وأبو بكر. وقرأ حفص وابن كثير وابن عامر بالرفع.(1/257)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
السهيلي: حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم، فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ هم عائد على الكفار، والضمير في عنه عائد على القرآن، والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان، وينأون هم عنه أي يبعدون، والنأي هو البعد، وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن أذاه، وهم مع ذلك يبعدون عنه، والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه: يحمي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسلم وفي قوله: ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جواب لو محذوف هنا، وفي قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع: أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا، ومعنى وقفوا حبسوا، قاله ابن عطية، ويحتمل أن يريد بذلك إذا ادخلوا النار، وإذا عاينوها وأشرفوا عليها، ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى كأنه ماض يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ قرئ «1» برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني، ومثّله سيبويه بقولك: دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود، ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد، وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم، وقيل: هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر، وهذان القولان بعيدان، فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب، وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، ولا يصح أن يرجع إلى قولهم: يا ليتنا نردّ، لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ تقرير لهم وتوبيخ قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى
__________
(1) . قرأها هكذا ما عدا ابن عامر، وحمزة وحفص. وقرأها الباقون بالرفع في نرد، ولا نكذب، ونكون.(1/258)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: الساعة أي فرطنا في شأنها، والاستعداد لها، والأول أظهر وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ كناية عن تحمل الذنوب، وقال:
على ظهورهم، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن، إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون: قولهم إنه ساحر، شاعر، كاهن فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ من قرأ بالتشديد فالمعنى: لا يكذبونك معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف «1» ، فقيل: معناه لا يجدونك كاذبا، يقال: أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا، كما يقال: أحمدته إذا وجدته محمودا، وقيل: هو بمعنى التشديد، يقال:
كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد، وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به، وأنه قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدا لصادق، ولكني أحسده على الشرف وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ أي: ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الآية: تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحضّ له على الصبر، ووعد له بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده لرسله كقوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات:
172] ، وفي هذا تقوية للوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم، وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر، وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف، وقيل هو المجرور
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الآية:
مقصودها حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصبر، والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر، فإنه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم كان شديد الحرص على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها، فافعل وأنت لا تقدر
__________
(1) . أي: لا يكذبونك وهي قراءة نافع والكسائي.(1/259)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
على ذلك، فاستسلم لأمر الله، والنفق في الأرض معناه: منفذ تنفذ منه إلى ما تحت الأرض، وحذف جواب إن لفهم المعنى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى حجة لأهل السنة على القدرية فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ المعنى إنما يستجيب لك الذين يسمعون فيفهمون ويعقلون وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيها ثلاث تأويلات: أحدهما أن الموتى عبارة عن الكفار بموت قلوبهم، والبعث يراد به الحشر يوم القيامة، فالمعنى أن الكفار في الدنيا كالموتى في قلة سمعهم وعدم فهمهم، فيبعثهم الله في الآخرة، وحينئذ يسمعون، والآخر أن الموتى عبارة عن الكفار، والبعث عبارة عن هدايتهم للفهم والسمع والثالث أن الموتى على حقيقته، والبعث على حقيقته فهو إخبار عن بعث الموتى يوم القيامة وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الضمير في قالوا للكفار، ولولا عرض، والمعنى: أنهم طلبوا أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية على نبوّته، فإن قيل: فقد أتى بآية ومعجزاته كثيرة فلم طلبوا آية؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنهم لم يعتدوا بما أتى به، وكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم وجحدهم، والآخر أنهم إنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تفكر قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً جواب على قولهم، وقد حكي هذا القول عنهم في مواضع من القرآن وأجيب عليه بأجوبة مختلفة، منها ما يقتضي الردّ عليهم في طلبهم الآيات فإنه قد أتاهم بآيات وتحصيل الحاصل لا ينبغي كقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ، وكقوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] ، ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم، لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته، ويحتمل أن يكون من هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ حذف مفعول يعلمون، وهو يحتمل وجهين:
أحدهما لا يعلمون أن الله قادر، والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد، فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب بِجَناحَيْهِ تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال: طائر للسعد والنحس أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق، والحياة والموت، وغير ذلك، ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين: أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى، فكأنه يقول: تفكروا في مخلوقاته، ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات، والآخر: تنبيه على البعث، كأنه يقول: جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم، وهو أظهر لقوله بعده: ثم إلى ربهم يحشرون
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما غفلنا، والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، والكلام(1/260)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
على هذا عام، وقيل: هو القرآن والكلام على هذا خاص: أي ما فرطنا فيه من شيء فيه هدايتكم، والبيان لكم ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي تبعث الدواب والطيور يوم القيامة للجزاء والفصل بينها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا الآية: لما ذكر قدرته على بعث الخلق كلهم أتبعه بأن وصف من كذب بذلك بالصمم والبكم، وقوله: في الظلمات يقوم مقام الوصف بالعمى قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ معناه أخبروني، والضمير الثاني للخطاب، ولا محل له من الإعراب وجواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ ثم وقفهم على أنهم لا يدعون حينئذ إلا الله، ولا يدعون آلهتهم، والآية احتجاج عليهم، وإثبات للتوحيد، وإبطال للشرك إِنْ شاءَ استثناء أي يكون من النسيان أو الترك فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ كان ذلك على وجه التخفيف والتأديب فَلَوْلا هذا عرض وتحضيض وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد فَلَمَّا نَسُوا الآية: أي لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من الشدائد، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم ليشكروا عليها فلم يشكروا فأخذهم الله مُبْلِسُونَ آيسون من الخير دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم، وذلك عبارة عن استئصالهم بالكلية وَالْحَمْدُ لِلَّهِ شكر على هلاك الكفار فإنه نعمة على المؤمنين وقيل: إنه إخبار على ما تقدم من الملاطفة في أخذه لهم بالشر ليزدجروا، أو بالخير ليشكروا حتى وجب عليهم العذاب بعد الإنذار والإعذار قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. احتجاج على الكفار أيضا يَأْتِيكُمْ بِهِ الضمير عائد على المأخوذ يَصْدِفُونَ أي يعرضون قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية:
وعيد وتهديد، والبغتة ما لم يتقدم لهم شعور به، والجهرة ما بدت لهم مخايله، وقيل بغتة بالليل، وجهرة بالنهار
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الآية: أي لا ادعى شيئا منكرا(1/261)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
ولا يستبعد، إنما أنا نبي رسول كما كان غيري من الرسل الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثال للضال والمهتدي وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ الضمير في به يعود على ما يوحى، والإنذار عام لجميع الناس، وإنما خصص هنا بالذين يخافون، لأنه قد تقدّم في الكلام ما يقتضي اليأس من إيمان غيرهم فكأنه يقول: أنذر الخائفين لأنه ينفعهم الإنذار، وأعرض عمن تقدّم ذكره من الذين لا يسمعون ولا يعقلون، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من الضمير في يحشروا، واستئناف إخبار لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يتعلق بأنذر.
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية: نزلت في ضعفاء المؤمنين. كبلال، وعمار ابن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وخباب وصهيب، وأمثالهم، وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك، فنزلت هذه الآية بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قيل: هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس وكانت غدوة وعشية، وقيل: هي عبارة عن دوام الفعل، ويدعون هنا من الدعاء وذكر الله أو بمعنى العبادة يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إخبار عن إخلاصهم لله وفيه تزكية لهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الآية قيل: الضمير في حسابهم للذين يدعون، وقيل: للمشركين، والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم، ولا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، والأوّل أرجح، لقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وقوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: 113] ، والمعنى على هذا أنّ الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم فَتَطْرُدَهُمْ هذا جواب النفي في قوله ما عليك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ هذا جواب النهي في قوله ولا تطرد أو عطف على فتطردهم وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين، وذلك أن الكفار كانوا يقولون أهؤلاء العبيد والفقراء منّ الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشراف أغنياء، وكان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد بذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ردّ على الكفار في قولهم المتقدّم
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هم الذين نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم بل أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم وأن يؤنسهم بما بعد هذا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي حتّمها وفي الصحيح: إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي «1»
__________
(1) . متفق عليه من رواية أبي هريرة وسبق تخريجه في أثناء تفسير الآية [12/ الأنعام] .(1/262)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً الآية، وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح، وهو خطاب للقوم المذكورين قبل، وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في [النساء: 16] وقيل: نزلت بسبب أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار، فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية، وقرئ أنه بالفتح على البدل من الرحمة وبالكسر على الاستئناف وكذلك فإنه غفور رحيم بالكسر على الاستئناف وبالفتح خبر ابتداء مضمر تقديره فأمره أنه غفور رحيم، وقيل: تكرار للأولى لطول الكلام وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الإشارة إلى ما تقدّم من النهي عن الطرد وغير ذلك، وتفصيل الآيات شرحها وبيانها وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ بتاء الخطاب ونصب السبيل «1» على أنه مفعول به، وقرئ بتاء التأنيث ورفع السبيل على أنه فاعل مؤنث وبالياء والرفع على تذكير السبيل، لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدون قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم ضللت عَلى بَيِّنَةٍ أي على أمر بيّن من معرفة ربي والهاء في بينة للمبالغة أو للتأنيث وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير عائد على الرب أو على البينة ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي العذاب الذي طلبوه في قولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، وقيل: الآيات التي اقترحوها والأول أظهر يَقُصُّ الْحَقَّ من القصص «2» وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء وهو أرجح لقوله وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي الحاكمين قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لو كان عندي العذاب على التأويل الأوّل، والآيات المقترحة على التأويل الآخر، لوقع الانفصال وزال النزاع لنزول العذاب أو لظهور الآيات مَفاتِحُ الْغَيْبِ استعارة وعبارة عن التوصل إلى الغيب كما يتوصل بالمفاتح إلى ما في الخزائن، وهو جمع مفتح بكسر الميم بمعنى مفتاح، ويحتمل أن يكون جمع مفتح بالفتح وهو المخزن وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ تنبيه بها على غيرها لأنها أشدّ تغييبا من كل شيء فِي كِتابٍ مُبِينٍ اللوح المحفوظ، وقيل: علم الله
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي إذا نمتم، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي
__________
(1) . وهي قراءة نافع.
(2) . يقص: هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم. والآخرون: يقضي.(1/263)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم من الأعمال يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم من النوم، والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه، وغالب النوم بالليل أَجَلٌ مُسَمًّى أجل الموت حَفَظَةً جمع حافظ وهم الملائكة الكاتبون تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي الملائكة الذين مع ملك الموت ثُمَّ رُدُّوا خروج من الخطاب إلى الغيبة، والضمير لجميع الخلق قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ الآية: إقامة حجة، وظلمات البر والبحر: عبارة عن شدائدهما وأهوالهما كما يقال لليوم الشديد: مظلم عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قيل: الذي من فوق إمطار الحجارة، ومن تحت الخسف، وقيل: من فوقكم: تسليط أكابركم، ومن تحت أرجلكم: تسليط أسافلكم «1» ، وهذا بعيد أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أي يخلطكم فرقا مختلفين وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال، واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار أو المؤمنين؟ وروي أنه لما نزلت أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بوجهه، فلما نزلت من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت أو يلبسكم شيعا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا أهون، فقضى الله على هذه الأمة بالفتن والقتال إلى يوم القيامة وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ الضمير عائد على القرآن، أو على الوعيد المتقدم، وقومك هم قريش لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ ومتسلط، وفي ذلك متاركة نسختها آية القتال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي في غاية يعرف عندها صدقه من كذبه يَخُوضُونَ فِي آياتِنا في الاستهزاء بها والطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي قم ولا تجالسهم وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ
إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، والمعنى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تقعد بعد أن تذكر النهي
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الذين يتقون هم المؤمنون والضمير في حسابهم للكفار والمستهزئين، والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإضلالهم، وقيل: إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين، لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب
__________
(1) . قلت: قد تحقق هذا الوعيد بالقنابل والصواريخ من فوق وبالأنعام تحت الأرجل.(1/264)
المعاش، وفي الطواف بالبيت وغير ذلك، ثم نسخت بآية النساء، وهي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ [139] ، الآية، وقيل: إنها لا تقتضي إباحة القعود وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه وجهان أحدهما أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار، ولكن عليهم تذكيرا لهم، ووعظ، وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر وتقديره يذكرونهم ذكرى، أو رفع على المبتدإ تقديره عليهم ذكرى، والضمير في لعلهم عائد على الكفار: أي يذكرونهم رجاء أن يتقوا أو عائد على المؤمنين أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تقوى الله. الوجه الثاني: أن المعنى ليس نهي المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أن عليهم من حسابهم شيء، وإنما هو ذكرى للمؤمنين، وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضمر تقديره: ولكن نهيهم ذكرى أو مفعول من أجله تقديره: إنما نهوا ذكرى، والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير وَذَرِ الَّذِينَ قيل إنها متاركة منسوخة بالسيف، وقيل: بل هي تهديد فلا متاركة ولا نسخ فيها اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا لأنهم سخروا منا واتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبا ولهوا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يلعبون ويلهون وَذَكِّرْ بِهِ الضمير عائد على الدين أو على القرآن أَنْ تُبْسَلَ قيل: معناه أن تحبس، وقيل: تفضح، وقيل:
تهلك وهو في موضع مفعول من أجله أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي: وإن تعط كل فدية لا يؤخذ منها قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة وتوبيخ للكفار وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي، ثم استعير في المعاني، وهذه جملة معطوفة على أندعو، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد: أي كيف نرجع مشبهين من استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي، ومعنى استهوته الشياطين: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق فهو: استفعال من هوى يهوى في الأرض إذا ذهب فيها، وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى ومثل استذل بمعنى أذل حَيْرانَ أي ضال عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي لهذا المستهوي(1/265)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
أصحاب وهم رفقة يدعونه إلى الهدى، أي إلى أن يهدوه إلى الطريق، يقولون له: ائتنا، وهو قد تاه وبعد عنهم فلا يجيبهم وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى، وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كان أبوه يدعوه إلى الإسلام، ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي
وَأَنْ أَقِيمُوا عطف على لنسلم، أو على مفعول أمرنا قَوْلُهُ الْحَقُّ مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول، وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر، وهو فاعل كن أي حين يقول لشيء كن:
فيكون ذلك الشيء يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ظرف لقوله: لَهُ الْمُلْكُ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 66] وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ خبر ابتداء مضمر لِأَبِيهِ آزَرَ هو اسم أبي إبراهيم، فإعرابه عطف بيان أو بدل، ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح، وقرئ «1» بالرفع على النداء، وقيل: إنه اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ، فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له، أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وذلك بعيد، ولا يبعد أن يكون له اثنان نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قيل: إنه فرج الله السموات، والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه وَلِيَكُونَ متعلق بمحذوف تقديره: وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي ستره يقال: جنّ عليه الليل وأجنه رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف. وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفا من نمروذ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي، ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على
__________
(1) . ذكر الطبري في تفسيره أن الحسن البصري وأبي يزيد المديني قرءا آزر بالرفع دون بقية القراء.(1/266)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم، وهذا أرجح لقوله بعد ذلك
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجة وردّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحدا منها إلها، لقيام الدليل على حدوثها. وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده، وقوله: هذا ربي قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم، ثم أقام عليهم الحجة بقوله. لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ: أي لا أحب عبادة المتغيرين لأن التغير دليل على الحدوث، والحدوث ليس من صفة الإله، ثم استمرّ على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس، فلما أوضح البرهان، وأقام عليهم الحجة، جاهرهم بالبراءة من باطلهم، فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، ثم أعلن لعبادته لله وتوحيده له فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ووصف الله تعالى بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك، فإن قيل: لم احتج بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ فالجواب أنه أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي في الإيمان بالله وفي توحيده، والأصل أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام أحدهما في الآخر، وبالتخفيف «1» على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ما هنا الذي ويريد بها الأصنام، وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر، فقال: لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء منقطع بمعنى لكن: أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء؟ وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف، وهو إشراككم بالله وأنتم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ثم أوقفهم على ذلك بقوله فأيّ الفريقين أحق بالأمن؟ يعني فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، ثم أجاب عن السؤال بقوله
الَّذِينَ آمَنُوا الآية وقيل: إن الذين آمنوا: استئناف وليس من
__________
(1) . أتحاجوني: هي قراءة نافع وابن عامر والباقون بالتّشديد كما في المصحف أتحاجّونّي.(1/267)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
كلام إبراهيم وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ لما نزلت هذه الآية أشفق منها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: إنما ذلك كما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وَتِلْكَ حُجَّتُنا إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم أو لنوح عليهما السلام، والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم داود عطف على نوحا أي وهدينا داود وَعِيسى فيه دليل على أن أولاد البنات يقال فيهم ذرية، لأن عيسى ليس له أب فهو ابن ابنة نوح «1» وَمِنْ آبائِهِمْ في موضع نصب عطف على كلا أي وهدينا بعض آبائهم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ أي أهل مكة وَكَّلْنا بِها قَوْماً هم الأنبياء المذكورون، وقيل: الصحابة، وقيل: كل مؤمن. والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك، ومعنى توكيلهم بها: توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إشارة إلى الأنبياء المذكورين فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ استدل به من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاتفقت فيه جميع الأمم والشرائع، وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين الشرائع والخلاف هل يقتدي النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في اقتده للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، في اللطف بعباده والرحمة لهم إذ أنكروا بعثه للرسل وإنزاله للكتب، والقائلون هم: اليهود بدليل ما بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الضيف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى، وقيل: القائلون قريش،
__________
(1) . لعل الصواب: ابراهيم حسب رأي المؤلف في ترجيح عودة الضمير في: ذريته إلى إبراهيم والله أعلم.(1/268)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
ولزموا ذلك لأنهم كانوا مقرين بالتوراة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا الخطاب لليهود أو لقريش على وجه إقامة الحجة والرد عليهم في قولهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، فإن كان لليهود، فالذي علموه التوراة، وإن كان لقريش فالذي علموه ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم قُلِ اللَّهُ جواب من أنزل واسم الله مرفوع بفعل مضمر تقديره أنزله الله أو مرفوع بالابتداء وَلِتُنْذِرَ عطف على صفة الكتاب أُمَّ الْقُرى مكة، وسميت أم القرى، لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس، ولأنه جاء أن الأرض دحيت منها ولأنها يحج إليها أهل القرى من كل فج عميق أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ هو مسيلمة وغيره من الكذابين الذين ادّعوا النبوّة وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هو النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن، واللفظ عام فيه وفي غيره من المستهزئين وَلَوْ تَرى جوابه محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما، والظالمون:
من تقدّم ذكره من اليهود والكذابين والمستهزئين، فتكون اللام للعهد، وأعم من ذلك فتكون للجنس باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم:
أخرجوا أنفسكم، وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدّة في قبض الأرواح الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه أو الوقت الممتد من حينئذ إلى الأبد الْهُونِ الذلة فُرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم أو عن شركائكم، والأول يترجح لقوله:
تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم من الأموال والأولاد، ويترجح الثاني بقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تفرق شملكم ومن قرأه بالرفع «1» أسند الفعل إلى الظرف واستعمله استعمال الأسماء، ويكون البين بمعنى الفرقة، أو بمعنى الوصل، ومن قرأه بالنصب: فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف تقديره تقطع الاتصال بينكم
فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي: يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها وقيل: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة، والأول أرجح لعمومه في أصناف
__________
(1) . بينكم: بضم النون وقال الطبري: وهي قراءة عامة. قرّاء مكة والعراقيين، أما قرّاء المدينة فبالنصب وكذلك قرأ نافع والكسائي وحفص كما في الحجة لأبي زرعة.(1/269)
الحبوب يُخْرِجُ الْحَيَّ تقدّم في آل عمران وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على فالق فالِقُ الْإِصْباحِ أي الصبح فهو مصدر سمي به الصبح، ومعنى فلقه: أخرجه من الظلمات، وقيل: إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير فالق ظلمة الإصباح سَكَناً أي يسكن فيه عن الحركات ويستراح حُسْباناً أي يعلم بهما حساب الأزمان والليل والنهار ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ما أحسن ذكر هذين الاسمين هنا لأن العزيز يغلب كل شيء ويقهره، وهو قد قهر الشمس والقمر وسخرهما كيف شاء، والعليم لما في تقدير الشمس والقمر والليل والنهار من العلوم والحكمة العظيمة وإتقان الصنعة فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي في ظلمات الليل في البر والبحر، وأضاف الظلمة إليها لملابستها لهما، أو شبه الطرق المشتبهة بالظلمات فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ من كسر القاف من مستقر فهو اسم فاعل، ومستودع اسم مفعول، والتقدير: فمنكم مستقرّ ومستودع، ومن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر، ومستودع مثله، والتقدير على هذا لكم مستقرّ ومستودع، والاستقرار في الرحم والاستيداع في الصلب، وقيل: الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها فَأَخْرَجْنا بِهِ الضمير عائد على الماء فَأَخْرَجْنا مِنْهُ الضمير عائد على النبات خَضِراً أي أخضر غضا، وهو يتولد من أصل النبات من الفراخ نُخْرِجُ مِنْهُ الضمير عائد على الخضر حَبًّا مُتَراكِباً يعني السنبل لأن حبه بعضه على بعض، وكذلك الرمان وشبهه قِنْوانٌ جمع قنو، وهو العنقود من التمر، وهو مرفوع بالابتداء وخبره من النخل، ومن طلعها بدل، والطلع أول ما يخرج من التمر في أكمامه دانِيَةٌ أي قريبة سهلة التناول، وقيل: قريبة بعضها من بعض وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب عطف على نبات كل شيء وقرئ «1» في غير السبع بالرفع عطف على قنوان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ نصب على الحال من الزيتون والرمان، أو من كل ما تقدم من النبات، والمشتبه والمتشابه بمعنى واحد أي: من النبات ما يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم والصورة، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضا، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ
__________
(1) . في الحجة لأبي زرعة أن قراءة الرفع هي للأعمش عن أبي بكر ص 264. [.....](1/270)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
أي انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفا لا منفعة فيه، ثم ينتقل من حال إلى حال حتى يينع أي ينضج ويطيب
شُرَكاءَ الْجِنَّ نصب الجنّ على أنه مفعول أول لجعلوا وشركاء مفعول ثان، وقدم لاستعظام الإشراك، أو شركاء مفعول أول، والله في موضع المفعول الثاني والجنّ بدل من شركاء والمراد بهم هنا: الملائكة، وذلك ردا على من عبدهم وقيل: المراد الجن، والإشراك بهم طاعتهم وَخَلَقَهُمْ الواو للحال، والمعنى الرد عليهم: أي جعلوا لله شركاء، وهو خلقهم، والضمير عائد على الجنّ، أو على الجاعلين، والحجة قائمة على الوجهين وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ أي اختلقوا وزوّروا، والبنين: قول النصارى في المسيح، واليهود في عزير، والبنات قول العرب في الملائكة بِغَيْرِ عِلْمٍ أي قالوا ذلك بغير دليل ولا حجة بل مجرد افتراء بَدِيعُ ذكر معناه في [البقرة: 117] ورفعه على أنه خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره: أنى يكون، وفاعل تعالى، والقصد به الرد على من نسب لله البنين والبنات، وذلك من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده، والله تعالى متعال عن الأجناس، لأنه مبدعها، فلا يصح أن يكون له ولد والآخر: أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة أي من كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعني في الدنيا وأما في الآخرة، فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله: إلى ربها ناظرة، وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة، لا تحتمل التأويل، وقالت الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلا، لأن موسى سألها من الله، ولا يسأل موسى ما هو محال، وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم ربه ليلة الإسراء أم لا «1» وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قال بعضهم: الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى غايته، فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم، ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله: وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء، وهو يدرك الأبصار قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ جمع بصيرة، وهو نور القلب، والبصر نور العين، وهذا الكلام على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنا عليك بحفيظ
__________
(1) . روى مسلم في كتاب الإيمان رقم 291 ج 1/ 161 عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل رأيت ربك قال: نور أنّى أراه قال المازري: النور منعني من الرؤية.(1/271)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلِيَقُولُوا متعلق بمحذوف تقديره: ليقولوا صرفنا الآيات دَرَسْتَ بإسكان السين وفتح التاء درست العلم وقرأته [وهي قراءة الكوفة والمدينة] ، ودارست «1» بالألف أي دارست العلم وتعلمت منه، ودرست بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآيات ودبرت وَلِنُبَيِّنَهُ الضمير للآيات وجاء مذكرا لأن المراد بها القرآن وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
إن كان معناه: أعرض عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم، وإن كان عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ. وكذلك ما أنا عليكم بحفيظ وبوكيل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تسبوا آلهتهم فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله، واستدل المالكية بهذا على سدّ الذرائع قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هي بيد الله لا بيدي وَما يُشْعِرُكُمْ أي ما يدريكم، وهو من الشعور بالشيء، وما نافية أو استفهامية أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ من قرأ بفتح أنها فهو معمول يشعركم: أي ما يدريكم أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها، نحن نعلم ذلك وأنتم لا تعلمونه وقيل: لا زائدة، والمعنى ما يشعركم أنهم يؤمنون، وقيل:
أن هنا بمعنى لعل فمن قرأ بالكسر فهي استئناف إخبار وتم الكلام في قوله: وما يشعركم أي ما يشعركم ما يكون منهم فعلى القراءة بالكسر يوقف على ما يشعركم. وأما على القراءة بالفتح فإن كانت مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى لعل فأجاز بعض الناس الوقف. ومنعه شيخنا أبو جعفر بن الزبير، لما في لعل من معنى التعليل وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أي نطبع عليها ونصدها عن الفهم فلا يفهمون كَما لَمْ يُؤْمِنُوا الكاف للتعليل أي: نطبع على أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على أنهم لا يؤمنون به أول مرة، ويحتمل أن تكون للتشبيه، أن نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية: رد عليهم في قسمهم أنهم لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها أي: لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها، وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء «2» أي معاينة فنصبه على الحال، وقرئ بضمتين «3» ، ومعناه مواجهة: كقوله قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: 26] ، وقيل: هو جمع قبيل بمعنى كفيل، أي
__________
(1) . دارست: قراءة أبو عمرو وابن كثير ودرست: قراءة ابن عامر.
