لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وإن تملي الأحياء. وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام، والأصول والأنواع، والشيات والألوان.
وهي خارجة من أصل واحد، ليوحي بالتدبير المقصود، والمشيئة العامدة. وينفي فكرة الفلتة والمصادفة.
وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير؟ إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
[سورة النور (24) : الآيات 46 الى 57]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
بعد تلك الجولة الضخمة في مجالي النور، في مشاهد الكون الكبير.. يعود سياق السورة إلى موضوعها(4/2524)
الأصيل. موضوع الآداب التي يربي عليها القرآن الجماعة المسلمة، لتتطهر قلوبها وتشرق، وتتصل بنور الله في السماوات والأرض.
ولقد تناول في الدرس الماضي حديث الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وحديث الذين كفروا وأعمالهم ومآلهم، وما هم فيه من ظلمات بعضها فوق بعض.
فالآن في هذا الدرس يتحدث عن المنافقين، الذين لا ينتفعون بآيات الله المبينات ولا يهتدون. فهم يظهرون الإسلام، ولكنهم لا يتأدبون بأدب المؤمنين في طاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي الرضى بحكمه، والطمأنينة إليه. ويوازن بينهم وبين المؤمنين الصادقين في إيمانهم. أولئك الذين وعدهم الله الاستخلاف في الأرض، والتمكين في الدين، والأمن في المقام، جزاء لهم على أدبهم مع الله ورسوله. وطاعتهم لله ورسوله.
وذلك على الرغم من عداء الكافرين. وما الذين كفروا بمعجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير..
«لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
فآيات الله مبينة كاشفة تجلو نور الله، وتكشف عن ينابيع هداه. وتحدد الخير والشر، والطيب والخبيث.
وتبين منهج الإسلام في الحياة كاملا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض وتحدد أحكام الله في الأرض بلا شبهة ولا إبهام. فإذا تحاكم الناس إليها فإنما يتحاكمون إلى شريعة واضحة مضبوطة، لا يخشى منها صاحب حق على حقه ولا يلتبس فيها حق بباطل، ولا حلال بحرام.
«وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. والمشيئة مطلقة لا يقيدها قيد. غير أن الله سبحانه قد جعل للهدى طريقا، من وجه نفسه إليه وجد فيه هدى الله ونوره، فاتصل به، وسار على الدرب، حتى يصل- بمشيئة الله- ومن حاد عنه وأعرض فقد النور الهادي ولج في طريق الضلال. حسب مشيئة الله في الهدى والضلال.
ومع هذه الآيات المبينات يوجد ذلك الفريق من الناس. فريق المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ولا يتأدبون بأدب الإسلام:
«وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك. والإسلام عقيدة متحركة، لا تطيق السلبية. فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع. ومنهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون. مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل.
وهؤلاء كانوا يقولون: «آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» .. يقولونها بأفواههم، ولكن مدلولها لا يتحقق في سلوكهم. فيتولون ناكصين يكذبون بالأعمال ما قالوه باللسان: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» فالمؤمنون تصدق أفعالهم أقوالهم. والإيمان ليس لعبة يتلهى بها صاحبها ثم يدعها ويمضي. إنما هو تكيف في النفس، وانطباع في القلب، وعمل في الواقع، ثم لا تملك النفس الرجوع عنه متى استقرت حقيقته في الضمير..(4/2525)
ولقد كان هؤلاء الذين يدعون الإيمان يخالفون مدلوله حين يدعون ليتحاكموا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على شريعة الله التي جاء بها:
«وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» ..
فلقد كانوا يعلمون أن حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق، ولا ينحرف مع الهوى، ولا يتأثر بالمودة والشنآن. وهذا الفريق من الناس لا يريد الحق ولا يطيق العدل. ومن ثم كانوا يعرضون عن التحاكم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويأبون أن يجيئوا إليه. فأما إذا كانوا أصحاب حق في قضية فهم يسارعون إلى تحكيم رسول الله، راضين خاضعين، لأنهم واثقون أنه سيقضي لهم بحقهم، وفق شريعة الله، التي لا تظلم ولا تبخس الحقوق.
هذا الفريق الذي كان يدعي الإيمان، ثم يسلك هذا السلوك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان. المنافقين الذي لا يجرؤون على الجهر بكلمة الكفر، فيتظاهرون بالإسلام. ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله، ولا أن يحكم فيهم قانونه، فإذا دعوا إلى حكم الله ورسوله أبوا وأعرضوا وانتحلوا المعاذير «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» فما يستقيم الإيمان وإباء حكم الله ورسوله. إلا أن تكون لهم مصلحة في أن يتحاكموا إلى شريعة الله أو يحكموا قانونه! إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق. وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب. وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله. وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيّئ الأدب معتم، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.
ومن ثم يعقب على فعلتهم هذه بأسئلة تثبت مرض قلوبهم، وتتعجب من ريبتهم، وتستنكر تصرفهم الغريب:
«أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟» ..
والسؤال الأول للإثبات. فمرض القلب جدير بأن ينشئ مثل هذا الأثر. وما ينحرف الإنسان هذا الانحراف وهو سليم الفطرة. إنما هو المرض الذي تختل به فطرته عن استقامتها، فلا تتذوق حقيقة الإيمان، ولا تسير على نهجه القويم.
والسؤال الثاني للتعجب. فهل هم يشكون في حكم الله وهم يزعمون الإيمان؟ هل هم يشكون في مجيئه من عند الله؟ أو هم يشكون في صلاحيته لإقامة العدل؟ على كلتا الحالتين فهذا ليس طريق المؤمنين! والسؤال الثالث للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب. فهل هم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟
وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان. فالله خالق الجميع ورب الجميع. فكيف يحيف في حكمه على أحد من خلقه لحساب أحد من خلقه؟
إن حكم الله هو الحكم الوحيد المبرأ من مظنة الحيف. لأن الله هو العادل الذي لا يظلم أحدا. وكل خلقه أمامه سواء، فلا يظلم أحدا منهم لمصلحة أحد. وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف. فالبشر لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم. أفرادا كانوا أم طبقة أم دولة.
وحين يشرع فرد ويحكم فلا بد أن يلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه. وكذلك حين تشرع طبقة لطبقة، وحين تشرع دولة لدولة. أو كتلة من الدول لكتلة.. فأما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة.(4/2526)
إنما هي العدالة المطلقة، التي لا يطيقها تشريع غير تشريع الله، ولا يحققها حكم غير حكمه.
من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر ولا يحبون للحق أن يسود. فهم لا يخشون في حكم الله حيفا، ولا يرتابون في عدالته أصلا «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
فأما المؤمنون حقا فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله. ولهم قول آخر إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم هو القول الذي يليق بالمؤمنين وينبئ عن إشراق قلوبهم بالنور:
«إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
فهو السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف. السمع والطاعة المستمدان من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى النابعان من التسليم المطلق لله، واهب الحياة، المتصرف فيها كيف يشاء ومن الاطمئنان إلى أن ما يشاؤه الله للناس خير مما يشاءونه لأنفسهم. فالله الذي خلق أعلم بمن خلق..
«وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. المفلحون لأن الله هو الذي يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بعلمه وعدله فلا بد أن يكونوا خيرا ممن يدبر أمورهم، وينظم علاقاتهم، ويحكم بينهم بشر مثلهم، قاصرون لم يؤتوا من العلم إلا قليلا.. والمفلحون لأنهم مستقيمون على منهج واحد، لا عوج فيه ولا التواء، مطمئنون إلى هذا المنهج، ماضون فيه لا يتخبطون، فلا تتوزع طاقاتهم، ولا يمزقهم الهوى كل ممزق، ولا تقودهم الشهوات والأهواء. والنهج الإلهي أمامهم واضح مستقيم.
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» ..
وقد كان الحديث في الآية السابقة عن الطاعة والتسليم في الأحكام. فالآن يتحدث عن الطاعة كافة في كل أمر أو نهي، مصحوبة هذه الطاعة بخشية الله وتقواه. والتقوى أعم من الخشية، فهي مراقبة الله والشعور به عند الصغيرة والكبيرة والتحرج من إتيان ما يكره توقيرا لذاته سبحانه، وإجلالا له، وحياء منه، إلى جانب الخوف والخشية.
ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون، الناجون في دنياهم وأخراهم. وعد الله ولن يخلف الله وعده. وهم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم. فالطاعة لله ورسوله تقتضي السير على النهج القويم الذي رسمه الله للبشرية عن علم وحكمة، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة.
وخشية الله وتقواه هي الحارس الذي يكفل الاستقامة على النهج، وإغفال المغريات التي تهتف بهم على جانبيه، فلا ينحرفون ولا يلتفتون.
وأدب الطاعة لله ورسوله، مع خشية الله وتقواه، أدب رفيع، ينبئ عن مدى إشراق القلب بنور الله، واتصاله به، وشعوره بهيبته. كما ينبئ عن عزة القلب المؤمن واستعلائه. فكل طاعة لا ترتكن على طاعة الله ورسوله، ولا تستمد منها، هي ذلة يأباها الكريم، وينفر منها طبع المؤمن، ويستعلي عليها ضميره.
فالمؤمن الحق لا يحني رأسه إلا لله الواحد القهار.
وبعد هذه المقابلة بين حسن أدب المؤمنين، وسوء أدب المنافقين الذين يدعون الإيمان، وما هم بمؤمنين، بعد هذه المقابلة يعود إلى استكمال الحديث عن هؤلاء المنافقين:(4/2527)
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ. قُلْ: لا تُقْسِمُوا. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ. وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»
..
ولقد كان المنافقون يقسمون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- لئن أمرهم بالخروج إلى القتال ليخرجن.
والله يعلم إنهم لكاذبون. فهو يرد عليهم متهكما، ساخرا من أيمانهم: «قُلْ: لا تُقْسِمُوا. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
..
لا تحلفوا فإن طاعتكم معروف أمرها، مفروغ منها، لا تحتاج إلى حلف أو توكيد! كما تقول لمن تعلم عليه الكذب وهو مشهور به: لا تحلف لي على صدقك. فهو مؤكد ثابت لا يحتاج إلى دليل.
ويعقب على التهكم الساخر بقوله: «إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»
.. فلا يحتاج إلى قسم ولا توكيد، وقد علم أنكم لا تطيعون ولا تخرجون! لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة. الطاعة الحقيقية. لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة! «قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» ..
«فَإِنْ تَوَلَّوْا» وتعرضوا، أو تنافقوا ولا تنفذوا «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» وهو أن تطيعوا وتخلصوا. وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح. «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» فليس مسؤولا عن إيمانكم، وليس مقصرا إذا أنتم توليتم. إنما أنتم المسئولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول.
وبعد استعراض أمر المنافقين، والانتهاء منه على هذا النحو.. يدعهم السياق وشأنهم، ويلتفت عنهم إلى المؤمنين المطيعين، يبين جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير:
«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً. يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» ..
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا.. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده.. فما حقيقة ذلك الإيمان؟ وما حقيقة هذا الاستخلاف؟
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله وتوجه النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا. ويتوجه بهذا كله إلى الله..
يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله.(4/2528)
ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض.. أمانة الاستخلاف..
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم.. إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله.
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان! وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض- كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم- ليحققوا النهج الذي أراده الله ويقرروا العدل الذي أراده الله ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله.. فأما الذين يملكون فيفسدون في الأرض، وينشرون فيها البغي والجور، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان.. فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض. إنما هم مبتلون بما هم فيه، أو مبتلى بهم غيرهم، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده: «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» .. وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها. فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض. ودينهم يأمر بالإصلاح، ويأمر بالعدل، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض. ويأمر بعمارة هذه الأرض، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة، ومن رصيد، ومن طاقة، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله.
«وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» .. ولقد كانوا خائفين، لا يأمنون، ولا يضعون سلاحهم أبدا حتى بعد هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عن السلاح؟ فقال رسول الله- صلى عليه وسلم- «لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم ليست فيه حديدة» . وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه- صلى الله عليه وسلم- فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان. حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل الله عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم..
«وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. الخارجون على شرط الله. ووعد الله. وعهد الله..
لقد تحقق وعد الله مرة. وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» .. لا من الآلهة ولا من الشهوات. ويؤمنون- من الإيمان- ويعملون صالحا. ووعد الله مذخور(4/2529)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة. إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن.
لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة أو في تكليف من تكاليفه الضخمة حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف..
كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله.. تحقق وعد الله الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقة قوة من قوى الأرض جميعا.
لذلك يعقب على هذا الوعد بالأمر بالصلاة والزكاة والطاعة وبألا يحسب الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأمته حسابا لقوة الكافرين الذين يحاربونهم ويحاربون دينهم الذي ارتضى لهم:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
فهذه هي العدة.. الاتصال بالله، وتقويم القلب بإقامة الصلاة. والاستعلاء على الشح، وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة. وطاعة الرسول والرضى بحكمه، وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة، وتحقيق النهج الذي أراده للحياة: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال، وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال.
فإذا استقمتم على النهج، فلا عليكم من قوة الكافرين. فما هم بمعجزين في الأرض، وقوتهم الظاهرة لن تقف لكم في طريق. وأنتم أقوياء بإيمانكم، أقوياء بنظامكم، أقوياء بعدتكم التي تستطيعون. وقد لا تكونون في مثل عدتهم من الناحية المادية. ولكن القلوب المؤمنة التي تجاهد تصنع الخوارق والأعاجيب.
إن الإسلام حقيقة ضخمة لا بد أن يتملاها من يريد الوصول إلى حقيقة وعد الله في تلك الآيات. ولا بد أن يبحث عن مصداقها في تاريخ الحياة البشرية، وهو يدرك شروطها على حقيقتها، قبل أن يتشكك فيها أو يرتاب، أو يستبطئ وقوعها في حالة من الحالات.
إنه ما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله، وحكمت هذا النهج في الحياة، وارتضته في كل أمورها..
إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن. وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلا تخلفت في ذيل القافلة، وذلت، وطرد دينها من الهيمنة على البشرية واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء.
ألا وإن وعد الله قائم. ألا وإن شرط الله معروف. فمن شاء الوعد فليقم بالشرط. ومن أوفى بعهده من الله؟
[سورة النور (24) : الآيات 58 الى 64]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(4/2530)
إن الإسلام منهاج حياة كامل فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكناتها. ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة وينسق بينها جميعا، ويتجه بها إلى الله في النهاية.
وهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق. لقد تضمنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت. وإلى جانبها جولة ضخمة في مجالي الوجود. ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين. إلى جانب وعد الله الحق للمؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين. وها هو ذا في هذا الدرس يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله- صلى(4/2531)
الله عليه وسلم- وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه ... فكلها آداب تأخذ بها الجماعة المسلمة وتنتظم بها علاقاتها. والقرآن يربيها في مجالات الحياة الكبيرة والصغيرة على السواء.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ. ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ. طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت. وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت.
فالخدم من الرقيق، والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان. إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة، فهم يستأذنون فيها. هذه الأوقات هي: الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج. ووقت الظهيرة عند القيلولة، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة. وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل..
وسماها «عورات» لانكشاف العورات فيها. وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم. وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر. بينما يقرر النفسيون اليوم- بعد تقدم العلوم النفسية- أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها.
والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، نظيفة التصورات.
ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات. ولا يجعل استئذان الخدم والصغار في كل حين منعا للحرج. فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة:
«طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» .. وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات، وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار.
فأما حين يدرك الصغار سن البلوغ، فإنهم يدخلون في حكم الأجانب، الذين يجب أن يستأذنوا في كل وقت، حسب النص العام، الذي مضت به آية الاستئذان.
ويعقب على الآية بقوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر، وما يصلحها من الآداب ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب.
ولقد سبق الأمر كذلك بإخفاء زينة النساء منعا لإثارة الفتن والشهوات. فعاد هنا يستثني من النساء القواعد(4/2532)
اللواتي فرغت نفوسهن من الرغبة في معاشرة الرجال وفرغت أجسامهن من الفتنة المثيرة للشهوات:
«وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ- غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ- وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية، على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة. وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة. وسمي هذا استعفافا. أي طلبا للعفة وإيثارا لها، لما بين التبرج والفتنة من صلة وبين التحجب والعفة من صلة.. وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يسمع ويعلم، ويطلع على ما يقوله اللسان، وما يوسوس في الجنان. والأمر هنا أمر نية وحساسية في الضمير.
ثم يمضي في تنظيم العلاقات والارتباطات بين الأقارب والأصدقاء:
«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ، أَوْ صَدِيقِكُمْ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
روي أنهم كانوا يأكلون من هذه البيوت المذكورة- دون استئذان- ويستصحبون معهم العمي والعرج والمرضى ليطعموهم.. الفقراء منهم.. فتحرجوا أن يطعموا وتحرج هؤلاء أن يصحبوهم دون دعوة من أصحاب البيوت أو إذن. ذلك حين نزلت: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» فقد كانت حساسيتهم مرهفة. فكانوا يحذرون دائما أن يقعوا فيما نهى الله عنه، ويتحرجون أن يلموا بالمحظور ولو من بعيد.
فأنزل الله هذه الآية، ترفع الحرج عن الأعمى والمريض والأعرج، وعن القريب أن يأكل من بيت قريبة.
وأن يصحب معه أمثال هؤلاء المحاويج. وذلك محمول على أن صاحب البيت لا يكره هذا ولا يتضرر به.
استنادا إلى القواعد العامة في أنه «لا ضرر ولا ضرار» وإلى أنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس «1» » .
ولأن الآية آية تشريع، فإننا نلحظ فيها دقة الأداء اللفظي والترتيب الموضوعي، والصياغة التي لا تدع مجالا للشك والغموض. كما نلمح فيها ترتيب القرابات. فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم.
بل تقول الآية: «مِنْ بُيُوتِكُمْ» فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج، فبيت الابن بيت لأبيه، وبيت الزوج بيت لزوجته، وتليها بيوت الآباء، فبيوت الأمهات. فبيوت الإخوة، فبيوت الأخوات. فبيوت الأعمام، فبيوت العمات. فبيوت الأخوال، فبيوت الخالات.. ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل فله أن يأكل مما يملك مفاتحه بالمعروف ولا يزيد على حاجة طعامه. ويلحق بها بيوت الأصدقاء. ليلحق صلتهم بصلة القرابة. عند عدم التأذي والضرر. فقد يسر الأصدقاء أن يأكل أصدقاؤهم من طعامهم بدون استئذان.
فإذا انتهى من بيان البيوت التي يجوز الأكل منها، بين الحالة التي يجوز عليها الأكل: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
__________
(1) رواه الشافعي واستند إليه في أحد قوليه عن مكاتبة الرقيق.(4/2533)
أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً» فقد كان من عادات بعضهم في الجاهلية ألا يأكل طعاما على انفراد، فإن لم يجد من يؤاكله عاف الطعام! فرفع الله هذا الحرج المتكلف، ورد الأمر إلى بساطته بلا تعقيد، وأباح أن يأكلوا أفرادا أو جماعات.
فإذا انتهى من بيان الحالة التي يكون عليها الأكل ذكر آداب دخول البيوت التي يؤكل فيها: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً» .. وهو تعبير لطيف عن قوة الرابطة بين المذكورين في الآية. فالذي يسلم منهم على قريبه أو صديقه يسلم على نفسه. والتحية التي يلقيها عليه هي تحية من عند الله. تحمل ذلك الروح، وتفوح بذلك العطر. وتربط بينهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها..
وهكذا ترتبط قلوب المؤمنين بربهم في الصغيرة والكبيرة:
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .. وتدركون ما في المنهج الإلهي من حكمة ومن تقدير..
وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء، إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة.. أسرة المسلمين..
ورئيسها وقائدها محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
روى ابن إسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق. فلما سمع بهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا إذنه وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له. فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ... الآية» ثم قال تعالى: يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ... الآية» ..
وأيا ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها. هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها. ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا. وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم، ولا يطيعون الله ورسوله.(4/2534)
«وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» .. والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة. فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم. كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام.
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان، ويلتزمون هذا الأدب، لا يستأذنون إلا وهم مضطرون فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة، ويستدعي تجمعها له.. ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول- صلى الله عليه وسلم- رئيس الجماعة. بعد أن يبيح له حرية الإذن: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» .. (وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ! لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» ) ... يدع له الرأي فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن، فيرفع الحرج عن عدم الإذن، وقد تكون هناك ضرورة ملحة. ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف. ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه.
ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة، وعدم الانصراف هو الأولى، وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي- صلى الله عليه وسلم- للمعتذرين: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وبذلك يقيد ضمير المؤمن. فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان.
ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول- صلى الله عليه وسلم- عند الاستئذان، وفي كل الأحوال. فلا يدعى باسمه: يا محمد. أو كنيته: يا أبا القاسم. كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا. إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه: يا نبي الله. يا رسول الله:
«لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» ..
فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تستشعر توقير كل كلمة منه وكل توجيه. وهي لفتة ضرورية. فلا بد للمربي من وقار، ولا بد للقائد من هيبة. وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض.. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير.
ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن، يلوذ بعضهم ببعض، ويتدارى بعضهم ببعض..
فعين الله عليهم، وإن كانت عين الرسول لا تراهم: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً» .. وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس.
«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وإنه لتحذير مرهوب، وتهديد رعيب.. فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ويتبعون نهجا غير نهجه، ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة. ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس، وتختل فيها الموازين، وينتكث فيها النظام، فيختلط الحق بالباطل، والطيب بالخبيث، وتفسد أمور الجماعة وحياتها فلا يأمن على نفسه أحد، ولا يقف عند حده أحد، ولا يتميز فيها خير من شر.. وهي فترة شقاء للجميع:(4/2535)
«أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» في الدنيا أو في الآخرة. جزاء المخالفة عن أمر الله، ونهجه الذي ارتضاه للحياة.
ويختم هذا التحذير، ويختم معه السورة كلها بإشعار القلوب المؤمنة والمنحرفة بأن الله مطلع عليها، رقيب على عملها، عالم بما تنطوي عليه وتخفيه.
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله وتذكيرها بخشيته وتقواه. فهذا هو الضمان الأخير.
وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي، وهذه الأخلاق والآداب، التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء..(4/2536)
انتهى الجزء الثامن عشر ويليه الجزء التاسع عشر مبدوءا بسورة الفرقان «1»
__________
(1) ينتهي هذا الجزء بالربع الأول من سورة الفرقان. ولكن لأن الفرقان وحدة ذات موضوع واحد آثرت الوقوف بالجزء الثامن عشر هنا، لتعرض الفرقان كاملة في الجزء التاسع عشر بإذن الله..(4/2537)
فهرس المجلد الرابع
الجزء الثاني عشر (سورة هود. وسورة يوسف من آية 1- 53) 11- سورة هود. مكية وآياتها 123 مقدمة 1839 الآيات من 1- 24 الر. كتاب أحكمت آياته 1849 الآيات من 25- 49 ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه 1869 الآيات من 50- 68 وإلى عاد أخاهم هودا 1894 الآيات من 69- 83 ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى 1910 الآيات من 84- 95 وإلى مدين أخاهم شعيبا 1916 الآيات من 96- 99 ولقد أرسلنا موسى بآياتنا 1924 الآيات من 100- 123 ذلك من أنباء القرى نقصّه عليك 1925 12- سورة يوسف. مكية وآياتها 111 مقدمة 1949 الآيات من 1- 20 الر. تلك آيات الكتاب المبين 1969 الآيات من 21- 34 وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته 1977 الآيات من 35- 53 ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات 1986 الجزء الثالث عشر (بقية سورة يوسف. وسورتا الرعد وإبراهيم) مقدمة الجزء 2001 الآيات من 53- 79 وما أبرئ نفسي 2002 الآيات من 80- 101 فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا 2023 الآيات من 102- 111 ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك 2030 13- سورة الرعد. مكية وآياتها 43 مقدمة 2038(4/2539)
الآيات من 1- 18 المر. تلك آيات الكتاب 2042 الآيات من 19- 43 أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك 2054 14- سورة إبراهيم. مكية وآياتها 52 مقدمة 2077 الآيات من 1- 27 الر. كتاب أنزلناه إليك 2083 الآيات من 28- 52 ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا 2103 الجزء الرابع عشر (سورتا الحجر والنحل) 15- سورة الحجر. مكية وآياتها 99 مقدمة 2121 الآيات من 1- 15 الر. تلك آيات الكتاب وقرآن مبين 2125 الآيات من 16- 25 ولقد جعلنا في السماء بروجا 2132 الآيات من 26- 48 ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون 2135 الآيات من 49- 84 نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 2145 الآيات من 85- 99 وما خلقنا السماوات والأرض 2152 16- سورة النحل. مكية وآياتها 128 الآيات من 1- 21 أتى أمر الله فلا تستعجلوه 2157 الآيات من 22- 50 إلهكم إله واحد 2164 الآيات من 51- 76 وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين 2174 الآيات من 77- 89 ولله غيب السماوات والأرض 2184 الآيات من 90- 111 إن الله يأمر بالعدل والإحسان 2188 الآيات من 112- 128 وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة 2197 الجزء الخامس عشر (سورة الإسراء. وسورة الكهف من آية 1- 82) 17- سورة الإسراء. مكية وآياتها 111 الآيات من 1- 21 سبحان الذي أسرى بعبده ليلا 2207(4/2540)
الآيات من 22- 39 لا تجعل مع الله إلها آخر 2219 الآيات من 40- 57 أفأصفاكم ربكم بالبنين 2228 الآيات من 58- 72 وإن من قرية إلا نحن مهلكوها 2235 الآيات من 73- 111 وإن كادوا ليفتنونك 2242 18- سورة الكهف. مكية وآياتها 110 الآيات من 1- 27 الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب 2255 الآيات من 28- 46 واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم 2266 الآيات من 47- 59 ويوم نسيّر الجبال 2272 الآيات من 60- 82 وإذ قال موسى لفتاه 2276 الجزء السادس عشر (بقية سورة الكهف. سورتا مريم وطه) الآيات من 79- 110 أما السفينة فكانت لمساكين 2287 19- سورة مريم. مكية وآياتها 98 الآيات من 1- 40 كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا 2298 الآيات من 41- 65 واذكر في الكتاب إبراهيم 2310 الآيات من 66- 98 ويقول الإنسان أئذا ما متّ 2316 20- سورة طه. مكية وآياتها 135 الآيات من 1- 98 طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى 2323 الآيات من 99- 135 كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق 2349 الجزء السابع عشر (سورتا الأنبياء والحج) 21- سورة الأنبياء. مكية وآياتها 112 الآيات من 1- 35 اقترب للناس حسابهم 2363 الآيات من 36- 47 وإذا رآك الذين كفروا 2378 الآيات من 48- 92 ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان 2382 الآيات من 93- 112 وتقطعوا أمرهم بينهم 2396(4/2541)
22- سورة الحج. مدنية وآياتها 78 الآيات من 1- 24 يا أيها الناس اتقوا ربكم 2404 الآيات من 25- 41 إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله 2415 الآيات من 42- 57 وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح 2428 الآيات من 58- 78 والذين هاجروا في سبيل الله 2436 الجزء الثامن عشر (سورتا المؤمنون والنور) 23- سورة المؤمنون. مكية وآياتها 118 الآيات من 1- 22 قد أفلح المؤمنون 2451 الآيات من 23- 52 ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه 2462 الآيات من 53- 98 فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا 2469 الآيات من 99- 118 حتى إذا جاء أحدهم الموت 2479 24- سورة النور. مدنية وآياتها 64 الآيات من 1- 26 سورة أنزلناها وفرضناها 2484 الآيات من 27- 34 يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً 2506 الآيات من 35- 45 الله نور السماوات والأرض 2517 الآيات من 46- 57 لقد أنزلنا آيات مبينات 2524 الآيات من 58- 64 يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم 2530- 2532 تم بعون الله طبع هذا الكتاب في مطابع الشروق- بيروت(4/2542)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
[المجلد الخامس]
(25) سورة الفرقان مكيّة وآياتها سبع وسبعون
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)(5/2543)
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وتسرية، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ويهدهد قلبه، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة.
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله، وهي تجادل في عنف، وتشرد في جموح، وتتطاول في قحة، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. أو تقول:
«أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» .. أو تقول في استهزاء: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» .. والتي لا تكتفي بهذا الضلال، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» . أو تتعنت فتقول: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» .
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير..
لقد اعترض القوم على بشرية الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فقالوا: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا!» واعترضوا على حظه من المال، فقالوا: «أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها» .
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا: «لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة!» .(5/2544)
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم.
ووقف الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يواجه هذا كله، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه، ولا يحفل بشيء سواه: «رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي. لك العتبى حتى ترضى» .. «1»
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه، ويمسح على آلامه ومتاعبه، ويهدهده ويسري عنه، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره.. فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك! «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» .. «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» .. «وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟» ..
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا!» .
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة: «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» ..
وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل: قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون.
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة: «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» .. «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» .. «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا..»
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» .. «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» .
ويكلفه أن يصبر ويصابر، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان: «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» ..
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» ..
وهكذا تمضي السورة: في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله. وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال. حتى تقرب من نهايتها، فإذا ريح رخاء وروح وريحان، وطمأنينة وسلام.. وإذا صورة «عباد الرحمن» .. «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً..» وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهاد
__________
(1) من مناجاته لربه عقيب ما لقي في الطائف من أذى.(5/2545)
الشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك.
وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه: «قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» ..
هذه هي ظلال السورة وذلك هو محورها الذي تدور عليه، وموضوعها الذي تعالجه. وهي وحدة متصلة، يصعب فصل بعضها عن بعض. ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع.
يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا. وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض، المدبر للكون بحكمة وتقدير، ونفي الولد والشريك. ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون.. كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- من تكذيبه فيما جاءهم به، وادعائهم أنه إفك افتراه، وأنه أساطير الأولين اكتتبها. وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. وقحتهم في وصفه- صلّى الله عليه وسلّم- بأنه رجل مسحور.. وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحدة لربهم كي يهون على نفس الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- مقولاتهم عنه وعن رسالته.. ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين. ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة.
«لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ» .. ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك.. وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله، وقولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .
ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة.. «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» .. «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» .. ليكون في ذلك تأسية للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وهم يهجرون القرآن، وهو يشكو لربه هذا الهجران. وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون: «لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً» . ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم، وهم المكذبون بيوم القيامة، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون.
فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وقولهم: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك: «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار، والرياح المبشرة بالماء المحيي، وخلقة البشر من الماء. ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق.. «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟» .. وهو «الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً(5/2546)
مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً»
.. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون..
ثم يجئ الشوط الأخير يصور «عِبادُ الرَّحْمنِ» الذين يسجدون له ويعبدونه، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» .
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين..
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فهو يتفق مع ظل السورة وجوها، ويتفق مع موضوعها وأهدافها، على طريقة التناسق الفني في القرآن.
والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل:
«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» ..
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسي: تنزيل القرآن من عند الله، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا.
ووحدانية الله المطلقة. وتنزيهه عن الولد والشريك، وملكيته لهذا الكون كله، وتدبيره بحكمة وتقدير..
وبعد ذلك كله يشرك المشركون، ويفتري المفترون، ويجادل المجادلون، ويتطاول المتطاولون! «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» ..
والتبارك تفاعل من البركة، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا. ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ» لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن.
وسماه الفرقان. بما فيه من فارق بين الحق والباطل، والهدي والضلال. بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج، وبين عهد للبشرية وعهد. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير، وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير.
فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية.
وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة، ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة: «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .
وفي موضع التكريم لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية: «عَلى عَبْدِهِ» ..
كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» . وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ..» وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف:(5/2547)
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ... » والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان. كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله. ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة. متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة. ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج، أو مقام الدعاء والمناجاة، أو مقام الوحي والتلقّي، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل، منها نشأت أساطير النبوة لله، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية.
ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذا المقام، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان.
ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده.. «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .. وهذا النص مكي، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى. لا كما يدعي بعض «المورخين» غير المسلمين، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية. فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين.
طبيعتها طبيعة عالمية شاملة، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد، ومن نهج إلى نهج. عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود..
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.. «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» ..
ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام:
«الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض. سيطرة الملكية والاستعلاء، وسيطرة التصريف والتدبير، وسيطرة التبديل والتغيير.
«وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» .. فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة وهو سبحانه باق لا يفنى، قادر لا يحتاج.
«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» .. وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم، ووحدة الناموس، ووحدة التصريف.
«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» . قدر حجمة وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.
وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا.
ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير.
وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» ..
يقول (أ. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: «الإنسان لا يقوم وحده «1» » .
__________
(1) ترجمة محمود صالح الفلكي بعنوان: «العلم يدعو إلى الإيمان» .(5/2548)
«ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغا هذه الدقة الفائقة. لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات.
«ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية.
وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره! «إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور- ومعظمها سامّ- فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغير في نسبة المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء- أي المحيط- الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، والنباتات. وأخيرا الإنسان نفسه ... » .
ويقول في فصل آخر:
«لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان- كالنار مثلا- تتوافر له» .
ويقول في فصل ثالث.
«ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان- مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره- من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.
«والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا. كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة. ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق! «وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.(5/2549)
«وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائما مجدية.
«ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها؟
ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولماذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة! ..
«إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم.
ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم! «ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان- بل كذلك أي نبات- يمكن أن يبقى في الوجود ... إلخ» .
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» ..
ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئا من هذا كله.
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» ..
وهكذا يجرد آلهتهم المدعاة من كل خصائص الألوهية فهم «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً» والله خلق كل شيء.
«وَهُمْ يُخْلَقُونَ» .. يخلقهم عبادهم- بمعنى يصنعونهم- إن كانوا أصناما وأوثانا- ويخلقهم الله- بمعنى يوجدهم- إن كانوا ملائكة أو جنا أو بشرا أو شجرا أو حجرا.. «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ» فضلا عن أن يملكوا لعبادهم «ضَرًّا وَلا نَفْعاً» والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر. ولكن حتى هذا لا يملكونه.
ومن ثم يقدمه في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه! ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله: «وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» فلا إماتة حي، ولا إنشاء حياة، ولا إعادتها داخل في مقدورهم. فماذا لهم بعد ذلك من خصائص الألوهية، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟!.
ألا إنه الانحراف المطلق، الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول بعد ذلك ما يدعون، فدعواهم على الله أضخم وأقبح من كل ما يدعون على رسوله. وهل أقبح من ادعاء إنسان على الله وهو خالقه وخالق كل شيء، ومدبر أمره ومقدر كل شيء. هل أقبح من ادعاء إنسان أن لله شريكا؟ وقد سئل رسول الله(5/2550)
صلّى الله عليه وسلّم: أي الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله أندادا وهو خلقك ... » «1»
وبعد عرض هذا التطاول على مقام الخالق جل وعلا، يعرض تطاولهم على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ويرد عليه عقب عرضه بما يظهر سخفه وكذبه:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ...
وأكذب شيء أن يقول كفار قريش هذه المقالة، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- شيء آخر غير كلام البشر وهم كانوا يحسون هذا بذوقهم في الكلام وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثر بالقرآن. ثم هم كانوا يعلمون عن محمد قبل البعثة أنه الصادق الأمين الذي لا يكذب ولا يخون. فكيف به يكذب على الله وينسب إليه قولا لم يقله؟
ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعية المستمدة من سيادتهم الدينية، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور العرب، الذين قد لا يميزون بين الكلام، ولا يعرفون درجته: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» . قيل: إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة. وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدل. فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين، فما يمسكهم هم عن الإتيان بمثله، مستعينين بأقوام منهم، ليبطلوا حجة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يتحداهم به وهم عاجزون؟! ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت إنما يدمغهم بالوصف البارز الثابت:
«فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» .. ظلما للحق، ولمحمد، ولأنفسهم، وزورا واضح الكذب ظاهر البطلان.
ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وعن القرآن:
«وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ..
ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة، للتربية والتوجيه، فقالوا عن هذا القصص الصادق: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وزعموا أن الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- طلب أن تكتب له، لتقرأ عليه في الصباح والمساء- إذ كان أميالا يقرأ ولا يكتب- ثم يقولها هو بدوره، وينسبها إلى الله! وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس، ولا تثبت للمناقشة. وإن سياقة القصص في القرآن بهذا التنسيق في عرضه وبهذا التناسق بينه وبين الموضوع الذي يساق فيه، ويستشهد بالقصص عليه وبهذا التناسب بين أهداف القصص وأهداف السياق في السورة الواحدة.. إن هذا كله ليشهد بالقصد والتدبير العميق اللطيف الذي لا يلحظ في الأساطير المبعثرة التي لا تجمعها فكرة، ولا يوجهها قصد، إنما تساق للتسلية وتزجية الفراغ «2» !
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم.
(2) يراجع بتوسع فصل: القصة في القرآن في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(5/2551)
وفي قولهم: إنها أساطير الأولين إشارة إلى بعدها في الزمان فلا يعلمها محمد- صلّى الله عليه وسلّم- إلا أن تملى عليه من حفاظ الأساطير، الذين ينقلونها جيلا عن جيل. لذلك يرد عليهم بأن الذي يمليها على محمد أعلم من كل عليم. فهو الذي يعلم الأسرار جميعا، ولا يخفى عليه نبأ في الأولين والآخرين: «قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فأين علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك العلم الشامل؟
وأين أساطير الأولين من السر في السماوات والأرض؟ وأين النقطة الصغيرة من الخضم الذي لا ساحل له ولا قرار؟
ألا إنهم ليرتكبون الخطيئة الكبيرة، وهم يدعون على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تلك الدعوى المتهافتة ومن قبل يصرون على الشرك بالله وهو خلقهم.. ولكن باب التوبة مع ذلك مفتوح، والرجوع عن الإثم ممكن، والله الذي يعلم السر في السماوات والأرض. ويعلم ما يفترون وما يكيدون، غفور رحيم:
«إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ...
ثم يستطرد في عرض مقولاتهم عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- واعتراضاتهم الجاهلة على بشريته، واقتراحاتهم المتعنتة على رسالته:
«وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً! أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها. وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» ..
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ما له بشرا يتصرف تصرفات البشر؟ إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان، المعروف لهم، المألوف في حياتهم، الذي يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كيف يمكن أن يكون رسولا من عند الله يوحى إليه؟ كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه؟ وهم يرونه واحدا منهم من لحم ودم. وهم لا يوحى إليهم، ولا يعرفون شيئا عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم، لا يتميز في شيء عنهم.
والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة. ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة.. لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنسانا، واستخلف في الأرض. وهو قاصر العلم، محدود التجربة، ضعيف الوسيلة، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه، ودون هدي ينير له طريقه. وقد أودعه الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته. فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس صاحب استعداد روحي للتلقي فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون.
إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها، الطبيعية من البعض الآخر.
ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولا من عند الله. يرون الملائكة أولى بهذا وأقرب: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» . والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من(5/2552)
الخصائص الفائقة، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة.
وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر. واحد من البشر يحس إحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم.. ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم، لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق! وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد، لأنه بشر منهم، يتسامى بهم رويدا رويدا ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم. وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها، لأنها ممثلة في إنسان ولو كان ملكا ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه، لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته، ولا شوق إلى تحقيق صورته! فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشرا ليؤدي دوره على قيادة البشر. والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة. فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان! وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه. فهلا كفاه الله ذلك، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل «أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها» ! والله لم يرد لرسوله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة. لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته. فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه: لقد كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مكفي الحاجة، لا يعاني صراع العيش، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته وتكاليفه، فلم يعوقه عائق مما أعاني.. فها هو ذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعمل ليعيش، ويعمل لرسالته، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة- وقدوته أمامه- ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة. فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله، فكان كالريح المرسلة في جوده، حتى يستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس وكي لا يقولن أحد بعد ذلك: إنما نهض محمد- صلّى الله عليه وسلّم- برسالته، لأنه عاش فقيرا لا يشغله من المال شاغل، فها هو ذا المال يأتيه غزيرا وفيرا، ولكنه يمضي في دعوته كذلك. شأنه يوم أن كان فقيرا.
وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء، وواهب الكثير والقليل؟
ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون! «وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ..
وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء. ورد عليها هنا وهناك ردا واحدا:
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..(5/2553)
وكلتا السورتين تعالجان موضوعا متقاربا، في جو متقارب هنا وهناك.. وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والتنقص منه. إذ يمثلونه برجل سحر عقله، فهو يقول كلاما غريبا لا يقوله الطبيعيون من الناس! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي، ولا مألوف، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر.. والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم:
«انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» وشبهوك بالمسحورين مرة، واتهموك بالتزوير مرة، ومثلوك برواة الأساطير مرة.. وكله ضلال، وبعد عن إدراك الحق «فَضَلُّوا» ضلوا عن كل طريق للحق، وكل سبيل للهدي «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» .
وينهي هذا الجدل ببيان تفاهة ما يقترحون وما يتصورون من أعراض الحياة الدنيا، التي يحسبونها ذات قيمة، ويرونها أجدر أن يعطيها الله لرسوله إن كان حقا رسولا، من كنز يلقى إليه، أو جنة يأكل منها.
فلو شاء الله لأعطاه أكبر مما يقترحون من هذا المتاع:
«تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» .
ولكنه شاء أن يجعل له خيرا من الجنات والقصور. الاتصال بواهب الجنات والقصور. والشعور برعايته وحياطته، وتوجيهه وتوفيقه.. وتذوق حلاوة ذلك الاتصال، الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم. وشتان شتان لو كانوا يدركون أو يتذوقون! وعند هذا الحد من استعراض مقولاتهم الظالمة عن الله وعلى رسول الله، يكشف عن مدى آخر من آماد كفرهم وضلالهم. فهم يكذبون بالساعة، ومن ثم لا يتحرجون من ظلم ولا افتراء، ولا يخشون يوما يلقون فيه الله فيحاسبهم على الظلم والافتراء. وهنا يصورهم في مشهد من مشاهد القيامة يزلزل القلوب الصلدة ويهز المشاعر الخامدة، ويطلعهم على هول ما ينتظرهم هناك وعلى حسن ما ينتظر المؤمنين في ذلك الهول العظيم:
«بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً! «قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا؟» ..
بل كذبوا بالساعة.. وبلغوا هذا المدى من الكفر والضلال. هذا المدى الذي يصوره التعبير بعيدا متطاولا، يضرب عن كل ما قبله ليبرزه ويجسمه: «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ» .. ثم يكشف عن الهول الذي ينتظر أصحاب هذه الفعلة الشنيعة. إنها السعير حاضرة مهيأة: «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» ..
والتشخيص- ونعني به خلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسمة من الأشياء والمعاني والحالات النفسية- فن في القرآن، يرتفع بالصور وبالمشاهد التي يعرضها إلى حد الإعجاز، بما يبث فيها من عنصر الحياة «1» .
ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة، وقد دبت فيها الحياة! فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة.
__________
(1) يراجع فصل. «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب: التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق» .(5/2554)
تراهم من بعيد! فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها وهي تتحرق عليهم، وتصعد الزفرات غيظا منهم وهي تتميز من النقمة، وهم إليها في الطريق! .. مشهد رعيب يزلزل الأقدام والقلوب! ثم ها هم أولاء قد وصلوا. فلم يتركوا لهذه الغول طلقاء. يصارعونها فتصرعهم، ويتحامونها فتغلبهم.
بل ألقوا إليها إلقاء. ألقوا مقرنين، قد قرنت أيديهم إلى أرجلهم في السلاسل. وألقوا في مكان منها ضيق، يزيدهم كربة وضيقا، ويعجزهم عن التفلت والتململ.. ثم ها هم أولاء يائسون من الخلاص، مكروبون في السعير. فراحوا يدعون الهلاك أن ينقذهم من هذا البلاء: «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» . فالهلاك اليوم أمنية المتمني، والمنفذ الوحيد للخلاص من هذا الكرب الذي لا يطاق ثم ها هم أولاء يسمعون جواب الدعاء. يسمعون تهكما ساخرا مريرا: «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» . فهلاك واحد لا يجدي شيئا ولا يكفي شيئا! وفي هذا الموقف المكروب الرعيب يعرض ما أعد للمتقين، الذين يخشون ربهم ويرجون لقاءه، ويؤمنون بالساعة. يعرض في أسلوب متهكم كذلك ساخر.
«قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ؟ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ. كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا؟» .
أذلك الكرب الفظيع خير؟ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين، وخولهم حق سؤاله عنها، وطلب تحقيق وعده الذي لا يخلف، ومنحهم أن يطلبوا فيها ما يشاءون؟ وهل هناك وجه للموازنة؟ ولكنها السخرية المريرة بالساخرين الذين يتطاولون على الرسول الكريم.
ثم يمضي مستطردا يعرض مشهدا آخر من مشاهد الساعة التي كذب بها المكذبون. مشهد أولئك المشركين، وقد حشروا مع آلهتهم التي كانوا يزعمون، ووقف الجميع عبادا ومعبودين أمام الديان يسألون ويجيبون! «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ قالُوا: سُبْحانَكَ! ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً.. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» ..
وما يعبدون من دون الله قد يكونون هم الأصنام. وقد يكونون هم الملائكة والجن، وكل معبود من دون الله. وإن الله ليعلم. ولكن الاستجواب هكذا في الساحة الكبرى، وهم محشورون أجمعين، فيه تشهير وتأنيب، وهو ذاته عذاب مرهوب! والجواب هو الإنابة من هؤلاء «الآلهة» ! الإنابة لله الواحد القهار.
وتنزيهه عن ذلك الافتراء، والتبرؤ لا من ادعاء الألوهية، ولكن من مجرد أن يتخذوا لهم أولياء من دون الله، والزراية على أولئك الجاحدين الجهال:
«قالُوا: سُبْحانَكَ! ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً» ..
فهذا المتاع الطويل الموروث- على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر- قد ألهاهم وأنساهم ذكر المنعم، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار. كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار. والبوار الهلاك، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء. جدب القلوب، وخواء الحياة.
عندئذ يتوجه إلى أولئك العباد الجهال بالخطاب المخزي المهين:(5/2555)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
«فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. لا صرف العذاب ولا الانتصار.
وبينما المشهد في الآخرة يوم الحشر. ينتقل السياق فجأة إلى المكذبين وهم بعد في الأرض:
«وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ: نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» ..
ذلك على طريقة القرآن في لمس القلوب في اللحظة التي تتهيأ فيها للاستجابة وهي متأثرة بمثل ذلك المشهد المرهوب! والآن وقد شهدوا وشهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء. ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ومشيه في الأسواق.. الآن يعود إلى الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يسليه ويؤسيه، بأنه لم يكن بدعا من الرسل، فكلهم يمشون على سواء:
«وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» ..
فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه. إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله. سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره. وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره. ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر.
وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء: «أَتَصْبِرُونَ؟» .. «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» . بصيرا بالطبائع والقلوب، والمصائر والغايات. ولهذه الإضافة هنا «وَكانَ رَبُّكَ» إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب.. والله بصير بمداخل القلوب..
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 44]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)(5/2556)
يبدأ هذا الشوط من السورة بما يشبه بدء الشوط الأول، ويسير سيرته في تقديم ما يتطاول به المشركون على ربهم، وما يتفوهون به من اعتراضات واقتراحات، مقدمة لما يتطاولون به على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في مقام تسليته وتعزيته. غير أن السياق هنا يعجل بعرض ما ينتظرهم من عذاب الآخرة عقابا على ذلك التطاول، في سلسلة متصلة من مشاهد القيامة، ردا على قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .. ثم يعرض اعتراضاتهم على تنزيل القرآن منجما، ويعقب ببيان الحكمة من تنزيله متتابعا، ويطمئن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على عون الله له كلما تحدوه في جدل: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا.. ويعرض عليه وعليهم مصارع المكذبين قبلهم، ويوجه نظرهم إلى مصرع قوم لوط، وهم يمرون على قريته المدمرة، مستنكرا ألا يحرك قلوبهم منظرها وهم يمرون عليها.. كل أولئك مقدمة لعرض استهزائهم بشخصه- صلّى الله عليه وسلّم- وتطاولهم على مقامه، وما يكاد يعرض هذا حتى يعقب عليه تعقيبا قويا، يحقرهم فيه ويحتقرهم: «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» ..
«وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا! لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ(5/2557)
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ، يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا»
..
إن المشركين لا يرجون لقاء الله، أي لا ينتظرون هذا اللقاء، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم وتصرفاتهم على أساسه. ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات وتصورات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله.
«وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا!» ..
فقد كانوا يستبعدون أن يكون الرسول بشرا وكانوا يطلبون، لكي يؤمنوا بالعقيدة التي يدعوهم إليها، أن تنزل عليهم الملائكة تشهد بها، أو أن يروا الله سبحانه وتعالى فيصدقوا.. وهو تطاول على مقام الله سبحانه.
تطاول الجاهل المستهتر الذي لا يحس جلال الله في نفسه، ولا يقدر الله حق قدره. فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول؟ من هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر؟ من هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة، إلا أن يربطوا أنفسهم بالله عن طريق الإيمان فيستمدوا منه قيمتهم.. ومن ثم يرد عليهم في نفس الآية قبل أن تنتهي، يكشف عن منبع هذا التطاول:
«لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» ...
لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم، فاستكبروا وطغوا طغيانا كبيرا. لقد تضخم شعورهم بأنفسهم حتى شغلهم عن تقدير القيم الحقيقية ووزنها وزنا صحيحا. لقد عادوا ما يحسون إلا أنفسهم وقد كبرت في أعينهم وتضخمت وعظمت، حتى ليحسبونهم شيئا عظيما في هذا الكون يستحق أن يظهر لهم الله جل جلاله ليؤمنوا ويصدقوا! ثم يسخر منهم بصدق وحق، إذ يطلعهم على الهول الذي ينتظرهم يوم يرون الملائكة- ورؤية الملائكة هي أقل الطلبين تطاولا- فإنهم لا يرون الملائكة إلا في يوم عصيب هائل، ينتظرهم فيه العذاب الذي لا طاقة لهم به، ولا نجاة لهم منه. ذلك هو يوم الحساب والعقاب:
«يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ. وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ..
يوم يتحقق اقتراحهم الذي اقترحوه: «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ» يومئذ لا يبشر المجرمون ولكن يعذبون.
فيالها من استجابة لما يقولون! يومئذ يقولون: «حِجْراً مَحْجُوراً» أي حراما محرما. وهي جملة اتقاء للشر وللأعداء كانوا يقولونها استبعادا لأعدائهم وتحرزا من أذاهم. وهي تجري في ذلك اليوم على ألسنتهم بحكم العادة من الذهول حين يفاجأون. ولكن أين هم اليوم مما كانوا يقولون! إن الدعاء لا يعصمهم ولا يمنعهم:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ..
هكذا في لحظة. والخيال يتبع حركة القدوم المجسمة المتخيلة- على طريقة القرآن في التجسيم والتخييل «1» - وعملية الإثارة للأعمال، والتذرية في الهواء فإذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء. ذلك أنه
__________
(1) يراجع فصل التخييل الحسي والتجسيم في كتاب «التصوير الفني في القرآن» . ويراجع كتاب «مشاهد القيامة في القرآن» . «دار الشروق» . [.....](5/2558)
لم يقم على الإيمان، الذي يصل القلب بالله، والذي يجعل العمل الصالح منهجا مرسوما وأصلا قاصدا، لا خبط عشواء، ولا نزوة طارئة، ولا حركة مبتورة لا قصد لها ولا غاية. فلا قيمة لعمل مفرد لا يتصل بمنهج، ولا فائدة لحركة مفردة ليست حلقة من سلسلة ذات هدف معلوم.
إن وجود الإنسان وحياته وعمله في نظرة الإسلام موصولة كلها بأصل هذا الكون، وبالناموس الذي يحكمه، والذي يصله كله بالله. بما فيه الإنسان وما يصدر عنه من نشاط. فإذا انفصل الإنسان بحياته عن المحور الرئيسي الذي يربطه ويربط الكون، فإنه يصبح لقي ضائعا لا وزن له ولا قيمة، ولا تقدير لعمله ولا حساب. بل لا وجود لهذا العمل ولا بقاء.
والإيمان هو الذي يصل الإنسان بربه فيجعل لعمله قيمة ووزنا، ويجعل له مكانه في حساب هذا الكون وبنائه.
وهكذا تعدم أعمال أولئك المشركين. تعدم إعداما يصوره التعبير القرآني تلك الصورة الحسية المتخيلة:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» ..
وهنا يلتفت إلى الجانب الآخر فإذا المؤمنون أصحاب الجنة ليتم التقابل في المشهد:
«أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» ..
فهم مستقرون مستروحون ناعمون في الظلال. والاستقرار هنا يقابل خفة الهباء المنثور. والاطمئنان يقابل الفزع الذي يطلق الاستعاذة في ذهول.
ولقد كان الكفار يقترحون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة. وربما كان ذلك تأثرا بالأساطير الإسرائيلية التي كانت تصور الإله يتراءى لهم في سحابة أو عمود من النار. فهنا يعود ليرسم مشهدا آخر يوم يتحقق اقتراحهم بنزول الملائكة إليهم:
«وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» .
وهذه الآية وكثير غيرها في القرآن يقرر أن أحداثا فلكية ضخمة ستتم في ذلك اليوم. وكلها تشير إلى اختلال كامل في النظام الذي يربط أجزاء هذا الكون المنظور وأفلاكه ونجومه وكواكبه. وإلى انقلاب في أوضاعه وأشكاله وارتباطاته، تكون به نهاية هذا العالم. وهو انقلاب لا يقتصر على الأرض، إنما يشمل النجوم والكواكب والأفلاك. ولا بأس من استعراض مظاهر هذا الانقلاب كما جاءت في سور متعددة. «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ.. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» .. «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ»
.. «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» .. «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» . «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» .. «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .. «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» .. «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» .. «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» ..
«فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ» .. «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» .. «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» .. «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا» .. «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ،(5/2559)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ»
.. «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» .. «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» .. «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» .. «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» ..
«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» .. «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» ..
فهذه الآيات كلها تنبىء بأن نهاية عالمنا هذا ستكون نهاية مروعة، ترج فيها الأرض وتدك، وتنسف فيها الجبال، وتتفجر فيها البحار إما بامتلائها من أثر الاضطراب وإما بتفجر ذراتها واستحالتها نارا. كذلك تطمس فيها النجوم وتنكدر، وتشقق فيها السماء وتنفطر، وتتحطم فيها الكواكب وتنتثر، وتختل المسافات فيجمع الشمس والقمر، وتبدو السماء مرة كالدخان ومرة متلهبة حمراء.. إلى آخر هذا الهول الكوني الرعيب.
وفي هذه السورة- الفرقان- يخوف الله المشركين بتشقق السماء بالغمام. وقد يكون هو السحب المتراكمة من أبخرة تلك الانفجارات المروعة. وتنزل الملائكة يومئذ على الكافرين كما كانوا يقترحون، لا لتصديق الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ولكن ليتولوا عذابهم بأمر ربهم «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» بما فيه من هول، وبما فيه من عذاب.. فما لهم يقترحون نزول الملائكة وهم لا ينزلون إلا في مثل ذلك اليوم العسير؟
ثم يعرض مشهدا من مشاهد ذلك اليوم، يصور ندم الظالمين الضالين. يعرضه عرضا طويلا مديدا، يخيل للسامع أنه لن ينتهي ولن يبرح. مشهد الظالم يعض على يديه من الندم والأسف والأسى:
«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» ..
ويصمت كل شيء من حوله ويروح يمد في صوته المتحسر، ونبراته الأسيفة والإيقاع الممدود يزيد الموقف طولا ويزيد أثره عمقا. حتى ليكاد القارئ للآيات والسامع يشاركان في الندم والأسف والأسى! «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» .. فلا تكفيه يد واحدة يعض عليها. إنما هو يداول بين هذه وتلك، أو يجمع بينهما لشدة ما يعانيه من الندم اللاذع المتمثل في عضه على اليدين. وهي حركة معهودة يرمز بها إلى حالة نفسية فيجسمها تجسيما.
«يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» .. فسلكت طريقه، لم أفارقه، ولم أضل عنه.. الرسول الذي كان ينكر رسالته ويستبعد أن يبعثه الله رسولا! «يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» .. فلانا بهذا التجهيل ليشمل كل صاحب سوء يصد عن سبيل الرسول ويضل عن ذكر الله «1» .. «لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» .. لقد كان شيطانا يضل، أو كان عونا للشيطان «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» يقوده إلى مواقف الخذلان، ويخذله عند الجد، وفي مواقف الهول والكرب..
وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزا بهذه المشاهد المزلزلة، التي تجسم لهم مصيرهم المخيف، وتريهم إياه
__________
(1) تذكر بعض الروايات في سبب نزول هذه الآيات، أن عقبة بن أبي معبط كان يكثر من مجالسة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل. وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه، وقال له: صبأت. فقال: لا والله ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه وتبزق في وجهه.
فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك. فقال له النبي- صلّى الله عليه وسلّم- «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله.(5/2560)
واقعا مشهودا، وهم بعد في هذه الأرض، يكذبون بلقاء الله، ويتطاولون على مقامه دون توقير، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان.
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن. ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور:
«وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» ..
لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم. ويبصرهم. هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا. وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدي على نوره. وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق:
«وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» ..
وإن ربه ليعلم ولكنه دعاء البث والإنابة، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
فيسليه ربه ويعزيه. فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات. فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله. ولكن الله يهدي رسله إلى طريق النصر على أعدائهم المجرمين:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
ولله الحكمة البالغة. فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها- مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة، التي لا تبتغي مغانم قريبة. ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة. ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودا. فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا. بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها. ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عودا، وأشدهم إيمانا، وأكثرهم تطلعا إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس..
عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل. وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها. أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين.(5/2561)
وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة. فيكون هذا كله رصيدا للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء.
والذي يقع غالبا أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن.. وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة. وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجا في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع! من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله. إنها الهداية إلى الحق، والانتهاء إلى النصر: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» .
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي. فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية. فساد في القلوب، وفساد في النظم، وفساد في الأوضاع. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلونه من ناحية. والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء. الذين يجدون فيه سندا للقيم الزائقة التي يستندون هم في وجودهم إليها.. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعا عن وجودهم، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه. وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن. وكذلك المجرمون.. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، يستميتون في كفاحها. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية، لأنها تسير مع خط الحياة، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله..
«وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين الذين يقفون في وجه دعوة القرآن، والرد عليها:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» ..
ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة، وينشىء مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها.
ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها. فجاء لذلك منجما وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق. جاء ليكون منهج(5/2562)
تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة. جاء لينفذ حرفا حرفا وكلمة كلمة، وتكليفا تكليفا. جاء لتكون آياته هي «الأوامر اليومية» التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان «الأمر اليومي» مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ ومع الانطباع والتكليف وفق ما يتلقاه..
من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ويثبته على طريقه ويتتابع على مراحل الطريق رتلا بعد رتل، وجزءا بعد جزء:
«كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» ..
والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي..
ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا، وتأثرت به يوما يوما، وانطبعت به أثرا أثرا. فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة، فحسب، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ. لم ينتفعوا من القرآن بشيء، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير..
ويمضي في تثبيت الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتطمينه على إمداده بالحجة البالغة كلما فتحوا له بابا من الجدل، وكلما اقترحوا عليه اقتراحا، أو اعترضوا عليه اعتراضا:
«وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» ..
وإنهم ليجادلون بالباطل، والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدمغه. والحق هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها، وليس مجرد الانتصار في الجدل، ولا الغلب في المحاجة. إنما هو الحق القوي بنفسه، الواضح الذي لا يتلبس به الباطل.
والله سبحانه يعد رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- بالعون في كل جدل يقوم بينه وبين قومه. فهو على الحق، والله يمده بالحق الذي يعفى على الباطل. فأنى يقف جدلهم لحجة الله البالغة؟ وأنى يقف باطلهم للحق الدامغ الذي يتنزل من عند الله؟
وتنتهي هذه الجولة بمشهدهم يحشرون على وجوههم يوم القيامة، جزاء تأبيهم على الحق، وانقلاب مقاييسهم ومنطقهم في جدلهم العقيم:
«الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ. أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» ..
ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الإهانة والتحقير والانقلاب، ما يقابل التعالي والاستكبار، والإعراض عن الحق. وهو يضع هذا المشهد أمام الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- تعزية له عما يلقاه منهم. ويضعه أمامهم تحذيرا لهم مما ينتظرهم. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم، ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الإنذارات تهزهم هزا، ولكنهم يتحاملون على أنفسهم ويظلون معاندين.
ثم يجول بهم جولة في مصارع المكذبين من السابقين:(5/2563)
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً. وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً. وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ، وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً. وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟ بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» ..
إنها أمثلة مختصرة سريعة ترسم مصائر المكذبين:
فهذا موسى يؤتى الكتاب ويرسل معه أخوه هارون وزيرا ومعينا. ويؤمر بمواجهة «الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» ذلك أن فرعون وملأه كانوا مكذبين بآيات الله- حتى قبل إرسال موسى وهارون إليهم، فآيات الله قائمة دائمة، والرسل إنما يذكرون بها الغافلين.. وقبل أن تتم الآية الثانية في السياق يرسم مصيرهم في عنف وإجمال «فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» .
وهؤلاء قوم نوح: «لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ» .. وهم كذبوا نوحا وحده. ولكن نوحا إنما جاءهم بالعقيدة الواحدة التي أرسل بها الرسل جميعا. فلما كذبوه كانوا قد كذبوا الرسل جميعا. «وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً» فإن آية الطوفان لا تنسى على الدهر، وكل من نظر فيها اعتبر إن كان له قلب يتدبر «وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» فهو حاضر لا يحتاج إلى إعداد. ويظهر لفظ الظالمين بدل الضمير لإثبات هذا الوصف لهم وبيان سبب العذاب. وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس «1» والقرون الكثيرة بين ذلك. كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال، فلم يتدبروا القول، ولم يتقوا البوار والدمار..
وهذه الأمثلة كلها من قوم موسى ونوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ومن القرية التي أمطرت مطر السوء- وهي قرية لوط- كلها تسير سيرة واحدة وتنتهي نهاية واحدة «وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ» للعظة والاعتبار «وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» وكانت عاقبة التكذيب هي التحطيم والتفتيت والدمار. والسياق يستعرض هذه الأمثلة ذلك الاستعراض السريع لعرض هذه المصارع المؤثرة. وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الصيف إلى الشام. وقد أهلكها الله بمطر بركاني من الأبخرة والحجارة فدمرها تدميرا. ويقرر في نهايته أن قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لأنهم لا ينتظرون البعث، ولا يرجون لقاء الله. فذلك سبب قساوة تلك القلوب. وانطماسها. ومن هذا المعين تنبع تصرفاتهم واعتراضاتهم وسخرياتهم من القرآن ومن الرسول.
وبعد هذا الاستعراض السريع يجيء ذكر استهزائهم برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقد سبقه تطاولهم على ربهم، واعتراضهم على طريقة تنزيل القرآن. وسبقه كذلك مشاهدهم المفجعة في يوم الحشر، ومصارع المكذبين أمثالهم في هذه الأرض.. كل أولئك تطييبا لقلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل ذكر استهزائهم به وتوقحهم عليها. ثم يعقب عليه بتهديدهم وتحقيرهم وتنزيلهم إلى أحط من درك الحيوان.
«وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
ولقد كان محمد صلّى الله عليه وسلّم ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثته. فقد كان عندهم ذا مكانة
__________
(1) البئر المطوية أي التي لم تبن حوائطها وقيل إن أصحابها كانوا بقرية باليمامة فقتلوا نبيهم. واختار ابن جرير أنهم أصحاب الأخدود الذين حرقوا المؤمنين فيه وقد ذكروا في سورة البروج.(5/2564)
من بيته وهو من ذروة بني هاشم وهم ذروة قريش. وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب بينهم بالأمين.
ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الأسود قبل البعثة بزمن طويل. ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم أن خيلا بسفح هذا الجبل قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم.
ولكنهم بعد البعثة وبعد أن جاءهم بهذا القرآن العظيم راحوا يهزأون به ويقولون: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» وهي قولة ساخرة مستنكرة.. أكان ذلك عن اقتناع منهم بأن شخصه الكريم يستحق منهم هذه السخرية، وأن ما جاءهم به يستحق منهم هذا الاستهزاء؟ كلا. إنما كانت تلك خطة مدبرة من كبراء قريش للتصغير من أثر شخصيته العظيمة ومن أثر هذا القرآن الذي لا يقاوم. وكانت وسيلة من وسائل مقاومة الدعوة الجديدة التي تهددهم في مراكزهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، وتجردهم من الأوهام والخرافات الاعتقادية التي تقوم عليها تلك المراكز وهذه الأوضاع.
ولقد كانوا يعقدون المؤتمرات لتدبير المؤامرات المحبوكة، ويتفقون فيها على مثل هذه الوسيلة وهم يعلمون كذبهم فيها عن يقين:
روى ابن اسحاق إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش- وكان ذا سن فيهم- وقد حضر الموسم- موسم الحج- فقال لهم: يا معشر قريش: إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا:
نقول كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول:
إنه مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا:
فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول يا أبا عبد الشمس؟ قال: والله إن لقوله طلاوة، وإن أصله لعذق «1» ، وإن فرعه لجناة «2» وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.. فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
فهذا مثل من الكيد والتدبير يشيء بحيرة القوم في المؤامرات ضد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته. فما كان اتخاذهم إياه هزوا، وقولهم ساخرين: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟» بصورة الاستغراب والاستنكار والزراية إلا طرفا من تلك المؤامرات المدبرة لا ينبعث عن حقيقة شعورية في نفوسهم، إنما يتخذ وسيلة للحط من قدره في أعين الجماهير، التي يحرص سادة قريش على استبقائها تحت وصايتهم الدينية، استبقاء للمراكز الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية التي يتمتعون بها في ظل تلك الوصاية! شأن قريش في هذا شأن أعداء دعوات الحق ودعاتها في كل زمان وفي كل مكان.
