|
المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ)
الناشر: دار الشروق - بيروت- القاهرة
الطبعة: السابعة عشر - 1412 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة، تنتهي كلها إلى هدف واحد: مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر. والعدل فيه.
لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها، وتأخذ بها إلى أقطار الكون، في جولة واسعة شاملة. جولة من الأرض إلى السماء. ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس. ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب. ومن الدنيا إلى الآخرة.. في سياق..
وفي الدرس الماضي لمسات من هذه، وجولات من هذه.. ولكنها في هذا الدرس أظهر.. فمن معرض الحشر، إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، إلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين.
ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس، إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب..
إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك فطرة سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة، ألا تستجيب لها، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود..
لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين! «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
(3/1778)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»
..
كانت آخر آية في الدرس السابق: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين. ويكشف عن رحمة الله وفضله، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء.
فأما الذين أحسنوا. أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام.. فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة:
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» ..
وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق:
«وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ» ..
والقتر: الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق. والذلة: الانكسار والمهانة أو الإهانة. فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة.. والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه، فالنجاة من هذا كله غنيمة، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه..
«أُولئِكَ» .. أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق «أصحاب الجنة» وملاكها ورفاقها «هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
«وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ» ..
فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة! هؤلاء ينالهم عدل الله، فلا يضاعف لهم الجزاء، ولا يزاد عليهم السوء. ولكن:
«جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها» .. «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» ..
تغشاهم وتركبهم وتكربهم.
«ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» ..
يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم، نفاذاً لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق، ويخالف الناموس..
ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب:
«كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» ..
كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعاً غشيت بها هذه الوجوه! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم..
«أُولئِكَ» .. المبعدون في هذا الظلام والقتام «أَصْحابُ النَّارِ» .. ملاكها ورفاقها «هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
ولكن أين الشركاء والشفعاء؟ وكيف لم يعصموهم من دون الله؟ هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب:
«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ. وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ:
(3/1779)
ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ.. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ»
..
هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة، مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله، ولن يملكوا لهم خلاصاً ولا نجاة.
هؤلاء هم محشورون جميعاً.. الكفار والشركاء.. وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله، ولكن القرآن يسميهم «شركاءهم» تهكما من جهة، وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يوماً شركاء لله.
هؤلاء هم جميعاً كفاراً وشركاء. يصدر إليهم الأمر:
«مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» ..
قفوا حيث أنتم. ولا بد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم! فالأمر يومئذ للنفاذ. ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف:
«فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» ..
وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة. جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله، أو من دون الله، وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا، فهم إذن لم يشتركوا في الجناية، ويشهدون الله وحده على ما يقولون:
«وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» ..
هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون. هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم. ويجعلون الله وحده شهيداً، ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه! عندئذ، وفي هذا الموقف المكشوف، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة:
«هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ» ..
وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع، وما عداه باطل:
«وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» ..
وهنالك لا يجد المشركون شيئاً من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود:
«وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وهكذا يتجلى المشهد الحي، في ساحة الحشر، بكل حقائقه، وبكل وقائعه، وبكل مؤثراته واستجاباته.
تعرضه تلك الكلمات القلائل، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد، ولا براهين الجدل الطويل! ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه. إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه، وإلى أنفسهم التي يعلمونها، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة. بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:
«قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
(3/1780)
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ. فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» ..
ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنه الخالق، والرازق، والمدبر. إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله. فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم، ليصحح لهم- عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري- ذلك الخلط والضلال.
«قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟» ..
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير. وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحياناً في الخير ويستخدمونه أحياناً في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق! «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟» ..
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره.. ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار. وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه. وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولاً وسعة. وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس، عند ما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شيء إلى صنع الله. بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون! «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟» ..
وكانوا يعدون الساكن هو الميت، والنامي أو المتحرك هو الحي. فكان مدلول السؤال عندهم مشهوداً في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ.. إلى آخر هذه المشاهدات. وهو عندهم عجيب. وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء بما فيها من حياة كامنة واستعداد. فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله..
وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش! وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟ ..
وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر ... ؟
(3/1781)
وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين يكمن كان العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والصوات ... ؟
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟ أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟
وهل يكفي أن نقول: إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامناً في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة. وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة! «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟» ..
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟ ومن ومن؟
«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» ..
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
«فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟» ..
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه:
«فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ» ..
والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل، وقد ضل التقدير:
«فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» ..
وكيف توجهون بعيداً عن الحق وهو واضح بين تراه العيون؟
بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجة اللازمة، ولا يقومون بمقتضياته الواجبة، قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون:
(3/1782)
«كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ..
لا لأنه يمنعهم من الإيمان. فهذه دلائله قائمة في الكون، وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم. ولكن لأنهم هم يحيدون عن الطريق الموصل إلى الإيمان، ويجحدون المقدمات التي في أيديهم، ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم، ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم.
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله، وهل للشركاء فيها من نصيب.
«قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ قُلِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟ قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟ فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» ...
وهذه الأمور المسئول عنها- من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق- ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى. ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكاناً على مسلماتهم الأولى، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر. ثم لا يطلب إليهم الجواب، إنما يقرره لهم اعتماداً على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات.
«قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟» ..
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء..
ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه. إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم. وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته. ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت. والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:
«قُلِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ..
وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها:
«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» ..
فتوجهون بعيداً عن الحق إلى الإفك وتضلون؟
«قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟» ..
فينزل كتاباً، ويرسل رسولاً، ويضع نظاماً، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة. كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟ وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم، ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم. فليقررها لهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وليأخذهم بها:
«قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» ..
ومن هذه تنشأ قضية جديدة، جوابها مقرر:
«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ؟ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟» ..
والجواب مقرر. فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع، ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره..
(3/1783)
وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجاراً أو كواكب. أو كانوا من البشر- بما في ذلك عيسى عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بعث هادياً للناس- ومن عدا عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه:
«فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» ..
ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم؟ وكيف تقدرون الأمور، فتحيدون عن الحق الواضح المبين؟
فإذا فرغ من سؤالهم وإجابتهم، وتقرير الإجابة المفروضة التي تحتّمها البديهة وتحتّمها المقدمات المسلمة..
عقب على هذا بتقرير واقعهم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد. فهم لا يستندون إلى يقين فيما يعتقدون أو يعبدون أو يحكمون، ولا إلى حقائق مدروسة يطمئن إليها العقل والفطرة، إنما يتعلقون بأوهام وظنون، يعيشون عليها ويعيشون بها وهي لا تغني من الحق شيئا.
«وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ..» .
فهم يظنون أن لله شركاء. ولا يحققون هذا الظن ولا يمتحنونه عملاً ولا عقلاً. وهم يظنون أن آباءهم ما كانوا ليعبدوا هذه الأصنام لو لم يكن فيها ما يستحق العبادة: ولا يمتحنون هم هذه الخرافة، ولا يطلقون عقولهم من إسار التقليد الظني. وهم يظنون أن الله لا يوحي إلى رجل منهم، ولا يحققون لماذا يمتنع هذا على الله.
وهم يظنون أن القرآن من عمل محمد ولا يحققون إن كان محمد- وهو بشر- قادراً على تأليف هذا القرآن، بينما هم لا يقدرون وهم بشر مثله.. وهكذا يعيشون في مجموعة من الظنون لا تحقق لهم من الحق شيئاً. والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين أفعالهم وأعمالهم..
«إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
وتفريعاً على هذا التعقيب، يأخذ بهم السياق في جولة جديدة حول القرآن تبدأ بنفي التصور لإمكان أن يكون القرآن مفترى من دون الله، وتحديهم أن يأتوا بسورة مثله. وتثني بوصمهم بالتسرع في الحكم على ما لم يعلموه يقيناً أو يحققوه. وتثلث بإثبات حالتهم في مواجهة هذا القرآن، وتثبيت الرسول- صلى الله عليه وسلم- على خطته أياً كانت استجابتهم أو عدم استجابتهم له، وتنتهي بالتيئيس من الفريق الضال والإيماء إلى مصيرهم الذي لا يظلمهم الله فيه وإنما يستحقونه بما هم فيه من ضلال:
«وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً. وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
«وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..
فهو بخصائصه، الموضوعية والتعبيرية. بهذا الكمال في تناسقه وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها،
(3/1784)
وفي النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية، وفي تصوير طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة الكون.. لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله. القدرة التي تحيط بالأوائل والأواخر، وبالظواهر والسرائر، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص ومن آثار الجهل والعجز..
«وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..
ما كان من شأنه أصلاً أن يفترى. فليس الافتراء هو المنفي، ولكن جواز وجوده هو المنفي. وهو أبلغ في النفي وأبعد.
«وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» ..
من الكتب التي سبق بها الرسل. تصديقها في أصل العقيدة، وفي الدعوة إلى الخير.
«وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ» .. الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من عند الله، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته..
وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به، ووسائل تحقيقه وصيانته: فالعقيدة في الله واحدة، والدعوة إلى الخير واحدة. ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل، يناسب نمو البشرية وقتها، وتطورات البشرية بعدها، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير.
«لا رَيْبَ فِيهِ، مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره: «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟» .
بعد هذا النفي والتقرير، فهو إذن من صنع محمد. ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون. (ألف. لام. ميم) .. (ألف. لام. را.) .. (ألف. لام. ميم. صاد) ...
الخ. فدونهم إذن- ومعهم من يستطيعون جمعهم- فليفتروا، كما افترى (بزعمهم) محمد. فليفتروا سورة واحدة لا قرآناً كاملاً:
«قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
وقد ثبت هذا التحدي وثبت العجز عنه. وما يزال ثابتاً ولن يزال. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان. وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة.. كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد او في جميع الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه..
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها..
والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء
(3/1785)
القرآني من إعجاز في هذا الجانب. والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً.
ومع تقدير العجز سلفاً عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري.
ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز- في حدود الطاقة البشرية- هو موضوع كتاب مستقل.
فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا..
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري.. إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري حتى ليبلغ أحياناً أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً.. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول- وإن لم تكن هي القاعدة- ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل..
ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ولكني أذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً.. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم- أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة وحاول أن يزاول تبشيره معنا! .. وقد يسر لنا قائد السفينة- وكان إنجليزياً- أن نقيم صلاتنا وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها- وكلهم نوبيون مسلمون- أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.. وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة والركاب الأجانب- معظمهم- متحلقون يرقبون صلاتنا! .. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدَّاس» !!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد- عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول: - في إنجليزية ضعيفة- إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! .. وليس هذا موضع الشاهد في القصة.. ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي كان يتحدث بها «قسيسكم» ! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلا قسيس- أو رجل دين- كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! .. وأجبناها:
فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً.. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه- بهذه اللغة الموسيقية- فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعاً.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة! إنها شيء آخر! كما لو كان- الإمام- مملوءاً من الروح القدس! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! - وتفكرنا قليلاً. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت- مع ذلك- مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما تقول شيئاً! وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة- ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد- ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرّاً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته. وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب.. ولكن
(3/1786)
ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه- وسره هذا- وهم لا يفترقون كثيراً من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافيةّ!!! ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب. قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير. ومن يزاولون التفكير والشعور! إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضاً! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو. ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجوز الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال. ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال. ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعاً «1» .
وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني.. هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى ويبدو في كل مرة أصيلاً في الموضع الذي استشهد به فيه وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها (ولو راجع القارئ المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماماً. وليس هذا إلا مثالاً) .
وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضراً، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر ولا يملك الأداء البشري تقليدها. لأنه يبدو في هذه الحالة مضطرباً غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلاً في مثل هذه المواضع:
«وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده- بغياً وعدواً- حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين.. (وإلى هنا هي قصة تحكى) .. ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر.. «آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية» .. ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر: «وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون» ..
«قل: أي شيء أكبر شهادة. قل الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ» ..
وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى.. ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟» وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه- وأجابوه! -: «قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون» ..
وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات: «ويوم يحشرهم جميعاً.. يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس.. وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا.
__________
(1) عقدت لهذا الموضوع فصولا كاملة في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق» .
(3/1787)
قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم.. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.. يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ .. قالوا: شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين..
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون» .
وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماماً من الأسلوب البشري. وإلا فمن شاء أن يماري، فليحاول أن يعبر على هذا النحو، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم فضلاً على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل! هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعاً. ويبقى الإعجاز الموضوعي والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه.
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة.
وحسها المتوفز مرة. ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها.. وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الدقة وهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضاً! وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور ومقوماته» تعين على توضيح هذه الحقيقة وهي تتحدث عن «المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي» في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض:
أنه يمتاز عن كل المناهج:
أولاً: بكونه يعرض الحقيقة- كما هي في عالم الواقع- في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها.. وهو- مع هذا الشمول- لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها «1» .. ولم يشأ الله- سبحانه- رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها، متوقفاً على سابق علم لهم.. إطلاقاً.. لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة.. لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفاً على علم سابق. ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم- بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم- كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن. ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه- عن غير هذا المصدر- هو معرفة- «ظنية» ونتائج «محتملة» لا «قطعية» حتى ذلك «العلم التجريبي» . فطريق العلم التجريبي هو القياس- لا الاستقراء والاستقصاء- فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة. هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر! إنما قصارى «العلم» أن يقوم بعدد من التجارب،
__________
(1) ولا يملك الأداء البشري هذا، فكل كاتب يخاطب مستوى معينا، ولا يكاد غيره يفهم عنه!
(3/1788)
ثم يقيس على نتائجها. والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية (وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة، تقوم على ترجيح أحد «الاحتمالات» لا على القطع الحتمي) .. فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين «1» .
ثانياً: بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات «العلمية» والتأملات «الفلسفية» والومضات «الفنية» جميعاً. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب (الكل) الجميل المتناسق بحديث مستقل.
كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب. وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا بالآخرة. وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى.. في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده لأن الأسلوب البشري عند ما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة، كما تبدو في المنهج القرآني! «وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع. ولكن هذا الترابط يبدو دائما. فعند ما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلاً على تعريف الناس بربهم الحق، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان. في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء.. وعند ما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون، تتجلى العلاقة بين «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الكون» ، ويتطرق السياق كثيراً إلى حقيقة الحياة والأحياء، وإلى سنن الله في الكون والحياة.. وعند ما يكون التركيز على «حقيقة الإنسان» يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء.. وعند ما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى.. وكذلك عند ما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا.. إلى آخر هذا النسق من العرض، الواضح الملامح في القرآن.
ثالثاً: بكونه- مع تماسك جوانب «الحقيقة» وتناسقها- يحافظ تماماً على إعطاء كل جانب من جوانبها- في الكل المتناسق- مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله- وهو الميزان- ومن ثم تبدو «حقيقة الألوهية» وخصائصها، وقضية «الألوهية والعبودية» بارزة مسيطرة محيطة شاملة حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي «2» .. وتشغل حقيقة عالم الغيب- بما فيه القدر والدار الآخرة- مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع.. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق.. وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته- كما بينا في فصل «التوازن» في القسم الأول «3» - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه
__________
(1) من أجل ذلك تتلقى الكينونة البشرية هذا الحق، وتحس له سلطانا ليس لغيره من كل ما تتلقاه من أي مصدر آخر.. وهذا أحد أسرار القرآن المعجزة من الناحية الموضوعية.
(2) وقد بينا من قبل في تفسير السورة سر هذه العناية الإلهية بتحقيق هذه الحقيقة وتجلية هذه القضية. راجع من ص 1752 إلى ص 1755 من هذا الجزء.
(3) يراجع القسم الأول من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» ص 134- ص 170. «دار الشروق» .
(3/1789)
وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه- كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديماً وحديثاً! - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها- كأصحاب المذهب الحيوي! - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنه في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون، إلى تأليه الإنسان- أو العقل- في صورة من الصور- كالمثاليين في عمومهم! - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني- كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة-.. كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد! وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني! رابعاً: بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية- مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة! «ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئاً مما يبلغه القرآن في هذا الشأن.. وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن، بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك.
ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته» ... انتهت المقتطفات..
والقرآن يقدم حقائق العقيدة- إحياناً- في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو.
من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته..
«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
فهذه المطارح المترامية، الخفية والظاهرة، ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو وهو في معرض تصوير شمول العلم مهما أراد تصوير هذا الشمول. ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته.. وذلك كما قلنا في تفسير هذه الآية من قبل في الجزء السابع:
«ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر..
إن الفكر البشري- حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع- موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق..
إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته.. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض.
(3/1790)
ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه، ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق! «وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق: «ولا رطب ولا يابس» . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم.. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! «ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ فما شأنهم بهذا؟ وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب..
«إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع.. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً، والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً.. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري وكذلك لا تلحظه العين البشرية ولا تلم به النظرة البشرية.. إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده، المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء، الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب..
«والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري وحدود التعبير البشري أيضاً. ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً.. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً! «وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم..
«كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق: «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» .. آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق. في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان.
«ويعلم ما في البر والبحر» .. آماد وآفاق وآغوار في «المنظور» على استواء وسعة وشمول.. تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.
«وما تسقط من ورقة إلا يعلمها» .. حركة الموت والفناء وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.
«ولا حبة في ظلمات الأرض» .. حركة البزوغ والنماء، المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.
«وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» . التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت. والأزدهار والذبول، في كل حي على الإطلاق..
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ من ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ .. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير.. من؟ إلا الله؟!
(3/1791)
كذلك هذا النص الآخر عن شمول علم الله:
«يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، وهو الرحيم الغفور» ..
ويقف الإنسان أمام هذه الصفحة المعروضة في كلمات قليلة فإذا هو أمام حشد هائل عجيب من الأشياء، والحركات، والأحجام، والأشكال، والصور، والمعاني، والهيئات، لا يصمد لها الخيال! ولو أن أهل الأرض جميعاً وقفوا حياتهم كلها يتتبعون ويحصون ما يقع في لحظة واحدة، مما تشير إليه الآية لأعجزهم تتبعه وإحصاؤه عن يقين! فكم من شيء في هذه اللحظة الواحدة يلج في الأرض؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يخرج منها؟ وكم من شيء في هذه اللحظة ينزل من السماء؟ وكم من شيء في هذه اللحظة يعرج فيها؟
كم من شيء يلج في الأرض؟ كم من حبة تختبئ أو تخبأ في جنبات هذه الأرض؟ كم من دودة ومن حشرة ومن هامة ومن زاحفة تلج في الأرض في أقطارها المترامية؟ كم من قطرة ماء ومن ذرة غاز، ومن إشعاع كهرباء تندس في الأرض في أرجائها الفسيحة؟ وكم وكم مما يلج في الأرض، وعين الله عليه ساهرة لا تنام؟! وكم يخرج منها؟ كم من نبتة تنبثق؟ وكم من نبع يفور؟ وكم من بركان يتفجر؟ وكم من غاز يتصاعد؟
وكم من مستور يتكشف؟ وكم من حشرة تخرج من بيتها المستور؟ وكم وكم مما يرى ومما لا يرى، ومما يعلم البشر ومما يجهلونه وهو كثير؟؟
وكم مما ينزل من السماء؟ كم من نقطة مطر؟ وكم من شهاب ثاقب؟ وكم من شعاع محرق؟ وكم من شعاع منير؟ وكم من قضاء نافذ ومن قدر مقدور؟ وكم من رحمة تشمل الوجود وتخص بعض العبيد؟ وكم من رزق يبسطه الله لمن يشاء من عباده ويقدر؟ .. وكم وكم مما لا يحصيه إلا الله؟
وكم مما يعرج فيها؟ كم من نفس صاعد من نبات أو حيوان أو إنسان أو خلق آخر مما لا يعرفه الإنسان؟
وكم من دعوة إلى الله معلنة أو مستسرة لم يسمعها إلا الله في علاه؟
وكم من روح من أرواح الخلائق التي نعلمها أو نجهلها متوفاة؟ وكم من ملك يعرج بأمر من روح الله؟
وكم من روح يرف في هذا الملكوت لا يعلمه إلا الله؟
ثم كم من قطرة بخار صاعدة من بحر، ومن ذرة غاز صاعدة من جسم؟ وكم وكم مما لا يعلمه سواه؟! كم في لحظة واحدة؟ وأين يذهب علم البشر وإحصاؤهم لما في اللحظة الواحدة ولو قضوا الأعمار الطوال في العد والإحصاء؟ وعلم الله الكامل الهائل اللطيف العميق يحيط بهذا كله في كل مكان وفي كل زمان..
وكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وماله من حركات وسكنات تحت عين الله، وهو مع هذا يستر ويغفر..
«وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» ..