(2) . قراءة نافع وابن عامر.
(3) . وهي قراءة الباقين.(1/272)
كفلاء بتصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الآية: تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتأسي بغيره شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي المتمردين من الصنفين، ونصب شياطين على البدل من عدوا، إذ هو بمعنى الجمع أو مفعول أول، وعدوا مفعول ثان يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي يوسوس ويلقي الشر زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ما يزينه من القول وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ الضمير عائد على وحيهم، أو على عداوة الكفار فَذَرْهُمْ وعيد وَما يَفْتَرُونَ ما في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على الضمير وَلِتَصْغى أي تميل وهو متعلق بمحذوف واللام لام الصيرورة إِلَيْهِ الضمير لوحيهم وَلِيَقْتَرِفُوا يكتسبوا أَفَغَيْرَ اللَّهِ معمول لقول محذوف أي: قل لهم وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي صحت «1» والكلمات ما نزل على عباده من كتبه صِدْقاً وَعَدْلًا أي صدقا فيما أخبر وعدلا فيما حكم فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ القصد بهذا الأمر إباحة ما ذكر اسم الله عليه، والنهي عما ذبح للنصب وغيرها، وعن الميتة وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله الآتي: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقد استدل بذلك من أوجب التسمية على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها، فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين، وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك، وقال عطاء: وهذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا المعنى أي غرض لكم في ترك الأكل، مما ذكر اسم الله عليه، وقد بين لكم الحلال من الحرام إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء بما حرم وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ لفظ يعم أنواع المعاصي: لأن جميعها إما باطن وإما ظاهر وقيل:
__________
(1) . كلمت: قراءة عاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون كلمات بالجمع.(1/273)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
الظاهر الأعمال، والباطن الاعتقاد
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير لمصدر ولا تأكلوا وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ سببها أن قوما من الكفار قالوا: إنا نأكل ما قتلناه، ولا نأكل ما قتل الله يعنون الميتة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الموت هنا عبارة عن الكفر، والإحياء عبارة عن الإيمان، والنور: نور الإيمان، والظلمات الكفر فهي استعارات وفي قوله: مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ مطابقة وهي من أدوات البيان، ونزلت الآية في عمار بن ياسر، وقيل في عمر بن الخطاب والذي في الظلمات أبو جهل، ولفظها أعم من ذلك كَمَنْ مَثَلُهُ مثل هنا بمعنى صفة، وقيل زائدة، والمعنى كمن هو وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ أي كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية، وإنما ذكر الأكابر، لأن غيرهم تبع لهم والمقصود تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم مُجْرِمِيها إعرابه مضاف إليه عند الفارسي وغيره وقال ابن عطية وغيره: إنه مفعول أول بجعلنا وأكابر مفعول ثان مقدم وهذا جيد في المعنى ضعيف في العربية، لأن أكابر جمع أكبر وهو من أفعل فلا يستعمل إلا بمن أو بالإضافة وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ الآية: قائل هذه المقالة أبو جهل، وقيل الوليد بن المغيرة، لأنه قال: أنا أولى بالنبوة من محمد اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رد عليهم فيما طلبوه، والمعنى أن الله علم أن محمدا صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها فحرمهم إياها، وفي الآية من أدوات البيان الترديد لكونه ختم كلامهم باسم الله ثم رده في أول كلامه صَغارٌ أي ذلة يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ شرح الصدر وضيقه وحرجه: ألفاظ مستعارة ومن قرأ حرجا «1» بفتح الراء فهو مصدر وصف به كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء، وذلك غير ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان وأصل يصعد المشدد يتصعد، وقرئ بالتخفيف «2»
دارُ السَّلامِ الجنة، والسلام هنا يحتمل أن يكون اسم الله، فأضافها إليه:
__________
(1) . قرأ نافع وأبو بكر: حرجا بكسر الراء.
(2) . قرأ ابن كثير بالتخفيف: يصعد. وقرأ أبو بكر: يصّاعد.(1/274)
لأنها ملكه وخلقه، أو بمعنى السلامة والتحية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ العامل في يوم محذوف تقديره اذكر، وتقديره: قلنا، ويكون على هذا عاملا في يوم وفي يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أضللتم منهم كثيرا، وجعلتموهم أتباعكم كما تقول: استكثر الأمير من الجيش اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم واستمتاع الإنس بالجن كقوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] ، فإن الرجل كان إذا نزل واديا قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي يعني كبير الجن وَبَلَغْنا أَجَلَنَا هو الموت وقيل: الحشر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: الاستثناء من الكاف والميم في مثواكم فما بمعنى من، لأنها وقعت على صنف من الجن والإنس والمستثنى على هذا: من آمن منهم، وقيل: الاستثناء من مدّة الخلود، وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار، وقيل:
الاستثناء من النار، وهو دخولهم الزمهرير، وقيل: ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج، وإنما هو على وجه الأدب مع الله، وإسناد الأمور إليه نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم وليا لبعض، وقيل: يتبع بعضهم بعضا في دخول النار، وقيل: نسلط بعضهم على بعض لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
تقرير للجن والإنس، فقيل: إن الجن بعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية، وقيل: إنما الرسل من الأنس خاصة، وإنما قال: رسل منكم لأنه جمع الثقلين في الخطاب شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
لا تنافي بينه وبين قولهم: ما كنا مشركين، لما تقدّم هناك فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ فالجواب أن قولهم: شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم، وقوله: شهدوا على أنفسهم ذل لهم وتقبيح لحالهم ذلِكَ خبر ابتداء مضمر تقديره الأمر ذلك أو مفعول لفعل مضمر تقديره فعلنا ذلك، والإشارة إلى بعث الرسل أَنْ لَمْ يَكُنْ تعليل لبعث الرسل، وهو في موضع مفعول من أجله، أو بدل من ذلك بِظُلْمٍ فيه وجهان: أحدهما أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلما إذ لم ينذرهم، فهو كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] ، والآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا، دون أن ينذرهم، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى وغفلتهم عدم إنذارهم، حكى الوجهين ابن عطية والزمخشري، والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة، ولا يصح على مذهب أهل السنة، لأن الله لو أهلك عباده(1/275)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
بغير ذنب: لم يكن ظالما عندهم
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ منازل في الجزاء على أعمالهم من الثواب والعقاب مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ أي من ذرية أهل سفينة نوح أو من كان قبلهم إلى آدم اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الأمر هنا للتهديد، والمكانة التمكن فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد مَنْ تَكُونُ لَهُ يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء عاقِبَةُ الدَّارِ أي الآخرة أو الدنيا، والأول أرجح لقوله: عُقْبَى الدَّارِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد: 22] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الضمير في جعلوا لكفار العرب. قال السهيلي: هم حيّ من خولان، يقال لهم: الأديم «1» كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم. ومعنى ذرأ: خلق وأنشأ، ففي ذلك ردّ عليهم، لأن الله الذي خلقها وذرأها: هو مالكها لا رب غيره بِزَعْمِهِمْ أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع، وأكثر ما يقال الزعم: في الكذب، وقرئ بفتح الزاي والكسائي بالضم وهما لغتان فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ الآية كانوا إذا هبت الريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه، وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردّوه، وإذا أصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم، قربانا إلى الأصنام. وشركاؤهم هنا هم: الشياطين، أو القائمون على الأصنام. وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل، ونصب قتل على أنه مفعول وخفض أولادهم بالإضافة ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين، والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل، وقرأ ابن عباس «2» بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل، وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، وفصل بين المضاف والمضاف
__________
(1) . كذا! ويوجد في جمهرة الأنساب لابن حزم: أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ والله أعلم.
(2) . وابن عامر.(1/276)
إليه بقوله: أولادهم، وذلك ضعيف في العربية وقد سمع في الشعر، والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم وهو من الردى بمعنى الهلاك وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أي حرام، وهو فعل بمعنى مفعول، نحو ذبح، فيستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ أي لا يأكلها إلا من شاءوا وهم القائمون على الأصنام، والرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أي لا تركب، وهي السائبة وأخواتها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قيل معناه لا يحج عليها فلا يذكر اسم الله بالتلبية، وقيل: لا يذكر اسم الله عليها إذا ذبحت افْتِراءً عَلَيْهِ كانوا قد قسموا أنعامهم على هذه الأقسام، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذبا، ونصب على الحال أو مفعول من أجله، أو مصدر مؤكد وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ الآية: كانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسائبة: ما ولد منها حيا فهو للرجال خاصة ولا يأكل منها النساء، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الرجال والنساء وأنث خالصة للحمل على المعنى، وهي الأجنة وذكر محرم حملا على لفظ ما، ويجوز أن تكون التاء للمبالغة وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي البحيرة والسائبة وشبهها جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على دعائم وشبهها وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض، وقيل: المعروشات ما غرسه الناس في العمران وغير معروشات: ما أنبته الله في الجبال والبراري مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم والرائحة والحجم، وذلك دليل على أن الخالق مختار مريد وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قيل:
حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، والآخر أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد، وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار، وقيل: حقه ما يصدق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر، وقيل: هو ما يسقط من السنبل، والأمر على هذا للندب حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات، والحمولة الكبار، والفرش الصغار: كالعجاجيل جمع عجل والفصلان وقيل: الحمولة الإبل لأنها(1/277)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
يحمل عليها، والفرش: الغنم لأنها تفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا، وسماها أزواجا، لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يريد الذكر والأنثى، وكذلك فيما بعده قُلْ آلذَّكَرَيْنِ يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز، ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن، والأنثى من المعز، وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ تعجيز وتوبيخ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني في تحريم ما لم يحرم الله، وذلك إشارة إلى العرب في تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها.
قُلْ لا أَجِدُ الآية تقتضي حصر المحرمات فيما ذكر، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا كلحوم الحمر الأهلية فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب فلا تقتضي الحصر، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر إنما نهى عنه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم أَوْ فِسْقاً معطوف على المنصوبات قبله، وهو ما أهلّ به لغير الله سماه فسقا لتوغله في الفسق، وقد تقدم الكلام على هذه المحرمات في [البقرة: 173] كُلَّ ذِي ظُفُرٍ هو ماله إصبع من دابة وطائر قاله الزمخشري وقال ابن عطية: يراد به الإبل والأوز والنعام ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، أو له ظفر وقال الماوردي مثله، وحكى النقاش عن ثعلب:
أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر، وما يصيد فهو ذو مخلب، وهذا غير مطرد، لأن الأسد ذو ظفر إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني ما في الظهور والجنوب من الشحم أَوِ الْحَوايا هي المباعر، وقيل: المصارين والحشوة ونحوهما مما يتحوّى في البطن، وواحد حوايا حوية على وزن فعيلة فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة وصحائف، وقيل: واحدها حاوية على وزن فاعلة فحوايا على هذا فواعل: كضاربة وضوارب، وهو معطوف على ما في قوله: إلا ما حملت ظهورهما، فهو من المستثنى من التحريم، وقيل: عطف على الظهور، فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وقيل: عطف على الشحوم، فهو من المحرم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد ما في جميع الجسد وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي فيما أخبرنا به(1/278)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
من التحريم، وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم، وهذا كما تقول عند رؤية معصية: ما أحلم الله! تريد لإمهاله عن مثل ذلك ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بقوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا تغتروا بسعة رحمته، فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا أو في الآخرة سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الآية: معناها أنهم يقولون: إن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإرادة الله له، وتلك نزغة جبرية، ولا حجة لهم في ذلك، لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله، ولا يحللوا ما حرم الله ولا يحرموا ما حلل الله، والإرادة خلاف التكليف، ويحتمل عندي أن يكون قولهم: «لو شاء الله» قولا يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن، كقولك إذا ندمت على شيء: لو شاء الله ما كان هذا.
أي يتمنى أن ذلك لم يكن، ويؤيد هذا أنه حكى قولهم بأداة الاستقبال، وهي السين، فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل وهي الآخرة قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ توقيف لهم وتعجيز قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لما أبطل حجتهم أثبت حجة الله ليظهر الحق ويبطل الباطل هَلُمَّ قيل: هي بمعنى هات فهي متعدية، وقيل: بمعنى أقبل فهي غير متعدية، وهي عند بعض العرب فعل يتصل به ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث، وعند بعضهم:
اسم فعل فيخاطب بها الواحد والاثنان والجماعة والمؤنث على حد سواء، ومقصود الآية تعجيزهم عن إقامة الشهداء فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي إن كذبوا في شهادتهم وزوروا فلا تشهد بمثل شهادتهم..
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أمر الله نبيه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أنه يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم عليهم وذكر في هذه الآيات المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع ولم تنسخ قط في ملة، وقال ابن عباس: هي الكلمات [أو الوصايا العشر] التي أنزل الله على موسى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً قيل: أن «1» هنا حرف
__________
(1) . أن هي المدغمة مع لا: ألّا.(1/279)
عبارة وتفسير فلا موضع لها من الإعراب، ولا ناهية جزمت الفعل، وقيل: أن مصدرية في موضع رفع تقديره: الأمر ألا تشركوا، فلا على هذا نافية، وقيل: أن في موضع نصب بدلا من قوله ما حرم، ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة وإن لم تكن زائدة فسد المعنى لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك، والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل ولا نافية ولا يلزم ما ذكر من فساد المعنى، لأن قوله ما حرم ربكم: معناه ما وصاكم به ربكم بدليل قوله في آخر الآية: ذلكم وصاكم به فضمن التحريم معنى الوصية، والوصية في المعنى أعمّ من التحريم، لأن الوصية تكون بتحريم وبتحليل، وبوجوب وندب، ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص، إذ تقرر هذا، فتقدير الكلام:
قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه على وجه التفسير له والبيان، فقال: أن لا تشركوا به شيئا، أي وصاكم ألا تشركوا به شيئا ووصاكم بالإحسان بالوالدين، ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم، فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين وما بعد ذلك ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا: أن الآيات اشتملت على أوامر: كالإحسان بالوالدين وقول العدل والوفاء في الوزن، وعلى نواهي: كالإشراك وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظا يجمع الأوامر والنواهي، لأنها أجملت فيه، ثم فسرت بعد ذلك، ويصلح لذلك لفظ الوصية لأنه جامع للأمر والنهي، فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك، وإن لم يتأول على ما ذكرناه:
لزم في الآية إشكال، وهو عطف الأوامر على النواهي، وعطف النواهي على الأوامر، فإن الأوامر طلب فعلها، والنواهي طلب تركها، وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل والترك.
وتحتمل الآية عندي تأويلا آخر، وهو: أن يكون لفظ التحريم على ظاهره، ويعم فعل المحرمات، وترك الواجبات لأن ترك الواجبات حرام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ الإملاق الفاقة، ومن هنا للتعليل تقديره: من أجل إملاق، وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة، لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قيل ما ظهر: الزنا، وما بطن: اتخاذ الأخدان والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فسره قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:(1/280)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس «1»
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
النهي عن القرب يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة، لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال، فالنهي عن أكله أولى وأحرى. والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
هو البلوغ مع الرشد، وليس المقصود هنا السن وحده، وإنما المقصود معرفته بمصالحه لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
لما أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل.
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة، وأنّ بفتح الهمزة والتشديد «2» عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله: أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما، وقرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح والتخفيف على العطف، وهي على هذا مخففة من الثقيلة وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة، ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة، وفي الحديث «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خط خطا، ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» «3» فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده أبو الحسن أحمد بن محمد البزي
ثُمَّ آتَيْنا معطوف على وصاكم به، فإن قيل:
فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية، فكيف عطفه عليها بثم؟ فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب، وقيل: إنها هنا لترتيب الأخبار والقول، لا لترتيب الزمان تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فيه ثلاث تأويلات: أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى، ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي،
__________
(1) . رواه أحمد عن عدد من الصحابة منهم عثمان وعائشة وابن مسعود بألفاظ متقاربة وورد في الصحيحين من رواية ابن مسعود وذكره النووي في الأربعين.
(2) . هي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأما بالكسر فقراءة حمزة والكسائي وبالتخفيف قراءة ابن عامر.