وبينما كانوا يظهرون الهز والاستخفاف كانت أقوالهم ذاتها تشي بمقدار ما في نفوسهم من شخصه ومن
__________
(1) أي نخلة. يشبهه بالنخلة ثبت أصلها.
(2) أي يحمل الجني أي الثمار الناضجة.(5/2565)
حجته ومن القرآن الذي جاء به، فيقولون:
«إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها» ..
فلقد زلزل قلوبهم إذن باعترافهم حتى كادوا يتركون آلهتهم وعبادتهم- على شدة حرصهم على استبقاء ديانتهم وما وراءها من مراكز ومغانم- لولا أنهم قاوموا تأثرهم به وصبروا على آلهتهم! والصبر لا يكون إلا على المقاومة العنيفة للجاذبية العنيفة. وهم يسمون الهداية إضلالا لسوء تقديرهم للحقائق وتقويمهم للقيم.
ولكنهم لا يملكون إخفاء الزلزلة التي أصابت قلوبهم من دعوة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وشخصيته والقرآن الذي معه حتى وهم يتظاهرون بالاستخفاف بشخصه ودعوته، إصرارا وعنادا. ومن ثم يعاجلهم بالتهديد المجمل الرهيب:
«وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا» ..
فيعلمون إن كان ما جاءهم به هو الهدى أو أنه هو الضلال. ولكن حين لا ينفع العلم، حين يرون العذاب.
سواء أكان ذلك في الدنيا كما ذاقوا يوم بدر، أم كان في الآخرة كما يذوقون يوم الحساب.
ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم، فهو لم يقصر في الدعوة، ولم يقصر في الحجة، ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول، إنما العلة فيهم أنفسهم.
فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان. وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه:
«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟» ..
وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة، حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة، والموازين المضبوطة، وتخضع لهواها، وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها، فلا تخضع لميزان، ولا تعترف بحد، ولا تقتنع بمنطق، متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع.
والله- سبحانه- يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناس: «أَرَأَيْتَ؟» ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه، ولا وزن للحجة، ولا قيمة للحقيقة ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته. فهو غير قابل للهدى، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره، ولا أن يحفل بشأنه: «أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا؟» ..
ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم، ويحكمون شهواتهم، ويتنكرون للحجة والحقيقة، تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها. يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل.
ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل وأحط:
«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
وفي التعبير تحرز وإنصاف، إذ يذكر «أَكْثَرَهُمْ» ولا يعمم، لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى، أو تقف عند الحقيقة تتدبرها. فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا، والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول، فهي كالأنعام. وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك، والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع، ووقوف عند الحجة والاقتناع. بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة، لأن البهيمة تهتدى بما أودعها الله من استعداد، فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا. بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص، ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة:(5/2566)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
«إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» ..
وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من اطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة.
وهكذا ينتهي الشوط الثاني في السورة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 62]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)(5/2567)
في هذا الشوط يدع مقولات المشركين وجدالهم مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ليبدأ جولة في مشاهد الكون ومجاليه، يوجه إليها قلب الرسول ويصل بها مشاعره. وهذا الاتصال كاف وحده ليدفع خاطره عن مضايقات المشركين الصغيرة ويفتح قلبه على تلك الآفاق الوسيعة التي يتضاءل معها كيد الكائدين وعداوة المجرمين..
والقرآن يوجه القلوب والعقول دائما إلى مشاهد هذا الكون ويربط بينها وبين العقول والقلوب. ويوقظ المشاعر لاستقبالها بحس جديد متفتح، يتلقى الأصداء والأضواء، وينفعل بها ويستجيب. ويسير في هذا الكون ليلتقط الآيات المبثوثة في تضاعيفه، المنثورة في أرجائه، المعروضة في صفحاته، ويرى فيها يد الصانع المدبر، ويستشعر آثار هذه اليد في كل ما تقع عليه عينه، وكل ما يلمسه حسه، وكل ما يلتقطه سمعه ويتخذ من هذا كله مادة للتدبر والتفكر، والاتصال بالله، عن طريق الاتصال بما صنعت يداه.
وحين يعيش الإنسان في هذا الكون مفتوح العين والقلب، مستيقظ الحس والروح، موصول الفكر والخاطر فإن حياته ترتفع عن ملابسات الأرض الصغيرة، وشعوره بالحياة يتسامى ويتضاعف معا.
وهو يحس في كل لحظة أن آفاق الكون أفسح كثيرا من رقعة هذه الأرض وأن كل ما يشهده صادر عن إرادة واحدة، مرتبط بناموس واحد، متجه إلى خالق واحد وإن هو إلا واحد من هذه المخلوقات الكثيرة المتصلة بالله ويد الله في كل ما حوله، وكل ما تقع عليه عينه، وكل ما تلمسه يداه.
إن شعورا من التقوى، وشعورا من الأنس، وشعورا من الثقة لتمتزج في حسه، وتفيض على روحه، وتعمر عالمه، فتطبعه بطابع خاص من الشفافية والمودة والطمأنينة في رحلته على هذا الكوكب حتى يلقى الله.
وهو يقضي هذه الرحلة كلها في مهرجان من صنع الله وعلى مائدة من يد الصانع المدبر الجميل التنسيق.
وفي هذا الدرس ينتقل السياق من مشهد الظل اللطيف، ويد الله تمده ثم تقبضه في يسر ولطف. إلى مشهد الليل وما فيه من نوم وسبات، والنهار وما فيه من حركة وانبعاث. إلى مشهد الرياح تبشر بالرحمة ثم يعقبها الماء المحيي للموات. إلى مشهد البحرين الفرات والأجاج وبينهما برزخ يمنعهما ويحجز بينهما فلا يختلطان.
ومن ماء السماء إلى ماء النطفة، وإذا هو بشر يصرف الحياة. إلى مشهد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. إلى مشهد البروج في السماء وما فيها من سراج مضيء وقمر منير. إلى مشهد الليل والنهار يتعاقبان على مدار الزمان.
وفي خلال هذه المشاهد الموحية يوقظ القلب وينبه العقل إلى تدبر صنع الله فيها ويذكر بقدرته وتدبيره ويعجب معه إشراك المشركين، وعبادتهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم، وجهلهم بربهم وتطاولهم عليه، وتظاهرهم على الكفر والجحود والنكران. فإذا هو تصرف عجيب مريب في وسط هذا الحشد المعروض من آيات الله، ومشاهد الكون الذي خلقه الله.
فلنعش نحن لحظات في ذلك المهرجان الذي يدعونا الخالق البارئ المصور إليه في طول الحياة.
«أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ- وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً- ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» ..
إن مشهد الظل الوريف اللطيف ليوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والسكن والأمان. وكأنما هو اليد الآسية الرحيمة تنسم على الروح والبدن، وتمسح على القرح والألم، وتهدهد القلب المتعب المكدود..(5/2568)
أفهذا الذي يريده الله سبحانه وهو يوجه قلب عبده إلى الظل بعد ما ناله من استهزاء ولأواء؟ وهو يمسح على قلبه المتعب في هذه المعركة الشاقة، وهو في مكة يواجه الكفر والكبر والمكر والعناد، في قلة من المؤمنين وكثرة من المشركين ولم يؤذن له بعد في مقابلة الاعتداء بمثله وفي رد الأذى والتهجم والاستهزاء؟! إن هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كان هو البلسم المريح، والظل الظليل، والروح المحيي في هجير الكفر والجحود والعصيان. وإن الظل وبخاصة في هجير الصحراء المحرق- لهو المشهد الذي يتناسق مع روح السورة كلها وما فيها من أنداء وظلال.
والتعبير يرسم مشهد الظل ويد الله الخفية التدبير تمده في رفق، وتقبضه في لطف: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؟» .. «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» ..
والظل هو ما تلقيه الأجرام من الظلمة الخفيفة حين تحجب أشعة الشمس في النهار. وهو يتحرك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغير أوضاعه وامتداداته وأشكاله والشمس تدل عليه بضوئها وحرارتها، وتميز مساحته وامتداده وارتداده. ومتابعة خطوات الظل في مده وانقباضه يشيع في النفس نداوة وراحة كما يثير فيها يقظة لطيفة شفيفة، وهي تتبع صنع البارئ اللطيف القدير.. وإن مشهد الظلال والشمس مائلة للمغيب، وهي تطول وتطول، وتمتد وتمتد. ثم في لحظة. لحظة واحدة ينظر الإنسان فلا يجدها جميعا. لقد اختفى قرص الشمس وتوارت معه الظلال. أين تراها ذهبت؟ لقد قبضتها اليد الخفية التي مدتها. لقد انطوت كلها في الظل الغامر الطامي. ظل الليل والظلام! إنها يد القدرة القوية اللطيفة. التي يغفل البشر عن تتبع آثارها في الكون من حولهم وهي تعمل دائبة لا يدركها الكلال.
«وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» .. فبناء الكون المنظور على هذا النسق، وتنسيق المجموعة الشمسية هذا التنسيق هو الذي جعل الظل متحركا هذه الحركة اللطيفة. ولو اختلف ذلك النسق أقل اختلاف لاختلفت آثاره في الظل الذي نراه. لو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا يقبض. ولو كانت سرعتها أبطأ أو أسرع مما هي عليه لكان الظل في امتداده وقبضه أبطأ أو أسرع. فتنسبق الكون المنظور على ناموسه هذا هو الذي يسمح بظاهرة الظل، ويمنحها خواصها التي نراها.
وهذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين، هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي افقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة. وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب.
ومن مشهد الظل إلى مشهد الليل الساتر، والنوم الساكن، والنهار وما فيه من حركة ونشور:
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، وَالنَّوْمَ سُباتاً، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» ..
والليل يستر الأشياء والأحياء فتبدو هذه الدنيا وكأنها تلبس الليل وتتشح بظلامه فهو لباس. وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب وينام الناس وكثير من الحيوان والطيور والهوام. والنوم انقطاع عن الحس والوعي والشعور. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة، وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت الصغير، الذي يتداول الحياة على هذه الأرض مع البعث والنشور مرة في كل دورة من(5/2569)
دورات الأرض الدائبة التي لا يصيبها الكلال. وهي تمر بالبشر وهم غافلون عما فيها من دلالة على تدبير الله، الذي لا يغفل لحظة ولا ينام.
ثم ظاهرة الرياح المبشرة بالمطر وما يبثه من حياء:
«وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» ..
والحياة على هذه الأرض كلها تعيش على ماء المطر إما مباشرة، وإما بما ينشئه من جداول وأنهار على سطح الأرض. ومن ينابيع وعيون وآبار من المياه الجوفية المتسربة إلى باطن الأرض منه، ولكن الذين يعيشون مباشرة على المطر هم الذين يدركون رحمة الله الممثلة فيه إدراكا صحيحا كاملا. وهم يتطلعون إليه شاعرين بأن حياتهم كلها متوقفة عليه، وهم يترقبون الرياح التي يعرفونها تسوق السحب، ويستبشرون بها ويحسون فيها رحمة الله- إن كانوا ممن شرح الله صدورهم للإيمان.
والتعبير يبرز معنى الطهارة والتطهير: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» وهو بصدد ما في الماء من حياة.
«لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» فيلقي على الحياة ظلا خاصا. ظل الطهارة. فالله سبحانه أراد الحياة طاهرة نقية وهو يغسل وجه الأرض بالماء الطهور الذي ينشىء الحياة في الموات ويسقي الأناسي والأنعام.
وعند هذا المقطع من استعراض المشاهد الكونية يلتفت إلى القرآن النازل من السماء كذلك لتطهير القلوب والأرواح وكيف يستبشرون بالماء المحيي للأجسام ولا يستبشرون بالقرآن المحيي للأرواح:
«وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ «1» بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً، وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» ..
«وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» .. فعرضناه عليهم في صور شتى، وأساليب متعددة، ولفتات متنوعة وخاطبنا به مشاعرهم ومداركهم، وأرواحهم وأذهانهم ودخلنا عليهم به من كل باب من أبواب نفوسهم، وبكل وسيلة تستجيش ضمائرهم.. «لِيَذَّكَّرُوا» .. فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر. والحقيقة التي يحاول القرآن ردهم إليها مركوزة في فطرتهم، أنساهم إياها الهوى الذي اتخذوا منه إلها.. «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» .
ومهمة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إذن ضخمة شاقة وهو يواجه البشرية كلها وأكثرها أضله الهوى، وأبى إلا الكفر ودلائل الإيمان حاضرة..
«وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» ..
فتوزع المشقة، وتخف المهمة. ولكن الله اختار لها عبدا واحدا، هو خاتم الرسل وكلفه إنذار القرى
__________
(1) بعض المفسرين يرجع الضمير في «صرفناه» إلى الماء بوصفه أقرب مذكور في العبارة. ولأن القرآن لم يذكر في هذا المقام. ولكننا نرجح أن الضمير عائد على القرآن، لأنه لا شك في أن قوله: «وجاهدهم به» يعنى القرآن فهو لا يجاهدهم بالماء. والذي يجعل الضمير الثاني راجعا إلى القرآن يجعل الضمير الأول كذلك. إنما هي التفاتة من التفاتات القرآن الكثيرة بمناسبة مضمرة ملحوظة. هذه المناسبة هنا هي إنزال الماء الطهور المحيي، التي ترد الذهن إلى إنزال القرآن المطهر المحيي الذي تدور السورة كلها عليه.(5/2570)
جميعا، لتتوحد الرسالة الأخيرة، فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة، وأعطاه القرآن ليجاهدهم به:
«فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» ..
وإن في هذا القرآن من القوة والسلطان، والتأثير العميق، والجاذبية التي لا تقاوم، ما كان يهز قلوبهم هزا، ويزلزل أرواحهم زلزالا شديدا فيغالبون أثره بكل وسيلة فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا.
ولقد كان كبراء قريش يقولون للجماهير: «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» .. وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس أتباعهم من تأثير هذا القرآن وهم يرون هؤلاء الأتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد ابن عبد الله- صلّى الله عليه وسلّم- فتنقاد إليه النفوس، وتهوى إليه الأفئدة.
ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة، وهم في نجوة من تأثير هذا القرآن. فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير! قال ابن اسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حُدِّث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة.. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبة، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتهم في نفسه شيئاً! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة! ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض:
لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.
«فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
«قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء.
فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!! «قال: فقام عنه الأخنس وتركه» .
فهكذا كانوا يغالبون أنفسهم أن تهفو إلى هذا القرآن فتغلبهم، لولا أن يتعاهدوا وهم يحسون ما يتهدد زعامتهم، لو اطلع عليهم الناس، وهم مأخوذون شبه مسحورين! وإن في القرآن من الحق الفطري البسيط، لما يصل القلب مباشرة بالنبع الأصيل، فيصعب أن يقف لهذا النبع الفوار، وأن يصد عنه تدفق التيار. وأن فيه من مشاهد القيامة، ومن القصص، ومن مشاهد الكون الناطقة، ومن مصارع الغابرين، ومن قوة التشخيص والتمثيل، لما يهز القلوب هزا لا تملك معه قرارا.(5/2571)
وإن السورة الواحدة لتهز الكيان الإنساني في بعض الأحيان، وتأخذ على النفس أقطارها ما لا يأخذه جيش ذو عدة وعتاد!! فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه أن لا يطيع الكافرين، وألا يتزحزح عن دعوته وأن يجاهدهم بهذا القرآن. فإنما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر، ولا يثبت لها جدال أو محال.
وبعد هذه اللفتة يعود إلى مشاهد الكون، فيعقب على مشهد الرياح المبشرة والماء الطهور، بمشهد البحار العذبة والملحة وما بينهما من حجاز:
«وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً، وَحِجْراً مَحْجُوراً» ..
وهو الذي ترك البحرين، الفرات العذب والملح المر، يجريان ويلتقيان، فلا يختلطان ولا يمتزجان إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر، ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا شذوذا. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر- وهو أضخم وأغزر- على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات. ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام.
وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغى مياه المحيطات الملحة لا على الأنهار ولا على اليابسة حتى في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي على سطح الأرض، ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما.
يقول صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده (العلم يدعو إلى الإيمان) :
«يبعد القمر عنا مسافة مائتين وأربعين ألفا من الأميال، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر. والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل إن قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة أننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مساحة المحيط كلها عدة أقدام، وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.
«والمريخ له قمر. قمر صغير. لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا، فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها. وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة، وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم.
«وإذا فرضنا أن القارات قد اكتسحت، فإن معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف. وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في أعماق المحيط السحيقة على وجه الاحتمال؟» .
ولكن اليد التي تدبر هذا الكون مرجت البحرين وجعلت بينهما برزخا وحاجزا من طبيعتهما ومن طبيعة هذا الكون المتناسق الذي تجري مقاديره بيد الصانع المدبر الحكيم، هذا الجري المقدر المنسق المرسوم.(5/2572)
ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» ..
فمن هذا الماء يتخلق الجنين: ذكرا فهو نسب، وأنثى فهو صهر، بما أنها موضع للصهر.
وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة المرأة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب.. الإنسان.. أعجب الكائنات الحية على الإطلاق! ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة، لا يدرك البشر سرها، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها. فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه المميزات.. ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا، وهذه إلى أن تكون امرأة، في نهاية المطاف! «وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» .. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها في هذا العجب العجاب! ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة.
وهذه لمحات من كتاب: «الإنسان لا يقوم وحده» عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة:
«كل خلية ذكرا أو أنثى. تحتوى على كروموزومات «1» وجينات (وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة. والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان. والسيتوبلازم «2» هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها- وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعا، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها- لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم «الكستبان» ! «وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات.
«والكستبان» الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها.
«وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، إنما يقص تاريخا مسجلا، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم.
... «لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم
__________
(1) الكروموزوم هي وحدة المادة العضوية، والعامل في نقل الصفات الوراثية.
(2) السيتوبلازم هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية.(5/2573)
تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات. تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان» .
وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. «وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» ..
وفي مثل هذا الجو. جو الخلق والتقدير. وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة. المزودة بتلك الخصائص، التي تجعل من خلية ذكرا بمميزاته كلها ووراثاته، وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها.. في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئا مستغربا مستنكرا تشمئز منه الفطرة.. وهنا يعرض عباداتهم من دون الله.
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ. وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» ..
«وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» .. كل كافر- ومشركو مكة من ضمنهم! - إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه. فكيف ذلك، وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حربا ولا ضدا على الله؟ إنه حرب على دينه. وحرب على منهجه الذي أراده للحياة. إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها، فيصوره حربا على ربه ومولاه! فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ورسالته، فلا على الرسول منه، فإنما الحرب مع الله، وهو به كفيل. ثم يطمئن الله عبده، ويخفف العبء عن عاتقه، ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار، وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين.
والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله. فليتوكل على ربه. والله أعلم بذنوب عباده! «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» ..
وبهذا يحدد واجب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وهو التبشير والإنذار. ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة. وذلك لحكمة يعلمها الله. نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة، وتعيش في نفوسهم، وتترجم في حياتهم، وتتمثل في سلوكهم، لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه. ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشا عن الإسلام، وتغلق قلوبهم دونه والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح، ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله.
على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار. إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة، ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء:
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» ..
«قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» ..
فليس للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام. ليست هناك إتاوة، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم. وهو يدخل في الجماعة المسلمة(5/2574)
بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه. وهذه ميزة الإسلام. ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته ليس هنالك «رسم دخول» ولا ثمن لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان.. ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! «إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» .. هذا وحده هو أجره.. يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه، فهو يبتغي رضاه، ويتحرى طريقه، ويتجه إلى مولاه.
«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ» ..
وكل ما عدا الله ميت، لأنه صائر إلى موت، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت. والتوكل على ميت، تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر، هو ارتكان إلى ركن ينهار، وإلى ظل يزول. إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول.. «وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ» ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب.. ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء: «وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» .
وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض، واستعلاءه على العرش:
«الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، الرَّحْمنُ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» ..
وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا. فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض. وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة: «كُنْ» فتتم الكينونة «فَيَكُونُ» .
ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو- إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي. أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ «ثُمَّ» لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء.
ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة: «الرَّحْمنُ» .. ومع الرحمة الخبرة: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء. فإذا سألت الله، فإنما تسأل خبيرا، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ: قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» ! وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم «الرَّحْمنُ» ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار. «قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟» . ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا: ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة. يعنون به مسيلمة الكذاب!(5/2575)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد الله سبحانه وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته، وعظمة خلقه، وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم.
«تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً، وَقَمَراً مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً» ..
والبروج- على الأرجح- منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة. والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين: «وَمَا الرَّحْمنُ؟» فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وفي الحقيقة وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها «سِراجاً» لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها.
وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف.
ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس، وفيهما الكفاية:
«لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» . ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس، ويخلف أحدهما أخاه، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات. بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة.
جاء في كتاب: «الإنسان لا يقوم وحده» (العلم يدعو إلى الإيمان) .
«تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة.
والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات. وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار. وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض!» فتبارك الذي خلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء فقدره تقديرا. وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» ..
[سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 77]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(5/2576)
هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه «عِبادُ الرَّحْمنِ» بصفاتهم المميزة، ومقوماتهم الخاصة وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال. بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية. وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل، والعزاء المريح لحملة الهدى فيما لاقوه من جحود وصلادة وإعراض!.
وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم «الرَّحْمنُ» فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.
«وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً» ..
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى: «يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً» أنهم يمشون متماوتين منكسي الرءوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كان إذا مشى تكفأ تكفيا، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كأنما الأرض تطوى له- وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال على بن أبي طالب- رضي الله عنه- كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع- قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة «1» .
__________
(1) عن زاد المعاد في هدى خير العباد لشمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية.(5/2577)
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً» لا عن ضعف ولكن عن ترفع ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.
هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله، والشعور بجلاله، والخوف من عذابه.
«وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ. إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» ..
والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام.
فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده.
هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام.
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلىء قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم يقولون:
«رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق.
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم.
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها! ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: «إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً» : أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا.. «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم. وأين الاستقرار وهي النار؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار! وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن:
«وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» ..
وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.(5/2578)
والمسلم- مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة- ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء- كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان:
«وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» ..
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس، ومن الزنا. تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب:
«وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» .
وتوحيد الله أساس هذه العقيدة، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد والغموض والالتواء والتعقيد، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة.
والتخرج من قتل النفس- إلا بالحق- مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء.
والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار.
ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان.. من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن. أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله. وعقب عليها بالتهديد الشديد: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» أي عذابا. وفسر هذا العذاب بما بعده «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» .. فليس هو العذاب المضاعف وحده، وإنما هي المهانة كذلك، وهي أشد وأنكى.
ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح:
«إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال، وثاب إلى حمى الله، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة. «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
وباب التوبة دائما مفتوح، يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب. لا يصد عنه(5/2579)
قاصد، ولا يغلق في وجه لاجىء، أيا كان، وأيا ما ارتكب من الآثام.
روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة، أنه أتى النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: «أسلمت؟» فقال: نعم. قال: «فافعل الخيرات واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها» قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: «نعم» . فما زال يكبر حتى توارى.
ويضع قاعدة التوبة وشرطها: «وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» .. فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية. وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية. فالمعصية عمل وحركة، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع. وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة. ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى! وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات «عِبادُ الرَّحْمنِ» :
«وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» ..
وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر: «وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل.
ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، مفتوحو القلوب لآيات الله، يتلقونها بالفهم والاعتبار:
«وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» .
وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور. وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى. فأما عباد الرحمن، فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا، لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم فتقر بهم عيونهم،(5/2580)
وتطمئن بهم قلوبهم، ويتضاعف بهم عدد «عِبادُ الرَّحْمنِ» ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه:
«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» ..
وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال. والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير، يأتم به الراغبون في الله. وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله.
فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان:
«أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً، خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» ..
والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة، أو المكان الخاص في الجنة، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض، عند ما يستقبلون الأضياف. وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات. وهو تعبير ذو دلالة.
فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس، ومغريات الحياة، ودوافع السقوط. والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر. الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان.
وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقرا ومقاما، يجزيهم الله الجنة «خالِدِينَ فِيها. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله. وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام.
والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام.
«قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» ..
وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها ومساقها للتسرية عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون.. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله. وتتضرع إليه.
كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟
من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل. والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض. والأمة واحدة من أمم هذه الأرض. والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟
وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه! وهو هين هين، ضعيف ضعيف، قاصر قاصر. إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان. فضلا من الله الذي كرم هذا(5/2581)
الإنسان وأسجد له الملائكة، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة وإلا فهو لقي ضائع، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان! «قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ» .. وفي التعبير سند للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وإعزاز: «قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي» . فأنا في جواره وحماه. هو ربي وأنا عبده. فما أنتم بغير الإيمان به، والانضمام إلى عباده؟
إنكم حصب جهنم «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» ..(5/2582)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
(26) سورة الشّعراء مكيّة وآياتها سبع وعشرون ومائتان
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعا.. العقيدة.. ملخصة في عناصرها الأساسية:
توحيد الله: «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» .. والخوف من الآخرة: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. والتصديق بالوحي المنزل على محمد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ..
ثم التخويف من عاقبة التكذيب، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين: «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ! .. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .
ذلك إلى تسلية الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين وتثبيتهم على العقيدة مهما أو ذوا في سبيلها من الظالمين كما ثبت من قبلهم من المؤمنين.
وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها. والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب. والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة، تعبر عن موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة، تلتقي عند هدف واحد.. ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض.(5/2583)
ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب، والعذاب الذي يتبع التكذيب.
ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- واستهزاءهم بالنذر، وإعراضهم عن آيات الله، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به مع التقول على الوحي والقرآن والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين! والسورة كلها شوط واحد- مقدمتها وقصصها وتعقيبها- في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار:
«طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..
طا. سين. ميم.. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين- ومنها هذه السورة- مؤلفة من مثل هذه الأحرف وهي في متناول المكذبين بالوحي وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.
وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم فيسليه ويهون عليه الأمر ويستكثر ما يعانيه من أجلهم وقد كان الله قادرا على أن يلوي أعناقهم كرها إلى الإيمان، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسرا:
«لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ! إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» .
وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه- صلّى الله عليه وسلّم- وهمه بعدم إيمانهم: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم- وهم أهله وعشيرته وقومه- ويضيق صدره. فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا، ولا انصرافا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون! ولكنه- سبحانه- لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزا في كل ناحية:
معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزا في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها.. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن(5/2584)
إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم.
معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة- ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم- ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها.
وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب.
لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعا يشهد.. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم- لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم- ويلبي حاجاتهم كاملة ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى.
فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين:
«وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» ..
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحا كريها وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها! ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه:
«فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارا. إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخبارا فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب! وإنهم يطلبون آية خارقة ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض، وجعله زوجا ذكرا وأنثى، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد.. هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة: «أَوَلَمْ يَرَوْا!» والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟
والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون وينبه الحس الخامد، والذهن البليد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي يشاهد الله في بدائع صنعه، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه ويتصل به في كل مخلوقاته(5/2585)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ويشعر أنه هو واحد من عباده، متصل بمخلوقاته، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعا. وله دوره الخاص في هذا الكون، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» ..
كريم بما فيه من حياة، صادرة من الله الكريم.. واللفظ يوحي إلى النفس باستقبال صنع الله بما يليق من التكريم والحفاوة والاحتفال لا بالاستهانة والغفلة والإغفال. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً» . وهم يطلبون الآيات. ولكن أكثرهم لا يؤمن بهذه الآية: «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ! وتنتهي مقدمة السورة بالتعقيب الذي يتكرر في السورة بعد استعراض كل آية:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
«الْعَزِيزُ» القوي القادر على إبداع الآيات، وأخذ المكذبين بالعذاب «الرَّحِيمُ» الذي يكشف عن آياته، فيؤمن بها من يهتدي قلبه ويمهل المكذبين فلا يعذبهم حتى يأتيهم نذير. وفي آيات الكون غنى ووفرة، ولكن رحمته تقتضي أن يبعث بالرسل للتبصير والتنوير. والتبشير والتحذير.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 68]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(5/2586)
هذه الحلقة من قصة موسى- عليه السّلام- تجيء في هذه السورة متناسقة مع موضوع السورة، ومع اتجاهها إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة وإلى طمأنة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتعزيته عما يلقاه من(5/2587)
إعراض المشركين وتكذيبهم وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل- وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة- وقد كان القصص إحدى وسائل التربية القرآنية في القرآن الكريم.
وقد وردت حلقات من قصة موسى- عليه السّلام- حتى الآن في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه. عدا إشارات إليها في سور أخرى.
وفي كل مرة كانت الحلقات التي تعرض منها أو الإشارات متناسقة مع موضوع السورة، أو السياق الذي تعرض فيه، على نحو ما هي في هذه السورة وكانت تشارك في تصوير الموضوع الذي يهدف إليه السياق «1» .
والحلقة المعروضة هنا هي حلقة الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب، وعقابا على ائتماره بموسى ومن معه من المؤمنين. ونجاة موسى وبني إسرائيل من كيد الظالمين. وفي هذا تصديق قول الله سبحانه في هذه السورة عن المشركين: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .. وقوله: «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وهذه الحلقة مقسمة إلى مشاهد استعراضية، بينها فجوات بمقدار ما يسدل الستار على المشهد، ثم يرفع عن المشهد الذي يليه. وهي ظاهرة فنية ملحوظة في طريقة العرض القرآنية للقصة «2» .
وهنا سبعة مشاهد: أولها مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى- عليه السّلام- وربه. وثانيها مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه برسالته وآيتي العصا واليد البيضاء. وثالثها مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى. ورابعها مشهد السحرة بحضرة فرعون يطمئنون على الأجر والجزاء! وخامسها مشهد المباراة ذاته وإيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده. وسادسها مشهد ذو شقين: الشق الأول مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا، والثاني مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل. وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر ونهايته من انفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.
وقد عرضت هذه المشاهد في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه. ولكنها عرضت في كل موضع من الجانب الذي يناسب ذلك الموضع، وبالطريقة التي تنفق مع اتجاهه، وكان التركيز فيها على نقط معينة هنا وهناك.
ففي الأعراف مثلا بدأ بمشهد المواجهة بين موسى وفرعون مختصرا، ومر بمشهد السحرة ونهايته سريعا، بينما وسع في عرض مؤامرات فرعون وملئه بعد ذلك، وعرض آيات موسى مدة إقامته في مصر بعد المباراة قبل مشهد الغرق والنجاة. واستطرد بعد ذلك مع بني إسرائيل بعد مجاوزتهم البحر في حلقات كثيرة.. واختصر هذا هنا فلم يشر إليه. بينما وسع في مشهد الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله سبحانه ووحيه إلى رسوله وهو موضوع الجدل في هذه السورة بين المشركين والنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي يونس بدأ بمشهد المواجهة مختصرا لم يعرض فيه آيتي العصا واليد، واختصر كذلك في مشهد المباراة.
بينما توسع هنا في كليهما.
وفي سورة طه توسع في مشهد المناجاة الأول بين موسى وربه. واستطرد بعد مشهدي المواجهة والمباراة
__________
(1) تراجع ص 2329- 2331 من الجزء السادس عشر من الظلال. وفصل: القصة في القرآن في كتاب التصوير الفني في القرآن
. (2) فصل: القصة في القرآن. في كتاب التصوير الفني في القرآن. «دار الشروق» .(5/2588)
فصاحب بني إسرائيل في رحلتهم طويلا. ولم يجاوز هنا مشهد الغرق والنجاة.
وكذلك لا نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن. لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض، ومشاهد كل حلقة، والجانب الذي يختار من كل مشهد، وطريقة عرضه..
كل أولئك يجعلها جديدة في كل موضع. متناسقة مع هذا الموضع.
«وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ. أَلا يَتَّقُونَ؟ قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. قالَ: كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
الخطاب لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بهذا القصص، بعد ما قال له في مطلع السورة: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. ثم أخذ يقص عليه أنباء المكذبين المعرضين المستهزئين، وما حاق بهم من العذاب الأليم.
«وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ. أَلا يَتَّقُونَ؟» ..
وهذا هو المشهد الأول: مشهد التكليف بالرسالة لموسى- عليه السّلام- وهو يبدأ بإعلان صفة القوم:
«الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» فقد ظلموا أنفسهم بالكفر والضلال، وظلموا بني إسرائيل بما كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ويعذبونهم بالسخرة والنكال.. لذلك يقدم صفتهم ثم يعينهم «قَوْمَ فِرْعَوْنَ» ثم يعجب موسى من أمرهم ويعجب كل إنسان: «أَلا يَتَّقُونَ؟» ألا يخشون ربهم؟ ألا يخافون مغبة ظلمهم؟ ألا يرجعون عن غيهم؟ ألا إن أمرهم لعجيب يستحق التعجيب! وكذلك كل من كان على شاكلتهم من الظالمين! ولم يكن أمر فرعون وملئه جديدا على موسى- عليه السّلام- فهو يعرفه، ويعرف ظلم فرعون وعتوه وجبروته، ويدرك أنها مهمة ضخمة وتكليف عظيم. ومن ثم يشكو إلى ربه ما به من ضعف وقصور لا ليتنصل أو يعتذر عن التكليف، ولكن ليطلب العون والمساعدة في هذا التكليف العسير.
«قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» .
والظاهر من حكاية قوله- عليه السّلام- أن خوفه ليس من مجرد التكذيب، ولكن من حصوله في وقت يضيق فيه صدره ولا ينطلق لسانه فلا يملك أن يبين، وأن يناقش هذا التكذيب ويفنده. إذ كانت بلسانه حبسة هي التي قال عنها في سورة طه: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» ومن شأن هذه الحبسة أن تنشئ حالة من ضيق الصدر، تنشأ من عدم القدرة على تصريف الانفعال بالكلام. وتزداد كلما زاد الانفعال، فيزداد الصدر ضيقا.. وهكذا.. وهي حالة معروفة. فمن هنا خشي موسى أن تقع له هذه الحالة وهو في موقف المواجهة بالرسالة لظالم جبار كفرعون. فشكا إلى ربه ضعفه وما يخشاه على تبليغ رسالته، وطلب إليه أن يوحي إلى هارون أخيه، ويشركه معه في الرسالة اتقاء للتقصير في أداء التكليف، لا نكوصا ولا اعتذارا عن التكليف. فهارون أفصح لسانا ومن ثم هو أهدأ انفعالا فإذا أدركت موسى حبسة أو ضيق نهض هارون بالجدل والمحاجة والبيان. ولقد دعا موسى ربه- كما ورد في سورة طه- ليحل هذه العقدة من لسانه، ولكنه زيادة في الاحتياط للنهوض بالتكليف طلب معه أخاه هارون وزيرا ومعينا..(5/2589)
وكذلك الشأن في قوله: «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» .. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون. حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.
فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية. الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة. والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى- عليه السّلام- الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه.
ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف. والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة، ومرحلة الإرسال إلى هارون، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى وينفي مخاوفة نفيا شديدا، في لفظة تستخدم أصلا للردع وهي كلمة «كَلَّا» ! «قالَ: كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ. فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» .
كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك. وكلا لن يقتلوك. فأبعد هذا كله عن بالك بشدة. واذهب أنت وأخوك. «فَاذْهَبا بِآياتِنا» وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء- والسياق يختصر هما هنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان.
ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد. فهو يرسمها في صورة الاستماع. الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه. وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة. وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
اذهباَأْتِيا فِرْعَوْنَ»
فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج: َقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة. فهما رسول. رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية، ويقول لقومه: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.
«إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» . وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى- عليه السّلام- في القرآن، أنه لم يكن رسولا إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل- وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام- فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد.
وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف. ولكن الستار يسدل. لنجدنا أمام مشهد المواجهة.
وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية:
«قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ؟(5/2590)
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
. ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» . فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيبا في قصره منذ أن التقطوا تابوته «1» . وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي «2» . وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكما مستهزئا مستعجبا:
«قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ..
فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟
ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! وما بالك- وقد لبثت فينا من عمرك سنين- لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟! ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» .. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها «وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك موسى- عليه السّلام- معه جوابا، ولا يستطيع مقاومة.
وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء الكلمات! ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه- انطلق- يجيب:
«قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ! ..
فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فلست بدعا من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل «مِنَ الْمُرْسَلِينَ» «3» .
ثم يجيبه تهكما بتهكم. ولكن بالحق «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
__________
(1) سورة طه. الجزء السادس عشر من الظلال.
(2) سورة القصص.
(3) يلاحظ من ناحية التنسيق الفني في التعبير أن حرف الفاصلة في السورة هو الميم أو النون وقبلها مد. فقوله: من المرسلين. يتمشى موسيقيا مع الإيقاع السائد في السورة. بعكس ما لو قيل: وجعلني رسولا. ولكنه مع هذا يؤدي معنى مقصودا. وهو أنه واحد من كثيرين وأن الأمر ليس بفذ ولا عجيب. وهكذا يجتمع التناسق الفني والديني في التعبير.(5/2591)
عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم:
«قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» ..
إنه- قبحه الله- يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث! فيجيبه موسى- عليه السّلام- بالصفة المشتملة على ربوبيته- تعالى- للكون المنظور كله وما فيه:
«قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» ..
وهو جواب يكافىء ذلك التجاهل ويغطيه.. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك- يا فرعون- ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل. وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى- عليه السّلام- يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه.. فهو رب العالمين! .. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته «1» : «إن كنتم موقنين» فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.
والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب:
«قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟» ..
ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه! ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.
«قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ..
وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده.
لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين.
فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين! وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون:
«قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ..
إن رسولكم الذي أرسل إليكم.. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى- عليه السّلام- بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.
ولكن هذا الهتكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين:
__________
(1) لم يكن موسى يتكلم العربية. فقد كان يخاطب فرعون باللغة المصرية طبعا. ولكن القرآن يحكي قوله. [.....](5/2592)
«قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» ..
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافية إيقاظا. وموسى- عليه السّلام- يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير: «إن كنتم تعقلون» ..
والطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة ولا ينقم على أحدكما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عند ما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عند ما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:
«قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ «1» » ..
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد! غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه.. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد:
«قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» ..
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إخراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون.. ومن ثم وجد نفسه مضطرا أن يطلب منه الدليل:
«قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
إن كنت من الصادقين في دعواك أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئا مبينا. فهو ما يزال يشكك في موسى، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئا.
هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه:
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» ..
والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلا إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا.
يدل على هذا بقوله: «فإذا هي» فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.
ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها
__________
(1) يقال هنا ما قيل من قبل في قوله: «من المرسلين» .(5/2593)
بالا، لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فأما في مثل هذا المشهد. وموسى- عليه السّلام- يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب.
وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة:
«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟» ..
وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحرا فهو يصف صاحبها بأنه ساحر «عليم» . ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به: «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ» . ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها، فيطلب أمرهم ومشورتهم: «فماذا تأمرون؟» ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون! وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر.
ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى.
ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون! وأشار عليه الملأ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول.. أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد:
«قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» ..
أي أمهله وأخاه إلى أجل وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى. يجمعون السحرة المهرة، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه.
وهنا يسدل الستار على هذا المشهد ليرفع على مشهد السحرة يحشدون، والناس يجمعون للمباراة، وتبث فيهم الحماسة للسحرة ومن خلفهم من أصحاب السلطان وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل، أو بين الإيمان والطغيان.
«فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ؟» ..
وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير: «هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ؟» هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور، دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون، ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات، ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس. وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السّلام! ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين(5/2594)
ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم! «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ..
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان.
وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله! ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام:
«قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ، فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
ويبدأ المشهد هادئا عاديا. إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن، المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة، ووراءهم فرعون وملؤه، وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة.. يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون:
«قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» ..
وفي التعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: «ألقوا ما أنتم ملقون» .. بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام.
وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته:
«فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ..
ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم، كما فصله في سورة الأعراف وطه، ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق، وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل لأن هذا هو هدف السورة الأصيل.
«فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» ..
ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه. وهم جمع كثير. محشود من كل مكان. وموسى وحده، وليس معه إلا عصاه. ثم إذا هي تلقف ما يأفكون واللقف أسرع حركة للأكل. وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا، ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا. فلا تبقي لها أثرا. ولو كان ما جاء به موسى سحرا، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها. ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا! عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا. وهم أعرف الناس بأنه الحق:
َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ»
..
وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم، ولم يكونوا أصحاب عقيدة(5/2595)
ولا قضية. ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا. لقد كانت هزة رجتهم رجا، وخضتهم خضا ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضلال، وجعلتها صافية حيه خاشعة للحق، عامرة بالإيمان، في لحظات قصار. فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا، بغير إرادة منهم، تتحرك ألسنتهم، فتنطلق بكلمة الإيمان، في نصاعة وبيان: «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» .
وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا. وصدق رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» «1» .
وهكذا انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين. على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه. لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج، ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول.
ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه. فالجماهير حاشدة. وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة. عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره، ويريد أن يجعل الحكم لقومه وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه.. ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته. ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله، ويخلعون عنهم عبادة فرعون، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته، وانتظروا أجره، واستفتحوا بعزته! وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش. أسطورة الألوهية، أو بنوته للآلهة- كما كان شائعا في بعض العصور- وهؤلاء هم السحرة. والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها. ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها. فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما.
إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملأ من حوله، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين.
عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال. بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى! «قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
«آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» .. لم يقل آمنتم به. إنما عده استسلاما له قبل إذنه. على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته، عارف بهدفه، مقدر لعاقبته. ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم.
ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير:
«إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة- وهم من الكهنة- كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه، أو كان يختلف إليهم في المعابد. فارتكن فرعون إلى
__________
(1) أخرجه الشيخان.(5/2596)
هذه الصلة البعيدة، وقلب الأمر فبدلا من أن يقول: إنه لتلميذكم قال: إنه لكبيركم. ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير! ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين:
«فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة، بلا تحرج من قلب أو ضمير.. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول..
فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور! إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان. القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان. القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير:
«قالُوا: لا ضَيْرَ. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
لا ضير. لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف «1» . لا ضير في التصليب والعذاب. لا ضير في الموت والاستشهاد.. لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. وليكن في هذه الأرض ما يكون: فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه «أن يغفر لنا ربنا خطايانا» جزاء «أن كنا أول المؤمنين» .. وأن كنا نحن السابقين..
يا لله! يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر. وإذ يفيض على الأرواح. وإذ يكسب الطمأنينة في النفوس.
وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين. وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر، فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد.
هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة. لا يزيد شيئا. ليبقى للمشهد جلاله الباهر وإيقاعه العميق.
وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب.
فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين. وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ.. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ..
وهنا فجوة في الوقائع والزمن لا تذكر في هذا الموضع. فقد عاش موسى وبنو إسرائيل فترة بعد المباراة، وقعت فيها الآيات الأخرى المذكورة في سورة الأعراف «2» قبل أن يوحي الله لموسى بالرحيل بقومه. ولكن السياق هنا يطويها ليصل إلى النهاية المناسبة لموضوع السورة واتجاهها الأصيل.
لقد أوحى الله إلى موسى إذن أن يسري بعباده، وأن يرحل بهم ليلا، بعد تدبير وتنظيم. ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده وأمره أن يقود قومه إلى ساحل البحر (وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات) وعلم فرعون بخروج بني إسرائيل خلسة، فأمر بما يسمى «التعبئة العامة» وأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له الجنود، ليدرك موسى وقومه ويفسد عليهم تدبيرهم وهو لا يعلم أنه تدبير صاحب التدبير! وانطلق عملاء فرعون يجمعون الجند.. ولكن هذا الجمع قد يشي بانزعاج فرعون، وبقوة موسى ومن معه
__________
(1) اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، واليد اليسرى مع الرجل اليمنى.
(2) الجزء التاسع من الظلال ص 1356- 1359.(5/2597)
وعظم خطرهم، حتى ليحتاج الملك الإله- بزعمه! - إلى التعبئة العامة. ولا بد إذن من التهوين من شأن المؤمنين:
«إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» ! ففيم إذن ذلك الاهتمام بأمرهم، والاحتشاد لهم، وهم شرذمة قليلون! «وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» ..
فهم يأتون من الأفعال والأقوال ما يغيظ ويغضب ويثير! وإذن فلهم شأن وخطر على كل حال! فليقل العملاء: إن هذا لا يهم فنحن لهم بالمرصاد:
«وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ..
مستيقظون لمكائدهم، محتاطون لأمرهم، ممسكون بزمام الأمور! إنها حيرة الباطل المتجبر دائما في مواجهة أصحاب العقيدة المؤمنين! وقبل أن يعرض المشهد الأخير، يعجل السياق بالعاقبة الأخيرة من إخراج فرعون وملئه مما كانوا فيه من متاع. ووراثة بني إسرائيل المستضعفين:
«فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ، وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكانت خرجتهم هذه هي الأخيرة. وكانت إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم! لذلك يذكر هذا المصير الأخير عقب خروجهم يقفون أثر المؤمنين. تعجيلا بالجزاء على الظلم والبطر والبغي الوخيم.
«وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
ولا يعرف أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه. لذلك يقول المفسرون: إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه. فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.
وبعد هذا الاعتراض يجيء المشهد الحاسم الأخير:
«فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» ..
لقد أسرى موسى بعباد الله، بوحي من الله وتدبير. فأتبعهم جنود فرعون في الصباح بمكر من فرعون وبطر.
ثم ها هو ذا المشهد يقترب من نهايته. والمعركة تصل إلى ذروتها.. إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين. وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم:
«قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» ..
وبلغ الكرب مداه، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين!(5/2598)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون. فهي لا بد كائنة والله هو الذي يوجهه ويرعاه.
«قالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ..
كلا. في شدة وتوكيد. كلا لن نكون مدركين. كلا لن نكون هالكين. كلا لن نكون مفتونين. كلا لن نكون ضائعين «كلا إن معي ربي سيهدين» بهذا الجزم والتأكيد واليقين.
وفي اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب، وينفتح طريق النجاة من حيث لا يحتسبون:
«فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» ..
ولا يتمهل السياق ليقول إنه ضرب بعصاه البحر. فهذا مفهوم. إنما يعجل بالنتيجة:
«فَانْفَلَقَ. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ..
ووقعت المعجزة، وتحقق الذي يقول عنه الناس: مستحيل. لأنهم يقيسون سنة الله على المألوف المكرور.
والله الذي خلق السنن قادر على أن يجريها وفق مشيئته عند ما يريد.
وقعت المعجزة وانكشف بين فرقي الماء طريق. ووقف الماء على جانبي الطريق كالطود العظيم. واقتحم بنو إسرائيل..
ووقف فرعون مع جنوده مبغوتا مشدوها بذلك المشهد الخارق، وذلك الحادث العجيب.
ولا بد أن يكون قد وقف مبهوتا فأطال الوقوف- وهو يرى موسى وقومه يعبرون الخضم في طريق مكشوف- قبل أن يأمر جنوده بالاقتحام وراءهم في ذلك الطريق العجيب.
وتم تدبير الله. فخرج بنو إسرائيل من الشاطئ الآخر، بينما كان فرعون وجنوده بين فرقي الماء أجمعين.
وقد قربهم الله لمصيرهم المحتوم:
«وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» ..
«ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» !!! ومضت آية في الزمان، تتحدث عنها القرون. فهل آمن بها الكثيرون؟
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» .
فالآيات الخارقة لا تستتبع الإيمان حتما. وإن خضع لها الناس قسرا. إنما الإيمان هدي في القلوب.
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
التعقيب المعهود في السورة بعد عرض الآيات والتكذيب..
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)(5/2599)
مضت قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه وانتهت بتلك النهاية، وفيها البشرى للمؤمنين المستضعفين المضطهدين- كما كانت القلة المؤمنة يومذاك في مكة- وفيها الدمار للظالمين المتجبرين الذين يشبه موقفهم موقف المشركين.
فالآن تتبعها قصة إبراهيم- عليه السّلام- وقومه. ويؤمر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أن يتلوها على المشركين. ذلك أنهم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم، وأنهم على دينه القديم وهم يشركون بالله، ويقيمون الأصنام لعبادتها في بيته الحرام، الذي بناه إبراهيم خالصا لله.. فاتل عليهم نبأ إبراهيم ليتبينوا منه حقيقة ما يزعمون.
والقصص في هذه السورة لا يتبع الخط التاريخي، لأن العبرة وحدها هي المقصودة. فأما في سورة الأعراف مثلا فقد كان الخط التاريخي مقصودا، لعرض خط وراثة الأرض، وتتابع الرسل من عهد آدم- عليه السّلام- فمضى القصص فيها يتبع خط التاريخ، منذ الهبوط من الجنة، وبدء الحياة البشرية.
والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم- عليه السّلام- هي حلقة الرسالة إلى قومه، وحواره معهم حول العقيدة، وإنكار الآلهة المدعاة، والاتجاه بالعبادة إلى الله. والتذكير باليوم الآخر. يعقب هذا مشهد كامل من مشاهد القيامة، يتنكر فيه العباد للآلهة، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه. كأنهم قد صاروا فعلا إلى ما هم فيه! وهنا عبرة القصة للمشركين.. ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة(5/2600)
التوحيد، وفساد عقيدة الشرك ومصير المشركين في يوم الدين. لأن التركيز متجه إليها. ويختصر ما عدا ذلك مما يفصله في سور أخرى.
وقد وردت حلقات من قصة إبراهيم- عليه السّلام- في البقرة، والأنعام، وهود، وإبراهيم، والحجر، ومريم، والأنبياء، والحج. وكانت في كل سورة مناسبة لسياقها العام. وعرض منها ما يتفق مع موضوع السورة وجوها وظلها.
عرضت في سورة البقرة حلقة بنائه للبيت هو وإسماعيل، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمنا، وإعلانه أن وراثة البيت ووراثة بانيه إنما هي للمسلمين، الذين يتبعون ملته، لا لمن يدعون بالنسب وراثته. وكان هذا بصدد مخالفات بني إسرائيل، وطردهم ولعنهم، وتوريث دين إبراهيم وبيته للمسلمين..
وعرضت كذلك حلقة محاجته للملك الكافر في صفة الله الذي يحيي ويميت، والذي يأتي بالشمس من المشرق، وتحديه للملك أن يأتي بها من المغرب. فبهت الذي كفر.
كما عرضت حلقة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وأمره بذبح أربعة من الطير، وتوزيع أشلائهن على الجبال، ثم إحياؤها بين يديه، فجاءت تسعى إليه.
وهذا وذلك في معرض الحديث في السورة، عن آيات الله وقدرته على الإماتة والإحياء.
وعرضت في الأنعام حلقة بحثه عن ربه، واهتدائه إليه، بعد تأمل في النجوم والقمر والشمس، وتتبع مشاهد الكون. وكان ذلك في السورة التي تدور حول العقيدة، وآيات الله في الكون، ودلالتها على الصانع المبدع الذي لا شريك له.
وعرضت في سورة هود حلقة تبشيره بإسحاق، وكان ذلك في سياق قصة لوط، ومرور الملائكة المكلفين تدمير قريته في طريقهم بإبراهيم. وفيها تبدو رعاية الله للمختارين من عباده وتدمير الفاسقين.
وعرضت في سورة إبراهيم حلقة دعائه بجوار البيت المحرم لمن أسكنه من ذريته بواد غير زرع وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته، وأن يقبل دعاءه، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.. وكان سياق السورة كله هو عرض أمة الرسل برسالة واحدة، هي التوحيد وعرض المكذبين بأمة الرسل صفا واحدا كذلك وكأنما الرسالة شجرة ظليلة في هجير الكفر وصحراء الجحود! وعرضت في سورة الحجر الحلقة التي عرضت في سورة هود مع شيء من التفصيل، في صدد ذكر رحمة الله بعباده المؤمنين، وعذابه للعصاة المذنبين.
وعرضت في سورة مريم حلقة دعوته في رفق لأبيه، وغلظة أبيه عليه، واعتزاله لأبيه وقومه، وهبة إسماعيل وإسحاق له. وذلك في السورة التي تعرض رعاية الله للمصطفين من عباده. وجوها كله تظلله الرحمة والود واللين.
وعرضت في سورة الأنبياء حلقة دعوته لأبيه وقومه، وزرايته على أصنامهم. وتحطيم هذه الأصنام، وإلقائه في النار التي كانت بردا وسلاما عليه بأمر الله، ونجاته هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين.
وذلك في صدد استعراض أمة الرسل، ورعاية الله لهذه الأمة واتجاهها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس له شريك.
ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين..(5/2601)
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما تَعْبُدُونَ؟» ..
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: «ما تعبدون؟» .
«قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» ! وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبىء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم! ويأخذ إبراهيم- عليه السّلام- يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟» فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه! ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير:
«قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» ..
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم- على حلمه وأناته- إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! «قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم- وهم آباؤه- الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون.
واستثنى إبراهيم «رب العالمين» من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف وقد يكون من عبد الله ولكن(5/2602)
أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران بإبراهيم- عليه السّلام- في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.
ثم يأخذ إبراهيم- عليه السّلام- في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة، والصلة الندية، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة، وفي كل حاجة وغاية.
«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» ..
ونستشعر من صفة إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجه إليه في حب وأنه يصفه كأنه يراه، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه.. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد..
«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ» .. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم فهو أعلم بماهيتي وتكويني، ووظائفي ومشاعري، وحالي ومآلي: «فَهُوَ يَهْدِينِ» إليه، وإلى طريقي الذي أسلكه، وإلى نهجي الذي أسير عليه.
وكأنما يحس إبراهيم- عليه السّلام- أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين.
«وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» .. فهي الكفالة المباشرة الحانية الراعية، الرفيقة الودود، يحس بها إبراهيم في الصحة والمرض. ويتأدب بأدب النبوة الرفيع، فلا ينسب مرضه إلى ربه- وهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح- إنما يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه.. ويشفيه..
ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه.
«وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ» .. فهو الإيمان بأن الله هو الذي يقضي الموت، وهو الإيمان بالبعث والنشور في استسلام ورضى عميق.
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» .. فأقصى ما يطمع فيه إبراهيم- عليه السّلام- النبي الرسول، الذي يعرف ربه هذه المعرفة، ويشعر بربه هذا الشعور، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى.. أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين. فهو لا يبرئ نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئا، إلا أنه يطمع في فضل ربه، ويرجو في رحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة.
إنه شعور التقوى، وشعور الأدب، وشعور التحرج وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.
وهكذا يجمع إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة: توحيد الله رب العالمين. والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شؤون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعد الموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه، وينكرها المشركون.
ثم يأخذ إبراهيم الأواه المنيب في دعاء رخي مديد، يتوجه به إلى ربه في إيمان وخشوع «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ.(5/2603)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»
..
والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه. والذي ذاق فهو يطلب المزيد والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد.
«رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» .. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى.
«وألحقني بالصالحين» .. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين! «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» .. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيرا لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» » .. وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه.
«وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وقد دعا ربه- من قبل- أن يلحقه بالصالحين، بتوفيقه إلى العمل الصالح، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون.
«وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم- عليه السّلام- من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه «فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه» وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة.. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة.
«وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. ونستشف من قولة إبراهيم- عليه السّلام-: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» مدى شعوره بهول اليوم الآخر ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي-
__________
(1) الآيات 127، 128، 129 من سورة البقرة.(5/2604)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
تجعل له قيمة ووزنا «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير! وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه إبراهيم، فكأنما هو حاضر، ينظر إليه ويراه، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب:
«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ. وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!» .
لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون. حيث يسمعون التقريع والتأنيب، قبل أن يكبكبوا في الجحيم.. إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله- وذلك تساوق مع قصة إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون- إنهم ليسألون اليوم: «أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟» أين هم «هل ينصرونكم أو ينتصرون؟» ثم لا يسمع منهم جواب، ولا ينتظر منهم جواب.
إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» . كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون، وقد كبكب معهم جميع الغاوون هم «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» . والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص.
ثم نستمع إليهم في الجحيم.. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام: «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان. وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» فلا آلهة تشفع، ولا صداقات تنفع.. وإذا لم تكن شفاعة فيما مضى أفلا رجعة إلى الدنيا لنصلح ما فاتنا فيها؟ «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ! وما هو إلا التمني. فلا رجعة ولا شفاعة فهذا يوم الدين! ثم يجيء التعقيب المعهود: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
وهو نفس التعقيب الذي جاء في السورة بعد عرض مصارع عاد وثمود وقوم لوط. كما جاء تعقيبا على كل آية من آيات الله وقعت للمكذبين. فهذا المشهد من مشاهد القيامة عوض في سياق السورة عن مصارع المكذبين في الدنيا. إذ يصور نهاية قوم إبراهيم. ونهاية الشرك كافة. وهو موضع العبرة في قصص السورة جميعا. ومشاهد القيامة في القرآن تعرض كأنها واقعة، وكأنما تشهدها الأبصار حين تتلى، وتتملاها المشاعر، وتهتز بها الوجدانات.
كالمصارع التي تمت على أعين الناس وهم يشهدون.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)(5/2605)
كما رجع السياق القهقرى في التاريخ من قصة موسى إلى قصة إبراهيم، كذلك يرجع القهقرى من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. إن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب وقصة نوح، كقصة موسى وقصة إبراهيم، تعرض في سور شتى من القرآن. وقد عرضت من قبل في سورة «الأعراف» في الخط التاريخي للرسل والرسالات بعد هبوط آدم من الجنة عرضا مختصرا، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلا منهم، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل.
وعرضت في سورة يونس باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه.. ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين.
وعرضت في سورة «هود» بتفصيل في قصة الطوفان والفلك وما بعد الطوفان كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين. وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال حول عقيدة التوحيد.
وعرضت في سورة «المؤمنون» فذكر منها دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون. ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته.
وإشارة سريعة إلى الفلك والطوفان.
وهي تعرض في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين- وكذلك هي في هذه السورة- وأظهر ما في الحلقة المعروضة هنا دعوته لقومه إلى تقوى الله، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء- وهذا ما كان يواجهه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في مكة سواء بسواء- ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه. واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين.
«كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» ..
تلك هي النهاية. نهاية القصة. يبدأ بها لإبرازها منذ البداية. ثم يأخذ في التفصيل.(5/2606)
وقوم نوح لم يكذبوا إلا نوحا. ولكنه يذكر أنهم كذبوا المرسلين. فالرسالة في أصلها واحدة، وهي دعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبودية له. فمن كذب بها فقد كذب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين.
والقرآن يؤكد هذا المعنى ويقرره في مواضع كثيرة، بصيغ متعددة، لأنه كلية من كليات العقيدة الإسلامية، تحتضن بها الدعوات جميعا وتقسم بها البشرية كلها إلى صفين: صف المؤمنين وصف الكافرين، على مدار الرسالات ومدار القرون. وينظر المسلم فإذا الأمة المؤمنة لكل دين وكل عقيدة من عند الله هي أمته، منذ فجر التاريخ إلى مشرق الإسلام دين التوحيد الأخير. وإذا الصف الآخر هم الكفار في كل ملة وفي كل دين. وإذا المؤمن يؤمن بالرسل جميعا، ويحترم الرسل جميعا، لأنهم جميعهم حملة رسالة واحدة هي رسالة التوحيد.
إن البشرية لا تنقسم في تقدير المسلم إلى أجناس وألوان وأوطان. إنما تنقسم إلى أهل الحق وأهل الباطل.
وهو مع أهل الحق ضد أهل الباطل. في كل زمان وفي كل مكان. وهكذا يتوحد الميزان في يد المسلم على مدار التاريخ كله وترتفع القيم في شعوره عن عصبية الجنس واللون واللغة والوطن، والقرابات الحاضرة أو الموغلة في بطن التاريخ. ترتفع فتصبح قيمة واحدة. هي قيمة الإيمان يحاسب بها الجميع، ويقوّم بها الجميع.
«كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» .
هذه هي دعوة نوح التي كذبه فيها قومه- وهو أخوهم- وكان الأليق بالأخوة أن تقود إلى المسالمة والاطمئنان والإيمان والتصديق. ولكن قومه لم يأبهوا لهذه الصلة، ولم تلن قلوبهم لدعوة أخيهم نوح إذ قال لهم: «أَلا تَتَّقُونَ؟» وتخافون عاقبة ما أنتم فيه؟ وتستشعر قلوبكم خوف الله وخشيته؟
وهذا التوجيه إلى التقوى مطرد في هذه السورة. فهكذا قال الله عن فرعون وقومه لموسى وهو يكلفه التوجه إليهم. وهكذا قال نوح لقومه. وهكذا قال كل رسول لقومه من بعد نوح:
«إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» .. لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئا أو ينقص شيئا مما كلفه من التبليغ.
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» .. وهكذا يعود إلى تذكيرهم بتقوى الله، ويحددها في هذه المرة، وينسبها إلى الله تعالى، ويستجيش بها قلوبهم إلى الطاعة والتسليم.
ثم يطمئنهم من ناحية الدنيا وأعراضها، فما له فيها من أرب بدعوتهم إلى الله، وما يطلب منهم أجرا جزاء هدايتهم إليه، فهو يطلب أجره من رب الناس الذي كلفه دعوة الناس. وهذا التنبيه على عدم طلب الأجر يبدو أنه كان دائما ضروريا للدعوة الصحيحة، تمييزا لها مما عهده الناس في الكهان ورجال الأديان من استغلال الدين لسلب أموال العباد. وقد كان الكهنة ورجال الدين المنحرفون دائما مصدر ابتزاز للأموال بشتى الأساليب.
فأما دعوة الله الحقة فكان دعاتها دائما متجردين، لا يطلبون أجرا على الهدى. فأجرهم على رب العالمين.
وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة، بعد اطمئنانهم من ناحية الأجر والاستغلال: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ..
ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب. وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول:
«قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟» ..
وهم يعنون بالأرذلين الفقراء. وهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام. لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة. ومن ثم فهم الملبون السابقون. فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم، القائمة على الأوضاع المزيفة، المستمدة من الأوهام(5/2607)
والأساطير، التي تلبس ثوب الدين. ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة. قيمة الإيمان والعمل الصالح. قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين. بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.
ومن ثم يجيبهم نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة ويحدد اختصاص الرسول، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون.
«قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
والكبراء يقولون دائما عن الفقراء: إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف! فنوح يقول لهم: إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان. وقد آمنوا. فأما عملهم قبله فموكول إلى الله، وهو الذي يزنه ويقدره. ويجزيهم على الحسنات والسيئات. وتقدير الله هو الصحيح «لَوْ تَشْعُرُونَ» بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله. وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح:
«إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .
فلما أن واجههم نوح- عليه السّلام- بحجته الواضحة ومنطقة المستقيم وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان، لجأوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان. لجأوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان، عند ما تعوزهم الحجة، ويعجزهم البرهان:
«قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» ..
وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة، وعرف نوح أن القلوب الجاسية لن تلين هنا توجه نوح إلى الولي الوحيد، والناصر الفريد، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين:
«قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
وربه يعلم أن قومه كذبوه. ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين، وطلب النصفة، ورد الأمر إلى صاحب الأمر: «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب: «وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
واستجاب الله لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم، لأنه يدعو الناس إلى تقوى الله، وطاعة رسوله، لا يطلب على ذلك أجرا، ولا يبتغي جاها ولا مالا:
«فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» ..
هكذا في إجمال سريع. يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية. ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.
ثم يجيء التعقيب المكرور في السورة عقب كل آية من آيات الله العزيز الرحيم:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..(5/2608)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة من الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة.
وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصلة وفي هود، كما وردت في سورة «المؤمنون» بدون ذكر اسم هود وعاد. وهي تعرض هنا مختصرة بين طرفيها: طرف دعوة هود لقومه، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم. وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح:
«كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول: دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة، وترفع عن قيم الأرض الزائلة، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم.
ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة، والإعلان عن الثراء، والتكاثر والاستطالة في البناء كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا، وما يسخرونه فيها من القوى، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته:
«أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ؟» ..
والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا يبدو للناظر من بعد كأنه علامة.
وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثا. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم: «تعبثون» .. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة.
ويبدو كذلك من قوله: «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» أن عادا كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغا يذكر حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات وحتى ليجول(5/2609)
في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشؤونه بوساطتها من البنيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجور ومن غارات الأعداء.
ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه:
«وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» ..
فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون.
وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» .
ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون. وكان الأجدر بهم أن يتذكروا فيشكروا، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم! «وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
وهكذا يذكرهم بالمنعم والنعمة على وجه الإجمال أولا: «أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ» . وهو حاضر بين أيديهم، يعلمونه ويعرفونه ويعيشون فيه، ثم يفصل بعض التفصيل: «أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» وهي النعم المعهودة في ذلك العهد وهي نعمة في كل عهد.. ثم يخوفهم عذاب يوم عظيم. في صورة الإشفاق عليهم من ذلك العذاب. فهو أخوهم، وهو واحد منهم، وهو حريص ألا يحل بهم عذاب ذلك اليوم الذي لا شك فيه.