وإن آية واحدة من القرآن كهذه الآية لمما يوحي بأن هذا القرآن ليس من قول البشر. فمثل هذا الخاطر الكوني لا يخطر بطبيعته على قلب بشر. ومثل هذا التصور الكوني لا دافع إليه من طبيعة تصور البشر، ومثل هذه الإحاطة باللمسة الواحدة تتجلى فيها صنعة الله بارئ هذا الوجود التي لا تشبهها صنعة العبيد! كذلك يبدو الطابع الإلهي في هذا القرآن في طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تناسب الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه.. كما يبدو في قوله تعالى:
«نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ! أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟ نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ
(3/1792)
الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ!
«أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ! «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ. «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود، كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير، وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها، ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها! إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم.. إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد.. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصوراً للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة.
إن أنفسهم من صنع الله وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته. والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده.
وهذا القرآن قرآنه. ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم، والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها، فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم والذي يحمل دلائل الإيمان وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.
وعلى هذا المنهج يسير، وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي يوقدون- وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم- كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر.
اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال! حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات.
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره.. إنه المصدر الذي صدر منه الكون.
فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق.. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة.. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها والخلية على ضآلتها آية في ذاتها.. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني.. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل. الزرع. والماء. والنار.
والموت.. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد
(3/1793)
نشأة حياة جنينية، ونشأة حياة نباتية. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ .. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة.. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان.
ولسنا نملك المضي أبعد من هذا في بيان طبيعة «هذا القرآن» الدالة على مصدره. ففي هذا القدر كفاية لنعود إلى سياق السورة..
وصدق الله العظيم:
«وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ... » .
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
ويضرب السياق عن المضي في الجدل بعد هذا التحدي، ليقرر أنهم لا يتبعون إلا الظن، فهم يحكمون على ما لم يعلموه. والحكم يجب أن يسبقه العلم، وألا يعتمد على مجرد الهوى أو مجرد الظن. والذي حكموا عليه هنا هو الوحي بالقرآن وصدق ما فيه من الوعد والوعيد. لقد كذبوا بهذا وليس لديهم من علم يقوم عليه التكذيب، ولما يأتهم تأويله الواقعي بوقوعه:
«بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» ..
شأنهم في هذا شأن المكذبين من قبلهم، الظالمين المشركين بربهم. فليتأمل المتأمل كيف كان مصير الأولين ليعرف حقيقة مصير الآخرين:
«كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» ..
وإذا كان أكثرهم لا يتبعون إلا الظن، ويكذبون بما لم يحصل لهم عنه علم، فإن هناك منهم من يؤمن بهذا الكتاب، فليسوا جميعهم من المكذبين:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» ..
والمفسدون هم الذين لا يؤمنون. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع بضلال الناس عن الإيمان بربهم والعبودية له وحده. وما نجم الفساد في الأرض إلا من الدينونة لغير الله، وما يتبع هذا من شر في حياة الناس في كل اتجاه. شر اتباع الهوى في النفس والغير وشر قيام أرباب أرضية تفسد كل شيء لتستبقي ربوبيتها المزيفة..
تفسد أخلاق الناس وأرواحهم وأفكارهم وتصوراتهم.. ثم تفسد مصالحهم وأموالهم. في سبيل بقائها المصطنع الزائف. وتاريخ الجاهلية في القديم والحديث فائض بهذا الفساد الذي ينشئه المفسدون الذين لا يؤمنون.
ويعقب على تقرير مواقفهم من هذا الكتاب بتوجيه الخطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم- بألا يتأثر بتكذيب المكذبين، وأن ينفض يديه منهم، ويعلنهم ببراءته من عملهم، ويفاصلهم على ما معه من الحق في وضوح وفي حسم وفي يقين:
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .
وهي لمسة لوجدانهم، باعتزالهم وأعمالهم، وتركهم لمصيرهم منفردين، بعد بيان ذلك المصير المخيف.
وذلك كما تترك طفلك المعاند الذي يأبى أن يسير معك، في وسط الطريق وحده يواجه مصيره فريداً لا يجد منك سنداً. وكثيراً ما يفلح هذا الأسلوب من التهديد!
(3/1794)
ويمضي السياق يستعرض حال بعضهم من الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهم يستمعون إليه بآذانهم وقلوبهم مغلقة. وينظرون إليه بعيونهم وبصيرتهم مطموسة، فلا يئوبون من السمع والنظر بشيء، ولا يهتدون إلى الطريق:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟» .
إن هؤلاء الخلائق الذين يستمعون ولا يعقلون ما سمعوا، وينظرون ولا يميزون ما نظروا.. إن هؤلاء لكثير، في كل زمان وفي كل مكان. والرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يملك لهم شيئاً. لأن حواسهم وجوارحهم مطموسة الاتصال بعقولهم وقلوبهم، فكأنها معطلة لا تؤدي حقيقة وظيفتها. والرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يسمع الصم، ولا يبصر العمي. فذلك من شأن الله وحده عز وجل. والله سن سنة وترك الخلق لمقتضى السنة. وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول ليهتدوا بها فإذا هم عطلوها حقت عليهم سنته التي لا تتخلف ولا تحابي، ولقوا جزاءهم عدلاً، ولم يظلمهم الله شيئاً:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
وفي هذه الآيات الأخيرة تسرية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما يجده في نفسه من ضيق بهذا التكذيب لما معه من الحق، وبهذا العناد الصفيق بعد تكرار البيان والإعلام. وذلك بما يقرره له ربه من أن إباءهم الهدى لم يكن عن تقصير منه في الجهد. ولا قصور فيما معه من الحق. ولكن هؤلاء كالصم العمي.
وما يفتح الآذان والعيون إلا الله. فهو شأن خارج عن طبيعة الدعوة والداعية داخل في اختصاص الله.
وفيها كذلك تحديد حاسم لطبيعة العبودية ومجالها- حتى ولو تمثلت في شخص رسول الله. فهو عبد من عباد الله لا قدرة له خارج مجال العبودية. والأمر كله لله.
بعد ذلك يلمس وجدانهم لمسة خاطفة بمشهد من مشاهد القيامة، تبدو فيه الحياة الدنيا التي تزحم حسهم، وتشغل نفوسهم، وتأكل اهتماماتهم.. رحلة سريعة، قضاها الناس هناك، ثم عادوا إلى مقرهم الدائم ودارهم الأصيلة.
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة، شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار.
أو هذا مجرد تشبيه لهذه الحياة الدنيا، وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا، كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف؟
إنه لتشبيه، ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف؟ إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى. ثم يذهبون.
وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة
(3/1795)
ما يقع ... هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون؟
وهذه الشعوب المتناحرة، والدول المتخاصمة- لا تتخاصم على حق عام، ولا على منهج سليم، إنما تتعارك على الحطام والأعراض- هذه. هل عرف بعضها بعضاً؟ وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام.
إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا. ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة.. ثم يرحلون! وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا بلقاء الله، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة- بل تلك الومضة- فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية:
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في شأن وعيد الله للمكذبين ذلك الوعيد الغامض، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غداً، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين، ليبقى مصلتاً فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون.. وشيئاً فشيئاً تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحداً.. وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة، في كلمات ولحظات، في تصوير حي يلمس القلوب، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح:
«وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ. أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغه لهم، في حياته أو بعد وفاته. فالمرجع إلى الله في الحالين. وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة، وفي غيبته بالوفاة. فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مما يوعدون.
«وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ» .. فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير، لا يخرم منها حرف، ولا يتغير بالطوارئ والظروف. ولكن كل قوم يُنظرون حتى يجيء رسولهم، فينذرهم ويبين لهم، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوماً إلا بعد الرسالة، وبعد الإعذار لهم بالتبيين. وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول:
(3/1796)
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة، وفي صور شتى متنوعة..
إنه يقال للرسول- صلى الله عليه وسلم- إن أمر هذه العقيدة، وأمر القوم الذين يخاطبون بها كله لله، وأن ليس لك من الأمر شيء. دورك فيها هو البلاغ، أما ما وراء ذلك فكله لله. وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك، فليس حتماً على الله أن يريك عاقبتهم، وما ينزله بهم من جزاء.. هذا له وحده سبحانه! أما أنت- وكل رسول- فعليك البلاغ.. ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله.. ذلك كي يعلم العبيد مجالهم، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة، ومهما تعرضوا فيها للعذاب!! «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» ..
وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال، طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي- صلى الله عليه وسلم- من قضاء الله فيهم، كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت، فأخذ الله المكذبين: والجواب:
«قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
وإذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (وقد قدم ذكر الضر هنا، وإن كان مأموراً أن يتحدث عن نفسه، لأنهم هم يستعجلون الضر، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء) .
«قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً.. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ..» .
فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة الله لا تتخلف، وأجله الذي أجله لا يستعجل:
«لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم، إما لفترة تعود بعدها للحياة، وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.. وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل، لا مصادفة ولا جزافاً ولا ظلماً ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله..
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي، إلى موقف المهدَّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار:
«قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟» ..
فهذا العذاب المغيب الذي لا يُعلم موقعه وموعده والذي قد يحل بياتاً وأنتم نيام، أو نهاراً وأنتم أيقاظ،
(3/1797)
لا يجديكم في رده الصحو.. ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال.
وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلاً.. وهو لم يقع بعد.. ولكن التصور القرآني يرسمه واقعاً، ويغمر به المشاعر، ويلمس به الوجدان:
«أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» .
فكأنما قد وقع. وكأنما قد آمنوا به، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن! وتتمة المشهد الحاضر:
«ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟» ..
وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب الله لرسوله عن هذا المصير!! وختام هذه الجولة، هو استنباء القوم للرسول: إن كان هذا الوعيد حقاً. فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين. والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين:
«وَيَسْتَنْبِئُونَكَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ..
«إِي وَرَبِّي» ..
الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثاً، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين..
«إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ..
ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم، وأن يجازيكم.
وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب. إذا نحن فجأة- مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور- في ساحة الحساب والجزاء. مبدئياً على وجه الفرض والتقدير.
«وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ» ..
فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها.
ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضى الأمر:
«وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» ..
أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم، والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه، دون أن تنطق الشفاه! «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضاً وانتهى واقعاً، على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير.
والتعقيب المؤكد للحشر والحساب، جولة أخرى مع القدرة في بعض مجاليها في السماء والأرض وفي الحياة والموت. جولة عابرة لتوكيد معنى القدرة الكفيلة بتحقق الوعد. ثم نداء عام للناس أجمعين للانتفاع بهذا القرآن الذي يحمل لهم الموعظة والهدى وشفاء الصدور.
(3/1798)
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
«أَلا ... » بهذا الإعلان المدوي. «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» . والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقاً فلا يعجزه عن تحقيقه معجز، ولا يعوقه عن تصديقه معوق:
«أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» .. «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون.
«هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ» ..
والذي يملك الحياة والموت، يملك الرجعة والحساب..
«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير.
ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعاً:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه. جاءتكم الموعظة «من ربكم» فليس هو كتاباً مفترى، وليس ما فيه من عند بشر. جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها، والشك الذي يسيطر عليها، والزيغ الذي يمرضها، والقلق الذي يحيرها. جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان. وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل، ورحمة من الضلال والعذاب:
«قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ...
فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان.. فبذلك وحده فليفرحوا.
فهذا هو الذي يستحق الفرح. لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبداً خاضعاً لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.
عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو: سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول: لما قدم خراج العراق إلى عمر- رضي الله عنه- خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول: الحمد لله تعالى. ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: «قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .
هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة. كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى. فأما المال، وأما الثراء، وأما النصر ذاته فهو تابع. لذلك كان النصر يأتيهم، وكان المال ينثال عليهم، وكان الثراء يطلبهم.. إن طريق هذه الأمة واضح. إنه في هذا الذي يسنه
(3/1799)
لها قرآنها، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها.. هذا هو الطريق.
إن الأرزاق المادية، والقيم المادية، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض.. في الحياة الدنيا فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى.. إن الأرزاق المادية، والتيسيرات المادية، والقيم المادية، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية- لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة- كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة! إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.
إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم. هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء. كما يجعلها سبباً للرقي الإنساني أو مزلقاً للارتكاس! ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا، فيقول عمر- رضي الله عنه- عن المال والأنعام: «ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: «قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
لقد كان عمر- رضي الله عنه- يفقه دينه. كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم: موعظة من ربهم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق! لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها.. وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان «1» .. بما فيها جاهلية القرن العشرين «2» .
إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد وتحريرهم من هذه العبودية، وتعبيدهم لله وحده، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم، ويرفع قيمهم، ويرفع أخلاقهم. ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية..
ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية، والتمكين المادي، تبعاً لهذا التحرر وهذا الانطلاق. كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة، وهي تكتسح الجاهليات حولها، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض، وتقود البشرية إلى الله، لتستمتع معها بفضل الله..
والذين يركزون على القيم المادية، وعلى الإنتاج المادي، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان.
وهم لا يطلقونها دعوة بريئة ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان- دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية- وتجعل لهم مطالب
__________
(1) يراجع فصل «نقلة بعيدة» في كتاب. «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(2) يراجع كتاب: «الإسلام والجاهلية» للسيد أبي الأعلى المودودي. وكتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق» .
(3/1800)
أساسية أخرى إلى جوار الطعام والمسكن والجنس التي يعيش في حدودها الحيوان! وهذا الصياح المستمر بتضخيم القيم المادية، والإنتاج المادي، بحيث يطغى الانشغال به على حياة الناس وتفكيرهم وتصوراتهم كلها.. وبحيث يتحول الناس إلى آلات تلهث وراء هذه القيمة، وتعدها قيمة الحياة الكبرى وتنسى في عاصفة الصياح المستمر.. الإنتاج.. الإنتاج.. كل القيم الروحية والأخلاقية وتدوس هذه القيم كلها في سبيل الإنتاج المادي.. هذا الصياح ليس بريئاً إنما هو خطة مدبرة لإقامة أصنام تعبد بدل أصنام الجاهلية الأولى وتكون لها السيادة العليا على القيم جميعاً! وعند ما يصبح الإنتاج المادي صنماً يكدح الناس حوله ويطوفون به في قداسة الأصنام فإن كل القيم والاعتبارات الأخرى تداس في سبيله وتنتهك.. الأخلاق. الأسرة. الأعراض. الحريات. الضمانات ...
كلها.. كلها إذا تعارضت مع توفير الإنتاج يجب أن تداس! فماذا تكون الأرباب والأصنام إن لم تكن هي هذه؟ إنه ليس من الحتم أن يكون الصنم حجراً أو خشباً. فقد يكون قيمة واعتبارا ولا فتة ولقباً! إن القيمة العليا يجب أن تبقى لفضل الله ورحمته المتمثلين في هداه الذي يشفي الصدور، ويحرر الرقاب، ويعلي من القيم الإنسانية في الإنسان. وفي ظل هذه القيمة العليا يمكن الانتفاع برزق الله الذي أعطاه للناس في الأرض وبالتصنيع الذي يوفر الإنتاج المادي وبالتيسيرات المادية التي تقلل من شدة الكدح وبسائر هذه القيم التي تدق الجاهلية حولها الطبول في الأرض! وبدون وجود تلك القيمة العليا وسيادتها تصبح الأرزاق والتيسيرات والإنتاج لعنة يشقى بها الناس لأنها يومئذ تستخدم في إعلاء القيم الحيوانية والآلية، على حساب القيم الإنسانية العلوية.
وصدق الله العظيم:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
وفي ظل هذا الحديث عن فضل الله ورحمته، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور، يتعرض السياق للجاهلية، وهي تزاول حياتها العملية، لا وفق ما جاء من عند الله ولكن وفق أهواء البشر، واعتدائهم على خصائص الله سبحانه، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم الله:
«قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا! قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» ..
قل: ماذا ترون في رزق الله الذي أنزله إليكم؟ - وكل ما جاء من عند الله في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى- ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه، فإذا أنتم- من عند أنفسكم ودون إذن من الله لكم- تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً. والتحريم والتحليل تشريع. والتشريع حاكمية. والحاكمية ربوبية، وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم:
«قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟» ..
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين.. ذلك أنها
(3/1801)
القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله. بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.
إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون الله هو الرب المعبود وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله.. ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض.. والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله- سبحانه- وبأنه الخالق الرازق- كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين!» . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله- كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين!» - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان. مهما اختلفت الأسماء واللافتات. فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان! ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون- كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم «المسلمين» - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله. أو كانوا يقولون عنه: شريعة الله! وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه الله.. وذلك في قوله تعالى: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ- بِزَعْمِهِمْ- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. فهم كانوا يقولون: إن الله يشاء هذا، ولا يشاء هذا.. افتراء على الله.. كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم «مسلمين» يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون: شريعة الله! والله يجبههم هنا بالافتراء، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه:
«وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟» ..
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعاً.. فما ظنهم يا ترى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة!! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية! «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» ..
والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره والنواميس التي تحكم هذه المصادر، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال.. وكله في الكون وفيهم من رزق الله..
والله ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ومشاعر واتجاهات والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه «1» .
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك.. فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه وإذا
__________
(1) يراجع فصل «شريعة كونية» في كتاب: «معالم في الطريق» كما يراجع فصل: «منهج متفرد» من كتاب: «هذا الدين» . [.....]
(3/1802)
هم يشركون به غيره.. ثم يشقون في النهاية بهذا كله.. يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور! وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة.. إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء..
إنه يدب في القلوب فعلاً دبيب الشفاء في الجسم المعلول! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب.
ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب. ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية. ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله، وإلى العدل في الجزاء، وإلى غلبة الخير، وإلى حسن المصير..
وإنها لعبارة تثير حشداً وراء حشد من المعاني والدلائل، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب! لا يشكرون.. والله هو المطلع على السرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه بأنهم في رعايته وولايته، لا يضرهم المكذبون، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون:
«وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق:
«وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه «1» ..»
شعور مطمئن ومخيف معاً، مؤنس ومرهب معاً.. وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه، شاهد أمره وحاضر شأنه. الله بكل عظمته، وبكل هيبته، وبكل جبروته، وبكل قوته.
الله خالق هذا الكون وهو عليه هين. ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان.. الله مع هذا المخلوق البشري.
الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها! إنه شعور رهيب. ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن. إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.. إن الله معها:
«وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ..»
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة..
«وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
__________
(1) تمضون فيه مشغولين به مسرعين فيه.
(3/1803)
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء- ومعها علم الله- ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله.. ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة، ويخشع القلب إجلالاً وتقوى، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله.
وفي ظل هذا الأنس، وفي طمأنينة هذا القرب.. يأتي الإعلان الجاهر:
«أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟
وهم أولياء الله، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
كيف يخافون وكيف يحزنون، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه؟ وعلام يحزنون ومم يخافون، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل- لا تبديل لكلمات الله-:
لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
..
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى. والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه.. هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله. لا كما يفهمه العوام، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء! وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو أولى الأولياء، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه:
«وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
ويفرد الله بالعزة هنا، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين- كما في الموضع الآخر- لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه. فيفرده بالعزة جميعاً- وهي أصلاً لله وحده، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه- ليجرد منها الناس جميعاً، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس. أما الرسول- صلى الله عليه وسلم- فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه. فلا يحزن لما يقولون. والله معه وهو السميع العليم. الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد. وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة، ومن عصاة وتقاة، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» ..
وهذه حكمة ذكر «من» هنا لا «ما» لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء.
فالسياق جار فيها مجراه.
«وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ» ..
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة:
«إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «1» .» ..
__________
(1) يخرصون: يحدسون ويخمنون، ظنا بلا علم ولا يقين.
(3/1804)
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
والمالك للحركة وللسكون، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون! ويبصرهم فيبصرون.. ممسك بمقاليد الحركة والسكون، قادر على الناس، قادر على حماية أوليائه من الناس. ورسوله- صلى الله عليه وسلم- في مقدمة أوليائه. ومن معه من المؤمنين..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
يسمعون فيتدبرون ما يسمعون.
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية. ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقه رداً. كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق. وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً.
فهذا الليل الذي يسكنون فيه، وهذا النهار الذي يبصرون به، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم. وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم- ولو لم يتعمقوا في البحث و «العلم» .
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية! وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم «العلوم الحديثة!» لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها. ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون. وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور الله في هذه الآفاق! والافتراء على الله بالشركاء يكون بنسبة ولد لله- سبحانه- وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله.
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:
«قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
وعقيدة أن لله- سبحانه- ولداً، عقيدة ساذجة، منشؤها قصور في التصور، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان لله.
فالبشر يموتون، والحياة باقية إلى أجل معلوم، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر، والولد وسيلة لهذا الامتداد.
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون. والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية، تؤدي دورها في عمارة الأرض- كما شاء الله- وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة.
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم، ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس. فهم في حاجة إلى التساند،
(3/1805)
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال.
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال ...
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض، حتى ينقضي الأجل، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية، فلا الحاجة إلى الامتداد، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة، ولا الحاجة إلى النصير، ولا الحاجة إلى المال. ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات الله تعالى..
ومن ثم تنتفي حكمة الولد، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها، يتحقق بالولد. وما قضت حكمة الله أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة. فهي تقتضي الولد اقتضاء.