(3) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص 544.(1/281)
والذي أحسن يراد به جنس المحسنين، والآخر: أن المعنى تماما أي تفضلا، أو جزاء على ما أحسن موسى عليه السلام من طاعة ربه وتبليغ رسالته، فالفاعل على هذا ضمير موسى عليه السلام والذي صفة لعمل موسى، والثالث تماما أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده، فالعامل على هذا ضمير الله تعالى أَنْ تَقُولُوا في موضع مفعول من أجله تقديره:
كراهة أن تقولوا عَلى طائِفَتَيْنِ أهل التوراة والإنجيل وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا، وأن هنا مخففة من الثقيلة فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ إقامة حجة عليهم صَدَفَ أي أعرض هَلْ يَنْظُرُونَ الآية:
تقدّمت نظيرتها في [البقرة: 210] بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها، فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص، فقوله: لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات، ثم تاب إذا ظهرت: لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ قُلِ انْتَظِرُوا وعيد إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ هم اليهود والنصارى، وقيل أهل الأهواء والبدع، وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله ومن تلك الواحدة؟ قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه «1» ، وقرئ فارقوا أي تركوا وَكانُوا شِيَعاً جمع شيعة أي متفرّقين كل فرقة تتشيع لمذهبها لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي أنت بريء منهم عَشْرُ أَمْثالِها فضل عظيم على العموم في الحسنات، وفي العاملين، وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد دِيناً قِيَماً بدل من موضع إلى صراط مستقيم،
__________
(1) . من حديث أبي هريرة رواه أصحاب السنن أبو داود ورقمه 4591/ أول الجزء/ 5 والترمذي والنسائي وابن ماجة. [.....](1/282)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
لأن أصله هداني صراطا بدليل اهدنا الصراط، والقيّم فيعل من القيام وهو أبلغ من قائم وقرئ قيما بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها «1» ، وهو على هذا مصدر وصف به مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل من دينا، أو عطف بيان
وَنُسُكِي أي عبادتي وقيل: ذبحي للبهائم، وقيل:
حجي، والأول أعم وأرجح وَمَحْيايَ وَمَماتِي «2» أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي لِلَّهِ أي خالصا لوجهه وطلب رضاه، ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له: أي لا أريد بأعمالي غير الله، فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء، ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر وَبِذلِكَ أُمِرْتُ إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأنه صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا تقرير وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ردّ على الكفار لأنهم قالوا له: أعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت هذه الآية: أي ليس كما قلتم، وإنما كسب كل نفس عليها خاصة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ألا يحمل أحد ذنوب أحد، وأصل الوزر الثقل، ثم استعمل في الذنوب خَلائِفَ جمع خليفة: أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه، والخطاب على هذا لجميع الناس، وقيل: لأمة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ليختبر شكركم على ما أعطاكم، وأعمالكم فيما مكنكم فيه إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ جمع بين التخويف والترجية، وسرعة عقابه تعالى: إما في الدنيا بمن عجل أخذه، أو في الآخرة لأن، كل آت قريب، ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته.
__________
(1) . وهي قراءة أهل الكوفة وابن عامر. أما التشديد فقراءة الباقين.
(2) . محياي: قرأها نافع بتسكين الياء والباقون بفتحها.(1/283)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
سورة الأعراف
مكية إلا من آية 163 إلى غاية آية 170 فمدنية وآياتها 206 نزلت بعد ص (سورة الأعراف) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك، وقيل: الحرج هنا الشك، فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين [آل عمران/ 60] لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل وَذِكْرى منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى، لأن الذكر بمعنى التذكير، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا، وما زائدة للتوكيد أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا قيل: إنه من المقلوب تقديره: جاءها بأسنا فأهلكناها، وقيل: المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء، ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلف، والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى: بائتين أي بالليل، وقائلون: من القائلة: أي بالنهار، وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار، وأو هنا للتنويع دَعْواهُمْ أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون، وقيل: المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أسند الفعل إلى الجار والمجرور، ومعنى الآية: أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، ويسأل الرسل عما أجيبوا به فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والأمم وَالْوَزْنُ يعني وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي(1/284)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
يوم يسأل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة
بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي يكذبون بها ظلما خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قيل: المعنى أردنا خلقكم وتصويركم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل: خلقنا أباكم آدم ثم صورناه، وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة للتوكيد إِذْ أَمَرْتُكَ استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود، وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود فَاهْبِطْ مِنْها أي من السماء قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعليل، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره:
أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، وما مصدرية، وقيل: استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر صِراطَكَ يريد: طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية: أي من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه، وقال ابن عباس: من بين أيديهم الدنيا، ومن خلفهم الآخرة، وعن أيمانهم الحسنات، وعن شمائلهم السيّئات مَذْؤُماً من ذأمه بالهمز إذا ذمه مَدْحُوراً أي مطرودا حيث وقع فَوَسْوَسَ إذا تكلم كلاما خفيا يكرره، فمعنى وسوس لهما: ألقى لهما هذا الكلام لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس، أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه الشَّجَرَةِ ذكرت في [البقرة: 35] إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي كراهة أن تكونا ملكين، واستدل به من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقرئ ملكين بكسر اللام «1» ، ويقوي هذه القراءة قوله: وملك لا يبلى وَقاسَمَهُما أي حلف لهما: إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه
__________
(1) . تنسب هذه القراءة لابن عباس. وانظر الطبري.(1/285)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما: وأقسما له أن يقبلا نصيحته
فَدَلَّاهُما أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ أي غرّهما بحلفه لهما لأنهما ظنّا أنه لا يحلف كاذبا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي زال عنهما اللباس، وظهرت عوراتهما، وكان لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر، وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به وَناداهُما رَبُّهُما يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك، أو بغير واسطة رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة، وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها اهْبِطُوا وما بعده مذكور في البقرة فِيها تَحْيَوْنَ أي في الأرض لِباساً أي الثياب التي تستر، ومعنى أنزلنا خلقنا، وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة رِيشاً أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر وَلِباسُ التَّقْوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه، وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع وشبهها، وقرئ بالرفع «1» على الابتداء أو خبره الجملة، وهي: ذلك خير ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى ما أنزل من اللباس، وهذه الآية واردة على وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني في غالب الأمر، وقد استدل به من قال: إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة، فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قيل: هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء، ويحتمل العموم في الفواحش قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما: تقليد آبائهم، والآخر: افتراؤهم على الله
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ قيل: المراد إحضار النية، والإخلاص لله،
__________
(1) . قراءة النصب هي لنافع وابن عامر والكسائي والباقون بالضم: لباس.(1/286)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقيل: فعل الصلاة والتوجه فيها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود، والأول أظهر، والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلّى الله عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا «1» كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى فَرِيقاً الأول منصوب بهدى، والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده خُذُوا زِينَتَكُمْ قيل: المراد به الثياب الساترة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، وقيل: المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الأمر فيهما للإباحة، لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل وَلا تُسْرِفُوا أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة، وقال الأطباء: إن الطب كله مجموع في هذه الآية، وقيل: لا تسرفوا بأكل الحرام قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إنكار لتحريمها هو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل، وكان بعض العرب إذا حجوا يجرّدون الثياب ويطوفون عراة، ويحرّمون الشحم واللبن، فنزل ذلك ردّا عليهم خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم، وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، وقرئ خالصة بالنصب على الحال، والرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مضمر وَالْإِثْمَ عام في كل ذنب وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي تفتروا عليه في التحريم وغيره ف إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، ولزمتها النون الشديدة المؤكدة، وجواب الشرط فمن اتقى الآية فَمَنْ أَظْلَمُ ذكر في الأنعام يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 315
(2) . خالصة بالضم هي قراءة نافع وبالنصب قرأ الباقون.(1/287)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ المراد بأولاهم الرؤساء والقادة، وأخراهم الأتباع والسفلة، والمعنى: أن أخراهم طالبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا: أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى، يوجب أن يكون عذابنا أشدّ من عذابكم بل: نحن وأنتم سواء فَذُوقُوا الْعَذابَ من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يصعد عملهم إلى السماء، والثاني لا يدخلون الجنة، فإن الجنة في السماء، والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا، فلا يدخلونها أبدا مِهادٌ فراش غَواشٍ أغطية لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا، وإنما قال:
نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع، وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله: نادى أصحاب الجنة، ونادى أصحاب الأعراف، ونادى أصحاب النار، وغير ذلك هَدانا لِهذا إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأن قد وجدنا، وأن لعنة، وأن سلام: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير لمعنى القول
ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب(1/288)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي أعلم معلم وهو ملك وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله: فضرب بينهم بسور الْأَعْرافِ.
قال ابن عباس: هو تل بين الجنة والنار، وقيل: سور الجنة رِجالٌ هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث: أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة ولا النار، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم، فاستشهدوا، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم، ونجوا من النار للشهادة «1» يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم، أو غير ذلك من العلامات وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني من الكفار الذين في النار، قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ جَمْعُكُمْ يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق، فما ها هنا مصدرية وما في قوله «ما أغنى» استفهامية أو نافية أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا، وقيل: هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ دليل على أنّ الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأطعمة والأشربة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم كَما نَسُوا الكاف للتعليل وَما كانُوا عطف على كما نسوا: أي لنسيانهم وجحودهم
جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
__________
(1) . روى الطبري بإسناده عدة روايات حول أصحاب الأعراف فانظره إن شئت.(1/289)
يعني القرآن فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي علمنا كيف نفصله إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره، وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين وظهر الآن أنّ الرسل جاءوا بالحق.
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره، وتأوّله قوم بمعنى: قصد كقوله: ثم استوى إلى السماء، ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش، وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى استولى بالملك والقدرة، و [القول] الحق:
الإيمان به من غير تكييف، فإنّ السلامة في التسليم، ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة، وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة، وجعفر الصادق، والحسن البصري، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلحق الليل بالنهار، ويحتمل الوجهين، هكذا قال الزمخشري، وأصل اللفظة من الغشاء، أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي سريعا، والجملة في موضع الحال من الليل أي طلب الليل النهار فيدركه أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قيل: الخلق المخلوقات، والأمر مصدر أمر يأمر، وقيل: الخلق مصدر خلق، والأمر واحد الأمور: كقوله: إلى الله تصير الأمور، والكل صحيح تَبارَكَ من البركة، وهو فعل غير منصرف لم تنطق له العرب بمضارع تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطمعا، وخفية من الإخفاء، وقرئ خيفة من الخوف الْمُعْتَدِينَ المجاوزين للحد، وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط فيه وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا، كما قال الله تعالى:
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57] فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدّة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] «1» ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث، لو وزن خوف المؤمن
__________
(1) . قال العجلوني عنه في كشف الخفاء: مأثور من كلام السلف ومعناه صحيح وقال السيوطي أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند.(1/290)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» «1» ..
واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث درجات: الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور، والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة: بالرحم أو الترحم أو العفو، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب، أو على تقدير النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها
الرِّياحَ بُشْراً قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر، وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة، وإفرادها إذا كانت للعذاب، ومنه ورد في الحديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» «2» وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو على هذا مصدر في موضع الحال، وقرئ بضمها وهو جمع نشر، وقيل: جمع منشور، وقرئ بضم النون وإسكان الشين نشر وهو تخفيف من الضم: كرسل ورسل، وقرئ بالباء «3» في موضع النون وهو من البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قبل المطر أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا لأنها تحمل الماء فتثقل به سُقْناهُ الضمير للسحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: لا نبات فيه من شدّة القحط، وكذلك معناه حيث وقع فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ الضمير للسحاب أو البلد، على أن تكون الباء ظرفية كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تمثيل لإخراج الموتى من القبور، وبإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في
__________
(1) . رواه أحمد من حديث جابر ج 3 ص 372.
(2) . عزاه الإمام النووي في الأذكار للإمام الشافعي في كتابه الأم بسنده إلى ابن عباس.
(3) . وهي قراءة عاصم وقرأ نافع وغيره نشرا وقرأ غيرهم: نشرا.(1/291)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
مواضع منها: كذلك النشور، وكذلك الخروج
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ هو الكريم من الأرض الجيد التراب وَالَّذِي خَبُثَ بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها بِإِذْنِ رَبِّهِ عبارة عن السهولة والطيب، والنكد بخلاف ذلك، فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، أو تكون تمثيلا للقلوب، فقيل: على هذا الطيب:
قلب المؤمن، والخبيث: قلب الكافر. وقيل: هما للفهيم والبليد مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي غيره بالخفض حيث وقع على اللفظ، وقرأ غيره بالرفع على الموضع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم الْمَلَأُ أشراف الناس لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال، لأن الضلالة أخص من الضلال، كما إذا قيل لك عندك تمر، فتقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي أُبَلِّغُكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف «1» ، والمعنى واحد، وهو في وضع رفع صفة لرسول أو استئناف أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من صفاته ورحمته وعذابه أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قال: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم: أي على لسان رجل منكم فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه والتقدير: استقروا معه في الفلك، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه عَمِينَ جمع أعمى وهو من عمى القلب أَخاهُمْ أي واحد من قبيلتهم، وهو عطف على نوحا، وهودا بدل منه أو عطف بيان، وكذلك أخاهم صالحا وما بعده، وما هو مثله حيث وقع الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيّد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد، بخلاف قوم نوح، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن، فأطلق لفظ الملأ أَمِينٌ يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق
خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كانوا
__________
(1) . قرأ أبو عمرو وحده بالتخفيف: أبلغكم.(1/292)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا، وأطولهم مائة ذراع آلاءَ اللَّهِ نعمه حيث وقع قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ استبعدوا توحيد الله مع اعترافهم بربوبيته، ولذلك قال لهم هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي حقّ عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها يعني الأصنام: أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف، وأراد بقوله: سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها آلهة، فقولكم باطل فالجدال على القول الأول في عبادتها، وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة، والمراد بالأسماء على القول الأول: المسمى، وعلى القول الثاني: التسمية دابِرَ ذكر في [الأنعام: 45] بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة وهي الناقة، وأضيفت إلى الله تشريفا لها، أو لأنه خلقها من غير فحل، وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه السلام أن يخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك، فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون، ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون لَكُمْ آيَةً أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح، والمجرور في موضع الحال من آية، لأنه لو تأخر لكان صفة وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون» «1» ، مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي تتخذون بيوتا في الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف، والجبال في الشتاء، وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك: خطت هذا الثوب قميصا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
__________
(1) . رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 14.(1/293)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
بدل من الذين استضعفوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نسب العقر إلى جميعهم لأنهم رضوا به، وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر الرَّجْفَةُ الصيحة حيث وقعت، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض فماتوا منها جاثِمِينَ حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الآية: يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم، لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم، أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا، وهو ظاهر الآية، وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم، وقوله: لا تحبون الناصحين: حكاية حال ماضية إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ العامل في إذ أرسلنا المضمر، أو يكون بدلا من لوط ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم، ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ الآية: أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن الفاحشة مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين، وقيل: من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا، أو من الباقين من أترابها يقال غبر بمعنى مضى، وبمعنى بقي، وإنما قال: من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم، وقلبت البلاد بمن كان فيها بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة، ولم تعين في القرآن آية شعيب فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ كانوا ينقصون في الكيل والوزن، فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك، والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان، كما جاء في هود المكيال والميزان، ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قيل هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردّون الناس عن اتباع شعيب(1/294)
ويوعدونهم إن اتبعوه وَتَصُدُّونَ أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان، والضمير في به للصراط أو لله تَبْغُونَها عِوَجاً ذكر في [آل عمران: 99] أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجهم، أو عودهم إلى ملة الكفر، فإن قيل: إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم: لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم، ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال، فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين: أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه، والثاني: قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك يجاب عن قوله: إن عدنا في ملتكم، وما يكون لنا أن نعود فيها قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أي إن عندنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله، وذلك تبرأ من العود فيها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه، وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم: أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، فإن قلت: إن ذلك يصح في حق قومه، وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر؟ فالجواب: أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى، واستسلاما لأمره كقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» «1» مع أنه قد علم أنه يثبته رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم
__________
(1) . رواه أحمد عن أنس ج 3 ص 141. [.....](1/295)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قد تقدم بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بالمطر والزرع أَوَأَمِنَ من قرأ بإسكان الواو «1» فهي أو العاطفة، ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله: أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر أَوَلَمْ يَهْدِ أي أو لم يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ أي يسكنونها أَنْ لَوْ نَشاءُ هو فاعل أو لم يهد، ومقصود الآية الوعيد وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل، أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أو لم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ من قرأ عليّ بالتشديد «2» على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر، وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق، وموضع أن لا أقول على هذا رفع، على أنه خبر حقيق، وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ على
__________
(1) . هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وقرأ الباقون: أو: بفتحتين.
(2) . هي قراءة نافع وقرأ الباقون: على بالتخفيف.(1/296)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر، وحقيق صفة لرسول، وفي المعنى على هذا وجهان، أحدهما أن على بمعنى الباء فمعنى الكلام: رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدّى بعلى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة تدل على صدقي وهي العصا أو جنس المعجزات فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم، وذلك أنه لما توفي يوسف عليه السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ وكان موسى عليه السلام شديد الأدمة [السواد] فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه، ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشدّ بياضا، وقيل: إنها كانت منيرة شفافة كالشمس، وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه لِلنَّاظِرِينَ مبالغة في وصف يده بالبياض، وكان الناس يجتمعون للنظر إليها، والتعجب منها قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ حكى هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون، كأنه قاله هو وهم، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل، وقيل: المراد إخراج بني إسرائيل، وكانوا خدّاما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها فَماذا تَأْمُرُونَ من قول الملأ أو من قول فرعون، وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة، أو من الأمر وهو ضدّ النهي أَرْجِهْ من قرأه بالهمزة «1» فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته، فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما، وقيل: المراد بالإرجاء هنا السجن، ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة، أو يكون بمعنى الرجاء أي أطعمه، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان، وأما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف حاشِرِينَ يعني الشرطة أي جامعين للسحرة
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قيل: هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة إِنَّ لَنا لَأَجْراً من قرأه بهمزتين أإن فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة، والأجر هنا: الأجرة، طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى، فأنعم [أقرّ] لهم فرعون بها
__________
(1) . قرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر: (أرجئه) وقرأ نافع والكسائي: أرجهي وقرأ عاصم وحمزة: أرجه.
راجع الحجة لأبي زرعة ص 290.(1/297)
وزادهم التقريب منه والجاه عنده وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم، واختلف في عدد السحرة اختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيّروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدءوا هم بإلقاء سحرهم، فأمرهم أن يلقوا، وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل، وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الاسمية، إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي خوّفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل: إنه طال حتى جاوز الفيل تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم، وروي: أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومدّ موسى يده إليه فصار عصا كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر، وليس في قدرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآية: وعيد من فرعون للسحرة، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، لكن روى أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره، وقد ذكر معنى من خلاف في العقود [المائدة: 36] قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أي ما تعيب منا إلا إيماننا لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه وَيَذَرَكَ معطوف على ليفسدوا، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو وَآلِهَتَكَ قيل: إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها، وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال: أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24] ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام، وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك: أي عبادتك والتذلل لك إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ وقيل: يعني أرض فرعون، فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله: يورثها من(1/298)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
يشاء من عباده، ثم صرح في قوله: عسى ربكم الآية فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ حض على الاستقامة والطاعة. بالسنين: أي الجدب والقحط
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الآية: إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا: هذه لنا وبسعدنا، ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى: أي قالوا هذه بشؤمه، فإن قيل: لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟
فالجواب: أن وقوع الحسنة كثير، والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد، وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمي به ما يصيب الإنسان. ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما، ثم قلبت الألف هاء، وقيل: هي اسم بسيط غير مركب. والضمير في به يعود على مهما، وإنما قالوا: من آية على تسمية موسى لها آية، أو على وجه التهكم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون وَالْجَرادَ هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم وَالْقُمَّلَ قيل هي صغار الجراد، وقيل:
البراغيث، وقيل: السوس، وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف، فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم وَالضَّفادِعَ هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه وَالدَّمَ صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما، وما يلي الإسرائيلي ماء وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم، فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بدعائك إليه ووسائلك، والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عندك فِي الْيَمِّ البحر حيث وقع
الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو(1/299)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الشام ومصر بارَكْنا فِيها أي بالخصب وكثرة الأرزاق وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي تمت لهم واستقرت، والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل، وقيل هي قوله: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يبنون، وقيل: هي الكروم وشبهها فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل مُتَبَّرٌ من التبار وهو الهلاك وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وما بعده مذكور في [البقرة: 47] .
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة مِيقاتُ رَبِّهِ أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور اخْلُفْنِي أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي
قالَ رَبِّ أَرِنِي لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها كما قال الشاعر:
وأفرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا، وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى، فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين: أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا، والآخر أن معنى أرني أنظر إليك: عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد، والثاني أبعد وأضعف، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية قالَ لَنْ تَرانِي قال مجاهد وغيره: إن الله قال لموسى لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت، فعلى هذا إنما جعل(1/300)
الله الجبل مثالا لموسى، وقال قوم: المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله: فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا، فقوله تعالى: لن تراني نفي للرؤية، وليس فيه دليل على أنها محال، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لا استحالتها، ولو كانت الرؤية مستحيلة، لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ، فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك، وأما في الآخرة، فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينكرها إلا مبتدع، وبين أهل السنة والمعتزلة في مسألة الرؤية تنازع طويل، وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها، ولما فيه من الأقوال الفاسدة جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك: ضربت الأمير «1» ، والدك والدق: أخوان، وهو التفتت، وقرئ: دكاء بالمد والهمز «2» أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره، وقيل تفتت حتى صار غبارا، وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه تُبْتُ إِلَيْكَ معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي أول قومه أو أهل زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي هو عموم يراد به الخصوص، فإنّ جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة، واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا، والصحيح: أنه كلم نبينا محمدا صلّى الله تعالى عليه واله وسلم ليلة الإسراء فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة وكانت سبعة، وقيل: عشرة وقيل: اثنان وقيل: كانت من زمردة وقيل: من ياقوت، وقيل: من خشب مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم، وكذلك تفصيلا لكل شيء، وموضع كل شي نصب على أنه مفعول كتبنا، وموعظة بدل منه فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجدّ وعزم، والضمير للتوراة يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو، وكذلك سائر المباحات مع المندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي دار فرعون وقومه وهو مصر، ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا، وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها، وقيل: جهنم، وقرأ ابن عباس: سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة، وهي على
__________
(1) . قوله: «ضربت الأمير» ، لم يتضح لي مراده من هذا المثال.