ولكن هذه التذكرة وهذا التخويف، لا يصلان إلى تلك القلوب الجاسية الفظة الغليظة. فإذا الإصرار والعناد والاستهتار.
«قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» ..
فما يعنينا أن تعظ أو ألا تكون أصلا من الواعظين! وهو تعبير فيه استهانة واستهتار وجفوة. يتبعه ما يشي بالجمود والتحجر والاعتماد على التقليد! «إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ.. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ..
فحجتهم فيما هم عليه، وفيما يستنكره عليهم هود، أنه خلق الأولين ونهجهم. وهم يسيرون على نهج الأولين! ثم إنهم لينفون احتمال العذاب على خلق الأولين! «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ! ولا يستطرد السياق هنا في تفصيل ما ثار بينهم وبين رسولهم من جدل فيمضي قدما إلى النهاية:
«فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ» ..
وفي كلمتين اثنتين ينتهي الأمر ويطوى قوم عاد الجبارون وتطوى مصانعهم التي يتخذون ويطوى ما كانوا فيه من نعيم، من أنعام وبنين وجنات وعيون! وكم من أمة بعد عاد ظلت تفكر على هذا النحو، وتغتر هذا الغرور، وتبعد عن الله كلما تقدمت في الحضارة وتحسب أن الإنسان قد أصبح في غنية عن الله! وهي تنتج من أسباب الدمار لغيرها، والوقاية لنفسها، ما تحسبه واقيا لها من أعدائها.. ثم تصبح وتمسي فإذا العذاب يصب عليها من فوقها ومن تحتها.
عن أي طريق.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..(5/2610)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
إنها ذات الدعوة بألفاظها يدعوها كل رسول. ويوحد القرآن عن قصد حكاية العبارة التي يلقيها كل رسول على قومه للدلالة على وحدة الرسالة جوهرا ومنهجا، في أصلها الواحد الذي تقوم عليه، وهو الإيمان بالله وتقواه، وطاعة الرسول الآتي من عند الله.
ثم يزيد ما هو من شأن ثمود خاصة، وما تقتضيه طبيعة الموقف وطبيعة الظروف. إذ يذكرهم أخوهم صالح بما هم فيه من نعمة- (وقد كانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز، وقد مر النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك) - ويخوفهم سلب هذه النعمة، كما يخوفهم ما بعد المتاع من حساب على ما كان من تصرفهم فيه:
«أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ؟» .
وإنهم ليعيشون بين هذا المتاع الذي يصوره لهم أخوهم صالح. ولكنهم يعيشون في غفلة عنه لا يفكرون فيمن وهبهم إياه ولا يتدبرون منشأة ومأتاه، ولا يشكرون المنعم الذي أعطاهم هذا النعيم. فيأخذ رسولهم في تصوير هذا المتاع لهم ليتدبروه ويعرفوا قيمته، ويخافوا زواله.
وفيما قاله لهم لمسات توقظ القلوب الغافية، وتنبه فيها الحرص والخوف: «أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ؟» أتظنون أنكم متروكون لهذا الذي أنتم فيه من دعة ورخاء ومتعة ونعمة.. وسائر ما يتضمنه هذا الإجمال من تفخيم وتضخيم.. أتتركون في هذا كله آمنين لا يروعكم فوت، ولا يزعجكم سلب، ولا يفزعكم تغيير؟
أتتركون في هذا كله من جنات وعيون، وزروع متنوعات، ونخل جيدة الطلع، سهلة الهضم حتى كأن جناها مهضوم لا يحتاج إلى جهد في البطون! وتتركون في البيوت تنحتونها في الصخور بمهارة وبراعة، وفي أناقة وفراهة؟(5/2611)
وبعد أن يلمس قلوبهم هذه اللمسات الموقظة يناديهم إلى التقوى، وإلى الطاعة، وإلى مخالفة الملأ الجائرين البعيدين عن الحق والقصد، الميالين إلى الفساد والشر.
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» ..
ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية، فلا تصغي لها ولا تلين:
«قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهم يهرفون بما لا يعرفون! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون! «ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» .. وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول. فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيبا دائما وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشرا، وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور.
وكانت البشرية تتصور الرسول خلقا آخر غير البشر. أو هكذا ينبغي أن يكون ما دام يأتي إليها بخير السماء، وخبر الغيب، وخبر العالم المحجوب عن البشر.. ذلك أنها ما كانت تدرك سر هذا الإنسان الذي كرمه الله به، وهو أنه موهوب القدرة على الاتصال بالملأ الأعلى وهو على هذه الأرض مقيم. يأكل وينام ويتزوج ويمشي في الأسواق. ويعالج ما يعالجه سائر البشر من المشاعر والنوازع، وهو متصل بذلك السر العظيم.
وكانت البشرية جيلا بعد جيل تطلب خارقة معجزة من الرسول تدل على أنه حقا مرسل من الله: «فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. وهكذا طلبت ثمود تلك الخارقة، فاستجاب الله لعبده صالح، وأعطاه هذه الخارقة في صورة ناقة لا نخوض في وصفها كما خاض المفسرون القدامى، لأنه ليس لدينا سند صحيح نعتمد عليه في هذا الوصف. فنكتفي بأنها كانت خارقة كما طلبت ثمود.
«قالَ: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
لقد جاءهم بالناقة، على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم، لا يجورون عليها في يومها، ولا تجور عليهم في يومهم، ولا يختلط شرابها بشرابهم، كما لا يختلط يومها بيومهم. ولقد حذرهم أن ينالوها بسوء على الإطلاق، وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم.
فماذا فعلت الآية الخارقة بالقوم المتعنتين؟ إنها لم تسكب الإيمان في القلوب الجافة ولم تطلع النور في الأرواح المظلمة. على الرغم من قهرها لهم وتحديهم بها. وإنهم لم يحفظوا عهدهم، ولم يوفوا بشرطهم:
«فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ» .
والعقر: النحر. والذين عقروها منهم هم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. ولقد حذرهم منهم صالح وأنذرهم فلم يخشوا النذير. ومن ثم كتبت خطيئتها على الجميع، وكان الجميع مؤاخذين بهذا الإثم العظيم.
ولقد ندم القوم على الفعلة، ولكن بعد فوات الأوان وتصديق النذير:
«فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» .. ولا يفصل نوعه هنا للمسارعة والتعجيل! ثم يجيء التعقيب: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..(5/2612)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
تجيء قصة لوط هنا. ومكانها التاريخي كان مع قصة إبراهيم. ولكن السياق التاريخي ليس ملحوظا في هذه السورة- كما أسلفنا- إنما الملحوظ وحدة الرسالة والمنهج، وعاقبة التكذيب: من نجاة للمؤمنين وهلاك للمكذبين.
ويبدأ لوط مع قومه بما بدأ به نوح وهود وصالح. يستنكر استهتارهم ويستجيش في قلوبهم وجدان التقوى، ويدعوهم إلى الإيمان والطاعة، ويطمئنهم إلى أنه لن يفجعهم في شيء من أموالهم مقابل الهدى. ثم يواجههم باستنكار خطيئتهم الشاذة التي عرفوا بها في التاريخ:
«أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ؟ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» .
والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط (وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور، وترك النساء. وهو انحراف في الفطرة شنيع. فقد برأ الله الذكر والأنثى وفطر كلا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل، الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى. فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود. فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف، ولا يحقق غاية، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه. وعجيب أن يجد فيه أحد لذة. واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة. فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط. ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا، لخروجهم من ركب الحياة، ومن موكب الفطرة، ولتعريهم من حكمة وجودهم، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد.
فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها.. تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة، وإلى سنة الفطرة:
«قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» .
وقد كان فيهم غريبا. وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه، وترك وطنه وأرضه، وعبر الأردن(5/2613)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه. ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم، ليردهم عما هم فيه، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم! عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ في تقزز واستبشاع:
«قالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» ..
والقلى: الكره البالغ. يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز. ثم يتوجه إلى ربه بالدعاء أن ينجيه من هذا البلاء هو وأهله:
«رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ» ..
وهو لا يعمل عملهم ولكنه يحس بفطرته الصادقة أنه عمل مرد مهلك. وهو فيهم. فهو يتوجه إلى ربه أن ينجيه وأهله مما سيأخذ به قومه من التدمير.
واستجاب الله دعوة نبيه:
«فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» ..
هذه العجوز هي امرأته- كما يذكر في سور أخرى- وقد كانت عجوز سوء تقر القوم على فعلتهم المنكرة، وتعينهم عليها! «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ..
قيل خسفت قراهم وغطاها الماء. ومنها قرية سدوم. ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن.
وبعض علماء طبقات الأرض يؤكدون أن البحر الميت يغمر مدنا كانت آهلة بالسكان. وقد كشف بعض رجال الآثار بقايا حصن بجوار البحر، وبجواره المذبح الذي تقدم عليه القرابين.
وعلى أية حال فقد قص القرآن نبأ قرى لوط- على هذا النحو- وقوله الفصل في الموضوع.
ثم يعقب على مصرعهم بالتعقيب المكرور:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(5/2614)
وهذه قصة شعيب- ومكانها التاريخي قبل قصة موسى- تجيء هنا في مساق العبرة كبقية القصص في هذه السورة. وأصحاب الأيكة هم- غالبا- أهل مدين. والأيكة الشجر الكثيف الملتف. ويبدو أن مدين كانت تجاورها هذه الغيضة الوريفة من الأشجار. وموقع مدين بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة.
وقد بدأهم شعيب بما بدأ به كل رسول قومه من أصل العقيدة والتعفف عن الأجر، ثم أخذ يواجههم بما هو من خاصة شأنهم:
«أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» .
وقد كان شأنهم- كما ذكر في سورتي الأعراف وهود- أن يطففوا في الميزان والمكيال، وأن يأخذوا بالقسر والغصب زائدا عن حقهم، ويعطوا أقل من حق الناس، ويشتروا بثمن بخس ويبيعوا بثمن مرتفع. ويبدو أنهم كانوا في ممر قوافل التجارة، فكانوا يتحكمون فيها. وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط في هذا كله، لأن العقيدة الصحيحة يتبعها حسن المعاملة. ولا تستطيع أن تغضي عن الحق والعدل في معاملات الناس.
ثم استجاش شعيب مشاعر التقوى في نفوسهم، وهو يذكرهم بخالقهم الواحد. خالق الأجيال كلها والسابقين جميعا:
«وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» .
فما كان منهم إلا أن يطلقوا عليه الاتهام بأنه مسحور، فهو يخلط ويهذي بما يقول:
«قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» ..
وإلا أن يستنكروا رسالته. فهو بشر مثلهم، وما هكذا- في زعمهم- يكون الرسول. ويرمونه بالكذب فيما يقول:
«وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» .
وإلا أن يتحدوه أن يأتيهم بما يخوفهم به من العذاب إن كان صادقا فيما يدعيه وأن يسقط عليهم رجوما من السماء، أو يحطمها عليهم ويسقطها قطعا:
«فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
وهو تحدي المستهتر الهازئ المستهين! وهو شبيه بتحدي المشركين للرسول الكريم..
«قالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» ..
ويعجل السياق بالنهاية دون تفصيل ولا تطويل.
«فَكَذَّبُوهُ. فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
قيل: أخذهم حر خانق شديد يكتم الأنفاس ويثقل الصدور. ثم تراءت لهم سحابة، فاستظلوا بها فوجدوا(5/2615)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
لها بردا، ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية تفزعهم وتدمرهم تدميرا.
وكان ذلك «يوم الظلة» فالظلة كانت سمة اليوم المعلوم! ثم يجيء التعقيب المكرور:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .
ويختم القصص في السورة ليجيء على إثره التعقيب الأخير..
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 227]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221)
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)(5/2616)
انتهى القصص وكله يعرض قصة الرسل والرسالات. وقصة التكذيب والإعراض. وقصة التحدي والعقاب.
وقد بدأ هذا القصص بعد مقدمة السورة. والحديث فيها خاص برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومشركي قريش: «لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين. إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين.
وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين. فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون» ..
ثم سيق القصص، وكله نماذج للقوم يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون! فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة الذي تضمنته المقدمة فجاء هذا التعقيب الأخير، يتحدث عن القرآن، فيؤكد أنه تنزيل رب العالمين- ومنه هذا القصص الذي مضت به القرون، فإذا القرآن ينزل به من رب العالمين- ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن، لأنه مذكور في كتب الأولين. إنما المشركون يعاندون الدلائل الظاهرة ويزعمون أنه سحر أو شعر، ولو أن أعجميا لا يتكلم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين. لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان لا ضعف الدليل! وما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد- صلّى الله عليه وسلّم- كما تتنزل بالأخبار على الكهان. وما هو كذلك بشعر، فإن له منهجا ثابتا والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء.
إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيرا للمشركين، قبل أن يأخذهم الله بالعذاب، وقبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ..
«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» ..
والروح الأمين جبريل- عليه السّلام- نزل بهذا القرآن من عند الله على قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو أمين على ما نزل به، حفيظ عليه، نزل به على قلبه فتلقاه تلقيا مباشرا، ووعاه وعيا مباشرا. نزل به على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. هو لسان قومه الذي يدعوهم به، ويتلو عليهم القرآن. وهم يعرفون مدى ما يملك البشر أن يقولوا ويدركون أن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وإن كان بلغتهم وأنه بنظمه، وبمعانيه، وبمنهجه، وبتناسقه. يشي بأنه آت من مصدر غير بشري بيقين.
وينتقل من هذا الدليل الذاتي إلى دليل آخر خارجي:
«وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
فقد وردت صفة الرسول الذي ينزل عليه القرآن، كما وردت أصول العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين.
ومن ثم كان علماء بني إسرائيل يتوقعون هذه الرسالة، وينتظرون هذا الرسول، ويحسون أن زمانه قد أظلهم ويحدث بعضهم بعضا بهذا كما ورد على لسان سلمان الفارسي، ولسان عبد الله بن سلام- رضي الله عنهما- والأخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين.(5/2617)
إنما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد، لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل فلو جاءهم به أعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآنا عربيا ما آمنوا به، ولا صدقوه، ولا اعترفوا أنه موحى به إليه، حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين:
«وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» ..
وفي هذا تسرية عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل. ثم يعقب على هذا بأن التكذيب مكتوب على القوم ملازم لهم بحكم عنادهم ومكابرتهم. فهكذا قضي الأمر أن يتلقوه بالتكذيب، كأنه طبع في قلوبهم لا يحول. حتى يأتيهم العذاب وهم في غفلة لا يشعرون:
«كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
والتعبير يرسم صورة حسية لملازمة التكذيب لهم. فيقول: إنه على هذه الهيئة. هيئة عدم الإيمان والتكذيب بالقرآن. على هذه الهيئة نظمناه في قلوبهم وأجريناه. فهو لا يجري فيها إلا مكذبا به. ويظل على هيئته هذه في قلوبهم «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .. «فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .. وقد بقي بعضهم فعلا على هذا الوضع حتى فارق هذه الأرض بالقتل أو الموت، ومن ثم إلى العذاب الأليم.. وفي هذه اللحظة فقط يفيقون:
«فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟» ..
هل نحن مؤجلون إلى فرصة أخرى، نصلح بها ما فات. وهيهات هيهات! ولقد كانوا يستعجلون عذاب الله، على سبيل الاستهزاء والاستهتار، واغترارا بما هم فيه من متاع، يبلد حسهم، ويجعلهم يستبعدون النقلة منه إلى العذاب والنكال. شأنهم شأن ذوي النعمة قلما يخطر ببالهم أن تزول وقلما يتصورون أن تحول. فهو يوقظهم هنا من هذه الغفلة، ويرسم لهم صورتهم حين يحل بهم ما يستعجلون:
«أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ» ..
فيضع صورة الاستعجال بالعذاب في جانب. وفي الجانب الآخر تحقق الوعيد. وإذا سنون المتاع ساقطة كأنها لم تكن، لا تغني عنهم شيئا، ولا تخفف من عذابهم.
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول: لا والله يا رب «1» » ..
ثم يخوفهم بأن الإنذار مقدمة الهلاك. وأن رحمة الله ألا يهلك قرية حتى يبعث فيها رسولا، يذكرها بدلائل الإيمان:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى. وَما كُنَّا ظالِمِينَ» ..
ولقد أخذ الله على البشر عهد الفطرة أن يوحدوه ويعبدوه. والفطرة بذاتها تحس بوجود الخالق الواحد ما لم تفسد وتنحرف «2» . وبث دلائل الإيمان في الكون، كلها يوحي بوجود الخالق الواحد. فإذا نسي الناس عهد الفطرة وأغفلوا دلائل الإيمان، جاءهم نذير يذكرهم ما نسوا، ويوقظهم إلى ما أغفلوا. فالرسالة ذكرى تذكر الناسين وتوقظ الغافلين. زيادة في العدل والرحمة «وَما كُنَّا ظالِمِينَ» في أخذ القرى بعد ذلك بالعذاب
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير، وقال: في الحديث الصحيح.
(2) يراجع تفسير: وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم» جزء 9 ص 1392.(5/2618)
والهلاك. فإنما هو جزاء النكسة عن خط الهدى ومنهج اليقين.
ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم:
«وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» ..
لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين واستطرد مع تكذيبهم به، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه.. وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار.
وما يليق هذا القرآن بالشياطين. وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان. والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر.
وما هم بمستطيعين أن يأتوا به. فهم معزولون عن سماع الوحي به من الله. إنما يتنزل به الروح الأمين، بإذن من رب العالمين. وليس هذا بميسور للشياطين.
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يحذره من الشرك- وهو أبعد من يكون عنه- ليكون غيره أولى بالحذر. ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين. ويأمره بالتوكل على الله، الذي يلحظه دائما ويرعاه:
«فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وحين يكون الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- متوعدا بالعذاب مع المعذبين، لو دعا مع الله إلها آخر. وهذا محال ولكنه فرض للتقريب. فكيف يكون غيره؟ وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين؟! وليس هنالك محاباة، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول، لو ارتكب هذا الإثم العظيم! وبعد إنذار شخصه- صلّى الله عليه وسلّم- يكلف إنذار أهله. لتكون لمن سواهم عبرة، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ..
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي- صلّى الله عليه وسلّم- الصفا فصعد عليه ثم نادى:
يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «يا بني عبد المطلب. يا بني فهر. يا بني لؤي. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب:
تبا لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ..» .
وأخرج مسلم- بإسناده- عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: لما نزلت: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» قام رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم» .
وأخرج مسلم والترمذي- بإسناده عن أبي هريرة- قال: لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قريشا فعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم(5/2619)
من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإنّي والله لا أملك لكم من الله شيئا. إلا أن لكم رحيما سأبلها ببلالها» ..
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الأمر، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين، ونفض يده من أمرهم، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا، وهو رسول الله.. وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم.
كذلك بين الله لرسوله كيف يعامل المؤمنين الذين يستجيبون لدعوة الله على يديه:
«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
فهو اللين والتواضع والرفق في صورة حسية مجسمة. صورة خفض الجناح، كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط. وكذلك كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مع المؤمنين طوال حياته. فقد كان خلقه القرآن. وكان هو الترجمة الحية الكاملة للقرآن الكريم.
وكذلك بين الله له كيف يعامل العصاة فيكلهم إلى ربهم، ويبرأ مما يعملون:
«فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وكان هذا في مكة، قبل أن يؤمر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بقتال المشركين.
ثم يتوجه به- صلّى الله عليه وسلّم- إلى ربه، يصله به صلة الرعاية الدائمة القريبة:
«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
دعهم وعصيانهم، متبرئا من أعمالهم، وتوجه إلى ربك معتمدا عليه، مستعينا في أمرك كله به. ويصفه- سبحانه- بالصفتين المكررتين في هذه السورة: العزة والرحمة. ثم يشعر قلب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بالأنس والقربى. فربه يراه في قيامه وحده للصلاة، ويراه في صفوف الجماعة الساجدة. يراه في وحدته ويراه في جماعة المصلين يتعهدهم وينظمهم ويؤمهم ويتنقل بينهم. يرى حركاته وسكناته، ويسمع خطراته ودعواته: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وفي التعبير على هذا النحو إيناس بالرعاية والقرب والملاحظة والعناية. وهكذا كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يشعر أنه في كنف ربه، وفي جواره وقربه. وفي جو هذا الأنس العلوي كان يعيش..
والجولة الأخيرة في السورة حول القرآن أيضا. ففي المرة الأولى أكد أنه تنزيل من رب العالمين. نزل به الروح الأمين. وفي المرة الثانية نفى أن تتنزل به الشياطين. أما في هذه المرة فيقرر أن الشياطين لا تتنزل على مثل محمد- صلّى الله عليه وسلّم- في أمانته وصدقه وصلاح منهجه إنما تتنزل على كل كذاب آثم ضال من الكهان الذين يتلقون إيحاءات الشياطين ويذيعونها مع التضخيم والتهويل:
«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» ..
وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار، وكان الناس يلجأون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم.
وأكثرهم كاذبون. والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب. وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى،(5/2620)
ولا يأمرون بتقوى، ولا يقودون إلى إيمان. وما هكذا كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم.
ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحيانا: إنه شعر، ويقولون عن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إنه شاعر. وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيرا، والذي يدخل إلى قلوب الناس، ويهز مشاعرهم، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له ردا.
فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد- صلّى الله عليه وسلّم- ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلا. فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح، ويدعو إلى غاية محددة، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية. والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- لا يقول اليوم قولا ينقضه غدا، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة إنما يصر على دعوة، ويثبت على عقيدة، ويدأب على منهج لا عوج فيه. والشعراء ليسوا كذلك.
الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة. تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت. ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود. وفي لحظة أبيض. يرضون فيقولون قولا، ويسخطون فيقولون قولا آخر. ثم هم أصحاب أمزجة لا تثبت على حال! هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها، ويتخيلون أفعالا ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها. فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعا آخر يعيشون عليه؟
وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس. فلصاحب الدعوة هدف، وله منهج، وله طريق. وهو يمضي في طريقه على منهجه إلى هدفه مفتوح العين، مفتوح القلب، يقظ العقل لا يرضى بالوهم، ولا يعيش بالرؤى، ولا يقنع بالأحلام، حتى تصبح واقعا في عالم الناس.
فمنهج الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ومنهج الشعراء مختلفان، ولا شبهة هناك، فالأمر واضح صريح:
«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟!» .
فهم يتبعون المزاج والهوى ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى، الذين لا منهج لهم ولا هدف.
وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات.
وهم يقولون ما لا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة! إن طبيعة الإسلام- وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة- إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية- في الغالب- لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به. فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع.
والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم. فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم، ولا تنفق مع منهجه الذي يأخذهم به، دفعهم إلى تغييرها، وتحقيق المنهج الذي يريد.(5/2621)
ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهوّمة الطائرة. فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة، وفق منهجه الضخم العظيم.
ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته- كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا! وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا.
فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ.
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون، وإلى خفايا النفس البشرية. وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن. وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال.
ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء:
«إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» ..
فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام. هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة، واستقامت حياتهم على منهج. وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام.
وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه.
ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم- من شعراء الأنصار، ومنهم عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في جاهليتهما، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال لحسان: «اهجهم- أو قال هاجهم- وجبريل معك» .. وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل» (رواه الإمام أحمد) .
والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها.
وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام.
وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله.. ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا. وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلامي(5/2622)
في صميمه. وإن لحظة إشراق واتصال بالله، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام.
ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها، وللعلاقات والروابط فيها. فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام.
وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل:
«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ..
السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب.
كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون.
تنتهي بهذا التهديد المخيف. الذي يلخص موضوع السورة. وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب يتمثل في صور شتى، يتمثلها الخيال ويتوقعها. وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا.(5/2623)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
(27) سورة النّمل مكيّة وآياتها ثلاث وتسعون
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء وهي تمضي على نسقها في الأداء: مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.
وموضوع السورة الرئيسي- كسائر السور المكية- هو العقيدة: الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب. والإيمان بالوحي وأن الغيب كله لله، لا يعلمه سواه. والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر. والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني وتصوير عاقبة المكذبين بها، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة موسى- عليه السّلام- تلي مقدمة السورة. حلقة رؤيته للنار وذهابه إليها، وندائه من الملأ الأعلى، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه. ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين.. «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» . وكذلك شأن المشركين في مكة كان مع آيات القرآن المبين.
وتليها إشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان- عليهما السلام- ثم قصة سليمان مع النملة، ومع الهدهد،(5/2624)
ومع ملكة سبأ وقومها. وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة. وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير لسليمان. وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.
ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة سبأ وقومها لكتاب سليمان- وهو عبد من عباد الله- واستقبال قريش لكتاب الله. هؤلاء يكذبون ويجحدون. وأولئك يؤمنون ويسلمون. والله هو الذي وهب سليمان ما وهب، وسخر له ما سخر. وهو الذي يملك كل شيء، وهو الذي يعلم كل شيء. وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض.
وتليها قصة صالح مع قومه ثمود. ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله، وتبييتهم قتله ثم مكر الله بالقوم، ونجاة صالح والمؤمنين معه، وتدمير ثمود مع المتآمرين: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» .. وقد كانت قريش تتآمر على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وتبيت له، كما بيتت ثمود لصالح وللمؤمنين.
ويختم القصص بقصة لوط مع قومه. وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه، بحجة أنهم أناس يتطهرون! وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر لوط من بينهم، وتركهم للدمار: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ..
ولقد همت قريش بإخراج الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل.
فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقوله: «قل: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. آلله خير أم ما يشركون؟» .. ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس. يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق، الذي يعلم الغيب وحده، وهم إليه راجعون. ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة، وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم.
ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوها: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
والتركيز في هذه السورة على العلم. علم الله المطلق بالظاهر والباطن، وعلمه بالغيب خاصة. وآياته الكونية التي يكشفها للناس. والعلم الذي وهبه لداود وسليمان. وتعليم سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم.. ومن ثم يجيء في مقدمة السورة: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» . ويجيء في التعقيب «قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» .. «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ويجيء في الختام:
«سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» .. ويجيء في قصة سليمان: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» .. وفي قول سليمان: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» .. وفي قول الهدهد: «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ» . وعند ما يريد سليمان استحضار عرش الملكة، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن، إنما يقدر على هذه: «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» .
وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام. ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل، حسب تتابعه الذي أسلفنا. فنأخذ في استعراضها تفصيلا.(5/2625)
«طا. سين» .. الأحرف المقطعة للتنبيه على المادة الأولية التي تتألف منها السورة والقرآن كله. وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية. وهم يعجزون أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن، بعد التحدي والإفحام..
ويلي ذلك التنبيه ذكر القرآن:
«تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» ..
والكتاب هو نفسه القرآن. وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا أنه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله واستقبال ملكة سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله إليهم سليمان. وهو عبد من عباد الله.
ثم يصف القرآن أو يصف الكتاب بأنه:
«هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وهذه أبلغ مما لو قيل: فيه هدى وبشرى للمؤمنين. فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وماهيته هدى وبشرى للمؤمنين. والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج، وهدى في كل طريق. كما يطلع عليهم بالبشرى في الحياتين الأولى والآخرة.
وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة.. إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه ويستوعب ما فيه. إنما القرآن كتاب يخاطب القلب، أول ما يخاطب ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح، الذي يتلقاه بالإيمان واليقين. وكلما كان القلب نديا بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف. وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس! وإن الإنسان ليقرأ الآية أو السورة مرات كثيرة، وهو غافل أو عجول، فلا تنض له بشيء وفجأة يشرق النور في قلبه، فتفتح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببال. وتصنع في حياته صنع المعجزة في تحويلها من منهج إلى منهج، ومن طريق إلى طريق.
وكل النظم والشرائع والآداب التي يتضمنها هذا القرآن، إنما تقوم قبل كل شيء على الإيمان. فالذي لا يؤمن قلبه بالله، ولا يتلقى هذا القرآن على أنه وحي من عند الله وعلى أن ما جاء فيه إنما هو المنهج الذي يريده الله.
الذي لا يؤمن هذا الإيمان لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي ولا يستبشر بما فيه من بشارات.
إن في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه. والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز. ولن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان. والذين آمنوا حق الإيمان حققوا الخوارق بهذا القرآن. فأما حين أصبح القرآن كتابا يترنم المترنمون بآياته، فتصل إلى الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب. فإنه لم يصنع شيئا، ولم ينتفع به أحد.. لقد ظل كنزا بلا مفتاح! والسورة تعرض صفة المؤمنين الذين يجدون القرآن هدى وبشرى.. إنهم هم:
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ..
يقيمون الصلاة.. فيؤدونها حق أدائها، يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله، شاعرة أرواحهم بأنهم في حضرة(5/2626)
ذي الجلال والإكرام، مرتفعة مشاعرهم إلى ذلك الأفق الوضيء، مشغولة خواطرهم بنجاء الله ودعائه والتوجه إليه في محضره العظيم.
ويؤتون الزكاة.. فيطهرون نفوسهم من رذيلة الشح ويستعلون بأرواحهم على فتنة المال ويصلون إخوانهم في الله ببعض ما رزقهم الله ويقومون بحق الجماعة المسلمة التي هم فيها أعضاء.
وهم بالآخرة هم يوقنون.. فإذا حساب الآخرة يشغل بالهم، ويصدهم عن جموح الشهوات، ويغمر أرواحهم بتقوى الله وخشيته والحياء من الوقوف بين يديه موقف العصاة.
هؤلاء المؤمنون الذاكرون الله، القائمون بتكاليفه، المشفقون من حسابه وعقابه، الطامعون في رضائه وثوابه..
هؤلاء هم الذين تنفتح قلوبهم للقرآن، فإذا هو هدى وبشرى. وإذا هو نور في أرواحهم، ودفعة في دمائهم، وحركة في حياتهم. وإذا هو زادهم الذي به يبلغون وريهم الذي به يشتفون.
وعند ذكر الآخرة يركز عليها ويؤكد في صورة التهديد والوعيد لمن لا يؤمنون بها، فيسدرون في غيهم، حتى يلاقوا مصيرهم الوخيم:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ. أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» ..
والإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال في الحياة. والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة أو يكبح فيها نزوة، وهو يظن أن الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب، وهي قصيرة مهما طالت. وما تكاد تتسع لشيء من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال! ثم ما الذي يمسكه حين يملك إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته وهو لا يحسب حساب وقفة بين يدي الله ولا يتوقع ثوابا ولا عقابا يوم يقوم الأشهاد؟
ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة، تندفع إليه بلا معوق من تقوى أو حياء. والنفس مطبوعة على أن تحب ما يلذ لها، وأن تجده حسنا جميلا ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني. فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى وأشواق أخرى، تصغر إلى جوارها لذائذ البطون والأجسام! والله- سبحانه- هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدي، مستعدة للعماء إن طمست منافذ الإدراك فيها. ومشيئته نافذة- وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها- في حالتي الاهتداء والعماء. ومن ثم يقول القرآن عن الذين لا يؤمنون بالآخرة: «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ» .. فهم لم يؤمنوا بالآخرة فنفذت سنة الله في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم..
وهذا هو معنى التزيين في هذا المقام. فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء. أو فهم حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب.
والعاقبة معروفة لمن يزين له الشر والسوء: «أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» ..
سواء كان سوء العذاب لهم في الدنيا أو في الآخرة، فالخسارة المطلقة في الآخرة، محققة جزاء وفاقا على الاندفاع في سوء الأعمال.
وتنتهي مقدمة السورة بإثبات المصدر الإلهي الذي يتنزل منه هذا القرآن على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-:
«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» ..(5/2627)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
ولفظ «تلقى» يلقي ظل الهدية المباشرة السنية من لدن حكيم عليم. يصنع كل شيء بحكمة، ويدبر كل أمر بعلم.. وتتجلى حكمته وعلمه في هذا القرآن. في منهجه، وتكاليفه، وتوجيهاته، وطريقته. وفي تنزيله في إبانه. وفي توالي أجزائه. وتناسق موضوعاته.
ثم يأخذ في القصص. وهو معرض لحكمة الله وعلمه وتدبيره الخفي اللطيف.
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
تعرض هذه الحلقة السريعة من قصة موسى- عليه السّلام- بعد قوله تعالى في هذه السورة: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» .. وكأنما ليقول لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إنك لست بدعا في هذا التلقي.
فها هو ذا موسى يتلقى التكليف، وينادى ليحمل الرسالة إلى فرعون وقومه. وليس ما تلقاه من قومك بدعا في التكذيب. فها هم أولاء قوم موسى تستيقن نفوسهم بآيات الله، ولكنهم يجحدون بها ظلما وعلوا. «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ولينتظر قومك عاقبة الجاحدين المكابرين! «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً. سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» .
وقد ذكر هذا الموقف في سورة طه. وهو في طريق عودته من أرض مدين إلى مصر، ومعه زوجه بنت شعيب عليه السّلام «1» . وقد ضل طريقه في ليلة مظلمة باردة. يدل على هذا قوله لأهله: سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون. وكان ذلك إلى جانب الطور. وكانت النيران توقد في البرية فوق المرتفعات لهداية السالكين بالليل فإذا جاءوها وجدوا القرى والدفء، أو وجدوا الدليل على الطريق.
__________
(1) ليس هناك نص مقطوع به على أن شعيبا كان هو الشيخ الكبير الذي خدمه موسى وتزوج إحدى ابنتيه. ولكن هذا هو الأرجح نظرا لورود قصة موسى بعد قصة شعيب في كل سرد تاريخي للقصتين في القرآن. مما يوحي بأنهما كانا متعاصرين أو متوالين.(5/2628)
«إِنِّي آنَسْتُ ناراً» فقد رآها على بعد، فشعر لها بالطمأنينة والأنس. وتوقع أن يجد عندها خبر الطريق، أو أن يقبس منها ما يستدفىء به أهله في قر الليل في الصحراء.
ومضى موسى- عليه السّلام- إلى النار التي آنسها، ينشد خبرا، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى:
«فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها. وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله، وتتصل به العوالم والأفلاك ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر والأرواح. النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها الكبير ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من الله.
«فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ» .. بهذا البناء للمجهول- وهو معلوم- ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم.
«نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها» ..
فمن ذا كان في النار؟ ومن ذا كان حولها؟ إنها على الأرجح لم تكن نارا من هذه النار التي نوقدها. إنما كانت نارا مصدرها الملأ الأعلى. نارا أوقدتها الأرواح الطاهرة من ملائكة الله للهداية الكبرى. وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها. ومن ثم كان النداء: «أن بورك من في النار» إيذانا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة ومن حولها.. وفيمن حولها موسى.. وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا. ومضت هذه البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها، وإذنه لها بالبركة الكبرى.
وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء: «وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين، وكشف لعبده أن الذي يناديه هو الله العزيز الحكيم. وارتفعت البشرية كلها في شخص موسى- عليه السّلام- إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم. ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها، ولكنه كان الخبر الهائل العظيم ووجد القبس الدافئ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.
وكان النداء للاصطفاء ووراء الاصطفاء التكليف بحمل الرسالة إلى أكبر الطغاة في الأرض في ذلك الحين. ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه:
«وَأَلْقِ عَصاكَ» .. باختصار هنا، حيث لا يذكر ذلك النجاء الطويل الذي في سورة طه. لأن العبرة المطلوبة هي عبرة النداء والتكليف.
«فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ..
فقد ألقى عصاه كما أمر فإذا هي تدب وتسعى، وتتحرك حركة سريعة كحركة ذلك النوع الصغير السريع من الحيات «الجان» . وأدركت موسى- عليه السّلام- طبيعته الانفعالية، وأخذته هزة المفاجأة التي لم تخطر له ببال، وجرى بعيدا عن الحية دون أن يفكر في الرجوع! وهي حركة تبدو فيها دهشة المفاجأة العنيفة في مثل تلك الطبيعة الشديدة الانفعال.
ثم نودي موسى بالنداء العلوي المطمئن وأعلن له عن طبيعة التكليف الذي سيلقاه:
«يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» ..
لا تخف. فأنت مكلف بالرسالة. والرسل لا يخافون في حضرة ربهم وهم يتلقون التكليف.(5/2629)
«إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إنما يخاف الذين ظلموا. ذلك إلا أن يبدلوا حسنا بعد سوء، ويدعوا الظلم إلى العدل ويدعوا الشرك إلى الإيمان، ويدعوا الشر إلى الخير. فإن رحمتي واسعة وغفراني عظيم.
والآن وقد اطمأن موسى وقر، يجهزه ربه بالمعجزة الثانية، قبل أن يكشف له عن جهة الرسالة ووجهة التكليف:
«وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» ..
وكان هذا. وأدخل موسى يده في فتحة ثوبه- وهي جيبه- فخرجت بيضاء مشرقة لا عن مرض، ولكن عن معجزة. ووعده ربه أن يؤيده بتسع آيات من هذا النوع الذي شاهد منه اثنتين وكشف له حينئذ عن وجهته التي من أجلها دعاه وجهزه ورعاه! «فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
ولم يعدد هنا بقية هذه الآيات التسع، التي كشف عنها في سورة الأعراف. وهي سنوان الجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. لأن التركيز هنا على قوة الآيات لا على ماهيتها.
وعلى وضوحها وجحود القوم لها:
«فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
هذه الآيات الكثيرة العدد، الكاشفة عن الحق، حتى ليبصره كل من له عينان. ويصف هذه الآيات نفسها بأنها مبصرة، فهي تبصر الناس وتقودهم إلى الهدى. ومع هذا فقد قالوا عنها: إنها سحر مبين! قالوا ذلك لا عن اقتناع به، ولا عن شبهة فيه. إنما قالوه «ظلما وعلوا» وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه: «وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» . قالوا جحودا ومكابرة، لأنهم لا يريدون الإيمان، ولا يطلبون البرهان.
استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم.
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن، ويستيقنون أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، ويجحدون دعوة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إياهم إلى الله الواحد. ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم، لما وراءها من أوضاع تسندهم، ومغانم تتوافد عليهم. وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة، التي يحسون خطر الدعوة الإسلامية عليها، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم، وترتج في ضمائرهم. ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب! وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه. بل لأنهم يعرفونه! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم، أو الخطر على أوضاعهم، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم.
فيقفون في وجهه مكابرين، وهو واضح مبين.
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
وعاقبة فرعون وقومه معروفة، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى. إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين.(5/2630)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 44]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(5/2631)
ترد هذه الإشارة إلى داود، وهذه القصة عن سليمان بعد تلك الحلقة من قصة موسى- عليهم السّلام- وهم من أنبياء بني إسرائيل، في السورة التي تبدأ بالحديث عن القرآن ويجيء فيها: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
وقصة سليمان- عليه السّلام- في هذه السورة مبسوطة بتوسع أكثر منها في أية سورة أخرى. وإن كانت تختص بحلقة واحدة من حلقات حياته. حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ. يمهد لها السياق بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير وإعطائه من كل شيء. وشكره لله على فضله المبين. ثم مشهد موكبه من الجن والإنس والطير، وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب، وإدراك سليمان لمقالة النملة وشكره لربه على فضله، وإدراكه أن النعمة ابتلاء، وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء.
ومناسبة ورود هذا القصص إجمالا في هذه السورة ما سبق بيانه من افتتاح السورة بحديث عن القرآن، وتقرير أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون. وقصص موسى وداود وسليمان من أهم الحلقات في تاريخ بني إسرائيل.
أما مناسبة هذه الحلقة ومقدماتها لموضوع هذه السورة فتبدو في عدة مواضع منها ومن السورة:
التركيز في جو السورة وظلالها على العلم- كما أسلفنا في أوائلها- والإشارة الأولى في قصة داود وسليمان هي:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» وإعلان سليمان لنعمة الله عليه يبدأ بالإشارة إلى تعليمه منطق الطير: «وَقالَ:(5/2632)
يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ»
. وعذر الهدهد عن غيبته في ثنايا القصة يبدأ بقوله: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» . والذي عنده «علم» من الكتاب هو الذي يأتي بعرش الملكة في غمضة عين..
وافتتاح السورة عن القرآن كتاب الله المبين إلى المشركين. وهم يتلقونه بالتكذيب. وفي القصة كتاب سليمان تتلقاه ملكة سبأ، فما تلبث طويلا حتى تأتي هي وقومها مسلمين. لما رأته من القوى المسخرة لسليمان من الجن والإنس والطير. والله هو الذي سخر لسليمان ما سخر، وهو القاهر فوق عباده. وهو رب العرش العظيم.
وفي السورة استعراض لنعم الله على العباد، وآياته في الكون، واستخلافه للناس وهم يجحدون بآيات الله، ولا يشكرونه. وفي القصة نموذج للعبد الشاكر، الذي يسأل ربه أن يوفقه إلى شكر نعمته عليه المتدبر لآيات الله الذي لا يغفل عنها، ولا تبطره النعمة، ولا تطغيه القوة.. فالمناسبات كثيرة وواضحة بين موضوع السورة وإشارات القصة ومواقفها.
وقصة سليمان مع ملكة سبأ نموذج واف للقصة في القرآن، ولطريقة الأداء الفني كذلك. فهي قصة حافلة بالحركة، وبالمشاعر، وبالمشاهد، وبتقطيع هذه المشاهد ووضع الفجوات الفنية بينها! فلنأخذ في عرضها بالتفصيل:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً. وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» .
هذه هي إشارة البدء في القصة. وإعلان الافتتاح. خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان- عليهما السلام- نعمة العلم. فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى.
منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور، ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله، فتؤوب الجبال معه والطير، لحلاوة صوته، وحرارة نبراته، واستغراقه في مناجاة ربه، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود. ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب، وتطويع الحديد له، ليصوغ منه من هذا ما يشاء.
ومنها تعليمه القضاء بين الناس، مما شاركه فيه سليمان.
وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله.
تبدأ القصة بتلك الإشارة: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين.
فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين.
ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار. وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه. فلا يكون العلم مبعدا لصاحبه عن الله، ولا منسيا له إياه. وهو بعض مننه وعطاياه والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد، زائغ عن مصدره وعن هدفه. لا يثمر سعادة لصاحبه ولا للناس.
إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار، لأنه انقطع عن مصدره، وانحرف عن وجهته، وضل طريقه إلى الله..
ولقد انتهت البشرية اليوم إلى مرحلة جيدة من مراحل العلم. بتحطيم الذرة واستخدامها. ولكن ماذا جنت البشرية حتى اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله، ولا يخشونه، ولا يحمدون له، ولا يتوجهون(5/2633)
بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي «هيروشيما» . و «ناجازاكي» وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب ويتهددهما بالتحطيم والدمار والفناء «1» ؟
وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث:
«وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ. وَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» ..
وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم. ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان.
إنما يذكر العلم. لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال! «وورث سليمان داود» والمفهوم أنها وراثة العلم، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر. ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس: «قال: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء» .. فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير. وليس هو داود. فهو لم يرث هذا عن أبيه. وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم.
«يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» .. يذيعها سليمان- عليه السّلام- في الناس تحدثا بنعمة الله، وإظهارا لفضله، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس. ويعقب عليها «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» فضل الله الكاشف عن مصدره، الدال على صاحبه. فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله. وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء- بهذا التعميم- إلا الله.
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم- هي لغاتها ومنطقها- فيما بينها. والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها. وذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات. ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين. فأما ما وهبه الله لسليمان- عليه السّلام- فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر. لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم، على طريق الظن والحدس، كما هو حال العلماء اليوم..
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصة القرآن عن سليمان- عليه السّلام- في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة. وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات،
__________
(1) قال البروفسور «م. ي. أولي فنيت» الأستاذ بجامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية. بعد حادثي هيروشيما وناجازاكي:
«وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار. وستليها قنابل قوتها مليون طن، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط. وإن ست قنابل من هذا القبيل تكفي لتدمير انجلترا على بكرة أبيها» .
وقد صحت نبوءته وأنتجت القنابل الهيدروجينية التي تعد قنبلتا هيروشيما وناجازاكي بالقياس إليها لعبة أطفال! وبهذه المناسبة نذكر أن قنبلة هيروشيما قد قتلت لفورها من اليابانيين من يتراوح عددهم بين عشرة ومائتي ألف وأربعين ومائتي ألف.
وذلك غير المشوهين والمحروقين الذين ماتوا بعد ذلك. وهم يعدون بعشرات الألوف!!(5/2634)
هبة لدنية منه، بلا محاولة ولا اجتهاد. وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع. وهو خالق هذه الأنواع! على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان. أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته، وطوع أمره، كجنوده من الإنس سواء بسواء. والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير.
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم.
وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز..
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام. وإنها خاضعة- كحلقة مفردة- للناموس العام، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به.
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين، منذ أن وجدت الهداهد. وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول. ومهما بلغ التحوير فيه، فهو لا يخرج من نوعه، ليرتقي إلى نوع آخر.. وإن هذا- كما يبدو- طرف من سنة الله في الخلق، ومن الناموس العام المنسق للكون.
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عند ما يريدها الله خالق السنن والنواميس. وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام الذي لا نعرف أطرافه. جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله، يخرق المألوف المعهود للبشر، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام. وهكذا وجد هدهد سليمان، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان.
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ..
فهذا هو موكب سليمان محشود محشور. يتألف من الجن والإنس والطير. والإنس معروفون، أما الجن فهم خلق لا نعرف عنهم إلا ما قصه الله علينا من أمرهم في القرآن. وهو أنه خلقهم من مارج من نار. أي من لهيب متموج من النار. وأنهم يرون البشر والبشر لا يرونهم «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» (الكلام عن إبليس أو الشيطان وإبليس من الجن) وأنهم قادرون على الوسوسة في صدور الناس بالشر عادة والإيحاء لهم بالمعصية- ولا ندري كيف- وأن منهم طائفة آمنت برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ولم يرهم هو أو يعرف منهم إيمانهم ولكن أخبره الله بذلك إخبارا: «قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً..» ونعرف أن الله سخر طائفة منهم لسليمان يبنون له المحاريب والتماثيل والجفان الكبيرة للطعام، ويغوصون له في البحر، ويأتمرون بأمره بإذن الله.
ومنهم هؤلاء الذين يظهرون هنا في موكبه مع إخوانهم من الإنس والطير.
ونقول: إن الله سخر لسليمان طائفة من الجن وطائفة من الطير كما سخر له طائفة من الإنس. وكما أنه لم يكن كل أهل الأرض من الإنس جندا لسليمان- إذ أن ملكه لم يتجاوز ما يعرف الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والعراق إلى ضفة الفرات- فكذلك لم يكن جميع الجن ولا جميع الطير مسخرين له، إنما كانت طائفة من كل أمة على السواء.(5/2635)
ونستند في مسألة الجن إلى أن إبليس وذريته من الجن كما قال القرآن.. «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» ..
وقال في سورة «الناس» : «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» وهؤلاء كانوا يزاولون الإغواء والشر والوسوسة للبشر في عهد سليمان. وما كانوا ليزاولوا هذا وهم مسخرون له مقيدون بأمره. وهو نبي يدعو إلى الهدى. فالمفهوم إذن أن طائفة من الجن هي التي كانت مسخرة له.
ونستند في مسألة الطير إلى أن سليمان حين تفقد الطير علم بغيبة الهدهد. ولو كانت جميع الطيور مسخرة له، محشورة في موكبه، ومنها جميع الهداهد، ما استطاع أن يتبين غيبة هدهد واحد من ملايين الهداهد فضلا على بلايين الطير. ولما قال: ما لي لا أرى الهدهد؟ فهو إذن هدهد خاص بشخصه وذاته، وقد يكون هو الذي سخر لسليمان من أمة الهداهد، أو يكون صاحب النوبة في ذلك الموكب من المجموعة المحدودة العدد من جنسه. ويعين على هذا ما ظهر من أن ذلك الهدهد موهوب إدراكا خاصا ليس من نوع إدراك الهداهد ولا الطير بصفة عامة. ولا بد أن هذه الهبة كانت للطائفة الخاصة التي سخرت لسليمان. لا لجميع الهداهد وجميع الطيور. فإن نوع الإدراك الذي ظهر من ذلك الهدهد الخاص في مستوى يعادل مستوى العقلاء الأذكياء الأتقياء من الناس! حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير. وهو موكب عظيم، وحشد كبير، يجمع أوله على آخره «فَهُمْ يُوزَعُونَ» حتى لا يتفرقوا وتشيع فيهم الفوضى. فهو حشد عسكري منظم. يطلق عليه اصطلاح الجنود، إشارة إلى الحشد والتنظيم.
«حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ. قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» ..
لقد سار الموكب. موكب سليمان من الجن والإنس والطير. في ترتيب ونظام، يجمع آخره على أوله، وتضم صفوفه، وتتلاءم خطاه. حتى إذا أتوا على واد كثير النمل، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه «وادي النمل» قالت نملة. لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي- ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى كلها بنظام عجيب، يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال- قالت هذه النملة للنمل، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل، وباللغة المتعارفة بينها. قالت للنمل: ادخلوا مساكنكم- كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده. وهم لا يشعرون بكم.
فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت، وبمضمون ما قالت. هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه. وانشرح صدره لإدراكه. فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز. وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك، وأن يفهم عنها النمل فيطيع! أدرك سليمان هذا «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها» .. وسرعان ما هزته هذه المشاهدة، وردت قلبه إلى ربه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه واتجه إلى ربه في إنابة يتوسل إليه:
«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» ..
«رَبِّ» .. بهذا النداء القريب المباشر المتصل.. «أَوْزِعْنِي» اجمعني كلي. اجمع جوارحي ومشاعري(5/2636)
ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي، وكلماتي وعباراتي، وأعمالي وتوجهاتي. اجمعني كلي. اجمع طاقاتي كلها. أولها على آخرها وآخرها على أولها (وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني) لتكون كلها في شكر نعمتك عليّ وعلى والديّ..
وهذا التعبير يشيء بنعمة الله التي مست قلب سليمان- عليه السّلام- في تلك اللحظة ويصور نوع تأثره، وقوة توجهه، وارتعاشة وجدانه، وهو يستشعر فضل الله الجزيل، ويتمثل يد الله عليه وعلى والديه، ويحس مس النعمة والرحمة في ارتياع وابتهال.
«رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» .. «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» .. فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله يوفق إليه من يشكر نعمته، وسليمان الشاكر الذي يستعين ربه ليجمعه ويقفه على شكر نعمته، ويستعين ربه كذلك ليوفقه إلى عمل صالح يرضاه. وهو يشعر أن العمل الصالح توفيق ونعمة أخرى من الله.
«وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» ..
أدخلني برحمتك.. فهو يعلم أن الدخول في عباد الله الصالحين، رحمة من الله، تتدارك العبد فتوفقه إلى العمل الصالح، فيسلك في عداد الصالحين. يعلم هذا، فيضرع إلى ربه أن يكون من المرحومين الموفقين السالكين في هذا الرعيل. يضرع إلى ربه وهو النبي الذي أنعم الله عليه وسخر له الجن والإنس والطير. غير آمن مكر الله- حتى بعد أن اصطفاه. خائفا أن يقصر به عمله، وأن يقصر به شكره.. وكذلك تكون الحساسية المرهفة بتقوى الله وخشيته والتشوق إلى رضاه ورحمته في اللحظة التي تتجلى فيها نعمته كما تجلت والنملة تقول وسليمان يدرك عنها ما تقول بتعليم الله له وفضله عليه.
ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة. خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها. وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده. فأما الأولى فهي مما علمه الله لسليمان. وسليمان إنسان ونبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة. فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه. وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة. أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف. وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال.
والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد، بينها فجوات فنية، تدرك من المشاهد المعروضة. وتكمل جمال العرض الفني في القصة، وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم.
وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا، من الناحيتين: الفنية الجمالية، والدينية الوجدانية.
ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير، كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم، فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير. ويبرز فيها دور العلم كذلك. وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة.. وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني.
كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة: شخصية سليمان، وشخصية الملكة،(5/2637)
وشخصية الهدهد، وشخصية حاشية الملكة. كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها.
يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده، بعد ما أتوا على وادي النمل، وبعد مقالة النملة، وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة:
«وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ..
فها هو ذا الملك النبي. سليمان. في موكبه الفخم الضخم. ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد. ونفهم من هذا أنه هدهد خاص، معين في نوبته في هذا العرض. وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد. كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته: سمة اليقظة والدقة والحزم. فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث.
وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟» .
ويتضح أنه غائب، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم، كي لا تكون فوضى. فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سرا. وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند. ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ» .. ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي. وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره.. ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: «أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» . أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.
ويسدل الستار على هذا المشهد الأول في القصة (أو لعله كان ما يزال قائما) ويحضر الهدهد. ومعه نبأ عظيم، بل مفاجأة ضخمة لسليمان، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن! «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ..
إنه يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له:
«أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» .. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» ؟! فإذا ضمن إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من سبأ- ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن- فذكر أنه وجدهم تحكمهم امرأة، «أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع. «وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» . أي سرير ملك فخم ضخم، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة. وذكر أنه وجد الملكة وقومها «يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وهنا يعلل ضلال القوم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم، فأضلهم، فهم لا يهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير «الَّذِي يُخْرِجُ(5/2638)
الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»
. والخبء: المخبوء إجمالا سواء أكان هو مطر السماء ونبات الأرض، أم كان هو أسرار السماوات والأرض. وهي كناية عن كل مخبوء وراء ستار الغيب في الكون العريض. «وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ» وهي مقابلة للخبء في السماوات والأرض بالخبء في أطواء النفس. ما ظهر منه وما بطن.
والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب، الذي لم يقض الملك في أمره بعد فهو يلمح في ختام النبأ الذي يقصه، إلى الله الملك القهار، رب الجميع، صاحب العرش العظيم، الذي لا تقاس إليه عروش البشر. ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ..
فيلمس قلب سليمان- في سياق التعقيب على صنع الملكة وقومها- بهذه الإشارة الخفية! ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب. صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه، وتلميح وإيماء أريب.. فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية. ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله. ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو رب العرش العظيم.. وما هكذا تدرك الهداهد. إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف.
ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به. إنما يأخذ في تجربته، للتأكد من صحته. شأن النبي العادل والملك الحازم:
«قالَ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» .
ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه، حتى يفتح ويعلن هناك.
وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب! ويستدل الستار على هذا المشهد ليرفع فإذا الملكة وقد وصل إليها الكتاب، وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير:
«قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» ..
فهي تخبرهم أنه ألقي إليها كتاب. ومن هذا نرجح أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب، أو لا كيف ألقاه.
ولو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به- كما تقول التفاسير- لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم.
ولكنها قالت بصيغة المجهول. مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقي إليها ولا من ألقاه.
وهي تصف الكتاب بأنه «كريم» . وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمة أو شكله. أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملأ: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» .. وهي كانت لا تعبد الله. ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم. مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته.
وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة. فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم. ومطلوب فيه أمر واحد:(5/2639)
ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.
ألقت الملكة إلى الملأ من قومها بفحوى الكتاب ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، برضاهم وموافقتهم:
«قالَتْ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» ..
وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم، والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء. وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملأ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه «كريم» وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف. ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة! وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل. ولكنهم فوضوا للملكة الرأي:
«قالُوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ» .
وهنا تظهر شخصية «المرأة» من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير. والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة:
«قالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» ! فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية (والقرية تطلق على المدينة الكبيرة) أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها، وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة. وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه.
والهدية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.
ويسدل الستار على المشهد، ليرفع، فإذا مشهد رسل الملكة وهديتهم أمام سليمان. وإذا سليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال، أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام. ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير.
«فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
وفي الرد استهزاء بالمال، واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله. مجال العقيدة والدعوة: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟» أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟ «فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» لقد آتاني من المال خيرا مما لديكم.
ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق: العلم والنبوة. وتسخير الجن والطير، فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني «بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ» . وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض، الذين لا يتصلون بالله، ولا يتلقون هداياه! ثم يتبغ هذا الاستنكار بالتهديد: «ارْجِعْ إِلَيْهِمْ» بالهدية وانتظروا المصير المرهوب: «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها» جنود لم تسخر للبشر في أي مكان، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال: «وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» مدحورون مهزومون.(5/2640)
ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر، وانتهى الكلام في هذا الشأن.
ثم إذا سليمان- عليه السّلام- يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء- كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية! - ويرجح أنها ستجيب دعوته. أو يؤكد. وقد كان.
ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها، ولا ماذا قالوا لها، ولا ماذا اعتزمت بعدها. إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة، وأن سليمان يعرف هذا، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها، الذي خلفته في بلادها محروسا مصونا:
«قالَ: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ؟ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ. وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» ..
ترى ما الذي قصد إليه سليمان- عليه السّلام- من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته.
وقد عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه. وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى. فاستطول سليمان هذه الفترة واستبطأها- فيما يبدو- فإذا «الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه، ولا يذكر اسمه، ولا الكتاب الذي عنده علم منه.
إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين، ولم يكشف سره ولا تعليله، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات! ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله: «عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» فقال بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم:
إنه كان يعرف اسم الله الأعظم. وقال بعضهم غير هذا وذاك. وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن. والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها، وكم فيه من قوى لا نستخدمها. وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها. فحيثما أراد الله هدى من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها.
وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه- عليه السّلام- ونحن نرجح أنه غيره. فلو كان هو لأظهره السياق باسمه. ولما أخفاه. والقصة عنه، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر. وبعضهم قال:
إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه.(5/2641)
«فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» .
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان- عليه السّلام- وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز واستشعر أن النعمة- على هذا النحو- ابتلاء ضخم مخيف يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، فينال من الله زيادة النعمة، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء. ومن كفر فإن الله «غَنِيٌّ» عن الشكر «كَرِيمٌ» يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء.
وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي سليمان- عليه السّلام- في تهيئة المفاجئات للملكة القادمة عما قليل:
«قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها. نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» .
غيروا معالمه المميزة له، لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير. أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير.
ولعل هذا كان اختبارا من سليمان لذكائها وتصرفها، في أثناء مفاجأتها بعرشها. ثم إذا مشهد الملكة ساعة الحضور:
«فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ: أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» ..
إنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال. فأين عرشها في مملكتها، وعليها أقفالها وحراسها.. أين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟
ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير! ترى تنفي أنه هو بناء على تلك الملابسات؟ أم تراها تقول: إنه هو بناء على ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب: «قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» لا تنفي ولا تثبت، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة.
وهنا فجوة في السياق. فكأنما أخبرت بسر المفاجأة. فقالت: إنها استعدت للتسليم والإسلام من قبل.
أي منذ اعتزمت القدوم على سليمان بعد رد الهدية.
«وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» ..
ثم يتدخل السياق القرآني لبيان ما كان قد منعها قبل ذلك من الإيمان بالله وصدها عن الإسلام عند ما جاءها كتاب سليمان فقد نشأت في قوم كافرين، فصدها عن عبادة الله عبادتها من دونه من خلقه، وهي الشمس كما جاء في أول القصة:
«وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» ..
وكان سليمان- عليه السّلام- قد أعد للملكة مفاجأة أخرى، لم يكشف السياق عنها بعد، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها- وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى «1» :
__________
(1) يراجع فصل القصة في القرآن في كتاب: التصوير الفني في القرآن. صفحة 148- 176 من الطبعة الثالثة. «دار الشروق» .(5/2642)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
ِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ. فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها! قالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ! قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»
..
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة. فلما قيل لها: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها: الَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ»
! ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر، وتدل على أن سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر. فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره. معلنة إسلامهاَعَ سُلَيْمانَ»
لا لسليمان. ولكنِ لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
لقد اهتدى قلبها واستنار. فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه، ولو كان هو سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات. إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين. ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة..َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله، والإسلام له. فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين. بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله. لا غالب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله.. رب العالمين.. على قدم المساواة.
ولقد كان كبراء قريش يستعصون على دعوة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إياهم إلى الإسلام. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى محمد بن عبد الله، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء. فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين. بين القائد والتابعين. فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين!
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)(5/2643)
في معظم المواضع في القرآن ترد قصة صالح وثمود في سياق قصص عام مع نوح وهود، ولوط وشعيب.
وأحيانا تجيء قصة إبراهيم في هذا السياق أو لا تجيء. أما في هذه السورة والتركيز فيها على قصص بني إسرائيل، فقد جاءت قصة موسى وقصة داود وسليمان. واختصرت قصة هود وقصة شعيب من السلسلة ولم تجئ قصة إبراهيم.
وفي هذه السورة لا تذكر حلقة الناقة في قصة صالح- عليه السّلام- إنما يذكر تبييت الرهط التسعة المفسدين لصالح وأهله، ومكرهم به وهو لا يشعر، فمكر الله بالمفسدين وهم لا يشعرون، ودمرهم وقومهم أجمعين.
وأنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون، وترك بيوت المفسدين خاوية وجعلها لمن بعدهم آية. والمشركون في مكة يمرون بهذه البيوت المدمرة الخاوية ولكنهم لا يعتبرون..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ» ..
يلخص رسالة صالح- عليه السّلام- في حقيقة واحدة: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» فهذه هي القاعدة التي ترتكز عليها رسالة السماء إلى الأرض في كل جيل، ومع كل رسول. ومع أن كل ما حول البشر في هذا الكون، وكل ما يكمن فيهم أنفسهم، يهتف بهم إلى الإيمان بهذه الحقيقة الواحدة، فقد أمضت البشرية أجيالا وأزمانا لا يعلمها إلا الله، وهي تقف أمام هذه الحقيقة البسيطة وقفة الإنكار والجحود، أو وقفة الهزء والتكذيب.
وما تزال إلى اليوم تروغ عن هذه الحقيقة الخالدة، وتجنح إلى شتى السبل، التي تتفرق بها عن سبيل الله الواحد المستقيم.
فأما قوم صالح- ثمود- فيحكي القرآن خلاصة موقفهم بعد دعوته إياهم، وجهده معهم بأنهم أصبحوا فريقين يختصمون. فريقا يستجيب له، وفريقا يخالف عنه. وكان الفريق المعارض هو الكثرة، كما نعرف من المواضع الأخرى في القرآن عن هذه القصة.
وهنا فجوة في السورة على طريقة القصص القرآني ندرك منها أن المكذبين المعرضين استعجلوا عذاب الله الذي أنذرهم به صالح، بدلا من أن يطلبوا هدى الله ورحمته- شأنهم في هذا شأن مشركي قريش مع الرسول الكريم- فأنكر عليهم صالح أن يستعجلوا بالعذاب ولا يطلبوا الهداية، وحاول أن يوجههم إلى الاستغفار لعل الله يدركهم برحمته:
«قالَ: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ! ولقد كان يبلغ من فساد القلوب أن يقول المكذبون: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .. بدلا من أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إلى الإيمان به والتصديق! وكذلك كان قوم صالح يقولون. ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار.
ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم، ويتوقعون الشر من ورائهم:
«قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ» .
والتطير. التشاؤم. مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان. فقد كان الواحد منهم إذا همّ بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا. فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر. وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر!(5/2644)
وما تدري الطير الغيب، وما تنبىء حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول. ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه. فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين.
وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم- بزعمهم- قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين! - هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه.. نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد.. إلى آخر هذه الخرافات الساذجة. ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة.
وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات! فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة، الضالة في تيه الوهم والخرافة، ردهم صالح إلى نور اليقين، وإلى حقيقته الواضحة، البعيدة عن الضباب والظلام:
«قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ» .
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله. والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور، وبين لهم الطريق المستنير.
فمن اتبع سنة الله، وسار على هداه، فهناك الخير، بدون حاجة إلى زجر الطير. ومن انحرف عن السنة، وحاد عن السواء، فهناك الشر، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير.
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» ..
تفتنون بنعمة الله، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر. فاليقظة وتدبر السنن، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية. لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء.
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور. وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم. وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة..
وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس. وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله، وبخالق الكون ومدبره، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم.
ولكن هذا المنطق المستقيم إنما تستجيب له القلوب التي لم تفسد، ولم تنحرف الانحراف الذي لا رجعة منه.
وكان من قوم صالح، من كبرائهم، تسعة نفر لم يبق في قلوبهم موضع للصلاح والإصلاح. فراحوا يأتمرون به، ويدبرون له ولأهله في الظلام..
«وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. قالُوا: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ. وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ..
هؤلاء الرهط التسعة الذين تمحضت قلوبهم وأعمالهم للفساد وللإفساد، لم يعد بها متسع للصلاح والإصلاح، فضاقت نفوسهم بدعوة صالح وحجته، وبيتوا فيما بينهم أمرا. ومن العجب أن يتداعوا إلى القسم بالله مع هذا(5/2645)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الشر المنكر الذي يبيتونه، وهو قتل صالح وأهله بياتا، وهو لا يدعوهم إلا لعبادة الله! وإنه لمن العجب كذلك أن يقولوا: «تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ» ولا حضرنا مقتله.. «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .. فقد قتلوهم في الظلام فلم يشهدوا هلاكهم أي لم يروه بسبب الظلام! وهو احتيال سطحي وحيلة ساذجة. ولكنهم يطمئنون أنفسهم بها، ويبررون كذبهم، الذي اعتزموه للتخلص من أولياء دم صالح وأهله. نعم من العجب أن يحرص مثل هؤلاء على أن يكونوا صادقين! ولكن النفس الإنسانية مليئة بالانحرافات والالتواءات، وبخاصة حين لا تهتدي بنور الإيمان، الذي يرسم لها الطريق المستقيم.
كذلك دبروا. وكذلك مكروا.. ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون:
«وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
وأين مكر من مكر؟ وأين تدبير من تدبير؟ وأين قوة من قوة؟
وكم ذا يخطىء الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة، ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون:
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ. أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» ..