وليست المسألة جزافاً.
ومن ثم كان الرد على فرية: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .. هو:
«سُبْحانَهُ! هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .
«سبحانه! ..» تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصوّر. «هو الغني» .. بكل معاني الغنى، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال. مما يقتضي وجود الولد.
والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية. «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» . فكل شيء ملكه. ولا حاجة به- سبحانه- لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد.
فالولد إذن عبث. تعالى الله سبحانه عن العبث! ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية، مما جد عند المتكلمين، وفي الفلسفات الأخرى. لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة. ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها! فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم، وحاجتهم إلى الولد، وتصورهم لهذه الحاجة، وانتفاء وجودها بالقياس إلى الله الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة.
ثم يجبههم بالواقع، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون. ويسمي البرهان سلطاناً، لأن البرهان قوة، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:
«إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا» ..
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون.
«أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق. فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على الله- سبحانه-! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة. فهو أولاً ينافي ما يستحقه الله من عباده من تنزيه وتعظيم، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين
(3/1806)
الخالق والمخلوق، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات. فكلها فرع من تصور هذه العلاقة. وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة! أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والبنوة، وحكاية الخطيئة، ومنها نشأت مسألة الاعتراف، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح (بزعمهم) .. إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة.
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي، ولكنه مسألة الحياة برمتها. وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه! إنما نشأ من هذه الحلقة. حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه. وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء.
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام.. الله خالق أزلي باق، لا يحتاج إلى الولد. والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء. وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي. فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز، ومن حاد عنها ضل وخسر..
الناس في هذا كلهم سواء. وكلهم مرجعهم إلى الله. وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء. وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. ولكل نفس ما عملت. ولا يظلم ربك أحداً.
عقيدة بسيطة واضحة، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات، ولا في سحب وضباب! ومن ثم يقف الجميع سواء أمام الله وكلهم مخاطب بالشريعة، وكلهم مكلف بها، وكلهم حفيظ عليها.
وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين الله.
«قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» ..
لا يفلحون أي فلاح. لا يفلحون في شِعب ولا طريق. لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى. والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع، وتنمية الحياة، ودفعها إلى الإمام. وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية. فذلك فلاح ظاهري موقوت، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال.
«مَتاعٌ فِي الدُّنْيا. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
مجرد متاع واط. وهو متاع قصير الأمد. وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة. إنما يعقبه «العذاب الشديد» ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان.
(3/1807)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 103]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
(3/1808)
سبقت الإشارة في هذه السورة إلى القرون الخالية، وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم، واستخلاف من بعدهم لاختبارهم: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..
(3/1809)
كما سبقت الإشارة بأن لكل أمة رسولاً فإذا جاءهم رسولهم قضي بينهم بالقسط: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
فالآن يأخذ السياق في جولة تفصيلية لهاتين الإشارتين، فيسوق طرفاً من قصة نوح مع قومه، وطرفاً من قصة موسى مع فرعون وملئه، تتحقق فيهما عاقبة التكذيب، والقضاء في أمر الأمة بعد مجيء رسولها، وإبلاغها رسالته، وتحذيرها عاقبة المخالفة.
كذلك تجيء إشارة عابرة لقصة يونس الذي آمنت قريته بعد أن كاد يحل بها العذاب، فرفع عنها ونجت منه بالإيمان.. وهي لمسة من ناحية أخرى تزين الإيمان للمكذبين، لعلهم يتقون العذاب الذي ينذرون.
ولا تكون عاقبتهم كعاقبة قوم نوح وقوم موسى المهلكين.
وقد انتهى الدرس الماضي بتكليف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن عاقبة الذين يفترون على الله الكذب وينسبون إليه شركاء: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» . وذلك بعد تطمين الرسول: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» وبأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
واستمر السياق بتكليف جديد: أن يقص عليهم- صلى الله عليه وسلم- نبأ نوح فيما يختص بتحديه لقومه ثم ما كان من نجاته ومن آمنوا معه واستخلافهم في الأرض، وهلاك المكذبين وهم أقوى وأكثر عدداً.
والمناسبة ظاهرة لإيراد هذا القصص بالنسبة لسياق السورة، وبالنسبة لهذه المعاني القريبة قبلها. والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه ويتكرر في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق، والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع، وقد يعرض غيرها من القصة الواحدة في موضع آخر، لأن هذا الموضع تناسبه حلقة أخرى من القصة. وسنرى فيما يعرض من قصّي نوح وموسى ويونس هنا وفي طريقة العرض مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكة من النبي- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان. كما سنجد المناسبة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه «1» .
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح، هي الحلقة الأخيرة: حلقة التحدي الأخير، بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل. ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان، ولا التفصيلات في تلك الحلقة، لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة بالله وحده، ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة.
ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة، لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع.
__________
(1) يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» لدراسة هذه القاعدة بالتفصيل. «دار الشروق» .
(3/1810)
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ. ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ..
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم وتذكيري لكم بآيات الله. فأنتم وما تريدون. وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على الله:
«فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» ..
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء.
«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» ..
وتدبروا مصادر أمركم وموارده، وخذوا أهبتكم متضامنين:
«ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» ..
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم، وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض، ولا تردد فيه ولا رجعة.
«ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ..
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم، بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه..
«وَلا تُنْظِرُونِ» ..
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد، فكل استعدادي، هو اعتمادي على الله وحده دون سواه.
إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً؟
كان معه الإيمان.. القوة التي تتصاغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير.
وكان وراءه الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان بالله وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه. فليس هذا التحدي غروراً، وليس كذلك تهوراً، وليس انتحاراً. إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.
وأصحاب الدعوة إلى الله لهم أسوة حسنة في رسل الله.. وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض.
وإن لهم أن يتوكلوا على الله وحده في وجه الطاغوت أياً كان! ولن يضرهم الطاغوت إلاَّ أذى- ابتلاء من الله لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه. ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف. ثم تعود الكرة للمؤمنين. ويحق وعد الله لهم بالنصر والتمكين.
والله سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح.
فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب، «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
(3/1811)
فإن أعرضتم عني وابتعدتم، فأنتم وشأنكم، فما كنت أسألكم أجراً على الهداية، فينقص أجري بتوليكم:
«إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» ..
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها لله:
«وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
وأنا عند ما أمرت به.. من المسلمين..
فماذا كان؟
«فَكَذَّبُوهُ. فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» ..
هكذا باختصار. نجاته هو ومن معه في الفلك- وهم المؤمنون. واستخلافهم في الأرض على قلتهم. وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
لينظر من ينظر «عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين.
ويعجل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه، لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة. فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة، بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار واستخلافها في الأرض، تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها، وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان.
هذه سنة الله في الأرض. وهذا وعده لأوليائه فيها.. فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة، فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق، وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين، وألا تستعجل وعد الله حتى يجيء وهي ماضية في الطريق.. والله لا يخدع أولياءه- سبحانه- ولا يعجز عن نصرهم بقوته، ولا يسلمهم كذلك لأعدائه.. ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم- في الابتلاء- بزاد الطريق «1» ..
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» ..
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات. والنص يقول: إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل..
وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون. فلم تحولهم الآيات عن عنادهم.
كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم، لأنهم ذوو طبيعة واحدة. فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف! فهم منهم، طبيعتهم واحدة، وموقفهم تجاه البينات واحد. لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتدبرونها بعقولهم. وهم معتدون متجاوزون
__________
(1) يراجع فصل: «هذا هو الطريق» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(3/1812)
حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى، ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها الله لهم ليتدبروا بها ويتبينوا. وبمثل هذا التعطيل، تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:
«كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» ..
حسب سنة الله القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر، فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال.. لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء. فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال.
فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده، على نطاق أوسع مما في قصة نوح، ملماً بالمواقف ذات الشبة بموقف المشركين في مكة من الرسول- صلى الله عليه وسلم- وموقف القلة المؤمنة التي معه.
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى، مقسمة إلى خمسة مواقف، يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به.. وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو:
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا، فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ، أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ. قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ؟ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» ..
والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف. ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها، والإجمال في هذا الموضع يغني. والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله:
«فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» .
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا» ..
بهذا التحديد.. «مِنْ عِنْدِنا» .. ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند الله:
«قالُوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» ..
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل.. «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور! فهكذا قال مشركو قريش، كما حكي عنهم في مطلع السورة، على تباعد الزمان والمكان، وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن! «قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ. أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» ..
وقد حذف من استنكار موسى الأول ما دل عليه الثاني. فكأنه قال لهم: أتقولون للحق لما جاءكم: هذا سحر؟ أسحر هذا؟ وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر، وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر. فالسحر لا يستهدف هداية الناس، ولا يتضمن عقيدة، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ولا يتضمن منهاجاً تنظيمياً للحياة. فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس.
وما كان الساحرون ليؤدوا عملاً يستهدف مثل هذه الأغراض، ويحقق مثل هذا الاتجاه وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف.
(3/1813)
وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله:
«قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ؟ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» ..
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي. وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات، وانتحال شتى المعاذير، ورمي الدعاة بأشنع التهم، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هي «الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف، وبكل ما فيها من فساد، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات. لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة، واستنارة العقول بالنور الجديد، خطر على القيم الموروثة، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند. إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون الله.. ودعوة الإسلام- على أيدي الرسل جميعاً- إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده للعالمين وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها، وتزاولها في حياة الناس. وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير. ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية الله وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد..
ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم، والانقلاب على سلطانهم، والانقضاض على ملكهم، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان! إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى الله رب العالمين! وما كان رجال من أذكياء قريش مثلا ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- من صدق وسمو، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد. ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد. كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض، فقالوا متبجحين:
«وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» ! وتعلق فرعون وملؤه بحكاية السحر، وأرادوا- في أغلب الظن- أن يغرقوا الجماهير بها، بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحراً ماهراً. وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معتقداتهم الموروثة، وعلى سلطانهم في الأرض، وهو الأساس.. ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة، بعد ما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه:
«وَقالَ فِرْعَوْنُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة، لأن نهايته هي المقصودة. وفي قولة موسى: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» ..
رد على تهمة السحر التي وجهت إليه. فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء، لأنه ليس أكثر من تخييل
(3/1814)
وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول، لا تصحبه دعوة، ولا تقوم عليه حركة. فهذا هو السحر لا آيات الله التي جاءهم بها حقاً من عند الله.. وفي قوله:
«إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ» ..
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه، المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح:
«إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ» ..
الذين يضللون الناس بالسحر، أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال:
«وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» ..
كلماته التكوينية «كُنْ فَيَكُونُ» ..
وهي تعبير عن توجه المشيئة. أو كلماته التي هي آياته وبيناته:
«وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة الله، ولا تقف دون آياته.
وقد كان.. وبطل السحر وعلا الحق.. ولكن السياق يختصر المشاهد هنا لأنها ليست مقصودة في هذا المجال.
ويسدل الستار هنا ليرفع على موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم!. وهذا إحدى عبر القصة المقصودة.
«فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَقالَ مُوسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي. وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع موسى، خوفاً من فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب السلطان، والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل. وقد كان فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت، كما كان مسرفاً في الطغيان، لا يقف عند حد، ولا يتحرج من إجراء قاس.
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف، ويطمئن القلوب، ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه:
«وَقالَ مُوسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» ..
فالتوكل على الله دلالة الإيمان ومقتضاه. وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت. وقد ذكر لهم موسى الإيمان والإسلام. وجعل التوكل على الله مقتضى هذا وذاك.. مقتضى الاعتقاد في الله، ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد..
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم:
«فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» ..
(3/1815)
ومن ثم توجهوا إلى الله بالدعاء:
«رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
والدعاء بألا يجعلهم الله فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم، فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين بالله دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون! ويكون هذا استدراجاً لهم من الله وفتنة ليلجوا في ضلالهم. فالمؤمنون يدعون الله أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين. والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:
«وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
ودعاؤهم الله ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين، وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين، لا ينافي الاتكال على الله والتقوِّي به. بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى الله. والمؤمن لا يتمنى البلاء، ولكن يثبت عند اللقاء.
وعقب هذا التميز، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى، وإيمان من آمن بموسى، أوحى الله إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر الله:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة- وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور.
واتجه موسى- عليه السلام- إلى ربه، وقد يئس من فرعون وملئه أن يكون فيهم خير، وأن تكون قد بقيت فيهم بقية، وأن يرجى لهم صلاح. اتجه إليه يدعو على فرعون وملئه، الذين يملكون المال والزينة، تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال، وإلى الضلال.. اتجه موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال، وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان. فاستجاب الله الدعاء:
(3/1816)
«وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما، فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
«رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» ..
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين. وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم. ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيراً من القلوب التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار، وأنها كذلك ليست شيئاً ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة. وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس. ويطلب لوقف هذا الإضلال، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء، أن يطمس الله على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها، بحيث لا ينتفع بها أصحابها. أما دعاؤه بأن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة. دعاء بأن يزيدها الله قسوة واستغلاقاً حتى يأتيهم العذاب، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان.
«قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» ..
كتبت لها الإجابة وقضي الأمر.
«فَاسْتَقِيما» ..
في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل:
«وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
فيخبطوا على غير علم، ويترددوا في الخطط والتدبيرات، ويقلقوا على المصير، ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل.
والمشهد التالي هو مشهد التنفيذ.
«وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
إنه الموقف الحاسم والمشهد الأخير في قصة التحدي والتكذيب. والسياق يعرضه مختصراً مجملاً، لأن الغرض من سياقة هذه الحلقة من القصة في هذه السورة هو بيان هذه الخاتمة. بيان رعاية الله وحمايته لأوليائه، وإنزال العذاب والهلاك بأعدائه، الذين يغفلون عن آياته الكونية وآياته مع رسله حتى تأخذهم الآية التي لا ينفع بعدها ندم ولا توبة. وهو مصداق ما سبق في السورة من وعيد للمكذبين في قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» ..
(3/1817)
فهنا يأتي القصص ليصدق ذلك الوعيد:
«وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» ..
بقيادتنا وهدايتنا ورعايتنا. ولهذا الإسناد في هذا الموضع دلالته..
«فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ» ..
لا اهتداء وإيماناً، ولا دفاعاً مشروعاً. ولكن:
«بَغْياً وَعَدْواً» ..
وتجاوزاً للحد وطغياناً..
ومن مشهد البغي والعدو مباشرة إلى مشهد الغرق في ومضة:
«حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ» ..
وعاين الموت، ولم يعد يملك نجاة..
«قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
لقد سقطت عن فرعون الباغي العادي المتجبر الطاغي.. كل أرديته التي تنفخ فيه فتظهره لقومه ولنفسه قوة هائلة مخيفة، ولقد تضاءل وتصاغر واستخذى. فهو لا يكتفي بأن يعلن إيمانه بأن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. فيزيد في استسلام..
«وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ..
المسلِّمينّ! «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟!» ..
آلآن حيث لا اختيار ولا فرار؟ آلآن وقد سبق العصيان والاستكبار؟ آلآن؟! «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» ..
لا تأكله الأسماك، ولا يذهب منكراً مع التيار لا يعرف للناس. ذلك ليدرك من وراءك من الجماهير كيف كان مصيرك:
«لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» ..
يتعظون بها ويعتبرون، ويرون عاقبة التصدي لقوة الله ووعيده بالتكذيب:
«وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
لا يوجهون إليها قلوبهم وعقولهم، ولا يتدبرونها في الآفاق وفي أنفسهم.
ويسدل الستار على المشهد النهائي في المأساة. مأساة البغي والفساد والتحدي والعصيان.. ويعقب السياق بلمحة سريعة عن مآل بني إسرائيل بعدها، تستغرق ما حدث في أجيال:
«وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
والمبوأ: مكان الإقامة الأمين. وإضافته إلى الصدق تزيده أماناً وثباتاً واستقراراً كثبات الصدق الذي
(3/1818)
لا يضطرب ولا يتزعزع اضطراب الكذب وتزعزع الافتراء. ولقد طاب المقام فترة لبني إسرائيل بعد تجارب طويلة، لا يذكرها السياق هنا لأنها ليست من مقاصده، وتمتعوا بطيبات من الرزق حلال، حتى فسقوا عن أمر الله فحرمت عليهم. والسياق لا يذكر هنا إلا اختلافهم بعد وفاق. اختلافهم في دينهم ودنياهم، لا على جهل ولكن بعد أن جاءهم العلم، وبسبب هذا العلم، واستخدامه في التأويلات الباطلة.
ولما كان المقام هنا مقام نصرة الإيمان وخذلان الطغيان، فإن السياق لا يطيل في عرض ما وقع بعد ذلك من بني إسرائيل، ولا يفصل خلافهم بعد ما جاءهم العلم. ولكن يطوي هذه الصفحة، ويكلها بما فيها لله في يوم القيامة:
«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
فيبقى للقصة جلالها، ويظل للمشهد الأخير تأثيره..
وهكذا ندرك لماذا يساق القصص القرآني، وكيف يساق في كل موضع من مواضعه. فليس هو مجرد حكايات تروى، ولكنه لمسات وإيحاءات مقدرة تقديراً.
بعد ذلك يجيء التعقيب على هذه الخاتمة لقصة موسى وقصة نوح من قبلها، يبدأ خطابا إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- تثبيتاً بما حدث للرسل قبله، وبياناً لعلة تكذيب قومه له، أن ليس ما ينقصهم هو الآيات والبينات، إنما هي سنة الله في المكذبين من قبلهم، وسنة الله في خلق الإنسان باستعداداته للخير والشر والهدى والضلال.. وفي الطريق يلم إلمامة سريعة بقصة يونس وإيمان قومه به بعد أن كاد العذاب ينزل بهم، فرد عنهم. لعل فيها حافزاً للمكذبين قبل فوات الأوان.. وينتهي بالخلاصة المستفادة من ذلك القصص كله.
أن سنة الله التي مضت في الأولين ماضيه في الآخرين: عذاب وهلاك للمكذبين. ونجاة وخلاص للرسل ومن معهم من المؤمنين. حقاً كتبه الله على نفسه. وجعله سنة ماضية لا تتخلف ولا تحيد:
94 «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ! وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ، فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل، وهم من أهل الكتاب، وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون، يقرأونها في كتابهم. فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- إن كان في شك مما أنزل إليه، من هذا القصص أو غيره، فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله. فلديهم عنه علم، مما يقرأون:
«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» .
(3/1819)
ولكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يكن في شك مما أنزل الله إليه. أو كما روي عنه- عليه الصلاة والسلام- «لا أشك ولا أسأل» . ففيم إذن هذا القول له أن يسأل إن كان في شك. والتعقيب عليه:
«لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» وفي هذا ما يكفيه لليقين؟
ولكن هذا التوجيه يشي بما كان وراءه من شدة الموقف وتأزمه في مكة بعد حادث الإسراء، وقد ارتد بعض من أسلموا لعدم تصديقه. وبعد موت خديجة وأبي طالب، واشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه وبعد تجمد الدعوة تقريباً في مكة بسبب موقف قريش العنيد.. وكل هذه ملابسات تلقي ظلالها على قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيسري عنه ربه بهذا التوكيد، بعد ذلك القصص الموحى..
ثم إنه تعريض بالشاكين الممترين المكذبين:
«وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» .
وهذا التعريض يترك الفرصة لمن يريد منهم أن يرجع ليرجع لأنه إذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- مأذوناً في أن يسأل إن كان في شك، ثم هو لا يسأل ولا يشك، فهو إذن على يقين مما جاء به أنه الحق.
وفي هذا إيحاء للآخرين ألا يترددوا، وألا يكونوا «مِنَ المُمْتَرِينَ» ..
ثم إنه المنهج الذي يضعه الله لهذه الأمة فيما لا تستوثق منه.. أن تسأل أهل الذكر.. ولو كان من أخص خصائص العقيدة لأن المسلم مكلف أن يستيقن من عقيدته وشريعته، وألا يعتمد على التقليد دون تثبت ويقين.
ثم أيكون هنالك تعارض بين إباحة هذا السؤال عند الشك وبين قوله: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» ؟ ..
ليس هنالك تعارض، لأن المنهي عنه هو الشك والبقاء على الشك بحيث يصبح صفة دائمة.. «مِنَ المُمْتَرِينَ» ..
ولا يتحرك صاحبها للوصول إلى يقين. وهي حالة رديئة لا تنتهي إلى معرفة، ولا تحفز إلى استفادة، ولا تئول إلى يقين.
وبعد فإذا كان ما جاء إلى الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه، فما تعليل إصرار قوم على التكذيب ولجاجهم فيه؟ تعليله أن كلمة الله وسنته قد اقتضت أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدي، ومن لا يفتح بصيرته على النور لا يراه، ومن يعطل مداركه لا ينتفع بوظيفتها، فتكون نهايته إلى الضلال، مهما تكن الآيات والبينات، لأنه لا يفيد شيئاً من الآيات والبينات. وعندئذ تكون كلمة الله وسنته قد حقت عليهم وتحققت فيهم:
«إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ..