(2) . وهي قراءة حمزة والكسائي فقط.(1/301)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ الآيات: يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي:
ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى هم بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد غيبته في الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي، وقرئ «1» بكسر الحاء للإتباع، وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة جَسَداً أي جسما دون روح، وانتصابه على البدل لَهُ خُوارٌ الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته اتَّخَذُوهُ أي اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك حذف من قوله: واتخذ قوم موسى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا يقال: سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره
أَسِفاً شديد الحزن على ما فعلوه، وقيل:
شديد الغضب كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: 55] بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف، والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل ابْنَ أُمَّ كان هارون شقيق
__________
(1) . وهي قراءة حمزة والكسائي. وقرأ الباقون بالضم.(1/302)
موسى، وإنما دعاه بأمّه، لأنه أدعى إلى العطف والحنوّ، وقرئ ابن أم بالكسر «1» على الإضافة إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تظن أني منهم أو لا تجد عليّ في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ أي: غضب في الآخرة وذلة في الدنيا وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، وقال الزمخشري: قوله سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له ألق الألواح وجرّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك وَفِي نُسْخَتِها أي فيما ينسخ منها، والنسخة فعلة بمعنى مفعول لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون، ودخلت اللام لتقدّم المفعول كقوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف:
43] ، وقال المبرّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء، والأول أظهر لقوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي الأمور كلها بيدك
__________
(1) . هي قراءة أهل الشام والكوفة وقرأ بالفتح: نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص.(1/303)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو:
استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ قيل: الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال: إنها تصحيف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة، وعموما في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموما في الرحمة، وفي كل شيء فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضا مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ
أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ هذا الوصف خصص أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال بعضهم: لما قال الله: ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله، وبقيت اليهود والنصارى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة، ولذلك قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] ، قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأمّ وقيل: إلى الأمة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأمّيين أنت عبدي ورسولي، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به(1/304)
الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» 21/ 3.
ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم: ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين: 17] .
ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام، وساعد موضع عيسى وفاران هي: مكة موضع مولد نبينا محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ومبعثه، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكّة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل الأرض الظلام، وعلا على الأمم المصاب، والرب يشرق عليك إشراقا، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته.
ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين: 16] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وظهور دينه وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم..
ومن ذلك أيضا من التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلّى الله عليه واله وسلّم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم..
ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة..
ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه(1/305)
نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم في قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3] وتفسير الفارقليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم محمد وأحمد وقيل معنى الفارقليط الشافع المشفع..
ومن ذلك في التوراة: مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون، وبيان ذلك أن أمته يقرءون: الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان من عظمائهم وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيرا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين.
فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون الذي يحمدون الله على كل شرف، وعلى كل حال، وتتذلل بالتكبير ألسنتهم، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي:
والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.(1/306)
ثم بلغني أن خليفة قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر، وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى ما تكون عاقبتهم. فلم أزل أقدّم ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام.
فو الله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم برحمته التي وسعت كل شيء.
ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل.
يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصيف(1/307)
لك منه، فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي: أنقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت:
واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه، فقال: قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت: يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليّ صنيعة فلا تكررها، فقال إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء فكتب «1» له على ديره وما فيه، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتانا فقال لي:
أتراها فقلت: نعم، قال سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم.
فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين، قال:
نعم يا أمير المؤمنين، قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال:
نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه.
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد أرسله إلى عمان واليا عليها، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله قال عمرو: نعم، فقال اليهودي:
__________
(1) . الصواب: فكتبت.(1/308)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم. فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات فيه. ثم خرج فأخبر بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبارك وشرف وكرم.
ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلموه، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر، وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرغب من يراه منه «1» فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه، أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات، وأن الخبائث هي المستقذرات: كالخنافس والعقارب وغيرها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك وَعَزَّرُوهُ أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ هو القرآن أو الشرع كله، ومعنى معه مع بعثه ورسالته
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً تفسيره قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة «2» » فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ هي الكتب التي أنزلها الله عليه
__________
(1) . كذا في الأصل المطبوع ولعل في الكلام تصحيفا.
(2) . رواه أحمد عن أبي ذر وأوله: أوتيت خمسا ج 5 ص 191 ورواه صاحب عيون الأثر ج 1 ص 81 بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(1/309)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
وعلى غيره من الأنبياء وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم في عصره وَقَطَّعْناهُمُ أي فرقناهم أَسْباطاً السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا مفردا، وقال الزمخشري على التمييز، لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس: أول الانفجار وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في [البقرة: 57] .
تنبيه: وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله: وإذ قلنا ادخلوا، وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله: وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء، فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض، وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها وَسْئَلْهُمْ أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ قيل: هي إيلياء، وقيل: هي طبرية، وقيل: مدين حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه أو على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت «وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها، وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت، وتغيب عنهم في سائر الأيام، وسبتهم مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظّم يوم السبت، ومعنى شرّعا: ظاهرة قريبة منهم يقال: شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون، أو بدل من إذ يعدون
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً للآية:
افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت يوم السبت بالصيد، وفرقة نهت عن ذلك(1/310)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت، فلم تنه ولم تعص، وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله ولعلهم يتقون، فهلكت الفرقة العاصية، ونجت الناهية، واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد «1» ، وقرئ بالهمز وتركه، وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ذكر في [البقرة: 65] والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة، وقيل: فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا، والعذاب البئيس هو المسخ تَأَذَّنَ رَبُّكَ عزم، وهو من الإيذان بمعنى الإعلام لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ الآية أي يسلط عليهم، ومن ذلك أخذ الجزية، وهوانهم في جميع البلاد وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أي فرّقناهم في البلاد، ففي كل بلدة فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدّمين منهم بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي بالنعم والنقم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي حدث بعدهم قوم سوء، والخلف بسكون اللام ذم، وبفتحها مدح، والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين، وقيل: المراد النصارى يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي عرض الدنيا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ذلك اغترار منهم وكذب وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إشارة إلى كذبهم في قولهم: سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له، أو تكون أن حرف عبارة وتفسير
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد، وإعراب الذين عطف على الذين يتقون، أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين، وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير، لأن المصلحين هم
__________
(1) . بيس: قراءة نافع. وبئس: قراءة ابن عامر وقرأ أبو بكر عن عاصم: بيأس. والباقون: بئيس.(1/311)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
الذين يمسكون بالكتاب وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم: خذوا التوراة حين أبوا من أخذها، وقد تقدم في [البقرة: 93] تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الآية: في معناها قولان:
أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك والتزموه، روى هذا المعنى عن النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم.
والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا، والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم، والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم: الآية، وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم في صورته، وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه قالُوا بَلى شَهِدْنا قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: نعم لكفروا، وأما قولهم: شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك، فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله، وقيل: إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ في موضع مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا، فهو من قول الله لا من قولهم، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم، وبالياء «2» على الإخبار عنهم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه
__________
(1) . قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر: ذريّاتهم، وقرأ أهل مكة والكوفة: ذريّتهم.
(2) . هي قراءة أبو عمرو.(1/312)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله، فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل، وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم، فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون: سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هو أمية بن أبي الصلت، وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرا، وفيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، فالآية على هذا ما كان عنده من العلم، والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي صفته كصفة الكلب، وذلك غاية في الخسة والرداءة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال كما أنّ لهث الكلب على كل حال. وقيل: إنّ ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه، وكصفة الرجل المشبه به لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا، وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أنّ الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ الآية: قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر
كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي لا يُبْصِرُونَ بِها ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة،(1/313)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة «1» . وسبب نزول الآية: أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أنّ الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مبينة أنّ تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد فَادْعُوهُ بِها أي سموه بأسمائه، وهنا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى، فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث، فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث، وقد ورد في كتاب الترمذي عدّتها أعني تعيين التسعة والتسعين، واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو موقوفة على أبي هريرة، وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قيل: معنى ذروا: اتركوهم، لا تحاجوهم ولا تتعرّضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله: وذرني والمكذبين [المزمل: 11] وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله: هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه، وقيل: تسميته بما لا يليق، وقيل: تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ الآية روي أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم قال: هذه الآية لكم، وقد تقدّم مثلها لقوم موسى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج استفعال من الدرجة، أي: نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون، والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني بصاحبهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون، ويحتمل أن يكون قوله: ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبكم من جنة، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله: أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبارا استئنافا لقوله: ما بصاحبكم من جنة، والأوّل أحسن
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر استدلال ما خَلَقَ اللَّهُ عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء: جميع المخلوقات إذ
__________
(1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 661. [.....](1/314)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
جميعها دليل على وحدانية خالقها وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أن الأول مخففة من الثقيلة، وهي عطف على الملكوت، وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى، وأجلهم يعني: موتهم، والمعنى لعلهم يموتون عن قريب، ينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الضمير للقرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ السائلون اليهود أو قريش، وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب أَيَّانَ مُرْساها معنى أيّان: متى، ومرساها:
وقوعها وحدوثها، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ معنى يجليها يظهرها، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء، واللام في لوقتها ظرفية: أي عند وقتها، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال: الأوّل ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها، والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض، والثالث معنى ثقلت: أي ثقل علمها أي خفي يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها الحفيّ بالشيء هو المهتم به المعتني به، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها وقيل: المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين القولين يتعلق بيسألونك، وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير والشر، وقيل: إن قوله وما مسني السوء: استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين وأنذرهم، وخص بهم البشارة والنذارة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين، والأوّل أحسن
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يميل إليها ويستأنس بها تَغَشَّاها كناية عن الجماع حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى والكرب، وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل معناه قامت وقعدت فَلَمَّا(1/315)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
أَثْقَلَتْ
أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا سالما في بدنه فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا:
جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما: أي فيما آتى أولادهما وذريتهما، وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها: إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما: أي في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح لثلاثة أوجه: أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع، والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة، وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي: سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم، والآخر أن قوله: وجعل منها زوجها، فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم، والمراد بقوله: ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، والمعنى: أنها مخلوقة غير خالقة، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم، ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة، فكيف يكونون آلهة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ «1» يعني: أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى أو إلى أن تهدي، لأنها جمادات سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ تأكيد وبيان لما قبلها، فإن قيل: لم قال: أم أنتم صامتون فوضع الجملة الاسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم؟ فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ رد على المشركين بأن آلهتهم عباد
__________
(1) . قرأ نافع يتبعوكم بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد يتّبعوكم.(1/316)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
فكيف يعبد العبد مع ربه فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا أمر على جهة التعجيز أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها وما بعده: معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة، ومن كان كذلك: لا يكون إلها، فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام، لأن المشركين مقرّون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تسمع، فلزمته الحجة، والهمزة في قوله «ألهم» للاستفهام مع التوبيخ، وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة، ومعنى بل وليست عاطفة قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ المعنى: استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد عليّ، ولا تؤخروني، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي، ومقصد الآية الردّ عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة، وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الآية: أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني، ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي، ثم وصف الله بأنه الذي نزّل الكتاب، وبأنه يتولى الصالحين، وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنزال الكتاب عليه، وبأن الله تولى حفظه، ومن تولى حفظه فهو من الصالحين، والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ الآية: ردّ على المشركين، وقد تقدّم معناه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم، وردّا على من عبدها، فإنها جمادات لا تسمع شيئا، فيكون المعنى كالذي تقدّم، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ إن كان هذا من وصف الأصنام، فقوله: ينظرون مجاز، وقوله: لا يبصرون حقيقة، لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا، وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون
خُذِ الْعَفْوَ فيه قولان: أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم، لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم، وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر:
خذي العفو منّي تستديمي مودتي
والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم، وذلك قبل فرض الزكاة، فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ(1/317)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
أي بالمعروف وهو فعل الخير، وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي لا تكافي السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم، ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم جبريل عنها، فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق، وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح، وقيل كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب، فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك، كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به: نعوذ بالله من الشيطان الرجيم «1» طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ معناه لمة منه، كما جاء: «إنّ للشيطان لمة وللملك لمة» «2» ، ومن قرأ طائف بالألف، فهو اسم فاعل ومن قرأ طيف «3» بياء ساكنة، فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدّد، كميّت وميت تَذَكَّرُوا حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله، أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ هو من بصيرة القلب وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الضمير في إخوانهم للشياطين، وأريد بقوله: طائف من الشيطان: الجنس، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار، ومعنى يمدّونهم: يكونون مددا لهم: يعضدونهم، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار، وضمير الفاعل للشيطان، ويحتمل أن يريد بالإخوان:
الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان وقرئ يمدّونهم بضم الياء «4» وفتحها، والمعنى واحد، وفي الغيّ: يتعلق بيمدّونهم، وقيل: يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله، أو في الشيطان ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها الضمير في لم تأتهم للكفار، ولولا هنا عوض،
__________
(1) . رواه أحمد عن معاذ بن جبل بألفاظ قريبة ج 5 ص 304.
(2) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والنسائي وابن حبان عن مسعود الترمذي: حسن غريب.
(3) . هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو ومعنى: طيف: خاطرة من الشيطان.
(4) . هي قراءة نافع فقط.(1/318)
وفي معنى اجتبيتها قولان: أحدهما اخترعتها من قبل نفسك، فالآية على هذا من القرآن، وكان النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم يتأخر عنه الوحي أحيانا، فيقول الكفار:
هلا جئت بقرآن من قولك، والآخر معناه: طلبتها من الله، وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة، أي يقولون: اطلب المعجزة من الله قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي معناه:
لا أخترع القرآن على القول الأول، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني هذا بَصائِرُ أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة، والثاني أنه الإنصات للخطبة، والثالث: أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين: أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه، والثاني أن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان، أو الذكر باللسان سرا، فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل: المراد صلاة الصبح والعصر، وقيل: فرض الخمس والأظهر الإطلاق إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة عليهم السلام، وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار وَلَهُ يَسْجُدُونَ قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله، والله أعلم.(1/319)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
سورة الأنفال
مدنية إلا من آية 30 إلى غاية آية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة (سورة الأنفال) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والسائلون هم الصحابة، والأنفال هي الغنائم، وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في العريش تحرسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية ومعناها: يسألونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل: الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، وقد اختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك؟ أو من الأربعة الأخماس، أو من رأس الغنيمة، قبل إخراج الخمس قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الحكم فيها لله والرسول لا لكم وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي اتفقوا وائتلفوا، ولا تنازعوا، وذات هنا بمعنى: الأحوال، قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته. وقال الزبيري: إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يريد في الحكم في الغنائم، قال عبادة بن الصامت:
نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا، وجعلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسمها على السواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية: أي الكاملو الإيمان، فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت وقرأ أبي بن كعب: فزعت زادَتْهُمْ إِيماناً أي قوي تصديقهم ويقينهم، خلافا لمن قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن زيادته إنما هي بالعمل لَهُمْ دَرَجاتٌ يعني في الجنة
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه ثلاث تأويلات:(1/320)
أحدها: أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب، والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي: استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك، والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك مِنْ بَيْتِكَ يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ أي كرهوا قتال العدو، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكبا، فأخبر بذلك جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم.
فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش، فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فقالوا: العير أحب إلينا من لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كان جدالهم في لقاء قريش، بإيثارهم لقاء العير إذ كانت أكثر أموالا، وأقل رجالا وتبين الحق: هو إعلام رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم بأنهم ينصرون كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ يعني قريش أو عيرهم، والعمل في إذ محذوف تقديره اذكروا أَنَّها لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ الشوكة عبارة عن السلاح. سميت بذلك لحدّتها، والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف تقديره:
ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، وليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد، وهذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام. فيكون المعنى أن نصرهم، ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله: ويبطل الباطل أي يبطل الكفر إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ إذ بدل من إذ يعدكم، وقيل: يتعلق بقوله: ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر مُمِدُّكُمْ أي مكثركم مُرْدِفِينَ من قولك ردفه إذا تبعه، وأردفته إياه إذا أتبعته إياه. والمعنى: يتبع بعضهم بعضا، فمن قرأه «1»
__________
(1) . قرأ نافع بفتح الدال، وقرأ الباقون بكسر الدال.(1/321)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل، وصح معنى القراءتين لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا، فمنهم تابعون ومتبوعون
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد على الوعد، أو على الإمداد بالملائكة إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر، أو بما عند الله من معنى النصر، أو بإضمار فعل تقديره: اذكر، ومن قرأ يغشيكم «1» بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى، ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشّى المشدد، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني، والمعنى يغطيكم به فهو استعارة، من الغشاء، ومن قرأ بفتح الياء والشين «2» فهو من غشى المتعدى إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا، والضمير المجرور يعود على الله تعالى، وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله. قال ابن مسعود: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تعديد لنعمة أخرى وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر، وقيل: بعد وصولهم، فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر، وتوضأ به سائرهم، وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء، فقالوا: نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء؟ فأنزل الله المطر، وأزال عنهم وسوسة الشيطان وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ
أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ الضمير في به عائد على الماء، وذلك أنهم كانوا في رملة دعصة لا يثبت فيها قدم، فلما نزل المطر تلبدت وتدقت «3» الطريق، وسهل المشي عليها والوقوف، وروي أن ذلك المطر بعينه صعّب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله إِذْ يُوحِي يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها، أو يكون العامل فيه يثبت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أن يكون التثبيت بقتال الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها: إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يحتمل أن يكون
__________
(1) . وهي قراءة أهل المدينة.
(2) . هي قراءة أبو عمرو وابن كثير: يغشاكم. وأما يغشّيكم فهي قراءة أهل الكوفة.
(3) . كذا في الأصل المطبوع ولعلها خطأ فلتحرر.(1/322)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين، أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يحتمل أيضا أن يكون خطابا للملائكة أو للمؤمنين، ومعنى فوق الأعناق: أي على الأعناق، حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح، والضرب فيها يطيّر الرأس، وقيل: المراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق، وقيل: المراد الأعناق وفوق زائدة كُلَّ بَنانٍ قيل: هي المفاصل، وقيل: الأصابع وهو الأشهر في اللغة، وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
الإشارة إلى ما أصاب الكفار يوم بدر، والباء للتعليل، وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ الخطاب هنا للكفار، وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب، ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله: فذوقوه، كقولك زيدا فاضربه وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلك على تقدير رفعه، أو نصبه، أو مفعول معه، والواو بمعنى مع زَحْفاً حال من الذين كفروا، أو من الفاعل في لقيتم، ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص، وأصل الزحف الاندفاع فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ نهي عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء في أي عصر كان إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وذلك من الخداع في الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة من المسلمين، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا، ويروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أنا فئة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك، والفرار من الذنوب الكبائر، وانتصب قوله متحرفا على الاستثناء من قوله ومن يولهم، وقال الزمخشري: انتصب على الحال وإلا لغو، ووزن متحيز متفيعلا، ولو كان على متفعل لقال متحوز، لأنه من حاز يحوز فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى، لكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا، فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة بَلاءً حَسَناً يعني الأجر والنصر والغنيمة مُوهِنُ من الوهن وهو الضعف، وقرئ موهّن»
__________
(1) . وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وقرأ أهل الكوفة والشام: موهن بالتخفيف.(1/323)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية: خطاب لكفار قريش، وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه، وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين، وفتح لهم، ومعنى: إن تستفتحوا: تطلبوا الفتح، ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم، وقيل: إن الخطاب للمؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إن كان الخطاب للكافر فالفتح هنا بمعنى الحكم: أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين، فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم، لأن الله حكم لهم، أو بمعنى النصر وَإِنْ تَنْتَهُوا أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ الضمير لرسول الله صلى الله عليه واله وسلّم أو للأمر بالطاعة وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي تسمعون القرآن والمواعظ كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي كل من يدب، والمقصود أن الكفار شر الخلق، قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين لِما يُحْيِيكُمْ أي للطاعة، وقيل: للجهاد لأنه يحيا بالنصر يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قيل:
يميته، وقيل: يصرّف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تصيب الظالمين وحدهم، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم. وإن كان لم يظلم.
وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل، ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
الآية: أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة، وأيدكم بنصره في بدر وغيرها لا تَخُونُوا اللَّهَ نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الذبح، وقيل: المعنى: لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف(1/324)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
على لا تخونوا أو منصوب
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي تفرقة بين الحق والباطل، وذلك دليل على أن التقوى تنوّر القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على إذ أنتم قليل، أو استئناف، وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنونك قالُوا قَدْ سَمِعْنا قيل: نزلت في النضر بن الحارث كان قد تعلم من أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وقيل: هي في سائر قريش أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أخبارهم المسطورة وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ الآية، قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعوا على أنفسهم إن كان أمره هو الحق، والصحيح أن الذي دعا بذلك أبو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما، وانتصب الحق لأنه خبر كان.
وقال الزمخشري: معنى كلامهم جحود أي: إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره، ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا، وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم، إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب، قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب وهما وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم والاستغفار، فلما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر، وقيل: الضمير في يعذبهم للكفار، وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال، وذلك من الموجب لعذابهم وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء: التصفير بالفم، والتصدية: التصفيق باليد. وكانوا يفعلونهما إذ صلّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية نزلت في إنفاق قريش في غزوة أحد وقيل: إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي يتأسفون(1/325)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
على إنفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ إخبار بالغيب لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ معنى يميز: يفرق بين الخبيث والطيب، والخبيث هنا الكفار. والطيب: المؤمنون وقيل: الخبيث ما أنفقه الكفار، والطيب: ما أنفقه المؤمنون، واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون، وعلى الأول بيحشرون فَيَرْكُمَهُ أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعضه إِنْ يَنْتَهُوا يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله، ولا تصح المغفرة إلا به وَإِنْ يَعُودُوا يعني إلى القتال فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الفتنة هنا الكفر، فالمعنى قاتلوهم، حتى لا يبقى كافر، وهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله «1» وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ لفظه عام يراد به الخصوص، لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس: وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال، ومنها: ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدو خوف الغرق، ومنها: ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته، ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الآية: اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم: يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة، وسهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مصالح المسلمين، وقيل: للوالي بعده: وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهما مختصا، وإنما بدأ عنده بالله، لأن الكل ملكه، وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ راجع إلى ما تقدم، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس، واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي أنزل عليه القرآن والنصر يَوْمَ الْفُرْقانِ أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني المسلمين والكفار
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا العامل في إذ
__________
(1) . الحديث متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر. ورواه النووي في الأربعين.(1/326)
التقى والعدوة: شفير الوادي، وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان، والدنيا القريبة من المدينة، والقصوى البعيدة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني العير التي كان فيها أبو سفيان، وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم، أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه، ويعيش من عاش بعد البيان له، وقيل: ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن، وقرئ من حيي «1» بالإظهار والإدغام وهما لغتان إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ الآية: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الكفار في نومه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم لَفَشِلْتُمْ أي جبنتم عن اللقاء وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال رِيحُكُمْ أي قوتكم ونشاطكم، وذلك استعارة وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر بَطَراً أي عتوا وتكبرا وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الآية: لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه، ووعدهم بالنصر نَكَصَ أي رجع إلى وراء إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ رأى الملائكة تقاتل يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الذين كانوا بالمدينة، وقيل: الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي اغترّ
__________
(1) . حيي: قرأها نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر وقرأ الباقون حيّ بالتشديد.(1/327)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ذلك فيمن قتل يوم بدر وَأَدْبارَهُمْ أي أستاههم، وقيل: ظهورهم وَذُوقُوا هذه من قول الملائكة لهم تقديره: ويقولون لهم: ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون، ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تقديره عند سيبويه الأمر ذلك، والباء سببية، والمعنى: أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي كَدَأْبِ ذكر في آل عمران الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يريد بني قريظة فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أي نقضا للعهد فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي ردّ العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أي على معادلة، وقيل: معناه أن تستوي معهم في العلم بنقض العهد وَلا يَحْسَبَنَّ «1» الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة وَأَعِدُّوا لَهُمْ الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون، وحكمه عام في جميع الكفار مِنْ قُوَّةٍ قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «ألا إن القوة الرمي» «2» ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ قال الزمخشري: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله.
وقال ابن عطية: رباط الخيل جمع ربط أو مصدر عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ يعني الكفار وَآخَرِينَ يعني المنافقين: وقيل: بني قريظة، وقيل: الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل، وقيل: فارس، والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال السهيلي: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله تعالى قال: لا تعلمونهم، فكيف يعلمهم
__________
(1) . يحسبنّ: قرأها ابن عامر وحمزة وحفص وقرأ الباقون: ولا تحسبنّ.
(2) . رواه مسلم عن عقبة بن عامر الجهني. ذكره النووي في رياض الصالحين. [.....](1/328)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
أحد، وهذا لا يلزم، لأن معنى قوله لا تعلمونهم: لا تعرفونهم: أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس، ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها السلم هنا المهادنة، والآية منسوخة بآية القتال في براءة، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قيل: المراد، بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام، واللفظ عام وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على اسم الله، وقال الزمخشري مفعول معه، والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ الآية: إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم، وأشار عمر بقتلهم. فنزلت الآية عتابا على استبقائهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبايع في القتال تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا عتاب لمن رغب في فداء الأسرى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم، وقيل: ما قضاه الله من تحليل الغنائم لهم فِيما أَخَذْتُمْ يريد به الأسرى وفداؤهم، ولما نزلت الآية قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ إباحة للغنائم ولفداء الأسارى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية، قال العباس: فيّ نزلت وكان قد افتدى يوم بدر، ثم أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المال ما لا يقدر أن يحمله، فقال: قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني، وأنا أرجو أن يغفر لي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ الآية تهديد لهم
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر السورة مقصدها: بيان منازل المهاجرين(1/329)
والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا بعد الحديبية، فبدأ أولا بالمهاجرين، ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأثبت الولاية بينهم، وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر، وقيل: هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا: أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين: إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية، والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله: إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو النصر الذي في قوله: فعليكم النصر، والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية: ثناء على المهاجرين والأنصار، ووعد لهم، والرزق الكريم في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ قيل: هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار، قال مالك: ليست في الميراث، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام فِي كِتابِ اللَّهِ أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ.(1/330)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها 129: نزلت بعد المائة (سورة براءة)
وتسمى سورة التوبة، وتسمى أيضا الفاضحة: لأنها كشفت أسرار المنافقين، واتفقت المصاحف والقراء على إسقاط البسملة من أولها، واختلف في سبب ذلك، فقال عثمان بن عفان: اشتبهت معانيها بمعاني الأنفال، وكانت تدعى القرينتين في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلذلك قرنت بينهما فوضعتهما في السبع الطوال. وكان الصحابة قد اختلفوا هل هما سورتان أو سورة واحدة؟ فتركت البسملة بينهما لذلك وقال علي بن أبي طالب: البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فلذلك لم تبدأ بالأمان بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين، وارتفاع براءة على أنه خبر ابتداء أو مبتدأ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقدير الكلام: براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فمن وإلى يتعلقان بمحذوف لا ببراءة، وإنما أسند العهد إلى المسلمين في قوله عاهدتم، لأن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم للمسلمين، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفى فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقض، أو قارب النقض فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا آمنين أربعة أشهر، وهي الأجل الذي جعل لهم، واختلف في وقتها فقيل: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، لأن السورة نزلت حينئذ وذلك عام تسعة، وقيل: هي من عيد الأضحى إلى تمام العشر الأول من ربيع الآخر، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث تلك السنة أبا بكر الصديق يحج بالناس، ثم بعث بعده علي بن أبي طالب فقرأ على الناس سورة براءة يوم عرفة وقيل: يوم النحر غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه
وَأَذانٌ أي إعلام بتبرّي الله تعالى ورسوله من المشركين إِلَى النَّاسِ جعل البراءة مختصة بالمعاهدين من المشركين، وجعل الإعلام بالبراءة عاما لجميع الناس: من عاهد، ومن لم يعاهد، والمشركين وغيرهم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم عرفة أو يوم النحر، وقيل: أيام الموسم كلها، وعبر عنها بيوم كقولك يوم(1/331)
صفين والجمل، وكانت أياما كثيرة أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقديره أذان بأن الله بريء، وحذفت الباء تخفيفا، وقرئ إن الله بالكسر، لأن الأذان في معنى القول وَرَسُولِهِ ارتفع بالعطف على الضمير في برىء، أو بالعطف على موضع اسم إن، أو بالابتداء وخبره محذوف وقرئ بالنصب عطف على اسم إن، وأما الخفض فلا يجوز فيه العطف على المشركين لأنه معنى فاسد ويجوز على الجوار أو القسم، وهو مع ذلك بعيد والقراءة به شاذة فَإِنْ تُبْتُمْ يعني التوبة من الكفر إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ يريد الذين لم ينقضوا العهد فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ يعني الأشهر الأربعة التي جعلت لهم، فمن قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهي الحرم المعروفة زاد فيها شوال ونقص رجب، وسميت حرما تغليبا للأكثر ومن قال: إنها إلى ربيع الثاني: فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ناسخة لكل موادعة في القرآن، وقيل: إنها نسخت أيضا فإمّا منّا بعد وإما فداء، وقيل: بل نسختها هي فيجوز المنّ والفداء وَخُذُوهُمْ معناه الأسر، والأخيذ هو الأسير كُلَّ مَرْصَدٍ كل طريق ونصبه على الظرفية فَإِنْ تابُوا يريد من الكفر، ثم قرن بالإيمان الصلاة والزكاة، فذلك دليل على قتال تارك الصلاة والزكاة، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والآية في معنى قوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» «1» فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ تأمين لهم وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ هو من الجوار أي استأمنك فأمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي إن لم يسلم فردّه إلى موضعه، وهذا الحكم ثابت عند قوم، وقال قوم: نسخ بالقتال كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ لفظ استفهام، ومعناه استنكار واستبعاد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل: المراد قريش، وقيل: قبائل بني بكر فَمَا اسْتَقامُوا ما ظرفية
__________
(1) . رواه الشيخان من حديث ابن عمر. النووي في الأربعين.(1/332)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
كَيْفَ تأكيد للأولى، وحذف الفعل بعدها للعلم به تقديره: كيف يكون لهم عهد؟
لا يَرْقُبُوا أي لا يراعوا إِلًّا وَلا ذِمَّةً الإلّ القرابة، وقيل: الحلف، والذمة العهد وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ استثنى من قضي له بالإيمان أَئِمَّةَ الْكُفْرِ «1» أي رؤساء أهله قيل:
إنهم أبو جهل لعنه الله، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكى ذلك الطبري وهو ضعيف لأن أكثر هؤلاء كان قد مات قبل نزول هذه السورة، والأحسن أنها على العموم لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا أيمان لهم يوفون بها، وقرئ لا إيمان «2» بكسر الهمزة لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يتعلق بقاتلوا وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قيل: يعني إخراجه من المدينة حين قاتلوه بالخندق وأحد، وقيل: يعني إخراجه من مكة إذا تشاوروا فيه بدار الندوة ثم خرج هو بنفسه وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: إذايتهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والمسلمين بمكة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ يريد بالقتل والأسر وفي ذلك وعد للمسلمين بالظفر قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قيل: إنهم خزاعة والإطلاق أحسن وَيَتُوبُ اللَّهُ استئناف إخبار فإن الله يتوب على بعض هؤلاء الكفار فيسلم أَمْ حَسِبْتُمْ الآية:
معناها أن الله لا يتركهم دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث، وأم هنا بمعنى بل والهمزة، يَعْلَمِ اللَّهُ أي: يعلم ذلك موجبا لتقوم به الحجة وَلِيجَةً أي بطانة
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي ليس لهم ذلك بالحق والواجب، وإن كانوا قد عمروها تغليبا وظلما «3» ، ومن قرأ مساجد بالجمع أراد جميع المساجد، ومن قرأ «4» بالتوحيد أراد المسجد الحرام شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي أن أحوالهم وأقوالهم تقتضي الإقرار بالكفر، وقيل: الإشارة إلى قولهم في التلبية: لا شريك لك إلا شريكا هو
__________
(1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: أيمة.
(2) . وهي قراءة ابن عامر فقط.
(3) . كذا في الأصل المطبوع فلعلها محرفة.
(4) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: مسجد في الآيتين.(1/333)
لك أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية: سببها أن قوما من قريش افتخروا بسقاية الحاج، وبعمارة المسجد الحرام فبين الله أن الجهاد أفضل من ذلك، ونزلت الآية في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت وعندي مفاتحه.
وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي: لقد أسلمت قبل الناس، وجاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآية قيل: نزلت فيمن ثبط عن الهجرة ولفظها عام وكذلك حكمها فَتَرَبَّصُوا وعيد لمن آثر أهله أو ماله أو مسكنه على الهجرة والجهاد بِأَمْرِهِ قيل: يعني فتح مكة، وقيل: هو إشارة إلى عذاب أو عقاب وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على مواطن أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن لوجهين: أحدهما أن قوله: إذ أعجبتكم كثرتكم مختص بحنين، ولا يصح في غيره من المواطن فيضعف عطف يوم حنين على المواطن للاختلاف الذي بينهما في ذلك، والآخر أن مواطن ظرف مكان، ويوم حنين ظرف زمان، فيضعف عطف أحدهما على الآخر، إلا أن يريد بالمواطن الأوقات، وحنين: اسم علم لموضع عرف برجل اسمه حنين وانصرف لأنه مذكر إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ كانوا يومئذ اثنا عشر ألفا، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فأراد الله إظهار عجزهم ففرّ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى بقي على بغلته في نفر قليل، ثم استنصر بالله، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه، ونادى بأصحابه فرجعوا إليه، وهزم الله الكفار وقصة حنين مذكورة في السير بِما رَحُبَتْ أي ضاقت على كثرة اتساعها وما هنا مصدرية وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني: الملائكة ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ إشارة إلى إسلام هوازن الذين قاتلوا المسلمين بحنين.(1/334)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قيل: إن نجاستهم بكفرهم وقيل: بالجنابة فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ نص على منع المشركين، وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام، فأجمع العلماء على ذلك، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، فمنع جميع الكفار من جميع المساجد، وجعلها الشافعي عامة في الكفار خاصة بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح لهم دخول غيره. وقصرها أبو حنيفة على موضع النص فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح لهم دخول سائر المساجد وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره بَعْدَ عامِهِمْ هذا يريد عام تسعة من الهجرة حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ عليهم عليّ سورة براءة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا، كان المشركون يجلبون الأطعمة إلى مكة، فخاف الناس قلة القوت بها إذ منع المشركون منها، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، فأسلمت العرب كلها وتمادى جلب الأطعمة إلى مكة ثم فتح الله سائر الأمصار قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أمر بقتال أهل الكتاب، ونفى عنهم الإيمان بالله لقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، ونفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأن اعتقادهم فيه فاسد، فإنهم لا يقولون بالمعاد والحساب وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لأنهم يستحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يدخلون في الإسلام مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين أمر بقتالهم وحين نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى غزوة تبوك لقتال النصارى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب «1» ، واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين، وقدرها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق، ويؤخذ ذلك من كل رأس عَنْ يَدٍ فيه تأويلان: أحدهما دفع الذميّ لها بيده لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك يدا بيد، الثاني عن استسلام وانقياد كقولك: ألقى فلان بيده وَهُمْ صاغِرُونَ أذلاء
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قال ابن
__________
(1) . رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف ص 45.(1/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
عباس: إن هذه المقالة قالها أربعة من اليهود، وهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، وقيل: لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك إلى جميعهم لأنهم متبعون لمن قالها، والظاهر أن جماعتهم قالوها إذ لم ينكروها حين نسبت إليهم، وكان سبب قولهم ذلك أنهم فقدوا التوراة، فحفظها عزير وحده، فعلّمها لهم فقالوا: ما علم الله عزير التوراة إلا أنه ابنه، وعزير مبتدأ، وابن الله خبره، ومنع عزير «1» التنوين لأنه أعجمي لا ينصرف وقيل: بل هو منصرف وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف، وأما من نونه فجعله عربيا وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وابن إله وذلك كفر شنيع بِأَفْواهِهِمْ يتضمن معنيين أحدهما: إلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني: أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قول بلسانك يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ معنى يضاهئون يشابهون، فإن كان الضمير لليهود والنصارى، فالإشارة بقوله الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر. أو للصابئين أو لأمم متقدمة وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم، وقيل: معناه لعنهم الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجب كيف يصرفون عن الحق والصواب اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي أطاعوهم كما يطاع الرب وإن كانوا لم يعبدوهم وَالْمَسِيحَ معطوف على الأحبار والرهبان وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي أمرهم بذلك عيسى ومحمد صلّى الله عليه واله وسلم يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي يريدون أن يطفئوا نبوة محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وما جاء به من عبادة الله وتوحيده بِأَفْواهِهِمْ إشارة إلى أقوالهم كقولهم ساحر وشاعر، وفيه أيضا إشارة إلي ضعف حيلتهم فيما أرادوا لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ الضمير للرسول صلّى الله عليه واله وسلّم، أو للدين، وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب، وقيل: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم حتى لا يبقى إلا دين الإسلام
لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ هو الرشا
__________
(1) . عزير: قرأها عاصم والكسائي بالتنوين وقرأها الباقون: عزير بضمة واحدة.(1/336)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
[جمع رشوة] على الأحكام وغير ذلك وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ورد في الحديث أن: «كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز» ، وقال أبو ذرّ وجماعة من الزهاد: كلما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز «1» وَلا يُنْفِقُونَها الضمير للأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، وقيل: هي الفضة، واكتفى في ذلك عن الذهب إذا الحكم فيهما واحد يَوْمَ يُحْمى العامل في الظرف أليم أو محذوف عَلَيْها الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير ينفقونها.
اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي الأشهر المعروفة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة، وكان الذي جعل المحرم أول شهر من العام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: في القرآن والأوّل أرجح لقوله: يوم خلق السموات والأرض مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني أن تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به حتى غيّره بعضهم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الضمير في قوله: فيهن للأشهر الحرم، تعظيما لأمرها وتغليظ للذنوب فيها، وإن كان الظلم ممنوعا في غيرها، وقيل:
الضمير للاثني عشر شهرا، أو الزمان كله، والأوّل أظهر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي قاتلوهم في الأشهر الحرم، فهذا نسخ لتحريم القتال فيها، وكافة حال من الفاعل أو المفعول إِنَّمَا النَّسِيءُ وهو تأخير حرمة الشهر إلى الشهر الآخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرّمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها فيجعلونها في شهر حرام ويحرمون شهرا آخر بدلا منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى تكمل في العام أربعة أشهر محرمة يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي تارة يحلون وتارة يحرمون، ولم يرد العام حقيقة لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا عدد الأشهر الحرم وهي أربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ يعني: إحلالهم القتال في الأشهر الحرم
ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن
__________
(1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى ابن عمر.(1/337)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
تخلفهم، وأصل اثاقلتم تثاقلتم إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ شرط وجزاء وهو العذاب في الدنيا والآخرة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ شرط وجواب، والضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن قيل:
ارتبط هذا الشرط مع جوابه، فالجواب: أن المعنى إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، فدل بقوله نصره الله على نصره في المستقبل إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة، وأسند إخراجه إلى الكفار، لأنهم فعلوا معه من الأذى ما اقتضى خروجه ثانِيَ اثْنَيْنِ هو أبو بكر الصديق إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ يعني أبا بكر إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يعني بالنصر واللطف فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الضمير للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وقيل: لأبي بكر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل معه السكينة، ويضعف ذلك بأن الضمائر بعدها للرسول عليه السلام وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة يوم بدر وغيره وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يريد إذلالها ودحضها.
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قيل هي: لا إله إلا الله، وقيل: الدين كله.