ومن لمحة إلى لمحة إذا التدمير والهلاك، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية. وقد كانوا منذ لحظة واحدة، في الآية السابقة من السورة، يدبرون ويمكرون، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون! وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودة في السياق. لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية. مباغتة القدرة التي لا تغلب للمخدوعين بقوتهم ومباغتة التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزين بمكرهم.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .. والعلم هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث وبعد مشهد المباغتة يجيء ذكر نجاة المؤمنين الذين يخافون الله ويتقونه..
«وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
والذي يخاف الله يقيه سبحانه من المخاوف فلا يجمع عليه خوفين. كما جاء في حديث قدسي جليل.
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
«1»
__________
(1) هذه نهاية الجزء التاسع عشر في تقسيم المصحف. ولكننا تابعنا السياق إلى نهاية القصة.(5/2646)
هذه الحلقة القصيرة من قصة لوط تجيء مختصرة، تبرز همّ قوم لوط بإخراجه، لأنه أنكر عليهم الفاحشة الشاذة التي كانوا يأتونها عن إجماع واتفاق وتعارف وعلانية. فاحشة الشذوذ الجنسي بإتيان الرجال، وترك النساء، على غير الفطرة التي فطر الله الناس عليها. بل عامة الأحياء.
وهي ظاهرة غريبة في تاريخ الجماعات البشرية. فقد يشذ أفراد، لأسباب مرضية نفسية أو لملابسات وقتية فيميل الذكور لإتيان الذكور وأكثر ما يكون هذا في معسكرات الجنود حيث لا يوجد النساء، أو في السجون التي يقيم فيها المسجونون فترات طويلة معرضين لضغط الميل الجنسي، محرومين من الاتصال بالنساء.. أما أن يشيع هذا الشذوذ فيصبح هو القاعدة في بلد بأسره، مع وجود النساء وتيسر الزواج، فهذا هو الحادث الغريب حقا في تاريخ الجماعات البشرية! لقد جعل الله من الفطرة ميل الجنس إلى الجنس الآخر، لأنه جعل الحياة كلها تقوم على قاعدة التزاوج.
فقال: «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» . فجعل الأحياء كلها أزواجا سواء نبات الأرض والأنفس وما لا يعلمه الناس في شتى المخلوقات. والتزاوج يبدو أصيلا في بناء الكون كله- فضلا على الأحياء- فالذرة ذاتها مؤلفة من كهارب والكترونات. أي من كهربائية إيجابية وأخرى سلبية. وهي وحدة الكائنات المكرورة فيها جميعا كما يبدو حتى الآن.
وعلى أية حال فالحقيقة المضمونة أن الأحياء كلها تقوم على قاعدة التزاوج. حتى التي لا يوجد لها من جنسها ذكر وأنثى تجتمع خلايا التذكير والتأنيث في آحادها، وتتكاثر بهذا الاجتماع.
ولما كان التزاوج هو قاعدة الحياة في ناموس الخلق، فقد جعل الله التجاذب بين الزوجين هو الفطرة، التي لا تحتاج إلى تعليم، ولا تتوقف على تفكير. وذلك كي تسير الحياة في طريقها بدافع الفطرة الأصيل.
والأحياء يجدون لذتهم في تحقيق مطالب الفطرة. والقدرة المدبرة تحقق ما تشاؤه من وراء لذتهم المودعة في كيانهم بلا وعي منهم ولا توجيه من غيرهم. وقد جعل الله تركيب أعضاء الأنثى وأعضاء الذكر، وميول هذا وتلك بحيث تحقق اللذة الفطرية من اجتماعهما. ولم يجعل هذا في أعضاء الذكرين وميولهما.
ومن ثم يكون عجيبا أن تنحرف الفطرة انحرافا جماعيا كما حدث في قوم لوط، بدون ضرورة دافعة إلى عكس اتجاه الفطرة المستقيم.
وهكذا واجه لوط قومه بالاستنكار والعجب مما يفعلون! «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ؟ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» ..
عجب في عبارته الأولى من إتيانهم هذه الفاحشة، وهم يبصرون الحياة في جميع أنواعها وأجناسها تجري على نسق الفطرة، وهم وحدهم الشواذ في وسط الحياة والأحياء.. وصرح في عبارته الثانية بطبيعة تلك الفاحشة.
ومجرد الكشف عنها يكفي لإبراز شذوذها وغرابتها لمألوف البشرية، ولمألوف الفطرة جميعا. ثم دمغهم بالجهل بمعنييه: الجهل بمعنى فقدان العلم. والجهل بمعنى السفه والحمق. وكلا المعنيين متحقق في هذا الانحراف البغيض. فالذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء، ولا يعلم شيئا أصلا. والذي يميل هذا الميل عن الفطرة سفيه أحمق معتد على جميع الحقوق! فماذا كان جواب قوم لوط على هذا الاستنكار للانحراف، وهذا التوجيه إلى وحي الفطرة السليمة؟(5/2647)
كان جوابهم في اختصار أن هموا بإخراج لوط ومن سمع دعوته وهم أهل بيته- إلا امرأته- بحجة أنهم أناس يتطهرون! «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» .
وقولهم هذا قد يكون تهكما بالتطهر من هذا الرجس القذر. وقد يكون إنكارا عليه أن يسمى هذا تطهرا، فهم من انحراف الفطرة بحيث لا يستشعرون ما في ميلهم المنحرف من قذارة. وقد يكون ضيقا بالطهر والتطهر إذا كان يكلفهم الإقلاع عن ذلك الشذوذ!! على أية حال لقد هموا همهم، وحزموا أمرهم. وأراد الله غير ما كانوا يريدون:
«فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ «1» . وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ..
ولا يذكر تفصيلات هنا عن هذا المطر المهلك كما وردت تفصيلاته في السور الأخرى. فنكتفي نحن بهذا مجاراة للسياق. ولكننا نلمح في اختيار هلاك قوم لوط بالمطر، وهو الماء المحيي المنبت أنه مماثل لاستخدامهم ماء الحياة- ماء النطف- في غير ما جعل له وهو أن يكون مادة حياة وخصب.. والله أعلم بقوله ومراده، وأعلم بسننه وتدبيره. وإن هو إلا رأي أراه في هذا التدبير.
__________
(1) الهالكين بسبب أنها كانت عجوز سوء توافق قومها على الانحراف والشذوذ.(5/2648)
انتهى الجزء التاسع عشر ويليه الجزء العشرون مبدوءا بقوله تعالى:
«قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى» .(5/2649)
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقية سورة النّمل وسورة القصص وقسم من سورة العنكبوت الجزء العشرون(5/2652)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 93]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)(5/2653)
هذا الدرس ختام سورة النمل، بعد استعراض حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط- عليهم السلام- وهذا الختام متصل بمطلع السورة في الموضوع. والقصص بينهما متناسق مع المطلع والختام. كل قصة تؤدي جانبا من جوانب الغرض الذي يعالجه سياق السورة كلها.
وهو يبدأ بالحمد لله، وبالسلام على من اصطفاهم من عباده، من الأنبياء والرسل، ومنهم الذين ورد قصصهم من قبل. يفتتح بذلك الحمد وهذا السلام جولة عن العقيدة. جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس، وأطواء الغيب وفي أشراط الساعة ومشاهد القيامة، وأهوال الحشر، التي يفزع لها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
في هذه الجولة يقفهم أمام مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس، لا يملكون إنكار وجودها، ولا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبر القدير.
ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثرة، تأخذ عليهم أقطار الحجة، وأقطار المشاعر وهو يسألهم أسئلة متلاحقة: من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟ من جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرا(5/2654)
بين يدي رحمته؟ من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرعهم: أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يدعوا هذه الدعوى. لا يملكون أن يقولوا: إن إلها مع الله يفعل من هذا كله شيئا وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله! وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم.. يستعرض تكذيبهم بالآخرة، وتخبطهم في أمرها، ويعقب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.
ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول ومن فزع. ويرجع بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض، ثم يردهم إلى مشهد الحشر. وكأنما يهز قلوبهم هزا ويرجها رجا..
وفي نهاية الجولة يجيء الختام أشبه بالإيقاع الأخير عميقا رهيبا.. ينفض رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يده من أمر المشركين المستهزئين بالوعيد، المكذبين بالآخرة، وقد وجه قلوبهم إلى مشاهد الكون وأهوال الحشر، وعواقب الطائعين والعصاة- ويتركهم إلى مصيرهم الذي يختارون ويحدد منهجه ووسيلته ولمن شاء أن يختار:
«إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ..
ثم يختم الجولة كما بدأها بحمد الله الذي يستأهل الحمد وحده ويكلهم إلى الله يريهم آياته ويطلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن:
«وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وتختم السورة بهذا الإيقاع المؤثر العميق.
«قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟» ..
يأمر الله رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يقول الكلمة التي تليق أن يفتتح بها المؤمن حديثه ودعوته وجداله، وأن يختمه كذلك: «قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» .. المستحق للحمد من عباده على آلائه، وفي أولها هدايتهم إليه، وإلى طريقه الذي يختاره، ومنهجه الذي يرضاه. «وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» لحمل رسالته وتبليغ دعوته، وبيان منهجه.
وبعد هذا الافتتاح يأخذ في توقيعاته على القلوب المنكرة لآيات الله، مبتدئا بسؤال لا يحتمل إلا إجابة واحدة، يستنكر به أن يشركوا بالله هذه الآلهة المدعاة:
«آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟» ..
وما يشركون أصنام وأوثان، أو ملائكة وجن، أو خلق من خلق الله على أية حال، لا يرتقي أن يكون شبيها بالله- سبحانه- فضلا على أن يكون خيرا منه. ولا يخطر على قلب عاقل أن يعقد مقارنة أو موازنة. ومن ثم يبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف، لأنه غير قابل أن يوجه على سبيل الجد، أو أن يطلب عنه جواب! ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر، مستمد من واقع هذا الكون حولهم، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم:(5/2655)
«أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» ..
والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها.. وهي أصنام أو أوثان، أو ملائكة وشياطين، أو شمس أو قمر.. فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه، مخلوق بذاته، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها، كفيلا بإلزام الحجة، ودحض الشرك، وإفحام المشركين. وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد، ويتضح فيه التدبير، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد، الذي تتضح وحدانيته بآثاره. ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه. فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة. إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير.
«أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .. «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟» ..
والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها، ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر، بهذا القدر، الذي توجد به الحياة، على النحو الذي وجدت به، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق، وبهذا التقدير المضبوط. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ ... » والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون:
«فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» ..
حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة.. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر.
وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر- وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر-:
«ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس. سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الإنسان. فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول: كيف جاءت هذه الحياة، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان. ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور.
وعند ما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير، يهجم عليهم بسؤال:
«أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» ..
ولا مجال لمثل هذا الادعاء ولا مفر من الإقرار والإذعان.. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا، وهم يسوون(5/2656)
آلهتهم المدعاة بالله، فيعبدونها عبادة الله: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» ..
ويعدلون. إما أن يكون معناها يسوون. أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة. وإما أن يكون معناها: يحيدون.
أي يحيدون عن الحق الواضح المبين. بإشراك أحد مع الله في العبادة وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق. وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق! ثم ينتقل بهم إلى حقيقة كونية أخرى، يواجههم بها كما واجههم بحقيقة الخلق الأولى:
«أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؟» ..
لقد كانت الحقيقة الكونية الأولى هي حقيقة خلق السماوات والأرض. أما هذه فهي الهيئة التي خلق عليها الأرض. لقد جعلها قرارا للحياة، مستقرة مطمئنة صالحة يمكن أن توجد فيها الحياة وتنمو وتتكاثر. ولو تغير وضعها من الشمس والقمر أو تغير شكلها، أو تغير حجمها، أو تغيرت عناصرها والعناصر المحيطة في الجو بها، أو تغيرت سرعة دورتها حول نفسها، أو سرعة دورتها حول الشمس، أو سرعة دورة القمر حولها.. إلى آخر هذه الملابسات الكثيرة التي لا يمكن أن تتم مصادفة، وأن تتناسق كلها هذا التناسق.. لو تغير شيء من هذا كله أدنى تغيير، لما كانت الأرض قرارا صالحا للحياة.
وربما أن المخاطبين إذ ذاك لم يكونوا يدركون من قوله تعالى: «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً؟» كل هذه العجائب. ولكنهم كانوا يرون الأرض مستقرا صالحا للحياة على وجه الإجمال ولا يملكون أن يدعوا أن أحدا من آلهتهم كان له شرك في خلق الأرض على هذا المنوال. وهذا يكفي. ثم يبقى النص بعد ذلك مفتوحا للأجيال وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئا من معناه الضخم المتجدد على توالي الأجيال. وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول، على توالي الأزمان! «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً؟» ..
والأنهار في الأرض هي شرايين الحياة، وهي تنتشر فيها إلى الشرق وإلى الغرب، وإلى الشمال وإلى الجنوب، تحمل معها الخصب والحياة والنماء. والأنهار تتكون من تجمع مياه الأمطار وجريانها وفق طبيعة الأرض.
والله الذي خلق هذا الكون هو الذي قدر في تصميمه إمكان تكون السحب، ونزول المطر، وجريان الأنهار.
وما يملك أحد أن يقول: إن أحدا سوى الخالق المدبر قد شارك في خلق هذا الكون على هذا النحو وجريان الأنهار حقيقة واقعة يراها المشركون. فمن ذا أوجد هذه الحقيقة؟ «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» .
«وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» ..
والرواسي: الجبال. وهي ثابتة مستقرة على الأرض. وهي في الغالب منابع الأنهار، حيث تجري منها مياه الأمطار إلى الوديان وتشق مجراها بسبب تدفقها من قمم الجبال العالية بعنف وقوة.
والرواسي الثابتة تقابل الأنهار الجارية في المشهد الكوني الذي يعرضه القرآن هنا والتقابل التصويري ملحوظ في التعبير القرآني. وهذا واحد منه. لذلك يذكر الرواسي بعد الأنهار.
«وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» ..
البحر الملح الأجاج، والنهر العذب الفرات. سماهما بحرين على سبيل التغليب من حيث مادتهما المشتركة وهي الماء. والحاجز في الغالب هو الحاجز الطبيعي، الذي يجعل البحر لا يفيض على النهر فيفسده. إذ أن مستوى سطح النهر أعلى من مستوى سطح البحر. وهذا ما يحجز بينهما مع أن الأنهار تصب في البحار، ولكن مجرى النهر يبقى(5/2657)
مستقلا لا يطغى عليه البحر. وحتى حين ينخفض سطح النهر عن سطح البحر لسبب من الأسباب فإن هذا الحاجز يظل قائما من طبيعة كثافة ماء البحر وماء النهر. إذ يخف ماء النهر ويثقل ماء البحر فيظل مجرى كل منهما مميزا لا يمتزجان ولا يبغي أحدهما على الآخر. وهذا من سنن الله في خلق هذا الكون، وتصميمه على هذا النحو الدقيق.
فمن فعل هذا كله؟ من؟ «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» ..
وما يملك أحد أن يدعي هذه الدعوى. ووحدة التصميم أمامه تجبره على الاعتراف بوحدة الخالق.. «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويذكر العلم هنا لأن هذه الحقيقة الكونية تحتاج إلى العلم لتملي الصنعة فيها والتنسيق، وتدبر السنة فيها والناموس. ولأن التركيز في السورة كلها على العلم (كما ذكرنا في تلخيص السورة في الجزء الماضي) .
ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم:
«أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم، وواقع أحوالهم.
فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى.. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء.
فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين.
والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الحدائق البهيجة، وجعل الأرض قرارا، والجبال رواسي، وإجراء الأنهار، والحاجزين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء.
ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» ..
فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟
أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف(5/2658)
المساعدة للحياة. ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا «1» .
وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة، واستخلف جيلا بعد جيل ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات، وتجدد أنماط الحياة، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور.
فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام! إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق. فمن الذي حقق وجودها وأنشأها؟ من؟
«أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» ..
إنهم لينسون ويغفلون. هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس، مشهودة في واقع الحياة:
«قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ! ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى. ولما غفل عن ربه، ولا أشرك به أحدا.
ثم يمضي السياق إلى بعض الحقائق الأخرى الممثلة في حياة الناس ونشاطهم على هذا الكوكب، ومشاهداتهم التي لا تنكر:
«أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!» ..
والناس- ومنهم المخاطبون أول مرة بهذا القرآن- يسلكون فجاج البر والبحر في أسفارهم ويسبرون أسرار البر والبحر في تجاربهم.. ويهتدون.. فمن يهديهم؟ من أودع كيانهم تلك القوى المدركة؟ من أقدرهم على الاهتداء بالنجوم وبالآلات وبالمعالم؟ من وصل فطرتهم بفطرة هذا الكون، وطاقاتهم بأسراره؟ من جعل لآذانهم تلك القدرة على التقاط الأصوات، ولعيونهم تلك القدرة على التقاط الأضواء؟ ولحواسهم تلك القدرة على التقاط المحسوسات؟ ثم جعل لهم تلك الطاقة المدركة المسماة بالعقل أو القلب للانتفاع بكل المدركات، وتجميع تجارب الحواس والإلهامات؟
من؟ أإله مع الله؟
«وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟» ..
والرياح، مهما قيل في أسبابها الفلكية والجغرافية، تابعة للتصميم الكوني الأول، الذي يسمح بجريانها على النحو الذي تجري به، حاملة السحب من مكان إلى مكان، مبشرة بالمطر الذي تتجلى فيه رحمة الله، وهو سبب الحياة.
فمن الذي فطر هذا الكون على خلقته، فأرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته؟ من؟
«أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» .. «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!» .
ويختم هذه الإيقاعات بسؤال عن خلقتهم وإعادتهم ورزقهم من السماء والأرض، مع التحدي والإفحام:
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» في سورة الفرقان. جزء 19، ص 2548.(5/2659)
«أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد إنكارها، ولا يمكن أحدا تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته. وجوده لأن وجود هذا الكون ملجئ للإقرار بوجوده وقد باءت بالفشل المنطقي كل محاولة لتعليل وجود هذا الكون على هذا النحو الذي يظهر فيه التدبير والقصد بغير الإقرار بوجود الله. ووحدانيته لأن آثار صنعته ملجئة للإقرار بوحدانيته فعليها آثار التقدير الواحد، والتدبير الواحد وفيها من التناسق المطلق ما يجزم بالإرادة الواحدة المنشئة للناموس الواحد.
فأما إعادة الخلق فهذه التي كانوا يجادلون فيها ويمارون. ولكن الإقرار يبدء الخلق على هذا النحو الذي يظهر فيه التقدير والتدبير والقصد والتنسيق ملجىء كذلك للتصديق بإعادة الخلق، ليلقوا جزاءهم الحق على أعمالهم في دار الفناء، التي لا يتم فيها الجزاء الحق على الأعمال وإن كان يتم فيها أحيانا بعض الجزاء. فهذا التنسيق الواضح في خلقة الكون يقتضي أن يتم تمامه بالتنسيق المطلق بين العمل والجزاء. وهذا لا يتم في الحياة الدنيا. فلا بد إذن من التصديق بحياة أخرى يتحقق فيها التناسق والكمال.. أما لماذا لم يتم في هذه الأرض ذلك التنسيق المطلق بين العمل والجزاء؟ فذلك متروك لحكمة صاحب الخلق والتدبير. وهو سؤال لا يجوز توجيهه لأن الصانع أعلم بصنعته. وسر الصنعة عند الصانع. وهو غيب من غيبه الذي لم يطلع عليه أحدا! ومن هذا التلازم بين الإقرار بمبدىء الحياة والإقرار بمعيدها يسألهم ذلك السؤال: «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟» .. «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» ..
والرزق من السماء والأرض متصل بالبدء والإعادة سواء. ورزق العباد من الأرض يتمثل في صور شتى أظهرها النبات والحيوان، والماء والهواء، للطعام والشراب والاستنشاق ومنها كنوز الأرض من معادن وفلزات وكنوز البحر من طعام وزينة. ومنها القوى العجيبة من مغناطيسية وكهرباء، وقوى أخرى لا يعلمها بعد إلا الله ويكشف عن شيء منها لعباده آنا بعد آن.
وأما رزقهم من السماء فلهم منه في الحياة الدنيا: الضوء والحرارة والمطر وسائر ما ييسره الله لهم من القوى والطاقات. ولهم منه في الآخرة عطاء الله الذي يقسمه لهم- وهو من السماء بمدلولها المعنوي، الذي يتردد كثيرا في القرآن والسنة وهو معنى الارتفاع والاستعلاء.
وقد ذكر رزقهم من السماء والأرض بعد ذكر البدء والإعادة، لأن رزق السماء والأرض له علاقة بالبدء والإعادة. فعلاقة رزق الأرض بالبدء معروفة فهو الذي يعيش عليه العباد. وعلاقته بالإعادة أن الناس يجزون في الآخرة على عملهم وتصرفهم في هذا الرزق الذي أعطوه في الدنيا.. وعلاقة رزق السماء بالبدء واضحة.
فهو في الدنيا للحياة، وهو في الآخرة للجزاء.. وهكذا تبدو دقة التناسق في السياق القرآني العجيب.
والبدء والإعادة حقيقة. والرزق من السماء والأرض حقيقة. ولكنهم يغفلون عن هذه الحقائق، فيردهم القرآن إليها في تحد وإفحام:
«أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» .. «قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وإنهم ليعجزون عن البرهان، كما يعجز عنه من يحاوله حتى الآن. وهذه طريقة القرآن في الجدل عن العقيدة. يستخدم مشاهد الكون وحقائق النفس فيجعل الكون كله إطارا للمنطق الذي يأخذ به القلوب ويوقظ به الفطرة ويجلوها لتحكم منطقها الواضح الواصل البسيط ويستجيش به المشاعر والوجدانات بما هو(5/2660)
مركوز فيها من الحقائق التي تغشيها الغفلة والنسيان، ويحجبها الجحود والكفران.. ويصل بهذا المنطق إلى تقرير الحقائق العميقة الثابتة في تصميم الكون وأغوار النفس والتي لا تقبل المراء الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد، الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي، وفشا فيما يسمى علم التوحيد، أو علم الكلام! وبعد هذه الجولة في الآفاق وفي أنفسهم لإثبات الوحدانية ونفي الشرك. يأخذ معهم في جولة أخرى عن الغيب المستور الذي لا يعلمه إلا الخالق الواحد المدبر، وعن الآخرة وهي غيب من غيب الله، يشهد المنطق والبداهة والفطرة بضرورته ويعجز الإدراك والعلم البشري عن تحديد موعده:
«قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ! قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .
والإيمان بالبعث والحشر، وبالحساب والجزاء، عنصر أصيل في العقيدة، لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به. فلا بد من عالم مرتقب، يكمل فيه الجزاء، ويتناسق فيه العمل والأجر، ويتعلق به القلب، وتحسب حسابه النفس، ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك.
ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة، على بساطتها وضرورتها. فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور.
ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر. ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة، وتستمرئ الجحود والمعصية، وتستطرد في الكفر والتكذيب.
والآخرة غيب. ولا يعلم الغيب إلا الله. وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر، ويحسبوها أساطير، سبق تكرارها ولم تحقق أبدا! فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله، وأن علمهم عن الآخرة منته محدود:
«قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» ..
ولقد وقف الإنسان منذ بدء الخليقة أمام ستر الغيب المحجوب، لا ينفذ إليه علمه، ولا يعرف مما وراء الستر المسدل، إلا بقدر ما يكشف له منه علام الغيوب. وكان الخير في هذا الذي أراده الله، فلو علم الله أن في كشف هذا الستر المسبل خيرا لكشفه للإنسان المتطلع الشديد التطلع إلى ما وراءه! لقد منح الله هذا الإنسان من المواهب والاستعدادات والقوى والطاقات ما يحقق به الخلافة في الأرض، وما ينهض به بهذا التكليف الضخم.. ولا زيادة.. وانكشاف ستر الغيب له ليس مما يعينه في هذه المهمة. بل إن انطباق أهدابه دونه لما يثير تطلعه إلى المعرفة، فينقب ويبحث. وفي الطريق يخرج المخبوء في باطن الأرض، وجوف البحر، وأقطار الفضاء ويهتدي إلى نواميس الكون والقوى الكامنة فيه، والأسرار المودعة في كيانه لخير البشر، ويحلل في مادة الأرض ويركب، ويعدل في تكوينها وأشكالها، ويبتدع في أنماط الحياة ونماذجها..(5/2661)
حتى يؤدي دوره كاملا في عمارة هذه الأرض، ويحقق وعد الله بخلافة هذا المخلوق الإنساني فيها.
وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله، ولكن كل من في السماوات والأرض من خلق الله.
من ملائكة وجن غيرهم ممن علمهم عند الله. فكلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم، فيبقي سره عند الله دون سواه.
«قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ» ..
وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدع، ولا يبقى معه مجال للوهم والخرافة.
وبعد هذا التعميم في أمر الغيب يخصص في أمر الآخرة لأنها القضية التي عليها النزاع مع المشركين بعد قضية التوحيد:
«وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ..
ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره وهو الشعور. فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا، ولا يشعرون به حين يقترب شعورا. فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا أحد يعلمه في السماوات ولا في الأرض.. ثم يضرب عن هذا ليتحدث في موقفهم هم من الآخرة، ومدى علمهم بحقيقتها:
«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» ..
فانتهى إلى حدوده، وقصر عن الوصول إليها، ووقف دونها لا يبلغها.
«بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» ..
لا يستيقنون بمجيئها، بله أن يعرفوا موعدها، وينتظروا وقوعها.
«بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» ..
بل هم عنها في عمى، لا يبصرون من أمرها شيئا، ولا يدركون من طبيعتها شيئا.. وهذه أشد بعدا عن الثانية وعن الأولى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟» ..
وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما: أإذا فارقتنا الحياة، ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور، وصارت ترابا.. أإذا وقع هذا كله- وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة- أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى، وأن تخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا؟
يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى. وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا. ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى. فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء، فمنها ما جاء من تربة الأرض، ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء، ومنها ما قدم من الشمس البعيدة، ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان، ومنها ما انبعث من جسد رمّ وتبخرت بعض عناصره في الهواء! .. ثمّ تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه، وشراب يشربونه، وهواء يتنفسونه، وشعاع يستدفئون به.. ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله، ولا يحصي مصادره إلا الله، يتجمع في هيكل إنسان وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم، حتى يصير جسدا مسجى في كفن.. فهؤلاء في خلقتهم أول مرة، فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة!(5/2662)
ولكنهم كانوا هكذا يقولون. وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف! هكذا كانوا يقولون. ثم يتبعون هذه القولة الجاهلة المطموسة بالتهكم والاستنكار:
«لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .
فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور. مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة، ولا غفلا من معانيها. إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين: إنها أساطير الأولين يرويها محمد- صلّى الله عليه وسلّم- غافلين أن للساعة موعدها الذي لا يتقدم لاستعجال البشر ولا يتأخر لرجائهم، إنما يجيء في الوقت المعلوم لله، المجهول للعباد في السماوات والأرض سواء. ولقد قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- لجبريل- عليه السّلام- وهو يسأله عن الساعة: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» «1» .
وهنا يلمس قلوبهم بتوجيهها إلى مصارع الذين كذبوا قبلهم بالوعيد ويسميهم المجرمين:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» .
وفي هذا التوجيه توسيع لآفاق تفكيرهم، فالجيل من البشر ليس مقطوعا من شجرة البشرية وهو محكوم بالسنن المتحكمة فيها وما حدث للمجرمين من قبل يحدث للمجرمين من بعد فإن السنن لا تحيد ولا تحابي.
والسير في الأرض يطلع النفوس على مثل وسير وأحوال فيها عبرة، وفيها تفتيح لنوافذ مضيئة. وفيها لمسات للقلوب قد توقظها وتحييها. والقرآن يوجه الناس إلى البحث عن السنن المطردة، وتدبر خطواتها وحلقاتها، ليعيشوا حياة متصلة الأوشاج متسعة الآفاق، غير متحجرة ولا مغلقة ولا ضيقة ولا منقطعة.
وبعد أن يوجههم هذا التوجيه يأمر رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- أن ينفض يديه من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم، الذي وجههم إلى نظائره، وألا يضيق صدره بمكرهم، فإنهم لن يضروه شيئا، وألا يحزن عليهم فقد أدى واجبه تجاههم وأبلغهم وبصرهم.
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» ..
وهذا النص يصور حساسية قلبه- صلّى الله عليه وسلّم- وحزنه على مصير قومه الذي يعلمه من مصائر المكذبين قبلهم، ويدل كذلك على شدة مكرهم به وبالدعوة وبالمسلمين حتى ليضيق صدره الرحب الكبير.
ثم يمضي في سرد مقولاتهم عن قضية البعث، واستهانتهم بالوعيد بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة:
«وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
كانوا يقولون هذا كلما خوفوا بمصائر المجرمين قبلهم، ومصارعهم التي يمرون عليها مصبحين كقرى لوط، وآثار ثمود في الحجر، وآثار عاد في الأحقاف، ومساكن سبأ بعد سيل العرم.. كانوا يقولون مستهزئين:
«مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به؟ إن كنتم صادقين فهاتوه، أو خبرونا بموعده على التحديد! وهنا يجيء الرد يلقي ظلال الهول المتربص، وظلال التهكم المنذر في كلمات قصار:
«قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» ..
__________
(1) من حديث عبد الله بن عمر. في حقيقة الإسلام والإيمان. أخرجه مسلم وأصحاب السنن. [.....](5/2663)
بذلك يثير في قلوبهم الخوف والقلق من شبح العذاب. فقد يكون وراءهم- رديفا لهم كما يكون الرديف وراء الراكب فوق الدابة- وهم لا يشعرون. وهم في غفلتهم يستعجلون به وهو خلف رديف! فيالها من مفاجأة ترتعش لها الأوصال. وهم يستهزئون ويستهترون! ومن يدري. إن الغيب لمحجوب. وإن الستار لمسبل. فما يدري أحد ما وراءه. وقد يكون على قيد خطوات ما يذهل وما يهول! إنما العاقل من يحذر، ومن يتهيأ ويستعد في كل لحظة لما وراء الستر المسدول! «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» ..
وإن فضله ليتجلى في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم وهم مذنبون أو مقصرون، عسى أن يتوبوا إليه ويثوبوا إلى الطريق المستقيم. «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» على هذا الفضل، إنما يستهزئون ويستعجلون، أو يسدرون في غيهم ولا يتدبرون.
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» ..
وهو يمهلهم ويؤخر العذاب عنهم، مع علمه بما تكنه صدورهم وما تعلنه ألسنتهم وأفعالهم. فهو الإمهال عن علم، والإمهال عن فضل. وهم بعد ذلك محاسبون عما تكن صدورهم وما يعلنون.
ويختم هذه الجولة بتقرير علم الله الشامل الكامل، الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض:
«وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
ويجول الفكر والخيال في السماء والأرض، وراء كل غائبة. من شيء، ومن سر، ومن قوة، ومن خبر، وهي مقيدة بعلم الله، لا تند منها شاردة، ولا تغيب منها غائبة. والتركيز في السورة كلها على العلم. والإشارات إليه كثيرة، وهذه واحدة منها تختم بها هذه الجولة.
وبمناسبة الحديث عن علم الله المطلق يذكر ما ورد في القرآن من فصل الخطاب فيما اختلف عليه بنو إسرائيل، بوصفه طرفا من علم الله المستيقن، ونموذجا من فضل الله وقضائه بين المختلفين. ليكون هذا تعزية لرسوله- صلّى الله عليه وسلّم- وليدعهم لله يفصل بينه وبينهم بقضائه الأخير:
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ..
ولقد اختلف النصارى في المسيح- عليه السّلام- وفي أمه مريم.
قالت جماعة: إن المسيح إنسان محض، وقالت جماعة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله بزعمهم مركب من أقانيم ثلاثة، الأب والابن وروح القدس (والابن هو عيسى) فانحدر الله الذي هو الأب في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنسانا وولد منها في صورة يسوع! وجماعة قالت: أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له! وجماعة أنكروا كون روح القدس أقنوما! وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 بأن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب وأن الروح القدس منبثق من الأب. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفين.. فجاء القرآن الكريم يقول كلمة الفصل(5/2664)
بين هؤلاء جميعا. وقال عن المسيح: إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه وإنه بشر.. «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» . وكان هذا فصل الخطاب فيما كانوا فيه يختلفون.
واختلفوا في مسألة صلبه مثل هذا الاختلاف. منهم من قال: إنه صلب حتى مات ودفن ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام وارتفع إلى السماء. ومنهم من قال: إن يهوذا أحد حوارييه الذي خانه ودل عليه ألقى عليه شبه المسيح وصلب. ومنهم من قال: ألقي شبهه على الحواري سيمون وأخذ به.. وقص القرآن الكريم الخبر اليقين فقال: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» وقال: «يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ..»
وكانت كلمة الفصل في ذلك الخلاف.
ومن قبل حرف اليهود التوراة وعدلوا تشريعاتها الإلهية فجاء القرآن الكريم يثبت الأصل الذي أنزله الله: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» ..
وحدثهم حديث الصدق عن تاريخهم وأنبيائهم، مجردا من الأساطير الكثيرة التي اختلفت فيها رواياتهم، مطهرا من الأقذار التي ألصقتها هذه الروايات بالأنبياء، والتي لم يكد نبي من أنبياء بني إسرائيل يخرج منها نظيفا! .. إبراهيم- بزعمهم- قدم امرأته لأبيمالك ملك الفلسطينيين، وإلى فرعون ملك مصر باسم أنها أخته لعله ينال بسببها نعمة في أعينهما! ويعقوب الذي هو إسرائيل أخذ بركة جده إبراهيم من والده إسحاق بطريق السرقة والحيلة والكذب وكانت بزعمهم هذه البركة لأخيه الأكبر عيصو! ولوط- بزعمهم- أسكرته بنتاه كل منهما ليلة ليضطجع معها لتنجب منه كي لا يذهب مال أبيها إذ لم يكن له وارث ذكر. وكان ما أرادتا! وداود رأى من سطوح قصره امرأة جميلة عرف أنها زوجة أحد جنده، فأرسل هذا الجندي إلى المهالك ليفوز- بزعمهم- بامرأته! وسليمان مال إلى عبادة (بغل) بزعمهم. مجاراة لإحدى نسائه التي كان يعشقها ولا يملك معارضتها! وقد جاء القرآن فطهر صفحات هؤلاء الرسل الكرام مما لوثتهم به الأساطير الإسرائيلية التي أضافوها إلى التوراة المنزلة، كما صحح تلك الأساطير عن عيسى ابن مريم- عليه السّلام.
وهذا القرآن المهيمن على الكتب قبله الذي يفصل في خلافات القوم فيها، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه هو الذي يجادل فيه المشركون، وهو الحكم الفصل بين المتجادلين! «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
«لَهُدىً» يقيهم من الاختلاف والضلال، ويوحد المنهج، ويعين الطريق، ويصلهم بالسنن الكونية الكبرى التي لا تختلف ولا تحيد، «وَرَحْمَةٌ» يرحمهم من الشك والقلق والحيرة، والتخبط بين المناهج والنظريات التي لا تثبت على حال ويصلهم بالله يطمئنون إلى جواره ويسكنون إلى كنفه، ويعيشون في سلام مع أنفسهم ومع الناس من حولهم، وينتهون إلى رضوان الله وثوابه الجزيل.
والمنهج القرآني منهج فريد في إعادة إنشاء النفوس، وتركيبها وفق نسق الفطرة الخالصة حيث تجدها متسقة مع الكون الذي تعيش فيه، متمشية مع السنن التي تحكم هذا الكون- في يسر وبساطة، بلا تكلف ولا تعمل.
ومن ثم تستشعر في أعماقها السّلام والطمأنينة الكبرى لأنها تعيش في كون لا تصطدم مع قوانينه وسننه ولا تعاديه ولا يعاديها متى اهتدت إلى مواضع اتصالها به، وعرفت أن ناموسها هو ناموسه. وهذا التناسق بين النفس والكون، وذلك السّلام الأكبر بين القلب البشري والوجود الأكبر ينبع منه السّلام بين الجماعة، والسّلام بين(5/2665)
البشر، وتفيض منه الطمأنينة والاستقرار.. وهذه هي الرحمة في أشمل صورها ومعانيها..
وبعد هذه اللمحة إلى فضل الله على القوم بهذا القرآن الذي يفصل بين بني إسرائيل في اختلافاتهم ويقود المؤمنين به إلى الهدى ويسبغ عليهم الرحمة.. يقرر لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أن ربه سيفصل فيما بينه وبين قومه، ويحكم بينهم حكمه الذي لا مرد له. حكمه القوي المبني على العلم اليقين:
«فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» ..
وقد جعل الله انتصار الحق سنة كونية كخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار. سنة لا تتخلف..
قد تبطئ. تبطئ لحكمة يعلمها الله، وتتحقق بها غايات يقدرها الله. ولكن السنة ماضية. وعد الله لا يخلف الله وعده. ولا يتم الإيمان إلا باعتقاد صدقه وانتظار تحققه. ولوعد الله أجل لا يستقدم عنه ولا يستأخر.
ويمضي في تسلية الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد وإصرارهم على الكفر بعد الجهد الشاق في النصح والبيان، وبعد مخاطبتهم بهذا القرآن.. يمضي في تسليته والتسرية عنه من هذا كله فهو لم يقصر في دعوته. ولكنه إنما يسمع أحياء القلوب الذين تعي آذانهم فتتحرك قلوبهم، فيقبلون على الناصح الأمين. فأما الذين ماتت قلوبهم، وعميت أبصارهم عن دلائل الهدى والإيمان، فما له فيهم حيلة، وليس له إلى قلوبهم سبيل ولا ضير عليه في ضلالهم وشرودهم الطويل:
«إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ..
والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة. حالة جمود القلب، وخمود الروح، وبلادة الحس، وهمود الشعور. فيخرجهم مرة في صورة الموتى، والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يدعو، وهم لا يسمعون الدعاء، لأن الموتى لا يشعرون! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي، لأنهم لا يسمعون! ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور! وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون. فهم الأحياء، وهم السامعون، وهم المبصرون.
«إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ..
إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله، بالحياة والسمع والبصر. وآية الحياة الشعور. وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور. والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم. وعمل الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- هو أن يسمعهم، فيدلهم على آيات الله، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» .
إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة فما يكاد القلب السليم يعرفه، حتى يستسلم له، فلا يشاق فيه. وهكذا يصور القرآن تلك القلوب، القابلة للهدى، المستعدة للاستماع، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله، فتؤمن لها وتستجيب.
بعد ذلك يجول بهم جولة أخرى في أشراط الساعة، وبعض مشاهدها، قبل الإيقاع الأخير الذي يختم به السورة.. جولة يذكر فيها ظهور الدابة التي تكلم الناس الذين كانوا لا يؤمنون بآيات الله الكونية. ويرسم مشهدا للحشر والتبكيت للمكذبين بالآيات وهم واجمون صامتون. ويعود بهم من هذا المشهد إلى آيتي الليل والنهار(5/2666)
المعروضتين للأبصار وهم عنها غافلون. ثم يرتد بهم ثانية إلى مشهد الفزع يوم ينفخ في الصور، ويوم تسير الجبال وتمر مر السحاب ويعرض عليهم مشهد المحسنين آمنين من ذلك الفزع، والمسيئين كبت وجوههم في النار:
«وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ، أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» .
«وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» .
«أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟» ..
وقد ورد ذكر خروج الدابة المذكورة هنا في أحاديث كثيرة بعضها صحيح وليس في هذا الصحيح وصف للدابة. إنما جاء وصفها في روايات لم تبلغ حد الصحة. لذلك نضرب صفحا عن أوصافها، فما يعني شيئا أن يكون طولها ستين ذراعا، وأن تكون ذات زغب وريش وحافر، وأن يكون لها لحية! وأن يكون رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل. وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هو، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.. إلخ هذه الأوصاف التي افتن فيها المفسرون! وحسبنا أن نقف عند النص القرآني والحديث الصحيح الذي يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة، وأنه إذا انتهى الأجل الذي تنفع فيه التوبة وحق القول على الباقين فلم تقبل منهم توبة بعد ذلك وإنما يقضى عليهم بما هم عليه.. عندئذ يخرج الله لهم دابة تكلمهم. والدواب لا تتكلم، أولا يفهم عنها الناس. ولكنهم اليوم يفهمون، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة. وقد كانوا لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدقون باليوم الموعود.
ومما يلاحظ أن المشاهد في سورة النمل مشاهد حوار وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السّلام. فجاء ذكر «الدابة» وتكليمها الناس متناسقا مع مشاهد السورة وجوها، محققا لتناسق التصوير في القرآن، وتوحيد الجزئيات التي يتألف منها المشهد العام «1» .
ويعبر السياق من هذه العلامة الدالة على اقتراب الساعة، إلى مشهد الحشر! «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ» ..
والناس كلهم يحشرون. إنما شاء أن يبرز موقف المكذبين «فَهُمْ يُوزَعُونَ» يساقون أولهم على آخرهم، حيث لا إرادة لهم ولا وجهة ولا اختيار.
«حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ: أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟» .
والسؤال الأول للتخجيل والتأنيب. فمعروف أنهم كذبوا بآيات الله. أما السؤال الثاني فملؤه التهكم، وله في لغة التخاطب نظائر: أكذبتم؟ أم كنتم تعملون ماذا؟ فما لكم عمل ظاهر يقال: إنكم قضيتم حياتكم فيه، إلا
__________
(1) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب: التصوير الفني في القرآن من ص 86 إلى ص 107 من الطبعة الثالثة. «دار الشروق» .(5/2667)
هذا التكذيب المستنكر الذي ما كان ينبغي أن يكون.. ومثل هذا السؤال لا يكون عليه جواب إلا الصمت والوجوم، كأنما وقع على المسئول ما يلجم لسانه ويكبت جنانه:
«وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» ..
وحق عليهم القضاء بسبب ظلمهم في الدنيا، وهم واجمون صامتون! ذلك على حين نطقت الدابة قبيل ذلك. وها هم الناس لا ينطقون! وذلك من بدائع التقابل في التعبير القرآني، وفي آيات الله التي يعبر عنها هذا القرآن.
ونسق العرض في هذه الجولة ذو طابع خاص، هو المزاوجة بين مشاهد الدنيا ومشاهد الآخرة، والانتقال من هذه إلى تلك في اللحظة المناسبة للتأثر والاعتبار.
وهو هنا ينتقل من مشهد المكذبين بآيات الله، المبهوتين في ساحة الحشر إلى مشهد من مشاهد الدنيا، كان جديرا أن يوقظ وجدانهم، ويدعوهم إلى التدبر في نظام الكون وظواهره، ويلقي في روعهم أن هناك إلها يرعاهم، ويهيئ لهم أسباب الحياة والراحة، ويخلق الكون مناسبا لحياتهم لا مقاوما لها ولا حربا عليها ولا معارضا لوجودها أو استمرارها:
«أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
ومشهد الليل الساكن، ومشهد النهار المبصر، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجدانا دينيا يجنح إلى الاتصال بالله، الذي يقلب الليل والنهار، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان، ولكنهم لا يؤمنون.
ولو لم يكن هناك ليل فكان الدهر كله نهارا لانعدمت الحياة على وجه الأرض وكذلك لو كان الدهر كله ليلا. لا بل إنه لو كان النهار أو الليل أطول مما هما الآن عشر مرات فقط لحرقت الشمس في النهار كل نبات، ولتجمد في الليل كل نبات. وعندئذ تستحيل الحياة. ففي الليل والنهار بحالتهما الموافقة للحياة آيات. ولكنهم لا يؤمنون.
ومن آيتي الليل والنهار في الأرض، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله. وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير، ومن عقاب بالفزع والكب في النار:
«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»
..
والصور البوق ينفخ فيه. وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض- إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر.. قيل هم الشهداء.. وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
ثم تكون نفخة البعث. ثم نفخة المحشر. وفي هذه يحشر الجميع «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» أذلاء مستسلمين.
ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك، وتضطرب دورتها. ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره. ومشهد الجبال هكذا(5/2668)
يتناسق مع ظل الفزع، ويتجلى الفزع فيه وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين، مفزوعة مع المفزوعين، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار! «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» .
سبحانه! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود. فلا فلتة ولا مصادفة، ولا ثغرة ولا نقص، ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب.
في الصغير والكبير، والجليل والحقير. فكل شيء بتدبير وتقدير، يدبر الرؤوس التي تتابعه وتتملاه «1» .
«إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» ..
وهذا يوم الحساب عما تفعلون. قدره الله الذي اتقن كل شيء. وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين، «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» .
في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر:
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» .
والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله ومنة. ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة. بل أمنهم يوم يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
«وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» ..
وهو مشهد مفزع. وهم يكبون في النار على وجوههم. ويزيد عليهم التبكيت والتوبيخ! «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟» ..
فقد تنكبوا الهدى، وأشاحوا عنه بوجوههم فهم يجزون به كبا لهذه الوجوه في النار وقد أعرضت من قبل عن الحق الواضح وضوح الليل والنهار.
وفي النهاية تجيء الإيقاعات الأخيرة: حيث يلخص الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- دعوته ومنهجه في الدعوة ويكلهم إلى مصيرهم الذي يرتضونه لأنفسهم بعد ما مضى من بيان ويختم بحمد الله كما بدأ، ويدعهم إلى الله يكشف لهم آياته، ويحاسبهم على ما يعملون:
«إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها، وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهم كانوا يدينون بحرمة البلدة الحرام والبيت الحرام وكانوا يستمدون سيادتهم على العرب من عقيدة تحريم البيت ثم لا يوحدون الله الذي حرمه وأقام حياتهم كلها عليه.
فالرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يقوّم العقيدة كما ينبغي أن تقوّم، فيعلن أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» في سورة الفرقان. الجزء التاسع عشر.(5/2669)
الذي حرمها، لا شريك له ويكمل التصور الإسلامي للألوهية الواحدة، فرب هذه البلدة هو رب كل شيء في الوجود «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» ويعلن أنه مأمور بأن يكون من المسلمين. المسلمين كل ما فيهم له. لا شركة فيهم لسواه. وهم الرعيل الممتد في الزمن المتطاول من الموحدين المستسلمين.
هذا قوام دعوته. أما وسيلة هذه الدعوة فهي تلاوة القرآن:
«وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ» ..
فالقرآن هو كتاب هذه الدعوة ودستورها ووسيلتها كذلك. وقد أمر أن يجاهد به الكفار. وفيه وحده الغناء في جهاد الأرواح والعقول. وفيه ما يأخذ على النفوس أقطارها، وعلى المشاعر طرقها وفيه ما يزلزل القلوب الجاسية ويهزها هزا لا تبقى معه على قرار. وما شرع القتال بعد ذلك إلا لحماية المؤمنين من الفتنة، وضمان حرية الدعوة بهذا القرآن، والقيام على تنفيذ الشرائع بقوة السلطان. أما الدعوة ذاتها فحسبها كتابها.. «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ» ..
«فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ. وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ: إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ..
وفي هذا تتمثل فردية التبعة في ميزان الله، فيما يختص بالهدى والضلال. وفي فردية التبعة تتمثل كرامة هذا الإنسان، التي يضمنها الإسلام، فلا يساق سوق القطيع إلى الإيمان. إنما هي تلاوة القرآن، وتركه يعمل عمله في النفوس، وفق منهجه الدقيق العميق، الذي يخاطب الفطرة في أعماقها، وفق ناموسها المتسق مع منهج القرآن.
«وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» مقدمة لما يتحدث عنه من صنع الله:
«سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» ..
وصدق الله. ففي كل يوم يري عباده بعض آياته في الأنفس والآفاق. ويكشف لهم عن بعض أسرار هذا الكون الحافل بالأسرار.
«وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهكذا يلقي إليهم في الختام هذا الإيقاع الأخير، في هذا التعبير الملفوف. اللطيف. المخيف.. ثم يدعهم يعملون ما يعملون، وفي أنفسهم أثر الإيقاع العميق: «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..(5/2670)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
(28) سورة القصص مكيّة وآياتها ثمان وثمانون
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 43]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)(5/2671)
هذه السورة مكية، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان. نزلت تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، نزلت تقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود،(5/2673)
هي قوة الله وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون، هي قيمة الإيمان. فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجردا من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلا.
ومن ثم يقوم كيان السورة على قصة موسى وفرعون في البدء، وقصة قارون مع قومه- قوم موسى- في الختام.. الأولى تعرض قوة الحكم والسلطان. قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة، ولا ملجأ له ولا وقاية. وقد علا فرعون في الأرض، واتخذ أهلها شيعا، واستضعف بني إسرائيل، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وهو على حذر منهم، وهو قابض على أعناقهم.
ولكن قوة فرعون وجبروته، وحذره ويقظته، لا تغني عنه شيئا بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير، المجرد من كل قوة وحيلة، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ترعاه عين العناية، وتدفع عنه السوء، وتعمي عنه العيون، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا، فتدفع به إلى حجره، وتدخل به عليه عرينه، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه، مكفوف الأذى عنه، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه! والقصة الثانية تعرض قيمة المال، ومعها قيمة العلم. المال الذي يستخف القوم وقد خرج عليهم قارون في زينته، وهم يعلمون أنه أوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء. والعلم الذي يعتز به قارون، ويحسب أنه بسببه وعن طريقه أوتي ذلك المال. ولكن الذين أوتوا العلم الصحيح من قومه لا تستخفهم خزائنه، ولا تستخفهم زينته بل يتطلعون إلى ثواب الله، ويعلمون أنه خير وأبقى. ثم تتدخل يد الله فتخسف به وبداره الأرض، لا يغني عنه ماله ولا يغني عنه علمه وتتدخل تدخلا مباشرا سافرا كما تدخلت في أمر فرعون، فألقته في اليم هو وجنوده فكان من المغرقين.
لقد بغى فرعون على بني إسرائيل واستطال بجبروت الحكم والسلطان ولقد بغى قارون عليهم واستطال بجبروت العلم والمال. وكانت النهاية واحدة، هذا خسف به وبداره، وذلك أخذه اليم هو وجنوده. ولم تكن هنالك قوة تعارضها من قوى الأرض الظاهرة. إنما تدخلت يد القدرة سافرة فوضعت حدا للبغي والفساد، حينما عجز الناس عن الوقوف للبغي والفساد.
ودلت هذه وتلك على أنه حين يتمحض الشر ويسفر الفساد ويقف الخير عاجزا والصلاح حسيرا ويخشى من الفتنة بالبأس والفتنة بالمال. عندئذ تتدخل يد القدرة سافرة متحدية، بلا ستار من الخلق، ولا سبب من قوى الأرض، لتضع حد للشر والفساد «1» .
وبين القصتين يجول السياق مع المشركين جولات يبصرهم فيها بدلالة القصص- في سورة القصص- ويفتح
__________
(1) سبق أن قلت في تفسير سورة طه في صفحة 2345 من الجزء السادس عشر:
إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة. فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستكانة وخوفا. فأما حين استعلن الإيمان في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب، وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج، ودون تحرج، ودون اتقاء التعذيب. فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة، وإعلان النصر الذي ثم قبل ذلك في الأرواح والقلوب» .
والذي قلته هنا أصح، بشهادة سياق القصة في هذه السورة. وإن كان لما قلت في سورة طه مكانه بتغيير في العبارة. فإن يد القدرة تدخلت منذ أول الأمر لإدارة المعركة. ولكن النصر النهائي لم يتم تمامه إلا بعد استعلان الإيمان في القلوب الذين آمنوا بموسى بعد رسالته، وجهروا بكلمة الحق في وجه الطغيان العاتي المتجبر.(5/2674)
أبصارهم على آيات الله المبثوثة في مشاهد الكون تارة، وفي مصارع الغابرين تارة، وفي مشاهد القيامة تارة..
وكلها تؤكد العبر المستفادة من القصص، وتساوقها وتتناسق معها وتؤكد سنة الله التي لا تتخلف ولا تتبدل على مدار الزمان. وقد قال المشركون لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» . فاعتذروا عن عدم اتباعهم الهدى بخوفهم من تخطف الناس لهم، لو تحولوا عن عقائدهم القديمة التي من أجلها يخضع الناس لهم، ويعظمون البيت الحرام ويدينون للقائمين عليه.
فساق الله إليهم في هذه السورة قصة موسى وفرعون، تبين لهم أين يكون الأمن وأين تكون المخافة وتعلمهم أن الأمن إنما يكون في جوار الله، ولو فقدت كل أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس وأن الخوف إنما يكون في البعد عن ذلك الجوار ولو تظاهرت أسباب الأمن الظاهرة التي تعارف عليها الناس! وساق لهم قصة قارون تقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى وتؤكدها.
وعقب على مقالتهم «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. يذكرهم بأنه هو الذي آمنهم من الخوف فهو الذي جعل لهم هذا الحرم الآمن وهو الذي يديم عليهم أمنهم، أو يسلبهم إياه ومضى ينذرهم عاقبة البطر وعدم الشكر: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» .
ويخوفهم عاقبة أمرهم بعد أن أعذر إليهم وأرسل فيهم رسولا. وقد مضت سنة الله من قبل بإهلاك المكذبين بعد مجيء النذير: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» .
ثم يعرض عليهم مشهدهم يوم القيامة حين يتخلى عنهم الشركاء على رؤوس الأشهاد فيبصرهم بعذاب الآخرة بعد أن حذرهم عذاب الدنيا وبعد أن علمهم أين يكون الخوف وأين يكون الأمان.
وتنتهي السورة بوعد من الله لرسوله الكريم وهو مخرج من مكة مطارد من المشركين بأن الذي فرض عليه القرآن لينهض بتكاليفه، لا بد رادّه إلى بلده، ناصره على الشرك وأهله. وقد أنعم عليه بالرسالة ولم يكن يتطلع إليها وسينعم عليه بالنصر والعودة إلى البلد الذي أخرجه منه المشركون. سيعود آمنا ظافرا مؤيدا.
وفي قصص السورة ما يضمن هذا ويؤكده. فقد عاد موسى- عليه السّلام- إلى البلد الذي خرج منه خائفا طريدا. عاد فأخرج معه بني إسرائيل واستنقذهم، وهلك فرعون وجنوده على أيدي موسى وقومه الناجين..
ويختم هذا الوعد ويختم السورة معه بالإيقاع الأخير:
«وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
هذا هو موضوع السورة وجوها وظلالها العامة، فلنأخذ في تفصيل أشواطها الأربعة: قصة موسى. والتعقيب عليها. وقصة قارون. وهذا الوعد الأخير..
تبدأ السورة بالأحرف المقطعة:
«طا. سين. ميم.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..
تبدأ السورة بهذه الأحرف للتنبيه إلى أنه من مثلها تتألف آيات الكتاب المبين، البعيدة الرتبة، المتباعدة المدى بالقياس لما يتألف عادة من هذه الأحرف، في لغة البشر الفانين:
«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..(5/2675)
فهذا الكتاب المبين ليس إذن من عمل البشر، وهم لا يستطيعونه إنما هو الوحي الذي يتلوه الله على عبده، ويبدو فيه إعجاز صنعته، كما يبدو فيه طابع الحق المميز لهذه الصنعة في الكبير والصغير:
«نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
فإلى القوم المؤمنين يوجه هذا الكتاب يربيهم به وينشئهم ويرسم لهم المنهاج، ويشق لهم الطريق. وهذا القصص المتلو في السورة، مقصود به أولئك المؤمنين، وهم به ينتفعون.
وهذه التلاوة المباشرة من الله، تلقي ظلال العناية والاهتمام بالمؤمنين وتشعرهم بقيمتهم العظيمة ومنزلتهم العالية الرفيعة. وكيف؟ والله ذو الجلال يتلو على رسوله الكتاب من أجلهم، ولهم بصفتهم هذه التي تؤهلهم لتلك العناية الكريمة: «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .
وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ. نبأ موسى وفرعون. يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة- حلقة ميلاده- ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها. ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى، والظروف القاسية التي ولد فيها وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون.. ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عند ما يعجز عن ضربها البشر وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية.
وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه.
ولقد كانت قصة موسى- عليه السّلام- تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة- لا من حلقة الميلاد- حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية. فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود إنما المقصود أن الشرّ حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين.
فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية للنفوس، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه، وتتعاون في بناء القلوب، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب.
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي: حلقة مولد موسى- عليه السّلام- وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته. وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم، وما وقع فيها من قتل القبطي، وتآمر فرعون وملئه عليه، وهربه من مصر إلى أرض مدين، وزواجه فيها، وقضاء سنوات الخدمة بها. وحلقة النداء والتكليف بالرسالة. ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون.
والعاقبة الأخيرة- الغرق- مختصرة سريعة.
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية- وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة- لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي. وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ: «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» .(5/2676)
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة، قسمها إلى مشاهد وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال، فلا يفوت القارئ شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية.
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد. والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد.
وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة. وبين كل مشهد ومشهد، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد.
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث، والظرف الذي يجري فيه القصص، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث، والتي من أجلها يسوق هذا القصص.. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة. تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن:
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» ..
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث، وتنكشف اليد التي تجريها. وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها. وانكشاف هذه اليد، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها، متمش مع أبرز هدف لها. ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء. وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب.
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ولا يزيد في دلالتها شيئا. ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف- عليه السّلام- الذي استقدم أباه وإخوته. وأبوه يعقوب هو «إسرائيل» وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا.
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية «عَلا فِي الْأَرْضِ» وتكبر وتجبر، وجعل أهل مصر شيعا، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا.
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل، ليبادر بذبح الذكور، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى- عليه السّلام- عند ولادته، كما وردت في هذه السورة:(5/2677)
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ..
ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون ويقدر غير ما يقدر الطاغية. والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم، فينسون إرادة الله وتقديره ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون. ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون.
والله يعلن هنا إرادته هو، ويكشف عن تقديره هو ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا:
«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» .
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم كما يريد له هواه البشع النكير، فيذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه فيبث عليهم العيون والأرصاد، ويتعقب نسلهم من الذكور فيسلمهم إلى الشفار كالجزار! هؤلاء المستضعفون يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيدا ولا تابعين وأن يورثهم الأرض المباركة (التي أعطاهم إياها عند ما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح) وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين. وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما، وما يتخذون الحيطة دونه، وهم لا يشعرون! هكذا يعلن السياق قبل أن يأخذ في عرض القصة ذاتها. يعلن واقع الحال، وما هو مقدر في المآل. ليقف القوتين وجها لوجه: قوة فرعون المنتفشة المنتفخة التي تبدو للناس قادرة على الكثير. وقوة الله الحقيقة الهائلة التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة التي ترهب الناس! ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها. والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها، وما ستنتهي إليه، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها.
ومن ثم تنبض القصة بالحياة وكأنها تعرض لأول مرة، على أنها رواية معروضة الفصول، لا حكاية غبرت في التاريخ. هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ولد والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه..
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.
هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف:
«وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي» ..(5/2678)
يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه «فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» !! «وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي» إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردا وسلاما، وتجعل البحر ملجأ ومناما.
اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
«إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» .. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. «وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني:
«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ» ..
أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟
وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟
وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟
نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر.. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر.
وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات! ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية:
«لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» .
ليكون لهم عدوا يتحداهم وحزنا يدخل الهم على قلوبهم:
«إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» ..
ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجردا من كل قوة، مجردا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب:
«وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعد ما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة.
ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف! «قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ» ..
وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم- فيما عدا المرأة- عدوا وحزنا! «لا تَقْتُلُوهُ» ..(5/2679)
وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده! «عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ..
وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا! «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون! وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.
ذلك شأن موسى. فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟
«وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ. لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ» ..
لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟
والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: «فارِغاً» .. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف! «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» .. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلى. أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب! «لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» .. وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.
«لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه.
ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة! «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّيهِ» .. اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حيا، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر.. أو أين مقره ومرساه؟
وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع:
«فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ. فَقالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟» ..
إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع، لتدعهم يحتارون به وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: «هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون» ؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب! وينتهي المشهد الرابع فنجدنا أمام المشهد الخامس والأخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه، مرموقا في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأته، وتضطرب المخاوف من حوله(5/2680)
وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب:
«فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى- عليه السّلام- والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته، وهو الذي يصنع على عين الله، ويعد لوظيفته، في وسط عباد فرعون وكهنته..
يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى، فقد آتاه الله الحكمة والعلم، وجزاه جزاء المحسنين:
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما، واعتزل القصر، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى- عليه السّلام-؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرّفته من هو ومن قومه وما ديانته.
وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع، والبغي اللئيم وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.
ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم:
«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» ..
ودخل المدينة.. والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ.. فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها، في وقت الظهيرة مثلا حين تغفو العيون؟
لقد دخل المدينة على كل حال «فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ. هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» ..
وقد كان أحدهما قبطيا- يقال إنه من حاشية فرعون، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر، متبنى، أو من الحاشية. إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلا بالقصر، وأنه قد عرف(5/2681)
أنه من بني إسرائيل. وأنه ناقم على الملك والحاشية، منتصر لقومه المضطهدين. وهذا هو الأنسب لمن في مقام موسى- عليه السّلام- فإنه بعيد الاحتمال أن تطيق نفسه البقاء في مستنقع الشر والفساد..
«فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» ..
والوكز الضرب بجمع اليد. والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف القبطي. مما يشي بقوة موسى وفتوته، ويصور كذلك انفعاله وغضبه ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به.
ولكن يبدو من السياق أنه لم يكن يقصد قتل القبطي، ولم يعمد إلى القضاء عليه. فما كاد يراه جثة هامدة بين يديه حتى استرجع وندم على فعلته، وعزاها إلى الشيطان وغوايته فقد كانت من الغضب، والغضب شيطان، أو نفخ من الشيطان:
«قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» ..
ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب، يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر، ويتوجه إلى ربه، طالبا مغفرته وعفوه:
«قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» ..
واستجاب الله إلى ضراعته، وحساسيته، واستغفاره:
«فَغَفَرَ لَهُ. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ..
وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه، أن ربه غفر له. والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء، فور الدعاء، حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوي وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد.. وارتعش وجدان موسى- عليه السّلام- وهو يستشعر الاستجابة من ربه، فإذا هو يقطع على نفسه عهدا، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه:
«قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» ..
فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا. وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها. حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ، ومرارة الظلم والبغي.
ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل.
وهذه الارتعاشة العنيفة، وقبلها الاندفاع العنيف، تصور لنا شخصية موسى- عليه السّلام- شخصية انفعالية، حارة الوجدان، قوية الاندفاع. وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة.
بل نحن نلتقي بها في المشهد الثاني في هذه الحلقة مباشرة:
«فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ: يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» ..
لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي، وندم موسى على فعلته، وتوجهه إلى ربه، واستغفاره إياه، ومغفرته له، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرا للمجرمين.
ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره، يترقب الافتضاح والأذى. ولفظ «يَتَرَقَّبُ» يصور(5/2682)
هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس، ويتوقع الشر في كل لحظة.. وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي «في المدينة» فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر! وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.
وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع: «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» ! إنه صاحبه الإسرائيلي الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي. إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر وهو يستصرخ موسى لينصره ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى! ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى. وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه. ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى. فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه، ويصفه بالغواية والضلال:
«قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ..
غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل. وهم عن الثورة الكاملة عاجزون، وعن الحركة المثمرة ضعفاء. فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد.
ولكن الذي حدث أن موسى- بعد ذلك- انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي، فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس! ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها، ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى- عليه السّلام- بالغيظ من الظلم، والنقمة على البغي، والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل، والتوفز لرد العدوان الطاغي، الطويل الأمد، الذي يحتفر في القلب البشري مسارب من الغيظ وأخاديد.
«فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» ..
وإنه ليقع حينما يشتد الظلم، ويفسد المجتمع، وتختل الموازين، ويخيم الظلام، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره «جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ» كما قال القبطي لموسى.
ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون، حتى وهموا أن هذا هو الأصل، وأن هذا هو الفضل، وأن هذا هو الأدب، وأن هذا هو الخلق! وأن هذا هو الصلاح! فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها.. إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا، وسمّوا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا أو جبارا، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم. ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل! ولم يجدوا للمظلوم عذرا- حتى على فرض تهوره- من ضيقه بالظلم الثقيل! ولقد طال الظلم ببني إسرائيل، فضاقت به نفس موسى- عليه السّلام- حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى(5/2683)
ويندم، ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله، ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه.
لذلك لم يتخل الله عنه، بل رعاه، واستجاب له، فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال. وأن الظلم حين يشتد، وتغلق أبواب النصفة، يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام. فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى، كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق.
وهذه هي العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما، فهو لا يبرر الفعلة ولكنه كذلك لا يضخمها. ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية. وهو المختار ليكون رسول الله، المصنوع على عين الله.. أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع.
كما كف الله المسلمين في مكة عن الاشتباك حتى جاء الأوان.
ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس، وأن شبهات تطايرت حول موسى. لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه، إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه، ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل.
نرجح هذا لأن قتل موسى لأحد رجال فرعون في معركة بينه وبين إسرائيلي في مثل هذه الظروف يعد حدثا مريحا لنفوس بني إسرائيل، يشفى بعض غيظهم، فيشيع عادة وتتناقله الألسنة في همس وفرح وتشف، حتى يفشو ويتطاير هنا وهناك، وبخاصة إذا عرف عن موسى من قبل نفرته من البغي، وانتصاره للمظلومين.
فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة، لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة، وهو يراه يهم أن يبطش به، وقال له تلك المقالة: «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟» .
أما بقية عبارته: «إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين» .. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح، لا يحب البغي والتجبر. فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه. يريد أن يكون جبارا لا مصلحا، يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين، وتهدئة ثائرة الشر. وطريقة خطابه له وموضوع خطابه، كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون. وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة، ولما كان هذا موضوع خطابه.