فلا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنه لم يجئ عن اختيار. ولم تعد هنالك فرصة لتحقيق مدلوله في الحياة. ومنذ هنيهة كان أمامنا مشهد يصدق هذا. مشهد فرعون حين أدركه الغرق يقول: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. فيقال له: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟!» .
وعند هذا الموقف الذي تظهر فيه حتمية سنن الله العامة، وانتهاؤها إلى نهايتها المرسومة، متى تعرض الإنسان لها باختياره، تفتح نافذة مضيئة بآخر شعاع من أشعة الأمل في النجاة. ذلك أن يعود المكذبون عن تكذيبهم قبيل وقوع العذاب:
«فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها! إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» ..
وهو تحضيض ينسحب على الماضي، فيفيد أن مدلوله لم يقع.. «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ» من هذه القرى
(3/1820)
التي مر ذكرها. ولكن القرى لم تؤمن. إنما آمنت منها قلة، فكانت الصفة الغالبة هي صفة عدم الإيمان..
ذلك فيما عدا قرية واحدة- والقرية: القوم، والتسمية هكذا إيذان بأن الرسالات كانت في قرى الحضر ولم تكن في محلات البدو- ولا يفصل السياق هنا قصة يونس وقومه، إنما يشير إلى خاتمتها هذه الإشارة لأن الخاتمة وحدها هي المقصودة هنا. فلا نزيدها نحن تفصيلاً. وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف عنهم العذاب، وتركوا يتمتعون بالحياة إلى أجل. ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه.. حسبنا هذا لندرك أمرين هامين:
أولهما: الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا. وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق..
وثانيهما: أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب، وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى.
بل مضت ونفذت. لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء. فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول. فلا جبرية إذن في تصرفات الناس، ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها «1» .
ومن ثم ترد القاعدة الكلية في الكفر والإيمان:
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» ..
ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً. أو لجعل له استعداداً واحداً يقود جميع أفراده إلى الإيمان.
ولو شاء كذلك لأجبر الناس جميعاً وقهرهم عليه، حتى لا تكون لهم إرادة في اختياره.
ولكن حكمة الخالق التي قد ندرك بعض مراميها وقد لا ندرك، دون أن ينفي عدم إدراكنا لها وجودها.
هذه الحكمة اقتضت خلقة هذا الكائن البشري باستعداد للخير وللشر وللهدى والضلال. ومنحته القدرة على اختيار هذا الطريق أو ذاك. وقدرت أنه إذا أحسن استخدام مواهبه اللدنية من حواس ومشاعر ومدارك، ووجهها إلى إدراك دلائل الهدى في الكون والنفس وما يجيء به الرسل من آيات وبينات، فإنه يؤمن ويهتدي بهذا الإيمان إلى طريق الخلاص. وعلى العكس حين يعطل مواهبه ويغلق مداركه ويسترها عن دلائل الإيمان يقسو قلبه، ويستغلق عقله، وينتهي بذلك إلى التكذيب أو الجحود، فإلى ما قدره الله للمكذبين الجاحدين من جزاء..
فالإيمان إذن متروك للاختيار. لا يكره الرسول عليه أحداً. لأنه لا مجال للإكراه في مشاعر القلب وتوجهات الضمير:
«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» ..
وهو سؤال للأنكار، فإن هذا الإكراه لا يكون:
«وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» :
__________
(1) وقد جرينا على هذه القاعدة في تفسير آيات المشيئة، فلم تلتو علينا حتى الآن. وعلى الله التوفيق.
(3/1821)
وفق سنته الماضية التي بيناها. فلا تصل إلى الإيمان وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه. لا أنها تريد الإيمان وتسلك طريقه ثم تمنع عنه، فهذا ليس المقصود بالنص. بل المقصود أنها لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذن الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة العامة. وعندئذ يهديها الله ويقع لها الإيمان بإذنه. فلا شيء يتم وقوعه إلا بقدر خاص به. إنما الناس يسيرون في الطريق. فيقدر الله لهم عاقبة الطريق، ويوقعها بالفعل جزاء ما جاهدوا في الله ليهتدوا..
ويدل على هذا عقب الآية:
«وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» ..
فالذين عطلوا عقولهم عن التدبر، يجعل الرجس عليهم. والرجس أبشع الدنس الروحي، فهؤلاء ينالهم ذلك الرجس بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر، وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفران.
ويزيد الأمر إيضاحاً بأن الآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون لأنهم لا يتدبرونها وهي معروضة أمامهم في السماوات والأرض:
«قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وسواء كان عقب الآية استفهاماً أو تقريراً. فمؤداه واحد. فإن ما في السماوات والأرض حافل بالآيات ولكن الآيات والنذر لا تفيد الذين لا يؤمنون، لأنهم من قبل لم يلقوا بالا إليها، ولم يتدبروها..
وقبل أن نمضي إلى نهاية الشوط نقف لحظة أمام قوله تعالى:
«قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل.
ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون- حين تتفتح وتستيقظ- وتسمع منه الكثير! والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض، ويستلهم هذا الكون ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل.. وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون، ويسمون ذلك التجديف مذهباً «علمياً» يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه: «الاشتراكية العلمية» والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء! والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات وزاد من الاستجابات والتأثرات وزاد من سعة الشعور بالوجود وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.. وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله، وبجلال الله، وبتدبير الله، وبسلطان الله، وبحكمة الله، وعلم الله ...
ويمضي الزمن، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون، والأنس به، والتعرف عليه، والتجاوب معه، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه
(3/1822)
بالله.. وأَما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه! «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ! وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب، وتجمدت العقول، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه؟! «إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة..
تتجلى فيه بآثارها الفاعلة، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة.. إن هذا المنهج لا يجعل «وجود الله» سبحانه قضية يجادل عنها. فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري- من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء- بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله. إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية.
«والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري. فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» .. والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين، وإلى الاعتقاد بإله. بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد. ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه، فهذا مركوز في الفطرة. ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره. تعريفه بحقيقته وصفاته، لا تعريفه بوجوده وإثباته. ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته- وهي الربوبية والقوامة والحاكمية- والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها. وهذا التعطل لا يعالج- إذن- بالجدل. وليس هذا هو طريق العلاج! «إن هذا الكون، كون مؤمن مسلم، يعرف بارئه ويخضع له، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي- عدا بعض الأناسي! - و «الإنسان» يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام، وأصداء التسبيح والسجود. وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء، وتخضع في حركتها الطبيعة الفطرية للنواميس التي قدرها الله. فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية. ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه، لعلها تتحرك، وتأخذ في العمل من جديد «1» » .
ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني لعله ينبض ويتحرك، ويتلقى ويستجيب.
ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب- وأمثالهم- لا يتدبرون ولا يستجيبون.. فماذا ينتظرون؟
__________
(1) من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: القسم الثاني» .. «دار الشروق» .
(3/1823)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
إن سنة الله لا تتخلف، وعاقبة المكذبين معروفة، وليس لهم أن يتوقعوا من سنة الله أن تتخلف. وقد يُنظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال، ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال:
«فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ؟» .. «قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» ..
وهو التهديد الذي ينهي الجدل، ولكنه يخلع القلوب.
ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب:
«ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا. كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه: أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب..
هكذا كان- والقصص المروي في السورة شاهد- وهكذا يكون.. فليطمئن المؤمنون ...
[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 109]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
هذة خاتمة السورة، وخاتمة المطاف لتلك الجولات في شتى الآفاق، تلك الجولات التي نحس أننا عائدون منها بعد سياحات طويلة في آفاق الكون، وجوانب النفس، وعوالم الفكر والشعور والتأملات. عائدون منها في مثل الإجهاد من طول التطواف، وضخامة الجني، وامتلاء الوطاب! هذه خاتمة السورة التي تضمنت تلك الجولات حول العقيدة في مسائلها الرئيسية الكبيرة: توحيد الربوبية والقوامة والحاكمية، ونفي الشركاء والشفعاء، ورجعة الأمر كله إلى الله، وسننه المقدرة التي لا يملك أحد
(3/1824)
تحويلها ولا تبديلها. والوحي وصدقه، والحق الخالص الذي جاء به. والبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء..
هذه القواعد الرئيسية للعقيدة التي دار حولها سياق السورة كله، وسيقت القصص لإيضاحها، وضربت الأمثال لبيانها..
ها هي ذي كلها تلخص في هذه الخاتمة، ويكلف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها للناس إعلاناً عاماً، وأن يلقي إليهم بالكلمة الأخيرة الحاسمة: أنه ماض في خطته، مستقيم على طريقته، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
قل: يا أيها الناس جميعاً، وإن كان الذين يتلقون الخطاب إذ ذاك هم مشركي قريش، إن كنتم في شك من أن ديني الذي أدعوكم إليه هو الحق، فإن هذا لا يحولني عن يقيني، ولا يجعلني أعبد آلهتكم التي تعبدونها من دون الله..
«وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» ..
أعبد الله الذي يملك آجالكم وأعماركم. وإبراز هذه الصفة لله هنا له قيمته وله دلالته، فهو تذكير لهم بقهر الله فوقهم، وانتهاء آجالهم إليه، فهو أولى بالعبادة من تلك الآلهة التي لا تحيي ولا تميت..
«وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
فأنا عند الأمر لا أتعداه.
«وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
وهنا يتحول السياق من الحكاية إلى الأمر المباشر، كأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يتلقاه في مشهد حاضر للجميع. وهذا أقوى وأعمق تأثيراً. «أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» متوجهاً إليه خالصاً له، موقوفاً عليه «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» زيادة في توكيد معنى الاستقامة للدين، ولمعنى أن يكون من المؤمنين، عن طريق النهي المباشر عن الشرك بعد الأمر المباشر بالإيمان.
«وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ. فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» ..
لا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك من هؤلاء الشركاء والشفعاء، الذين يدعوهم المشركون لجلب النفع ودفع الضر. فإن فعلت فإنك إذن من هؤلاء المشركين! فميزان الله لا يحابي وعدله لا يلين..
«وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» ..
فالضر نتيجة لازمة لسنة الله الجارية حين يتعرض الإنسان لأسبابه، والخير كذلك..
فإن مسك الله بضر عن طريق جريان سنته فلن يكشفه عنك إنسان، إنما يكشف باتباع سنته، وترك الأسباب المؤدية إلى الضر إن كانت معلومة، أو الالتجاء إلى الله ليهديك إلى تركها إن كانت مجهولة. وإن أراد بك الخير ثمرة لعملك وفق سنته فلن يرد هذا الفضل عنك أحد من خلقه. فهذا الفضل يصيب من عباده من
(3/1825)
يتصلون بأسبابه وفق مشيئته العامة وسنته الماضية. «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الذي يغفر ما مضى متى وقعت التوبة، ويرحم عباده فيكفر عنهم سيئاتهم بتوبتهم وعملهم الصالح وعودتهم إلى الصراط المستقيم.
هذه خلاصة العقيدة كلها، مما تضمنته السورة، يكلف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلنهما للناس، ويوجه إليه الخطاب بها كأنما على مشهد منهم. وهم هم المقصودون بها. إنما هو أسلوب من التوجيه الموحي المؤثر في النفوس. ويقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بها في وجه القوة والكثرة ووجه الرواسب الجاهلية، ووجه التاريخ الموغل بالمشركين في الشرك.. يعلنها في قوة وفي صراحة وهو في عدد قليل من المؤمنين في مكة، والقوة الظاهرة كلها للمشركين..
ولكنها الدعوة وتكاليفها، والحق وما ينبغي له من قوة ومن يقين.
ومن ثم يكون الإعلان الأخير للناس:
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» .
فهو الإعلان الأخير، والكلمة الفاصلة، والمفاصلة الكاملة، ولكل أن يختار لنفسه. فهذا هو الحق قد جاءهم من ربهم.
«فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» ..
وليس الرسول موكلاً بالناس يسوقهم إلى الهدى سوقاً، إنما هو مبلغ، وهم موكولون إلى إرادتهم وإلى اختيارهم وإلى تبعاتهم، وإلى قدر الله بهم في النهاية.
والختام خطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- باتباع ما أمر به، والصبر على ما يلقاه حتى يحكم الله بما قدره وقضاه:
«وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» ..
وهو الختام المناسب الذي يلتقي مع مطلع السورة، ويتناسق مع محتوياتها بجملتها على طريقة القرآن في التصوير والتنسيق..
(3/1826)
من رسالة إلى دار الشروق ... محمد المعلم السلام عليكم ورحمة الله.... «وبعد» «فقد لمستم ولا شك في أثناء اضطلاعكم بمهمة النشر كيف استغلت ظروفنا السيئة من قبل بعض الناشرين الذين راحوا يطبعون كتبنا المرة تلو المرة كأنها ملك خاص بهم، غير مبالين بحقوق المؤلفين ولا بظروف الأزمة التي يخوضونها» .
«ولو أن هذا البعض كان يبغي نشر الدعوة وحده فما كان الأمر ليسوءنا علم الله. أما وهم يتّجرون بها، ويجعلونها مجالا للمضاربات والمنافسات، فقد كان الأمر في حاجة إلى مراجعة ترد الأمور إلى نصابها، وتحفظ للكتب مكانتها وللمؤلفين حقوقهم.
«لذلك رأيت- بالأصالة عن نفسي، ونيابة عن ورثة شقيقي الشهيد سيد قطب- أن أعهد إلى دار الشروق ببيروت في إعادة طبع جميع كتبنا، على أن تكون مطبوعاتكم منها هي وحدها المعتمدة للتوزيع والتداول.
«ولي كبير الرجاء أن تكون إعادة طبعها في الشروق العامرة مناسبة طيبة لمراجعة الكتب كلها، وإجراء ما قد يقتضيه الأمر من تعديلات بها، أو إبراز لمعان معينة فيها، مع إخراجها في ثوب جديد ملائم.
«وختاما أرجو للدار كل توفيق في حمل رسالة النشر، التي تكمل ولا شك رسالة الكلمة، وتحمل معها الأمانة أمام الله وأمام الناس» محمد قطب
(3/1827)
فهرس المجلد الثالث الجزء الثامن
(بقية سورة الأنعام من آية 111- 165. وسورة الأعراف من آية 1- 93) مقدمة الجزء الثامن 1179 الآيات من 111- 113 (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة 1185 الآيات من 114- 127 (أفغير الله أبتغي حكما 1191 الآيات من 128- 135 (ويوم يحشرهم جميعا 1205 الآيات من 136- 153 (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام 1212 الآيات من 154- 165 (ثم آتينا موسى الكتاب 1234 7- سورة الأعراف مكية وآياتها 206 مقدمة 1243 الآيات من 1- 9 (آلمص. كتاب أنزل إليك 1254 الآيات من 10- 25 (ولقد مكناكم في الأرض 1261 الآيات من 26- 34 (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً 1276 الآيات من 35- 53 (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم 1286 الآيات من 54- 58 (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض 1294 الآيات من 59- 93 (لقد أرسلنا نوحا 1300 الجزء التاسع (بقية سورة الأعراف من آية 94- 206. وسورة الأنفال من آية 1- 40) مقدمة الجزء التاسع 1327 الآيات من 94- 102 (وما أرسلنا في قرية من نبي 1335 الآيات من 103- 137 (ثم بعثنا من بعدهم موسى 1342 الآيات من 138- 171 (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر 1361 الآيات من 172- 198 (وإذ أخذ ربك من بني آدم 1389 الآيات من 199- 206 (خذ العفو وأمر بالعرف 1418 8- سورة الأنفال مدنية وآياتها 75 مقدمة 1429
(3/1828)
الآيات من 1- 29 (يسألونك عن الأنفال 1470 الآيات من 30- 40 (وإذ يمكر بك الذين كفروا 1499 الجزء العاشر (بقية سورة الأنفال من آية 41- 75. وسورة التوبة من آية 1- 92) مقدمة الجزء العاشر 1515 الآيات من 41- 54 (واعلموا أنما غنمتم من شيء 1516 الآيات من 55- 75 (إن شر الدواب عند الله 1536 9- سورة التوبة مدنية وآياتها 129 مقدمة 1564 الآيات من 1- 28 (براءة من الله ورسوله 1584 الآيات من 29- 35 (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله 1619 الآيات من 36- 37 (إن عدة الشهور عند الله 1650 الآيات من 38- 41 (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا 1654 الآيات من 42- 92 (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا 1658 الجزء الحادي عشر (بقية سورة التوبة من آية 93- 129. وسورة يونس) مقدمة الجزء الحادي عشر 1691 الآيات من 93- 96 (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء 1694 الآيات من 97- 110 (الأعراب أشد كفرا ونفاقا 1697 الآيات من 111- 129 (إن الله اشترى من المؤمنين 1712 10- سورة يونس مكية وآياتها 109 مقدمة 1745 الآيات من 1- 25 (الر. تلك آيات الكتاب الحكيم 1756 الآيات من 26- 70 (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة 1776 الآيات من 71- 103 (واتل عليهم نبأ نوح 1807 الآيات من 104- 109 (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك 1824
(3/1829)
انتهى الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر مبدوءا بسورة هود.
(3/1830)
[المجلد الرابع]
(11) سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكية بجملتها. خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (12، 17، 114) فيها مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة، وموقف مشركي قريش منها، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والقلة المسلمة معه، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار..
فالآية 12 مثلا هذا نصها: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ! إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» . وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحيث يحتاج إلى التسرية عنه، والتثبيت على ما يوحى إليه إنما كان في مكة وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة، وحادث الإسراء، وجرأة المشركين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتوقف حركة الدعوة تقريبا وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة..
والآية 17 هذا نصها: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي- صلى الله عليه وسلم- بأنه إنما يوحى إليه من ربه وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب موسى وبتصديق بعض أهل الكتاب به- وهذا ما كان في مكة من أفراد من أهل الكتاب- واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين. وتهديد الأحزاب منهم بالنار. مع تثبيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الحق الذي هو معه، في وجه توقف الدعوة، وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل.. وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية. فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم- كما هو العهد في القرآن المدني- ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعضهم وبتصديق كتاب موسى- عليه السلام- لما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة، ومقتضياتها الواضحة.
(4/1839)
والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بما كان من الاختلاف على موسى من قبل. وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه، وعدم الركون إلى الذين ظلموا (أي أشركوا) والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة.. وتتوارد الآيات هكذا: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) » .. وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي، موضوعا وجوا وعبارة..
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس. ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها وهي من أخرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب- وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله- مع وحشة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خديجة- رضي الله عنها- في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها.. وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية..
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المصائب بهلك خديجة- وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها- وبهلك عمه أبي طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه- وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك التراب، دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول لها: «لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك» قال: ويقول بين ذلك: «ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: فعظمت المصيبة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بموتهما وسماه «عام الحزن» وقال: «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره.
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحمل
(4/1840)
طابع هذه الفترة وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها «1» .
وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والذين معه على الحق والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي.
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها:
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية. في التاريخ البشري كله، من لدن نوح- عليه السلام- إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام- وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة: هي الدينونة لله وحده بلا شريك، والعبودية له وحده بلا منازع والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ...
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق.. لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .. «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ.. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة..
ومن ذلك عرض مواقف الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- وهم يتلقون الإعراض والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والتهديد والإيذاء، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق، وفي نصر الله الذي لا شك آت ثم تصديق العواقب في الدنيا- وفي الآخرة كذلك- لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم، بالتدمير على المكذبين، وبالنجاة للمؤمنين:
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك
__________
(1) يراجع ما جاء عن هذه الفترة في التعريف بسورة يونس ص 1751- ص 1752 من الجزء الحادي عشر من هذه الطبعة المنقحة.
(4/1841)
اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين.. قال:
يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميّت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟
ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم. ولكني أراكم قوماً تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إني ملك، ولا أقول للذين تزدري أعينكم: لن يؤتيهم الله خيراً، الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذن لمن الظالمين. قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال: إنما يأتيكم به الله- إن شاء- وما أنتم بمعجزين» .. ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وفي قصة هود نجد هذا المشهد: «قالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول: إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.. قال: إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوماً غيركم، ولا تضرونه شيئاً، إن ربي على كل شىء حفيظ» .. ثم تجيء العاقبة: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ!» .
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد: «قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير» .. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب:
«فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!»
..
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد: «قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد! قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود.
قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز. قال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب» .. ثم تجيء الخاتمة: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ!» ..
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى دلالته: والتسرية
(4/1842)
عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله وبما أولاهم الله من رعايته ونصره وتوجيهه- صلى الله عليه وسلم- إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به.. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» .
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .. «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ، وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» ... «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها، متوافيا مع أهدافها، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية.
ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر:
«ولقد كان آخر عهدنا- في هذه الضلال- بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف- وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول- ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة- فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين، في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها وتفند هذه الجاهلية، عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود..
في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونس
(4/1843)
في إيقاع رخي. ونبض هادئ. وسلاسة وديعة! .. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا.. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف» ..
فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة:
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل.. إشارة إلى قصة نوح، وإشارة إلى الرسل من بعده، وشيء من التفصيل في قصة موسى، وإشارة مجملة إلى قصة يونس.. ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها السورة.