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أمر بالنفير إلى الغزو، والخفة استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة، والثقل من يمكنه بصعوبة، وقال بعض العلماء: الخفيف: الغني، والثقيل:
الفقير، وقيل: الخفيف الشاب، والثقيل الشيخ، وقيل: الخفيف النشيط، والثقيل الكسلان، وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفة، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً الآية: نزلت هي وكثير مما بعدها في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة وكانت في شدّة الحر وطيب الثمار والظلال، فثقلت عليهم فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض من الدنيا، أو إلى مسافة قريبة لفعلوه بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي الطريق والمسافة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إخبار بغيب وهو أنهم يعتذرون بأعذار كاذبة ويحلفون يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذبة، أو تخلفهم عن الغزو
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الآية: كان بعض المنافقين قد استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم، فعاتبه الله تعالى على إذنه لهم، وقدم العفو على العتاب إكراما له(1/338)
صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إن قوله عفا الله عنك ليس لذنب ولا عتاب، ولكنه استفتاح كلام كما يقول:
أصلحك الله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ كانوا قد قالوا: استأذنوه في القعود، فإن أذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن لنا قعدنا، وإنما كان يظهر الصدق من الكذب لو لم يأذن لهم، فحينئذ كان يقعد العاصي والمنافق ويسافر المطيع لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية: لا يستأذنك في التخلف عن الغزو لغير عذر من يؤمن بالله واليوم الآخر وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكت، ونزلت الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول والجد بن قيس وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ الآية. أي لو كانت لهم نية في الغزو والاستعداد له قبل أوانه:
انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم فَثَبَّطَهُمْ أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا يحتمل أن يكون القائل لهم اقعدوا هو الله تعالى، وذلك عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع النساء والصبيان وأهل الأعذار، وفي ذلك ذم لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي شرا وفسادا وَلَأَوْضَعُوا أي أسرعوا السير، والإيضاع سرعة السير، والمعنى أنهم يسرعون للفساد والنميمة خِلالَكُمْ أي بينكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يحاولون أن يفتنوكم سَمَّاعُونَ لَهُمْ وقيل: يسمعون أخبارهم وينقلونها إليهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي طلبوا الفساد، وروى أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي دبروها من كل وجه، فأبطل الله سعيهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي لما دعا النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم إلى غزوة تبوك قال الجد بن قيس وكان من المنافقين: ائذن لي في القعود ولا تفتني برؤية بني الأصفر فإني لا أصبر عن النساء أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي وقعوا في الفتنة التي فروا منها إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي قد حذرنا وتأهبنا من قبل قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما قدر(1/339)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
وقضى، وهذا رد على المنافقين
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى أمرين: إما الظفر والنصر، وإما الموت في سبيل الله وكل واحد من الخصلتين حسن بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ المصائب وما ينزل من السماء أو عذاب الآخرة أَوْ بِأَيْدِينا يعني القتل فَتَرَبَّصُوا تهديد قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ تضمن الأمر هنا معنى الشرط، فاحتاج إلى جواب، والمعنى: لن يتقبل منكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها، والطوع والكره عموم في الإنفاق أي: لن يتقبل على كل حال وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل لعدم قبول نفقاتهم بكفرهم، ويحتمل أن يكون إنهم كفروا فاعل ما منعهم، أو في موضع مفعول من أجله والفاعل الله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها قيل: العذاب في الدنيا بالمصائب، وقيل: ما ألزموا من أداء الزكاة وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ إخبار بأنهم يموتون على الكفر وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي من المؤمنين يَفْرَقُونَ يخافون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي ما يلجأ إليه من المواضع أَوْ مَغاراتٍ هي الغيران في الجبال أَوْ مُدَّخَلًا وزنه مفتعل من الدخول ومعناه نفق أو سرب في الأرض يَجْمَحُونَ أي يسارعون وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ أي يعيبك على قسمتها، والآية في المنافقين كالتي قبلها وبعدها وقيل: في ذي الخويصرة الذي قال:
اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم:
«ويلك إن لم أعدل فمن يعدل «1» الحديث» وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الآية: ترغيب لهم فيما هو خير لهم، وجواب لو محذوف تقديره: لكان ذلك خيرا لهم.
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الآية: إنما هنا تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية، فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، ومذهب مالك أن تفريقها
__________
(1) . أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله ج 3 ص 448.(1/340)
في هؤلاء الأصناف إلى اجتهاد الإمام، فله أن يجعلها في بعض دون بعض، ومذهب الشافعي: أنه يجب أن تقسم على جميع هذه الأصناف بالسواء، واختلف العلماء هل الفقير أشد حاجة من المسكين أو بالعكس؟ فقيل: هما سواء، وقيل الفقير الذي يسأل الناس ويعلم حاله، والمسكين ليس كذلك وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي الذين يقبضونها ويفرقونها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كفار يعطون ترغيبا في الإسلام، وقيل: هم مسلمون يعطون ليتمكن إيمانهم، واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم وَفِي الرِّقابِ يعني العبيد يشترون ويعتقون وَالْغارِمِينَ يعني من عليه دين، ويشترط أن يكون استدان في غير فساد ولا سرف وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الجهاد فيعطى منها المجاهدون ويشتري منها آلات الحرب، واختلف هل تصرف في بناء الأسوار وإنشاء الأساطيل؟ وَابْنِ السَّبِيلِ هو الغريب المحتاج فَرِيضَةً أي حقا محمودا: ونصبه على المصدر، فإن قيل. لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب أنه حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله: ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ يعني من المنافقين وإذايتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأقوال والأفعال وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أي يسمع كل ما يقال له ويصدّقه، ويقال: إنّ قائل هذه المقالة هو نبيل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وقيل: عتاب بن قيس قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي يسمع الخير والحق وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدقهم يقال: آمنت لك إذا صدقتك، ولذلك تعدّى هذا الفعل بإلى وتعدّى يؤمن بالله بالباء وَرَحْمَةٌ بالرفع عطف على أذن، وبالخفض على خير يَحْلِفُونَ يعني المنافقين وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ تقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فهما جملتان حذف الضمير من الثانية لدلالة الأولى عليها، وقيل: إنما وحد الضمير لأن رضا الله ورسوله واحد مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ يعني من يعادي ويخالف فَأَنَّ لَهُ إن هنا مكررة تأكيدا للأولى، وقيل: بدل منها، وقيل:
التقدير فواجب أن له، فهي في موضع خبر مبتدأ محذوف يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يعني في شأنهم سورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، والضمائر في عليهم وتنبئهم وقلوبهم تعود على المنافقين، وقال الزمخشري: إن الضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، والأول أظهر قُلِ اسْتَهْزِؤُا تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ صنع ذلك بهم(1/341)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
في هذه السورة، لأنها فضحتهم
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ نزلت في وديعة بن ثابت بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: هذا يريد أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات، فسأله عن ذلك فقال:
إنما كنا نخوض ونلعب إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ كان رجل منهم اسمه مخشن تاب ومات شهيدا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ نفي لأن يكونوا من المؤمنين وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ كناية عن البخل نَسُوا اللَّهَ أي غفلوا عن ذكره فَنَسِيَهُمْ تركهم من رحمته وفضله وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ الأصل في الشر أن يقال أوعد، وإنما يقال فيه وعد إذا صرح بالشر وَالْكُفَّارَ يعني المجاهرين بالكفر كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ خطاب للمنافقين، والكاف في موضع نصب، والتقدير، فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، أو في موضع خبر مبتدأ تقديره: أنتم كالذين من قبلكم وَخُضْتُمْ أي خلطتم وهو مستعار من الخوض في الماء، ولا يقال إلا في الباطل من الكلام كَالَّذِي خاضُوا تقديره كالخوض الذي خاضوا، وقيل: كالذين خاضوا، فالذي هنا على هذا بمعنى الجميع أَلَمْ يَأْتِهِمْ الآية: تهديد لهم بما أصاب الأمم المتقدمة وَالْمُؤْتَفِكاتِ يعني مدائن قوم لوط بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله: المنافقون بعضهم من بعض، ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل: عدن هي مدينة الجنة وأعظمها، وقال الزمخشري هو اسم علم وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي رضوان من الله أكبر من كل ما ذكر، وذلك معنى ما ذكر في الحديث: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة أتريدون شيئا أزيدكم، فيقولون(1/342)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
يا ربنا أي شيء تزيدنا؟ فيقول رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «1» .
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان ما لم يظهر ما يدل على كفرهم، فإن ظهر منهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، وقد اختلف هل يقتل أم لا وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظة ضد الرحمة والرأفة، وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا نزلت في الجلاس بن سويد، فإنه قال: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، فقرأه عليه فحلف أنه ما قاله وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ يعني ما تقدم من قول الجلاس لأن ذلك يقتضى التكذيب وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ لم يقل بعد إيمانهم، لأنهم كانوا يقولون بألسنتهم آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا هم الجلاس بقتل من بلغ تلك الكلمة عنه، وقيل: هم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكلمة الكفر التي قالها قوله: سمن كلبك يأكلك، وهمه بما لم يناله قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ أي ما عابوا إلا الغني الذي كان حقه أن يشكروا عليه، وذلك في الجلاس أو في عبد الله بن أبيّ فَإِنْ يَتُوبُوا فتح الله لهم باب التوبة فتاب الجلاس وحسن حاله.
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وذلك أنه قال يا رسول الله:
ادع الله أن يكثر مالي. فقال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فأعاد عليه حتى دعا له فكثر ماله، فتشاغل به حتى ترك الصلوات، ثم امتنع من أداء الزكاة، فنزلت فيه الآية فجاء بزكاته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعرض عنه ولم يأخذها منه، وقال: إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك، ثم لم يأخذها منه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان بَخِلُوا بِهِ إشارة إلى منعه الزكاة فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً عقوبة على العصيان بما هو أشد منه إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ حكم بوفاته على النفاق
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ نزلت في المنافقين حين تصدق
__________
(1) . رواه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 276 وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري.(1/343)
عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقالوا: ما هذا إلا رياء. وأصل المطوعين المتطوعين، والمراد به هنا من تصدق بكثير وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ هم الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به، نزلت في أبي عقيل تصدق بصاع من تمر، فقال المنافقون: إن الله غنى عن صدقة هذا فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي يستخفون بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ تسمية للعقوبة باسم الذنب اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يحتمل معنيين. أحدهما: أن يكون لفظه أمر، ومعناه الشرط، ومعناه: إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، كما جاء في سورة المنافقين، والآخر: أن يكون تخييرا، كأنه قال إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم، ثم أعلمه الله أنه لا يغفر لهم، وهذا أرجح لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله خيرني فاخترت، وذلك حين قال عمر: أتصلي على عبد الله بن أبيّ وقد نهاك الله عن الصلاة عليه سَبْعِينَ مَرَّةً ذكرها على وجه التمثيل للعدد الكثير فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين خلفهم الله عن بدر وأقعدهم عنه، وفي هذا تحقير وذم لهم، ولذلك لم يقل المتخلفون بِمَقْعَدِهِمْ أي بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بعده حين خرج إلى تبوك، فخلاف على هذا ظرف، وقيل: هو مصدر من خلف فهو على هذا مفعول من أجله وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً أمر بمعنى الخبر فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها، وبكاؤهم الكثير في الآخرة وقيل: هو بمعنى الأمر أي يجب أن يكونوا: يضحكون قليلا ويبكون كثيرا في الدنيا لما وقعوا فيه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ إنما لم يقل إليهم، لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً عقوبة لهم فيها خزي وتوبيخ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني في غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي مع القاعدين وهم النساء والصبيان وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، وصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه حين مات، وروى أنه صلّى عليه فنزلت الآية، وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه، وتلا عليه: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ولم يصل(1/344)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
عليه
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ قيل: يعني براءة والأرجح أنه على الإطلاق أَنْ آمِنُوا أن هنا مفسرة اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي أولو الغنى والمال الكثير لكِنِ الرَّسُولُ الآية أي إن تخلف هؤلاء فقد جاهد الرسول ومن معه الْخَيْراتُ تعم منافع الدارين وقيل: هو الحور العين لقوله: خيرات حسان وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ هم المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين وقيل:
هم المقصرون من عذر في الأمر إذا قصّر فيه ولم يجد، فوزنه على هذا المفعلون وروي أنها نزلت في قوم من غفار وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ هم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم فكذبوا في دعواهم الإيمان سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من المعذرين.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى هذا رفع للحرج عن أهل الأعذار الصحيحة من ضعف البدن والفقر إذا تركوا الغزو. وقيل: إن الضعفاء هنا هم النساء والصبيان وهذا بعيد وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ قيل: نزلت في بني مقرن وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم وقيل: في عبد الله بن مغفل المزني إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ يعني: بنياتهم وأقوالهم، وإن لم يخرجوا للغزو ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قيل: هم بنو مقرن وقيل ابن مغفل وقيل سبعة نفر من بطون شتى وهم البكاؤون ومعنى لتحملهم على الإبل وجواب إذا يحتمل أن يكون قلت لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ أو تولوا إذا رجعتم يعني من غزوة تبوك
لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم مِنْ أَخْبارِكُمْ نعت لمحذوف وهو المفعول الثاني تقديره: قد نبأنا الله جملة من(1/345)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
أخباركم الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً هم أهل البوادي من العرب وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني أنهم أحق أن لا يعلموا الشرائع لبعدهم عن الحاضرة ومجالس العلم وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقل المغرم الذي ليس بحق عليه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم مصائب الدنيا عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ خبر أو دعاء وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي دعواته لهم وهو عطف على قربات أي يقصدون بنفقاتهم التقرب إلى الله واغتنام دعاء الرسول لهم وقيل: نزلت في بني مقرن وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ قيل: هم من صلّى للقبلتين وقيل: من شهد بدرا، وقيل:
من حضر بيعة الرضوان وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ سائر الصحابة ويدخل في ذلك التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة بشرط الإحسان مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي اجترءوا عليه وقيل: أقاموا عليه سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ العذاب العظيم هو عذاب النار وأما المرتان قبله، فالثانية منهما عذاب القبر، والأولى عذابهم بإقامة الحدود عليهم وقيل:
بفضيحتهم بالنفاق وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية: قيل: إنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري فعمله الصالح الجهاد وعمله السيء نصيحته لبني قريظة، وقيل: هو لمن تخلف عن تبوك من المؤمنين فعملهم الصالح ما سبق لهم، وعملهم السيئ تخلفهم عن تبوك، وروى أنهم ربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد، وقالوا: لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلم. وقيل: هي عامة في الأمة إلى يوم القيامة.
قال بعضهم: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً قيل: نزلت في المتخلفين الذين ربطوا أنفسهم لما تاب الله عليهم قالوا: يا رسول(1/346)
الله إنا نريد أن نتصدق بأموالنا. فنزلت هذه الآية. وأخذ ثلث أموالهم. وقيل: هي الزكاة المفروضة، فالضمير على العموم لجميع المسلمين تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم في موضع صفة لصدقة أو حال من الضمير في خذ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم سَكَنٌ لَهُمْ أي تسكن به نفوسهم، فهو عبارة عن صحة الاعتقاد، أو عن طمأنينة نفوسهم إذا علموا أن الله تاب عليهم أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الضمير في يعلموا للتائبين من التخلف. وقيل: للذين تخلفوا ولم يتوبوا، وقيل:
عام. وفائدة الضمير المؤكد تخصيص الله تعالى بقبول التوبة دون غيره وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قيل: معناه يأمر بها، وقيل: يقبلها من عباده وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ قيل: هم الثلاثة الذين خلفوا قبل أن يتوب الله عليهم. وقيل: هم الذين بنوا مسجد الضرار، وقرئ مرجئون بالهمز «1» وتركه وهما لغتان ومعناه التأخير وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرئ الذين بغير واو «2» صفة لقوله وآخرون مرجون أو على تقديرهم الذين وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجون لأمر الله هم أهل مسجد الضرار، وقرئ والذين بالواو عطف على آخرون مرجون وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجئين أنهم الثلاثة الذين خلفوا ضِراراً وَكُفْراً كانوا بنو عمرو بن عوف من الأنصار قد بنوا مسجد قباء، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيه ويصلي فيه، فحسدهم على ذلك قومهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف فبنوا مسجدا آخر مجاورا له ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قباء، وذلك هو الضرار الذي قصدوا وسألوا من رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أن يأتيه، ويصلي لهم فيه فنزلت عليه فيه هذه الآية وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أرادوا أن يتفرّق المؤمنون عن مسجد قباء وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أي انتظارا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسق وكان من أهل المدينة، فلما قدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاهر بالكفر والنفاق، ثم خرج إلى مكة فحزّب الأحزاب من المشركين، فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام، ليستنصر بقيصر فهلك هناك. وكان أهل مسجد الضرار يقولون: إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد. والإشارة بقوله من قبل إلى ما فعل معه الأحزاب وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
__________
(1) . قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بدون همزة وقرأ الباقون: مرجئون.
(2) . قرأ نافع وابن عامر: الذين وقرأ الباقون: والذين.(1/347)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
أي الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله فأكذبهم الله في ذلك
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً نهي عن إتيانه والصلاة فيه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يمر بطريقه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى قيل: هو مسجد قباء، وقيل: مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا كانوا يستنجون بالماء ونزلت في الأنصار على قول من قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد المدينة، ونزلت في بني عمرو بن عوف خاصة على قول من قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ الآية: استفهام بمعنى التقرير، والذي أسس على التقوى والرضوان: مسجد المدينة أو مسجد قباء، والذي أسس على شفا جرف هار: هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى والرضوان: هو بحسن النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على شفا جرف هار: هو بفساد النية، وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع، ومعنى شفا جرف: طرفه، ومعنى هار: ساقط أو واهي، بحيث أشفى على السقوط، وأصل هار: هائر، فهو من المقلوب، لأن لامه جعلت في موضع العين فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاز، فإنه لما شبه بالجرف وصف بالانهيار الذي هو من شأن الجرف، وقيل: إن ذلك حقيقة، وأنه سقط في نار جهنم وخرج الدخان من موضعه، والصحيح أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أمر بهدمه فهدم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار ريبة من بنيانه: أي شك في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم: أو غيظ بسبب هدمه إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي إلا أن يموتوا.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ قيل: إنها نزلت في بيعة العقبة، وحكمها عام في كل مؤمن مجاهد في سبيل الله إلى يوم القيامة. قال بعضهم: ما أكرم الله، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جملة في موضع الحال بيان للشراء فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ قال بعضهم: ناهيك عن بيع البائع فيه رب العلا والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم
التَّائِبُونَ وما بعده: أوصاف للمؤمنين الذين(1/348)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم تقديره: هم التائبون السَّائِحُونَ قيل معناه الصائمون، ويقال ساح في الأرض: أي ذهب ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ نزلت في شأن أبي طالب فإنه لما امتنع أن يقول: لا إله إلا الله عند موته، قال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك، فكان يستغفر حتى نزلت هذه الآية، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية، وقيل: إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ المعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم، وهو قوله سأستغفر لك ربي فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ قيل: تبين له ذلك بموت أبيه على الكفر، وقيل: لأنه نهي عن الاستغفار له لَأَوَّاهٌ قيل: كثير الدعاء، وقيل: موقن، وقيل: فقيه، وقيل: كثير الذكر لله، وقيل: كثير التأوّه من خوف الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية: نزلت من قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تأنيسا لهم أي: ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكن المنع من ذلك فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ يعني: حين محاولة غزوة تبوك، والساعة هنا بمعنى الحين والوقت، وإن كان مدة، والعسرة: الشدة وضيق الحال مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يعني: تزيغ عن الثبات على الإيمان، أو عن الخروج في تلك الغزوة لما رأوا من الضيق والمشقة، وفي كاد ضمير الأمر والشأن، أو ترتفع بها القلوب ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يعني: على هذا الفريق أي رجع بهم عما كادوا يقعون فيه
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك، من غير عذر ومن غير نفاق ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتب عليهم، وأمر أن لا يكلمهم أحد، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، فبقوا على ذلك مدّة إلى أن أنزل الله توبتهم، وقد روي حديثهم في البخاري ومسلم والسير، ومعنى خلّفوا هنا: أي عن الغزوة.(1/349)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وقال كعب بن مالك معناه: خلفوا عن قبول الضر [كذا] وليس بالتخلف عن الغزو.
يقوّي ذلك كونه جعل إذا ضاقت غاية للتخلف ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ عبارة عما أصابهم من الغم والخوف من الله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أي رجع بهم ليستقيموا على التوبة وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يحتمل أن يريد صدق اللسان إذا كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان، وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين: المهاجرون لقول الله في الحشر:
للفقراء المهاجرين، إلى قوله: هم الصادقون وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال: نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا، أي تابعين لنا.
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الآية: عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك من أهل يثرب ومن جاورها من قبائل العرب وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يمتنعوا من اقتحام المشقات التي تحملها هو صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ تعليل لما يجب من عدم التخلف ظَمَأٌ أي عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي جوع وَلا يَطَؤُنَ أي بأرجلهم أو بدوابّهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا عموم في كل ما يصيب الكفار.
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا: أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه، فالآية الأولى في الخروج معه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: هي ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهو دليل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، وقيل: هي في طلب العلم، ومعناها: أنه لا تجب الرحلة في طلب العلم على الجميع، بل على البعض لأنه فرض كفاية فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ تحضيض على نفر بعض المؤمنين للجهاد أو لطلب العلم لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ إن قلنا إن الآية في الخروج إلى طلب العلم، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تنفر أي ترحل، وكذلك الضمير في ينذروا وفي رجعوا: أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرحلة، وإن قلنا: إن الآية في السرايا، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تقعد في المدينة ولا تخرج مع السرايا، وأما الضمير في رجعوا فهو(1/350)
للفرقة التي خرجت مع السرايا لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ الضمير للقوم قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمر بقتال الأقرب فالأقرب على تدريج، وقيل: إنها إشارة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا أقرب الكفار إلى أرض العرب، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق حينئذ بعيدة وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً أي من المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه إيمانا على وجه الاستخفاف بالقرآن: كأنهم يقولون أي عجب في هذا؟ وأي دليل في هذا؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ المرض: عبارة عن الشك والنفاق والمعنى: زادتهم رجسا إلى رجسهم أو زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ قيل: يفتنون أي يختبرون بالأمراض والجوع، وقيل:
بالأمر بالجهاد، واختار ابن عطية أن يكون المعنى يفضحون بما يكشف من سرائرهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي: تغامزوا، وأشار بعضهم إلى بعض على وجه الاستخفاف بالقرآن، ثم قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ كأن سبب خوفهم أن ينقل عنهم ذلك. وقيل: معنى نظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجب مما ينزل في القرآن من كشف أسرارهم ثم قال بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل رأى أحوالكم فنقلها عنكم أو علمت من غير نقل فهذا أيضا على وجه التعجب ثُمَّ انْصَرَفُوا يحتمل أن يراد الانصراف بالأبدان، أو الانصراف بالقلوب عن الهدى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء أو خبر بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ تعليل لصرف قلوبهم لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم، والخطاب للعرب أو لقريش خاصة أي من قبيلتكم حيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته أو لبني آدم كلهم: أي من جنسكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يشق عليه عنتكم، والعنت: هو ما يضرهم في دينهم أو دنياهم وعزيز صفة للرسول، وما عنتم فاعل بعزيز، وما مصدرية أو ما عنتم مصدر، وعزيز خبر مقدّم والجملة في موضع الصفة حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على إيمانكم وسعادتكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ سماه الله هنا باسمين من أسمائه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي إن أعرضوا عن الإيمان، فاستعن بالله وتوكل عليه وقيل: إن هاتين الآيتين نزلتا بمكة.(1/351)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
سورة يونس
يونس مكية إلا الآيات 40 و 95 و 96 فمدنية وآياتها 109 نزلت بعد الإسراء (سورة يونس) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء التي في أوائل السور تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والكتاب هنا القرآن الْحَكِيمِ من الحكمة أو من الحكم أو من الأحكام للأمر أي أحكمه الله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ الهمزة للإنكار، وعجبا خبر كان، وأن أوحينا اسمها، وأن أنذر: تفسير للوحي، والمراد بالناس هنا كفار قريش وغيرهم، وإلى رجل هنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الآية: الرد على من استبعد النبوة أو تعجب من أن يبعث الله رجلا.