ولقد قال بعض المفسرين: إن هذا القول كان من الإسرائيلي لا من القبطي، لأنه لما قال له موسى: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» ، ثم تقدم نحوه وهو غاضب ليبطش بالذي هو عدولهما، حسب الإسرائيلي أنه غاضب عليه هو، وأنه يتقدم ليبطش به هو، فقال مقالته، وأذاع بالسر الذي يعرفه وحده.. وإنما حملهم على هذا القول أن ذلك السر كان مجهولا عند المصريين.
ولكن الأقرب أن يكون القبطي هو الذي قال ما قال. وقد عللنا شيوع ذلك السر. وأنها قد تكون فراسة أو حدسا من المصري بمساعدة الظروف المحيطة بالموضوع «1» .
والظاهر أن موسى لم يقدم بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس، وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم
__________
(1) جريت على الرأي الأول في كتاب التصوير الفني في القرآن ولكني إلى هذا الرأي الأخير أميل الآن.(5/2684)
فرعون أن موسى هو صاحبها. فهنا فجوة في السياق بعد المشهد السابق. ثم إذا مشهد جديد. رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة، يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به، وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته:
«وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. قالَ: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» ..
إنها يد القدرة تسفر في اللحظة المطلوبة، لتتم مشيئتها! لقد عرف الملأ من قوم فرعون، وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى. وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر. فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد، والانتصار لبني إسرائيل. وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر. ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء.
فانتدبت يد القدرة واحدا من الملأ. الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه، والذي جاء ذكره في سورة (غافر) «1» انتدبته ليسعى إلى موسى «مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» في جد واهتمام ومسارعة، ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» ..
«فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ. قالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية. التوفز والتلفت. ونلمح معها، التوجه المباشر بالطلب إلى الله، والتطلع إلى حمايته ورعايته، والالتجاء إلى حماه في المخافة، وترقب الأمن عنده والنجاة:
«رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة، خائفا يترقب، وحيدا فريدا، غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:
«وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» ..
ونلمح شخصية موسى- عليه السّلام- فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفا يترقب، وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح، لم يتلبث، ولم يتزود ولم يتخذ دليلا. ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه، مستسلمة له، متطلعة إلى هداه: «عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» ..
ومرة أخرى نجد موسى- عليه السّلام- في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية والطراءة والنعمى. ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا. ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبدا. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء:
«وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ. قالَ: ما خَطْبُكُما؟ قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ..
لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى- عليه السّلام- وجد الرعاة الرجال يوردون
__________
(1) «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» الآية (28) .(5/2685)
أنعامهم لتشرب من الماء ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف.
بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب:
«قالَ: ما خَطْبُكُما؟» .
«قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ..
فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى- عليه السّلام- وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولا، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة. وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد، من خلفه اعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس:
«فَسَقى لَهُما» ..
مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.
«ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» ..
مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.
«فَقالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ..
إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه، ويأوى إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه: «رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير» . رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.
ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن، والركن الركين، والظل الظليل.
نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي، والانعطاف الرفيق، والاتصال العميق: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ..
وما نكاد نستغرق مع موسى- عليه السّلام- في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقبا في التعبير بالفاء، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب.
«فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ. قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» ..
يا فرج الله: ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها: «إِحْداهُما» وقد جاءته «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. «عَلَى اسْتِحْياءٍ» . في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله، يحكيه القرآن بقوله: «إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ(5/2686)
لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا»
. فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب. الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب، ولا تزيد.
وينهي السياق هذا المشهد فلا يزيد عليه، ولا يفسح المجال لغير الدعوة من الفتاة، والاستجابة من موسى.
ثم إذا مشهد اللقاء بينه وبين الشيخ الكبير. الذي لم ينص على اسمه. وقيل: إنه ابن أخي شعيب النبي المعروف.
وإن اسمه يثرون «1» .
«فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، قالَ: لا تَخَفْ. نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: «لا تَخَفْ» فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: «نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة:
«قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .
إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح، النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة.
وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس، نظيفة الحس ومن ثم لا تخشى شيئا، ولا تتمم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها.
ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه- فيما قالوا- إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين، أو سقى لهما مع الرعاء.
__________
(1) سبق أن قلت مرة في الظلال: إن هذا الرجل هو شعيب. وقلت مرة: إنه قد يكون النبي شعيبا أو لا يكون.. وأنا الآن أميل إلى ترجيح أنه ليس هو وإنما هو شيخ آخر من مدين. والذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير. وشعيب شهد مهلك قومه، المكذبين له، ولم يبق معه إلا المؤمنون به. فلو كان هو شعيب- النبي- بين بقية قومه المؤمنين، ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير. فليس هذا سلوك قوم مؤمنين، ولا معاملتهم لنبيهم وبناته من أول جيل! يضاف إلى هذا أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره. ولو كان شعيبا النبي لسمعنا صوت النبوة في شيء من هذا مع موسى وقد عاش معه عشر سنوات.(5/2687)
ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها.
أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها.. فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى- عليه السّلام- عفيف النظر نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع! واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلا فطريا سليما، صالحا لبناء أسرة. والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله. فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين. فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به.
«قالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ، عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» .
وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد- ولعله كان يشعر كما أسلفنا- أنها محددة، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى. عرضها في غير تحرج ولا التواء. فهو يعرض نكاحا لا يخجل منه. يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل، ولا ما يدعوا إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة، تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم، أو لا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة! ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح. فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح، فيهبط الخجل المصطنع، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة! ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي- صلّى الله عليه وسلّم- أو من يرغب في تزويجهن منهم. كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء.. عرض عمر- رضي الله عنه- ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بهذا طيب خاطره، عسى أن يجعل الله لها نصيبا فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها- صلّى الله عليه وسلّم- وعرضت امرأة نفسها على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلا لا يملك إلا سورتين من القرآن، علمها إياهما فكان هذا صداقها.
وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير ما تلعثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء.
وهكذا صنع الشيخ الكبير- صاحب موسى- فعرض على موسى ذلك العرض واعدا إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل راجيا بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه. وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.
وقبل موسى العرض وأمضى العقد في وضوح كذلك ودقة، وأشهد الله:(5/2688)
«قالَ: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» .
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها، ولا اللعثمة، ولا الحياء. ومن ثم يقر موسى العرض، ويبرم العقد، على ما عرض الشيخ من الشروط. ثم يقرر هذا ويوضحه: «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» .. سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا، فلا عدوان في تكاليف العمل، ولا عدوان في تحتيم العشر فالزيادة على الثمانية اختيار.. «وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» . فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين.
وكفى بالله وكيلا.
بين موسى- عليه السّلام- هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته، ووضوح شخصيته، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان. وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل. فقد روي أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أخبر أنه: «قضى أكثرهما وأطيبهما» «1» .
وهكذا اطمأن بموسى- عليه السّلام- المقام في بيت حميه وقد أمن من فرعون وكيده. ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان.. فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي. فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار..
وتمضي السنوات العشر التي تعاقد عليها موسى- عليه السّلام- لا يذكر عنها شيء في سياق السورة، ثم تعرض الحلقة الثالثة بعد ما قضى موسى الأجل وسار بأهله، عائدا من مدين إلى مصر، يسلك إليها الطريق الذي سلكه منذ عشر سنوات وحيدا طريدا. ولكن جو العودة غير جو الرحلة الأولى.. إنه عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال. ليناديه ربه ويكلمه، ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه، وعلمه ورباه. مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه، ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدا ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوا وحزنا، ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقا:
«فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ ناراً، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ، يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. قالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» ..
وقبل أن نستعرض هذين المشهدين في هذه الحلقة نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى- عليه السّلام- في هذه السنوات العشر، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة، في هذا الطريق..
لقد نقلت يد القدرة خطى موسى- عليه السّلام- خطوة خطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه
__________
(1) أخرجه البخاري.(5/2689)
الحلقة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد.
وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف..
هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل النداء وقبل التكليف.. تجربة الرعاية والحب والتدليل. وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة والفزع. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور.
وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة.. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.
إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر- عدا رسالة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشا، وأثبتهم ملكا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض.
وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه، فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.
وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة انحرفوا عنها، وفسدت صورتها في قلوبهم. فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة.
والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا.
وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا، له حياة خاصة، تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير.
ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.
فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى- عليه السّلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.
إن لحياة القصور جوا خاصا، وتقاليد خاصة، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ، والمهذب والخشن وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع.. وفيهم وفيهم.. وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم..
وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة(5/2690)
عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور! وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا.. وقلوب أهل القصور- مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة- لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.
فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى- عليه السّلام- أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم.
وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا، ليمون على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها..
فلما أن استكملت نفس موسى- عليه السّلام- تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال رسالته وعمله، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في زيادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.
وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف.
«فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً. قالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ..
ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟
إنها اليد التي تنقل خطاه كلها، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة، وإلى الوطن والبيئة، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.
على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه، ومعه أهله، والوقت ليل، والجو ظلمة وقد ضل الطريق، والليلة شاتية، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها، ليأتي منها بخبر أو جذوة.. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.
فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى:
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ» ..
فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور، الوادي إلى يمينه، «فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ» .. المباركة، منذ هذه اللحظة.. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى «مِنَ الشَّجَرَةِ» ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان:(5/2691)
«أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» :
وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق.
تلقاه ملء الكون من حوله، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.
وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.
واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف:
«وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ» ..
وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلا، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة، وتتحرك في خفة، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى:
«فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ..
إنها المفاجأة التي لم يستعد لها مع الطبيعة الانفعالية، التي تأخذها الوهلة الأولى.. «وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ماذا بها وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعالين البارزة تتجلى في موعدها! ثم يستمع إلى ربه الأعلى:
«يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ..
إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.
«أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ..
وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه، ومن ترعاه عين الله؟
«اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» ..
وأطاع موسى الأمر، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.
وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه، فتخفض من دقاته، وتطامن من خفقاته:
«وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» .
وكأنما يده جناح يقبضه على صدره، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه. والرفرفة أشبه بالخفقان، والقبض أشبه بالاطمئنان. والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن.(5/2692)
والآن وقد تلقى موسى ما تلقى، وقد شاهد كذلك ما شاهد، وقد رأى الآيتين الخارقتين، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن.. الآن يعرف ما وراء الآيات، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه..
«فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه. وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .. الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون. وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين.
هنا يتذكر موسى أنه قتل منهم نفسا، وأنه خرج من بينهم طريدا، وأنهم تآمروا على قتله فهرب منهم بعيدا.
وهو في حضرة ربه. وربه يكرمه بلقائه، ويكرمه بنجائه، ويكرمه بآياته، ويكرمه برعايته، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته:
«قالَ: رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» ..
يقولها لا ليعتذر، ولا ليتقاعس، ولا لينكص ولكن ليحتاط للدعوة، ويطمئن إلى مضيها في طريقها، لو لقي ما يخاف. وهو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين:
«وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» .
إن هارون أفصح لسانا فهو أقدر على المنافحة عن الدعوة. وهو ردء له معين، يقوي دعواه، ويخلفه إن قتلوه.
وهنا يتلقى موسى الاستجابة والتطمين:
«قالَ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» ..
لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه. وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين: «وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» .. فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار. إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار: «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما» .. وحولكما من سلطان الله سياج، ولكما منه حصن وملاذ.
ولا تقف البشارة عند هذا الحد. ولكنها الغلبة للحق. الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة. فإذا هي وحدها السلاح والقوة، وأداة النصر والغلبة: «بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» .
فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث وتؤدي دورها مكشوفا بلا ستار من قوى الأرض، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس، في دنيا الناس، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم.
إيمان وثقة بالله، وما بعد ذلك فعلى الله.
وينتهي هذا المشهد الرائع الجليل ويطوى الزمان ويطوى المكان، فإذا موسى وهارون في مواجهة فرعون، بآيات الله البينات وإذا الحوار بين الهدى والضلال وإذا النهاية الحاسمة في هذه الدنيا بالغرق، وفي الحياة الأخرى باللعنة. في سرعة واختصار:
«فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَقالَ مُوسى: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ:(5/2693)
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ»
..
إن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال.
يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك. ثم لا يقف عند الأخذ في الدنيا، بل يتابع الرحلة إلى الآخرة..
وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود، متناسق مع اتجاه القصة في السورة: وهو تدخل يد القدرة بلا ستار من البشر، فما إن يواجه موسى فرعون حتى يعجل الله بالعاقبة، وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة، بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل.
«فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» ..
وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد- صلّى الله عليه وسلّم- في مكة يومذاك.. «ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» .. فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه. المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب. إنهم يدعون أنه سحر، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين! وهم لا يناقشون بحجة، ولا يدلون ببرهان، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا ولا يدفع دعوى. فأما موسى- عليه السّلام- فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله. فما أدلوا بحجة ليناقشها، ولا طلبوا دليلا فيعطيهم، إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان، فالاختصار أولى والإعراض أكرم، وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله:
«وَقالَ مُوسى: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .
وهو رد مؤدب مهذب، يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته ناصع واضح، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل. فربه أعلم بصدقه وهداه، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى، والظالمون في النهاية لا يفلحون. سنة الله التي لا تتبدل. وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الاتجاه. سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه.
وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا، ولعبا ومداورة، وتهكما وسخرية:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» ..
يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى.. كلمة فاجرة كافرة، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر، الذي لا يدع لرأس أن يفكر، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب! ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة، والبحث عن إله موسى، وهو يلهو ويسخر: «فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» .. في السماء كما يقول! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى، ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» !(5/2694)
وفي هذا الموضع كانت حلقة المباراة مع السحرة. وهي محذوفة هنا للتعجيل بالنهاية:
«وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» ..
فلما توهموا عدم الرجعة إلى الله استكبروا في الأرض بغير الحق، وكذبوا بالآيات والنذر (التي جاء ذكرها في مطلع هذه الحلقة، ووردت بالتفصيل في سور أخرى) .
«فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» .
هكذا في اختصار حاسم. أخذ شديد ونبذ في اليم. نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر. اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع، فكان مأمنا وملجأ. وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة. فالأمن إنما يكون في جناب الله، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب.
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» ..
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين. وفيها عبرة للمعتبرين، ونذير للمكذبين. وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر، وفي أقل من نصف سطر! وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب.. يدعون إلى النار، ويقودون إليها الأتباع والأنصار:
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ» ..
فيا بئساها دعوة! ويا بئساها إمامة! «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» ..
فهي الهزيمة في الدنيا، وهي الهزيمة في الآخرة، جزاء البغي والاستطالة. وليست الهزيمة وحدها، إنما هي اللعنة في هذه الأرض، والتقبيح في يوم القيامة:
«وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» .
ولفظة «الْمَقْبُوحِينَ» ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع، وجو التفزز والاشمئزاز. ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض، وفتنة الناس بالمظهر والجاه، والتطاول على الله وعلى عباد الله.
ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر، وما حدث خلالها من أحداث، ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى، بَصائِرَ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
هذا نصيب موسى. وهو نصيب عظيم. وهذه عاقبة موسى. وهي عاقبة كريمة.. كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون، «وَهُدىً وَرَحْمَةً» .. «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين، فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير، وتختم للمظلومين بالخير والتمكين.
وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة. شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله. وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله. ذلك إلى تدخل يد القدرة سافرة متحدية للطغيان والطغاة، حين تصبح القوة فتنة(5/2695)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
يعجز عن صدها الهداة. وهي المعاني التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في مكة في حاجة إلى الاطمئنان إليها. وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى تدبرها. وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى، وحيثما كان طغيان يقف في وجه الهدى.
وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس، وتقرير لحقائق وسنن في الوجود «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
[سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 75]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)(5/2696)
مضت قصة موسى- عليه السّلام- بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات(5/2697)
شتى في مشاهد الكون، وفي مشاهد الحشر، وفيما هم فيه من الأمر بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم- صلّى الله عليه وسلّم- وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب، لو أنهم كانوا يتذكرون.
والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي. فرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان وما كان حاضر أحداثها، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك، «فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
«وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا: سِحْرانِ: تَظاهَرا. وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ. قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى- عليه السّلام- بعد أجل محدد.. ثلاثين ليلة، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة (على ما ذكر في سورة الأعراف) وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- شاهدا لهذا الميقات، حتى يعلم نبأه المفصل، كما ورد في القرآن الكريم وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس- أي أجيالا متطاولة: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» . فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم.
ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين، ومقام موسى- عليه السّلام- بها وتلاها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وما كان مقيما في أهل مدين، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه: «وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.
كذلك صوّر القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا» وما سمع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- النداء، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه- صلّى الله عليه وسلّم- فيما يدعوهم إليه، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله- فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل، منذ أبيهم إسماعيل: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .
فهي رحمة الله بالقوم. وهي حجته كذلك عليهم، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب- وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب- فأراد الله أن يقطع حجتهم، وأن يعذر إليهم، وأن يقفهم أمام أنفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان:(5/2698)
«وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُوا: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!» ..
كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه:
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا، وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» ..
وهكذا لم يذعنوا للحق، واستمسكوا بالتعللات الباطلة: «قالُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى» إما من الخوارق المادية، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة، وفيها التوراة كاملة.
ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم، ولا مخلصين في اعتراضهم: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟» ولقد كان في الجزيرة يهود، وكان معهم التوراة، فلم يؤمن لهم العرب، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة.
ولقد علموا أن صفة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- مكتوبة في التوراة، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب فلم يذعنوا لهذا كله، وادعوا أن التوراة سحر، وأن القرآن سحر، وأنهما من أجل هذا يتطابقان، ويصدق أحدهما الآخر:
«قالُوا: سِحْرانِ تَظاهَرا. وَقالُوا: إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» ! فهو المراء إذن واللجاجة، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين، ولا ضعف الدليل.
ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم: إن لم يكن يعجبكم القرآن، ولم تكن تعجبكم التوراة فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه:
«قُلْ: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ! وهذه نهاية الإنصاف، وغاية المطاولة بالحجة، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر، الذي لا يستند إلى دليل:
«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إن الحق في هذا القرآن لبين وإن حجة هذا الدين لواضحة، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. وإنهما لطريقان لا ثالث لهما: إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق. ولا حجة من غموض في العقيدة، أو ضعف في الحجة، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.
«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ» ..
وهكذا جزما وقطعا. كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها.. إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين. متجنون لا حجة لهم ولا معذرة، متبعون للهوى، معرضون عن الحق الواضح:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟» ..
وهم في هذا ظالمون باغون:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..(5/2699)
إن هذا النص ليقطع الطريق على المعتذرين بأنهم لم يفهموا عن هذا القرآن، ولم يحيطوا علما بهذا الدين.
فما هو إلا أن يصل إليهم، ويعرض عليهم، حتى تقوم الحجة، وينقطع الجدل، وتسقط المعذرة. فهو بذاته واضح واضح، لا يحيد عنه إلا ذو هوى يتبع هواه، ولا يكذب به إلا متجن يظلم نفسه، ويظلم الحق البين ولا يستحق هدى الله. «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
ولقد انقطع عذرهم بوصول الحق إليهم، وعرضه عليهم، فلم يعد لهم من حجة ولا دليل..
«وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
وحين تنتهي هذه الجولة، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية. تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم:
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا، وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» ..
قال سعيد بن جبير- رضي الله عنه- نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قرأ عليهم: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» حتى ختمها، فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ.. إلخ» ..
وروى محمد بن إسحاق في السيرة: «ثم قدم على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام، في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال؟ ما نعلم ركبا أحمق منكم! فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا» .
قال: ويقال: إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال والله أعلم: إن فيهم نزلت هذه الآيات: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ.. إلخ» .
قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه- رضي الله عنه- والآيات اللاتي في سورة المائدة: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ... إلى قوله- فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .
وأيا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع، يعلمونه ولا ينكرونه.
كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن، وتطمئن إليه، وترى فيه الحق، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب. ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء وتحتمل في سبيل الحق(5/2700)
الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء.
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» ..
وهذه إحدى الآيات على صحته، فالكتاب كله من عند الله، فهو متطابق، من أوتي أوله عرف الحق في آخره، فاطمأن له، وآمن به، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.
«وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» ..
فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أكثر من تلاوته فيعرف الذين عرفوا الحق من قبل أنه من ذلك المعين، وأنه صادر من ذلك المصدر الواحد الذي لا يكذب. «إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا» .. «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» .
والإسلام لله هو دين المؤمنين بكل دين.
هؤلاء الذين أسلموا لله من قبل، ثم صدقوا بالقرآن بمجرد سماعه:
«أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا» ..
الصبر على الإسلام الخالص. إسلام القلب والوجه. ومغالبة الهوى والشهوة. والاستقامة على الدين في الأولى والآخرة. أولئك يؤتون أجرهم مرتين، جزاء على ذلك الصبر، وهو عسير على النفوس، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة والالتواء والانحراف. وهؤلاء صبروا عليها جميعا، وصبروا على السخرية والإيذاء كما سبقت الرواية، وكما يقع دائما للمستقيمين على دينهم في المجتمعات المنحرفة الضالة الجاهلة في كل زمان ومكان:
«وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» ..
وهذا هو الصبر كذلك. وهو أشد مؤنة من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية. إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، والبرد بالانتقام! ثم درجة أخرى بعد ذلك كله. درجة السماحة الراضية. التي ترد القبيح بالجميل وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء وبالرحمة والإحسان وهو أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الذين يعاملون الله فيرضاهم ويرضونه، فيلقون ما يلقون من الناس راضين مطمئنين.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ..
وكأنما أراد أن يذكر سماحة نفوسهم بالمال، عقب ذكره لسماحة نفوسهم بالإحسان. فهما من منبع واحد:
منبع الاستعلاء على شهوة النفس، والاعتزاز بما هو أكبر من قيم الأرض. الأولى في النفس، والثانية في المال.
وكثيرا ما يردان متلازمين في القرآن.
وصفة أخرى من صفة النفوس المؤمنة الصابرة على الإسلام الخالصة للعقيدة:
«وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» ..
واللغو فارغ الحديث، الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه. وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زادا جديدا، ولا معرفة مفيدة. وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء:
أوجه إلى مخاطب أم حكي عن غائب.
والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذاك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء. فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره:
«وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» ..(5/2701)
ولكنهم لا يهتاجون ولا يغتاظون ولا يجارون أهل اللغو فيردون عليهم بمثله، ولا يدخلون معهم في جدل حوله، لأن الجدل مع أهل اللغو لغو إنما يتركونهم في موادعة وسلام.
«وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ» ..
هكذا في أدب، وفي دعاء بالخير، وفي رغبة في الهداية.. مع عدم الرغبة في المشاركة:
«لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» ..
ولا نريد أن ننفق معهم وقتنا الثمين، ولا أن نجاريهم في لغوهم أو نسمع إليه صامتين!.
إنها صورة وضيئة للنفس المؤمنة المطمئنة إلى إيمانها. تفيض بالترفع عن اللغو. كما تفيض بالسماحة والود.
وترسم لمن يريد أن يتأدب بأدب الله طريقه واضحا لا لبس فيه. فلا مشاركة للجهال، ولا مخاصمة لهم، ولا موجدة عليهم، ولا ضيق بهم. إنما هو الترفع والسماحة وحب الخير حتى للجارم المسيء.
هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم القرآن. ووراءه من قومه من جهد جهده ليؤمن ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام. فلم يقدر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه. وما كان النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ليهدي من يحب. إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان..
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ..
ورد في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وقد كان يحوطه وينصره، ويقف دونه في وجه قريش، ويحميه حتى يبلغ دعوته، ويحتمل في سبيل ذلك مقاطعة قريش له ولبني هاشم وحصارهم في الشعب. ولكنه إنما يفعل ذلك كله حبا لابن أخيه، وحمية وإباء ونخوة. فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فلم يكتب الله له هذا، لما يعلمه سبحانه من أمره..
قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن المخزومي- رضي الله عنه- قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية ابن المغيرة. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى» . وأنزل في أبي طالب:
«إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. (أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري) .
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «يا عماه. قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزع الموت لأقررت بها عينك. لا أقولها إلا لأقر بها عينك» . ونزل قول الله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» .(5/2702)
وروى عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة أنها نزلت في أبي طالب. وكان آخر ما قاله: هو على ملة عبد المطلب.
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته. فهذا عم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وكافله وحاميه والذائد عنه، لا يكتب الله له الإيمان، على شدة حبه لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وشدة حب رسول الله له أن يؤمن. ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة، ولم يقصد إلى العقيدة. وقد علم الله هذا منه، فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ويرجوه.
فأخرج هذا الأمر- أمر الهداية- من حصة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وجعله خاصا بإرادته سبحانه وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ. وما على الداعين بعده إلا النصيحة. والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن، والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال.
والآن يجيء السياق إلى قولتهم التي قالوها للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- معتذرين عن اتباعه مخافة أن يفقدوا سلطانهم على قبائل العرب المجاورة، التي تعظم الكعبة، وتدين لسدنتها، وتعظم أصنامها، فتتخطفهم تلك القبائل، أو يتخطفهم أعداؤهم من وراء شبه الجزيرة دون أن تساندهم هذه القبائل. فيبين لهم أين يكون الأمن وأين يكون الخوف من واقعهم التاريخي، ومن حاضرهم الذي يشهدونه، بعد ما أبان لهم في هذه السورة عن ذلك في قصة موسى وفرعون. ويجول معهم جولة في مصارع الغابرين تكشف لهم كذلك عن أسباب الهلاك الحقيقة ممثلة في البطر وقلة الشكر والتكذيب بالرسل والإعراض عن الآيات. ثم جولة أخرى أبعد تكشف عن حقيقة القيم وتبدو فيها ضآلة الحياة الدنيا كلها ومتاعها إلى جوار ما عند الله.
«وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟» ..
إنها النظرة السطحية القريبة، والتصور الأرضي المحدود، هو الذي أوحى لقريش وهو الذي يوحي للناس أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة، ويغري بهم الأعداء، ويفقدهم العون والنصير، ويعود عليهم بالفقر والبوار:
«وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» ..
فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه.
وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة.(5/2703)
إن هدى الله منهج حياة صحيحة. حياة واقعة في هذه الأرض. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضية إلى جانب السعادة الأخروية. وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقق أهداف الحياة الآخرة. إنما هو يربطهما معا برباط واحد: صلاح القلب وصلاح المجتمع وصلاح الحياة في هذه الأرض. ومن ثم يكون الطريق إلى الآخرة. فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة جنة هذه الأرض وسيادتها وسيلة إلى عمارة جنة الآخرة والخلود فيها. بشرط اتباع هدى الله.
والتوجه إليه بالعمل والتطلع إلى رضاه.
وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.
وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله والسير على هداه. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا» .
فلما اتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان.
وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم. فمن الذي وهبهم الأمن؟ ومن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوى إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعا؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:
«أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا؟» ..
فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم الآمن منذ أيام أبيهم إبراهيم؟ أفمن أمنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟! «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
لا يعلمون أين يكون الأمن وأين تكون المخافة. ولا يعلمون أن مرد الأمر كله لله.
فأما إن أرادوا أن يتقوا المهالك حقا، وأن يأمنوا التخطف حقا، فها هي ذي علة الهلاك فليتقوها:
«وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» ..
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى. وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية.. «لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا» . وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها، وتروى قصة البطر بالنعمة وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا، ولم يرثها بعدهم أحد «وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» .
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا. فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:
«وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» ..
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى- أي كبراها أو عاصمتها- أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد. وقد أرسل النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في مكة أم القرى العربية. فهو(5/2704)
ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. «وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» .. يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين! على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله:
«وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده. إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو كمل، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار. إنه كله «فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها» .. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى» خير في طبيعته وأبقى في مدته.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك. ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار! وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار:
«أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ؟» ..
فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه. وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضارا للحساب. والتعبير يوحي بالإكراه «مِنَ الْمُحْضَرِينَ» الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد! وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون.
ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن. وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار.
وعند ما يصل بهم إلى الشاطئ الآخر يجول بهم جولة أخرى في مشهد من مشاهد القيامة، يصور مغبة ما هم فيه من الشرك والغواية:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ. وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ. «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ. فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» ..
والسؤال الأول للتوبيخ والتأنيب:(5/2705)
«أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟» ..
والله يعلم أن لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء، وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئا، ولا يستطيعون إليهم سبيلا.
ولكنه الخزي والفضيحة على رؤوس الأشهاد.
ومن ثم لا يجيب المسئولون عن السؤال، فليس المقصود به هو الجواب! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم، وصدهم عن هدى الله، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم، فيقولون:
«رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» ! ربنا إننا لم نغوهم قسرا، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واختيار، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار. «تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» من جريمة إغوائهم. «ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» إنما كانوا يعبدون أصناما وأوثانا وخلقا من خلقك، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة، ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة! عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها. مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله:
«وَقِيلَ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» ..
ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم! والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين:
«فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» ..
ولم يكن منتظرا غير ذاك، ولكنه الإذلال والإعنات! «وَرَأَوُا الْعَذابَ» ..
رأوه في هذا الحوار. ورأوه ماثلا وراءه. فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب.
وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب: وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون:
«لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» ..
ثم يعود بهم إلى ذلك المشهد المكروب:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ، ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟» ..
وإن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين. ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل. وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت. ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول:
«فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ» .
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة. وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم، وهم لا يعلمون شيئا عن أي شيء! ولا يملكون سؤالا ولا جوابا. وهم في ذهولهم صامتون ساكتون! «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» ..
وهذه هي الصفحة المقابلة. ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحا، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح. ولمن شاء أن يختار. وفي الوقت فسحة للاختيار!(5/2706)
ثم يرد أمرهم وأمر كل شيء إلى إرادة الله واختياره فهو الذي يخلق كل شيء، ويعلم كل شيء، وإليه مرد الأمر كله في الأولى والآخرة، وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا وله الرجعة والمآب. وما يملكون أن يختاروا لأنفسهم ولا لغيرهم، فالله يخلق ما يشاء ويختار:
«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وهذا التعقيب يجيء بعد حكاية قولهم: «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» وبعد استعراض موقفهم يوم الحساب على الشرك والغواية.. يجيء لتقرير أنهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ولتقرير وحدانية الله ورد الأمر كله إليه في النهاية.
«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» ..
إنها الحقيقة التي كثيرا ما ينساها الناس، أو ينسون بعض جوانبها. إن الله يخلق ما يشاء لا يملك أحد أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا، ولا أن يعدل أو يبدل في خلقه شيئا. وإنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال والتكاليف والمقامات ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصا ولا حادثا ولا حركة ولا قولا ولا فعلا.. «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، ومرد الأمر كله إلى الله في الصغير والكبير..
هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئا يحل بهم، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم. فليسوا هم الذين يختارون، إنما الله هو الذي يختار.
وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم. ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع- بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير والاختيار- بالرضى والتسليم والقبول. فإن عليهم ما في وسعهم والأمر بعد ذلك لله.
ولقد كان المشركون يشركون مع الله آلهة مدعاة والله وحده هو الخالق المختار لا شريك له في خلقه ولا في اختياره..
«سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ..
«وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» ..
فهو مجازيهم بما يعلم من أمرهم، مختار لهم ما هم له أهل، من هدى أو ضلال.
«وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. فلا شريك له في خلق ولا اختيار.
«لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ» .. على اختياره، وعلى نعمائه، وعلى حكمته وتدبيره، وعلى عدله ورحمته، وهو وحده المختص بالحمد والثناء.
«وَلَهُ الْحُكْمُ» .. يقضي في عباده بقضائه، لا راد له ولا مبدل لحكمه.
«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. فيقضي بينكم قضاءه الأخير..
وهكذا يطوقهم بالشعور بقدرة الله وتفرد إرادته في هذا الوجود واطلاعه على سرهم وعلانيتهم فلا تخفى عليه منهم خافية وإليه مرجعهم فلا تشرد منهم شاردة. فكيف يشركون بالله بعد هذا وهم في قبضته لا يفلتون؟
ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم، واختياره لحياتهم ومعاشهم(5/2707)
فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين. ظاهرتي الليل والنهار، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار:
«قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى. ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلا. ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرا. ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار، أو التعطل والبوار، أو الملل والهمود.
والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبدا أو النهار أبدا، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك. وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان.
«قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟» ..
والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلا في أيام الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب! فكيف بهم لو فقدوا الضياء. ولو دام عليهم الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار! «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» «1» ..
والناس يستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار. ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف. ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار. والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار. فكيف بالناس لو ظل النهار سرمدا إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار إن دام عليها النهار! ألا إن كل شيء بقدر. وكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون بتدبير. وكل شيء عنده بمقدار:
«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
فالليل سكينة وقرار، والنهار نشاط وعمل، والمتجه فيه إلى فضل الله. فما يعطي الناس شيئا إلا من فضله «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ما يسره الله لكم من نعمة ومن رحمة، وما دبره لكم واختاره من توالي الليل والنهار، ومن كل سنن الحياة التي لم تختاروها، ولكن اختارها الله عن رحمة وعن علم وعن حكمة تغفلون عنها لطول الإلف والتكرار.
ويختم هذه الجولات بمشهد سريع من مشاهد القيامة يسألهم فيه سؤال استنكار عما زعموا من شركاء. ويقفهم
__________
(1) حين ذكر الليل لو كان سرمدا قال: «أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ وحين ذكر النهار لو كان سرمدا قال: «أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» ذلك أن السمع هو حاسة الليل والبصر هو حاسة النهار وذلك من التناسق الفني في الأداء.(5/2708)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
وجها لوجه أمام أباطيلهم المدعاة، حيث تتذاوب وتتهاوى في موقف السؤال والحساب:
«وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا: هاتُوا بُرْهانَكُمْ. فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وتصوير يوم النداء، وما فيه من سؤال عن الشركاء، قد سبق في جولة ماضية. فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا. مشهد نزع شهيد من كل أمة. وهو نبيها الذي يشهد بما أجابته وما استقبلت به رسالته. والنزع حركة شديدة، والمقصود إقامته وإبرازه وإفراده من بينهم ليشهده قومه جميعا وليشهد قومه جميعا. وفي مواجهة هذا الشاهد يطلب منهم برهانهم على ما اعتقدوا وما فعلوا. وليس لديهم برهان ولا سبيل لهم يومئذ إلى المكابرة:
«فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ» .. الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ريبة.
«وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. من شرك ومن شركاء، فما هو بواجدهم وما هم بواجديه! في وقت حاجتهم إليه في موقف الجدل والبرهان! بهذا تنتهي التعقيبات على قصة موسى وفرعون. وقد طوفت بالنفوس والقلوب في تلك الآفاق والعوالم والأحداث والمشاهد. وردتها من الدنيا إلى الآخرة، ومن الآخرة إلى الدنيا. وطوقت بها في جنبات الكون وفي أغوار النفس، وفي مصارع الغابرين، وفي سنن الكون والحياة. متناسقة كلها مع محور السورة الأصيل. ومع القصتين الرئيسيتين في السورة: قصة موسى وفرعون. وقصة قارون. وقد مضت الأولى. فلنستعرض الثانية بعد تلك التعقيبات وهذه الجولات.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 84]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)(5/2709)
مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه. والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد.
ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول: إنه كان ابن عم لموسى- عليه السّلام- وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون، فخسفت به الأرض..
ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئا ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها..
«إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» ..
هكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها «قارون» وتحدد قومه «قَوْمِ مُوسى» وتقرر مسلكه مع قومه، وهو مسلك البغي «فَبَغى عَلَيْهِمْ» وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء.
«وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» ..
ثم تمضي بعد ذلك في استعراض الأحداث والأقوال والانفعالات التي صاحبتها في النفوس.
لقد كان قارون من قوم موسى، فآتاه الله مالا كثيرا، يصور كثرته بأنه كنوز- والكنز هو المخبوء المدخر من(5/2710)
المال الفائض عن الاستعمال والتداول- وبأن مفاتح هذه الكنوز تعبي المجموعة من أقوياء الرجال.. من أجل هذا بغى قارون على قومه. ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم- كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان- وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب.
وعلى أية حال فقد وجد من قومه من يحاول رده عن هذا البغي، ورجعه إلى النهج القويم، الذي يرضاه الله في التصرف بهذا الثراء وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب:
«إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .
وفي هذا القول جماع ما في المنهج الإلهي القويم من قيم وخصائص تفرده بين سائر مناهج الحياة.
«لا تَفْرَحْ» .. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.. لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران. لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد..
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» .. فهم يردونه بذلك إلى الله، الذي لا يحب الفرحين المأخوذين بالمال، المتباهين، المتطاولين بسلطانه على الناس.
«وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا» .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها. فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.
«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» .. فهذا المال هبة من الله وإحسان. فليقابل بالإحسان فيه. إحسان التقبل وإحسان التصرف، والإحسان به إلى الخلق، وإحسان الشعور بالنعمة، وإحسان الشكران.
«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة.
والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال.
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .. كما أنه لا يحب الفرحين.(5/2711)
كذلك قال له قومه: فكان رده جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد:
«قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» ! إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله. فما لكم تملون عليّ طريقة خاصة في التصرف فيه، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي الخاص؟
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء.
وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حسابا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه! والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية- كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها- وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، ورقابتها على طرق تحصيله، وطرق تنميته. وطرق إنفاقه والاستمتاع به. وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، ردا على قولته الفاجرة المغرورة:
«أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً؟ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» .
فإن كان ذا قوة وذا مال، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد! «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» ! ذلك كان المشهد الأول من مشاهد القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم، وتتهاوى لها نفوسهم، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه المحرومون. ذلك على حين يستيقظ الإيمان في قلوب فريق منهم فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون، ويذكرون إخوانهم المبهورين المأخوذين، في ثقة وفي يقين:
«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ! ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ»
.(5/2712)
وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت، ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان، والرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثواب الله. والتقت قيمة المال وقيمة الإيمان في الميزان:
«قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ..
وفي كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته؟ ولا بأي الوسائل نال ما نال من عرض الحياة؟ من مال أو منصب أو جاه. ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى! ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.
فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم الحياة، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع. وهم أعلى نفسا، وأكبر قلبا من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا. ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد. وهؤلاء هم «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» . العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» .
ثواب الله خير من هذه الزينة، وما عند الله خير مما عند قارون. والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلى الصابرون.. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم. الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها. الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون. وعند ما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة. درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضى وثقة واطمئنان.
وعند ما تبلغ فتنة الزينة ذروتها، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة، وترحم الناس الضعاف من إغرائها، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما. ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا:
«فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» ..
هكذا في جملة قصيرة، وفي لمحة خاطفة: «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ» فابتلعته وابتلعت داره، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا. وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال.
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس وردتهم الضربة القاضية إلى الله وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال. وكان هذا المشهد الأخير:
«وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ:! وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا.! وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» ..
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى قارون. وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة. وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله. فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب. ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف. إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء. وعلموا أن الكافرين لا يفلحون. وقارون لم يجهر بكلمة الكفر(5/2713)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
ولكن اغتراره بالمال، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.
ويسدل الستار على هذا المشهد. وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان.. ثم يأخذ في التعقيب في أنسب أوان:
«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ..
تلك الآخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم. العلم الحق الذي يقوم الأشياء قيمتها الحقيقية. تلك الدار الآخرة العالية الرتبة البعيدة الآفاق. تلك الدار الآخرة «نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» ..
فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها. إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا. ولا يبغون فيها كذلك فسادا. أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة. تلك الدار العالية السامية.
«وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» الذين يخشون الله ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه.
وفي تلك الدار الآخرة يقع الجزاء كما كتب الله على نفسه. الحسنة بأضعافها وبما هو خير منها. والسيئة بمثلها رحمة بضعف الخلق وتيسيرا:
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
[سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
والآن وقد انتهى القصص، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص. الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة. يتوجه الخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله. يتوجه الخطاب إلى رسول الله- صلّى(5/2714)
الله عليه وسلّم- وهو في موقفه ذاك:
«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» ..
فما هو بتاركك للمشركين، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة. ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك، ويستبدون بك وبدعوتك، ويفتنون المؤمنين من حولك. إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره، وفي الوقت الذي فرضه وإنك اليوم لمخرج منه مطارد، ولكنك غدا منصور إليه عائد.
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب، ليمضي- صلّى الله عليه وسلّم- في طريقه آمنا واثقا، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه، ولا يستريب لحظة فيه.
وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه، ويخلي عاتقه، ويؤدي واجبه.
«إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ» . ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا. رده فأنقذ به المستضعفين من قومه، ودمر به فرعون وملأه، وكانت العاقبة للمهتدين.. فامض إذن في طريقك، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن:
«قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
ودع الأمر لله يجازي المهتدين والضالين.
وما كان فرض القرآن عليك إلا نعمة ورحمة وما كان يجول في خاطرك أن تكون أنت المختار لتلقي هذه الأمانة. وإنه لمقام عظيم ما كنت تتطلع إليه قبل أن توهبه:
«وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» ..
وهو تقرير قاطع عن عدم تطلع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلى الرسالة إنما هو اختيار الله. والله يخلق ما يشاء ويختار، فذلك الأفق أعلى من أن يفكر فيه بشر قبل أن يختاره الله له ويؤهله ليرقاه. وهو رحمة من الله بنبيه وبالبشرية التي اختاره لهدايتها بهذه الرسالة. رحمة توهب للمختارين لا للمتطلعين. ولقد كان من حوله كثيرون في العرب وفي بني إسرائيل يتطلعون إلى الرسالة المنتظرة في آخر الزمان. ولكن الله- وهو أعلم حيث يجعل رسالته- قد اختار لها من لم يتطلّع إليها ولم يرجها، من دون أولئك الطامعين المتطلعين، حينما علم منه الاستعداد لتلقّي ذلك الفيض العظيم.
ومن ثم يأمره ربه- بما أنعم عليه بهذا الكتاب- ألا يكون ظهيرا للكافرين ويحذره أن يصدوه عن آيات الله، ويمحض له عقيدة التوحيد خالصة في وجه الشرك والمشركين.
«فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
إنه الإيقاع الأخير في السورة، يفصل ما بين رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وطريقه وما بين الكفر والشرك وطريقه، ويبين لأتباع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- طريقهم إلى يوم القيامة.. الإيقاع الأخير ورسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في طريق هجرته الفاصلة بين عهدين متميزين من عهود التاريخ.
«فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .. فما يمكن أن يكون هناك تناصر أو تعاون بين المؤمنين والكافرين. وطريقاهما(5/2715)
مختلفان، ومنهاجهما مختلفان. أولئك حزب الله، وهؤلاء حزب الشيطان. فعلام يتعاونان؟ وفيم يتعاونان؟
«وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ» .. فطريق الكفار دائما أن يصدوا أصحاب الدعوة عن دعوتهم بشتى الطرق والوسائل. وطريق المؤمنين أن يمضوا في طريقهم لا يلويهم عنها المعوقون، ولا يصدهم عنها أعداؤهم. وبين أيديهم آيات الله، وهم عليها مؤتمنون.
«وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» .. دعوة خالصة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. دعوة إلى الله لا لقومية ولا لعصبية، ولا لأرض ولا لراية. ولا لمصلحة ولا لمغنم، ولا لتمليق هوى، ولا لتحقيق شهوة. ومن شاء أن يتبع هذه الدعوة على تجردها فليتبعها، ومن أراد غيرها معها فليس هذا هو الطريق.
«وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» يؤكد هذه القاعدة مرتين بالنهي عن الشرك والنهي عن اتخاذ إله آخر مع الله. ذلك أنها مفرق الطريق في العقيدة بين النصاعة والغموض. وعلى هذه القاعدة يقوم بناء هذه العقيدة كلها، وآدابها وأخلاقها وتكاليفها وتشريعاتها جميعا. وهي المحور الذي يلتف عليه كل توجيه وكل تشريع. ومن ثم هي تذكر قبل كل توجيه وقبل كل تشريع.
ثم يمضي في التوكيد والتقرير:
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» .. «لَهُ الْحُكْمُ» .. «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. فلا إسلام إلا لله، ولا عبودية إلا له، ولا قوة إلا قوته، ولا ملاذ إلا حماه.
«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» .. فكل شيء زائل. وكل شيء ذاهب. المال والجاه. والسلطان والقوة. والحياة والمتاع. وهذه الأرض ومن عليها. وتلك السماوات وما فيها ومن فيها. وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله..
كله. كله. هالك فلا يبقى إلا وجه الله الباقي. متفردا بالبقاء.
«لَهُ الْحُكْمُ» .. يقضي بما يشاء ويحكم كما يشاء، لا يشركه في حكمه أحد، ولا يرد قضاءه أحد، ولا يقف لأمره أمر. وما يشاؤه فهو الكائن دون سواه.
«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. فلا مناص من حكمه، ولا مفر من قضائه، ولا ملجأ دونه ولا مهرب.
وهكذا تختم السورة التي تتجلى فيها يد القدرة سافرة، تحرس الدعوة إلى الله وتحميها، وتدمر القوى الطاغية الباغية وتمحوها. تختم بتقرير قاعدة الدعوة: وحدانية الله سبحانه وتفرده بالألوهية والبقاء والحكم والقضاء.
ليمضي أصحاب الدعوات في طريقهم على هدى، وعلى ثقة، وعلى طمأنينة، وفي يقين..(5/2716)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
(29) سورة العنكبوت مكيّة وآياتها تسع وستّون
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)(5/2717)
سورة العنكبوت مكية. وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية. وذلك لذكر «الجهاد» فيها وذكر «المنافقين» .. ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. لذلك نرجح مكية الآيات كلها. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير.
لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.
والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام.
إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف.
ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب، وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان. على امتداد الأجيال.
ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى، بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها، وقد أخذها الله جميعا:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» ..
ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهاهنا وتفاهتها:
«مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فكلها من عند الله. وكلها دعوة واحدة إلى الله. ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون. ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. ويتناقضون في منطقهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!» .. «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ!» .. «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» .. ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين.
وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة، غير خائفين من الموت، إذ «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» . غير خائفين من فوات الرزق: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» ..
ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» .. فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة، وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام، حول محورها الأول وموضوعها الأصيل.(5/2718)
ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط:
الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان، وسنة الابتلاء والفتنة، ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين. ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة: «وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه، وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة، والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله. ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل، وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض. وكله من عند الله.
والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى. إلا الذين ظلموا منهم. وعن وحدة الدين كله، واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون، ويجادل فيه المشركون. ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبل الله: «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» ..
ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته. تهز الوجدان هزا.
وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جد صارم فإما النهوض بها وإما النكوص عنها. وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله.
وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها. فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق.
«ألف. لام. ميم» ..
الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أنها مادة الكتاب الذي أنزله الله على رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- مؤلفا من مثل هذه الحروف، المألوفة للقوم، الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب. لأنه من صنع الله لا من صنع إنسان.
وقد قلنا من قبل: إن السور التي صدرت بهذه الحروف تتضمن حديثا عن القرآن، إما مباشرة بعد هذه الحروف، وإما في ثنايا السورة، كما هو الحال في هذه السورة. فقد ورد فيها: «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» .. «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» .. «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ» ..
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» .. مما يتمشى مع القاعدة التي اخترناها لتفسير هذه الأحرف في افتتاح السور.
وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان، والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء:
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ؟ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» .
إنه الإيقاع الأول في هذا المقطع القوي من السورة. يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان.
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ؟» ..(5/2719)
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به- وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه- وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب.
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه:
«وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» ..
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله. فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!.
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين.
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء.
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة. ولكنها ليست أعنف صور الفتنة. فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت أمر وأدهى.
هناك فتنة الأهل والأحياء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعا. وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك. وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة. وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا.
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة وهو وحده موحش عريب طريد.
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام. فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان.
ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله! وهنا لك الفتنة الكبرى. أكبر من هذا كله وأعنف. فتنة النفس والشهوة. وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم(5/2720)
والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان. وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصورات أهل الزمان! فإذا طال الأمد، وابطا نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان.
وما بالله- حاشا لله- أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة.
فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء.
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع. وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالا بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلّمون الراية في النهاية. مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار.
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن وبما بذلوا لها من الصبر على المحن وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذاته. ثم يصبر على الأذى والحرمان يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام.
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله. وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدرة، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله. وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:
جاء في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» ..
وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» ..
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوره.
فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.
وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله. فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء.
أما الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين:(5/2721)
«مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ولتنتظر ما وعدها الله إياه، انتظار الواثق المستيقن ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين.
والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية. صورة الراجي المشتاق، الموصول بما هناك.
ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح. ويعقب عليه بالطمأنينة الندية، يدخلها في تلك القلوب. فإن الله يسمع لها، ويعلم تطلعها: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد:
«وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» ..
فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق، فإنما ذلك لإصلاحهم، وتكميلهم، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة. والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ويرفع من تصوراته وآفاته ويستعلي به على الشح بالنفس والمال، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات. وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة، وما يعود عليها من صلاح حالها، واستقرار الحق بينها، وغلبة الخير فيها على الشر، والصلاح فيها على الفساد.
«وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ» .
فلا يقفن أحد في وسط الطريق، وقد مضى في الجهاد شوطا يطلب من الله ثمن جهاده ويمن عليه وعلى دعوته، ويستبطىء المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» . وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله، من تكفير للسيئات، وجزاء على الحسنات. وليصبروا على تكاليف الجهاد وليثبتوا على الفتنة والابتلاء فالأمل المشرق والجزاء الطيب، ينتظرانهم في نهاية المطاف.
وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف.
ثم يجيء إلى لون من ألوان الفتنة أشرنا إليه في مطلع السورة: فتنة الأهل والأحباء. فيفصل في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط، لا إفراط فيه ولا تفريط:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» ..
إن الوالدين لأقرب الأقرباء. وإن لهما لفضلا، وإن لهما لرحما وإن لهما لواجبا مفروضا: واجب الحب والكرامة والاحترام والكفالة. ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله. وهذا هو الصراط: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً. وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» ..
إن الصلة في الله هي الصلة الأولى، والرابطة في الله هي العروة الوثقى. فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان(5/2722)
والرعاية، لا الطاعة ولا الاتباع. وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.
«إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين. فإذا المؤمنون أهل ورفاق، ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» ..
وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة، كما هم في الحقيقة وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر، وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا، فهي روابط عارضة لا أصيلة، لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- وأمه حمنة بنت أبي سفيان، وكان بارا بأمه. فقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت. فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك.
وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم واستبقي الإحسان والبر. وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان.
ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء. يرسمها في كلمات معدودات، صورة واضحة الملامح بارزة السمات:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» ..
ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل، هينة المئونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» فاستقبلها في جزع، واختلت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.
«وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» ! إنا كنا معكم.. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: «إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» ! «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ؟» ..(5/2723)
أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون؟
«وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» ..
وليكشفنهم فيعرفون فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون.
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول:
«جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» ..
فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات- وللطاقة البشرية حدود- ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وبين عذاب الله العظيم فلا يختلط في حسهم أبدا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال.. إن الله في حس المؤمن لا يقوم له شيء، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله.. وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق.
وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء. وهو المبدأ الإسلامي الكبير، الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره، وأفضل أوضاعه:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة والتبعات المشتركة. يحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك بالله عن سواهم وإعفائهم منها. ذلك إلى التهكم على قصة الجزاء في الآخرة إطلاقا:
«اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ» ..
ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم، فيرد كل إنسان إلى ربه فردا، يؤاخذه بعمله، لا يحمل أحد عنه شيئا:
«وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ» ..
ويجبهم بما في قولتهم هذه من كذب وادعاء:
«إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..
ويحملهم وزر ضلالهم وشركهم وافترائهم، ووزر إضلالهم للآخرين. دون أن يعفي هؤلاء من تبعة الضلال:
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» .
ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة فيعلم الناس أن الله لا يحاسبهم جماعات. إنما يحاسبهم أفرادا، وأن كل امرئ بما كسب رهين..(5/2724)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)(5/2725)
انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. وقد أشار إلى الفتنة بالأذى، والفتنة بالقرابة، والفتنة بالإغواء والإغراء.
وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح(5/2726)
عليه السّلام. يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية. مفصلا بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط، مجملا فيما عداها.
وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن، ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة.
ففي قصة نوح- عليه السّلام- تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم لم يؤمن له إلا القليل «فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ» ..
وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال. فقد حاول هداهم ما استطاع، وجادلهم بالحجة والمنطق: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ» .
وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها، وسفورها بلا حياء ولا تحرج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ مع الاستهتار بالنذير: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل، والتكذيب: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» .
وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة.
كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال، واستبداد الحكم، وتمرد النفاق.
ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله، وهي مهما علت واستطالت «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
وينتهي هذا الشوط بدعوة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- أن يتلو الكتاب، وأن يقيم الصلاة، وأن يدع الأمر بعد ذلك لله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» ..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ» ..
والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما. وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة. وهو عمر طويل مديد، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد. ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود- وهذا وحده برهان صدقه- فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول: إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر، لعمارة الأرض وامتداد الحياة. حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار. وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء. فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار، كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة. حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام. بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين. والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نزور «1»
__________
(1) بغاث الطير: ضعافه. ومقلاة نزور، أي مقلة في الفراخ.(5/2727)
ومن ثم يطول عمر الصقر. وتقل أعمار بغاث الطير. ولله الحكمة البالغة. وكل شيء عنده بمقدار. ولم تثمر ألف سنة- إلا خمسين عاما- غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح. وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة، ونجا العدد القليل من المؤمنين، وهم أصحاب السفينة.
ومضت قصة الطوفان والسفينة «آيَةً لِلْعالَمِينَ» تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون.
وبعد قصة نوح يطوي السياق القرون حتى يصل إلى الرسالة الكبرى. رسالة إبراهيم:
«وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً، وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ، وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ..
لقد دعاهم دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض وهي مرتبة في عرضها ترتيبا دقيقا يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوات..
لقد بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها:
«اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» ..
ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم، وما تتضمنه من الخير لهم، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير:
«ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم، واختيار الخير لأنفسهم. وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي! وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه: أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثانا- والوثن: التمثال من الخشب- وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله.. وثانيها:
أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا، يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة، وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة.. وثالثها: أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا، ولا ترزقهم شيئا:
«إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً» ..
وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق. الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم:
«فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ» ..
والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان. ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس.
وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه:
«وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ» ..
وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين:
«إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
فإن كذبوا- بعد ذلك كله- فما أهون ذلك! فلن يضر الله شيئا، ولن يخسر رسوله شيئا. فقد كذب(5/2728)
الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلا واجب التبليغ:
«وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ..
وهكذا يأخذهم خطوة خطوة، ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها، ويوقع على أوتارها في دقة عميقة، وهذه الخطوات تعد نموذجا لطريقة الدعوة جديرا بأن يتملاه أصحاب كل دعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب.
وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة، يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب:
«أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه. خطاب دليله هذا الكون ومجاله السماء والأرض على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب، تبحث فيها عن آيات الله، وترى دلائل وجوده ووحدانيته، وصدق وعده ووعيده. ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان. ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار.
فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة، وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي، المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر، ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها. ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر، ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولا حركة..
تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه، وفي القرآن المثل والمنهج والطريق..
«أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ؟ ثُمَّ يُعِيدُهُ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ..
وإنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق. يرونه في النبتة النامية، وفي البيضة والجنين، وفي كل ما لم يكن ثم يكون مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه! وإن سر الحياة وحده لمعجز، كان وما يزال معجز في معرفة منشئه وكيف جاء- ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه- ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدئ الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم، وهم يرون ولا يملكون الإنكار! فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم فالذي أنشأه يعيده:
«إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ..
وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى. ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم. فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم.
وإلا فالبدء كالإعادة، والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه. وإنما هو توجه الإرادة وكلمة: كن.
فيكون..
ثم يدعوهم إلى السير في الأرض، وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء، في الجامد والحي سواء، ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء:(5/2729)
«قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب. وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة. وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد، وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة، مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه. وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته. وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها أو كانت لا تفصح له بشيء ولا تناجيه! فسبحان منزل هذا القرآن، الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس.
«قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» ..
إن التعبير هنا بلفظ الماضي «كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق. يثير في النفس خاطرا معينا.. ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى، وكيفية بدء الخليقة فيها.
كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة كيف نشأت؟ وكيف انتشرت؟ وكيف ارتقت؟ - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة: ما هي؟، ومن أين جاءت إلى الأرض؟ وكيف وجد فيها أول كائن حيّ؟ - ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة..
ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر. ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به- لو كان ذلك هو المقصود- فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم، يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة. ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان. ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة، ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.
وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذا القرآن وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا، ومستوياتهم جميعا، وملابسات حياتهم جميعا، ووسائلهم جميعا. ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته. ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا. ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين.
هذا أقرب وأولى.
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة، وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن، بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة! ومن قدرة الله على كل شيء: تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء، وإليه وحده المآب لا يعجزه أحد، ولا يمتنع عليه أحد:
«يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ، وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..(5/2730)
والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك، ويسر له الطريقين سواء، وهو بعد ذلك، وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه، ينتهيان به إلى عون الله له- كما كتب على نفسه- وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الانقطاع والضلال. ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب.
«وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» .
تعبير عن المآب فيه عنف، يناسب المعنى بعده:
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ..
فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله. لا من قوتكم في الأرض، ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء.
«وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
وأين من دون الله الولي والنصير؟ أين الولي والنصير من الناس؟ أو من الملائكة والجن؟ وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا؟
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه، وينقطع ما بينه وبين ربه. وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله، وجفت نداوته، ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل. والعاقبة معروفة: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة، الذي جاء خطابا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنا..
بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم، فيبدو هذا الجواب غريبا عجيبا، ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان، بما يملك من قوة ومن سلطان:
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
اقتلوه أو حرقوه.. ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات.
وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح ولم يكن إبراهيم- عليه السّلام- يملك له دفعا، ولا يستطيع منه وقاية. وهو فرد أعزل لا حول ولا طول. فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك. تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:
«فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ» ..
وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان. ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة، فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب، إنما هو الاستعداد للهدى والإيمان:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
الآية الأولى هي تلك النجاة من النار. والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة.
والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة. ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات، وتصريف القلوب، وعوامل الهدى والضلال.(5/2731)
ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار. فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة.
فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم، قبل أن يعتزلهم جميعا:
«وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
إنه يقول لهم: إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله، لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة إنما يجامل بعضكم بعضا، ويوافق بعضكم بعضا، على هذه العبادة ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه- حين يظهر الحق له- استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد، فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه! وهي الجد كل الجد. الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء.
ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة. فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة، والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليها.. إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:
«ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ..
يوم يتنكر التابعون للمتبوعين، ويكفر الأولياء بالأولياء، ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله، ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه! ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا، ولا يدفع عن أحد عذابا:
«وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
النار التي أرادوا أن يحرقوه بها، فنصره الله منها ونجاه. فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة! وانتهت دعوة إبراهيم لقومه، والمعجزة التي لا شك فيها. انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط. ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات. وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق، إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:
«فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ. وَقالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
ونقف أمام قولة لوط: «إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» .. لنرى فيم هاجر. إنه لم يهاجر للنجاة. ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة. إنما هاجر إلى ربه. هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه. هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه. هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيدا عن موطن الكفر والضلال. بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال.
وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله- عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته. وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» .
وهو فيض من العطاء جزيل، يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار، فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما، وعطفا وإنعاما. جزاء وفاقا.(5/2732)
ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم، بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم، فنزلا بوادي الأردن ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد. وكانت تسكن مدينة سدوم. وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة.
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية. ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء. إذ خلقها الله أزواجا: ذكرانا وإناثا.
فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء:
«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ. أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ» ..
ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه. فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال. وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها. فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة، فتكون هذه جريمة فاحشة، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها.
فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا. وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء. فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر، وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة. وجهز كيان كل من الزوجين بالاستعداد للالتذاذ بهذه المباشرة، نفسيا وعضويا، وفقا لذلك التناسق. فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها. فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة، وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة! ويقطعون السبيل، فينهبون المال، ويروعون المارة، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها. وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض..
ويأتون في ناديهم المنكر. يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه، لا يخجل بعضهم من بعض. وهي درجة أبعد في الفحش، وفساد الفطرة، والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح! والقصة هنا مختصرة، وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوفهم عذاب الله، وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:
«فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
فهو التبجح في وجه الإنذار، والتحدي المصحوب بالتكذيب، والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة. وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير:
«قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ» ..
وهنا يسدل الستار على دعاء لوط، ليرفع عن الاستجابة. وفي الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم، يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما:
«وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ، إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ: إِنَّ(5/2733)
فِيها لُوطاً. قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها، لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ»
..
وهذا المشهد. مشهد الملائكة مع إبراهيم. مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب وولادة إسحاق هي موضوع البشرى، ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط. فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى. ثم أخبروه بمهمتهم الأولى:
«إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ. إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» ..
وأدركت إبراهيم رقته ورأفته، فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطا وهو صالح وليس بظالم! وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته، ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة! «قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» ..
وقد كان هواها مع القوم، تقر جرائمهم وانحرافهم، وهو أمر عجيب.
وينتقل إلى مشهد ثالث. مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح وهو يعلم شنشنة قومه، وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا. فضاق صدره وساءه حضورهم إليه، في هذا الظرف العصيب:
«وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» ..
ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف، ومحاورة لوط لهم، وهم في سعار الشذوذ المريض.. ويمضي إلى النهاية الأخيرة. إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم، ويخبرونه بمهمتهم، وهو في هذا الكرب وذلك الضيق:
«وَقالُوا: لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ. إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ..
وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا- إلا لوطا وأهله المؤمنين- وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين. ويغلب أنها ظاهرة بركانية قلبت المدينة وابتلعتها وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين.
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
«وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت، فلم تعد صالحة للإثمار ولا للحياة.
ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم.
ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين:
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة، ولباب العقيدة: «اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» .. وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة. ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان، وغصب المارين بطريقهم للتجارة، وبخس الناس أشياءهم، والإفساد في الأرض، والاستطالة على الخلق.(5/2734)
وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم وأخذهم بالهلاك والتدمير، على سنة الله في أخذ المكذبين.
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون. فأصبحوا فيها جاثمين. جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين! وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود:
«وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» ..
وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت، وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى. وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية، وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة.
وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف، ويشهدون آثار التدمير، بعد العز والتمكين.
وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم، وهو سر ضلال الآخرين.
«وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» ..
فقد كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم. وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع. «فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان. وضيع عليهم الفرصة «وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» يملكون التبصر، وفيهم مدارك ولهم عقول.
وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان. «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ، وَما كانُوا سابِقِينَ» ..
وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه، ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد. وفرعون كان طاغية غشوما، يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها، ويسخر الناس ويجعلهم شيعا، ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما. وهامان كان وزيره المدبر لمكائده، المعين له على ظلمه وبطشه.
«وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ» ..
فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء. لم تعصمهم من أخذ الله، ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله، بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء.
«وَما كانُوا سابِقِينَ» ..
هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة، قد أخذهم الله جميعا. بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا:(5/2735)
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .
فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم، وثمود أخذتهم الصيحة. وقارون خسف به وبداره الأرض، وفرعون وهامان غرقا في اليم وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم. «وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
والآن. وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون.. والآن. وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء.. الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال.. إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله. وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية. فهي وما تحتمي به سواء:
«مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» ..
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ماذا يأخذون وماذا يدعون؟
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون! وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب! وتخدعهم هذه القوى الظاهرة. تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار! وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد.
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول.. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.. حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن.
وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين.
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون.(5/2736)
لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل. بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حس ولا خيال.
قوة الله وحدها هي القوة. وولاية الله وحدها هي الولاية. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.
إنها العنكبوت: وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: «وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء. لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة. هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم. وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم.. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير.
«إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» ..
إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء. وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق.. عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت! «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود.
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» ..
فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكم. وقالوا: إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت. ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون: «وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» ..
ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير:
«خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وهكذا تجيء هذه الآية عقب قصص الأنبياء، وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود، متناسقة معها مرتبطة بها، بتلك الصلة الملحوظة. صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض والذي قامت به السماوات والأرض، في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا، لأنه حق متناسق لا عوج فيه! «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه، المشهودة في تنسيقه وتنظيمه، المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار. والمؤمنون هم الذين يدركونها، لأنهم مفتوحو البصائر والمشاعر للتلقي والإدراك.(5/2737)
وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد- صلّى الله عليه وسلّم- ويربط الصلاة وذكر الله، بالحق الذي في السماوات والأرض، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السّلام:
«اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» ..
اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة، والآية الربانية المصاحبة لها، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض.