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة. وهو وإن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز.
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة:
القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا.
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة.
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود..
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق. وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه.
وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي:
أن ما جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم- وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله- سبحانه- وهي تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك. والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم كذلك. والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة:
ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم:
«الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» ..
«أم يقولون: افتراه؟ قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو، فهل أنتم مسلمون؟» .
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .
«قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟» ..
«ونادى نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح
(4/1844)
إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين» .
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
«قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ... » .
«قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ... » .
وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها:
«وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» ..
«وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة.
ولكي يدين الناس لله وحده بالربوبية، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه، وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير.. وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك.
في المقدمة يجيء:
«أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ: ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات:
«إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وفي التعقيب يجيء:
«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ..
(4/1845)
«وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .
«وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها.
وهي لا تستهدف إثبات وجود الله- سبحانه- إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر، كما أنها مقررة في نظام الكون.. فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة. إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك والخضوع لله وحده بلا منازع. ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره. كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا.
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر، وتثبيتها في النفوس، وتعميقها في الكيان البشري، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات.. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوي يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها..
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب.. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء.. والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:
« ... أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى
(4/1846)
رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» .
«وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ... «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ، وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ!» ...
... إلخ ... إلخ..
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين- على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات- ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:
«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ- وَمَنْ آمَنَ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ- وَكانَ فِي مَعْزِلٍ- يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ! قالَ: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... إلخ ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب، المتحدين للنذر في استهتار.. يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:
«وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ: ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ... ...
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة وصور المكذبين فيها ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله وما يجدونه يومئذ من خزي لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ! أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ! الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
(4/1847)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ، ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ، أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» .
«وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ- إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ... عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» .
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور بينما هم غارّون لا يستشعرون حضوره سبحانه، ولا علمه المحيط ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا، وهم- الذين يكذبون- في قبضته كسائر الخلائق من حيث لا يشعرون:
«إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ! أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
«إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة، في صراحة وفي صرامة، وفي ثقة وطمأنينة ويقين.. وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة.. يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء..
وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة ...
... والله المستعان ...
(4/1848)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)
(4/1849)
هذا الدرس الأول من السورة يمثل المقدمة- التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب- وهي تتضمن عرض الحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية: توحيد الدينونة لله الواحد بلا منازع، وعبادة الله وحده بلا شريك والإعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والإبتلاء..
مع تعريف الناس بربهم الحق وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم وبيان حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، ومقتضاهما في حياة البشرية. وتوكيد الدينونة لله في الآخرة كالدينونة له سبحانه في الحياة الدنيا.
كذلك تتضمن هذه المقدمة بياناً لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول كما تتضمن تسلية وترويحاً للرسول- صلى الله عليه وسلم- في وجه العناد والتكذيب، والتحدي والمكابرة، التي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يواجهها في تلك الفترة العصيبة في حياة الدعوة بمكة، كما أسلفنا في التعريف بالسورة. مع تحدي
(4/1850)
المشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به، أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات- كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى- وتثبيت الرسول- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه بهذا التحدي من الله وبذلك العجز من المشركين! ومع هذا التحدي تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الآخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون.
وهم الذين لا يطيقون أن تنزع منهم رحمة الله في الدنيا، ولا يصبرون على ابتلائه فيها وهو أيسر من عذاب الآخرة! ثم يجسم هذا التهديد في مشهد من مشاهد القيامة يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب المشركين ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الأليم، المصحوب بالخزي والتشهير والتنديد والتأنيب. وفي الصفحة المقابلة من المشهد.. الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب والنعيم والتكريم.. ومشهد مصور للفريقين- على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير-: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
«الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
إنها جملة الحقائق الإعتقادية الأساسية:
إثبات الوحي والرسالة.
العبودية لله وحده بلا شريك.
جزاء الله في الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة.
جزاء الله في الآخرة للمكذبين، وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين.
قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود.
«ألف. لام. راء» مبتدأ، خبره: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي يكذبون به. وهم عن شيء من مثله عاجزون! «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ..
أحكمت آياته، فجاءت قوية البناء، دقيقة الدلالة، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم. متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب، ومنسقة ذات نظام واحد. ثم فصلت. فهي مقسمة وفق أغراضها، مبوبة وفق موضوعاتها، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه.
أما من أحكمها، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق؟ فهو الله سبحانه، وليس هو الرسول:
«مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» ..
(4/1851)
يحكم الكتاب عن حكمة، ويفصله عن خبرة.. هكذا جاءت من لدنه، على النحو الذي أنزل على الرسول، لا تغيير فيها ولا تبديل.
وماذا تضمنت؟
إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها:
«أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» .. فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة.
«إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» .. فهي الرسالة، وما تضمنته من نذارة وبشارة.
«وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» .. فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية، إلى التوحيد والدينونة.
«يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ» .. فهو الجزاء للتائبين المستغفرين.
«وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» .. فهو الوعيد للمتولين.
«إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» .. فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة.
«وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. فهي القدرة المطلقة والسلطان الشامل.
هذا هو الكتاب. أو هو آيات الكتاب. فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد تقريرها.
وما كان لدين أن يقوم في الأرض، وأن يقيم نظاماً للبشر، قبل أن يقرر هذه القواعد.
فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف، أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم، وللوسطاء عند الله من خلقه! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية- وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية- فيعبّدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة.
وما من نظام اجتماعي او سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة.
وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ويستمتعوا بالكرامة الحقيقية التي أكرمهم بها الله، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية، ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور.
وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت، على ألوهية الله- سبحانه- للكون وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية: إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس، الذي يحكمهم بشرعه، ويصرفهم بأمره، ويدينهم بطاعته؟
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس، ويذلونهم بهذا الإغتصاب لسلطان الله، ويجعلونهم عبيداً لهم من دون الله. وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي.. الله سبحانه..
والله- سبحانه- غني عن العالمين. لا ينقص في ملكه شيئاً عصيان العصاة وطغيان الطغاة. ولا يزيد في ملكه شيئاً طاعة الطائعين وعبادة العابدين.. ولكن البشر- هم أنفسهم- الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده، ويتحررون
(4/1852)
من العبودية للعبيد.. ولما كان الله- سبحانه- يريد لعباده العزه والكرامة والإستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده. وليخرجوهم من عبادة العبيد.. لخيرهم هم أنفسهم.. والله غني عن العالمين.
إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله. ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان! والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده. والربوبية تعني القوامة على البشر، وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله، لا من عند أحد سواه.
وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه:
«كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» ..
وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم.
والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها. وكل شك في أن هذا من عند الله، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير. والذين يظنون أنها من عند محمد- مهما أقروا بعظمة محمد- لا يمكن أن تنال من نفوسهم الإحترام الملزم، الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير.. إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله، وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد.
كما أن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطاً لما يريده الله من البشر. كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد، هو هذا المصدر. وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولاً، ويشرع للناس شرعاً، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره! بينما هو يفتريه من عند نفسه! وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات.. ثم يقول: هذا من عند الله!!! وما يحسم هذه الفوضى وهذا الإحتيال على الناس باسم الله، إلا أن يكون هناك مصدر واحد- هو الرسول- لقول الله.
والإستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه، وشعوره بالإثم ورغبته في التوبة.
والتوبة بعد ذلك هي الإقلاع الفعلي عن الذنب، والأخذ في مقابله في أعمال الطاعة. ولا توبة بغير هذين الدليلين، فهما الترجمة العملية للتوبة، وبهما يتحقق وجودها الفعلي، الذي ترجى معه المغفرة والقبول..
فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في الإسلام، بينما هو لا يدين لله وحده، ولا يتلقى منه وحده عن طريق نبيه فلا قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير الله..
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة، وقوام التبليغ. وهما عنصرا الترغيب والترهيب، اللذان علم الله من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق! والإعتقاد باليوم الآخر ضروري لاكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة، وأن الخير الذي تدعو إليه الرسالات هو غاية الحياة ومن ثم لا بد أن يلقى جزاءه فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون في العالم الآخر، الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها. أما الذين يزيغون عن نهج الله وحكمته في الحياة فهؤلاء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب.. وفي هذا ضمان للفطرة السليمة ألا تنحرف. فإن
(4/1853)
غلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة، ولم تلج في العصيان. ومن ثم تصلح هذه الأرض لحياة البشر.
وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير. فالإعتقاد باليوم الآخر ليس طريقاً للثواب في الآخرة فحسب- كما يعتقد بعض الناس- إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا. والحافز على إصلاحها وإنمائها. على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفاً في ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لائقة بالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه، وكرمه على كثير من خلقه، ورفعه عن درك الحيوان لتكون أهداف حياته أعلى من ضرورات الحيوان ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته.
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة، بعد توحيد الدينونة لله، وإثبات الرسالة من عنده.. الدعوة إلى الإستغفار من الشرك والتوبة.. وهما بدء الطريق للعمل الصالح. والعمل الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام. إنما هو الإصلاح في الأرض بكل معاني الإصلاح، من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج. والجزاء المشروط:
«يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ» ..
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا. أما في الآخرة فهو بالنوع والكم وبما لم يخطر على قلب بشر. فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة.
إننا نشاهد كثيراً من الطيبين الصالحين، المستغفرين التائبين، العاملين في الحياة.. مضيقاً عليهم في الرزق.
فأين إذن هو المتاع الحسن؟
وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين! ولا بد لإدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع، وننظر إليها في محيطها الشامل العام، ولا نقتصر منها على مظهر عابر.
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح، قائم على الإيمان بالله، والدينونة له وحده، وإفراده بالربوبية والقوامة، وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة.. إلا كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة كجماعة وإلا ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الأفراد بصفة خاصة. فإذا شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب، فذلك شاهد على أن هذه الجماعة لا يسودها النظام المستمد من الإيمان بالله، القائم على العدل بين الجهد والجزاء.
على أن الأفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعاً حسناً، حتى لو ضيق عليهم في الرزق، وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم، كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة، وكما تؤذي الجاهليات القلة الداعية إلى الله. وليس هذا خيالاً وليس ادعاء. فطمأنينة القلب إلى العاقبة، والإتصال بالله، والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله.. عوض عن كثير ومتاع حسن للإنسان الذي يرتفع درجة عن الحس المادي الغليظ.
ولا نقول هذا لندعو المظلومين الذين لا يجدون جزاء عادلاً على جهدهم إلى الرضى بالأوضاع المنافية للعدالة. فالإسلام لا يرضى بهذا، والإيمان لا يسكت على مثل تلك الأوضاع. والجماعة المؤمنة مطالبة بإزالتها وكذلك الأفراد، ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين. إنما نقوله لأنه حق يحس به المؤمنون المتصلون بالله، المضيق عليهم في الرزق، وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الأوضاع التي تكفل المتاع الحسن لعباد الله المستغفرين التائبين العاملين بهدى الله.
(4/1854)
«وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ» ..
خصصها بعض المفسرين بجزاء الآخرة. وأرى أنها عامة في الدنيا والآخرة، على النحو الذي فسرنا به المتاع الحسن في الدنيا وهو متحقق في جميع الأحوال. وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها الفضل. يجده رضى نفسياً وارتياحاً شعورياً، واتصالاً بالله وهو يبذل الفضل عملاً أو مالاً متجهاً به إلى الله.
أما جزاء الله له بعد ذلك فهو فضل من الله وسماحة فوق الجزاء.
«وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» ..
هو عذاب يوم القيامة. لا عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين. فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف إلى اليوم الموعود. ويقوي هذا ما بعده:
«إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» .
وإن كان المرجع إلى الله في الدنيا والآخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة. ولكن جرى التعبير القرآني على أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا..
«وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه كذلك تقوّي هذا المعنى، لأن التلويح بالقدرة على كل شيء، مناسب للبعث الذي كانوا يستبعدونه ويستصعبونه! وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات، عند ما يقدمها لهم النذير البشير، ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي. ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق:
«أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
والآيتان الكريمتان تستحضران مشهداً فريداً ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره! ويا لها من رهبة غامرة، وروعة باهرة، حين يتصور القلب البشري حضور الله- سبحانه- وإحاطة علمه وقهره بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الإستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله:
«أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ. أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمعهم كلام الله فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم إستخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام.. وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان! ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة، والله، الذي أنزل هذه الآيات، معهم حين يستخفون وحين يبرزون. ويصور هذا المعنى- على الطريقة القرآنية- في صورة مرهوبة، وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم. حين يأوون إلى فراشهم، ويخلون إلى أنفسهم، والليل لهم ساتر، وأغطيتهم لهم ساتر. ومع
(4/1855)
ذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر. يعلم في هذه الخلوه ما يسرون وما يعلنون:
«أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» ..
والله يعلم ما هو أخفى. وليست أغطيتهم بساتر دون علمه. ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد. فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه، ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها، فيخيل إليه أن ليس هناك من عين تراه! «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
عليم بالأسرار المصاحبة للصدور، التي لا تفارقها، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه، أو المالك ملكه.. فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور. ومع ذلك فالله بها عليم.. وإذن فما من شيء يخفى عليه، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع.
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب.. هذه الدواب- وكل ما تحرك على الأرض فهو دابة من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة. ما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة، وتكمن في باطنها، وتخفى في دروبها ومساربها. ما من دابة من هذه الدواب التي لا يحيط بها حصر ولا يكاد يلم بها إحصاء..
إلا وعند الله علمها. وعليه رزقها، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن. من أين تجيء وأين تذهب.. وكل منها.
كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق.
إنها صورة مفصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق.
ويزيد على مجرد العلم، تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال.
وهذه درجة أخرى، الخيال البشري عنها أعجز إلا بإلهام من الله..
وقد أوجب الله- سبحانه- على نفسه مختاراً أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الأرض.
فأودع هذه الأرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعاً، وأودع هذه المخلوقات القدرة على الحصول على رزقها من هذا المودع في الأرض في صورة من صوره. ساذجاً خامة، أو منتجاً بالزرع، أو مصنوعاً، أو مركباً.. إلى أخر الصور المتجددة لإنتاج الرزق وإعداده. حتى إن بعضها ليتناول رزقه دماً حياً مهضوماً ممثلاً كالبعوضة والبرغوث!! وهذه هي الصورة اللائقة بحكمة الله ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها وخلق هذه المخلوقات بالإستعدادات والمقدرات التي أوتيتها. وبخاصة الإنسان. الذي استخلف في الأرض، وأوتي القدرة على التحليل والتركيب، وعلى الإنتاج والإنماء، وعلى تعديل وجه الأرض، وعلى تطوير أوضاع الحياة بينما هو يسعى لتحصيل الرزق، الذي لا يخلقه هو خلقاً، وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون من قوى وطاقات أودعها الله بمساعدة النواميس الكونية الإلهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته لكافة الأحياء! وليس المقصود ان هناك رزقاً فردياً مقدراً لا يأتي بالسعي، ولا يتأخر بالقعود، ولا يضيع بالسلبية والكسل، كما يعتقد بعض الناس! وإلا فأين الأسباب التي أمر الله بالأخذ بها، وجعلها جزاءا من نواميسه؟ وأين حكمة
(4/1856)
الله في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات؟ وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم الله، وقد استخلف عليها الإنسان ليؤدي دوره في هذا المجال؟
إن لكل مخلوق رزقاً. هذا حق. وهذا الرزق مذخور في هذا الكون. مقدر من الله في سننه التي ترتب النتاج على الجهد. فلا يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. ولكن السماء والأرض تزخران بالأرزاق الكافية لجميع المخلوقات. حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة الله التي لا تحابي أحداً، ولا تتخلف أو تحيد.
إنما هو كسب طيب وكسب خبيث، وكلاهما يحصل من عمل وجهد. إلا أنه يختلف في النوع والوصف.
وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك.
ولا ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الأول. والسياق القرآني المحكم المتناسق لا تفوته هذه اللفتات الأسلوبية والموضوعية، التي تشارك في رسم الجو في السياق.
وهاتان الآيتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده. أي أن يعبدوه وحده. فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه، وهو الرازق الذي لا يترك أحداً من رزقه. وهذه المعرفة ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط.
ثم يمضي السياق في تعريف البشر بربهم، وإطلاعهم على آثار قدرته وحكمته. في خلق السماوات والأرض بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة لحكمة كذلك خاصة. يبرز منها السياق هنا ما يناسب البعث والحساب والعمل والجزاء:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
وخلق السماوات والأرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس «1» .. وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي يقوم عليه الكون والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس.
«لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .
والجديد هنا في خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» وما تفيده من أنه عند خلق السماوات والأرض أي إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي إنتهيا إليه كان هناك الماء وكان عرش الله سبحانه على الماء..
أما كيف كان هذا الماء، وأين كان، وفي أية حالة من حالاته كان. وأما كيف كان عرش الله على هذا الماء.. فزيادات لم يتعرض لها النص، وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئاً على مدلول النص، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده.
وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى «العلمية» - حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق- فالنظريات «العلمية» قابلة دائماً للإنقلاب رأساً على عقب، كلما اهتدى
__________
(1) ص 1761- 1763 من الجزء الحادي عشر من هذه الطبعة المنقحة.
(4/1857)
العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى. والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة- وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية- أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب.. ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن. ومجال غير مجال القرآن وتلمسُّ موافقات من النظريات «العلمية» للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة «بالعلم» وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على «العلم» يخدم القرآن ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان! إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه! إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم، وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط.. ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً. مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع الأحياء. ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث ... وأمثال هذه الحقائق. التي صرحت بها النصوص القرآنية «1» .
ونعود من هذا الإستطراد إلى النص القرآني نتملاه في مجاله الأصيل. مجال بناء العقيدة وتصريف الحياة:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ- وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ..
خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها..
خلقها في هذا الأمد، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري، وخلقكم وسخر لكم الأرض وما يفيدكم من السماوات.. وهو سبحانه مسيطر على الكون كله.. «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. والسياق يظهر كأن خلق السماوات والأرض في ستة أيام- مع سيطرة الله سبحانه على مقاليده- كان من أجل ابتلاء الإنسان.
ليعظم هذا الإبتلاء ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلائهم.
وكما جهز الخالق هذه الأرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس، جهز هذا الجنس كذلك باستعدادات وطاقات وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون وترك له جانباً إختيارياً في حياته، يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه الله عليه ويهديه، أو أن يتجه إلى الضلال فيمد الله له فيه، وترك الناس يعملون، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. يبلوهم لا للعلم فهو يعلم. ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم، فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله.
__________
(1) يراجع بتوسع عن موضوع القرآن والعلم ما سبق في هذه الظلال. ص 180- 184 من الجزء الثاني من هذه الطبعة المنقحة وص 1113- 1121 من الجزء السابع.
(4/1858)
ومن ثم يبدو التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيبا غريبا في هذا الجو. بعد ما يذكر أن الإبتلاء مرتبط بتكوين السماوات والأرض. أصيل في نظام الكون وسنن الوجود.
ويبدو المكذبون به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود، وهم يعجبون لهذه الحقائق وبها يفاجأون:
«وَلَئِنْ قُلْتَ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» ..
فما أعجبها قولة، وما أغربها، وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها! شأنهم في التكذيب بالبعث، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت:
«وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ: ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب. ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس، ولجيل واحد من هذه الأمة. والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة.
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية، فهي قابلة للبقاء، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال، وتؤمن بها أجيال وأجيال، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الإستئصال. وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم.. وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى، فلم يعم فيهم عذاب الإستئصال.
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الإختيار والإتجاه وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث. وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام- أي مجموعة منها- ما يحبسه؟ وما يؤخره؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته. وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم، بل يحيط بهم، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم:
«أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة. وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة. ليؤمن من يتهيأ للإيمان.
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء. وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام.. وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن. ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون..
(4/1859)
وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق الإنساني العجيب، الذي لا يثبت ولا يستقيم إلا بالإيمان:
«وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر، الذي يعيش في لحظته الحاضرة، ويطغى عليه ما يلابسه فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي. فهو يؤوس من الخير، كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه. مع أنها كانت هبة من الله له. وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء. لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه ولا يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حساباً..
«إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» ..
صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة، فإن كثيراً من الناس يصبرون على الشدة تجلداً وإباء أن يظهر عليهم الضعف والخور، ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فلا تغتر ولا تبطر..
«وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ..
في الحالين. في الشدة بالاحتمال والصبر، وفي النعمة بالشكر والبر.
«أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ..
بما صبروا على الضراء وبما شكروا في السراء.
إن الإيمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء. وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء ويربطه بالله في حاليه، فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء. ولا يتنفج ويتعالى عند ما تغمره النعماء..
وكلا حالي المؤمن خير. وليس ذلك إلا للمؤمن كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون- وهم أفراد من هذا الإنسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح الفخور- الذين لا يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول ملكاً أو أن يصاحبه ملك ولا يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز! .. أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في التكذيب والعناد.. ما تراك صانعاً معهم أيها الرسول؟
«فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ..