قَدَمَ صِدْقٍ أي عمل صالح قدّموه. وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ يعنون ما جاء به من القرآن، وقرئ «1» لساحر يعنون به النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسير لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوّة، ويكون خبرا مستأنفا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تعريف بالله وصفاته ليعبدوه ولا يشركوا به، وفيه ردّ على من أنكر النبوة كأنه يقول: إنما أدعوكم إلى عبادة ربكم الذي خلق السموات والأرض فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي ما يشفع إليه أحد إلا بعد أن يأذن هو له في الشفاعة، وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفع لهم
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا نصب وعد على المصدر المذكور المؤكد للرجوع إلى الله، ونصب حقا على المصدر المؤكد لوعد الله
__________
(1) . قرأ ابن كثير وأهل الكوفة: لساحر. وقرأ الباقون: لسحر.(1/352)
إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يبدؤه في الدنيا ويعيده بعد الموت في الآخرة، والبداءة دليل على العودة لِيَجْزِيَ تعليل للعودة وهي البعثة بِالْقِسْطِ أي بعدله في جزائهم أو بقسطهم في أعمالهم الصالحة هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وصف أفعال الله وقدرته وحكمته والضياء أعظم من النور وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير للقمر والمعنى قدر سيره في منازل وَالْحِسابَ يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي ما خلقه عبثا، والإشارة بذلك إلى ما تقدم من المخلوقات إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قيل: معنى يرجون هنا يخافون، وقيل: لا يرجون حسن لقاءنا، فالرجاء على أصله، وقيل: لا يرجون: لا يتوقعون أصلا، ولا يخطر ببالهم وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي قنعوا أن تكون حظهم ونصيبهم وَاطْمَأَنُّوا بِها أي سكنت أنفسهم عن ذكر الانتقال عنها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يحتمل أن تكون هي الفرقة الأولى، فيكون من عطف الصفات، أو تكون غيرها.
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يسددهم بسبب إيمانهم إلى الاستقامة أو يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة، وهو أرجح لما بعده دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي: لو يعجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا، ونزلت الآية عند قوم: في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده، وقيل: نزلت في الذين قالوا: إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [الأنفال: 32] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا عتاب في ضمنه نهي لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية لِجَنْبِهِ أي مضطجعا، وروي أنها نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة لمرض كان به وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ إخبار ضمنه وعيد للكفار لِنَنْظُرَ معناه(1/353)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
ليظهر في الوجود فتقوم عليكم الحجة به
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعني على قريش قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أي ما تلوته إلا بمشيئة الله، لأنه من عنده وما هو من عندي وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أي بقيت بينكم أربعين سنة قبل البعث ما تكلمت في هذا حتى جاءني من عند الله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تنصل من الافتراء على الله، وبيان لبراءته صلّى الله عليه واله وسلّم مما نسبوه إليه من الكذب، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بيان لظلمهم في تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الضمير في يعبدون لكفار العرب، وما لا يضرهم ولا ينفعهم هي الأصنام وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى: أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السموات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم لله فهو عدم محض، ليس بشيء فقوله: أتنبئون الله تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم أي: كيف تعلمون الله بما لا يعلم؟ وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً تقدم في [البقرة: 213] في قوله: كان الناس أمة واحدة وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ يعني القضاء وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ كانوا يطلبون آية من الآيات التي اقترحوها، ولقد نزل عليه آيات عظام فما اعتدوا بها لعنادهم وشدة ضلالهم فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إن شاء فعل «1» وإن شاء لم يفعل لا يطلع على ذلك أحد فَانْتَظِرُوا أي انتظروا نزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي منتظر لعقابكم على كفركم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ هذه الآية من الكفار وتضمنت النهي لمن كان كذلك من غيرهم، والمكر هنا الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكرا مشاكلة
__________
(1) . الكلام هنا فيه نقص أو تصحيف وصوابه: إن شاء اطلع عليه من يشاء من عباده وإن لم يشأ فلا يطلع عليه أحد، والله أعلم. [.....](1/354)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب
وَجَرَيْنَ بِهِمْ الضمير المؤنث في جرين للفلك، والضمير في بهم للناس، وفيه الخروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو يسمى الالتفات، وجواب إذا كنتم قوله: جاءتها ريح عاصف، وقوله: دعوا الله.
قال الزمخشري: هو بدل من ظنوا، ومعناه: دعوا الله وحده وكفروا بمن دونه مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا رفع على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره: وذلك متاع، أو يكون خبر: إنما بغيكم، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ معنى الآية تحقير الدنيا وبيان سرعة فنائها وشبهها بالمطر الذي يخرج به النبات، ثم تصيب ذلك النبات آفة عند حسنه وكماله مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ كالزرع والفواكه وَالْأَنْعامُ يعني:
المرعى التي ترعاها من العشب وغيره أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها تمثيل بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب قادِرُونَ عَلَيْها أي متمكنون من الانتفاع بها أَتاها أَمْرُنا أي بعض الجوائح كالريح، والصر، وغير ذلك فَجَعَلْناها حَصِيداً أي جعلنا زرعها كالذي حصد وإن كان لم يحصد كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم تنعم. [أي لم توجد. انظر الطبري] .
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي إلى الجنة، وسميت دار السلام أي دار السلامة من العناء والتعب، وقيل: السلام هنا اسم الله: أي يدعو إلى داره وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ذكر الدعوة إلى الجنة عامة مطلقة والهداية خاصة بمن يشاء لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، وقيل: الحسنى جزاء الحسنة بعشر أمثالها والزيادة التضعيف فوق ذلك إلى سبعمائة، والأول أصح لوروده في الحديث وكثرة القائلين به قَتَرٌ أي غبار بغير الوجه وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ مبتدأ على حذف مضاف تقديره:
جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو على تقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها، أو معطوفا على الذين أحسنوا، ويكون: جزاء سيئة مبتدأ وخبره بمثلها ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يعصمهم أحد من عذاب الله قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً من قرأ بفتح الطاء فهو(1/355)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
جمع قطعة وإعراب مظلما على هذه القراءة: حال من الليل، ومن قرأ قطعا بإسكان الطاء «1» ، فمظلما صفة له أو حال من الليل
مَكانَكُمْ تقديره الزموا مكانكم أي لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي تختبر بما قدمت من الأعمال، وقرئ تتلو «2» بتاءين بمعنى تتبع أو تقرأه في المصاحف قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ الآية: احتجاج على الكفار بحجج كثيرة واضحة لا محيص لهم عن الإقرار بها يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مذكور في [آل عمران: 27] رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي الثابت الربوبية بخلاف ما تعبدون من دونه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي عبادة غير الله ضلال بعد وضوح الحق، وتدل الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات، إذ الحق فيها في طرف واحد، بخلاف مسائل الفروع كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا المعنى: كما حق الحق في الاعتقادات كذلك حقت كلمة ربك على الذين عتوا وتمردوا في كفرهم أنهم لا يؤمنون، والكلمات يراد بها القدر والقضاء قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الآية: احتجاج على الكفار، فإن قيل: كيف يحتج عليهم بإعادة الخلق، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب، أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة، وفي ذلك إبطال لربوبيتهم، وأيضا فوضعت الإعادة موضع المتفق عليه لظهور برهانها أَمَّنْ لا يَهِدِّي «3» بتشديد الدال معناه: لا يهتدي في نفسه، فكيف يهدي غيره، وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره والقراءة الأولى أبلغ في الاحتجاج فَما لَكُمْ ما استفهامية معناها تقرير وتوبيخ ولكم خبرها ويوقف عليه كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي تحكمون بالباطل في عبادتكم لغير الله
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي غير
__________
(1) . هي قراءة الكسائي وابن كثير وقرأ الباقون: قطعا بفتح الطاء.
(2) . هي قراءة الكسائي وحمزة تتلو. وقرأ الباقون: تبلوا.
(3) . اختلف القراء في قراءتها: فقراءة نافع يهدّي وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وورش بفتح الهاء وعن عاصم روايتان رواية أبي بكر: يهدّي: ثلاث كسرات. وفي رواية حفص: بفتح الياء وكسر الهاء والدال مشددة. وقرأ حمزة والكسائي: يهدي.(1/356)
تحقيق، لأنه لا يستند إلى برهان إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ذلك في الاعتقادات إذ المطلوب فيها اليقين بخلاف الفروع تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مذكور في البقرة أَمْ يَقُولُونَ أم هنا بمعنى بل والهمزة فَأْتُوا بِسُورَةٍ تعجيز لهم وإقامة حجة عليهم مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يعني من شركائكم وغيرهم من الجنّ والإنس مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي سارعوا إلى التكذيب بما لم يفهموه ولم يعلموا تفسيره وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي علم تأويله ويعني بتأويله الوعيد الذي لهم فيه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الآية فيها. قولان: أحدهما إخبار بما يكون منهم في المستقبل، وأن بعضهم يؤمن وبعضهم يتمادى على الكفر، والآخر أنها إخبار عن حالهم أن منهم من هو مؤمن به ويكتم إيمانه، ومنهم من هو مكذب فَقُلْ لِي عَمَلِي الآية: موادعة، منسوخة بالقتال مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي يستمعون القرآن، وجمع الضمير بالحمل على معنى من أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ المعنى أتريد أن تسمع الصم وذلك لا يكون. لا سيما إذا انضاف إلى الصمم عدم العقل أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ المعنى أتريد أن تهدى العمي، وذلك لا يكون ولا سيما إذا انضاف إلى عدم البصر عمى البصيرة، والصمم والعمى عبارة عن قلة فهمهم لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً تقليل لمدّة بقائهم في الدنيا أو في القبور يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعني يوم الحشر فهو على هذا حال من الضمير في يلبثوا وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شرط جوابه وإلينا مرجعهم. والمعنى إن أريناك بعض عذابهم في الدنيا فذلك وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ ذكرت ثم لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر، قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب، فالترتيب على هذا صحيح فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قيل: مجيئه في الآخرة للفصل، وقيل: مجيئه في الدنيا وهو بعثه.(1/357)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ كلام فيه استبعاد واستخفاف بَياتاً أي بالليل ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ المعنى أي شيء يستعجلون من العذاب وهو ما لا طاقة لكم به، وقوله: ماذا جواب إن أتاكم، والجملة متعلقة بأرأيتم أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ دخلت همزة التقرير على ثم العاطفة، والمعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به الآن، وذلك لا ينفعكم لأنكم كنتم تستعجلونه ومكذبين به وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي يسألونك هل الوعيد حق أو هل الشرع والدين حق؟ والأول أرجح، لقوله: وما أنتم بمعجزين: أي لا تفوتون من الوعيد قُلْ إِي أي نعم ظَلَمَتْ صفة لنفس، أي لو ملك الظالم الدنيا لافتدى بها من عذاب الآخرة وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوها في نفوسهم، وقيل: أظهروها مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي يشفي ما فيها من الجهل والشك قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يتعلق بفضل بقوله: فليفرحوا، وكرر الباء في قوله فبذلك تأكيدا، والمعنى: الأمر أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته لا بغيرهما، والفضل والرحمة عموم، وقد قيل: الفضل الإسلام، والرحمة القرآن هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي فضل الله ورحمته خير مما يجمعون من حطام الدنيا قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ الآية: مخاطبة لكفار العرب الذي حرّموا البحيرة والسائبة وغير ذلك قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ متعلق بأرأيتم، وكرر قل للتأكيد، ولما قسم الأمر إلى إذن الله لهم وافترائهم ثبت افتراؤهم، لأنهم معترفون أن الله لم يأذن لهم في ذلك وَما ظَنُّ وعيد للذين يفترون يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف منصوب بالظن، والمعنى: أي شيء يظنون أن يفعل بهم في ذلك اليوم
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ الشأن الأمر، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها: وما تعملون من عمل بمخاطبة الجماعة، ومعنى الآية: إحاطة علم الله بكل شيء(1/358)
وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ الضمير عائد على القرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: ما تتلو شيئا من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح، لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقال: أفاض الرجل في الأمر إذا أخذ فيه بجدّ وَما يَعْزُبُ ما يغيب [وقرأ الكسائي يعزب] . مِثْقالِ ذَرَّةٍ وزنها والذرة صغار النمل، قال الزمخشري: إن قلت لم قدمت الأرض على السماء بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء تقدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ من قرأهما بالفتح فهو عطف على لفظ مثقال، ومن قرأهما بالرفع «1» ، فهو عطف على موضعه أو رفع بالابتداء.
أولياء الله اختلف الناس في معنى الولي اختلافا كثيرا، والحق فيه ما فسره الله بعد هذا بقوله: الذين آمنوا وكانوا يتقون، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو الولي، وإعراب الذي آمنوا صفة للأولياء، أو منصوب على التخصيص، أو مرفوع بإضمار: هم الذين ولا يكون ابتداء مستأنفا لئلا ينقطع مما قبله هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
أما بشرى الآخرة فهي الجنة اتفاقا، وأما بشرى الدنيا فيه الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له «2» ، روي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: محبة الناس للرجل الصالح، وقيل: ما بشّر به في القرآن من الثواب تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده، وقد استدل ابن عمر على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدله. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني ما يقوله الكفار من التكذيب إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ إخبار في ضمنه وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالنصر، وتسلية له وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فيها وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية وأوجبت بقوله: إلا الظن وكرر إن يتبعون توكيدا، والمعنى ما يتبع الكفار إلا الظن، والوجه الثاني: أن تكون ما استفهامية، ويتم الكلام عند قوله شركاء، والمعنى أي شيء يتبعون على وجه التحقير لما يتبعونه، ثم ابتدأ الإخبار بقوله
__________
(1) . بالرفع هي قراءة حمزة. وقرأ الباقون بفتح أصغر وأكبر.
(2) . انظر ابن ماجة كتاب تعبير الرؤيا ص/ 1283.(1/359)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
إن يتبعون إلا الظن، والعامل في شركاء على الوجهين يدعون
لِتَسْكُنُوا فِيهِ من السكون وهو ضدّ الحركة وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا تبصرون فيه الأشياء قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً الضمير للنصارى ولمن قال: إن الملائكة بنات الله هُوَ الْغَنِيُّ وصف يقتضي نفي الولد والردّ على من نسبه إليه، لأن الغني المطلق لا يفتقر إلى اتخاذ ولد لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بيان وتأكيد للغني، وباقي الآية توبيخ للكفار ووعيد لهم مَتاعٌ فِي الدُّنْيا تقديره: لهم متاع في الدنيا نُوحٍ روي أن اسمه عبد الغفار، وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه من خوف الله كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي صعب وشق مَقامِي أي قيامي لوعظكم والكلام معكم، وقيل: معناه مكاني يعني نفسه، كقولك: فعلت ذلك لمكان فلان فَأَجْمِعُوا بقطع الهمزة من أجمع الأمر إذا عزم عليه، وقرئ بألف وصل من الجمع شُرَكاءَكُمْ أي ما تعبدون من دون الله، وإعرابه: مفعول معه، أو مفعول بفعل مضمر تقديره: ادعوا شركاءكم، وهذا على القراءة بقطع الهمزة، وأما على الوصل فهو معطوف ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي لا يكون قصدكم إلى هلاكي مستورا ولكن مكشوفا تجاهرونني به وهو من قولك: غم الهلال إذا لم يظهر، والمراد بقوله: أمركم في الموضعين إهلاككم لنوح عليه السلام، أي: لا تقصروا في إهلاكي إن قدرتم على ذلك ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي انفذوا فيما تريدون، ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه: إن صعب عليكم دعائي لكم إلى الله فاصنعوا بي غاية ما تريدون، وإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله وثقتي به سبحانه وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي يخلفون من هلك بالغرق ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا يعني: هودا وصالحا وإبراهيم وغيرهم أَسِحْرٌ هذا قيل إنه معمول أتقولون،(1/360)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
فهو من كلام قوم فرعون وهذا ضعيف، لأنهم كانوا يصممون على أنه سحر لقولهم: إن هذا لسحر مبين، فكيف يستفهمون عنه؟
وقيل: إنه من كلام موسى تقريرا أو توبيخا فيوقف على قوله: أتقولون للحق لما جاءكم، ويكون معمول أتقولون محذوف تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر، ويدل على هذا المحذوف ما حكى عنهم من قولهم: إن هذا لسحر مبين، فلما تم الكلام ابتدأ موسى توبيخهم بقوله: أسحر هذا ولا يفلح الساحرون؟ وهذا هو اختيار شيخنا الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير رحمه الله
لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا وتردّنا عن دين آبائنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك، والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة مرفوعة بالابتداء والسحر الخبر وقرئ آلسحر بالاستفهام «1» فما على هذا استفهامية، والسحر خبر ابتداء مضمر وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يحتمل أن يكون من كلام موسى أو إخبار من الله تعالى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ الضمير عائد على موسى، ومعنى الذرية شبان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوف من فرعون، وقيل: إن الضمير عائد على فرعون، فالذرية على هذا من قوم فرعون، وروي في هذا أنها امرأة فرعون وخازنته وامرأة خازنه، وهذا بعيد، لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية، ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير يعود على الذرية أي آمنت الذرية من بني إسرائيل، على خوف من فرعون وملإ من بني إسرائيل، لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفا من فرعون، وقيل:
يعود على فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له أَنْ يَفْتِنَهُمْ بدل من فرعون لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي متكبر قاهر رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تمكنهم من عذابنا فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما عذبناهم فيفتنون بذلك
أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اتخذ لهم بيوتا للصلاة والعبادة، وقيل: إنه أراد
__________
(1) . هي قراءة أبي عمرو.(1/361)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
الإسكندرية وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مساجد وقيل: موجهة إلى جهة القبلة، فإن قيل:
لم خص موسى وهارون بالخطاب في قوله أن تبوّءا. ثم خاطب معهما بنو إسرائيل في قوله: واجعلوا، فالجواب: أن قوله تبوّءا من الأمور التي يختص بها الأنبياء وأولوا الأمر وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أمر لموسى عليه السلام، وقيل: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء بلفظ الأمر، وقيل: اللام لام كي وتتعلق بقوله: آتيت اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها شديدة القسوة فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء الذي هو اشدد، ودعاء بلفظ النفي قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما الخطاب لموسى وهارون على أنه لم يذكر الدعاء إلا عن موسى وحده، لكن كان موسى يدعو وهارون يؤمن على دعائه، فَاسْتَقِيما أي أثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ أي لحقهم يقال: تبعه حتى أتبعه، هكذا قال الزمخشري.