وأقم الصلاة إن الصلاة- حين تقام- تنهى عن الفحشاء والمنكر. فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما. «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا» «1» . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها.. وفرق كبير بينهما.. فهي حين تقام ذكر لله. «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع. وأكبر من كل تعبد وخشوع.
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» ..
فلا يخفى عليه شيء، ولا يلتبس عليه أمر. وأنتم إليه راجعون. فمجازيكم بما تصنعون..
__________
(1) رواه ابن جرير قال: حدثنا على حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وذكر الحديث..(5/2738)
انتهى الجزء العشرون ويليه الجزء الحادي والعشرون مبدوءا بقوله تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ»(5/2740)
بسم الله الرحمن الرحيم بقية سورة العنكبوت وسور الرّوم ولقمان والسجدة وقسم من سورة الأحزاب الجزء الحادي والعشرون(5/2742)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 69]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)(5/2743)
هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت. وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين. ومحور السورة- كما أسلفنا- هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان، لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء.. وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل، وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة، ويثبتون للابتلاء. سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السّلام. وهي السنة التي لا تتبدل، والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون، والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها.
وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب، وإقامة الصلاة لذكر الله، ومراقبة الله العليم بما يصنعون.
وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب، والعلاقة بينه وبين الكتب قبله. ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن- إلا الذين ظلموا منهم، فبدلوا في كتابهم، وانحرفوا إلى الشرك، والشرك ظلم عظيم- وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها، فهي حق من عند الله مصدق لما معهم.
ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم، غير مقدرين لهذه المنة الضخمة، ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم، يخاطبهم به، ويحدثهم بكلام الله. ولم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه، فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه! ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله، ويهددهم بمجيئه بغتة، ويصور لهم قربه منهم، وإحاطة جهنم بهم، وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة يحضهم على الهجره بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده. يلتفت إليهم في أسلوب عجيب، يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم، وكل معوق يقعد بهم، ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في لمسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية، ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير.
وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين، وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله- سبحانه- بخلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض الموات وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين.. ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويكفرون بكتابه، ويؤذون رسوله، ويفتنون المؤمنين به. ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه،(5/2744)
والناس من حولهم في خوف وقلق. وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة. ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين.
وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله، يريدون أن يخلصوا إليه، مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق، وكثرة المعوقين.
«وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ- وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
إن دعوة الله التي حملها نوح- عليه السّلام- والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد- صلّى الله عليه وسلّم- لهي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو رد البشرية الضالة إلى ربها، وهدايتها إلى طريقه، وتربيتها بمنهاجه. وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات: كلهم أمة واحدة، تعبد إلها واحدا. وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله. وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام والتي تقررها هذه الآية من القرآن هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب، أو جنس، أو وطن. أو تبادل أو تجارة. ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان وتختفي فيها القوميات والأوطان ويتلاشى فيها الزمان والمكان. ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان.
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله، الموافقة لما قبلها من الدعوات، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر.. «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة. فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة. وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عند ما قامت له دولة في المدينة.
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين. فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه. فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم، ولم ينحرف عن دين الله. وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات.
«وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع، والجدل والنقاش. وكلهم يؤمنون بإله واحد، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم، وهو في صميمه واحد، والمنهج الإلهي متصل الحلقات.
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ» ..
«كذلك» . على النهج الواحد المتصل. وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل. وعلى الطريقة التي يوحي بها(5/2745)
الله لرسله «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» .. فوقف الناس بإزائه في صفين: صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش، وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقه، وتصديقه لما بين أيديهم..
«وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ» .. فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنها ويسترها، فلا يراها ولا يتملاها! والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي، وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير.
«وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» ..
وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عاش بينهم فترة طويلة من حياته، لا يقرأ ولا يكتب ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين. ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئا كاتبا. فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم؟
ونقول: إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها. فحتى على فرض أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كان قارئا كاتبا، ما جاز لهم أن يرتابوا. فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر.
فهو أكبر جدا من طاقة البشر ومعرفة البشر، وآفاق البشر. والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون. وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة، وبأن في عباراته سلطانا، لا يصدران عن بشر! «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» ..
فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم، لا لبس فيها ولا غموض، ولا شبهة فيها ولا ارتياب.
دلائل يجدونها بينة في صدورهم، تطمئن إليها قلوبهم، فلا تطلب عليها دليلا وهي الدليل. والعلم الذي يستحق هذا الاسم، هو الذي تجده الصدور في قرارتها، مستقرا فيها، منبعثا منها يكشف لها الطريق، ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك! «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» .. الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور، والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم.
«وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية. والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها. بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه والذي تفتح كنوزه لجميع الأجيال والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها، وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب! «قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» .. يظهرها عند الحاجة إليها، وفق تقديره وتدبيره. وليس لي أن أقترح على الله شيئا. ليس هذا من شأني ولا من أدبي «وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» . أنذر وأحذر وأكشف وأبين فأؤدي ما كلفته. ولله الأمر بعد ذلك والتدبير.
إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة. وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار. فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار. ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية، حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات. ونشأت عنها الانحرافات.
وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن:(5/2746)
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير. أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟
وهو يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معنيّ بهم حتى ليحدثهم بأمرهم، ويقص عليهم القصص ويعلمهم. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم.. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم. ثم هم لا يكتفون! «إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير.
وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور.
فأما الذين لا يشعرون بهذا كله، فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن! هؤلاء المطموسون الذين لا تفتح قلوبهم للنور. هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله! «قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة. وهو الذي يعلم أنهم على الباطل:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
الخاسرون على الإطلاق. الخاسرون لكل شيء. الخاسرون للدنيا والآخرة. الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور.
إن الإيمان بالله كسب. كسب في ذاته. والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله. إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق، وثبات على الأحداث وثقة بالسند، واطمئنان للحمى، ويقين بالعاقبة. وإن هذا في ذاته لهو الكسب وهو هو الذي يخسره الكافرون. و «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين. عن استعجالهم بالعذاب. وجهنم منهم قريب:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ولقد كان المشركون يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين فيستعجلون الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بالعذاب على سبيل التحدي. وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا. أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات.
أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى.
أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين.. أو لغير(5/2747)
هذا وذاك من تدبير الله المستور..
ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي..
«وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» .. وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه.
مجيئه في حينه. ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه. وحيث يبهتون له ويفاجأون به: «وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر. وصدق الله. ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله. ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية. لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل، إلى أمد طويل. وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله.
وبعد الوعيد بعذاب الدنيا الذي يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، جعل يكرر استنكاره لاستعجالهم بالعذاب، وجهنم لهم بالمرصاد:
«يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» ..
وعلى طريقة القرآن في التصوير، وفي استحضار المستقبل كأنه مشهود، صور لهم جهنم محيطة بالكافرين.
وذلك بالقياس إليهم مستقبل مستور ولكنه بالقياس إلى الواقع المكشوف لعلم الله حاضر مشهود. وتصويره على حقيقته المستورة يوقع في الحس رهبة، ويزيد استعجالهم بالعذاب نكارة. فأنى يستعجل من تحيط به جهنم، وتهم أن تطبق عليه وهو غافل مخدوع؟! ويرسم لهم صورتهم في جهنم هذه المحيطة بهم وهم يستعجلون بالعذاب:
«يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَيَقُولُ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وهو مشهد مفزع في ذاته، يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير: «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب والاستخفاف بالنذير.
ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ليلتفت إلى المؤمنين، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم، ويمنعونهم من عبادة ربهم.. يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم، والنجاة بعقيدتهم. في نداء حبيب وفي رعاية سابغة، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب:
«يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»
..
إن خالق هذه القلوب، الخبير بمداخلها، العليم بخفاياها، العارف بما يهجس فيها، وما يستكن في حناياها..
إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب: يا عبادي الذين آمنوا: يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها. بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها: «يا عِبادِيَ»
..
هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
..(5/2748)
أنتم عبادي. وهذه أرضي. وهي واسعة. فسيحة تسعكم. فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق، الذي تفتنون فيه عن دينكم، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم، أحرارا في عبادتكم «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» .
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة. ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين: بالنداء الحبيب القريب: «يا عِبادِيَ»
وبالسعة في الأرض: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ»
وما دامت كلها أرض الله، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه.
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها. فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة. خطر الموت الكامن في محاولة الخروج- وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة، ولا يسمحون لهم بالهجرة عند ما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين- ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة. ومن هنا تجيء اللمسة الثانية:
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» ..
فالموت حتم في كل مكان، فلا داعي أن يحسبوا حسابه، وهم لا يعلمون أسبابه. وإلى الله المرجع والمآب.
فهم مهاجرون إليه، في أرضه الواسعة، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف. وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة. فمن ذا يساوره الخوف، أو يهجس في ضميره القلق، بعد هذه اللمسات؟
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده بل يكشف عما أعده لهم هناك. وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة. ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض. عوض من نوعها وأعظم منها:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها» .
وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله:
«نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ..
وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع.
ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف، وأسباب الرزق المعلومة. فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» ..
لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم. فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به معها. ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا. وكذلك يرزق الناس. ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه. إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه. وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله. فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة. فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا. كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها، ولكن الله يرزقها ولا يدعها.
ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله، وإشعارهم برعايته وعنايته، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وتنتهي هذه الجولة القصيرة وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة(5/2749)
الخروج. وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة، ومكان كل قلق ثقة، ومكان كل تعب راحة. وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان.
ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب. ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب.
وبعد هذه الجولة مع المؤمنين يرتد السياق إلى التناقض في موقف المشركين وتصوراتهم. فهم يقرون بخلق الله للسماوات والأرض وتسخيره للشمس والقمر وإنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها. وما يتضمنه هذا من بسط الرزق لهم أو تضييقه عليهم. وهم يتوجهون لله وحده بالدعاء عند الخوف.. ثم هم بعد ذلك كله يشركون بالله، ويؤذون من يعبدونه وحده، ويفتنونهم عن عقيدتهم التي لا تناقض فيها ولا اضطراب، وينسون نعمة الله عليهم في تأمينهم في البيت الحرام، وهم يروعون عباده في بيته الحرام:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ. فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ؟ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟» ..
وهذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب إذ ذاك وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد ثم وقع فيها الانحراف. ولا عجب في هذا فهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم- عليهما السلام- وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنهم على دين إبراهيم، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس ولم يكونوا يحفلون كثيرا بالديانة الموسوية أو المسيحية وهما معهم في الجزيرة العربية، اعتزازا منهم بأنهم على دين إبراهيم. غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف.
كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء.. يقرون أن صانع هذا كله هو الله. ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم، أو يعبدون الجن، أو يعبدون الملائكة ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق..
هو تناقض عجيب. تناقض يعجّب الله منه في هذه الآيات: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» أي كيف يصرفون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب؟ «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» فليس يعقل من يقبل عقله هذا التخليط! وبين السؤال عن خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر والسؤال عن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها. يقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له فيربط سنة الرزق بخلق السماوات والأرض وسائر آثار القدرة والخلق، ويكل هذا إلى علم الله بكل شيء: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
والرزق ظاهر الارتباط بدورة الأفلاك، وعلاقتها بالحياة والماء والزرع والإنبات. وبسط الرزق وتضييقه بيد الله وفق الأوضاع والظواهر العامة المذكورة في الآيات. فموارد الرزق من ماء ينزل، وأنهار تجري، وزروع تنبت، وحيوان يتكاثر. ومن معادن وفلزات في جوف الأرض، وصيد في البر والبحر.. إلى(5/2750)
نهاية موارد الرزق العامة، تتبع كلها نواميس السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر تبعية مباشرة ظاهرة. ولو تغيرت تلك النواميس عما هي عليه أدنى تغيير لظهر أثر هذا في الحياة كلها على سطح الأرض وفي المخبوء فيها من الثروات الطبيعية الأخرى سواء بسواء. فحتى هذا المخبوء في جوف الأرض إنما يتم تكوينه وتخزينه واختلافه من مكان إلى مكان وفق أسباب من طبيعة الأرض ومن مجموعة تأثراتها بالشمس والقمر «1» ! والقرآن يجعل الكون الكبير ومشاهده العظيمة هي برهانه وحجته، وهي مجال النظر والتدبر للحق الذي جاء به. ويقف القلب أمام هذا الكون وقفة المتفكر المتدبر، اليقظ لعجائبه، الشاعر بيد الصانع وقدرته، المدرك لنواميسه الهائلة، بلفتة هادئة يسيرة، لا تحتاج إلى علم شاق عسير، إنما تحتاج إلى حس يقظ وقلب بصير. وكلما جلا آية من آيات الله في الكون وقف أمامها يسبح بحمد الله ويربط القلوب بالله: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ!» .
وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض، يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها. فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة:
«وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة. حين تكون هي الغاية العليا للناس. حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة. فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية. هي «الْحَيَوانُ» لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء.
والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا. إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه. إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، والوقوف فيه عند حدود الله. كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له، يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح. فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها، مالكا لحريته معتدلا في نظرته: الدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة.
وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات:
«فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» ..
وهذا كذلك من التناقض والاضطراب. فهم إذا ركبوا في الفلك وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج لم يذكروا إلا الله. ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجأون إليها هي قوة الله. ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله: «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» ونسوا وحي الفطرة المستقيم ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم! وغاية هذا الانحراف أن ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة، وما آتاهم من الفطرة، وما آتاهم من البينة وأن يتمتعوا متاع الحياة الدنيا المحدود إلى الأجل المقدور. ثم يكون بعد ذلك ما يكون، وهو الشر والسوء.
«لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» في سورة الفرقان الجزء التاسع عشر من الظلال.(5/2751)
وهو التهديد من طرف خفي بسوء ما سوف يعلمون! ثم يذكر هم بنعمة الله عليهم في إعطائهم هذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها بتوحيده وعبادته. بل إنهم ليروعون المؤمنين فيه:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟» ..
ولقد كان أهل الحرم المكي يعيشون في أمن، يعظمهم الناس من أجل بيت الله، ومن حولهم القبائل تتناحر، ويفزع بعضهم بعضا، فلا يجدون الأمان إلا في ظل البيت الذي آمنهم الله به وفيه. فكان عجيبا أن يجعلوا من بيت الله مسرحا للأصنام، ولعبادة غير الله أيا كان! «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ؟ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟» «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ؟ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟» ..
وهم قد افتروا على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه. وهم كذبوا بالحق لما جاءهم وجحدوا به. أليس في جهنم مثوى للكافرين؟ بلى وعن يقين! ويختم السورة بصورة الفريق الآخر. الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ويتصلوا به. الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا. الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس. الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب.. أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم، ولن ينسى جهادهم. إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم. وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم. وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم. وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء:
«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» ..(5/2752)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(30) سورة الرّوم مكيّة وآياتها ستّون
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(5/2753)
نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة. ذلك حين غلبت فارس على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب. وكان ذلك في إبان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل الهجرة والمشركين.. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم النصرانية، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية، فقد وجد المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد، وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان.
ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح(5/2754)
لها المؤمنون، الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين.
ولكن القرآن لم يقف بالمسلمين وخصومهم عند هذا الوعد، ولا في حدود ذلك الحادث. إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت. وليصلهم بالكون كله، وليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما. وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها. ثم يستطرد بها إلى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة الدنيا، وإلى العالم الآخر بعد عالم الأرض المحدود. ثم يطوف بهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس، وفي أحوال البشر، وفي عجائب الفطر.. فإذا هم في ذلك المحيط الهائل الضخم الرحيب يطلعون على آفاق من المعرفة ترفع حياتهم وتطلقها، وتوسع آمادها وأهدافها، وتخرجهم من تلك العزلة الضيقة. عزلة المكان والزمان والحادث.
إلى فسحة الكون كله: ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى نواميس الكون وسننه وروابطه.
ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير. ويشعرون بضخامة النواميس التي تحكم هذا الكون، وتحكم فطرة البشر ودقة السنن التي تصرف حياة الناس وأحداث الحياة، وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة وعدالة الموازين التي تقدر بها أعمال الخلق، ويقوّم بها نشاطهم في هذه الأرض، ويلقون على أساسها الجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي ظل ذلك التصور المرتفع الواسع الشامل تتكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها- حتى وهي ناشئة في مكة محصورة بين شعابها وجبالها- ويتسع مجالها فلا تعود مرتبطة بهذه الأرض وحدها إنما هي مرتبطة كذلك بفطرة هذا الكون ونواميسه الكبرى، وفطرة النفس البشرية وأطوارها، وماضي هذه البشرية ومستقبلها. لا على هذه الأرض وحدها، ولكن كذلك في العالم الآخر الوثيق الصلة بها والارتباط.
وكذلك يرتبط قلب المسلم بتلك الآفاق والآماد ويتكيف على ضوئها شعوره وتصوره للحياة والقيم ويتطلع إلى السماء والآخرة ويتلفت حواليه على العجائب والأسرار، وخلفه وقدامه على الحوادث والمصائر.
ويدرك موقفه هو وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله، فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون، وتثبيت مدلولاتها في القلوب.. يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين:
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة. ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون. ويقيس عليها قضية البعث والإعادة. ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب. ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم.. وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح. طريق الفطرة التي فطر الناس عليها والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى.(5/2755)
وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء، ويصور حالهم في الرحمة والضر، وعند بسط الرزق وقبضه. ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته. ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ويوجههم إلى السير في الأرض، والنظر في عواقب المشركين من قبل. ومن ثم يوجه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلى الاستقامة على دين الفطرة، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه. ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول. ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله وأن الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- لا يملك إلا البلاغ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم. ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها. ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلى الصبر على دعوته، وما يلقاه من الناس فيها والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون.
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي. وهو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس، وأحداث الحياة، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الكون ونواميس الوجود.
وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة، وكل حادث وكل حالة، وكل نشأة وكل عاقبة، وكل نصر وكل هزيمة.. كلها مرتبطة برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق. وأن مرد الأمر فيها كله لله:
«لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير..
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
«الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» ..
«بدأت السورة بالأحرف المقطعة: «ألف. لام. ميم» التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن- ومنه هذه السورة- مصوغ من مثل هذه الأحرف، التي يعرفها العرب وهو مع هذا معجز لهم، لا يملكون صياغة مثله، والأحرف بين أيديهم، ومنها لغتهم.
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين. وقد روى ابن جرير- بإسناده- عن عبد الله ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: كانت فارس ظاهرة على الروم. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم.
فلما نزلت: «الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ» . قالوا:
يا أبا بكر. إن صاحبك يقول: إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال: صدق. قالوا: هل لك(5/2756)
أن نقامرك «1» ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شيء. ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «ما بضع سنين عندكم؟» قالوا:
دون العشر. قال: «اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل» . قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس. ففرح المؤمنون بذلك.
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة اخترنا منها رواية الإمام ابن جرير. وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية.
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان.
ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر.
مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب.
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر- رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: «فِي بِضْعِ سِنِينَ» .. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» .. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس لأحد عليها من سلطان ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. وإذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.
__________
(1) أي نراهنك. وجاء في خبر آخر أن ذلك كان قبل تحريم الرهان بوصفه من الميسر.(5/2757)
«الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ» ..
«لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» ..
«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» ..
ولقد صدق وعد الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.
«يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ودخل يصلي قائلا: «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ» فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم-: «اعقلها وتوكل» «1» . فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.
«يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.
«وَعْدَ اللَّهِ. لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» ..
ذلك النصر وعد من الله، فلا بد من تحققه في واقع الحياة: «لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة. وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء.
وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه.
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعا شاملا، يستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه
__________
(1) أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك.(5/2758)
في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه.
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها.
وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.
«وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» .. فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة.
والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة! ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال.. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء.. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان. الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله.
ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون. في السماوات والأرض وما بينهما ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون، علهم يدركون ذلك الحق الكبير، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» .
فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق، ثابت على الناموس، لا يضطرب، ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف دورته، ولا يصطدم بعضه ببعض،(5/2759)
ولا يسير وفق المصادفة العمياء، ولا وفق الهوى المتقلب، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا.
وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة، يتم فيها الجزاء على العمل، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة. إنما كل شيء إلى أجله المرسوم. وفق الحكمة المدبرة وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ويخدعهم: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» ..
ومن هذه الجولة في ضمير السماوات والأرض وما بينهما. وهي جولة بعيدة الآماد والآفاق في هيكل الكون الهائل، وفي محتوياته المنوعة، الشاملة للأحياء والأشياء، والأفلاك والأجرام، والنجوم والكواكب، والجليل والصغير، والخافي والظاهر، والمعلوم والمجهول.. من هذه الجولة البعيدة في ضمير الكون ينقلهم إلى جولة أخرى في ضمير الزمان، وأبعاد التاريخ، يرون فيها طرفا من سنة الله الجارية، التي لا تتخلف مرة ولا تحيد:
«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى، أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين، وهم ناس من الناس، وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية. فسنة الله هي سنة الله في الجميع. وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب. حاشا لله رب العالمين! وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون. كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعا، وعن وحدة السنة التي تحكم هذه الأجيال جميعا ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعا.
فهؤلاء أقوام عاشوا قبل جيل المشركين في مكة «كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً» .. «وَأَثارُوا الْأَرْضَ» .. فحرثوها وشقوا عن باطنها، وكشفوا عن ذخائرها «وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها» .. فقد كانوا أكثر حضارة من العرب، وأقدر منهم على عمارة الأرض.. ثم وقفوا عند ظاهر الحياة الدنيا لا يتجاوزونه إلى ما وراءه:
«وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» .. فلم تتفتح بصائرهم لهذه البينات ولم يؤمنوا فتتصل ضمائرهم بالنور الذي يكشف الطريق. فمضت فيهم سنة الله في المكذبين ولم تنفعهم قوتهم ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم ولقوا جزاءهم العادل الذي يستحقونه: «فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
«ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى» .. كانت السوأى هي العاقبة التي لقيها المسيئون وكانت جزاء وفاقا على «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
والقرآن الكريم يدعو المكذبين المستهزئين بآيات الله أن يسيروا في الأرض فلا ينعزلوا في مكانهم كالقوقعة وأن يتدبروا عاقبة أولئك المكذبين المستهزئين ويتوقعوا مثلها وأن يدركوا أن سنة الله واحدة وأنها لا تحابي أحدا وأن يوسعوا آفاق تفكيرهم فيدركوا وحدة البشرية، ووحدة الدعوة، ووحدة العاقبة في أجيال البشرية(5/2760)
جميعا. وهذا هو التصور الذي يحرص الإسلام على أن يطبع به قلب المؤمن وعقله، ويكرر القرآن الإيقاع حوله كثيرا.
ومن هاتين الجولتين في أغوار الكون وأغوار التاريخ يردهم إلى الحقيقة التي يغفل عنها الغافلون. حقيقة البعث والمآب. وهي طرف من الحق الأكبر الذي يقوم عليه الوجود:
«اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وهي حقيقة بسيطة واضحة. والترابط والتناسق بين جزئيها أو بين حلقتيها واضح كذلك. فالإعادة كالبدء لا غرابة فيها. وهما حلقتان في سلسلة النشأة، مترابطتان لا انفصام بينهما. والرجعة في النهاية إلى رب العالمين، الذي أنشأ النشأة الأولى والنشأة الآخرة، لتربية عباده ورعايتهم ومجازاتهم في النهاية على ما يعملون.
وعند ما يصل السياق إلى البعث والمآب يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، ويرسم مصائر المؤمنين والمكذبين حين يرجعون ويكشف عن عبث اتخاذ الشركاء وسخف عقيدة المشركين:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» ..
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون، ويكذب بها المكذبون. ها هي ذي تجيء، أو ها هي ذي تقوم! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين، لا أمل لهم في نجاة، ولا رجاء لهم في خلاص. ولا شفاعة لهم من شركائهم الذين اتخذوهم في الحياة الدنيا ضالين مخدوعين! هؤلاء هم حائرين يائسين لا منقذ لهم ولا شفيع. ثم ها هم أولاء يكفرون بشركائهم الذين عبدوهم في الأرض وأشركوهم مع الله رب العالمين.
ثم ها هو ذا مفرق الطريق بين المؤمنين والكافرين:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» .. ويتلقون فيها ما يفرح القلب ويسر الخاطر ويسعد الضمير.
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» ..
وتلك نهاية المطاف. وعاقبة المحسنين والمسيئين.
ومن هذه الجولة في مشاهد القيامة في العالم الآخر يعود بهم إلى هذا العالم، وإلى مشاهد الكون والحياة.
وإلى عجائب الخلق وأسرار النفس، وإلى خوارق الأحداث ومعجزات التكوين. ويبدأ هذه الجولة بتسبيح الله حين تقلب الليل والنهار وحمد الله في الكون العريض بالعشي والأظهار: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ(5/2761)
لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ- وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ- وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
..
إنها جولة ضخمة هائلة، لطيفة عميقة، بعيدة الآماد والأغوار. جولة تطوّف بالقلب البشري في الأمسيات والأصباح، والسماوات والأرض، والعشي والأظهار، وتفتح هذا القلب لتدبر الحياة والموت والعمليات الدائبة في النشوء والدثور. وترتد به إلى نشأة الإنسان الأولى، وإلى ما ركب في فطرته من ميول ونوازع، وقوى وطاقات، وما يقوم بين زوجيه من علائق وروابط، وفق تلك الميول والنوازع وهذه القوى والطاقات.
وتوجهه إلى آيات الله في خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان وفقا لاختلاف البيئة والمكان.
وإلى تدبر ما يعتري الكائن البشري من نوم ويقظة وراحة وكد. وإلى ما يعتري الكون من ظواهر البرق والمطر، وما تثيره في نفوس البشر من خوف وطمع، وفي بنية الأرض من حياة وازدهار. وتمضي هذه الجولة العجيبة في النهاية بالقلب البشري إلى قيام السماوات والأرض في هذا كله بأمر الله وإلى توجه من في السماوات والأرض كلهم لله. وتنتهي بالحقيقة التي تنجلى حينئذ واضحة هينة يسيرة: إن الله هو يبدئ ويعيد. والإعادة أهون عليه. وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم:
«فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» ..
إن ذلك التسبيح وهذا الحمد يجيئان تعقيبا على مشهد القيامة في الفقرة السابقة، وفوز المؤمنين بروضة فيها يحبرون، وانتهاء الكافرين المكذبين إلى شهود العذاب. ومقدمة لهذه الجولة في ملكوت السماوات والأرض، وأغوار النفس وعجائب الخلق. فيتسقان مع التعقيب على المشهد وعلى التقديم للجولة كل الاتساق.
والنص يربط التسبيح والحمد بالأوقات: الإمساء والإصباح والعشي والأظهار كما يربطهما بآفاق السماوات والأرض. فيتقصى بهما الزمان والمكان ويربط القلب البشري بالله في كل بقعة وفي كل أوان ويشعر بتلك الرابطة في الخالق مع هيكل الكون ودورة الأفلاك وظواهر الليل والنهار والعشي والأظهار..
ومن ثم يظل هذا القلب مفتوحا يقظا حساسا، وكل ما حوله من مشاهد وظواهر، وكل ما يختلف عليه من آونة وأحوال، يذكره بتسبيح الله وحمده ويصله بخالقه وخالق المشاهد والظواهر والآونة والأحوال.
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.. وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» ..
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» .. تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان، على سطح الأرض، وفي أجواز الفضاء، وفي أعماق البحار.. ففي كل لحظة يتم هذا التحول. بل هذه المعجزة الخارقة التي لا نتبه إليها لطول الألفة والتكرار. في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي. وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام. ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة، وتستعد للإخصاب. وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين. إنسان أو حيوان أو طائر. والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات(5/2762)
هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات، فالحيوان والإنسان! ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء.
إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله.
«وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» .. فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان! «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» ..
والتراب ميت ساكن ومنه نشأ الإنسان. وفي موضع آخر في القرآن جاء: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» » فالطين هو الأصل البعيد للإنسان. ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين. للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك. وذلك بعد قوله: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» تنسيقا للعرض على طريقة القرآن.
وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير.
والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر.. نقلة تثير التأمل في صنع الله وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.
ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارا للحياة والمعاش، وأنسا للأرواح والضمائر، واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء.
والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرا موحيا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» .. «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر. ملبيا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد..
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» ..
__________
(1) سورة المؤمنون. آية: 12. يراجع تفسيرها في الجزء الثامن عشر ص 2457- 2458. [.....](5/2763)
وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن، وكثيرا ما نمر عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا.. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.
إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات.
تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار.
ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام، فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها.. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان وما عرف عنه إلا أقل من القليل، ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل! هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعا. بينما نتحدث طويلا. وطويلا جدا. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء! من العلماء! ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان.. بين بني الإنسان. ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض. فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان. مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان.
وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله، وآياته في خلق السماوات والأرض. وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية. ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» . وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» ..
«وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية، وتربط بين هذه وتلك.
وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير.. تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله، الذي يتفضل به على العباد، بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء، وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام. مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات. وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» .. والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع. ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم.(5/2764)
«وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا. ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق. وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم. وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارئ وقدره تقديرا.
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود. ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق «خَوْفاً وَطَمَعاً» .. وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة. شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عند ما يبرق البرق. أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل. وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» ..
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حيّ، يحيا ويموت. وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم. فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة، مطيعة لربها خاضعة خاشعة، ملبية لأمره مسبحة عابدة. والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين.
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات. ومن ثم في الحيوان والإنسان. والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .. فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ..
وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير. وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا. وما من عاقل يملك أن يقول: إن هذا كله يقع بدون تدبير. وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره، ملبية لهذا الأمر، طائعة له، دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب.
«ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» ..
ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون، وهذه السلطة على مقدراته، لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم، بالخروج من القبور! ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير فإذا كل من في السماوات والأرض من خلائق قانتون لله طائعون.
«وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ..(5/2765)
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين. إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت.
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون:
«وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ- وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ- وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد:
«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» .. وليس شيء أهون على الله ولا أصعب. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ» ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله. وهي في طبيعتها أهون وأيسر؟! «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد، وليس كمثله شيء، إنما هو الفرد الصمد.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد. الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير.
وعند ما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد، والأعماق والأغوار، والظواهر والأحوال، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:
«ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه: جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا.
وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير.
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: «ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ» ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره.. «هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ؟» ..
وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه «تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ» .. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم:
«كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..(5/2766)
وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة، يكشف عن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب: إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير:
«بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
والهوى لا ضابط له ولا مقياس. إنما هو شهوة النفس المتقلبة ونزوتها المضطربة، ورغباتها ومخاوفها.
وآمالها ومطامعها التي لا تستند إلى حق ولا تقف عند حد ولا تزن بميزان. وهو الضلال الذي لا يرجى معه هدى، والشرود الذي لا ترجى معه أوبة: «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟» نتيجة لاتباعه هواه؟ «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» يمنعونهم من سوء المصير.
وعند هذا الحد يفرغ من أمر هؤلاء الذين يتبعون أهواءهم المتقلبة المضطربة ويتجه بالخطاب إلى الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ليستقيم على دين الله الثابت المستند على فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو عقيدة واحدة ثابتة لا تتفرق معها السبل كما تفرق المشركون شيعا وأحزابا مع الأهواء والنزوات! «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً. فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ..
هذا التوجيه لإقامة الوجه للدين القيم يجيء في موعده، وفي موضعه، بعد تلك الجولات في ضمير الكون ومشاهده، وفي أغوار النفس وفطرتها.. يجيء في أوانه وقد تهيأت القلوب المستقيمة الفطرة لاستقباله كما أن القلوب المنحرفة قد فقدت كل حجة لها وكل دليل، ووقفت مجردة من كل عدة لها وكل سلاح..
وهذا هو السلطان القوي الذي يصدع به القرآن. السلطان الذي لا تقف له القلوب ولا تملك رده النفوس.
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» .. واتجه إليه مستقيما. فهذا الدين هو العاصم من الأهواء المتفرقة التي لا تستند على حق، ولا تستمد من علم، إنما تتبع الشهوات، والنزوات بغير ضابط ولا دليل.. أقم وجهك للدين حنيفا مائلا عن كل ما عداه، مستقيما على نهيه دون سواه:
«فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. وبهذا يربط بين فطرة النفس البشرية وطبيعة هذا الدين وكلاهما من صنع الله وكلاهما موافق لناموس الوجود وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الذي خلق القلب البشري هو الذي أنزل إليه هذا الدين ليحكمه ويصرفه ويطب له من المرض ويقومه من الانحراف. وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير. والفطرة ثابتة والدين ثابت: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» . فإذا انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردها إليها إلا هذا الدين المتناسق مع الفطرة. فطرة البشر وفطرة الوجود.
«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. فيتبعون أهواءهم بغير علم ويضلون عن الطريق الواصل المستقيم.
والتوجيه بإقامة الوجه للدين القيم، ولو أنه موجه إلى الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلا أن المقصود به جميع المؤمنين. لذلك يستمر التوجيه لهم مفصلا معنى إقامة الوجه للدين:
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ..(5/2767)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
فهي الإنابة إلى الله والعودة في كل أمر إليه. وهي التقوى وحساسية الضمير ومراقبة الله في السر والعلانية والشعور به عند كل حركة وكل سكنة. وهي إقامة الصلاة للعبادة الخالصة لله. وهي التوحيد الخالص الذي يميز المؤمنين من المشركين..
ويصف المشركين بأنهم «الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً» .. والشرك ألوان وأنماط كثيرة. منهم من يشركون الجن، ومنهم من يشركون الملائكة، ومنهم من يشركون الأجداد والآباء. ومنهم من يشركون الملوك والسلاطين. ومنهم من يشركون الكهان والأحبار. ومنهم من يشركون الأشجار والأحجار. ومنهم من يشركون الكواكب والنجوم. ومنهم من يشركون النار. ومنهم من يشركون الليل والنهار. ومنهم من يشركون القيم الزائفة والرغائب والأطماع. ولا تنتهي أنماط الشرك وأشكاله.. و «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» بينما الدين القيم واحد لا يتبدل ولا يتفرق، ولا يقود أهله إلا إلى الله الواحد، الذي تقوم السماوات والأرض بأمره، وله من في السماوات والأرض كل له قانتون.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 60]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)(5/2768)
يمضي هذا الشوط من السورة في مجالها الأصيل. المجال الكوني العام الذي ترتبط به أقدار الناس وأقدار الأحداث والذي تتناسق فيه سنن الحياة وسنن الكون وسنن الدين القيم بلا تعارض ولا اصطدام.
وفي هذا الشوط يرسم صورة لتقلب الأهواء البشرية أمام ثبات السنن ووهن عقائد الشرك أمام قوة الدين القيم. ويصور نفوس البشر في السراء والضراء وعند قبض الرزق وبسطه، وهي تضطرب في تقديراتها وتصوراتها ما لم تستند إلى ميزان الله الذي لا يضطرب أبدا وما لم ترجع إلى قدر الله الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وبمناسبة الرزق يوجههم إلى الطريقة التي تنمي المال وتزكيه. الطريقة المتفقة مع النهج القيم والطريق الواصل. ويردهم بهذا إلى معرفة الخالق الرازق الذي يميت ويحيي. أما الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله فماذا يفعلون؟ وينبههم إلى الفساد الذي تنشئه عقيدة الشرك في كل مكان. كما يوجه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمين إلى الاستقامة على منهجهم القيم. قبل أن يأتي اليوم الذي لا عمل فيه ولا كسب، ولكن حساب وجزاء عما كانوا يعملون. وفي معرض الحديث عن رزق الله يوجه قلوبهم إلى أنماط من هذا الرزق. منها ما يتعلق بحياتهم المادية كالماء النازل من السماء الذي يحيي الأرض بعد موتها. وتجري الفلك فيه بأمره. ومنها تلك الآيات البينات التي تنزل على الرسول لإحياء موات القلوب والنفوس، ولكنهم لا يهتدون ولا يسمعون. ويطوف بهم في جولة مع أطوار نشأتهم وحياتهم حتى ينتهوا إلى خالقهم، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون.. ويختم هذا الشوط بتثبيت الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وتوجيهه إلى الصبر حتى يتحقق وعد الله الحق اليقين.
«وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ، فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ؟ وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة، ولا تسير على نهج واضح. صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة، والتصورات العارضة، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات. فعند مس الضر يذكر الناس ربهم، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها. حتى إذا انكشفت الغمة، وانفرجت الشدة، وأذاقهم الله رحمة منه: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» .. وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم. ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الاضطرار الذي ألجأهم إلى الله وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه. فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة، بدلا من الشكر والاستقامة على الإنابة.
وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية، فيوجه إليهم الخطاب، ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه:
«فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ..
وهو تهديد ملفوف، هائل مخيف. وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل، الذي أنشأه كله بقولة: كن! «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ! وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعود فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به(5/2770)
نعمة الله ورحمته وهذا الكفر الذي ينتهون إليه:
«أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ؟» ..
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه؟ وهو سؤال استنكاري تهكمي، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل. ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله. وما يأتي بسلطان من عنده. وإلا فهو واهن ضعيف.
ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار والقنوط من الشدة واليأس من رحمة الله:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» ..
وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات. والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان. فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها، فيطيرون بها، ويستغرقون فيها، ولا يشكرون المنعم، ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان وابتلاء. حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة «سَيِّئَةٌ» عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة، وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنهم الغمة وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه.. وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله، التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته. أولئك الذين لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا! ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم، وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم. فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونا ثابتا، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه، فهو الذي ينعم بالرحمة، ويبتلي بالشدة ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته، وبمقتضى حكمته. وهذا ما يقع كل آن، ولكنهم هم لا يبصرون:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؟» ..
فلا داعي للفرح والبطر عند البسط، ولا لليأس والقنوط عند القبض فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله، ودلالة على اطراد السنة، وثبات النظام، رغم تقلب الأحوال:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح. لا كما يظنون هم، بل كما يهديهم الله:
«فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» ..
وما دام المال مال الله، أعطاه رزقا لبعض عباده، فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده، يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال. ومن ثم سماها حقا. ويذكر هنا من هذه الفئات «ذا القربى(5/2771)
والمساكين وابن السبيل» . ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا. ولكن المبدأ كان قد تقرر. مبدأ أن المال مال الله، بما أنه هو الرازق به، وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي، يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال.. وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال.
وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام. فما دام المال مال الله، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول، سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته، أو في طريقة إنفاقه. وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء.
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح. وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس، كي ترد عليه الهدية مضاعفة! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» ..
هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال «1» .. وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:
«وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» ..
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال: إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس. إنما هي إرادة وجه الله. أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر؟ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع؟ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس.. ذلك حساب الدنيا، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة. فهي التجارة الرابحة هنا وهناك! ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك، وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم، ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ، ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ. هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» ..
وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها. يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم. وأنه هو الذي رزقهم. وأنه هو يميتهم. وأنه هو يحييهم. فأما الخلق فهم يقرون به. وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا. وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها. بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه. وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة، التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم. وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة.
ثم يسألهم: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟» ولا ينتظر جوابا منهم، فهو سؤال للنفي في
__________
(1) غير أن هذه الطريقة لا حرمة فيها كحرمة الربا المعروف. غير أنها ليست طريقة النماء الزكي الكريم.(5/2772)
صورة التقريع غير محتاج إلى جواب! إنما يعقب عليه بتنزيه الله: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرا على أقدارها، غالبا عليها:
«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ..
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا، ولا يقع مصادفة إنما هو تدبير الله وسنته.. «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.
ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم، وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم، ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض، ويمرون بهذه الآثار في الطريق:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» .
وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق! وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه..
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» .
والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه، وجديته، واستقامته:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» .. وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد.
وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة. أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء، والرزق ومضاعفته، والفساد الناشئ من الشرك، وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه، وعاقبة المشركين في الأرض. يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله. يوم يتفرقون فريقين: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» ..
ويمهد معناها يمهّد ويعبّد، ويعد المهد الذي فيه يستريح، ويهيئ الطريق أو المضجع المريح. وكلها ظلال تتجمع وتتناسق، لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته. فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهيئ أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها. وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير. وذلك: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. «مِنْ فَضْلِهِ» .. فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله. وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله. إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين.
وكراهيته سبحانه للكافرين: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..
بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله، وما فيها من فضل الله ورحمته، فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم، فيعرفون بعضه وينكرون بعضه. ثم لا يشكرون ولا يهتدون.(5/2773)
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ. فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» ..
إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات، وإرسال الرسل بالبينات، ونصر المؤمنين بالرسل، وإنزال المطر المحيي، وإحياء الموتى وبعثهم.. وهو جمع له مغزاه.. إنها كلها من رحمة الله، وكلها تتبع سنة الله. وبين نظام الكون، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين، صلة وثيقة. وكلها من آيات الله. ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل.
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» .. تبشر بالمطر. وهم يعرفون الريح المطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها. «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء. «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» سواء بدفع الرياح لها أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها. وهي تجري- مع هذا- بأمر الله.
ووفق سنته التي فطر عليها الكون وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته، وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير، وأن تدفعها الرياح فتجري مع التيار وضد التيار. وكل شيء عنده بمقدار.. «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» في الرحلات التجارية، وفي الزرع والحصاد، وفي الأخذ والعطاء. وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» على نعمة الله في هذا كله.. وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب.
ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات:
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ»
..
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه- وهي أجل وأعظم- استقبالهم للرياح المبشرات. ولا انتفعوا بها- وهي أنفع وأدوم- انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين: مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله. ومؤمنين يدركون آيات الله، ويشكرون رحمته، ويثقون بوعده، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون.. ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق.
َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا. وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
..
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين وجعله لهم حقا، فضلا وكرما. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وناموسه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا- في تقدير البشر- لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح.
ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين.(5/2774)
بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح، وينزل المطر، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون.. سنة واحدة، وطريقة واحدة، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير:
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ» .. وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. «فَتُثِيرُ سَحاباً» .
بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض. «فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ» .. ويفرشه ويمده. «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» .. بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة. «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وهو المطر يتساقط من خلال السحاب. «فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .. ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر. والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة. وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز! «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» ..
وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر: حولهم من اليأس والقنوط والهمود.. ثم هم يستبشرون..
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» ..! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» .. إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه:
«إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» .. «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير.
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء.. يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب- وهي الريح المهلكة للزرع والضرع- أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاما:
«وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» ..
يكفرون سخطا ويأسا، بدلا من أن يستسلموا لقضاء الله، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء.
وهي حال من لا يؤمن بقدر الله، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله وتقدر كل أمر وكل حادث. وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء..
وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث.. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها:(5/2775)
«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ..
وهو يصورهم موتى لا حياة فيهم، صما لا سمع لهم، عميا لا يهتدون إلى طريق.. والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه. إنما هي حياة حيوانية، بل أضل وأقل، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان! «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» ..
وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة، لأن قلوبهم حية، وبصائرهم مفتوحة، وإدراكهم سليم. فهم يسمعون فيسلمون. ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب.
بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة، لا في مشاهد الكون من حولهم، ولكن في ذوات أنفسهم، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى. في ترابط بين الحياتين وثيق:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً- يَخْلُقُ ما يَشاءُ- وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ. كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ..
إنها جولة مديدة، يرون أوائلها في مشهود حياتهم ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم. وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» .. ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف إنما قال: «خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم.. والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان.
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين. ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف. ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين.
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان. الطين. الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة.
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام.
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» .. قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف. قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي.
«ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً» .. ضعفا في الكيان الإنساني كله. فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة(5/2776)
بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصما. ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» ..
ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة. هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» ..
فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم، فيقسمون: ما لبثوا غير ساعة. ويحتمل أن يكون قسمهم منصبا على مدة لبثهم في القبور، كما يحتمل أن يكون ذلك عن لبثهم في الأرض أحياء وأمواتا.
«كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم أولو العلم الصحيح إلى التقدير الصحيح:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ. وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
وأولو العلم هؤلاء هم في الغالب المؤمنون، الذين آمنوا بالساعة، وأدركوا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا، فهم أهل العلم الصحيح وأهل الإيمان البصير. وهم يردون الأمر هنا إلى تقدير الله وعلمه «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ» .. فهذا هو الأجل المقدور، ولا يهم طويلا كان أم كان قصيرا. فقد كان ذلك هو الموعد، وقد تحقق:
«فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
ثم يختم المشهد بالنتيجة الكلية في إجمال يصور ما وراءه مما لحق بالظالمين الذين كانوا يكذبون بيوم الدين:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ..
فلا معذرة منهم تقبل ولا يعتب عليهم أحد فيما فعلوه، أو يطلب إليهم الاعتذار. فاليوم يوم العقاب لا يوم العتاب!.
ومن هذا المشهد البائس اليائس يردهم إلى ما هم فيه من عناد وتكذيب، وتلك كانت عاقبة العناد والتكذيب:
«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
وهي نقلة بعيدة في الزمان والمكان ولكنها تجيء في السياق، وكأنها قريب من قريب. وينطوي الزمان والمكان، فإذا هم مرة أخرى أمام القرآن، وفيه من كل مثل وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير. وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط. وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها، وفي كل(5/2777)
طور من أطوارها. ولكنهم- بعد هذا كله- يكذبون بكل آية، ولا يكتفون بالتكذيب، بل يتطاولون على أهل العلم الصحيح، فيقولون عنهم: إنهم مبطلون:
«وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» ..
ويعقب على هذا الكفر والتطاول:
«كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
كذلك. بمثل هذه الطريقة، ولمثل هذا السبب. فهؤلاء الذين لا يعلمون مطموسو القلوب، لا تتفتح بصيرتهم لإدراك آيات الله، متطاولون على أهل العلم والهدى. ومن ثم يستحقون أن يطمس الله على بصيرتهم، وأن يطبع على قلوبهم، لما يعلمه سبحانه عن تلك البصائر وهذه القلوب! ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم، ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون.. يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ومن معه من المؤمنين:
«فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» ..
إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد الله الحق، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك.. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله. ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين. مهما يطل هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم! وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين، ونصر المؤمنين. تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون.
فيتناسق البدء والختام. وتنتهي السورة وفي القلب منها إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب، واليقين الثابت الذي لا يخون..(5/2778)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
(31) سورة لقمان مكيّة وآياتها أربع وثلاثون
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(5/2779)
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول.. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح.. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيما مع العقيدة، مستقيما مع الفطرة، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير..
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها..
هذه القضية الواحدة- قضية العقيدة- تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى الله في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره.
نهاره وليله. أجواؤه وبحاره، أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره.. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة، وآيات مبثوثة عن الإيمان والشمائل، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها، وتأخذ عليها المسالك والدروب.
ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة، ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع(5/2780)
للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة.
تبدأ الجولة الأولى بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف، هي آيات الكتاب الحكيم، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله. ومعها مؤثر نفسي ملحوظ هو أن «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟.
وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، ويتخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» .. ومع الوصف مؤثر نفسي يحقر هذا الفريق: «كأن في أذنيه وقرا» ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ!. ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة ويبين جزاءهم في الآخرة، كما كشف عن جزاء المستهزئين المستكبرين: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
.. وهنا يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان الذي يطالع الفطرة من كل جانب، ويخاطبها بكل لسان، ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين: «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .. وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتبده الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة، التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه الهائل العظيم: «هذا خَلْقُ اللَّهِ. فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وعند هذا الإيقاع الكوني الضخم العميق تنتهي الجولة الأولى بقضاياها ومؤثراتها معروضة في ساحة الكون الكبير.
فأما الجولة الثانية فتبدأ من خلال نفوس آدمية، وتتناول القضية ذاتها في المجال ذاته بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة.. «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ» فما طبيعة هذه الحكمة وما مظهرها الفريد؟ إنها تتلخص في الاتجاه لله بالشكر: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» فهذه هي الحكمة وهذا هو الاتجاه الحكيم.. والخطوة التالية هي اتجاه لقمان لابنه بالنصيحة: نصيحة حكيم لابنه. فهي نصيحة مبرأة من العيب، صاحبها قد أوتي الحكمة. وهي نصيحة غير متهمة، فما يمكن أن تتهم نصيحة والد لولده. هذه النصيحة تقرر قضية التوحيد التي قررتها الجولة الأولى وقضية الآخرة كذلك مصحوبة بهذه المؤثرات النفسية ومعها مؤثرات جديدة: «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ويقرن قضية الشكر لله بالشكر لهذين الوالدين، فيقدمها عليها: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» ..
ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» .
ويقرر معها قضية الآخرة: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو(5/2781)
يصور عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته، تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى الله.
ألا يتطاول على الناس، فيفسد بالقدرة ما يصلح بالكلام: «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» .. والمؤثر النفسي بتحقير التصعير والنفخة ملحوظ في التعبير. وبه تنتهي هذه الجولة الثانية، وقد عالجت القضية ذاتها في مجالها المعهود، بمؤثرات جديدة وبأسلوب جديد.
ثم تبدأ الجولة الثالثة.. تبدأ بعرض القضية المعهودة في مجال السماوات والأرض، مصحوبة بمؤثر منتزع من علاقة البشر بالسماوات والأرض وما فيها من نعم سخرها الله للناس وهم لا يشكرون: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .. وفي ظل هذا المؤثر يبدو الجدل في الله مستنكرا من الفطرة، تمجه القلوب المستقيمة.. ثم يتابع استنكار موقف الكفر والجمود: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» .. وهو موقف سخيف مطموس، يتبعه بمؤثر مخيف: «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟» .. ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الإيمان والكفر: «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» .. ويشير إلى علم الله الواسع الدقيق: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
ويصحب ذلك العرض بتهديد مخيف: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .. وقرب ختام الجولة يقفهم وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون، فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويختم الجولة بمشهد كوني يصور امتداد علم الله بلا نهاية، وانطلاق مشيئته في الخلق والإنشاء بلا حدود ويجعل من هذا دليلا كونيا على البعث والإعادة وعلى الخلق والإنشاء: «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» ..
وتبدأ الجولة الرابعة بمشهد كوني ذي إيقاع خاص في القلب البشري. مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد. ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما الخبير بهما وبالناس وبما يعملون: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. ويلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ؟» ويعقب على هذا بوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم(5/2782)
الذي يبعدها عن بارئها ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» .. وبمناسبة موج البحر وهو له يذكرهم بالهول الأكبر، وهو يقرر قضية الآخرة. الهول الذي يفصم وشائح الدم التي لا يفصلها في الدنيا هول: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ. وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .. وعند هذا المقطع وهذا المؤثر الذي يرتجف له الكيان يختم السورة بآية تقرر القضايا التي عالجتها جميعا، في إيقاع قوي عميق مرهوب: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ. وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ..
هذه الجولات الأربع بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب.
هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها. الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب..
والآن نأخذ في تفصيل هذا الإجمال. فنعرض هذه الجولات الأربع في درسين لما بين كل اثنين منها من ترابط واتساق..
«الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
الافتتاح بالأحرف المقطعة. «ألف. لام. ميم» والإخبار عنها بأنها: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف- على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف- واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم. ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، قاصد لما يقول، مريد لما يهدف إليه. وإنه لكذلك في صميمه. فيه روح. وفيه حياة. وفيه حركة. وله شخصية ذاتية مميزة. وفيه إيناس. وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي، وبين الصديق والصديق! هذا الكتاب الحكيم. أو آياته. «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» فهذه حاله الأصلية الدائمة.. أن يكون هدى ورحمة للمحسنين. هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه. ورحمة بما يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ..
والمحسنون هم: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .. وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملا تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة.. وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون. ويجد(5/2783)
الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان.. واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري، وتطلعه إلى ما عند الله، واستعلائه على أوهاق الأرض، وترفعه على متاع الحياة الدنيا ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك «1» » ..
وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة، وتصطلح نفوسهم عليه، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز. إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين! وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة.. «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . ومن هدي فقد أفلح، فهو سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في الدنيا، ومن عواقب الضلال في الآخرة وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود.
أولئك المهتدون بالكتاب وآياته، المحسنون، المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الموقنون بالآخرة، المفلحون في الدنيا والآخرة.. أولئك فريق.. وفي مقابلهم فريق:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق. والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان.
وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم. ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه. وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات، قائما في كل حين. وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات.
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» .. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً» فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة وهو
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان.(5/2784)
سيّئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة.
وهو سيّئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس. ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم.
ثم يمضي في استكمال صورة ذلك الفريق: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» وهو مشهد فيه حركة ترسم هيئة المستكبر المعرض المستهين. ومن ثم يعالجه بوخزة مهينة تدعو إلى تحقير هذه الهيئة:
«كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» وكأن هذا الثقل في أذنيه يحجبه عن سماع آيات الله الكريمة، وإلا فما يسمعها إنسان له سمع ثم يعرض عنها هذا الإعراض الذميم. ويتمم هذه الإشارة المحقرة بتهكم ملحوظ: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» فما البشارة في هذا الموضوع إلا نوع من التهكم المهين يليق بالمتكبرين المستهزئين! وبمناسبة الحديث عن جزاء الكافرين المستكبرين المعرضين يتحدث عن جزاء المؤمنين العاملين، الذين تحدث عنهم في صدر السورة ويفصل شيئا من أمر فلاحهم الذي أجمله هناك:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وحيثما ذكر الجزاء في القرآن الكريم ذكر قبله العمل الصالح مع الإيمان. فطبيعة هذه العقيدة تقتضي ألا يظل الإيمان في القلب حقيقة مجردة راكدة معطلة مكنونة إنما هو حقيقة حية فاعلة متحركة، ما تكاد تستقر في القلب ويتم تمامها حتى تتحرك لتحقق ذاتها في العمل والحركة والسلوك ولتترجم عن طبيعتها بالآثار البارزة في عالم الواقع، المنبئة عما هو كائن منها في عالم الضمير.
وهؤلاء الذين آمنوا وحققوا إيمانهم بالعمل الصالح «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها» .. لهم هذه الجنات وهذا الخلود تحقيقا لوعد الله الحق. «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» فقد بلغ من فضل الخالق على العباد أن يوجب على نفسه الإحسان إليهم جزاء إحسانهم لأنفسهم لا له سبحانه! وهو الغني عن الجميع! «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. القادر على تحقيق وعده، الحكيم في الخلق والوعد والتحقيق.
وآية القدرة، وآية الحكمة، وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة.. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل، الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه، ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله وهو ضخم هائل دقيق النظام، متناسق التكوين، يأخذ بالقلب، ويبهر اللب، ويواجه الفطرة مواجهة جاهرة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم، وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين:
«خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وهذه السماوات- بظاهر مدلولها ودون تعمق في أية بحوث علمية معقدة- تواجه النظر والحس، هائلة فسيحة سامقة. وسواء أكانت السماوات هي هذه الكواكب والنجوم والمجرات والسدم السابحة في الفضاء(5/2785)
الذي لا يعلم سره ومداه إلا الله أو كانت هي هذه القبة التي تراها العين ولا يعرف أحد ما هي على وجه التحقيق. سواء أكانت السماوات هذه أو تلك فهناك خلائق ضخمة هائلة معلقة بغير عمد تسندها والناس يرونها حيثما امتدت أبصارهم بالليل والنهار، ومهما نأت بهم الأبعاد والأسفار على ظهر كوكبهم السيار.
ومجرد تأملها بالعين المجردة، ودون إدراك حقيقة ضخامتها التي تدير الرؤوس، كاف وحده لرعشة الكيان الإنساني وارتجافه أمام الضخامة الهائلة التي لا نهاية لها ولا حدود. وأمام النظام العجيب الذي يمسك بهذه الخلائق كلها في مثل هذا التناسق. وأمام هذا الجمال البديع الذي يجتذب العين للنظر فلا تمل، ويجتذب القلب للتأمل فلا يكل ويستغرق الحس فلا يكاد يؤوب من ذلك للتأمل الطويل المديد! فكيف إذا عرف الإنسان أن كل نقطة من هذه النقط الصغيرة المضيئة السابحة في هذا الفضاء الهائل قد تبلغ كتلتها أضعاف كتلة الأرض التي تقله ملايين المرات؟
ومن هذه الرحلة الهائلة في أجواز الفضاء على إيقاع تلك الإشارة السريعة: «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» يرتد السياق بالقلب البشري إلى الأرض فيستقر عليها وما يكاد! إلى الأرض الصغيرة. الذرة، التي لا تبلغ أن تكون هباءة في كتلة الكون الضخمة. يرتد إلى هذه الأرض التي يراها الإنسان فسيحة لا يبلغ أطرافها فرد واحد في عمره القصير، ولو قضاه في رحلة دائمة على هذا الكوكب الصغير؟ يرتد بالقلب إلى هذه الأرض ليعيد النظر إليها بحس مفتوح يقظ، وليجلو عنه ملالة التكرار والألفة لمشاهد هذه الأرض العجيبة:
«وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» ..
والرواسي الجبال. ويقول علماء طبقات الأرض إنها تضاريس في قشرة الكرة الأرضية تنشأ من برودة جوف الأرض وتجمد الغازات فيه، ونقص حجمها، فتنكمش القشرة الأرضية وتتجعد، ونقع فيها المرتفعات والمنخفضات وفق الانكماشات الداخلية في حجم الغازات حين تبرد ويصغر حجمها هنا وهناك. وسواء أصحت هذه النظرية أم لم تصح، فهذا كتاب الله يقرر أن وجود هذه الجبال يحفظ توازن الأرض فلا تميد ولا تتأرجح ولا تهتز. وقد تكون نظرية علماء الأرض صحيحة ويكون بروز الجبال على هذا النحو حافظا لتوازن الأرض عند انكماش الغازات وتقبض القشرة الأرضية هنا وهناك، ويكون نتوء الجبال هنا موازنا لانخفاض في قشرة الأرض هناك. وكلمة الله هي العليا على كل حال. والله هو أصدق القائلين.
«وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ» ..
وهذه إحدى عجائب الوجود الكبيرة. فوجود الحياة على هذه الأرض سر لا يدعي أحد- حتى اليوم- إدراكه ولا تفسيره. الحياة في أول صورها. في الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة. فكيف بضخامة هذا السر والحياة تتنوع وتتركب وتتعدد أنواعها وأجناسها وفصائلها وأنماطها إلى غير حد يعلمه الإنسان أو يحصيه؟ ومع هذا فإن أكثر الناس يمرون بهذه العجائب مغمضي العيون مطموسي القلوب وكأنما يمرون على شيء عادي لا يستلفت النظر. بينما هم يقفون مدهوشين مذهولين أمام جهاز من صنع الإنسان ساذج صغير بسيط التكوين حين يقاس إلى خلية واحدة من الخلايا الحية، وتصرفها الدقيق المنظم العجيب. ودعك من الأحياء المعقدة. فضلا على الإنسان، الذي يحوي جسمه مئات المعامل الكيماوية العجيبة ومئات المخازن للإيداع والتوزيع، ومئات المحطات اللاسلكية للإرسال والاستقبال ومئات الوظائف المعقدة التي لا يعرف سرها إلا العليم الخبير!!!(5/2786)
«وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» ..
وإنزال الماء من السماء إحدى العجائب الكونية التي نمر عليها كذلك غافلين. هذا الماء الذي تفيض به مجاري الأنهار، والذي تمتلىء به البحيرات، والذي تتفجر به العيون.. هذا كله ينزل من السماء وفق نظام دقيق، مرتبط بنظام السماوات والأرض، وما بينهما من نسب وأبعاد، ومن طبيعة وتكوين.. وإنبات النبات من الأرض بعد نزول الماء عجيبة أخرى لا ينقضي منها العجب. عجيبة الحياة، وعجيبة التنوع، وعجيبة الوراثة للخصائص الكامنة في البذرة الصغيرة، لتعيد نفسها في النبتة وفي الشجرة الكبيرة. وإن دراسة توزيع الألوان في زهرة واحدة من نبتة واحدة لتقود القلب المفتوح إلى أعماق الحياة وأعماق الإيمان بالله مبدع هذه الحياة..
والنص القرآني يقرر أن الله أنبت النبات أزواجا: «مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» وهي حقيقة ضخمة اهتدى إليها العلم بالاستقراء قريبا جدا. فكل نبات له خلايا تذكير وخلايا تأنيث، إما مجتمعة في زهرة واحدة، أو في زهرتين في العود الواحد، وإما منفصلة في عودين أو شجرتين، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء.
ووصف الزوج بأنه «كريم» يلقي ظلا خاصا مقصودا في هذا الموضع ليصبح لائقا بأن يكون «خَلْقُ اللَّهِ» وليرفعه أمام الأنظار مشيرا إليه.. «هذا خَلْقُ اللَّهِ» وليتحداهم به ويتحدى دعواهم المتهافتة.. «فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟» .. وليعقب على هذا التحدي في أنسب وقت: «بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وأي ضلال وأي ظلم بعد هذا الشرك، في هذا المعرض الكوني الباهر الجليل؟
وعند هذا الإيقاع القوي يختم الجولة الأولى في السورة ذلك الختام المؤثر العميق.
بعد ذلك يبدأ الجولة الثانية. يبدؤها في نسق جديد. نسق الحكاية والتوجيه غير المباشر. ويعالج قضية الشكر لله وحده، وتنزيهه عن الشرك كله، وقضية الآخرة والعمل والجزاء في خلال الحكاية.
«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة تختلف في حقيقته الروايات:
فمن قائل: إنه كان نبيا، ومن قائل: إنه كان عبدا صالحا من غير نبوة- والأكثرون على هذا القول الثاني- ثم يقال: إنه كان عبدا حبشيا، ويقال: إنه كان نوبيا. كما قيل: إنه كان في بني إسرائيل قاضيا من قضاتهم..
وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل آتاه الله الحكمة. الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله:
«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» .. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله اقتداء بذلك الرجل الحكيم المختار الذي يعرض قصته وقوله. وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه آخر، فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو، والله غني عنه. فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف عن الحكمة ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد.
ثم تجيء قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه:(5/2787)
«وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ- وَهُوَ يَعِظُهُ-: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ..
وإنها لعظة غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد- صلّى الله عليه وسلّم- على قومه، فيجادلونه فيها ويشكون في غرضه من وراء عرضها ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه.. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد- وهي حالة خاصة في ظروف خاصة- ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار الحياة، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق.. روى الحافظ أبوبكر البزار في مسنده- بإسناده- عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي- صلّى الله عليه وسلّم- هل أديت حقها؟
قال: «لا. ولا بزفرة واحدة» . هكذا.. ولا بزفرة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن.
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين.. «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد- على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة- إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان(5/2788)
من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك بالله ما يجهل ألوهيته- وكل ما عدا الله لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من الله صاحب الحق الأول في الطاعة.
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة:
«وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» من المؤمنين «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» بعد رحلة الأرض المحدودة «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت) . وروي أنها نزلت في سعد بن مالك.
ورواه الطبراني في كتاب العشرة- بإسناده- عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص. وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في الله هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق الله هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض.
وبعد هذا الاستطراد المعترض في سياق وصية لقمان لابنه، تجيء الفقرة التالية في الوصية، لتقرر قضية الآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. ولكن هذه الحقيقة لا تعرض هكذا مجردة، إنما تعرض في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثرة يرتعش لها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الهائل الدقيق اللطيف:
«يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ، أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» ..
وما يبلغ تعبير مجرد عن دقة علم الله وشموله، وعن قدرة الله سبحانه، وعن دقة الحساب وعدالة الميزان ما يبلغه هذا التعبير المصور. وهذا فضل طريقة القرآن المعجزة الجميلة الأداء، العميقة الإيقاع.. «1» حبة من خردل. صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة. «فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ» .. صلبة محشورة فيها لا تظهر ولا يتوصل إليها. «أَوْ فِي السَّماواتِ» .. في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة. «أَوْ فِي الْأَرْضِ» ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين. «يَأْتِ بِهَا اللَّهُ» .. فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تفلتها. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .. تعقيب يناسب المشهد الخفي اللطيف.
ويظل الخيال يلاحق تلك الحبة من الخردل في مكامنها تلك العميقة الوسيعة ويتملى علم الله الذي يتابعها.
حتى يخشع القلب وينيب، إلى اللطيف الخبير بخفايا الغيوب. وتستقر من وراء ذلك تلك الحقيقة التي يريد القرآن إقرارها في القلب. بهذا الأسلوب العجيب.
ويمضي السياق في حكاية قول لقمان لابنه وهو يعظه. فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها
__________
(1) يراجع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(5/2789)
في الضمير. بعد الإيمان بالله لا شريك له واليقين بالآخرة لا ريب فيها والثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل.. فأما الخطوة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها التي لا بد أن تكون:
«يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ. إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
وهذا هو طريق العقيدة المرسوم.. توحيد لله، وشعور برقابته، وتطلع إلى ما عنده، وثقة في عدله، وخشية من عقابه. ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر، بالزاد الأصيل. زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة. ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها. ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي. ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء.. «إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
وعزم الأمور: قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم.
ويستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى أدب الداعية إلى الله. فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير. ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل:
«وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» ..
والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها. والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر. حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار! والمشي في الأرض مرحا هو المشي في تخايل ونفخة وقلة مبالاة بالناس. وهي حركة كريهة يمقتها الله ويمقتها الخلق. وهي تعبير عن شعور مريض بالذات، يتنفس في مشية الخيلاء! «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» ..
ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» .. والقصد هنا من الاقتصاد وعدم الإسراف. وعدم إضاعة الطاقة في التبختر والتثني والاختيال. ومن القصد كذلك. لأن المشية القاصدة إلى هدف، لا تتلكأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق.
والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته. وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق! والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» .. فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة.
ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول.. شيئا من صوت هذا الحمير..!
وهكذا تنتهي الجولة الثانية، بعد ما عالجت القضية الأولى، بهذا التنويع في العرض، والتجديد في الأسلوب.(5/2790)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 34]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)(5/2791)
تبدأ الجولة الثالثة بنسق جديد. تبدأ بعرض الدليل الكوني مرتبطا بالناس، متلبسا بمصالحهم وحياتهم ومعاشهم، متعلقا بنعم الله عليهم، نعمة الظاهرة ونعمه الباطنة، تلك التي يستمتعون بها، ولا يستحيون معها أن يجادلوا في الله المنعم المتفضل الوهاب.. ثم تسير على هذا النسق في تقرير القضية الأولى التي عالجتها الجولتان الأولى والثانية..
«أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟» ..
وهذه اللفتة المكررة في القرآن بشتى الأساليب تبدو جديدة في كل مرة، لأن هذا الكون لا يزال يتجدد في الحس كلما نظر إليه القلب، وتدبر أسراره، وتأمل عجائبه التي لا تنفد ولا يبلغ الإنسان في عمره المحدود أن يتقصاها وهي تبدو في كل نظرة بلون جديد، وإيقاع جديد.
والسياق يعرضها هنا من زاوية التناسق بين حاجات الإنسان على الأرض وتركيب هذا الكون! مما يقطع بأن هذا التناسق لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة وأنه لا مفر من التسليم بالإرادة الواحدة المدبرة، التي تنسق بين تركيب هذا الكون الهائل وحاجات البشر على هذا الكوكب الصغير الضئيل.. الأرض..!
إن الأرض كلها لا تبلغ أن تكون ذرة صغيرة في بناء الكون. والإنسان في هذه الأرض خليقة صغيرة هزيلة ضعيفة بالقياس إلى حجم هذه الأرض، وبالقياس إلى ما فيها من قوى ومن خلائق حية وغير حية، لا يعد الإنسان من ناحية حجمه ووزنه وقدرته المادية شيئا إلى جوارها. ولكن فضل الله على هذا الإنسان ونفخته فيه من روحه، وتكريمه له على كثير من خلقه.. هذا الفضل وحده قد اقتضى أن يكون لهذا المخلوق وزن في نظام الكون وحساب. وأن يهيىء الله له القدرة على استخدام الكثير من طاقات هذا الكون وقواه، ومن ذخائره وخيراته. وهذا هو التسخير المشار إليه في الآية، في معرض نعم الله الظاهرة والباطنة، وهي أعم من تسخير ما في السماوات وما في الأرض. فوجود الإنسان ابتداء نعمة من الله وفضل وتزويده بطاقاته واستعداداته ومواهبه هذه نعمة من الله وفضل وإرسال رسله وتنزيل كتبه فضل أكبر ونعمة أجل ووصله بروح الله من قبل هذا كله نعمة من الله وفضل وكل نفس يتنفسه، وكل خفقة يخفقها قلبه، وكل منظر تلتقطه عينه، وكل صوت تلتقطه أذنه، وكل خاطر يهجس في ضميره، وكل فكرة يتدبرها عقله.. إن هي إلا نعمة ما كان لينالها لولا فضل الله.
وقد سخر الله لهذا المخلوق الإنساني ما في السماوات، فجعل في مقدوره الانتفاع بشعاع الشمس ونور القمر وهدي النجوم، وبالمطر والهواء والطير السابح فيه. وسخر له ما في الأرض. وهذا أظهر وأيسر ملاحظة وتدبرا. فقد أقامه خليفة في هذا الملك الطويل العريض، ومكنه من كل ما تذخر به الأرض من كنوز.
ومنه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستتر. ومنه ما يعرفه الإنسان ومنه ما لا يدرك إلا آثاره ومنه ما لم يعرفه أصلا من أسرار القوى التي ينتفع بها دون أن يدري. وإنه لمغمور في كل لحظة من لحظات الليل والنهار بنعمة الله السابغة الوافرة التي لا يدرك مداها، ولا يحصي أنماطها.. ومع هذا كله فإن فريقا من الناس لا يشكرون ولا يذكرون ولا يتدبرون ما حولهم، ولا يوقنون بالمنعم المتفضل الكريم.
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» ..
وتبدو هذه المجادلة مستغربة مستنكرة في ظل ذلك البرهان الكوني، وفي جوار هذه النعمة السابغة.(5/2792)
ويبدو الجحود والإنكار بشعا شنيعا قبيحا، تنفر منه الفطرة، ويقشعر منه الضمير. ويبدو هذا الفريق من الناس الذي يجادل في حقيقة الله، وعلاقة الخلق بهذه الحقيقة. يبدو منحرف الفطرة ولا يستجيب لداعي الكون كله من حوله جاحدا النعمة لا يستحيي أن يجادل في المنعم بكل هذه النعم السابغة. ويزيد موقفه بشاعة أنه لا يرتكن في هذا الجدال إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يستند إلى كتاب ينير له القضية ويقدم له الدليل.
«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» ..
فهذا هو سندهم الوحيد، وهذا هو دليلهم العجيب! التقليد الجامد المتحجر الذي لا يقوم على علم ولا يعتمد على تفكير. التقليد الذي يريد الإسلام أن يحررهم منه وأن يطلق عقولهم لتتدبر ويشيع فيها اليقظة والحركة والنور، فيأبوا هم الانطلاق من إسار الماضي المنحرف، ويتمسكوا بالأغلال والقيود.
إن الإسلام حرية في الضمير، وحركة في الشعور، وتطلع إلى النور، ومنهج جديد للحياة طليق من إسار التقليد والجمود. ومع ذلك كان يأباه ذلك الفريق من الناس، ويدفعون عن أرواحهم هداه، ويجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. ومن ثم يسخر منهم ويتهكم عليهم، ويشير من طرف خفي إلى عاقبة هذا الموقف المريب:
«أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟» ..
فهذا الموقف إنما هو دعوة من الشيطان لهم، لينتهي بهم إلى عذاب السعير. فهل هم مصرون عليه ولو قادهم إلى ذلك المصير؟ .. لمسة موقظة ومؤثر مخيف، بعد ذلك الدليل الكوني العظيم اللطيف.
وبمناسبة ذلك الجدال المتعنت الذي لا يستند إلى علم، ولا يهتدي بهدى، ولا يستمد من كتاب. يشير إلى السلوك الواجب تجاه الدليل الكوني والنعمة السابغة:
«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ- وَهُوَ مُحْسِنٌ- فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ..
إنه الاستسلام المطلق لله- مع إحسان العمل والسلوك- الاستسلام بكامل معناه، والطمأنينة لقدر الله.
والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة، والاسترواح للرعاية، والرضى الوجداني، رضى السكون والارتياح.. كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله. والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان..
«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ- وَهُوَ مُحْسِنٌ- فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى» .. العروة الوثقى التي لا تنقطع ولا تهن ولا تخون ممسكا بها في سراء أو ضراء، ولا يضل من يشد عليها في الطريق الوعر والليلة المظلمة، بين العواصف والأنواء! هذه العروة الوثقى هي الصلة الوثيقة الثابتة المطمئنة بين قلب المؤمن المستسلم وربه. هي الطمأنينة إلى كل ما يأتي به قدر الله في رضى وفي ثقة وفي قبول، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها وسكينتها ورباطة جأشها في مواجهة الأحداث، وفي الاستعلاء على السراء فلا تبطر، وعلى الضراء فلا تصغر وعلى المفاجئات فلا تذهل وعلى اللأواء في طريق الإيمان، والعقبات تتناثر فيه من هنا ومن هناك.
إن الرحلة طويلة وشاقة وحافلة بالأخطار. وخطر المتاع فيها والوجدان ليس أصغر ولا أقل من خطر الحرمان فيها والشقاء. وخطر السراء فيها ليس أهون ولا أيسر من خطر الضراء. والحاجة إلى السند الذي لا يهن،(5/2793)
والحبل الذي لا ينقطع، حاجة ماسة دائمة. والعروة الوثقى هي عروة الإسلام لله والاستسلام والإحسان.
«وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .. وإليه المرجع والمصير. فخير أن يسلم الإنسان وجهه إليه منذ البداية وأن يسلك إليه الطريق على ثقة وهدى ونور..
«وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» ..
تلك نهاية من يسلم وجهه إلى الله وهو محسن. وهذه نهاية من يكفر ويخدعه متاع الحياة. نهايته في الدنيا تهوين شأنه على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وعلى المؤمنين. «وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ» .. فشأنه أهون من أن يحزنك، وأصغر من أن يهمك.. ونهايته في الأخرى التهوين من شأنه كذلك. وهو في قبضة الله لا يفلت وهو مأخوذ بعمله، والله أعلم بما عمل وبما يخفيه في صدره من نوايا: «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. ومتاع الحياة الذي يخدعه قليل، قصير الأجل، زهيد القيمة..
«نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا» .. والعاقبة بعد ذلك مروعة فظيعة وهو مدفوع إليها دفعا لا يملك لها ردا: «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .. ووصف العذاب بالغلظ يجسمه- على طريقة القرآن- والتعبير بالاضطرار يلقي ظل الهول الذي يحاول الكافر ألا يواجهه، مع العجز عن دفعه، أو التلكؤ دونه! فأين هذا ممن يسلم وجهه إلى الله ويستمسك بالعروة الوثقى، ويصير إلى ربه في النهاية هادىء النفس مطمئن الضمير؟
ثم يقفهم أمام منطق فطرتهم، حين تواجه الكون، فلا تجد مناصا من الاعتراف بالحقيقة الكامنة فيها وفي فطرة الكون على السواء ولكنهم يزيغون عنها وينحرفون، ويغفلون منطقها القويم:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
وما يملك الإنسان حين يستفتي فطرته ويعود إلى ضميره أن ينكر هذه الحقيقة الواضحة الناطقة. فهذه السماوات والأرض قائمة. مقدرة أوضاعها وأحجامها وحركاتها وأبعادها، وخواصها وصفاتها. مقدرة تقديرا يبدو فيه القصد، كما يبدو فيه التناسق. وهي قبل ذلك خلائق لا يدعي أحد أنه خلقها ولا يدعي أحد أن خالقا آخر غير الله شارك فيها ولا يمكن أن توجد هكذا بذاتها. ثم لا يمكن أن تنتظم وتتسق وتقوم وتتناسق بدون تدبير، وبدون مدبر. والقول بأنها وجدت وقامت تلقائيا أو فلتة أو مصادفة لا يستحق احترام المناقشة. فضلا على أن الفطرة من أعماقها تنكره وترده.
وأولئك الذين كانوا يواجهون عقيدة التوحيد بالشرك ويقابلون دعوة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بالجدال العنيف لم يكونوا يستطيعون أن يزيفوا منطق فطرتهم حين تواجه بالدليل الكوني الممثل في وجود السماوات والأرض، وقيامهما أمام العين، لا تحتاجان إلى أكثر من النظر! ومن ثم لم يكونوا يتلجلجون في الجواب: لو سئلوا: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» وجوابهم: «اللَّهُ» ..
لذلك يوجه الله رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- ليعقب على جوابهم هذا بحمد الله: «قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» ..
الحمد لله على وضوح الحق في الفطرة، والحمد لله على هذا الإقرار القهري أمام الدليل الكوني. والحمد لله على كل حال. ثم يضرب عن الجدل والتعقيب بتعقيب آخر: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. ومن ثم يجادلون ويجهلون منطق الفطرة، ودلالة هذا الكون على خالقه العظيم.(5/2794)
وبمناسبة إقرار فطرتهم بخلق الله للسماوات والأرض يقرر كذلك ملكية الله المطلقة لكل ما في السماوات والأرض. ما سخره للإنسان وما لم يسخره. وهو مع ذلك الغني عن كل ما في السماوات والأرض، المحمود بذاته ولو لم يتوجه إليه الناس بالحمد:
«لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد، وعلمه الذي لا يحد، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد:
«وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» ..
إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل.
إن البشر يكتبون علمهم، ويسجلون قولهم، ويمضون أوامرهم، عن طريق كتابتها بأقلام- كانت تتخذ من الغاب والبوص- يمدونها بمداد من الحبر ونحوه. لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما. وجميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا.
بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك.. وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة، الدالة على علمه، المعبرة عن مشيئته.. فماذا؟ لقد نفدت الأقلام ونفد المداد. نفدت الأشجار ونفدت البحار.. وكلمات الله باقية لم تنفد، ولم تأت لها نهاية.. إنه المحدود يواجه غير المحدود. ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق.. إن كلمات الله لا تنفد، لأن علمه لا يحد، ولأن إرادته لا تكف، ولأن مشيئته- سبحانه- ماضية ليس لها حدود ولا قيود.
وتتوارى الأشجار والبحار، وتنزوي الأحياء والأشياء وتتوارى الأشكال والأحوال. ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وأمام هذا المشهد الخاشع يلقي بالإيقاع الأخير في هذه الجولة متخذا من ذلك المشهد دليلا كونيا على يسر الخلق وسهولة البعث:
«ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» ..
والإرادة التي تخلق بمجرد توجه المشيئة إلى الخلق، يستوي عندها الواحد والكثير فهي لا تبذل جهدا محدودا في خلق كل فرد، ولا تكرر الجهد مع كل فرد. وعندئذ يستوي خلق الواحد وخلق الملايين. وبعث النفس الواحدة وبعث الملايين. إنما هي الكلمة. هي المشيئة: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ..
ومع القدرة العلم والخبرة مصاحبين للخلق والبعث وما وراءهما من حساب وجزاء دقيق: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» ..
وتأتي الجولة الأخيرة تعالج القضية التي عالجتها الجولات الثلاث من قبل. فتقرر أن الله هو الحق وأن(5/2795)
ما يدعون من دونه الباطل. وتقرر إخلاص العبادة لله وحده. وتقرر قضية اليوم الآخر الذي لا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.. وتستصحب مع هذه القضايا مؤثرات منوعة جديدة.
وتعرضها في المجال الكوني الفسيح..
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ؟ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟ وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ؟ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ..
ومشهد دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتناقصهما وامتدادهما عند اختلاف الفصول، مشهد عجيب حقا، ولكن طول الألفة والتكرار يفقد أكثر الناس الحساسية تجاهه فلا يلحظون هذه العجيبة، التي تتكرر بانتظام دقيق، لا يتخلف مرة ولا يضطرب ولا تنحرف تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.. والله وحده هو القادر على إنشاء هذا النظام وحفظه ولا يحتاج إدراك هذه الحقيقة إلى أكثر من رؤية تلك الدورة الدائبة التي لا تكل ولا تحيد.
وعلاقة تلك الدورة بالشمس والقمر وجريانهم المنتظم علاقة واضحة. وتسخير الشمس والقمر عجيبة أضخم من عجيبة الليل والنهار ونقصهما وزيادتهما. وما يقدر على هذا التسخير إلا الله القدير الخبير. وهو الذي يقدر ويعلم أمد جريانهما إلى الوقت المعلوم. ومع حقيقة إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وحقيقة تسخير الشمس والقمر- وهما حقيقتان كونيتان بارزتان- حقيقة أخرى مثلهما يقررها معهما في آية واحدة:
«وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. وهكذا تبرز هذه الحقيقة الغيبية، إلى جانب الحقائق الكونية. حقيقة مثلها، ذات ارتباط بها وثيق.
ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا. الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا. وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة وتقدم لها بهذا الدليل:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ..
ذلك.. ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق.. ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة، والتي يقوم بها هذا الوجود. فكون الله هو الحق. سبحانه. هو الذي يقيم هذا الكون، وهو الذي يحفظه، وهو الذي يدبره، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق، ما شاء الله له أن يكون..
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» .. كل شيء غيره يتبدل. وكل شيء غيره يتحول. وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان، وتتعاوره القوة والضعف، والازدهار والذبول، والإقبال والإدبار. وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن، ويزول بعد أن يكون. وهو وحده- سبحانه- الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول..
ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» .. بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك. بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير ويحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير! .. وكذلك: «وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. الذي ليس غيره «علي» ولا «كبير» !!! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب؟ أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد وأن التعبير القرآني- كما هو- هو وحده التعبير الموحي الفريد!!!(5/2796)
ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني، وهذه اللمسة الوجدانية، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر. مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله. ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» ..
والفلك تجري في البحر وفق النواميس التي أودعها الله البحر والفلك والريح والأرض والسماء. فخلقة هذه الخلائق بخواصها هذه هي التي جعلت الفلك تجري في البحر ولا تغطس أو تقف. ولو اختلت تلك الخواص أي اختلال ما جرت الفلك في البحر. لو اختلت كثافة الماء أو كثافة مادة الفلك. لو اختلت نسبة ضغط الهواء على سطح البحر. لو اختلت التيارات المائية والهوائية. لو اختلت درجة الحرارة عن الحد الذي يبقي الماء ماء، ويبقي تيارات الماء والهواء في الحدود المناسبة.. لو اختلت نسبة واحدة أي اختلال ما جرت الفلك في الماء، وبعد ذلك كله يبقى أن الله هو حارس الفلك وحاميها فوق ثبج الأمواج وسط العواصف والأنواء، حيث لا عاصم لها إلا الله. فهي تجري بنعمة الله وفضله على كل حال. ثم هي تجري حاملة نعمة الله وفضله كذلك. والتعبير يشمل هذا المعنى وذاك: «لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ» .. وهي معروضة للرؤية، يراها من يريد أن يرى وليس بها من غموض ولا خفاء.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. صبار في الضراء، شكور في السراء وهما الحالتان اللتان تتعاوران الإنسان.
ولكن الناس لا يصبرون، ولا يشكرون، إنما يصيبهم الضر فيجأرون، وينجيهم الله من الضر فلا يشكر منهم إلا القليل:
«وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» ..
فأمام مثل هذا الخطر، والموج يغشاهم كالظلل والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل.. تتعرى النفوس من القوة الخادعة، وتتجرد من القدرة الموهومة، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها. حتى إذا سقطت هذه الحوائل، وتعرت الفطرة من كل ستار، استقامت إلى ربها، واتجهت إلى بارئها، وأخلصت له الدين، ونفت كل شريك، ونبذت كل دخيل. ودعوا الله مخلصين له الدين.
«فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ» ..
لا يجرفه الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار إنما يظل ذاكرا شاكرا، وإن لم يوف حق الله في الذكر والشكر فأقصى ما يبلغه ذاكر شاكر أن يكون مقتصدا في الأداء.
ومنهم من يجحد وينكر آيات الله بمجرد زوال الخطر وعودة الرخاء: «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» .. والختار الشديد الغدر، والكفور الشديد الكفر وهذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد آيات الله بعد هذه المشاهد الكونية، ومنطق الفطرة الخالص الواضح المبين.
وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة، ويقفها وجها لوجه أمام منطق الفطرة.. بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر.(5/2797)
الذي يبدو هول البحر في ظله صغيرا هزيلا. هول اليوم الذي يقطع أو أصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد، ويحول بين المولود والوالد، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة، مجردة من كل عون ومن كل سند، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» ..
إن الهول هنا هول نفسي، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب «1» . وما تتقطع أو أصر القربى والدم، ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد، وبين المولود والوالد. وما يستقل كل بشأنه، فلا يجزى أحد عن أحد، ولا ينفع أحدا إلا عمله وكسبه. ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس.. فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب.
«إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» .. فلا يخلف ولا يتخلف ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب. ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد.
«فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» .. وما فيها من متاع ولهو ومشغلة فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء.
«وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» .. من متاع يلهي، أو شغل ينسي، أو شيطان يوسوس في الصدور. والشياطين كثير. الغرور بالمال شيطان. والغرور بالعلم شيطان. والغرور بالعمر شيطان. والغرور بالقوة شيطان.
والغرور بالسلطان شيطان. ودفعة الهوى شيطان. ونزوة الشهوة شيطان. وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور! وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب. ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب.
«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ..
والله- سبحانه- قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد، وكنز الرصيد.
والله ينزل الغيث وفق حكمته، بالقدر الذي يريده وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه. والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث، لأنه سبحانه
__________
(1) يراجع فصل العالم الآخر في القرآن «في كتاب: مشاهد القيامة في القرآن» ص 42- 44. «دار الشروق» .(5/2798)
هو المنشئ للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه. فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة.
كما هو ظاهر من النص. وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله. وإن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن. فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان.
«وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» .. اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر «السَّاعَةِ» فهو سبحانه الذي يعلم وحده.
علم يقين. ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور. من فيض وغيض. ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم. ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة. وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته.. فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى.
«وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً» .. ماذا تكسب من خير وشر، ومن نفع وضر، ومن يسر وعسر، ومن صحة ومرض، ومن طاعة ومعصية. فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة. وهو غيب مغلق، عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار.
وكذلك: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار.
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة. وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس. ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا! بل ماذا يكون اللحظة التالية. وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله.
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة..
رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق. وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال: ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان. والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول.. وموضع الموت والدفن، وهو مبعد في الظنون.
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء. ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد، ولا نكشف القاصي منها والدان «1» .. ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان، لأنها فوق مقدور الإنسان، ووراء علم الإنسان. تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره، إلا بإذن منه وإلا بمقدار. «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» وليس غيره بالعليم ولا بالخبير..
__________
(1) مقتطف من كتاب: التصوير الفني في القرآن. فصل: التناسق الفني. «دار الشروق» .(5/2799)
وهكذا تنتهي السورة، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة، الشاملة الشاسعة، وئيد الخطى لكثرة ما طوّف، ولجسامة ما يحمل، ولطول ما تدبر وما تفكر، في تلك العوالم والمشاهد والحيوانات! وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين..(5/2800)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
(32) سورة السّجدة مكيّة وآياتها ثلاثون
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)(5/2801)
هذه السورة المكية نموذج آخر من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري بالعقيدة الضخمة التي جاء القرآن ليوقظها في الفطر، ويركزها في القلوب: عقيدة الدينونة لله الأحد الفرد الصمد، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله. والتصديق برسالة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر إلى الله. والاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب والجزاء.
هذه هي القضية التي تعالجها السورة وهي القضية التي تعالجها سائر السور المكية. كل منها تعالجها بأسلوب خاص، ومؤثرات خاصة تلتقي كلها في أنها تخاطب القلب البشري خطاب العليم الخبير، المطلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها، ومنحنياتها ودروبها، العارف بطبيعتها وتكوينها، وما يستكن فيها من مشاعر،(5/2802)
وما يعتريها من تأثرات واستجابات في جميع الأحوال والظروف.
وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب وبطريقة غير أسلوب وطريقة سورة لقمان السابقة. فهي تعرضها في آياتها الأولى ثم تمضي بقيتها تقدم مؤثرات موقظة للقلب، منيرة للروح، مثيرة للتأمل والتدبر كما تقدم أدلة وبراهين على تلك القضية معروضة في صفحة الكون ومشاهده وفي نشأة الإنسان وأطواره وفي مشاهد من اليوم الآخر حافلة بالحياة والحركة وفي مصارع الغابرين وآثارهم الناطقة بالعبرة لمن يسمع لها ويتدبر منطقها! كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة في خشوعها وتطلعها إلى ربها. وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها وتعرض صورا للجزاء الذي يتلقاه هؤلاء وهؤلاء، وكأنها واقع مشهود حاضر للعيان، يشهده كل قارئ لهذا القرآن.
وفي كل هذه المعارض والمشاهد تواجه القلب البشري بما يوقظه ويحركه ويقوده إلى التأمل والتدبر مرة، وإلى الخوف والخشية مرة، وإلى التطلع والرجاء مرة. وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد، وتارة بالإطماع، وتارة بالإقناع.. ثم تدعه في النهاية تحت هذه المؤثرات وأمام تلك البراهين. تدعه لنفسه يختار طريقه، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور.
ويمضي سياق السورة في عرض تلك القضية في أربعة مقاطع أو خمسة متلاحقة متصلة: يبدأ بالأحرف المقطعة «ألف. لام. ميم» منبها بها إلى تنزيل الكتاب من جنس هذه الأحرف. ونفي الريب عن تنزيله والوحي به: «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ويسأل سؤال استنكار عما إذا كانوا يقولون: افتراه. ويؤكد أنه الحق من ربه لينذر قومه «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ..
وهذه هي القضية الأولى من قضايا العقيدة: قضية الوحي وصدق الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- في التبليغ عن رب العالمين.
ثم يعرض قضية الألوهية وصفتها في صفحة الوجود: في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي الهيمنة على الكون وتدبير الأمر في السماوات والأرض، ورفع الأمر إليه في اليوم الآخر.. ثم في نشأة الإنسان وأطواره وما وهبه الله من السمع والبصر والإدراك. والناس بعد ذلك قليلا ما يشكرون.
وهذه هي القضية الثانية: قضية الألوهية وصفتها: صفة الخلق، وصفة التدبير، وصفة الإحسان، وصفة الإنعام، وصفة العلم. وصفة الرحمة. وكلها مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين.
ثم يعرض قضية البعث، وشكهم فيه بعد تفرق ذراتهم في التراب: «وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ويرد على هذا الشك بصيغة الجزم واليقين.
وهذه هي القضية الثالثة: قضية البعث والمصير.
ومن ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة: «إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» يعلنون يقينهم بالآخرة ويقينهم بالحق الذي جاءتهم به الدعوة. ويقولون الكلمة التي لو قالوها في الدنيا لفتحت لهم أبواب الجنة ولكنها في موقفهم ذاك لا تجدي شيئا ولا تفيد. لعل هذا المشهد أن يوقظهم- قبل فوات الأوان- لقول الكلمة التي سيقولونها في الموقف العصيب. فيقولوها الآن في وقتها المطلوب.
وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب يعرض مشهد المؤمنين في هذه الأرض: إذا ذكروا بآيات ربهم.(5/2803)
«خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى- عليه السّلام- ووحدة رسالته ورسالة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين.. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم: «مَتى هذَا الْفَتْحُ؟» وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
«الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ..
«ألف. لام. ميم» .. هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرا مستكنا، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفا أن هذا القرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور.. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام! ألف. لام. ميم «تَنْزِيلُ الْكِتابِ- لا رَيْبَ فِيهِ- مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين.. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه،(5/2804)
أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب، وصفا الحس، وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحا كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابا مباشرا. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء «1» مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
«أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟» ..
ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلا: «أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟» .. هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال فتاريخ محمد- صلّى الله عليه وسلّم- فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلا، ولا تدع مجالا للريب والتشكك:
«بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» ..
الحق.. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.
الحق.. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.
الحق.. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.
الحق.. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت.
لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.
الحق.. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب.
الحق.. الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.
«بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .. فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك. وهو رب العالمين كما قال في
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» ص 2548- 2550 جزء 19 من الظلال.(5/2805)
الآية السابقة إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء. وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين. ردا على الاتهام الأثيم. وتقريرا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ.
«لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ..
والعرب الذين أرسل إليهم محمد- صلّى الله عليه وسلّم- لم يرسل إليهم أحد قبله ولا يعرف التاريخ رسولا بين إسماعيل- عليه السّلام- جد العرب الأول وبين محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به. «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.
هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى. فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم: «اللَّهُ» ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
ذلك هو الله، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها. هذه هي في صفحة الكون المنظور. وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود. وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين.
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ..
والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير.. هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف، الذي يقف الإنسان أمامه مبهورا مدهوشا متحيرا في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم.. هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة، الجمال الأخاذ. الجمال الحقيقي الكامل، الذي لا يرى فيه البصر، ولا الحس، ولا القلب، موضعا للنقص ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته. المتجددة العجيبة. ثم هي هذه الخلائق المنوعة، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف، الخاضعة كلها لناموس واحد، المتناسقة كلها في نشاط واحد، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام.
والله.. هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما.. فهو الحقيق- سبحانه- بهذا الوصف العظيم..
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ..
وليست هي قطعا من أيام هذه الأرض التي نعرفها. فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشىء من دورة هذه(5/2806)
الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة! أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها.
فهي من أيام الله التي يقول عنها: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ..
تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه.
أو ستة مراحل في النشأة والتكوين. أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله.. وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء. فلنأخذها كما هي غيبا من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد. إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق، وفق حكمة الله وعلمه.
وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ..
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله. أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه، ولا بد من الوقوف عند لفظه. وليس كذلك الاستواء. فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء. ولفظ.. ثم، لا يمكن قطعا أن يكون للترتيب الزمني، لأن الله سبحانه- لا تتغير عليه الأحوال. ولا يكون في حال أو وضع- سبحانه- ثم يكون في حال أو وضع تال. إنما هو الترتيب المعنوي. فالاستعلاء درجة فوق الخلق، يعبر عنها هذا التعبير.
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم:
«ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» ..
وأين؟ ومن؟ وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما؟ وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما؟ فأين هو الولي من دونه؟ وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه؟
«أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟» ..
وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله، والاتجاه إليه وحده دون سواه.
ومع الخلق والاستعلاء.. التدبير والتقدير.. في الدنيا والآخرة.. فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل:
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ..
والتعبير يرسم مجال التدبير منظورا واسعا شاملا: «مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها. وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض.
ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح، ومتابعة التدبير شاملا لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها! ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه. يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال، والأشياء والأحياء «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .. وليس شيء من هذا كله متروكا سدى ولا مخلوقا عبثا، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم.. يرتفع. فكل شيء(5/2807)
وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء.
«ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ..
ذلك.. الذي خلق السماوات والأرض. والذي استوى على العرش. والذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض.. «ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» .. المطلع على ما يغيب وما يحضر. وهو الخالق المسيطر المدبر.
وهو «الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. القوي القادر على ما يريد. الرحيم في إرادته وتدبيره للمخاليق.
«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» ..
.. واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها.
وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد.
سبحانه! هذه صنعته في كل شيء. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان فلا تجاوز ولا قصور، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص، ولا إفراط ولا تفريط، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص.
ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر.. كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام.
ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان.. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.
كل شيء، وكل خلق، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان.. ثم هذا الإنسان.. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام.. كل شيء. كل شيء. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال، ومن إيقاعات التناسق والكمال، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق وتسكبها في القلب البشري وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة.
ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة، ومن ملالة الألفة.
وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله، ويتطلع إلى إيحاءاته. وإلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه(5/2808)
يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله.
إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود.
وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء، يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو، وفي كل خلق.. انظر.. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور! إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين يلفتنا القرآن إليها لنتملاها، ونستمتع بها وهو يقول: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» .. فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير.
«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» .. «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» ..
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين. فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة، وكان في المرحلة الأولى. ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح. وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة «المؤمنون» ..
«خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» .. فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين.
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض وأنها نشأت من الطين. وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله. وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد. لا ما هو. ولا كيف كان. ومن الخلية الحية نشأ الإنسان. ولا يذكر القرآن كيف تم هذا، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار.
فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين. وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح.
غير أنه يحسن- بهذه المناسبة- تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة: بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان.. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة- التي لم يكن دارون قد عرفها- تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون.
والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع- حسب نظريات الوراثة- هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام «1» !
__________
(1) يراجع كتاب العلم يدعو إلى الإيمان. وص 2573 جزء 19 من الظلال.(5/2809)
ثم نعود إلى ظلال القرآن! «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ..
من ماء النطفة الذي هو المرحلة الأولى في تطور الجنين: من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كمال التكوين الجنيني، في هذه السلالة التي تبدأ بالماء المهين. وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التي تمر بها تلك النقطة الضائعة من ذلك الماء المهين. حتى تصل إلى الإنسان المعقد البديع التكوين! وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير.
وذلك ما يعبر عنه القرآن في آية واحدة تصور هذه الرحلة المديدة:
«ثُمَّ سَوَّاهُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» ..
يا الله. ما أضخم الرحلة! وما أبعد الشقة! وما أعظم المعجزة التي يمر عليها الناس غافلين! أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية، لولا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة. والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذجة إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب؟
هذا الانقسام في تلك الخلية الواحدة والتكاثر. ثم التنويع في أصناف الخلايا المتعددة ذات الطبيعة المختلفة، والوظيفة المختلفة التي تتكاثر هي بدورها لتقوم كل مجموعة منها بتكوين عضو خاص ذي وظيفة خاصة.
وهذا العضو الذي تكونه خلايا معينة من نوع خاص، يحتوي بدوره على أجزاء ذات وظائف خاصة وطبيعة خاصة، تكونها خلايا أكثر تخصصا في داخل العضو الواحد.. هذا الانقسام والتكاثر مع هذا التنويع كيف يتم في الخلية الأولى وهي خلية واحدة؟ وأين كانت تكمن تلك الخصائص كلها التي تظهر فيما بعد في كل مجموعة من الخلايا المتخصصة الناشئة من تلك الخلية الأولى؟ ثم أين كانت تكمن الخصائص المميزة لجنين الإنسان من سائر الأجنة؟ ثم المميزة لكل جنين إنساني من سائر الأجنة الإنسانية؟ ثم الحافظة لكل ما يظهر بعد ذلك في الجنين من استعدادات خاصة، ووظائف معينة، وسمات وشيات طوال حياته؟! ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لولا أنها وقعت فعلا وتكرر وقوعها؟
إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان.. إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة، والناس عنها غافلون.. ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنسانا ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية:
«وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» .. وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير.
ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء، والتطور والتحول، والتجمع والتخصص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنسانا.. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان، وأطوار هذه النشأة العجيبة، الخارقة لكل مألوف، وإن كانت(5/2810)
تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة:
«وَقالُوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» ..
إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقا جديدا، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.
لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفيا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:
«قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» ..
هكذا في صورة الخبر اليقين.. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجها لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ- وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ- فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، إِنَّا نَسِيناكُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلا وخزيا.. «عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا.. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:
«وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقا واحدا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال ويختار الهداية أو يحيد عنها ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.(5/2811)
وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رؤوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:
«فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» ..
يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر.. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا «إِنَّا نَسِيناكُمْ» .. والله لا ينسى أحدا. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.
«وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.
يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر، في ظل آخر، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب. إنه مشهد المؤمنين. مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله. وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال:
«إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء، في غير ما استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير.
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم «خَرُّوا سُجَّداً» تأثرا بما ذكروا به، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب «وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» . مع حركة الجسد بالسجود. «وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» .. فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال.
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:
«تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً» ..
إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ»
.. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله(5/2812)
والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه.
والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة، حتى لكأنها مجسمة ملموسة: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً» .. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصلاة الخاشعة، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة.. «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ..
هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيقة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس:
«فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
تعبير عجيب يشي بحفاوة الله- سبحانه- بالقوم وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون. هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله.
يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم- كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم- حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لولا أنه فضل الله الكريم المنان؟! وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل ومشهد المؤمنين الناعم الكريم، يعقب بتلخيص مبدأ الجزاء العادل، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة والذي يعلق الجزاء بالعمل، على أساس العدل الدقيق:
«أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» ..
وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.
«أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى» التي تؤويهم وتضمهم «نُزُلًا» ينزلون فيه ويثوون، جزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
«وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ» .. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! «كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها» وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. «وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» . فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.
ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة:(5/2813)
«وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ» ..
لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرض «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذي رأيناه في مشهدهم الأليم. فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟» وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» .. ويا هو له من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب! وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين، وعواقب المؤمنين والفاسقين، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون. ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته.
جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى- عليه السّلام- الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل كما جعل القرآن كتاب محمد- صلّى الله عليه وسلّم- هدى للمؤمنين. وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة. وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين، وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ- فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
وتفسير هذه العبارة المعترضة: «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» على معنى تثبيت الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- على الحق الذي جاء به وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان.. هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لموسى عليه السّلام في ليلة الإسراء والمعراج. فإن اللقاء على الحق الثابت، والعقيدة الواحدة، هو الذي يستحق الذكر، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي- صلّى الله عليه وسلّم- من التكذيب والإعراض، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء. وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» .. للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل، وتوقن كما أيقنوا، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل. ولتقرير طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.
أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين:
«أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ. أَفَلا يَسْمَعُونَ» ؟.(5/2814)
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي. وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها، وضعفها وقوتها. والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين، واطراد تلك السنن، ويتخذ من مصارع القرون، وآثار الماضين، الدراسة الخربة، أو الباقية بعد سكانها موحشة. يتخذ منها معارض للعبرة، وإيقاظ القلوب، وإثارة الحساسية، والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين. كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس. ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم، فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان وينسى النظام الثابت في حياة البشر، المطرد على توالي القرون.
وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير! وإن للآثار الخاوية لحديثا رهيبا عميقا، للقلب الشاعر، والحس المبصر، وإن له لرجفة في الأوصال، ورعشة في الضمائر، وهزة في القلوب. ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط. والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم وأن تكون مساكن القوم أمامهم، يمرون عليها ويمشون فيها ثم لا يستجيش هذا قلوبهم، ولا يهز مشاعرهم، ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله، وتوقي مثل هذا المصير ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ. أَفَلا يَسْمَعُونَ؟» ..
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم، أو يسمعون هذا التحذير، قبل أن يصدق بهم النذير، ويأخذهم النكير! وبعد لمسة البلى والدثور، وما توقعه في الحس من رهبة وروعة، وما تثيره في القلب من رجفة ورعشة.
يلمس قلوبهم بريشة الحياة النابضة في الموات ويجول بهم جولة في الأرض الميتة تدب فيها الحياة، كما جال بهم من قبل في الأرض التي كانت حية فأدركها البلى والممات:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ؟» .
فهذه الأرض الميتة البور، يرون أن يد الله تسوق إليها الماء المحيي فإذا هي خضراء ممرعة بالزرع النابض بالحياة. الزرع الذي تأكل منه أنعامهم وتأكل منه أنفسهم. وإن مشهد الأرض الجدبة والحيا يصيبها فإذا هي خضراء.. إن هذا المشهد ليفتح نوافذ القلب المغلقة لاستجلاء هذه الحياة النامية واستقبالها والشعور بحلاوة الحياة ونداوتها والإحساس بواهب هذه الحياة الجميلة الناضرة إحساس حب وقربى وانعطاف مع الشعور بالقدرة المبدعة واليد الصناع، التي تشيع الحياة والجمال في صفحات الوجود.
وهكذا يطوّف القرآن بالقلب البشري في مجالي الحياة والنماء، بعد ما طوّف به في مجالي البلى والدثور، لاستجاشة مشاعره هنا وهناك، وإيقاظه من بلادة الألفة، وهمود العادة ولرفع الحواجز بينه وبين مشاهد الوجود، وأسرار الحياة، وعبر الأحداث، وشواهد التاريخ.
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل. فيحكي استعجالهم بالعذاب الذي يوعدون وشكهم في صدق الإنذار والتحذير. ويرد عليهم مخوفا محذرا من تحقيق ما يستعجلون به، يوم لا ينفعهم إيمان، ولا يمهلون لإصلاح ما فات. ويختم السورة بتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم-(5/2815)
إلى الإعراض عنهم، وتركهم لمصيرهم المحتوم:
«وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» ..
والفتح هو الفصل فيما بين الفريقين من خلاف وتحقق الوعيد الذي كان يخدعهم أنه لا يجيئهم من قريب وهم غافلون عن حكمة الله في تأخيره إلى أجله الذي قدره، والذي لا يقدمه استعجالهم ولا يؤخره.
وما هم بقادرين على دفعه ولا الإفلات منه.
«قُلْ: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ..
سواء كان هذا اليوم في الدنيا. إذ يأخذهم الله وهم كافرون، فلا يمهلهم بعده، ولا ينفعهم إيمانهم فيه.
أو كان هذا اليوم في الآخرة إذ يطلبون المهلة فلا يمهلون:
وهذا الرد يخلخل المفاصل، ويزعزع القلوب.. ثم يعقبه الإيقاع الأخير في السورة:
«فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» ..
وفي طياته تهديد خفي بعاقبة الانتظار، بعد أن ينفض الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يده من أمرهم، ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
وتختم السورة على هذا الإيقاع العميق، بعد تلك الجولات والإيحاءات والمشاهد والمؤثرات، وخطاب القلب البشري بشتى الإيقاعات التي تأخذ من كل جانب، وتأخذ عليه كل طريق..(5/2816)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
(33) سورة الأحزاب مدنيّة وآياتها ثلاث وسبعون
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى، إلى ما قبل صلح الحديبية، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.(5/2817)
والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير. أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره. ذلك كافتتاح السورة: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... » .. وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً، لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» .. والتعقيب على موقف المرجفين «يَوْمِ الْأَحْزابِ» التي سميت السورة باسمها. «قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية:
«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها، وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» ..
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة. كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وللنظام الإسلامي.
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة وبيان أصولها من العقيدة والتشريع كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد.
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب، وغزوة بني قريظة، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف. كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم.
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة. سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية.. ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة.
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة، وتماسك سياقها، وتساوق موضوعاتها المنوعة. وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة.
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرين(5/2818)
والمنافقين، واتباع ما يوحي إليه ربه، والتوكل عليه وحده. وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته. ونظمه وأوضاعه، وآدابه وأخلاقه.. أصل استشعار القلب لجلال الله، والاستسلام المطلق لإرادته واتباع المنهج الذي اختاره، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته.
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية. مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» .. يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد، وإلا نافق، واضطربت خطاه. وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات.
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار- وهو أن يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه فتحرم عليه حرمة أمه: «وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ» . ويقرر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ولا ينشىء حقيقة وراءه، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام «1» .. ويثني بإبطال عادة التبني وآثاره: «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى (التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد) . ويستبقى بعد ذلك أو ينشىء الولاية العامة لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على المؤمنين جميعا ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم كما ينشىء صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وجميع المؤمنين: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .. ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ» . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية.
ويعقب على هذا التنظيم الجديد، الذي يستمد من منهج الإسلام وحكم الله بالإشارة إلى أن ذلك مسطور في كتاب الله القديم، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيين، وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة. على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات، والمبادئ، والتوجيهات، لتقر في الضمائر والأخلاد.
وهذا هو إجمال الشوط الأول في السورة.
ويتناول الشوط الثاني بيان نعمة الله على المؤمنين، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين. ثم يأخذ في تصوير وقعتي الأحزاب وبني قريظة تصويرا حيا، في مشاهد متعاقبة، ترسم المشاعر الباطنة، والحركات الظاهرة، والحوار بين الجماعات والأفراد. وفي خلال رسم المعركة وتطوراتها تجيء التوجيهات في موضعها المناسب وتجيء التعقيبات على الأحداث مقررة للمنهج القرآني في إنشاء القيم الثابتة التي يقررها للحياة.
من خلال ما وقع فعلا، وما جاش في الأخلاد والضمائر.
وطريقة القرآن الدائمة في مثل هذه الوقائع التي يتخذ منها وسيلة لبناء النفوس، وتقرير القيم، ووضع
__________
(1) وسنبين ما يتبع في هذه الحالة عند الكلام التفصيلي عن نص الآية.(5/2819)
الموازين وإنشاء التصورات التي يريد لها أن تسود.. طريقة القرآن في مثل هذه الوقائع أن يرسم الحركة التي وقعت، ويرسم معها المشاعر الظاهرة والباطنة، ويسلط عليها الأضواء التي تكشف زواياها وخباياها.
ثم يقول للمؤمنين حكمه على ما وقع، ونقده لما فيه من خطأ وانحراف، وثناءه على ما فيه من صواب واستقامة، وتوجيهه لتدارك الخطأ والانحراف، وتنمية الصواب والاستقامة. وربط هذا كله بقدر الله وإرادته وعمله ونهجه المستقيم، وبفطرة النفس، ونواميس الوجود.
وهكذا نجد وصف المعركة يبدأ بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .. ويتوسطها قوله. «قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. وبقوله: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» .. ويختمها بقوله: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ..
وهذا إلى جانب عرض تصورات المؤمنين الصادقين للموقف، وتصورات المنافقين والذين في قلوبهم مرض عرضا يكشف عن القيم الصحيحة والزائفة من خلال تلك التصورات: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» .. «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» .. ثم تجيء العاقبة بالقول الفصل والخبر اليقين: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» ..
بعد ذلك يجيء قرار تخيير أزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- اللواتي طالبنه بالتوسعة في النفقة عليهن بعد ما وسع الله عليه وعلى المسلمين من فيء بني قريظة العظيم وما قبله من الغنائم. تخييرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ورضين هذا المقام الكريم عند الله ورسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-، وآثرنه على متاع الحياة. ومن ثم جاءهن البيان عن جزائهن المضاعف في الأجر إن اتقين وفي العذاب إن ارتكبن فاحشة مبينة. وعلل هذه المضاعفة بمقامهن الكريم وصلتهن برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ونزول القرآن في بيوتهن وتلاوته، والحكمة التي يسمعنها من النبي- عليه الصلاة والسّلام- واستطرد في بيان جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات.
وكان هذا هو الشوط الثالث.
فأما الشوط الرابع فتناول إشارة غير صريحة إلى موضوع تزويج زينب بنت جحش القرشية الهاشمية بنت عمة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من زيد بن حارثة مولاه. وما نزل في شأنه أولا من رد أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله، ليس لهم منه شيء، وليس لهم في أنفسهم خيرة. إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» ..
ثم يعقب حادث الزواج حادث الطلاق وما وراءه من إبطال آثار التبني، الذي سبق الكلام عليه في أول(5/2820)
السورة. إبطاله بسابقة عملية يختار لها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بشخصة، لشدة عمق هذه العادة في البيئة العربية، وصعوبة الخروج عليها. فيقع الابتلاء على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليحملها فيما يحمل من أعباء الدعوة وتقرير أصولها في واقع المجتمع، بعد تقريرها في أعماق الضمير: «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ..
وبهذه المناسبة يوضح حقيقة العلاقة بين رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والمؤمنين كافة: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ..
ويختم هذا الشوط بتوجيهات للرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ومن معه من المؤمنين.. «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
ويبدأ الشوط الخامس ببيان حكم المطلقات قبل الدخول. ثم يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- فيبين من يحل له من النساء المؤمنات ومن يحرمن عليه. ويستطرد إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي وزوجاته، في حياته وبعد وفاته. وتقرير احتجابهن إلا على آبائهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن. وإلى بيان جزاء الذين يؤذون رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في أزواجه وبيوته وشعوره ويلعنهم في الدنيا والآخرة. مما يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا.
ويعقب على هذا بأمر أزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين كافة أن يدنين عليهن من جلابيبهن «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ» .. وبتهديد المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة بإغراء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بهم وإخراجهم من المدينة كما خرج من قبل بنو قينقاع وبنو النضير، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة أخيرا. وكل هذا يشير إلى شدة إيذاء هذه المجموعة للمجتمع الإسلامي في المدينة بوسائل شريرة خبيثة.
والشوط السادس والأخير في السورة يتضمن سؤال الناس عن الساعة، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله، والتلويح بأنها قد تكون قريبا. ويتبع هذا مشهد من مشاهد القيامة: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» .. ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم الذين أطاعوهم فأضلوهم:
«رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» ..
ثم تختم السورة بإيقاع هائل عميق الدلالة والتأثير: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
وهو إيقاع يكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشرية، وعلى عاتق الجماعة المسلمة بصفة خاصة وهي التي تنهض وحدها بعبء هذه الأمانة الكبرى. أمانة العقيدة والاستقامة عليها. والدعوة والصبر على تكاليفها، والشريعة والقيام على تنفيذها في أنفسهم وفي الأرض من حولهم. مما يتمشى مع موضوع السورة، وجوها وطبيعة المنهج الإلهي الذي تتولى السورة تنظيم المجتمع الإسلامي على أساسه.(5/2821)
والآن نتناول السورة بالتفصيل بعد هذا الإجمال السريع.
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
هذا هو ابتداء السورة التي تتولى تنظيم جوانب من الحياة الاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الإسلامي الوليد.
وهو ابتداء يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي والقواعد التي يقوم عليها في عالم الواقع وعالم الضمير.
إن الإسلام ليس مجموعة إرشادات ومواعظ، ولا مجموعة آداب وأخلاق، ولا مجموعة شرائع وقوانين، ولا مجموعة أوضاع وتقاليد.. إنه يشتمل على هذا كله. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام.. إنما الإسلام الاستسلام. الاستسلام لمشيئة الله وقدره والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه ولاتباع المنهج الذي يقرره دون التلفت إلى أي توجيه آخر وإلى أي اتجاه. ودون اعتماد كذلك على سواه. وهو الشعور ابتداء بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للناموس الإلهي الواحد الذي يصرّفهم ويصرّف الأرض، كما يصرّف الكواكب والأفلاك ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما يقصر عنه إدراك البشر. وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله والانتهاء عما ينهاهم عنه والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله.. هذه هي القاعدة. ثم تقوم عليها الشرائع والقوانين، والتقاليد والأوضاع، والآداب والأخلاق. بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في الضمير والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة.. إن الإسلام عقيدة. تنبثق منها شريعة. يقوم على هذه الشريعة نظام. وهذه الثلاثة مجتمعة مترابطة متفاعلة هي الإسلام..
ومن ثم كان التوجيه الأول في السورة التي تتولى تنظيم الحياة الاجتماعية للمسلمين بتشريعات وأوضاع جديدة، هو التوجيه إلى تقوى الله. وكان القول موجها إلى النبي- صلّى الله عليه وسلّم- القائم على تلك التشريعات والتنظيمات.. «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ» .. فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق الضمير على التشريع والتنفيذ. وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.
وكان التوجيه الثاني هو النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع توجيههم أو اقتراحهم، والاستماع إلى رأيهم أو تحريضهم: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» .. وتقديم هذا النهي على الأمر باتباع وحي الله يوحي بأن ضغط الكافرين والمنافقين في المدينة وما حولها كان في ذلك الوقت عنيفا، فاقتضى هذا النهي عن اتباع آرائهم وتوجيهاتهم، والخضوع لدفعهم وضغطهم. ثم يبقى ذلك النهي قائما في كل بيئة وكل زمان، يحذر المؤمنين أن يتبعوا آراء الكافرين والمنافقين إطلاقا، وفي أمر العقيدة وأمر التشريع وأمر التنظيم الاجتماعي بصفة خاصة. ليبقى منهجهم خالصا لله، غير مشوب بتوجيه من سواه.
ولا ينخدع أحد بما يكون عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة- كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف- فإن الله هو العليم الحكيم وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» .. وما عند البشر إلا قشور، وإلا قليل! والتوجيه الثالث المباشر: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» . فهذه هي الجهة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الحقيق بالاتباع. والنص يتضمن لمسات موحية تكمن في صياغة التعبير:(5/2822)
«وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» . فالوحي «إِلَيْكَ» بهذا التخصيص. والمصدر «مِنْ رَبِّكَ» بهذه الإضافة. فالاتباع هنا متعين بحكم هذه الموحيات الحساسة، فوق ما هو متعين بالأمر الصادر من صاحب الأمر المطاع.. والتعقيب:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» .. فهو الذي يوحي عن خبرة بكم وبما تعملون وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون، ودوافعكم إلى العمل من نوازع الضمير.
والتوجيه الأخير: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» .. فلا يهمنك أكانوا معك أم كانوا عليك ولا تحفل كيدهم ومكرهم وألق بأمرك كله إلى الله، يصرفه بعلمه وحكمته وخبرته.. ورد الأمر إلى الله في النهاية والتوكل عليه وحده، هو القاعدة الثابتة المطمئنة التي يفىء إليها القلب فيعرف عندها حدوده، وينتهي إليها ويدع ما وراءها لصاحب الأمر والتدبير، في ثقة وفي طمأنينة وفي يقين.
وهذه العناصر الثلاثة: تقوى الله. واتباع وحيه. والتوكل عليه- مع مخالفة الكافرين والمنافقين- هي العناصر التي تزود الداعية بالرصيد وتقيم الدعوة على منهجها الواضح الخالص. من الله، وإلى الله، وعلى الله. «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» .
ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية:
«ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» ..
إنه قلب واحد، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه. ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه. ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوّم به الأحداث والأشياء. وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع.. فهذا الخليط لا يكوّن إنسانا له قلب. إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام! وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا. لا يملك أن يقول كلمة، أو يتحرك حركة، أو ينوي نية، أو يتصور تصورا، غير محكوم في هذا كله بعقيدته- إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه- لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، يخضع لناموس واحد، ويستمد من تصور واحد، ويزن بميزان واحد.
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله: فعلت كذا بصفتي الشخصية. وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات. أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام! إنه شخص واحد له قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة. وله تصور واحد للحياة، وميزان واحد للقيم.
وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد يعيش فردا، ويعيش في الأسرة، ويعيش في الجماعة، ويعيش في الدولة. ويعيش في العالم. ويعيش سرا وعلانية. ويعيش عاملا وصاحب عمل. ويعيش حاكما ومحكوما. ويعيش في السراء والضراء.. فلا تتبدل موازينه، ولا تتبدل قيمه، ولا تتبدل تصوراته.. «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» ..(5/2823)
ومن ثم فهو منهج واحد، وطريق واحد، ووحي واحد، واتجاه واحد. وهو استسلام لله وحده. فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج نهجين، ولا يتجه اتجاهين. وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام! وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني. ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم:
«وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .
كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. أي حرام محرمة كما تحرم عليّ أمي.
ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ثم تبقى معلقة، لا هي مطلقة فتتزوج غيره، ولا هي زوجة فتحل له.
وكان في هذا من القسوة ما فيه وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها، وسومها كل مشقة وعنت.
فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الاجتماعية في محيط الأسرة ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال.. جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر. وكان مما شرعه هذه القاعدة: «وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ» .. فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية.
وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من «سورة المجادلة» عند ما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة، فجاءت إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تشكو تقول يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني. حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني. فقال- صلّى الله عليه وسلّم- «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . فأعادت ذلك مرارا. فأنزل الله: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا- ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء- لا مؤبدا ولا طلاقا- كفارته عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا. وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها. ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة:
«وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ» .. وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي.
هذه مسألة الظهار. فأما مسألة التبني، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخل(5/2824)
في بناء الأسرة، وفي بناء المجتمع كله.
ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي، والاعتزاز بالنسب، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور.
كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه. يدعوه ابنه، ويلحقه بنسبه، فيتوارث وإياه توارث النسب.
وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون. ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه، ويتبناه، ويلحقه بنسبه، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه، ويدخل في أسرته. وكان هذا يقع بخاصة في السبي، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه، وأطلق عليه اسمه، وعرف به، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.
ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي. وهو من قبيلة عربية. سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة- رضي الله عنها- فلما تزوجها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهبته له.
ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فاختار رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فأعتقه، وتبناه، وكانوا يقولون عنه: زيد بن محمد. وكان أول من آمن به من الموالي.
فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها، ويحكم روابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه.. أبطل عادة التبني هذه ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية.. علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية. وقال: «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» .. «ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» .. والكلام لا يغير واقعا، ولا ينشىء علاقة غير علاقة الدم، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي! «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» ..
يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل. ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم، لا على كلمة تقال بالفم. «وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» المستقيم، المتصل بناموس الفطرة الأصيل، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر، يصنعونه بأفواههم. بكلمات لا مدلول لها من الواقع. فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل.
«ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» ..
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه. عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية. وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه، ويرثه ويورثه، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده. وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يعطيه مزاياها. ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها! وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة. ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع. وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق.. وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل، ضعيف، مزور الأسس،(5/2825)
لا يمكن أن يعيش! «1» ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان، فقد يسر الإسلام الأمر- وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها- فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه:
«فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» ..
وهي علاقة أدبية شعورية لا تترتب عليها التزامات محددة، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات- وهي التزامات النسب بالدم، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني- وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني.
وهذا النص: «فإن لم تعلموا آباءهم» .. يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي. وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية. هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة.
وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة.
وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح:
«وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ» ..
وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون:
«وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
ولقد شدد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي. وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم. حدثنا ابن علية. عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال:
قال أبو بكرة- رضي الله عنه- قال الله عز وجل: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» .. فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إخوانكم في الدين.. قال أبي (من كلام عيينة بن عبد الرحمن) : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه. وقد جاء في الحديث:
«من ادعى إلى غير أبيه- وهو يعلم- إلا كفر» .. وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف.
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني. ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم.. وذلك مع تقرير الولاية العامة
__________
(1) ولقد حاول النظام الشيوعي أن يتنكر لقاعدة الأسرة في بناء المجتمع، فتخبط وما يزال يتخبط. وعلى الرغم من قاعدة النظام المذهبية الفلسفية فإن الفطرة أخذت تكافح في روسيا وتعود شيئا فشيئا إلى السيطرة والبروز!(5/2826)
للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- وتقديمها على جميع ولايات النسب وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه- صلّى الله عليه وسلّم- وجميع المؤمنين:
«النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» ..
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم كل شيء، فارين إلى الله بدينهم، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى، وذخائر المال، وأسباب الحياة، وذكريات الطفولة والصبا، ومودات الصحبة والرفقة، ناجين بعقيدتهم وحدها، متخلين عن كل ما عداها. وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس، بما في ذلك الأهل والزوج والولد- المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة، واستيلائها على القلب، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة. وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» ..
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى. فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت، وظل آخرون فيها على الشرك. فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم. ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية.
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة.
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة، تغطي على كل العواطف والمشاعر، وكل الأوضاع والتقاليد، وكل الصلات والروابط. لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب، وتربط- في الوقت ذاته- الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة فتقوم بينها مقام الدم والنسب، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة. لا بنصوص التشريع، ولا بأوامر الدولة ولكن بدافع داخلي ومد شعوري.
يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية. وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع.
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة. إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار. وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس، وطيب خاطر، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة! وآخى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد. وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها.
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد- شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام- وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة. بل بما هو أكثر. وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها.(5/2827)
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها.
وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية.
وإن الإسلام- مع حفاوته بذلك المد الشعوري، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما، مستعدة للفيضان. لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي، وللنظام العادي، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة.
ومن ثم عاد القرآن الكريم- بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار، ووجود أسباب معقولة للارتزاق، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم.. عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة. ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية. فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب- كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» ..
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم، بل على قرابة النفس!: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .. وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بالنسبة لجميع المؤمنين: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» ..
وولاية النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول- عليه صلوات الله وسلامه- ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه- صلّى الله عليه وسلّم- أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» . وفي الصحيح أيضا أن عمر- رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال- صلّى الله عليه وسلّم-:
«لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك» . فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء حتى من نفسي. فقال- صلّى الله عليه وسلّم-: «الآن يا عمر» .
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوّع مشاعره، وراض نفسه، وخفض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه، فإن ملكه كمن في مشاعره، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ولكنه يصعب(5/2828)
عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها، أو عيبا لشيء من خصائصها، أو نقدا لسمة من سماتها، أو تنقصا لصفة من صفاتها. وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته.
وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ويكفي أن عمر- وهو من هو- قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي- صلّى الله عليه وسلّم- كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي.
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح.. «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا. وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا.
وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال، ولا إلى فورة شعورية استثنائية. مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء. فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته أو أن يهبه في حياته.. «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» ..
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي:
«كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» .. فتقر القلوب وتطمئن وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم.
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية وتسير في يسر وهوادة ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد.
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة.
وبمناسبة ما سطر في كتاب الله، وما سبقت به مشيئته، ليكون هو الناموس الباقي، والمنهج المطرد، يشير إلى ميثاق الله مع النبيين عامة، والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأولي العزم من الرسل خاصة، في حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها وذلك حتى يكون الناس مسؤولين عن هداهم وضلالهم وإيمانهم وكفرهم، بعد انقطاع الحجة بتبليغ الرسل عليهم صلوات الله وسلامه:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» ..
إنه ميثاق واحد مطرد من لدن نوح- عليه السّلام- إلى خاتم النبيين محمد- صلّى الله عليه وسلّم- ميثاق واحد، ومنهج واحد، وأمانة واحدة يتسلمها كل منهم حتى يسلمها.
وقد عمم النص أولا: «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ» .. ثم خصص صاحب القرآن الكريم وصاحب الدعوة العامة إلى العالمين: «وَمِنْكَ» .. ثم عاد إلى أولي العزم من الرسل، وهم أصحاب أكبر الرسالات-(5/2829)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قبل الرسالة الأخيرة- «وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» ..
وبعد بيان أصحاب الميثاق عاد إلى وصف الميثاق نفسه: «وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» .. ووصف الميثاق بأنه غليظ منظور فيه إلى الأصل اللغوي للفظ ميثاق- وهو الحبل المفتول- الذي استعير للعهد والرابطة.
وفيه من جانب آخر تجسيم للمعنوي يزيد إيحاءه للمشاعر.. وإنه لميثاق غليظ متين ذلك الميثاق بين الله والمختارين من عباده، ليتلقوا وحيه، ويبلغوا عنه، ويقوموا على منهجه في أمانة واستقامة.
«لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» .. والصادقون هم المؤمنون. فهم الذين قالوا كلمة الصدق، واعتنقوا عقيدة الصدق. ومن سواهم كاذب، لأنه يعتقد بالباطل ويقول كلمة الباطل. ومن ثم كان لهذا الوصف دلالته وإيحاؤه. وسؤالهم عن صدقهم يوم القيامة كما يسأل المعلم التلميذ النجيب الناجح عن إجابته التي استحق بها النجاح والتفوق، أمام المدعوين لحفل النتائج! سؤال للتكريم، وللإعلان والإعلام على رؤوس الأشهاد، وبيان الاستحقاق، والثناء على المستحقين للتكريم في يوم الحشر العظيم! فأما غير الصادقين. الذين دانوا بعقيدة الباطل، وقالوا كلمة الكذب في أكبر قضية يقال فيها الصدق أو يقال فيها الكذب. قضية العقيدة. فأما هؤلاء فلهم جزاء آخر حاضر مهيأ، يقف لهم في الانتظار: «وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» ..
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 27]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(5/2830)
في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوما بعد يوم وحدثا بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو، وتتضح سماتها. وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها الخاصة، وقيمها الخاصة. وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحيانا درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطا مجهول القيم.
وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه، يصور الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه، فتنكشف المواقف والمشاعر، والنوايا والضمائر. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور، عارية من كل رداء وستار ويلمس فيها مواضع التأثر والاستجابة ويربيها يوما بعد يوم، وحادثا بعد(5/2831)
حادث ويرتب تأثراتها واستجاباتها وفق منهجه الذي يريد.
ولم يترك المسلمون لهذا القرآن، يتنزل بالأوامر والنواهي، وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات، والفتن والامتحانات فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجا صحيحا، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فيتنزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة! ولقد كانت فترة عجيبة حقا تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فترة اتصال السماء بالأرض اتصالا مباشرا ظاهرا، مبلورا في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه وأن كل كلمة منه وكل حركة، بل كل خاطر وكل نية، قد يصبح مكشوفا للناس، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غدا أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه. وحين كان الله سبحانه بذاته العلية، يقول: أنت يا فلان بذاتك قلت كذا، وعملت كذا وأضمرت كذا وأعلنت كذا. وكن كذا، ولا تكن كذا.. ويا له من أمر هائل عجيب! يا له من أمر هائل عجيب أن يوجه الله خطابه المعين إلى شخص معين..
هو وكل من على هذه الأرض، وكل ما في هذه الأرض، وكل هذه الأرض. ذرة صغيرة في ملك الله الكبير! لقد كانت فترة عجيبة حقا، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصور حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع، الأضخم من كل خيال! ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيهم، وتنضج شخصيتهم المسلمة. بل أخذهم بالتجارب الواقعية، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي وكل ذلك لحكمة يعلمها، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلا، ندركها ونتدبرها ونتلقى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير.
وهذا المقطع من سورة الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وفي تاريخ الجماعة المسلمة ويصف موقفا من مواقف الامتحان العسيرة، وهو غزوة الأحزاب، في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة، الامتحان لهذه الجماعة الناشئة، ولكل قيمها وتصوراتها. ومن تدبر هذا النص القرآني، وطريقة عرضه للحادث، وأسلوبه في الوصف والتعقيب ووقوفه أمام بعض المشاهد والحوادث، والحركات والخوالج، وإبرازه للقيم والسنن.. من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه الأمة بالأحداث والقرآن في آن.
ولكي ندرك طريقة القرآن الخاصة في العرض والتوجيه فإننا قبل البدء في شرح النص القرآني، نثبت رواية الحادث كما عرضتها كتب السيرة- مع الاختصار المناسب- ليظهر الفارق بين سرد الله سبحانه، وسرد البشر للوقائع والأحداث.(5/2832)
عن محمد بن إسحاق قال- بإسناده عن جماعة:
إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» إلى قوله: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» .
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان- من قيس عيلان- فدعوهم إلى حرب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف من بني مرة، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وما أجمعوا لهم من الأمر ضرب الخندق على المدينة فعمل فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وعمل معه المسلمون فيه. فدأب فيه ودأبوا. وأبطأ عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ويستأذنه المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له.
فأنزل الله في أولئك المؤمنين.. «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. ثم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ولما فرغ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم،(5/2833)
وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام (أي الحصون) .
وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم.
وكان قد وادع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- عن قومه، وعاقده على ذلك وعاهده.. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (أي ما زال يروضه ويخاتله) حتى سمح له- على أن أعطاه عهدا وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب ابن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم.
وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو- وذلك عن ملأ من رجال قومه- فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج من المدينة.
فأقام رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة، قريبا من شهر. لم تكن بينه وبينهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف- وهما قائدا غطفان- فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه «1» ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.
فلما أراد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عبادة (سيد الخزرج) فذكر ذلك لهما. واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه؟
أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» . فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وأقام رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم «2» .