ولعل هنا تحمل معنى الإستفهام. وهو ليس استفهاماً خالصاً، إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن تضيق صدراً بهذا الجهل، وبهذا التعنت، وبهذه الإقتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك طبيعة الرسالة ووظيفتها. فهل سيضيق صدرك- يا محمد- وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم، كي لا يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل؟
كلا. لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا:
«إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» ..
(4/1860)
فواجبك كله أن تنذرهم- وأبرز صفة النذير هنا لأن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلاء- فأد واجبك:
«وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ..
فهو الموكل بهم، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون. ولست أنت موكلاً بكفرهم أو إيمانهم. إنما أنت نذير.
وهذه الآية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وما كان يعتور صدر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الضيق. كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة، في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير وغمرت الوحشة قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة..
ومن بين كلمات الآية نحس جواً مكروباً تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة، وتسكب فيه الطمأنينة، وتريح الأعصاب والقلوب! وقولة أخرى يقولونها. وقد قالوها مراراً: إن هذا القرآن مفترى. فتحدّهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره، وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الإفتراء:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور؟
قال المفسرون القدامى: إن التحدي كان على الترتيب: بالقرآن كله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة.
ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل. بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة، وسورة هود لا حقة والتحدي فيها بعشر سور. وحقيقة إن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور. فقد كانت تنزل الآية فتلحق بسورة سابقة أو لا حقة في النزول. إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته.
وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز.
ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد «عشر سور» علة، فأجهد نفسه طويلاً- رحمة الله عليه- ليقول: إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني، وأنه بالإستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشراً. فتحداهم بعشر.. لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظراً لتفرق القصص وتعدد أساليبه، واحتياج المتحدي إلى عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى.. إلخ «1» ونحسب- والله أعلم- أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد. وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول، لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة. فيقول مرة: ائتوا بمثل هذا القرآن. أو ائتوا بسورة، أو بعشر سور. دون ترتيب زمني. لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن. كله أو بعضه أو سورة منه على السواء. فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره.
والعجز كان عن النوع لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب، إنما هو
__________
(1) من صفحة 32 إلى صفحة 41 من تفسير المنار الجزء الثاني عشر.
(4/1861)
مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن. ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.
«وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم. وأتوا بعشر سور فقط مفتريات، إن كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله! «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» ..
ولم يقدروا على افتراء عشر سور، لأنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عوناً في هذه المهمة المتعذرة! وعجزتم أنتم بطبيعة الحال، لأنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إلا بعد عجزكم! «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» ..
فهو وحده القادر على أن ينزله، وعلم الله وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به، متضمناً ما تضمنه من دلائل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر، وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وما يصلح لهم في نفوسهم وفي معاشهم ...
«وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» ..
فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها الله. فلا بد أن يكون هناك إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن.
ويعقب على هذا التقرير الذي لا مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جواباً واحداً عند غير المكابرين المتعنتين. سؤال:
«فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» ..
بعد هذا التحدي والعجز ودلالته التي لا سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم؟.
ولكنهم ظلوا بعدها يكابرون!!! لقد كان الحق واضحاً ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة.. داعي لا إله إلا الله.. لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ، وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به الى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ويتمتع بها كما يريد- في أجل محدود- ولكن ليس له في الآخرة إلا النار، لأنه لم يقدم للآخرة شيئاً، ولم يحسب لها حساباً، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط (من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض) وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك! ونحن نشهد في هذه الأرض أفراداً اليوم وشعوباً وأمماً تعمل لهذه الدنيا، وتنال جزاءها فيها. ولدنياها
(4/1862)
زينة، ولدنياها انتفاخ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل: لماذا؟ لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ» .
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه- ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع- فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئاً، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.
إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الإتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيباً والمتاع به طيباً. ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون.
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما جاءه من الحق وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه، وأنه مرسل من عنده كما يشهد له كتاب موسى من قبله. يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وبدعوته ورسالته. ذلك ليثبت بهذه الإلتفاته قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه. ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والإستكبار وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء.. «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» .. وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء:
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ. «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
إن طول هذه الجملة، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضاً.. إن هذا كله يشيء بما كانت تواجهه القلة المؤمنة، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهاداً كبيراً.
(4/1863)
إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها. والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون. يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئاً في هذه القعدة الباردة الساكنة بعيداً عن المعركة وبعيداً عن الحركة.. إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبداً، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله، والدينونة للطاغوت من دون الله! «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً؟ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» .. وفي قوله تعالى: «وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» . وفي عائد هذه الضمائر في: «ربه» وفي «يتلوه» وفي «منه» .. وأرجحها- كما يبدو لي- هو أن المقصود بقوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به- وأن المقصود بقوله تعالى: «وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته. وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر. «وَمِنْ قَبْلِهِ» - أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن «كتاب موسى» يشهد كذلك بصدق النبي- صلى الله عليه وسلم- سواء بما تضمنه من البشارة به أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده.
والذي يرجح هذا عندي هو وحده التعبير القرآني في السورة- في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم، من بينة يجدونها في أنفسهم، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجوداً مستيقناً واضحاً لا يخالجهم معه شك ولا ريبة. فنوح- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟» .. وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها: «قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير» .. وشعيب عليه السلام يقولها كذلك: «قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقاً..» فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستقينة لحقيقة الألوهية في نفوسهم ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضاً.. وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصداً في سياق السورة- كما أسلفنا في التعريف بها- لإثبات أن شأن النبي- صلى الله عليه وسلم- مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه- صلى الله عليه وسلم- وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعاً.
ويكون المعنى الكلي للآية: أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقة وصحة إيمانه ويقينه..
حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه. وحيث يتبعه- أو يتبع يقينه هذا- شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني. وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله، هو كتاب موسى الذي جاء إماماً لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم. وهو يصدق رسول الله- صلى الله عليه
(4/1864)
وسلم- بما تضمنه من التبشير به، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الإعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله..
يقول: أفمن كان هذا شأنه يكون موضعاً للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات..
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة. ويعرج على تثبيت الرسول- صلى الله عليه وسلم- والذين يؤمنون بما معه من الحق فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين، وهم كثرة الناس في ذلك الحين:
«أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وقد وجد بعض المفسرين إشكالاً في قوله تعالى: «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» إذا كان المقصود بقوله تعالى:
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» هو شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما أسلفنا..
فإن «أولئك» تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة.. ولا إشكال هناك. فالضمير في قوله تعالى «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» يعود على «شاهد» وهو القرآن. وكذلك الضمير في قوله تعالى «وَمِنْ قَبْلِهِ» فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا.. فلا إشكال في أن يقول: «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» - أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن- والرسول- صلى الله عليه وسلم- هو أول من آمن بما أنزل إليه، ثم تبعه المؤمنون: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... » كما جاء في آية البقرة.. والآية هنا تشير إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه.. وهو أمر مألوف في التعبير القرآني، ولا إشكال فيه.
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» ..
وهو موعد لا يخلف، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره! «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وما شك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما أوحي إليه، ولا امترى- وهو على بينة من ربه- ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت. وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم.
وما أحوج طلائع البعث الإسلامي وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ويتآزر عليها الصد والإعراض، والسخرية والإستهزاء، والتعذيب والإيذاء والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة ...
ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها، وبكل إشارة، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة! ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم:
(4/1865)
«فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالاً لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق:
«قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً- وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون.. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى البشرية كلها بهذا الدين فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى، وسائر النبيين! إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله- سبحانه- أو لا تعترف. ولكنها تقيم للناس أرباباً في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله.. ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه رباً لا أرباب معه ويدينون له وحده. فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه.. ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد. وبين الجاهلية والإسلام. وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام! ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان.. وهذا بعض ما نعنيه حين نقول: «إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة. ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئاً في هذه القعدة الباردة الساكنة، بعيداً عن المعركة، وبعيداً عن الحركة ... » .
ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به ويزعمون أنه مفترى من دون الله، ويكذبون على الله سبحانه وعلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب. سواء بقولهم: إن الله لم ينزل هذا الكتاب، أو بادعائهم شركاء لله. أو بدعواهم في الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية.. يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على الله.
هؤلاء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. وفي الجانب الآخر المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم. ويضرب للفريقين مثلاً: الأعمى والأصم والبصير والسميع:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ، ما كانُوا
(4/1866)
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ، لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» .
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء، وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب. فما بال حين يكون هذا الإفتراء على الله؟
«أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» .
إنه التشهير والتشنيع. بالإشارة: «هؤلاء» .. «هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا» .. وعلى من؟ «عَلى رَبِّهِمْ» لا على أحد آخر! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة:
«أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» ..
يقولها الأشهاد كذلك. والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون، أو هم الناس أجمعون. فهو الخزي والتشهير- إذن- في ساحة العرض الحاشدة! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد:
«أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» ..
والظالمون هم المشركون. وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله.
«وَيَبْغُونَها عِوَجاً» ..
فلا يريدون الإستقامة ولا الخطة المستقيمة، إنما يريدونها عوجاً والتواء وانحرافاً. يريدون الطريق أو يريدون الحياة أو يريدون الأمور.. كلها بمعنى.. «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» ويكرر «هم» مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير.
والذين يشركون بالله- سبحانه- وهم الظالمون- إنما يريدون الحياة كلها عوجاً حين يعدلون عن استقامة الإسلام. وما تنتج الدينونة لغير الله- سبحانه- إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس، وفي كل جانب من جوانب الحياة.
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة. وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل. وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر، والنفخ فيها دائماً لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي. ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب، وهمٍّ مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار، ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح، حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم.. فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء؟! «أولئك» ..
البعداء المبعدون الملعونون.
«لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ» ..
فلم يكن أمرهم معجزاً لله، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا..
(4/1867)
«وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» ..
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله. إنما تركهم لعذاب الآخرة، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة:
«يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» ..
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر:
«ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ» ..
«أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ»
..
وهي أفدح الخسارة، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئاً مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الإرتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد. كما تتمثل في الإرتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع- مع المتاع بها- إلى ما هو أرقى وأسمى. وذلك حين كفروا بالآخرة، وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه. وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم، وبهذا العذاب الذي ينتظرهم..
«وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ»
..
غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله. فقد تبدد وذهب وضاع.
«لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» ..
الذين لا تعدل خسارتهم خسارة. وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى.
وفي الجانب الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح، المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه لا يشكون ولا يقلقون:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
والإخبات الطمأنينة والإستقرار والثقة والتسليم.. وهي تصور حال المؤمن مع ربه، وركونه إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به، وهدوء نفسه وسكون قلبه، وأمنه واستقراره ورضاه:
«مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ. هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟» ..
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين. والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع- والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل، ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس- والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع، فيهديه بصره وسمعه.
«هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا؟» ...
سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة.
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ..
فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر. فهي بديهية لا تقتضي التفكير..
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير.. أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير..
(4/1868)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 49]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
(4/1869)
القصص في هذه السورة هو قوامها ولكنه لم يجىء فيها مستقلاً، إنما جاء مصداقاً للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها. والتي أجملها السياق في مطلع السورة: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وقد تضمن مطلع السورة جولات متعددة حول هذه الحقائق. جولات في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر.. ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الأرض وأطواء التاريخ مع قصص الماضين.. يستعرض حركة العقيدة الإسلامية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون.
والقصص هنا مفصل بعض الشيء- وبخاصة قصة نوح والطوفان- وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت فى مطلع السورة، والتي يجيء كل رسول لتقريرها، وكأنما المكذبون هم المكذبون، وكأنما طبيعتهم واحدة، وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ.
ويتبع القصص في هذه السورة خط سير التاريخ، فيبدأ بنوح، ثم هود، ثم صالح، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط، ثم شعيب، ثم إشارة إلى موسى.. ويشير إلى الخط التاريخي، لأنه يذكر التالين بمصير السالفين على التوالي بهذا الترتيب:
(4/1870)
ونبدأ بقصة نوح مع قومه. أول هذا القصص في السياق. وأوله في التاريخ:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ. إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ..
إنها تكاد تكون الألفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد- صلى الله عليه وسلم- والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها. وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح- عليه السلام- لا ألفاظه. وهو الأرجح. فنحن لا ندري بأية لغة كان نوح يعبر.
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
ولم يقل قال: إني.. لأن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية. وكأنما هو يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة:
«إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين.
ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة:
«أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» ..
فهذا هو قوام الرسالة، وقوام الإنذار. ولماذا؟
«إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ..
فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار، في هذه الكلمات القصار..
واليوم ليس أليماً. إنما هو مؤلم. والأليم- إسم مفعول أصله: مألوم! - إنما هم المألومون في ذلك اليوم.
ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا، لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل بالألم، شاعر به، فما بال من فيه؟
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» ..
ذلك رد العلية المتكبرين.. الملأ.. كبار القوم المتصدرين.. وهو يكاد يكون رد الملأ من قريش: ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا- بادي الرأي- وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين.
الشبهات ذاتها، والاتهامات ذاتها، والكبرياء ذاتها، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي! إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر: أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر. وهي شبهة جاهلة، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه، وهي وظيفة خطيرة ضخمة، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الإستعداد والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة، باختيار الله لهم، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.
(4/1871)
وشبهة أخرى جاهلة كذلك. هي أنه إذا كان الله يختار رسولاً، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه. وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض، إنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها.. إلى آخر صفات النبوة الكريمة.. وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء! ولكن الملأ من قوم نوح، كالملأ من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية، فلا يدركون مبرراً لاختصاص الرسل بالرسالة. وهي في زعمهم لا تكون لبشر. فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض! «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» ..
هذه واحدة.. أما الأخرى فأدهى:
«وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا، بادِيَ الرَّأْيِ» !! وهم يسمون الفقراء من الناس «أراذل» .. كما ينظر الكبراء دائماً إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالباً لأنهم بفطرتهم أقرب إلى الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء. ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف، ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الإستجابة ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها. وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة بدلاً من الإتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك. فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض. ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائماً، ويصدون عنها الجماهير ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير.
«وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» ..
أي دون ترو ولا تفكير.. وهذه تهمة كذلك توجه دائماً من الملأ العالين لجموع المؤمنين.. أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات. ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها، ولا أن يسلكوا طريقها. فإذا كان الأراذل يؤمنون، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون! «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» ..
يدمجون الداعي بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى، أو أعرف بالصواب. فلو كان ما معكم خيراً وصواباً لاهتدينا إليه، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه. قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان.. فذو المال أفضل. وذو الجاه أفهم. وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة
(4/1872)
من صورها الكثيرة. وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب «1» . وهي انتكاسة للبشرية من غير شك، لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنساناً، واستحق الخلافة في الأرض، وتلقى الرسالة من السماء وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية! «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» ...
وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه. ولكنهم على طريقة طبقتهم.. «الأرستقراطية» ..
يلقونها في أسلوب التحفظ اللائق «بالأرستقراط!» «بل نظنكم!» لأن اليقين الجازم في القول والإتجاه من طبيعة الجماهير المندفعة- بادي الرأي- التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون! إنه النموذج المتكرر من عهد نوح، لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب، المتعاظمة المدعية المنتفخة الأوداج والأمخاخ!! ويتلقى نوح- عليه السلام- الإتهام والإعراض والاستكبار، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره. فلا يشتم كما شتموا، ولا يتهم كما اتهموا، ولا يدعي كما ادعوا، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهراً غير حقيقته ولا على رسالته شيئاً غير طبيعتها..
«قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟ وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ وَلا أَقُولُ لَكُمْ: عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
«يا قوم» .. في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه، ونسبة نفسه إليهم. إنكم تعترضون فتقولون: «ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» .. فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي، بيِّن في نفسي مستيقن في شعوري. وهي خاصية لم توهبوها. وإن كان الله آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة، أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة- وهذه رحمة ولا شك عظيمة- ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية، لأنكم غير متهيئين لإدراكها، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها. «أنلزمكموها؟ «2» » إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها «وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» ! وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والإختيار لها: ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولاً إلى الظواهر
__________
(1) في أمريكا اليوم يقاس الرجل يدخله، ويوزن برصيده في البنك!!! وموجة الجاهلية الوثنية تطغى من أمريكا على العالم حتى في الشرق الذي يزعم أنه مسلم!!!
(2) جاء في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» في فصل التناسق الفني أن اللفظ في القرآن قد يرسم بجرسه صورة كاملة. ومن أمثلته أنك «تتلو حكاية قول نوح: «أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟» فتحس أن كلمة «أنلزمكموها» تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدون إليه وهم نافرون! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية وأرفع من الفصاحة اللفظية ...
(4/1873)
السطحية التي يقيسون بها. وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم. مبدأ الإختيار في العقيدة، والإقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقهر والسلطان والاستعلاء! «وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً، إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» .
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا، وليس لي عند الناس إلا أن يؤمنوا. إنني لا أطلب مالاً على الدعوة، حتى أكون حفياً بالأثرياء غير حفي بالفقراء فالناس كلهم عندي سواء.. ومن يستغن عن مال الناس يتساو عنده الفقراء والأغنياء..
«إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» ..
عليه وحده دون سواه.
«وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا» ..
ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله، حتى يفكروا هم في الإيمان به، لأنهم يستنكفون أن يلتقوا عنده بالأراذل، أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد! - لست بطاردهم، فهذا لا يكون مني. لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى الله لا لي:
«إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» .. «وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» ..
تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان الله. وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله.
«وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
فهناك الله. رب الفقراء والأغنياء. رب الضعفاء والأقوياء. هناك الله يقوِّم الناس بقيم أخرى. ويزنهم بميزان واحد. هو الإيمان. فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته.
«وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟» ..
من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه، وبغيت على المؤمنين من عباده- وهم أكرم عليه- وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدّ لها لا لأتبعها؟
«أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟
ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة.
يقدمها لهم في معرض التذكير، ليقرر لهم القيم الحقيقية، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية، بتخليه عنها، وتجرده منها. فمن شاء الرسالة كما هي، بقيمها، بدون زخرف، بدون ادعاء، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله:
«وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ..»
فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء ...
«وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» ..
فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة..
«وَلا أَقُولُ: إِنِّي مَلَكٌ» ..
(4/1874)
فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم، وأفضل نفسي بذاتي عليكم..
«وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً» ..
إرضاء لكبريائكم، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية.
«اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ» ..
فليس لي إلا ظاهرهم، وظاهرهم يدعو إلى التكريم، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيرا..
«إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
إن إدعيت أية دعوى من هذه الدعاوي. الظالمين للحق وقد جئت أبلغه والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله.
وهكذا ينفي نوح- عليه السلام- عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة. ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية. ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها. بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة. فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعاً، نموذجاً للداعية، ودرساً في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد، دون استرضاء لتصوراتهم، ودون ممالأة لهم، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس! وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة فإذا هم- على عادة طبقتهم- قد أخذتهم العزة بالإثم، واستكبروا أن تغلبهم الحجة، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري. وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي:
«قالُوا: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا، فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
إنه العجز يلبس ثوب القدرة، والضعف يرتدي رداء القوة والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الإستهانة والتحدي:
«فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك، ولسنا نبالي وعيدك.
أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم، ولا يقعده عن بيان الحق لهم، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم، وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول، وليس عليه إلا البلاغ، أما العذاب فمن أمر الله، وهو الذي يدبر الأمر كله، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله، وسنته هي التي تنفذ.. وما يملك هو أن يردها أو يحولها.. إنه رسول.
وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه:
«قالَ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي- إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ- إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم، فإن هذه السنة ستمضي فيكم، مهما بذلت لكم من النصح.
لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا،
(4/1875)
وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم، فأنتم دائماً في قبضته، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله، ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه:
«هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وعند هذا المقطع من قصة نوح، يلتفت السياق لفتة عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص.
فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» ..
فالافتراء إجرام، قل لهم: إن كنت فعلته فعليَّ تبعته. وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب.
وهذا الاعتراض لا يخالف سياق القصة في القرآن، لأنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق.
ثم يمضي السياق في قصة نوح يعرض مشهداً ثانياً. مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره:
«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» ..
فقد انتهى الإنذار، وانتهت الدعوة، وانتهى الجدل! «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ..
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه. هكذا أوحى الله إلى نوح، وهو أعلم بعباده، وأعلم بالممكن والممتنع، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد. ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء:
«فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» ..
أي لا تحس بالبؤس والقلق، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم.
دع أمرهم فقد انتهى..
«وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» ..
برعايتنا وتعليمنا.
«وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» ..
فقد تقرر مصيرهم وانتهى الأمر فيهم. فلا تخاطبني فيهم.. لا دعاء بهدايتهم، ولا دعاء عليهم- وقد ورد في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم، والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي- فمتى انتهى القضاء امتنع الدعاء..