وقال ابن عطية أتبع بمعنى تبع وأما اتبع بالتشديد فهو: طلب الأثر، سواء أدرك أو لم يدرك لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ يعني الله عز وجل، وفي لفظ فرعون مجهلة وتعنت لأنه لم يصرح باسم الله آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي قيل له: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار، وذلك لا يقبل منك نُنَجِّيكَ أي نبعدك مما جرى لقومك من الوصول إلى قعر البحر، وقيل: نلقيك على نجوة من الأرض أي على موضع مرتفع «1» بِبَدَنِكَ أي بجسدك جسدا بدون روح، وقيل بدرعك، وكانت له درع من ذهب يعرف بها والمحذوف في موضع الحال والباء للمصاحبة لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا حسنا وهو مصر والشام فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ قيل: يريد اختلافهم في دينهم وقيل: اختلافهم في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلم، والمراد غيره، وقيل: ذلك كقول
__________
(1) . يقال توجد مومياء الفرعون المذكور في المتحف المصري ولا زالت سليمة حتى اليوم.(1/362)
القائل لابنه: إن كنت ابني فبرّني مع أنه لا يشك أنه ابنه، ولكن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم، فأمره بسؤالهم، قال ابن عباس: لم يشك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسأل، وقال الزمخشري: إن ذلك على وجه الفرض والتقدير، أي إن فرضت أن تقعد في شك فاسأل مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ قيل: يعني القرآن أو الشرع بجملته، وهذا أظهر، وقيل: يعني ما تقدم من أن بني إسرائيل ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم الحق فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: الذين يقرءون التوراة والإنجيل، قال السهيلي: هم عبد الله بن سلام ومخيريق ومن أسلم من الأحبار، وهذا بعيد، لأن الآية مكية، وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة، فحمل الآية على الإطلاق أولى فَلا تَكُونَنَّ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي قضى أنهم لا يؤمنون فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ لولا هنا للتحضيض بمعنى هلا، وقرئ في الشاذ هلا، والمعنى: هلا كانت قرية من القرى المتقدمة آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها: إذ لا ينفع الإيمان بعد معاينة العذاب كما جرى لفرعون إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء من القرى، لأن المراد أهلها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، ويجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي كأنه قال ما آمنت قرية إلا قوم يونس، وروي في قصصهم أن يونس عليه السلام أنذرهم بالعذاب، فلما رأوه قد خرج من بين أظهرهم علموا أن العذاب ينزل بهم فتابوا وتضرعوا إلى الله تعالى فرفعه عنهم وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ يريد إلى آجالهم المكتوبة في الأزل أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الهمزة للإنكار أي أتريد أنت أن تكره الناس في إدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك، وليس ذلك إليك إنما هو بيد الله، وقيل: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يؤمنوا أو كان هذا في صدر الإسلام قبل الأمر بالجهاد ثم نسخت بالسيف انْظُرُوا أمر بالاعتبار والنظر في آيات الله وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يعني: من قضى الله عليه أنه لا يؤمن، وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ الآية: تهديد حَقًّا عَلَيْنا اعتراض بين العامل ومعموله وهما كذلك، وننج(1/363)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
المؤمنين
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الوجه هنا بمعنى القصد والدين وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ منسوخ بالقتال، وكذلك قوله: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وعد بالنصر والظهور على الكفار.(1/364)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
سورة هود
مكية إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة هود عليه السلام)
الر كِتابٌ يعني القرآن، وهو خبر ابتداء مضمر أُحْكِمَتْ أي أتقنت فهو من الإحكام للشيء ثُمَّ فُصِّلَتْ قيل معناه بينت وقيل قطعت سورة سورة، وثم هنا ليست للترتيب في الزمان، وإنما هي لترتيب الأحوال: كقولك فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أن مفسرة وقيل مصدرية في موضع مفعول من أجله، أو بدل من الآيات، أو يكون كلاما مستأنفا منقطعا عما قبله، على لسان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، ويدل على ذلك قوله: إنني لكم منه نذير وبشير وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
أي استغفروه مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة عليها يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق، والنعم، والخيرات، وقيل:
هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائه، لأنه الكافر قد يتمتع في الدنيا بالأرزاق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الموت وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يعطي في الآخرة كل ذي عمل جزاء عمله، والضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذي فضل وَإِنْ تَوَلَّوْا خطاب للناس، وهو فعل مستقبل حذفت منه إحدى التاءين عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يعني يوم القيامة أو غيره كيوم بدر
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قيل:
كان الكفار إذا لقيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يردون إليه ظهورهم، لئلا يرونه من شدة البغض والعداوة، والضمير في منه على هذا يعود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إن ذلك عبارة عما تنطوى عليه صدورهم من البغض والغل، وقيل: هو عبارة عن إعراضهم لأن من أعرض عن شيء انثنى عنه وانحرف، والضمير في منه على هذا يعود على الله تعالى أي يريدون أن يستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله ولا المؤمنون على ما في قلوبهم أَلا حِينَ(1/365)
يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ
أي يجعلونها أغشية وأغطية، كراهية لاستماع القرآن، والعامل في حين يعلم ما يسرون، وقيل: المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابهم، فيوقف عليه على هذا، ويكون يعلم استئنافا وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وعد وضمان صادق، فإن قيل: كيف قال: على الله بلفظ الوجوب، وإنما هو تفضل، لأن الله لا يجب عليه شيء؟ فالجواب: أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان، لأنه لما وعد به صار واقعا لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها المستودع صلب الأب والمستقر بطن المرأة وقيل: المستقر المكان في الدنيا والمستودع القبر وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ دليل على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم، لأنه كان عالما بأعمالكم قبل خلقكم ويتعلق ليبلوكم بخلق سِحْرٌ مُبِينٌ يحتمل أن يشيروا إلى القرآن، أو إلى القول بالبعث يعنون أنه باطل كبطلان السحر وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ يحتمل أن يريد عذاب الدنيا أو الآخرة إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى وقت محدود لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي أي شيء يمنع هذا العذاب الموعود به، وقولهم ذلك على وجه التكذيب والاستخفاف وَلَئِنْ أَذَقْنَا الآية: ذم لمن يقنط عند الشدائد، ولمن يفتخر ويتكبر عند النعم، والرحمة هنا والنعماء يراد بهما الخيرات الدنيوية، والإنسان عام يراد به الجنس والاستثناء على هذا متصل، وقيل: المراد بالإنسان الكافر فالاستثناء منقطع فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ الآية: كان الكفار يقترحون على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك، وكانوا يستهزؤن بالقرآن فقال الله تعالى له: فلعلك تارك أن تلقى إليهم بعض ما أنزل إليك ويثقل عليك تبليغهم من أجل استهزائهم، أو لعلك يضيق صدرك من أجل أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، والمقصود بالآية تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قولهم حتى يبلغ الرسالة، ولا يبالي بهم، وإنما قال ضائق، ولم يقل ضيق ليدل على اتساع صدره عليه السلام وقلة ضيقه إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ والله هو الوكيل، الذي يقضي(1/366)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
بما شاء من إيمانهم أو كفرهم
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة والضمير في افتراه لما يوحي إليه قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ تحدّاهم أوّلا بعشر سور فلما بان عجزهم تحدّاهم بسورة واحدة فقال: فأتوا بسورة من مثله، والمماثلة المطلوبة في فصاحته وعلومه مُفْتَرَياتٍ صفة لعشر سور، وذلك مقابلة لقولهم: افتراه، وليست المماثلة في الافتراء وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن شئتم فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيها وجهان: أحدهما أن تكون مخاطبة من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين. أي: إن لم يستجب الكفار إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن فاعلموا أنه من عند الله، وهذا على معنى دوموا على علمكم بذلك أو زيدوا يقينا به، والثاني أن يكون خطابا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار أي إن لم يستجب من تدعونه من دون الله إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليه فاعلموا أنه من عند الله، وهذا أقوى من الأول لقوله: فهل أنتم مسلمون؟ ومعنى بعلم الله: بإذنه، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب وقوله: فهل أنتم مسلمون لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الإسلام وإلزام للكفار أن يسلموا، لما قام الدليل على صحة الإسلام لعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآية: نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يريدون الآخرة إذ هم لا يصدّقون بها، وقيل: نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يريدون بأعمالهم الدنيا، حسبما ورد في الحديث في القارئ، والمنفق، والمجاهد، الذين أرادوا أن يقال لهم ذلك إنهم أول من تسعر بهم النار، والأول أرجح لتقدّم ذكر الكفار المناقضين للقرآن، فإنما قصد بهذه الآية أولئك نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها نوف إليهم أجور أعمالهم بما يغبطهم فيها من الصحة والرزق، والضمير في فيها يعود على الدنيا والمجرور متعلق بقوله نوف أو بأعمالهم وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها الضمير في فيها هنا يعود على الآخرة إن تعلق المجرور بحبط ويعود على الدنيا إن تعلق بصنعوا
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية معادلة لما تقدم، والمعنى أفمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، والمراد بمن كان على بينة من ربه: النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون لقوله بعد ذلك: أولئك يؤمنون به، ومعنى البينة: البرهان العقلي والأمر الجلي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الضمير في يتلوه للبرهان وهو البينة ولمن كان على بينة من ربه، والضمير في منه(1/367)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
للرب تعالى، ويتلوه هنا بمعنى يتبعه، والشاهد: يريد به القرآن فالمعنى يتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن، فيزيد وضوحه وتعظم دلالته، وقيل: إن الشاهد المذكور هنا هو عليّ بن أبي طالب وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ومن قبل ذلك الكتاب الشاهد كتاب موسى، وهو أيضا دليل آخر متقدم، وقد قيل: أقوال كثيرة في معنى هذه الآية وأرجحها ما ذكرنا وَمِنَ الْأَحْزابِ أي من أهل مكة وَيَقُولُ الْأَشْهادُ جمع شاهد كأصحاب، ويحتمل أن يكون من الشهادة فيراد به الملائكة والأنبياء أو من الشهود بمعنى الحضور، فيراد به كل من حضر الموقف وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: يطلبون اعوجاجها أو يصفونها بالاعوجاج، لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ أي لا يفلتون يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ إخبار عن تشديد عذابهم وليس بصفة لأولياء ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ الآية: ما نافية والضمير للكفار، والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون كقوله: ختم الله على قلوبهم الآية، وقيل غير ذلك، وهو بعيد لا جَرَمَ أي لا بد ولا شك أَخْبَتُوا أي: خشعوا وقيل: أنابوا مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ يعني المؤمنين والكافرين كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ شبّه الكفار بالأعمى والأصم، وشبّه المؤمنين بالبصير والسميع، فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثالين، وتمثيل للكافرين بمثالين، وقيل: التقدير كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، فالواو لعطف الصفات، فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثال واحد، وهو من جمع بين السمع والبصر، وتمثيل للكفار بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصمم عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وصف اليوم بالأليم على وجه المجاز لوقوع الألم فيه
أَراذِلُنا جمع أرذل وهم سفلة الناس، وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم، جهلا منهم واعتقادا أن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كما اعتقدوا، بل المؤمنون كانوا أشرف منهم على حال فقرهم وخمولهم في الدنيا، وقيل: إنهم كانوا حاكة وحجّامين، واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم(1/368)
أراذل في أفعالهم لقول نوح: وما علمي بما كانوا يعملون بادِيَ الرَّأْيِ أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبير، وبادي منصوب على الظرفية: أصله وقت حدوث أول رأيهم، والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال، والمعنى: اتبعك الأراذل من غير نظر ولا تثبت، وقيل: هو صفة لبشرا مثلنا: أي غير مثبت في الرأي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي من مزية وشرف، والخطاب لنوح عليه السلام ومن معه عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان وأمر جليّ، وكذلك في قصة صالح وشعيب وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يعني النبوّة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ «1» أي خفيت عليكم، والفاعل على هذا البينة أو الرحمة أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على قبولها قهرا؟ وهذا هو جواب أرأيتم: ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم له كارهون؟ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا الضمير في عليه عائد على التبليغ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ المعنى أنه يجازيهم على إيمانهم مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي: من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الآية: أي لا أدعى ما ليس لي فتنكرون قولي تَزْدَرِي أي تحتقر من قولك:
زريت الرجل إذا قصرت به، والمراد بالذين تزدري أعينهم: ضعفاء المؤمنين إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت للمؤمنين: لن يؤتيهم الله خيرا، والخير هنا يحتمل أن يريد به خير الدنيا والآخرة جادَلْتَنا الجدال هو المخاصمة والمراجعة في الحجة فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي بالعذاب وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الآية: جزاء قوله: إن أردت أن أنصح لكم، هو ما دل عليه قوله: نصحي وجزاء قوله: إن كان الله يريد أن يغويكم: هو ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، فتقديرها: إن أراد الله أن يغويكم لن ينفعكم نصحى إن نصحت لكم، ثم استأنف
__________
(1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد: فعمّيت. وقرأ أهل الحجاز والشام والبصرة وأبو بكر: فعميت:
بالتخفيف.(1/369)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
قوله هو ربكم، ولا يجوز أن يكون ربكم هو جواب الشرط
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية:
الضمير في يقولون لكفار قريش، وفي افتراه لمحمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وهذا قول جميع المفسرين، واختار ابن عطية أن تكون في شأن نوح عليه السلام، فيكون الضمير في يقولون لقوم نوح، وفي افتراه لنوح لئلا يعترض ما بين قصة نوح بغيرها وهو بعيد إِجْرامِي أي ذنبي فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي تحت نظرنا وحفظنا وَوَحْيِنا أي وتعليمنا لك كيف تصنع الفلك وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تشفع لي فيهم، فإني قد قضيت عليهم بالغرق كُلَّما يحتمل أن يكون جوابها سخروا منه، أو قال إن تسخروا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد، ومن يأتيه منصوب بتعلمون عَذابٌ يُخْزِيهِ هو الغرق والعذاب المقيم عذاب النار حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله: ويصنع الفلك وَفارَ التَّنُّورُ أي فار بالماء وجعل الله تلك العلامة لنوح ليركب حينئذ في السفينة، والمراد بالتنور: الذي يوقد فيه عند ابن عباس وغيره، وروي أنه كان تنور آدم خلص إلى نوح، وقيل: التنور وجه الأرض قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ المراد بالزوجين: الذكر والأنثى من الحيوان، وقرئ من كل بغير تنوين فعمل احمل في اثنين ومن قرأ بالتنوين «1» عمل احمل في زوجين، وجعل اثنين نعت له على جهة التأكيد وَأَهْلَكَ أي قرابتك، وهو معطوف على ما عمل فيه احمل إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي من قضي عليه بالعذاب فهو مستثنى من أهله، والمراد بذلك ابنه الكافر وامرأته وَمَنْ آمَنَ معطوف على أهلك، أي احمل أهلك ومن آمن من غيرهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانين وقيل عشرة وقيل ثمانية
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها الضمير في قال لنوح، والخطاب لمن كان معه، والضمير في فيها للسفينة، وروي أنهم ركبوا فيها أول يوم من رجب، واستقرت على الجودي يوم عاشوراء بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها «2» وَمُرْساها اشتقاق مجراها من الجري، واشتقاق مرساها من الإرساء، وهو الثبوت. أو من وقوف السفينة،
__________
(1) . كلّ: بالتنوين قراءة حفص عن عاصم. وقرأ الباقون كلّ بالإضافة.
(2) . مجراها بالإمالة: وقراءة حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون: مجراها.(1/370)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان، أو مصدرين، ويحتمل الإعراب من وجهين:
أحدهما أن يكون اسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا، والتقدير: اركبوا متبركين باسم الله أو قائلين بسم الله، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان بمعنى وقت إجرائها وإرسائها أو ظرفين للمكان، ويكون العامل فيه ما في قوله بسم الله من معنى الفعل في موضع خبر ويكون قوله: بسم الله متصلا مع ما قبله، والجملة كلام واحد، والوجه الثاني: أن يكون كلامين فيوقف على اركبوا فيها ويكون بسم الله في موضع خبر، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر أي إجراؤها وإرساؤها ويكون بسم الله على هذا مستأنفا غير متصل بما قبله ولكنه من كلام نوح حسبما روي أن نوحا كان إذا أراد أن يجري بالسفينة قال بسم الله فتجري، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض، فصار الكل كالبحر، قاله ابن عطية وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا، وصوّبه الزمخشري، وقال: كانت تجري في موج كالجبال قبل التطبيق [كذا] ، وقبل أن يغمر الماء الجبال وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كان اسمه كنعان، وقيل: يام وكان له ثلاث بنون سواه وهم: سام وحام ويافث، ومنهم تناسل الخلق فِي مَعْزِلٍ أي في ناحية لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم كذلك بمعنى الراحم فالمعنى: لا عاصم إلا الراحم وهو الله تعالى، والثاني: أن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة أي معصوم ومن رحم: بمعنى مفعول أي من رحم الله، فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله والاستثناء على هذين الوجهين متصل، والثالث أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم بمعنى المفعول، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم، والرابع عكسه والاستثناء على هذين منقطع ابْلَعِي ماءَكِ عبارة عن جفوف الأرض من الماء أَقْلِعِي أي أمسكي عن المطر وروي أنها أمطرت من كل موضع منها وَغِيضَ الْماءُ أي نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ وكمل وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أي استقرت السفينة على الجودي وهو جبل بالموصل وَقِيلَ بُعْداً أي هلاكا، وانتصب على المصدر وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ يحتمل أن يكون هذا النداء قبل الغرق، فيكون العطف من غير ترتيب، أو يكون بعده فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أي: وقد وعدتني أن تنجي أهلي
قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي(1/371)
ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم، لأنه كافر، ولقوله: ونادى نوح ابنه إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فيه ثلاث تأويلات على قراءة الجمهور: أحدها أن يكون الضمير في إنه لسؤال نوح نجاة ابنه، والثاني أن يكون الضمير لابن نوح وحذف المضاف من الكلام تقديره: إنه ذو عمل غير صالح، والثالث: أن يكون الضمير لابن نوح، وعمل: مصدر وصف به مبالغة كقولك: رجل صوم، وقرأ الكسائي «عمل» بفعل ماض «غير صالح» بالنصب، والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه، فإن قيل: لم سمى نداءه سؤالا، ولا سؤال فيه؟ فالجواب أنه تضمن السؤال وإن لم يصرح به إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أن في موضع مفعول من أجله تقديره: أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين، وليس في ذلك وصف له بالجهل، بل فيه ملاطفة وإكرام اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا أي اهبط من السفينة بسلامة وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي ممن معك في السفينة، واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية من معك، ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة، فمن على هذا لابتداء الغاية، والتقدير على أمم ناشئة ممن معك، وعلى الأول تكون من لبيان الجنس وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يعني نمتعهم متاع الدنيا وهم الكفار إلي يوم القيامة.
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ إشارة إلى القصة، وفي الآية دليل على أن القرآن من عند الله لأن النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يعني في عبادتهم لغير الله يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً السماء هنا المطر ومدرارا بناء تكثير من الدرّ يقال: درّ المطر واللبن وغيره، وفي الآية دليل على أن الاستغفار والتوبة سبب لنزول الأمطار، وروي أن عادا كان حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الكفر، ثم عن الذنوب، لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بمعجزة، وذلك كذب منهم وجحود، أو يكون معناه بآية تضطرنا إلى(1/372)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية عَنْ قَوْلِكَ أي بسبب قولك
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ معناه ما نقول إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ هذا أمر بمعنى التعجيز أي: لا تقدرون أنتم ولا آلهتكم على شيء، ثم ذكر سبب قوته في نفسه وعدم مبالاته بهم، فقال: إني توكلت على الله الآية ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي: هي في قبضته وتحت قهره، والأخذ بالناصية تمثيل لذلك، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد أن أفعال الله جميلة وقوله صدق ووعده حق، فالاستقامة تامة فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أصل تولوا هنا تتولوا لأنه فعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة، فإن قيل: كيف وقع الإبلاغ جوابا للشرط، وقد كان الإبلاغ قبل التولي؟ فالجواب: أن المعنى إن تتولوا فلا عتب عليّ لأني قد أبلغتكم رسالة ربي وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أي لا تنقصونه شيئا: أي إذا أهلككم واستخلف غيركم وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا إن قيل: لم قال هنا وفي قصة شعيب ولما بالواو وقال في قصة صالح ولوط: فلما بالفاء؟ فالجواب على ما قال الزمخشري أنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد الوعيد، فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب كما تقول وعدته فلما جاء الميعاد بخلاف قصة هود وشعيب، فإنه لم يتقدم ذلك فيهما فعطف بالواو وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح، ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح، وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ، وتعديدا للنعمة في نجاتهم وَعَصَوْا رُسُلَهُ في جميع الرسل هنا وجهان: أحدهما أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان جميعهم فإنهم متفقون على الإيمان بالله وعلى توحيده، والثاني أن يراد الجنس كقولك: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ هذا تشنيع لكفرهم، وتهويل بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد أَلا بُعْداً أي هلاكا وهذا دعاء عليهم وانتصابه بفعل مضمر، فإن قيل: كيف دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا؟ فالجواب أن المراد أنهم أهل لذلك لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ بيان لأن عادا اثنان: إحداهما قوم هود، والأخرى إرم
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ لأن آدم خلق من تراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ(1/373)
فِيها
أي جعلكم تعمرونها. فهو من العمران للأرض، وقيل: هو من العمر نحو استبقاكم من البقاء قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا أي: كنا نرجو أن ننتفع بك حتى قلت ما قلت، وقيل:
المعنى كنا نرجو أن تدخل في ديننا فِي دارِكُمْ أي بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قيل: إنها الخميس والجمعة والسبت، لأنهم عقروا الناقة يوم الأربعاء، وأخذهم العذاب يوم الأحد وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ معطوف على نجينا أي نجيناهم من خزي يومئذ جاثِمِينَ ذكر في الأعراف كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي: كأن لم يقيموا فيها والضمير للدار، وكذلك في قصة شعيب.
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا الرسل هنا الملائكة إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بشروه بالولد قالُوا سَلاماً نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر تقديره سلمنا عليكم سلاما قالَ سَلامٌ تقديره عليكم سلام وسلام عليكم، وهذا على أن يكون بمعنى التحية، وإنما رفع جوابه ليدل على إثبات السلام، فيكون قد حيّاهم بأحسن مما حيّوه، ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة، ونصب الأول لأنه بمعنى الطلب، ورفع الثاني لأنه في معنى الخبر فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ أي ما لبث مجيئه بل عجّل وما نافية وأن جاء فاعل لبث بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي مشويّ، وفعيل هنا بمعنى مفعول نَكِرَهُمْ أي أنكرهم ولم يعرفهم، يقال:
نكر وأنكر بمعنى واحد وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قيل: إنه لم يعرفهم فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه، وقيل: عرف أنهم ملائكة ولكن خاف أن يكونوا أرسلوا بما يخاف فأمنوه بقولهم: لا تخف وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ قيل: قائمة خلف الستر، وقيل: قائمة في الصلاة، وقيل: قائمة تخدم القوم، واسمها سارة فَضَحِكَتْ قيل: معناه حاضت، وهو ضعيف، وقال الجمهور: هو الضحك المعروف واختلفوا من أي شيء ضحكت، فقيل: سرورا بالولد الذي بشرت به ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير، وقيل: سرورا بالأمن بعد الخوف، وقيل: سرورا بهلاك قوم لوط فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ أسند البشارة إلى ضمير الله تعالى، لأنها كانت بأمره وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي من بعده وهو ولده، وقيل:(1/374)