__________
(1) وكان اليهود قد وعدوهم ثمر خيبر سنة إن نصروهم (عن إمتاع الأسماع للمقريزي)
(2) قالت أم سلمة- رضي الله عنها- شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف: المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين. لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري، فالمدينة تحرس حتى الصباح، نسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفا. حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا.(5/2834)
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر (من غطفان) أتى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-:
«إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» .
(وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة بينهم وبين بني قريظة في تفصيل مطول تحدثت عنه روايات السيرة ونختصره نحن خوف الإطالة) ..
وخذل الله بينهم- وبعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد. فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم (يعني خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد.. إلخ) .
فلما انتهى إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعله القوم ليلا.
قال ابن إسحاق: فحدثني زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال:
قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله. أرأيتم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي. والله لقد رأيتنا مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بالخندق، وصلّى رسول الله- هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، يشرط له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني.
فقال: «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدث شيئا حتى تأتينا» قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، ولا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟
قال: فلان ابن فلان! ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخف (يعني الخيل والجمال) وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون.
ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء.. فارتحلوا فإني مرتحل.. ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث. فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو قائم يصلي في مرط (أي كساء) لبعض نسائه مرجل (من وشي اليمن) فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح عليّ طرف المرط ثم ركع وسجد وإني لفيه. فلما سلم أخبرته الخبر.. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
إن النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان الذوات، ليصور نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع، ليصور القيم الثابتة والسنن الباقية. هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات، ومن ثم تبقى قاعدة ومثلا لكل جيل ولكل قبيل. ويحفل بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويظهر فيها يد الله(5/2835)
القادرة وتدبيره اللطيف، ويقف عند كل مرحلة في المعركة للتوجيه والتعقيب والربط بالأصل الكبير.
ومع أنه كان يقص القصة على الذين عاشوها، وشهدوا أحداثها، فإنه كان يزيدهم بها خبرا، ويكشف لهم من جوانبها ما لم يدركوه وهم أصحابها وأبطالها! ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور.
ذلك إلى جمال التصوير، وقوته، وحرارته، مع التهكم القاصم، والتصوير الساخر للجبن والخوف والنفاق والتواء الطباع! ومع الجلال الرائع والتصوير الموحي للإيمان والشجاعة والصبر والثقة في نفوس المؤمنين.
إن النص القرآني معد للعمل- لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك وفي كل تاريخ. معد للعمل في النفس البشرية إطلاقا كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوعة. بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى.
ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تنفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات. وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حية، موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية، في عالم الواقع وعالم الضمير.
إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة.. وكفى.. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب! وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبط قط، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق.
وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.
يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي همّ أن يستأصلهم، لولا عون الله وتدبيره اللطيف. ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث، وبدءه ونهايته، قبل تفصيله وعرض مواقفه. لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها، ويطلب إليهم أن يتذكروها وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه، والتوكل عليه وحده، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه، من عدوان الكافرين والمنافقين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» ..
وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها، والعناصر الحاسمة فيها.. مجيء جنود الأعداء.
وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون. ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم، وبصره بعملهم.(5/2836)
ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير:
«إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ- وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» ..
إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب. من أعلاها ومن أسفلها. فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج. ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا.
والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه.
وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته، وكل حركاته، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير.
ننظر فنرى الموقف من خارجه: «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» ..
ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» .. وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب.
«وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» .. ولا يفصل هذه الظنون. ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كل مذهب، واختلاف التصورات في شتى القلوب.
ثم تزيد سمات الموقف بروزا، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا: «هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» .. والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا.
قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان ابن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما. ويغدو ضرار بن الخطاب يوما. حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.
ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع. قال:
ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هويّ من الليل، وما يقدر رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم. وما قدر رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء فجعل أصحابه يقولون:
يا رسول الله ما صلينا! فيقول. ولا أنا والله ما صليت! حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة- وعليها خالد بن الوليد- فناوشهم ساعة، فزرق وحشى الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق، فقتله كما قتل حمزة- رضي الله عنه- بأحد. وقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يومئذ: «شغلنا(5/2837)
المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا «1» » ..
وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا- ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو. فكانت بينهم جراحة وقتل. ثم نادوا بشعار الإسلام! «حم. لا ينصرون» فكف بعضهم عن بعض. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد» ..
ولقد كان أشد الكرب على المسلمين، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم. فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق، وأن تميل عليهم يهود، وهم قلة بين هذه الجموع، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة.
ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف:
«وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» ..
فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيثة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون. فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك. وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين! ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء.
فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان! «وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» ..
فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا، لا موضع لها ولا محل، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم.. وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها، ثغرة الخوف على النساء والذراري. والخطر محدق والهول جامح، والظنون لا تثبت ولا تستقر! «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» ..
يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية.
وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة:
«وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ» ..
ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار:
«إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» ..
وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يقولون: «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع
__________
(1) في حديث جابر أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إنما شغل يومئذ عن صلاة العصر. والظاهر أن ذلك تكرر. فمرة شغل عن العصر فقال ذلك الدعاء. ومرة شغل عن تلك الصلوات كلها..(5/2838)
إلى دورنا، فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم- صلّى الله عليه وسلّم- فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال: يا رسول الله لا تأذن لهم. إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا.. فردهم..
فهكذا كان أولئك الذين يجبهم القرآن بأنهم: «إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» ..
ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيء:
«وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً» ..
ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» وطلبت إليهم الردة عن دينهم «لَآتَوْها» سراعا غير متلبثين، ولا مترددين «إِلَّا قَلِيلًا» من الوقت، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! فهي عقيدة واهنة لا تثبت وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة! هكذا يكشفهم القرآن ويقف نفوسهم عارية من كل ستار.. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا ثم لم يرعوا مع الله عهدا:
«وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» .
قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة: هم بنو حارثة، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها. ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم.
فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته، وثبتهم، وعصمهم من عواقب الفشل. وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد. فأما اليوم، وبعد الزمن الطويل، والتجربة الكافية، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة.
وعند هذا المقطع- وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع- يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار:
«قُلْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة.
والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب. وكل موعده في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله.
فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع الله، في السراء والضراء. ورجع(5/2839)
الأمر إليه، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل الله ما يشاء.
ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود. ويقولون لهم: «لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» .. ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة. وهي- على صدقها- تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس. صورة للجبن والانزواء، والفزع والهلع. في ساعة الشدة. والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء. والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد.. والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز:
«قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ: هَلُمَّ إِلَيْنا، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ. وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» ..
ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة. الذين يدعون إخوانهم إلى القعود «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» ولا يشهدون الجهاد إلا لماما. فهم مكشوفون لعلم الله، ومكرهم مكشوف.
ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج:
«أشحة عليكم» ففي نفوسهم كزازة على المسلمين. كزازة بالجهد وكزازة بالمال، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء.
«فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» ..
وهي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار! وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن:
«فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» ..
فخرجوا من الجحور، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، ونفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء، ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال، والشجاعة والاستبسال..
ثم هم: «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» ..
فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم مع كل ذلك الادعاء العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان! وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل. فهو موجود دائما. وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء. وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف. وهو شحيح بخيل على(5/2840)
الخير وأهل الخير، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان! «أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» ..
فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه.
«فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» .. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك.
«وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» ..
وليس هنالك عسير على الله، وكان أمر الله مفعولا..
فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية:
«يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا» ..
فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويخذّلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت، وأنه قد ذهب الخوف، وجاء الأمان! «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ» ..
يا للسخرية! ويا للتصوير الزري! ويا للصورة المضحكة! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام. ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير. ولا يعلمون- حتى- ما يجري عند أهلها. إنما هم يجهلونه، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب! مبالغة في البعد والانفصال، والنجاة من الأهوال! يتمنون هذه الأمنيات المضحكة، مع أنهم قاعدون، بعيدون عن المعركة، لا يتعرضون لها مباشرة إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» ..
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة. صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح، وذات السمات.. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج، والسخرية منه، والابتعاد عنه، وهوانه على الله وعلى الناس.
ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف، وتلك كانت صورتهم الرديئة.
ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة.. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام، مطمئنة في وسط الزلزال، واثقة بالله، راضية بقضاء الله، مستيقنة من نصر الله، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب.
ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم.
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» ..
وقد كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه- صلّى الله عليه وسلّم- في هذا الحادث الضخم لما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وتطلب نفسه القدوة الطيبة ويذكر الله ولا ينساه.(5/2841)
ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.
خرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعمل في الخندق مع المسلمين. يضرب بالفأس، ويجرف التراب بالمسحاة، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية: كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل، فكره رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اسمه، وسماه عمرا. فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة «عمرو» ، قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «عمرا» . وإذا مروا بكلمة «ظهر» قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «ظهرا» .
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون، والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بينهم، يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز.
وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال- صلّى الله عليه وسلّم- أما إنه نعم الغلام! وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديدا. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك» ! ثم قال: «من له علم بسلاح هذا الغلام» ؟ فقال عمارة: يا رسول الله هو عندي. فقال: فرده عليه. ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا! وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب، لكل من في الصف، صغيرا أو كبيرا. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة: «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك!» ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم، في أحرج الظروف..
ثم كانت روحه- صلّى الله عليه وسلّم- تستشرف النصر من بعيد، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول فيحدث بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة واليقين.
قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليّ صخرة، ورسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قريب مني. فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال: «أو قد رأيت ذلك يا سلمان» ؟
قال: قلت. نعم: قال: «أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق» ..
وجاء في «إمتاع الأسماع للمقريزي» أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما.
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب، والخطر محدق بها محيط.
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب وقد أخذه القر(5/2842)
الشديد ورسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه. فإذا هو في صلاته واتصاله بربه، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه- صلوات الله وسلامه عليه- بين رجليه، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو. ويمضي في صلاته. حتى ينتهي، فينبئه حذيفة النبأ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه- صلّى الله عليه وسلّم- فبعث حذيفة يبصر أخبارها! أما أخبار شجاعته- صلّى الله عليه وسلّم- في الهول، وثباته ويقينه، فهي بارزة في القصة كلها، ولا حاجة بنا إلى نقلها، فهي مستفيضة معروفة.
وصدق الله العظيم: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» ..
ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة، في مواجهة الهول، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين:
«وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» ..
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين:
«هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» ..
لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية وبشارة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة. والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يحس حالة أصحابه، ويرى نفوسهم من داخلها، فيقول: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع. يشرط له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» .. ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة، فإن أحدا لا يلبي النداء. فإذا عين بالاسم حذيفة قال:
فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني! .. ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة..
ولكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر. ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» ..
وها هم أولاء يزلزلون. فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» ..(5/2843)
«هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» ..
لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته.
فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا..
كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا- مع هذا- مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا، لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.
وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق..
فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر. فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق..
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه:
«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ..
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه. نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. ثم ولم يوفوا بعهد الله: «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» ..
روى الإمام أحمد- بإسناده- عن ثابت قال: «عمي أنس بن النضر- رضي الله عنه- سميت به- لم يشهد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- غبت عنه! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ- رضي الله عنه- فقال له أنس- رضي الله عنه- يا أبا عمرو. أين واها لريح الجنة! إني أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل- رضي الله عنه- قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته- عمتي الرّبّيع ابنة النضر-: فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال:
فنزلت هذه الآية: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.. إلخ» قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضى الله عنهم. (ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة) .
وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق(5/2844)
والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق. لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.
ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة النقض والوفاء وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله:
«لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ- إِنْ شاءَ- أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ..
ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد- ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع. فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة. إنما تقع وفق حكمة مقدرة، وتدبير قاصد. وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب. وفيها تتجلى رحمة الله بعباده. ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» ..
ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:
«وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» ..
وقد بدأت المعركة، وسارت في طريقها، وانتهت إلى نهايتها، وزمامها في يد الله، يصرفها كيف يشاء.
وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره. فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب، تقريرا لهذه الحقيقة، وتثبيتا لها في القلوب وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح.
ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم. بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود:
«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» ..
فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين..
إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة. وكان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدوا، ولا يمدوا يدا بأذى.
ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول.
وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة. كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة. فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه! وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام. ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه. ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود. فطلب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به. فوقعوا فيه، وقالوا قالة السوء، وحذروا منه أحياء اليهود. وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي. فاعتزموا الكيد لمحمد- صلّى الله عليه وسلّم- كيدا لا هوادة فيه.(5/2845)
ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود! لقد بدأت في أول الأمر حربا باردة، بتعبير أيامنا هذه. بدأت حرب دعاية ضد محمد- عليه الصلاة والسّلام- وضد الإسلام. واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله. اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة. واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض. بين الأوس والخزرج مرة، وبين الأنصار والمهاجرين مرة. واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين. واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين.. وأخيرا أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين، كالذي حدث في غزوة الأحزاب..
وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وكان لكل منها شأن مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ومع المسلمين.
فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته، بعد ما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم.
وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال:
وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال:
«يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال:
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت يهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال:
فحاصرهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حتى نزلوا على حكمه، فقام عبد الله بن أبي بن سلول «1» ، حين أمكنة الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي- وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أرسلني. وغضب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حتى رأوا لوجهه ظللا. ثم قال: ويحك! أرسلني. قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ. أربع مائة حاسر. وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود. تحصدهم في غداة واحدة.
__________
(1) رأس المنافقين.(5/2846)
إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- هم لك.
وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه. فقبل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح. وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة.
وأما بنو النضير، فإن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم. فلما أتاهم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- ورسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد- فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟
ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة، فألهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعا إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم. فتحصنوا منه في الحصون. وأرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول (رأس النفاق) أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم. وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال.
وسألوا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم- ممن سار إلى خيبر- سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب.. هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب.
والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة. وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلبا على المسلمين مع المشركين، بتحريض من زعماء بني النضير، وحيي بن أخطب على رأسهم. وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة.
ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حين انتهى إليه الخبر، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير- رضي الله عنهم- فقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس» .. (مما يصور ما كان يتوقعه- صلّى الله عليه وسلّم- من وقع الخبر في النفوس) .
فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. نالوا من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! .. ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بالتلميح لا بالتصريح. فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين» .. (تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيء أن يشيع في الصفوف) .
ويقول ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. إلخ.(5/2847)
فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب.
فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال.. رجع النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة منصورا، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يغتسل من وعثاء المرابطة، في بيت أم سلمة- رضي الله عنها- إذ تبدى له جبريل- عليه السّلام- فقال:
«أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال- صلّى الله عليه وسلّم-: نعم» . قال: «ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم» . ثم قال: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» - وكانت على أميال من المدينة-. وذلك بعد صلاة الظهر. وقال- صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» . فسار الناس في الطريق، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلّى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلا تعجيل المسير. وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يعنف واحدا من الفريقين.
وتبعهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم (صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى..) رضي الله عنه- وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ثم نازلهم رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس- رضي الله عنه- لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك. ولم يعلموا أن سعدا- رضي الله عنه- كان قد أصابه سهم في أكحله (وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع) أيام الخندق فكواه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب وقال سعد- رضي الله عنه- فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنا لها وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه. وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.
فعند ذلك استدعاه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل- وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه- جعل الأوس يلوذون به، يقولون: يا سعد إنهم مواليك، فأحسن عليهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه. وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال- رضي الله عنه-: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم! فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال رسول الله: «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.
فلما جلس قال له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «إن هؤلاء- وأشار إليهم- قد نزلوا على حكمك.
فاحكم فيهم بما شئت» فقال- رضي الله عنه-: وحكمي نافذ عليهم؟ قال- صلّى الله عليه وسلّم-: «نعم» .
قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: «نعم» . قال: وعلى من هاهنا (وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو معرض بوجهه عن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إجلالا وإكراما وإعظاما) .
فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «نعم» . فقال- رضي الله عنه-: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق(5/2848)
سبعة أرقعة» (أي سماوات) .
ثم أمر رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم. وكانوا ما بين السبع مائة، والثماني مائة. وسبي من لم ينبت (كناية عن البلوغ) مع النساء والأموال.
وفيهم حيي بن أخطب. وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم.
ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود، وضعفت حركة النفاق في المدينة وطأطأ المنافقون رؤوسهم، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون. وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم. حتى كان فتح مكة والطائف. ويمكن أن يقال: إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين. وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم، وإنه كان فارقا واضحا بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها.
فهذا مصداق قول الله سبحانه:
«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» .
والصياصي: الحصون والأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها، ربما كانت أرضا مملوكة لبني قريظة خارج محلتهم. وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم. وربما كانت إشارة إلى تسليم بني قريظة أرضهم بغير قتال. ويكون الوطء معناه الحرب التي توطأ فيها الأرض.
«وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» ..
فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله. وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله. ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة. تثبيتا لهذه الحقيقة الكبيرة، التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة، وبالقرآن بعد الأحداث، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس.
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم. وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء.
وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها. وتستقر القيم، وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء! انتهى الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون مبدوءا بقوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ... »(5/2849)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بقيّة سورة الأحزاب وسورتا سبأ وفاطر الجزء الثاني والعشرون(5/2851)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 35]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
هذا الدرس الثالث في سورة الأحزاب خاص بأزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فيما عدا الاستطراد الأخير لبيان جزاء المسلمين كافة والمسلمات- ولقد سبق في أوائل السورة تسميتهن «أمهات المؤمنين» . ولهذه الأمومة تكاليفها. وللمرتبة السامية التي استحققن بها هذه الصفة تكاليفها. ولمكانتهن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تكاليفها. وفي هذا الدرس بيان لشيء من هذه التكاليف وإقرار للقيم التي أراد الله لبيت النبوة الطاهر أن يمثلها، وأن يقوم عليها، وأن يكون فيها منارة يهتدي بها السالكون.
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِأَزْواجِكَ: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» ..
لقد اختار النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزا عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت غنائمها، وعم فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار. مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا. ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله. رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي(5/2853)
ويختار.. ولم يكن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها.. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد، استعلاء على اللذائذ والمتاع، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها.
ولكن نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- كن نساء، من البشر، لهن مشاعر البشر. وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن. فلما أن رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في أمر النفقة.
فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى إذ كانت نفسه- صلّى الله عليه وسلّم- ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقه وارتفاع ورضى متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها. لا بوصفه حلالا وحراما- فقد تبين الحلال والحرام- ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة! ولقد بلغ الأسى برسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه.
وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه. وجاءوا فلم يؤذن لهم. روى الإمام أحمد- بإسناده عن جابر- رضي الله عنه- قال: أقبل أبو بكر- رضي الله عنه- يستأذن على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والناس ببابه جلوس، والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر- رضي الله عنه- فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- فدخلا، والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- جالس وحوله نساؤه، وهو- صلّى الله عليه وسلّم- ساكت. فقال عمر- رضي الله عنه-: لأكلمن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لعله يضحك. فقال عمر- رضي الله عنه- يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد- امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها! فضحك النبي- صلّى الله عليه وسلّم- حتى بدت نواجذه، وقال: «هن حولي يسألنني النفقة» ! فقام أبو بكر- رضي الله عنه- إلى عائشة ليضربها، وقام عمر- رضي الله عنه- إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- فقلن: والله لا نسأل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بعد هذا المجلس ما ليس عنده.. قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة- رضي الله عنها- فقال: «إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) ..
الآية. قالت عائشة- رضي الله عنها-: أفيك استأمر أبويّ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال- صلّى الله عليه وسلّم- «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأت منهن عما اخترت إلا أخبرتها «1» » .
وفي رواية البخاري- بإسناده- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- أخبرته أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير
__________
(1) وأخرجه مسلم من حديث زكريا بن إسحاق. [.....](5/2854)
أزواجه. قالت: فبدأ بي رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» - وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه- قالت: ثم قال: «إن الله تعالى قال: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى تمام الآيتين. فقلت له: ففي أيّ هذا استأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وحياته الخاصة وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان- وسيبقى- منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق. فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة. فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
وقد كانت نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قد قلن: والله لا نسأل رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بعد هذا المجلس ما ليس عنده. فنزل القرآن ليقرر أصل القضية. فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون.
إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية، أو اختيار الزينة والمتاع. سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم. وكن حيث تؤهلهن مكانتهن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم. وفي بعض الروايات أن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فرح بهذا الاختيار.
ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه.
إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة. ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء. ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه.
هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والذين عاشوا معه واتصلوا به. وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية. مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه. فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس. ولكنها ارتفعت، وصفت من الأوشاب. ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان.
وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- ولصحابته- رضوان الله عليهم- صورة غير حقيقية، أو غير كاملة، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا! وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة. ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم. وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا.. ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها(5/2855)
تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر. يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية. وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد. وتحل محلها الروعة والانبهار، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية..
ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة. لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن. ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.
وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر. كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم، وإن صفت ورفت وارتقت. فيحبوهم حب الإنسان للإنسان ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير.
وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في المتاع كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- ونسائه- رضي الله عنهن- وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة. فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية، تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه. فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط فيفرح قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يحب عائشة حبا ظاهرا ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها- وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت- وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي- صلّى الله عليه وسلّم- لا تخطئ عائشة- رضي الله عنها- من جانبها في إدراكها فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها. ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إنسانا يحب زوجه الصغيرة، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة- رضي الله عنها- إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه لها، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء. ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام! .. وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو يقول لها: «إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» .. فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير بل يقدم العون لكل من تريد العون. كي ترتفع على نفسها، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع! هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا- ونحن نعرض السيرة- ألا نطمسها، وألا نهملها، وألا نقلل من(5/2856)
قيمتها. فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وشخصيات أصحابه- رضي الله عنهم- برباط حي، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي.
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى النص القرآني. فنجده- بعد تحديد القيم في أمر الدنيا والآخرة وتحقيق قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» في صورة عملية في حياة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأهل بيته.. نجده بعد هذا البيان يأخذ في بيان الجزاء المدخر لأزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وفيه خصوصية لهن وعليهن، تناسب مقامهن الكريم، ومكانهن من رسول الله المختار:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» ..
إنها تبعة المكان الكريم الذي هن فيه. وهن أزواج رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهن أمهات المؤمنين.
وهذه الصفة وتلك كلتاهما ترتبان عليهن واجبات ثقيلة، وتعصمانهن كذلك من مقارفة الفاحشة. فإذا فرض وقارفت واحدة منهن فاحشة مبينة واضحة لاخفاء فيها، كانت مستحقة لضعفين من العذاب. وذلك فرض يبين تبعة المكان الكريم الذي هن فيه.. «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. لا تمنعه ولا تصعبه مكانتهن من رسول الله المختار. كما قد يتبادر إلى الأذهان! «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً» .. والقنوت الطاعة والخضوع. والعمل الصالح هو الترجمة العملية للطاعة والخضوع.. «نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ» .. كما أن العذاب يضاعف للمقارفة ضعفين. «وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» .. فهو حاضر مهيأ ينتظرها فوق مضاعفة الأجر. فضلا من الله ومنة.
ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ويقرر واجباتهن في معاملة الناس، وواجبهن في عبادة الله، وواجبهن في بيوتهن ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم، وحياطته وصيانته من الرجس ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، مما يلقي عليهن تبعات خاصة، ويفردهن بين نساء العالمين:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ- أَهْلَ الْبَيْتِ- وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» ..
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي- كغيره من المجتمعات في ذلك الحين- ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع، وإشباع الغريزة. ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة.
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية. ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة.
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس وانحطاط الذوق الجمالي والاحتفال بالجسديات العارمة، وعدم(5/2857)
الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف.. يبدو هذا في أشعار الجاهلين حول جسد المرأة، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه، وإلى أغلظ معانيه! فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد، وإطفاء لفورة اللحم والدم، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة، بينهما مودة ورحمة، وفي اتصالهما سكن وراحة ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان، وعمارة الأرض، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله.
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات.
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن. وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي، وبالنظافة في علاقات الجنسين، وصيانتها من كل تبذل، وتصفيتها من عرامة الشهوة، حتى في العلاقات الجسدية المحضة.
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا. وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس، وفي خاصة أنفسهن، وفي علاقتهن بالله. توجيه يقول لهن الله فيه: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ- أَهْلَ الْبَيْتِ- وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس، ووسائل التطهر، التي يحدثهن الله- سبحانه- عنها، ويأخذهن بها.
وهن أهل البيت، وزوجات النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأطهر من عرفت الأرض من النساء. ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وبيته الرفيع.
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن، ورفيع مقامهن، وفضلهن على النساء كافة، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين. على أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» ..
لستن كأحد من النساء إن اتقيتن.. فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد، ولا تشاركن فيه أحدا. ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى. فليست المسألة مجرد قرابة من النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن.
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين والذي يقرره رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا: «يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من ما لي ما شئتم «1» » .
وفي رواية أخرى: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها «2» » .
__________
(1) أخرجه مسلم
(2) رواه مسلم والترمذي.(5/2858)
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها، وهو التقوى، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا:
«فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» ..
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم! ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير إنهن أزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة. وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار..
ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب. وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه. في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث. وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟! «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» ..
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات.
كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق! «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» ..
من وقر. يقر. أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن.
إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة.
«ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها(5/2859)
فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه.. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.
«وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال «1» » .
فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات..
فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان! ولقد كان النساء على عهد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا.
ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم! في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.
وفي الصحيحين أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل! فماذا أحدث النساء في حياة عائشة- رضي الله عنها-؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟! «وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» ..
ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج.
ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة! قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال. فذلك تبرج الجاهلية! وقال قتادة: وكانت لهن مشية تكسر وتغنج. فنهى الله تعالى عن ذلك! وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج! وقال ابن كثير في التفسير: كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن.
__________
(1) عن كتاب: «السلام العالمي والإسلام» فصل: «سلام البيت» ص 54- 55 «دار الشروق» .(5/2860)
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك! ونقول: ذوقه.. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أخط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر.
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوي الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا.
ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر! ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان! وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها الله سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي- صلّى الله عليه وسلّم- على طهارته ووضاءته ونظافته.
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- إلى تلك الوسائل ثم يربط قلوبهن بالله، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء:
«وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وعبادة الله ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوي والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة بالله يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة بالله تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة، كلما انحرفت عن طريق الله.
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم.. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة وتتناسق كلها في اتجاه واحد ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة.. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف:
«إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ..(5/2861)
وفي التعبير إيحاءات كثيرة، كلها رفاف، رفيق، حنون..
فهو يسميهم «أَهْلَ الْبَيْتِ» بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو «الْبَيْتِ» الواحد في هذا العالم، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل «الْبَيْتِ» فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت الله. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.
وهو يقول: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ- أَهْلَ الْبَيْتِ- وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن الله سبحانه- يشعرهم بأنه بذاته العلية- يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل- سبحانه وتعالى- رب هذا الكون. الذي قال للكون: كن. فكان. الله ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر.. حين نتصور من هو القائل- جل وعلا- ندرك مدى هذا التكريم العظيم.
وهو- سبحانه- يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى، ويتلى في هذه الأرض، في كل بقعة وفي كل أوان وتتعبد به ملايين القلوب، وتتحرك به ملايين الشفاه.
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام..
شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.
ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بمثل ما بدأها به.. بتذكيرهن بعلو مكانتهن، وامتيازهن على النساء، بمكانهن من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وبما أنعم الله عليهن فجعل بيوتهن مهبط القرآن ومنزل الحكمة، ومشرق النور والهدى والإيمان:
«وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» ..
وإنه لحظ عظيم يكفي التذكير به، لتحس النفس جلالة قدره، ولطيف صنع الله فيه، وجزالة النعمة التي لا يعدلها نعيم.
وهذا التذكير يجيء كذلك في ختام الخطاب الذي بدأ بتخيير نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بين متاع الحياة الدنيا وزينتها، وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة. فتبدو جزالة النعمة التي ميزهن الله بها وضآلة الحياة الدنيا بمتاعها كله وزينتها..
وفي صدد تطهير الجماعة الإسلامية، وإقامة حياتها على القيم التي جاء بها الإسلام. الرجال والنساء في هذا سواء. لأنهم في هذا المجال سواء.. يذكر الصفات التي تحقق تلك القيم في دقة وإسهاب وتفصيل:
«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ.. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..
وهذه الصفات الكثيرة التي جمعت في هذه الآية تتعاون في تكوين النفس المسلمة. فهي الإسلام، والإيمان،(5/2862)
والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفروج، وذكر الله كثيرا.. ولكل منها قيمته في بناء الشخصية المسلمة.
والإسلام: الاستسلام، والإيمان التصديق. وبينهما صلة وثيقة أو أن أحدهما هو الوجه الثاني للآخر.
فالاستسلام إنما هو مقتضى التصديق. والتصديق الحق ينشأ عنه الاستسلام.
والقنوت: الطاعة الناشئة من الإسلام والإيمان، عن رضى داخلي لا عن إكراه خارجي.
والصدق: هو الصفة التي يخرج من لا يتصف بها من صفوف الأمة المسلمة لقوله تعالى: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» فالكاذب مطرود من الصف. صف هذه الأمة الصادقة.
والصبر: هو الصفة التي لا يستطيع المسلم حمل عقيدته والقيام بتكاليفها إلا بها. وهي تحتاج إلى الصبر في كل خطوة من خطواتها. الصبر على شهوات النفس، وعلى مشاق الدعوة، وعلى أذى الناس. وعلى التواء النفوس وضعفها وانحرافها وتلونها. وعلى الابتلاء والامتحان والفتنة. وعلى السراء والضراء، والصبر على كلتيهما شاق عسر.
والخشوع: صفة القلب والجوارح، الدالة على تأثر القلب بجلال الله، واستشعار هيبته وتقواه.
والتصدق: وهو دلالة التطهر من شح النفس، والشعور بمرحمة الناس، والتكافل في الجماعة المسلمة.
والوفاء بحق المال. وشكر المنعم على العطاء.
والصوم: والنص يجعله صفة من الصفات إشارة إلى اطراده وانتظامه. وهو استعلاء على الضرورات، وصبر عن الحاجات الأولية للحياة. وتقرير للإرادة، وتوكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان.
وحفظ الفرج: وما فيه من تطهر، وضبط لأعنف ميل وأعمقه في تركيب كيان الإنسان، وسيطرة على الدفعة التي لا يسيطر عليها إلا تقي يدركه عون الله. وتنظيم للعلاقات، واستهداف لما هو أرفع من فورة اللحم والدم في التقاء الرجل والمرأة، وإخضاع هذا الالتقاء لشريعة الله، وللحكمة العليا من خلق الجنسين في عمارة الأرض وترقية الحياة.
وذكر الله كثيرا: وهو حلقة الاتصال بين نشاط الإنسان كله وعقيدته في الله. واستشعار القلب لله في كل لحظة فلا ينفصل بخاطر ولا حركة عن العروة الوثقى. وإشراق القلب ببشاشة الذكر، الذي يسكب فيه النور والحياة.
هؤلاء الذين تتجمع فيهم هذه الصفات، المتعاونة في بناء الشخصية المسلمة الكاملة.. هؤلاء «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» ..
وهكذا يعمم النص في الحديث عن صفة المسلم والمسلمة ومقومات شخصيتهما، بعد ما خصص نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في أول هذا الشوط من السورة. وتذكر المرأة في الآية بجانب الرجل كطرف من عمل الإسلام في رفع قيمة المرأة، وترقية النظرة إليها في المجتمع، وإعطائها مكانها إلى جانب الرجل فيما هما فيه سواء من العلاقة بالله ومن تكاليف هذه العقيدة في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة..(5/2863)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 48]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
هذا الدرس شوط جديد في إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. وهو يختص ابتداء بإبطال نظام التبني الذي ورد الحديث عنه في أول السورة. وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة. فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة. وسنرى من موقف النبي- صلّى الله عليه وسلّم- من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق! وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقة المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم، ووظيفة النبي بينهم.. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس، وتطييب القلوب لتقبل أمر(5/2864)
الله في هذا التنظيم بالرضى والتسليم.
ولقد سبق الحديث عن الحادث تقرير قاعدة أن الأمر لله ورسوله، وأنه ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. مما يوحي كذلك بصعوبة هذا الأمر الشاق المخالف لمألوف العرب وتقاليدهم العنيفة.
«وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» ..
روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش- رضي الله عنها- حينما أراد النبي- صلّى الله عليه وسلّم- أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة فيرد الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الموالي «1» - وهم الرقيق المحرر- طبقة أدنى من طبقة السادة. ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الذي تبناه. فأراد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، قريبته- صلّى الله عليه وسلّم- زينب بنت جحش ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه، في أسرته. وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تتخذ منه الجماعة المسلمة أسوة، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق.
روى ابن كثير في التفسير قال: قال العوفي عن ابن عباس- رضي الله عنهما-: قوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ» . الآية. وذلك أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة- رضي الله عنه- فدخل على زينب بنت جحش الأسدية- رضي الله عنها- فخطبها، فقالت: لست بناكحته! فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «بلى فانكحيه» . قالت: يا رسول الله. أؤامر في نفسي؟
فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً» .. الآية. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: «نعم» ! قالت: إذن لا أعصي رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قد أنكحته نفسي! وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: خطب رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- زينب بنت جحش لزيد بن حارثة- رضي الله عنه- فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا- وكانت امرأة فيها حدة- فأنزل الله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ... » الآية كلها.
وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش- رضي الله عنها- حين خطبها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- على مولاه زيد بن حارثة- رضي الله عنه- فامتنعت ثم أجابت.
وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- رضي الله عنها- وكانت أول من هاجر من النساء- يعني بعد صلح الحديبية- فوهبت نفسها للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «قد قبلت» . فزوجها زيد بن حارثة- رضي الله عنه- (يعني والله أعلم بعد فراقه زينب) فسخطت هي وأخوها، وقال: إنما أردنا رسول الله- صلّى الله
__________
(1) قد تطلق هذه الكلمة على غير هذه الطبقة. فقد كانت قبيلة تكون موالي قبيلة، تنصرها، وتتكافل معها في الديات والتعويضات. على غير معنى الرق والعتق.(5/2865)
عليه وسلّم- فزوجنا عبده! قال: فنزل القرآن: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً» إلى آخر الآية. قال: وجاء أمر أجمع من هذا: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» قال: فذاك خاص وهذا أجمع.
وفي رواية ثالثة: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ثابت البناني، عن أنس- رضي الله عنه- قال: خطب النبي- صلّى الله عليه وسلّم- على جليبيب «1» امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال:
حتى أستأمر أمها. فقال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: «فنعم إذن» . قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله! إذن ما وجد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلا جليبيبا، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال: والجارية في سترها تسمع. قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بذلك. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها. وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. قال- صلّى الله عليه وسلّم-:
«فإني قد رضيته» . قال: فزوجها.. ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس- رضي الله عنه- فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة..
فهذه الروايات- إن صحت- تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد- رضي الله عنهما- أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه، وتولى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تغييره بفعله وسنته. وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد، وتصوره للقيم في هذه الأرض، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام، المستمدة من روحه العظيم.
ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص. وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني، وإحلال مطلقات الأدعياء، وحادث زواج رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من زينب- رضي الله عنها- بعد طلاقها من زيد. الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه. والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- حتى اليوم، ويلفقون حوله الأساطير! وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات، أو كانت بصدد زواج الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- من زينب- رضي الله عنها- فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل، وأعمق جدا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل.
فهذا المقوّم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا واستيقنته أنفسهم، وتكيفت به مشاعرهم.. هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله. يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد. وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم. وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح وإن هم إلا أجراء،
__________
(1) وهو من الموالي.(5/2866)
لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة! عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله. أسلموها بكل ما فيها فلم يعد لهم منها شيء. وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله واستقامت حركاتهم مع دورته العامة وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها، لا تحاول أن تخرج عنها، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء، وكل أحد، وكل حادث، وكل حالة. واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة.
وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه، معروف في ضميره، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة! ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي، وهم راضون مستروحون، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق، وفي غير من ولا غرور، وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه وأن ما يريده الله هو الذي يكون، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم، وتصرف حركاتهم وهم مطمئنون لليد التي تقودهم، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.
وهم- مع هذا- يعملون ما يقدرون عليه، ويبذلون ما يملكون كله، ولا يضيعون وقتا ولا جهدا، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص، ومن ضعف وقوة ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ولا أن بقولوا غير ما يفعلون.
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون.. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال! واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك. وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك، وخطوات الزمان، ولا تحتك بها أو تصطدم، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام.
وهو الذي بارك تلك الجهود، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان.
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود.. كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات، والكواكب والأفلاك ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص.(5/2867)
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن.. حيث يقول الله تبارك وتعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. أو يقول: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. أو يقول: «إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» .. فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع. هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود.
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه.
ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه. وأنه يقرر كلية أساسية، أو الكلية الأساسية، في منهج الإسلام! ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- من زينب بنت جحش، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات:
«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ..
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ورد الأدعياء إلى آبائهم، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي: «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً..» .
ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته. فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس.
ولا بد من سوابق عملية مضادة. ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين.
وقد مضى أن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- زوج زيد بن حارثة- الذي كان متبناه، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعي إلى أبيه- من زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة، ويحقق معنى قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي.
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك- فيما يحمل من أعباء الرسالة- مؤنة إزالة آثار نظام التبني فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة. ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!(5/2868)
وألهم الله نبيه- صلّى الله عليه وسلّم- أن زيدا سيطلق زينب وأنه هو سيتزوجها، للحكمة التي قضى الله بها. وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا.
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- اضطراب حياته مع زينب وغدم استطاعته المضي معها. والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على شجاعته في مواجهة القومة في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية- يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق فيقول لزيد (الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء. والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب) .. يقول له:
«أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ» .. ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس.
كما قال الله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ!» .. وهذا الذي أخفاه النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه- صلّى الله عليه وسلّم- كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به. حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب، فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني فى ذاتها. ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء. إنما كان حادث زواح النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات! إنما كان الأمر كما قال الله تعالى: «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» .. وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فيما حمل وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية. حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد، وذم الآلهة والشركاء وتخطئة الآباء والأجداد! «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .. لا مرد له، ولا مفر منه. واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه.
وكان زواجه- صلّى الله عليه وسلّم- من زينب- رضي الله عنها- بعد انقضاء عدتها. أرسل إليها زيدا زوجها السابق. وأحب خلق الله إليه. أرسله إليها ليخطبها عليه.
عن أنس- رضي الله عنه- قال: لما انقضت عدة زينب- رضي الله عنها- قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- لزيد بن حارثة. «اذهب فاذكرها عليّ» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، وأقول: إن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ذكرها! فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب. أبشري. أرسلني رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فدخل عليها بغير إذن «1» ...
__________
(1) رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة..(5/2869)
وقد روى البخاري- رحمه الله- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: إن زينب بنت جحش- رضي الله عنها- كانت تفخر على أزواج النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله- تعالى- من فوق سبع سماوات.
ولم تمر المسألة سهلة، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: تزوج حليلة ابنه! ولما كانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد فقد مضى القرآن يؤكدها ويزيل عنصر الغرابة فيها، ويردها إلى أصولها البسيطة المنطقية التاريخية:
«ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» ..
فقد فرض له أن يتزوج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء. وإذن فلا حرج في هذا الأمر، وليس النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فيه بدعا من الرسل.
«سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» ..
فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.
«وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» ..
فهو نافذ مفعول، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد. وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه. ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها. وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عمليا، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية. ولم يكن بد من نفاذ أمر الله.
وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل:
«الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ» ..
فلا يحسبون للخلق حسابا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحدا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ.
«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
فهو وحده الذي يحاسبهم، وليس للناس عليهم من حساب.
«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.
والعلاقة بين محمد- صلّى الله عليه وسلّم- وبين جميع المسلمين- ومنهم زيد بن حارثة- هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبا لأحد منهم:
«وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ..
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.
«وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ..
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له(5/2870)
ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن..
قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.
ثم يمضي السياق القرآني في ربط القلوب بهذا المعنى الأخير، ووصلهم بالله الذي فرض على رسوله ما فرض، واختار للأمة المسلمة ما اختار يريد بها الخير، والخروج من الظلمات إلى النور:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» ..
وذكر الله اتصال القلب به، والاشتغال بمراقبته وليس هو مجرد تحريك اللسان. وإقامة الصلاة ذكر الله.
بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة:
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» ..
وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة. فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه، ويتصل به قلبه.
سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر. والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال.
وإن القلب ليظل فارغا أو لاهيا أو حائرا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به. فإذا هو مليء جاد، قار، يعرف طريقه، ويعرف منهجه، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه! ومن هنا يحض القرآن كثيرا، وتحض السنة كثيرا، على ذكر الله. ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله ومنبهة إلى الاتصال به حتى لا يغفل القلب ولاينسى:
«وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ..
وفي البكرة والأصيل خاصة ما يستجيش القلوب إلى الاتصال بالله، مغير الأحوال، ومبدل الظلال وهو باق لا يتغير ولا يتبدل، ولا يحول ولا يزول. وكل شيء سواه يتغير ويتبدل، ويدركه التحول والزوال وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم وهو الغني عنهم، وهم الفقراء المحاويج، لرعايته وفضله:
«هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» ..
وتعالى الله، وجلت نعمته، وعظم فضله، وتضاعفت منته وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين، الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا بقاء لهم ولا قرار. يذكرهم، ويعني بهم، ويصلي عليهم هو وملائكته، ويذكرهم بالخير في الملأ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم، كما قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-:
«يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه «1» » ..
__________
(1) أخرجه البخاري.(5/2871)
ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها. وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة. وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له:
كن. فكان! «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
ونور الله واحد متصل شامل وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف. وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلمة من الظلمات، أو في الظلمات مجتمعة وما ينقذهم من الظلام إلا نور الله الذي يشرق في قلوبهم، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرتهم. وهي فطرة هذا الوجود. ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان: «وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» ..
ذلك أمرهم في الدنيا دار العمل. فأما أمرهم في الآخرة دار الجزاء، فإن فضل الله لا يتخلى عنهم، ورحمته لا تتركهم ولهم فيها الكرامة والحفاوة والأجر الكريم:
«تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» ..
سلام من كل خوف، ومن كل تعب، ومن كل كد.. سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة. وهم يدخلون عليهم من كل باب، يبلغونهم التحية العلوية. إلى جانب ما أعد لهم من أجر كريم.. فيا له من تكريم! فهذا هو ربهم الذي يشرع لهم ويختار. فمن ذا الذي يكره هذا الاختيار؟! فأما النبي الذي يبلغهم اختيار الله لهم ويحقق بسنته العملية ما اختاره الله وشرعه للعباد، فيلتفت السياق التفاتة كذلك إلى بيان وظيفته وفضله على المؤمنين في هذا المقام:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
فوظيفة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فيهم أن يكون «شاهِداً» عليهم فليعملوا بما يحسن هذه الشهادة التي لا تكذب ولا تزور، ولا تبدل، ولا تغير. وأن يكون «مُبَشِّراً» لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران، ومن فضل وتكريم. وأن يكون «نَذِيراً» للغافلين بما ينتظر المسيئين من عذاب ونكال، فلا يؤخذوا على غرة، ولا يعذبوا إلا بعد إنذار. «وَداعِياً إِلَى اللَّهِ» .. لا إلى دنيا، ولا إلى مجد، ولا إلى عزة قومية، ولا إلى عصبية جاهلية، ولا إلى مغنم، ولا إلى سلطان أو جاه. ولكن داعيا إلى الله. في طريق واحد يصل إلى الله «بِإِذْنِهِ» ..
فما هو بمبتدع، ولا بمتطوع، ولا بقائل من عنده شيئا. إنما هو إذن الله له وأمره لا يتعداه. «وَسِراجاً مُنِيراً» ..
يجلو الظلمات، ويكشف الشبهات، وينير الطريق، نورا هادئا هاديا كالسراج المنير في الظلمات.
وهكذا كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وما جاء به من النور. جاء بالتصور الواضح البين النير لهذا الوجود، ولعلاقة الوجود بالخالق، ولمكان الكائن الإنساني من هذا الوجود وخالقه، وللقيم التي يقوم عليها الوجود كله، ويقوم عليها وجود هذا الإنسان فيه وللمنشأ والمصير، والهدف والغاية، والطريق والوسيلة.
في قول فصل لا شبهة فيه ولا غموض. وفي أسلوب يخاطب الفطرة خطابا مباشرا وينفذ إليها من أقرب السبل وأوسع الأبواب وأعمق المسالك والدروب!(5/2872)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
ويكرر ويفصل في وظيفة الرسول مسألة تبشير المؤمنين: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» ..
بعد ما أجملها في قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» .. زيادة في بيان فضل الله ومنته على المؤمنين، الذين يشرع لهم على يدي هذا النبي، ما يؤول بهم إلى البشرى والفضل الكبير.
وينهي هذا الخطاب للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- بألا يطيع الكافرين والمنافقين، وألا يحفل أذاهم له وللمؤمنين، وأن يتوكل على الله وحده وهو بنصره كفيل:
«وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، وَدَعْ أَذاهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
وهو ذات الخطاب الوارد في أول السورة، قبل ابتداء التشريع والتوجيه، والتنظيم الاجتماعي الجديد. بزيادة توجيه النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ألا يحفل أذى الكافرين والمنافقين وألا يتقيه بطاعتهم في شيء أو الاعتماد عليهم في شيء. فالله وحده هو الوكيل «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» ..
وهكذا يطول التقديم والتعقيب على حادث زينب وزيد، وإحلال أزواج الأدعياء، والمثل الواقعي الذي كلفه رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- مما يشي بصعوبة هذا الأمر، وحاجة النفوس فيه إلى تثبيت الله وبيانه، وإلى الصلة بالله والشعور بما في توجيهه من رحمة ورعاية. كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم..
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 62]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)(5/2873)
هذا الشوط من السورة يتضمن في أوله حكما عاما من أحكام القرآن التشريعية في تنظيم شؤون الأسرة. ذلك حكم المطلقات قبل الدخول. يجيء بعده أحكام خاصة لتنظيم حياة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- حياته الزوجية الخاصة مع نسائه وعلاقات نسائه كذلك ببقية الرجال، وعلاقة المسلمين ببيت الرسول. وكرامة الرسول وبيته على الله وعلى ملائكته والملأ الأعلى.. وينتهي بحكم عام يشترك فيه نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، يأمرهن فيه بإرخاء جلابيبهن عند الخروج لقضاء الحاجة حتى يتميزن بهذا الزي السابغ ويعرفن، فلا يتعرض لهن ذوو السيرة السيئة من المنافقين والمرجفين والفساق الذين كانوا يتعرضون للنساء في المدينة! ويختم بتهديد هؤلاء المنافقين والمرجفين بالإجلاء عن المدينة ما لم ينتهوا عن إيذاء المؤمنات وإشاعة الفساد..
وهذه التشريعات والتوجيهات طرف من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. فأما ما يختص بحياة الرسول الشخصية، فقد شاء الله أن يجعل حياة هذا البيت صفحة معروضة للأجيال، فضمنها(5/2874)
هذا القرآن الباقي، المتلو في كل زمان ومكان وهي في الوقت ذاته آية تكريم الله- سبحانه- لهذا البيت، الذي يتولى بذاته العلية أمره، ويعرضه للبشرية كافة في قرآنه الخالد على الزمان..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» ..
ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى:
«لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر، فلها نصف ذلك المهر المسمى. وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقا.. وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة. فقرر أن لا عدة عليها. إذ أنه لم يكن دخول بها. والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق، كي لا تختلط الأنساب، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة. فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة، ولا عدة إذن ولا انتظار:
«فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» .. «فَمَتِّعُوهُنَّ» إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية. «وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» .. لا عضل فيه ولا أذى. ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة.
وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة.
بعد ذلك يبين الله لرسوله- صلّى الله عليه وسلّم- ما يحل له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته، بعد ما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعا: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» ..
وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء، تزوج بكل منهن لمعنى خاص. عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر. وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي- صلّى الله عليه وسلّم- تكريمهن، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب، إنما كان معنى التكريم لهن خالصا في هذا الزواج. وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى، وعرفناه في قصتها. ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى، توثيقا لعلاقته بالقبائل، وتكريما لهما، وقد أسلمتا بعد ما نزل بأهلهما من الشدة.
وكن قد أصبحن «أمهات المؤمنين» ونلن شرف القرب من رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير. فكان صعبا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد(5/2875)
النساء. وقد نظر الله إليهن، فاستثنى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من ذلك القيد، وأحل له استبقاء نسائه جميعا في عصمته، وجعلهن كلهن حلا له، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدا، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى. فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه، بعد ما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.. وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ، وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها، خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ- إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ- وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» ..
ففي الآية يحل الله للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- أنواع النساء المذكورات فيها- ولو كن فوق الأربع- مما هو محرم على غيره. وهذه الأنواع هي: الأزواج اللواتي أمهرهن. وما ملكت يمينه إطلاقا من الفيء، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن- إكراما للمهاجرات- وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي. إن أراد النبي نكاحها (وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي- صلّى الله عليه وسلّم- قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج، والأرجح أنه زوج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين) وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعا. فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم.
ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه.
ثم ترك الخيار له- صلّى الله عليه وسلّم- في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك. ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء.. وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد.
ثم يعود.. «ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» .. فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً» .
ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلا، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم:
«لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ- وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» لا يستثني من ذلك- «إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ» .. فله منهن ما يشاء.. «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» .. والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب.
وقد روت عائشة- رضي الله عنها- أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وتركت له حرية الزواج. ولكنه- صلّى الله عليه وسلّم- لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة. فكن هن أمهات المؤمنين..(5/2876)
بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وبنسائه- أمهات المؤمنين- في حياته وبعد وفاته كذلك. ويواجه حالة كانت واقعة، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في بيوته وفي نسائه. فيحذرهم تحذيرا شديدا، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته. ويهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ- غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ- وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ..
روى البخاري- بإسناده- عن أنس بن مالك قال: بنى النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بزينب بنت جحش بخبز ولحم. فأرسلت على الطعام داعيا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون. ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون.
فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه. فقلت: يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه. قال: «ارفعوا طعامكم» .
وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فانطلق إلى حجرة عائشة- رضي الله عنها- فقال: «السّلام عليكم- أهل البيت- ورحمة الله وبركاته» . قالت: وعليك السّلام ورحمة الله.
كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك. فتقرى حجر نسائه، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن كما قالت عائشة. ثم رجع النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبي- صلّى الله عليه وسلّم- شديد الحياء. فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا. فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه. أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
والآية تتضمن آدابا لم تكن تعرفها الجاهلية في دخول البيوت، حتى بيت رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فقد كان الناس يدخلون البيوت بلا إذن من أصحابها- كما جاء في شرح آيات سورة النور الخاصة بالاستئذان- وربما كان هذا الحال أظهر في بيوت النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بعد أن أصبحت هذه البيوت مهبط العلم والحكمة. وكان بعضهم يدخل وحين يرى طعاما يوقد عليه يجلس في انتظار نضج هذا الطعام ليأكل بدون دعوة إلى الطعام! وكان بعضهم يجلس بعد الطعام- سواء كان قد دعي إليه أو هجم هو عليه دون دعوة- ويأخذ في الحديث والسمر غير شاعر بما يسببه هذا من إزعاج للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأهله. وفي رواية أن أولئك الثلاثة الرهط الذين كانوا يسمرون كانوا يفعلون هذا وعروس النبي- زينب بنت جحش- جالسة وجهها إلى الحائط! والنبي- صلّى الله عليه وسلّم- يستحيي أن ينبههم إلى ثقلة مقامهم عنده حياء منه، ورغبة في ألا يواجه زواره بما يخجلهم! حتى تولى الله- سبحانه- عنه الجهر بالحق «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» .
ومما يذكر أن عمر- رضي الله عنه- بحساسيته المرهفة كان يقترح على النبي- صلّى الله عليه وسلّم- الحجاب وكان يتمناه على ربه. حتى نزل القرآن الكريم مصدقا لاقتراحه مجيبا لحساسيته! من رواية للبخاري- بإسناده- عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله. يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب..»
وجاءت هذه الآية تعلم الناس ألا يدخلوا بيوت النبي بغير إذن. فإذا دعوا إلى الطعام دخلوا. فأما إذا لم(5/2877)
يدعوا فلا يدخلون يرتقبون نضجه! ثم إذا طعموا خرجوا، ولم يبقوا بعد الطعام للسمر والأخذ بأطراف الحديث..
وما أحوج المسلمين اليوم إلى هذا الأدب الذي يجافيه الكثيرون. فإن المدعوين إلى الطعام يتخلفون بعده، بل إنهم ليتخلفون على المائدة، ويطول بهم الحديث وأهل البيت- الذين يحتفظون ببقية من أمر الإسلام بالاحتجاب- متأذون محتبسون، والأضياف ماضون في حديثهم وفي سمرهم لا يشعرون! وفي الأدب الإسلامي غناء وكفاء لكل حالة، لو كنا نأخذ بهذا الأدب الإلهي القويم.
ثم تقرر الآية الحجاب بين نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- والرجال:
«وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» ..
وتقرر أن هذا الحجاب أطهر لقلوب الجميع:
«ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» ..
فلا يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك.. إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين. لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول: «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» .. يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات. أمهات المؤمنين. وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولا.
ويقول خلق من خلقه قولا. فالقول لله- سبحانه- وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد! والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله، وكذب المدعين غير ما يقول الله. والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول. وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل. (وأمريكا أول هذه البلاد التي آتى الاختلاط فيها أبشع الثمار) «1» .
وقد ذكرت الآية أن مجيئهم للطعام منتظرين نضجه من غير دعوة وبقاءهم بعد الطعام مستأنسين للحديث..
كان يؤذي النبي فيستحيي منهم. وفي ختامها تقرر أنه ما يكون للمسلمين أن يؤذوا رسول الله. وكذلك ما يكون لهم أن يتزوجوا أزواجه من بعده وهن بمنزلة أمهاتهم. ومكانهن الخاص من رسول الله يحرم أن ينكحهن أحد من بعده، احتفاظا بحرمة هذا البيت وجلاله وتفرده:
«وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» ..
وقد ورد أن بعض المنافقين قال: إنه ينتظر أن يتزوج من عائشة! «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً» ..
وما أهول ما يكون عند الله عظيما! ولا يقف السياق عند هذا الإنذار الهائل، بل يستطرد إلى تهديد آخر هائل:
«إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» ..
__________
(1) راجع بتوسع فصل «سلام البيت» في كتاب: «السّلام العالمي والإسلام» . «دار الشروق» .(5/2878)
وإذن فالله هو الذي يتولى الأمر. وهو عالم بما يبدو وما يخفى، مطلع على كل تفكير وكل تدبير. والأمر عنده عظيم. ومن شاء فليتعرض. فإنما يتعرض لبأس الله الساحق الهائل العظيم.
وبعد الإنذار والتهديد يعود السياق إلى استثناء بعض المحارم الذين لا حرج على نساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في أن يظهرن عليهم:
«لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ، وَلا أَبْنائِهِنَّ، وَلا إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ، وَلا نِسائِهِنَّ، وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ. وَاتَّقِينَ اللَّهَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» ..
وهؤلاء المحارم هم الذين أبيح لنساء المسلمين عامة أن يظهرن عليهم.. ولم أستطع أن أتحقق أي الآيات كان أسبق في النزول الآية الخاصة بنساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- هنا، أم الآية العامة لنساء المسلمين جميعا في سورة النور. والأرجح أن الأمر كان خاصا بنساء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- ثم عمم. فذلك هو الأقرب إلى طبيعة التكليف.
ولا يفوتنا أن نلحظ هذا التوجيه إلى تقوى الله، والإشارة إلى اطلاعه على كل شيء: «وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» . فالإيحاء بالتقوى ومراقبة الله يطرد في مثل هذه المواضع، لأن التقوى هي الضمان الأول والأخير، وهي الرقيب اليقظ الساهر على القلوب.
ويستمر السياق في تحذير الذين يؤذون النبي- صلّى الله عليه وسلّم- في نفسه أو في أهله وفي تفظيع الفعلة التي يقدمون عليها.. وذلك عن طريقين: الطريق الأولى تمجيد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- وبيان مكانته عند ربه وفي الملأ الأعلى. والطريق الثانية تقرير أن إيذاءه إيذاء الله- سبحانه- وجزاؤه عند الله الطرد من رحمته في الدنيا والآخرة، والعذاب الذي يناسب الفعلة الشنيعة:
«إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» ..
وصلاة الله على النبي ذكره بالثناء في الملأ الأعلى وصلاة ملائكته دعاؤهم له عند الله سبحانه وتعالى..
ويا لها من مرتبة سنية حيث تردد جنبات الوجود ثناء الله على نبيه ويشرق به الكون كله وتتجاوب به أرجاؤه.
ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم الأبدي الباقي. وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة وهذا التكريم. وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي وتسليمه، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وتسليمهم إلى تسليمه وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلوي الكريم الأزلي القديم.
وفي ظل هذا التمجيد الإلهي يبدو إيذاء الناس للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- بشعا شنيعا ملعونا قبيحا: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» .. ويزيده بشاعة وشناعة أنه إيذاء لله من عبيده ومخاليقه. وهم لا يبلغون أن يؤذوا الله. إنما هذا التعبير يصور الحساسية بإيذاء رسوله، وكأنما هو إيذاء لذاته جل وعلا. فما أفظع! وما أبشع! وما أشنع! ويستطرد كذلك إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات عامة. إيذاؤهم كذبا وبهتانا، بنسبة ما ليس فيهم إليهم من النقائص والعيوب:(5/2879)
«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» ..
وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يومذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات، بنشر قالة السوء عنهم، وتدبير المؤامرات لهم، وإشاعة التهم ضدهم. وهو عام في كل زمان وفي كل مكان. والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين، والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض. والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان. وهو أصدق القائلين.
ثم أمر الله نبيه- صلّى الله عليه وسلّم- أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة- إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن- وهي فتحة الصدر من الثوب- بجلباب كاس. فيميزهن هذا الزي، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق. فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
قال السدي في هذه الآية: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طريق المدينة فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب. قالوا: هذه حرة. فكفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا: هذه أمة فوثبوا عليها..
وقال مجاهد: يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة. وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.
ومن ذلك نرى الجهد المستمر في تطهير البيئة العربية، والتوجيه المطر لإزالة كل أسباب الفتنة والفوضى، وحصرها في أضيق نطاق، ريثما تسيطر التقاليد الإسلامية على الجماعة كلها وتحكمها.
وفي النهاية يأتي تهديد المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين الذين ينشرون الشائعات المزلزلة في صفوف الجماعة المسلمة.. تهديدهم القوي الحاسم، بأنهم إذا لم يرتدعوا عما يأتونه من هذا كله، وينتهوا عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات، والجماعة المسلمة كلها، أن يسلط الله عليهم نبيه، كما سلطه على اليهود من قبل، فيطهر منهم جو المدينة، ويطاردهم من الأرض ويبيح دمهم فحيثما وجدوا أخذوا وقتلوا. كما جرت سنة الله فيمن قبلهم من اليهود على يد النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وغير اليهود من المفسدين في الأرض في القرون الخالية:
«لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ، أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» ..
ومن هذا التهديد الحاسم ندرك مدى قوة المسلمين في المدينة بعد بني قريظة، ومدى سيطرة الدولة الإسلامية عليها. وانزواء المنافقين إلا فيما يدبرونه من كيد خفي، لا يقدرون على الظهور إلا وهم مهددون خائفون.(5/2880)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 73]
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
في هذا الدرس الأخير من السورة حديث عن سؤال الناس عن الساعة، واستعجالهم بها، وشكهم فيها.
وجواب عن هذا السؤال يدع أمرها إلى الله، مع تحذيرهم من قربها، واحتمال أن تأخذهم على غرة أخذا سريعا.
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الساعة لا يسر المستعجلين بها، يوم تقلب وجوههم في النار. ويوم يندمون على عدم طاعة الله ورسوله. ويوم يطلبون لسادتهم وكبرائهم ضعفين من العذاب. وهو مشهد مفجع لا يستعجل به مستعجل.. ثم يعود بهم من هذا المشهد في الآخرة إلى هذه الأرض مرة أخرى! يعود ليحذر الذين آمنوا أن يكونوا كقوم موسى الذين آذوه واتهموه فبرأه الله مما قالوا- ويبدو أن هذا كان ردا على أمر واقع. ربما كان هو حديث بعضهم عن زواج الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بزينب، ومخالفته لمألوف العرب- ويدعو المؤمنين أن يقولوا قولا سديدا بعيدا عن اللمز والعيب. ليصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم. ويحببهم في طاعة الله ورسوله ويعدهم عليها الفوز العظيم.
ويختم السورة بالإيقاع الهائل العميق. عن الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، وهي ضخمة هائلة ساحقة. ذلك ليتم تدبير الله في ترتيب الجزاء على العمل، ومحاسبة الإنسان على ما رضي لنفسه واختار: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..(5/2881)
«يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ. قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» ..
وقد كانوا ما يفتأون يسألون النبي- صلّى الله عليه وسلّم- عن الساعة التي حدثهم عنها طويلا وخوفهم بها طويلا ووصف القرآن مشاهدها حتى لكأن قارئه يراها. يسألونه عن موعدها ويستعجلون هذا الموعد ويحمل هذا الاستعجال معنى الشك فيها، أو التكذيب بها، أو السخرية منها، بحسب النفوس السائلة، وقربها من الإيمان أو بعدها.
والساعة غيب قد اختص به الله سبحانه، ولم يشأ أن يطلع عليه أحدا من خلقه جميعا، بما فيهم الرسل والملائكة المقربون. وفي حديث حقيقة الإيمان والإسلام: عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال:
حدثني أبي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال:
يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت! قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.. إلخ. ثم قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- «فإنه جبريل عليه السّلام أتاكم يعلمكم دينكم «1» » .
فالمسؤول رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- والسائل- جبريل عليه السّلام- كلاهما لا يعلم علم الساعة «قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» .. على وجه الاختصاص والتفرد من دون عباد الله.
قدر الله هذا لحكمة يعلمها، نلمح طرفا منها، في ترك الناس على حذر من أمرها، وفي توقع دائم لها، وفي استعداد مستمر لفجأتها. ذلك لمن أراد الله له الخير، وأودع قلبه التقوى. فأما الذين يغفلون عن الساعة، ولا يعيشون في كل لحظة على أهبة للقائها، فأولئك الذين يختانون أنفسهم، ولا يقونها من النار. وقد بين الله لهم وحذرهم وأنذرهم وجعل الساعة غيبا مجهولا متوقعا في أية لحظة من لحظات الليل والنهار: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» ..
«إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» ..
إنهم يسألون عن الساعة. فهذا مشهد من مشاهد الساعة:
«إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً» ..
إن الله طرد الكافرين من رحمته، وهيأ لهم نارا مسعرة متوقدة، فهي معدة جاهزة حاضرة.
«خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ..
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.(5/2882)
باقين فيها عهدا طويلا، لا يعلم مداه إلا الله ولا نهاية له إلا في علم الله، حيث يشاء الله. وهم مجردون من كل عون، محرومون من كل نصير، فلا أمل في الخلاص من هذا السعير، بمعونة من ولي ولا نصير:
«لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..
أما مشهدهم في هذا العذاب فهو مشهد بائس أليم:
«يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ» ..
والنار تغشاهم من كل جهة، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها، والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكال! «يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» ..
وهي أمنية ضائعة، لا موضع لها ولا استجابة، فقد فات الأوان. إنما هي الحسرة على ما كان! ثم تنطلق من نفوسهم النقمة على سادتهم وكبرائهم، الذين أضلوهم، وبالإنابة إلى الله وحده، حيث لا تنفع الإنابة:
«وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» ..
هذه هي الساعة. ففيم السؤال عنها؟ إن العمل لها هو المخلص الوحيد من هذا المصير المشئوم فيها! ويبدو أن زواج الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- من زينب بنت جحش- رضي الله عنها- مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية. يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط، انطلقت تغمز وتلمز، وتؤول وتعترض، وتهمس وتوسوس. وتقول قولا عظيما! والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون. فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم. كالذي رأينا في غزوة الأحزاب. وفي حديث الإفك. وفي قسمة الفيء. وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- بغير حق.
وفي هذا الوقت- بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل- لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر. فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين. وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات، وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون. فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي- صلّى الله عليه وسلّم- كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى- عليه السّلام- ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه على عواهنه، بغير ضبط ولا دقة ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» ..
ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى ولكن وردت روايات تعينه. ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن. فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي- صلّى الله عليه وسلّم-(5/2883)
وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة. فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم، وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء.
وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، «وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» ذا وجاهة وذا مكانة. والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا. ومحمد- صلّى الله عليه وسلّم- أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه ويوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه، ومعرفة هدفه واتجاهه. قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث. ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح. فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب.
ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد:
«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» ..
إن السماوات والأرض والجبال- التي اختارها القرآن ليحدث عنها- هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها وتجذب توابعها بلا إرادة منها فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.(5/2884)