(4/1876)
والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهد نوح يصنع الفلك، وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم:
«وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ: قالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» ..
والتعبير بالمضارع. فعل الحاضر.. هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته. فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير. يصنع الفلك. ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون. يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم: إنه رسول ويدعوهم، ويجادلهم فيطيل جدالهم ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً..
إنهم يسخرون لأنهم لا يرون إلا ظاهر الامر، ولا يعلمون ما وراءه من وحي وأمر. شأنهم دائماً في إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير. فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلاء أنه يبادلهم سخرية بسخرية:
«قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» ..
نسخر منكم لأنكم لا تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير الله وما ينتظركم من مصير:
«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» ..
أنحن أم أنتم. يوم ينكشف المستور، عن المحذور! ثم مشهد التعبئة عند ما حلت اللحظة المرتقبة:
«حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ، قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ- وَمَنْ آمَنَ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيداً، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة.
وأقصى ما نملك أن نقوله: إن فوران التنور- والتنور الموقد- قد يكون بعين فارت فيه، أو بفوارة بركانية. وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح، أو كان مصاحباً مجرد مصاحبة لمجيء الأمر، وبدءاً لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من السماء.
لما حدث هذا «قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... » كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر أولاً بصنع الفلك فصنعه، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه، ولم يذكر أنه أطلع نوحاً على هذا الغرض كذلك. «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ» .. أمر بالمرحلة التالية..
«قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ» ..
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول «مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية.
أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص: «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» .. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما وراء ذلك خبط عشواء..
«وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ-» ..
(4/1877)
أي من استحق عذاب الله حسب سنته.
«وَمَنْ آمَنَ» ..
من غير أهلك.
«وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ..
«وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» ..
فنفذ الأمر وحشر من حشر وما حشر.
«وَقالَ: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» .. وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها، فهي في رعاية الله وحماه.. وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان؟! ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان:
«وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ- وَكانَ فِي مَعْزِلٍ- يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ. سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ. قالَ: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ. وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» ..
إن الهول هنا هولان. هول في الطبيعة الصامته، وهول في النفس البشرية يلتقيان:
«وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ» ..
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد:
«يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» ..
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل:
«قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء» ..
ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير:
«قالَ: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ» .
لا جبال ولا مخابئ ولا حامٍ ولا واقٍ. إلا من رحم الله.
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد. فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء:
«وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» ..
وإننا بعد آلاف السنين، لنمسك أنفاسنا- ونحن نتابع السياق- والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد. وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء. وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب! وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية- بين الوالد والمولود- كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامته وفي نفس الإنسان. وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن.
(4/1878)
وتهدأ العاصفة، ويخيم السكون، ويقضى الأمر، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن:
«وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض، وتكف السماء:
«وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» ..
«وَغِيضَ الْماءُ» ..
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها.
«وَقُضِيَ الْأَمْرُ» ..
ونفذ القضاء «وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ» ..
ورست رسو استقرار على جبل الجودي..
«وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير.. «قيل» على صيغة المجهول فلا يذكر من قال، من قبيل لف موضوعهم ومواراته:
«وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
بعداً لهم من الحياة فقد ذهبوا، وبعداً لهم من رحمة الله فقد لعنوا، وبعداً لهم من الذاكرة فقد انتهوا..
وما عادوا يستحقون ذكراً ولا ذكرى! والآن وقد هدأت العاصفة، وسكن الهول، واستوت على الجودي. الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع:
«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ، فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» .
رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاة أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير..
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء..
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها. فالأهل- عند الله وفي دينه وميزانه- ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة. وهذا الولد لم يكن مؤمناً، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن.. جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد:
«قالَ: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
(4/1879)
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين. حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعاً. عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة:
«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» ..
فهو مُنبتٌّ منك وأنت منبت منه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة.
ولأن نوحاً دعا دعاء من يستنجز وعداً لا يراه قد تحقق.. كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد:
«فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله، فوعد الله قد أُول وتحقق، ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق.
ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه، فيلجأ إليه، يعوذ به، ويطلب غفرانه ورحمته:
«قالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
وأدركت رحمة الله نوحاً، تطمئن قلبه، وتباركه هو والصالح من نسله، فأما الآخرون فيمسهم عذاب أليم:
«قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وكانت خاتمة المطاف: النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم.. ذات البشرى وذات الوعيد، اللذان مرا في مقدمة السورة. فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود..
ومن ثم يجيء التعقيب:
«تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» ..
فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة:
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي، وما كان معلوماً لقومه، ولا متداولاً في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير.
وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير.
وحقيقة تكرار الاعتراضات والإتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلاً أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل.
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ.
وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: «والعاقبة للمتقين» .. فهم الناجون وهم المستخلفون.
(4/1880)
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل.. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك:
وبعد.. أكان الطوفان عاماً في الأرض؟ أم إنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح؟ وأين كانت هذه الأرض؟ وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ اسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح.. وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل.
ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك الزمان. وأن الأرض التي يسكنونها كانت هي الأرض المعمورة في ذلك الحين. وأن الطوفان قد عم هذه الرقعة، وقضى على جميع الخلائق التي تقطنها- فيما عدا ركب السفينة الناجين.
وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد السحيق، الذي لا يعرف «التاريخ» عنه شيئاً. وإلا فيومها أين كان «التاريخ» ؟! إن التاريخ مولود حدثٌ لم يسجل من أحداث البشرية إلا القليل! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب، والصدق والكذب، والتجريح والتعديل! وما ينبغي قط أن يستفتى ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق. ومجرد استفتائه في مثل هذا الشأن قلب للأوضاع، وانتكاسه لا تصيب عقلاً قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين! ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول، بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير.. وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه «العهد القديم» تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح.. ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد. وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد..
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى «بالكتاب المقدس» - سواء في ذلك «العهد القديم» المحتوي على كتب اليهود أو «العهد الجديد» المحتوي على أناجيل النصارى- ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تعد كتابتها إلا بعد قرون عديدة- قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون- وقد كتبها عزرا- وقد يكون هو عزير- وجمع فيها بقايا من التوراة. أما سائرها فهو مجرد تأليف! وكذلك الأناجيل فهي جميعاً لا تحوي إلا ما حفظته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح- عليه السلام- ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير! ..
ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور! ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم.. وهي- في الحقيقة- عبر شتى، لا عبرة واحدة. وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية، قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة هود:
(4/1881)
إن قوم نوح- عليه السلام- هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح- عليه السلام- إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد الله- سبحانه- بالدينونة والعبودية ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية..
إن قوم نوح هؤلاء.. هم ذرية آدم.. وآدم- كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل- وفي سورة البقرة كذلك- قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها- وهي المهمة التي خلقه الله لها وروده بالكفايات والإستعدادات اللازمة لها- بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق- هو وزوجه وبنوه- أن «يتبع» ما يأتيه من هدى الله، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلماً لله متبعاً هداه.. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلاً بعد جيل وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض حيث لم تكن معها عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح- وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله- قد صاروا إلى هذه الجاهلية- التي وصفتها القصة في هذه السورة- فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعاً. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة.. ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدراً من الاختيار- هو مناط الابتلاء- وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف- ولو قيد شعرة- عن هدى الله إلى تعاليم غيره فيجتاله الشيطان حتى يقذف به- بعد أشواط- إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم- النبي المسلم- بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله.
وهذه الحقيقة.. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده.. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم «علماء الأديان المقارنة» وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طوراً متاخراً من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنيه للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب.. إلى آخر ما تخبط فيه هذه «البحوث» التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان! وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان- وفق ذلك المنهج الموجه! - من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الإعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم- عليه السلام- هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحاً- عليه السلام- واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه.. القائم على التوحيد المطلق.. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية وأن الرسل جميعاً أرسلوا بعد ذلك بالإسلام.. القائم على التوحيد المطلق.. وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الإعتقاد- إنما كان الترقي والتركيب والتوسع
(4/1882)
في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة- وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية- حتى بعد انحراف الأجيال عنها- ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعاً! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى..
هذا ما يقرره القرآن الكريم ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال- إذن- لباحث مسلم- وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! - أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا! ومع أننا هنا- في ظلال القرآن- لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام- إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل-.. ولكننا نلم بنموذج واحد، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية..
كتب الأستاذ العقاد في كتابه: «الله» في فصل أصل العقيدة:
.. «ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات.
«فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
«وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
«لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
«وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال.
«فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد وأن الناس يستعدون لعرفانها عصراً بعد عصر، وطوراً بعد طور. واسلوباً بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
«وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها
(4/1883)
النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغفر به العلماء، أو يبنون عليه جديداً في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال ... » .
كذلك كتب في فصل: «أطوار العقيدة الإلهية» في الكتاب نفسه:
«يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية فى اعتقادها بالآلهة والأرباب:
وهى دور التعدد ودور التمييز والترجيح ودور الوحدانية «ففى دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أرباباً تعد بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات.
ويوشك فى هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب فى الحضور، وتقبل الصلوات والقرابين.
«وفى الدور الثانى وهو دور التمييز والترجيح تبقى الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها فى البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التى تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة، وتعتمد عليها فى شؤون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعاً مطلباً أعظم وألزم من سائر المطالب التى تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم فى حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهى موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية.
«وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضاً أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع.
«ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلاّ بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف الله بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة الله وحكمته العالية، وكثيراً ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية ... » الخ.
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصاً من آراء علماء الدين المقارن ان البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال..
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه: «موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن اتخذ الإنسان رباً، إلى أن عرف الله الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد» ..
والذي لا شك فيه أن الله سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريراً واضحاً جازماً، شيئاً آخر غير ما يقرره صاحب كتاب: «الله» متأثراً فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة.. وأن الذي يقرره الله- سبحانه- أن آدم
(4/1884)
وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة لله وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام ديناً، وإلا التوحيد عقيدة.. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من ذرية آدم انحرفت عن التوحيد.. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد.. ودانت لشتى الأرباب الزائفة ...
حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعاً ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون «نزاهة التوحيد» وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية! ولنا أن نجزم أن أجيالاً من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق. قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى الإنحراف عن التوحيد من جديد.. وأنه هكذا كان شأن كل رسول: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ..
والذي لا شك فيه أن هذا شيء، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب: «الله» شيء آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها.. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضاً، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين! وما من شك أنه حين يقرر الله- سبحانه- أمراً يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمراً آخر مغايراً له تمام المغايرة، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع. وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة.. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الإعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند الله، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله وهي أنه وحي من الله، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور! وليس وقفاً على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية! ولعل هذه اللمحة المختصرة- التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال- تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية- في أي جانب من جوانبها- عن مصدر غير إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه.. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ..
ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح.. نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله! إنها وقفة على مَعلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضاً.. وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق..
«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ... »
(4/1885)
«حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ- إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ- وَمَنْ آمَنَ، وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ... »
«وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ-: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ، قالَ: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ..»
«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ، فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة..
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح- عليه السلام- وهو يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» .. «يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ثم بين له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله.. «إنه عمل غير صالح» .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك! وهذا هو الْمَعْلَم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة.. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب وآناً هي الأرض والوطن، وآناً هي القوم والعشيرة، وآناً هي اللون واللغة، وآناً هي الجنس والعنصر، وآناً هي الحرفة والطبقة! تجعلها آناً هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك.. وكلها تصورات جاهلية- على تفرقها أو تجمعها- تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم- ممثلاً في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه- قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير..
والْمَعْلَم الواضح البارز في مفرق الطريق..
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها..
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم- عليه السلام- وأبيه وقومه كذلك:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ
(4/1886)
وَلِيًّا.. قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»
... (مريم: 41- 50) .
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه.
ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه:
«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ..»
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ- مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة: 124- 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ...
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... (التحريم: 10- 11) وضربَ لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... » .. (الممتحنة: 4) .
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ- إِلَّا اللَّهَ- فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ... (الكهف: 9- 16) .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المَعْلَم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالإستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة..
هذه نماذج منها..
(4/1887)
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ- وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ- أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ...
(المجادلة: 22) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ...
(الممتحنة: 1) «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... الخ» .. (الممتحنة: 3- 4) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ... (التوبة: 23) .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ... (المائدة: 51) .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلاً! وندع هذه القاعدة- وقد صارت واضحة تماماً- لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة..
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها- وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنساناً في هذه الصورة- وحتى أشد الملحدين إلحاداً وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيراً إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقاً أساسياً عن الحيوان «1» .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة- في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية- هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصراً يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر
__________
(1) من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة!
(4/1888)
واللون واللغة.. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة! كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم.. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختاراً ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي والخلقي الذي يريد- بكامل حريته- أن يتمذهب به ويعيش..
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها.. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضاً سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معاً- أو حتى في الدنيا وحدها- بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضاً لم يكن مختاراً ولا مريداً وبذلك تسلب إنسانيته مقوماً من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة- التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد- هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يدله فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة- وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى- أن ينشىء مجتمعاً إنسانياً عالمياً مفتوحاً يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض..
«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
«لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني
(4/1889)
والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس.. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما «عربية» إنما كانت دائماً «إسلامية» ولم تكن يوماً ما «قومية» إنما كانت دائماً «عقيدية» .
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأى تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً. فقد جمعت بالفعل أجناساً متعددة، ولغات متعددة، وألواناً متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة.. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني- بصفة عامة- وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً.. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلالياً، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها.. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة، إنما أقامته على القاعدة «الطبقية» . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية- وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!! «لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني.. وما يزال متفرداً.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء «الإنسان» حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق «1» » ..
__________
(1) مقتطفات من فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» . [.....]
(4/1890)
الجزء الثاني عشر ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس..
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم.. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناماً تعبد من دون الله، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس» .
وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجاً على دين قومه! أو خائناً لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ.. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية.. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي- بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي.. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الإستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون..
حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد..
وأخيراً فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم.
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات» ! ويجب ان يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات..
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صوراً متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أياً كانت أسماؤها. وأياً كانت مراسمها.
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان.. وما إليها.. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى الله وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه! لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري.. أمة المسلمين من أتباع الرسل-
(4/1891)
كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة- وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون..
وعند ما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل- كل في زمانه- وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» .. ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود:
إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقاً على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم.. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات: 48- 91) .
هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف الله سبحانه.. فمن شاء له طريقاً غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل:
إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين اسلمنا لله، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين..
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه:
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام، تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن..
إن هذه الحفنة- وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل- قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها والإستخلاف من جديد..
.. وهذا أمر خطير..
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة كما تعاني الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل.. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير! إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى.. شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعاً كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد! لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه، كما قال تعالى: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» ..
وعند ما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر:
«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ. فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» ..
(4/1892)
عند ما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه «مغلوب» ويدعو ربه أن «ينتصر» هو وقد غُلب رسوله.. عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب:
«فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» ..
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوي الكوني الرائع المرهوب.. كان الله سبحانه- بذاته العلية- مع عبده المغلوب:
«وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا.. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ..» .
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية وحين «تغلبها» الجاهليه! إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة.. وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان. فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى! «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» ..
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه، إلا فترة الإعداد والابتلاء وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء.
.. وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم..
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية. كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه: «أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» ..
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة.. إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية- حينما يشاء وكيفما يشاء- وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب! وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله.. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً.. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها..
إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة- وفق مشيئة الله الطليقة- ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاَ أخرى، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً، ويلابسون آثارها المبدعة.
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً، بكل ما في طاقتهم من جهد ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعند ما يُغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ، فَانْتَصِرْ» .. ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله عبادة فهم على هذا الانتظار مأجورون.
(4/1893)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهاداً كبيراً.. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ومن ثم يتذوقونه ويدركونه لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به..
.. والحمد لله في الأولى والآخرة..
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 68]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64)
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
(4/1894)
مضى قوم نوح في التاريخ، الأكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، والناجون استخلفوا في الأرض تحقيقاً لسنة الله ووعده: «إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» .
ولقد كان وعد الله لنوح: «يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» .. فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد الله. وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد- ومن بعدهم ثمود- ممن حقت عليهم كلمة الله: «وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» .
لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال لا يعلمها إلا الله من المسلمين من ذرية آدم..
فلا بد أن أجيالاً من ذرية آدم بعد استخلافه في الأرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالإسلام الذي كان عليه أبواهم. حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم، وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح- عليه السلام- ثم جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين، وأهلك الباقون ولم يعد على الأرض من الكافرين ديار- كما دعا نوح ربه. ولا بد أن أجيالاً كثيرة من ذرية نوح عاشت بالإسلام بعده.. حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية. وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية..
فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف (والحقف كثيب الرمل المائل) في جنوب الجزيرة العربية، وأما ثمود فكانت قبيلة تسكن مدائن الحِجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع.. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممن حقت عليهم كلمة الله، بما عتوا عن أمر الله، واختاروا الوثنية على التوحيد، والدينونة للعبيد على الدينونة لله، وكذبوا الرسل شر تكذيب. وفي قصصهم هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح.
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ..
(4/1895)
وكان هود من عاد. فهو أخوهم. واحد منهم، تجمعه- كانت- آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة. وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذاً ومستقبحاً! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس إفتراق العقيدة. ويبرز بذلك معنى إنقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة.
لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي..
فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض ... ثم تنتهي بالإفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد.. أمة مسلمة وأمة مشركة..
وبينهما فُرقة ومفاصلة.. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد.. وعندئذٍ فقط- لا قبله- يتنزل عليهم نصر الله..
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً» ..
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحاً إلى قومه في القصة السابقة.
«قال: يا قوم» ..
بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
«قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا- كما أسلفنا- عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الإنحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلاً بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة- في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الإنحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا الله وحده.. الإنحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله.
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول:
«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..
مفترون فيما تعبدونه من دون الله، وفيما تدعونه من شركاء لله.
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على النصح والهداية أجراً. إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل:
«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
(4/1896)
مما يشعر أن قوله: «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجراً أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها. وكان التعقيب: «أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولاً من عند الله يطلب رزقاً من البشر، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوِّت هؤلاء الفقراء! ثم يوجههم إلى الإستغفار والتوبة. ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بالآف السنين:
«وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ..
استغفروا ربكم مما أنتم فيه، وتوبوا إليه فابدأوا طريقاً جديداً يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية..
«يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» ..
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع.
«وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» ..
هذه القوة التي عرفتم بها..
«وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» ..
مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب.
وننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الإستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالإعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والإطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحراراً كراماً لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه.. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر! والملحوظ دائماً أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة.. أحياناً.. كل ذلك ليدين لها الناس! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبَّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلاً من أن ينفقه عبَّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة! ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين. حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين. إنما استندت إلى
(4/1897)
جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج. وهذه وحدها لا تدوم. لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين.
فأما إرسال المطر. مدراراً. فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني. ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محيياً في مكان وزمان، ومدمراً في مكان وزمان وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وان ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال. ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء. حيث شاء. بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض «1» غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.
تلك كانت دعوة هود- ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريباً منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى- فأما قومه فظنوا به الظنون..
«قالُوا. يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ... » .
إلى هذا الحد بلغ الإنحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هوداً يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان! «يا هود ما جئتنا ببينة» ...
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجية والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير.
«وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» ..
أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل! «وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» ..
أي مستجيبين لك ومصدقين.. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء! وهنا لم يبق لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى الله وحده والإعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين.
وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب:
«قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم- وقد كان منهم وكان أخاهم- وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
__________
(1) سيأتي تفصيل ذلك في التعقيب على القصة.
(4/1898)
وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم! وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه! وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى. يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي. لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد. ولكن الدهشة تزول عند ما يتدبر العوامل والأسباب..
إنه الإيمان. والثقة. والاطمئنان.. الإيمان بالله، والثقة بوعده، والإطمئنان إلى نصره.. الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة. لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعداً للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب.
«قال: إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه» .
إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه. واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله. ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء.
تجمعوا أنتم وهي- جميعاً- ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعاً، ولا أخشاكم شيئاً:
«إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» ..
ومهما أنكرتم وكذبتم. فهذه الحقيقة قائمة. حقيقة ربوبية الله لي ولكم. فالله الواحد هو ربي وربكم، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة..
«ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» ..
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس. والناصية أعلى الجبهة. فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم.. وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد:
«إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
فهي القوة والاستقامة والتصميم.
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الإستعلاء وسر ذلك التحدي.. إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود- عليه السلام- في نفسه من ربه.. إنه يجد هذه الحقيقة واضحة.. إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر: «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» .. وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهراً. فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها وهي لا تسلط عليه- إن سلطت- إلا بإذن ربه؟ وما بقاء فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه؟
(4/1899)
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه، لا تدع في قلبه مجالاً للشك في عاقبة أمره ولا مجالاً للتردد عن المضي في طريقه.
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة ابداً.
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة، يأخذ هود في الإنذار والوعيد:
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ» ..
فأديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه:
«وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» ..
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم.
«وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» ..
فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغاً ولا نقصاً..
«إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هرباً! وكانت هي الكلمة الفاصلة. وانتهى الجدل والكلام. ليحق الوعيد والإنذار:
«وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا. وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» .
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد، وإهلاك قوم هود، نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء. وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين. ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم، يتناسق مع الجو، ومع القوم الغلاظ العتاة.
والآن وقد هلكت عاد. يشار إلى مصرعها إشارة البعد، ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب، وتشيع باللعنة والطرد، في تقرير وتكرار وتوكيد:
«وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ. أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» ..
«وَتِلْكَ عادٌ» .. بهذا البعد. وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق، وكان مصرعهم معروضا على الأنظار..
ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار..
«وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ» ..
وهم عصوا رسولاً واحداً. ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعاً؟ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعاً. ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها. فهم جحدوا آيات، وهم عصوا رسلاً. فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة! «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
امر كل متسلط عليهم، معاند لا يسلم بحق، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم. ولا يكونوا ذيولاً فيهدروا آدميتهم.
(4/1900)
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد..
كانت هي قضية الحاكمية والاتباع.. كانت هي قضية: من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره؟ يتجلى هذا في قول الله تعالى:
«وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» ..
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين! والإسلام هو طاعة أمر الرسل- لأنه أمر الله- ومعصية أمر الجبارين. وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان.. في كل رسالة وعلى يد كل رسول.
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.. لقد خلق الله الناس ليكونوا أحراراً لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم. فهذا مناط تكريمهم.
فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة. وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير الله من عباده. والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين. فهم كثرة والمتجبرون قلة. ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال.
لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا امر كل جبار عنيد.. هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة:
«وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال:
«أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ» ..
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد:
«أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» ..
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد. كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصداً:
.. «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» !!! ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة، قبل ان ننتقل منها إلى قصة صالح. ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون.. ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان. وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة. وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان.. وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ودليلها في الحركة في كل حين.
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريباً. ولكنها مرت في
(4/1901)
مجال تفسير النصوص القرآنية مروراً عابراً لمتابعة السياق. وهي تحتاج إلى وقفات امامها أطول في حدود الإجمال:
نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة.. دعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: «قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
ولقد كنا دائماً نفسر «العبادة» لله وحده بأنها «الدينونة الشاملة» لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي.. فإن «عبد» معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد طريق مذلل ممهد. وعبّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً.. ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن اول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عند ما يخاطب به ان المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره.. ولقد فسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «العبادة» نصاً بأنها هي «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية. وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً: «بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» .. إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون.. صورة لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! فلما بهت مدلول «الدين» ومدلول «العبادة» في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح «مسلماً» لا يجوز تكفيره! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ... إلى أخر حقوق المسلم على المسلم! وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ «العبادة» التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه- وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن. وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة والذي نص عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نصاً وهو يفسر قول الله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وليس بعد تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمصطلح من المصطلحات قول لقائل «1» .
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيراً في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي «2» .. فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
إنه لم يكن يعني: يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله! كما يتصور الذين انحسر مدلول «العبادة»
__________
(1) يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان بعنوان: «المصطلحات الأربعة في القرآن» .. «الإله. الرب. الدين. العبادة» .
(2) كتاب: «معالم في الطريق» وكتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وكتاب: «هذا الدين» وكتاب: «المستقبل لهذا الدين» وكتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» وكتاب: «العدالة الاجتماعية» وكتاب: «السلام العالمي والإسلام» . نشر «دار الشروق» .
(4/1902)
في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها.. والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله.. فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده- أي الدينونة له وحده- إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي: جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله. واتباع أمر الجبارين من عبيده: «وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» .
كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين..
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل، واتباع الجبارين.. فهو أمر واحد لا أمور متعددة..
ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله. ودانوا للطواغيت بدلاً من الدينونة لله فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك- وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض. إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام.. وهكذا إلى يومنا هذا..
والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد. وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامه، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة ... إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من اجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتاثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها. (وهذا ما نرجو أن نزيده بياناً- إن شاء الله- في نهاية قصص الرسل في ختام السورة) ..
ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم: «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» ..
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين.. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت وبخاصة في نفوس الذين
(4/1903)
يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها..
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله- سبحانه- والحق الذي خلقت به السماوات والأرض، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية.. والقرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله- سبحانه- والحق الذي قامت به السماوات والأرض والحق المتمثل في الدينونة لله وحده.. والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة.. وذلك في مثل هذه النصوص:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا.. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ.. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ؟ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ... (الأنبياء 16- 25) .
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ- مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ- شَيْئاً، وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ...
(الحج: 5- 7) .
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ، لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ، فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ... » ..
(الحج: 54- 67) .
(4/1904)
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق. وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق.. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء. ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدراراً ... فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره، وفي تدبيره وتصريفه، وفي حسابه وجزائه، في الخير وفي الشر سواء..
ومن هذا الارتباط مجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس. فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة. سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم. أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك. وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان، من النتائج المحسوسة المدركة.
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة: إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع، وان يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي- فضلاً على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان- ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعاً حسناً في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة «1» .. وحين قلنا مرة: إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة، لتخلع عليها شيئاً من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلاً على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد «2» ..
وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس «3» .. (وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله) .
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:
«قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:
__________
(1) ص 1871- 1872 من هذا الجزء.
(2) ص 1897 من هذا الجزء.
(3) يراجع كذلك ما جاء في تقديم هذه الطبعة المنقحة لهذه الظلال بعنوان: «في ظلال القرآن» الجزء الأول ص 16- 18.
(4/1905)
«كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ! .. (الشعراء: 123- 138) فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة والذين أبطرتهم النعمة والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود! .. هؤلاء هم الذين واجههم هود- عليه السلام- هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة- وهم قومه- وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال! لقد وقف هود- عليه السلام- هذه الوقفة الباهرة، بعد ما بذل لقومه من النصح ما يملك وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد.. ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله..
لقد وقف هود- عليه السلام- هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض، وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء، ولا يضرونه شيئاً، ولا يردون له قضاء.. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..
إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم.. أمام القوة المادية. وقوة الصناعة. وقوة المال.
وقوة العلم البشري. وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات.. وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة وأن الناس- كل الناس- إن هم إلا دواب من الدواب! وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان.. أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه. وأمة تتخذ من دون الله أرباباً، وتحاد الله! ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه- في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال- ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده.. وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصراً سواه.
وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد. لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود.
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
إنها الكلمة التي لا تتغير:
(4/1906)
«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل:
«فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» ..
ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول:
«إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض. نشأة جنسهم، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي. ومع أنهم من هذه الأرض. من عناصرها. فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها. استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم.
ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة اخرى..
«فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» ..
واطمئنوا إلى استجابته وقبوله:
«إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
والإضافة في «ربي» ولفظ «قريب» ولفظ «مجيب» واجتماعها وتجاورها.. ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة، وتخلع على الجو أنساً واتصالاً ومودة، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب! ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق، ولا وضاءة هذا الجو الطليق.. وإذا بهم يفاجأون، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون! «قالُوا: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا! أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
لقد كان لنا رجاء فيك. كنت مرجواً فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك، أو لهذا جميعه.
ولكن هذا الرجاء قد خاب..
«أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» ..
إنها للقاصمة! فكل شيء يا صالح إلا هذا! وما كنا لنتوقع أن تقولها! فيا لخيبة الرجاء فيك! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه. شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول:
«وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه بل يستنكرون ما هو واجب وحق، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده. لماذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير. ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة! وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين. وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء! وهكذا يتبين مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح.
ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل.
وتذكرنا قولة ثمود لصالح:
(4/1907)
«قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» ..
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد- صلى الله عليه وسلم- وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح، وقالوا: ساحر. وقالوا: مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه! إنها طبيعة واحدة، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور..
ويقول صالح كما قال جده نوح:
«قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير» ..
يا قوم: ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها. فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته، احتفاظاً برجائكم فيّ؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله؟ كلا:
«فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة.. غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهي خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد! «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي اشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها لله:
«هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» وفي تخصيصها لهم: «لكم آية» ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من الله. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء! «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» ..
وإلا فسيعاجلكم العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب:
«فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» ..
يأخذكم أخذاً. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
«فَعَقَرُوها.. فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ..
ودل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييراً يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات:
«فَعَقَرُوها. فَقالَ: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» ..
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة:
«ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ..
فهو وعد صادق لن يحيد..
وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر:
(4/1908)
«فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
فلما جاء موعد تحقيق الأمر- وهو الإنذار أو الإهلاك- نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا..
خاصة ومباشرة.. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهداً مخزياً.
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» ..
يأخذ العتاة أخذاً ولا يعز عليه أمر، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق مشهدهم، معجّباً منهم، ومن سرعة زوالهم:
«كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» ..
كان لم يقيموا ويتمتعوا.. وإنه لمشهد مؤثر، وإنها للمسة مثيرة، والمشهد معروض، وما بين الحياة والموت- بعد أن يكون- إلا لمحة كومضة العين، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن لم يغنوا فيها ...
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة: تسجيل الذنب، وتشييع اللعنة، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى:
«أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!» ..
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ.. الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته.. عبادة الله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع.. ومرة اخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد- فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح- ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد..
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها، لا بالإيمان والتصديق، ولكن بالجحود وعقر الناقة! ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا.
فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئاً! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق.
إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول:!!! ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام.
نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» .. وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه: «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب «1» !
__________
(1) يراجع فصل «حقيقة الألوهية» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق» .
(4/1909)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالاً وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها! فصالح الذي كان مرجواً في قومه، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه، يقف منه قومه موقف اليائس منه، المفجوع فيه! لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده. على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره! إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.
حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق! إن صالحاً يناديهم: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..» ..
فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له رداً.. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشئوا أنفسهم، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض..
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله- سبحانه- هو الذي أنشأهم من الأرض، وهو الذي أقدرهم على عمارتها. ولكنهم ما كانوا يُتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله- سبحانه- وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع.. وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» ..
لقد كانت القضية هي ذاتها.. قضية الربوبية لا قضية الألوهية. قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة.. إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية!
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 83]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
(4/1910)
يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح، وبالأمم التي بوركت والأمم التي كتب عليها العذاب.. يلم بطرف من قصة إبراهيم، تتحقق فيه البركات، في الطريق إلى قصة قوم لوط الذين مسهم العذاب الأليم. وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد الله بطرفيه لنوح: «قِيلَ: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ. وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» .. وقد كانت البركات في إبراهيم وعقبه من ولديه: إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل. وإسماعيل ومن نسله خاتم الأنبياء المرسلين.
«وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» ..
ولا يفصح السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم! والرسل: الملائكة.
وهم هنا مجهولون، فلا ندخل- مع المفسرين- في تعريفهم وتحديد من هم بلا دليل.
«قالوا: سلاماً. قال: سلام» ..
وكان ابراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق، وعبر الأردن، وسكن في أرض كنعان في البادية- وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفاً-:
«فما لبث إن جاء بعجل حنيذ» ..
أي سمين مشوي على حجارة الرضف المحماة.
ولكن الملائكة لا يأكلون طعام أهل الأرض:
«فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» ..
أي لا تمتد إليه.
«نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» ..
فالذي لا يأكل الطعام يريب، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدراً بحسب تقاليد أهل البدو.. وأهل الريف
(4/1911)
عندنا يتحرجون من خيانة الطعام، أي من خيانة من أكلوا معه طعاماً! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شراً، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم.. وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم:
«قالُوا: لا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» ..
وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث:
«وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ» ..
وربما كان ضحكها ابتهاجاً بهلاك القوم الملوثين:
«فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» ..
وكانت عقيماً لم تلد وقد أصبحت عجوزاً. ففاجأتها البشرى بإسحاق. وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب. والمرأة- وبخاصة العقيم- يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى، والمفاجأة بها تهزها وتربكها:
«قالَتْ: يا وَيْلَتى! أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» ..
وهو عجيب حقاً. فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فلا تحمل. ولكن لا شيء بالقياس إلى قدرة الله عجيب:
«قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» ..
ولا عجب من أمر الله. فالعادة حين تجري بأمر لا يكون معنى هذا أنها سنة لا تتبدل. وعند ما يشاء الله لحكمة يريدها- وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه- يقع ما يخالف العادة، مع وقوعه وفق السنة الإلهية التي لا نعلم حدودها، ولا نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هو على كل حال محدود، ونحن لا نستقرئ جميع الحوادث في الوجود.
والذين يقيدون مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقررها الله سبحانه في كتابه- وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول- وحتى الذين يقيدون مشيئة الله بما يقرر الله- سبحانه- أنه ناموسه، لا يدركون حقيقة الألوهية كذلك! فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرره الله سبحانه من نواميس. ولا تتقيد هذه المشيئة بالنواميس.
نعم إن الله سبحانه يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له.. ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر! إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في كل مرة ينفذ فيها. فهو لا يجري ولا ينفذ آلياً. فإذا قدر الله في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف الناموس في وجه هذا القدر الجديد.. ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق..
وإلى هنا كان إبراهيم- عليه السلام- قد اطمأن إلى رسل ربه، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه.
ولكن هذا لم ينسه لوطاً وقومه- وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريباً منه- وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعاً:
(4/1912)
«فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» .
والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور. والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى.
والمنيب الذي يعود سريعاً إلى ربه.. وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص القرآني لم يفصله، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال:
«يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» ..
ويسكت السياق. وقد سكت- ولا شك- إبراهيم.. ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط. وقوم لوط في مدن الأردن: عمورية وسدوم.
«وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، وَقالَ: هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ!» ..
لقد كان يعرف قومه. ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. إذ يتركون النساء إلى الرجال، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعاً أزواجاً، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله. والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية، لا عن تفكير وتدبير، ولكن عن اهتداء واستقامة.
والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة. وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي. وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات، وانتشار المثل السيئ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة. على الرغم من مصادمته للفطرة، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة. الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها. والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها. بدلاً من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها. ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفوراً فطرياً- لا أخلاقياً فحسب- من عمل قوم لوط. لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة. الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها.
ولقد نجد أحياناً لذة في الموت- في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا- ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية. على أن هذه ليست مصادفة للحياة، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر. وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها..
سيئ لوط بأضيافه. وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه:
«وَقالَ: هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ» ! وبدأ اليوم العصيب! «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» ..
أي يسرعون في حالة تشبه الحمى.
«وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» ..
وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه، وما ضيق بهم ذرعه، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب! ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره، يهددونه في ضيفه وكرامته. فحاول أن
(4/1913)
يوقظ فيهم الفطرة السليمة، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال، وعنده منه في داره بناته، فهن حاضرات، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة! «قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم. فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي. أليس منكم رجل رشيد؟» .
«هؤلاء بناتي هن أطهر لكم» ..
أطهر بكل معاني الطهر. النفسي والحسي. فهن يلبين الفطرة النظيفة، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة.
نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية. ثم هن أطهر حسياً. حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمناً كذلك طاهراً نظيفاً.
«فَاتَّقُوا اللَّهَ» ..
قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد ان لمسها من ناحية الفطرة.
«وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي» ..
قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقاً.
«أليس منكم رجل رشيد؟» ..
فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة.. ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة، ولا القلوب الميتة الآسنة، ولا العقول المريضة المأفونة. وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم:
«قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق. وإنك لتعلم ما نريد!» ..
لقد علمت لو أردنا بناتك لتزوجناهن. فهذا حقنا.. «وإنك لتعلم ما نريد» .. وهي إشارة خبيثة إلى العمل الخبيث.
وأسقط في يد لوط، وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم، نازح إليهم من بعيد، لا عشيرة له تحميه، وليس له من قوة في هذا اليوم العصيب وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة:
«قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد!» ..
قالها وهو يوجه كلامه إلى هؤلاء الفتية- الذين جاء الملائكة في صورتهم- وهم صغار صباح الوجوه ولكنهم- في نظره- ليسوا بأهل بأس ولا قوة. فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة. أو لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد! وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد. ركن الله الذي لا يتخلى عن أوليائه. كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو هذه الآية: «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد» ! وعند ما ضاقت واستحكمت حلقاتها، وبلغ الكرب أشده.. كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه:
«قالوا: يا لوط، إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك» ..
وأنبئوه نبأهم، لينجو مع أهل بيته الطاهرين، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين:
(4/1914)
«فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك. إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح. أليس الصبح بقريب؟» ..
والسرى: سير الليل، والقطع من الليل: بعضه، ولا يلتفت منكم أحد. أي لا يتخلف ولا يعوق.
لأن الصبح موعدهم مع الهلاك. فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين.
«أليس الصبح بقريب؟» ..
سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق. لتقريب الموعد وتأكيده. فهو قريب. مع مطلع الصباح. ثم يفعل الله بالقوم- بقوته- ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعله! والمشهد الأخير. مشهد الدمار المروع، اللائق بقوم لوط:
«فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» ..
فلما جاء موعد تنفيذ الأمر «جعلنا عاليها سافلها» .. وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير المعالم ويمحوها. وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الإنسان إلى درك الحيوان. بل أحط من الحيوان، فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان..
«وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ..
حجارة ملوثة بالطين.. وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام:
«منضود» .. متراكم بعضه يلاحق بعضاً.
هذه الحجارة.. «مسوّمة عند ربك» .. كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة. فكأنما هذه الحجارة مرباة! ومطلقة لتنمو وتتكاثر! لوقت الحاجة.. وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس، ولا يفصح عنه التفسير، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه..
«وما هي من الظالمين ببعيد» ..
فهي قريبة وتحت الطلب، وعند الحاجة تطلق فتصيب «1» ! والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل.. وعند ربك للظالمين كثير!!! ولا نقول هذا الكلام لنقول: إنه كان بركان من تلك البراكين، ثار في ذلك الوقت، فوقع ما وقع.
إننا لا ننفي هذا. فقد يكون هو الذي وقع فعلاً. ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة..
وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم. وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقاً مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه.
وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط
__________
(1) من معاني مسومة: معلمة ذات علامة خاصة. والتعبير التصويري يجعل المعنى الذي اخترناه لها أقرب إلى التصوير.
(4/1915)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين. وفهم علاقة مشيئة الله بالكون على النحو الذي بيناه قريباً في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم، لا يبقي مجالاً لمشكلة تقوم في التصور الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور «1» ..
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
__________
(1) يراجع فصل: «التوازن» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الأول. «دار الشروق» .
(4/1916)
وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة، ينهض به شعيب في قومه أهل مدين.. ومع الدعوة إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى، هي قضية الأمانة والعدالة في التعامل بين الناس، وهي وثيقة الصلة بالعقيدة في الله، والدينونة له وحده، واتباع شرعه وأمره. وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة، ولم يدركوا العلاقة بين المعاملات المالية والصلاة المعبرة عن الدينونة لله! وتجري القصة على نسق قصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب عرضها. والتعبير عن خاتمتها إلى قصة صالح، حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي العبارة عن هذا العذاب.
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً. قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ... » .
إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى. وقاعدة الحياة الأولى. وقاعدة الشريعة الأولى. وقاعدة المعاملات الأولى.. القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة..
«وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة- بعد قضية العقيدة والدينونة- أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة.. فقد كان أهل مدين- وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام- ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآئبة بين شمال الجزيرة وجنوبها. ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها الله في هذه السورة.
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول. فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس. وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه، فتستند إلى أصل ثابت، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء..
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة.. هذه هي نظرة الإسلام.
وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم! وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها.
(4/1917)
فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة.. إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضعية من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغواً في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية «1» ! «وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» ..
فقد رزقكم الله رزقاً حسناً، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان.. بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة، أو غصب في الأخذ والعطاء.
«وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» ..
إما في الآخرة عند الله. وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة. وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك.
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية:
«وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» ..
وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة.
وللعبارات ظل في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء.
«وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» ..
وهذه أعم من المكيلات والموزونات. فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع. تقويمها كيلاً أو وزناً أو سعراً أو تقديراً. وتقويمها مادياً او معنوياً. وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات. لأن كلمة «شيء» تطلق أحياناً ويراد بها غير المحسوسات.
وبخس الناس أشياءهم- فوق أنه ظلم- يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير.. وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقى على شيء صالح في الحياة.
«وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» ..
والعثو هو الإفساد، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير:
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
فما عند الله أبقى وأفضل.. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة الله وحده- أي الدينونة له بلا شريك-
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «نظرية الإسلام الخلقية» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الإسلامية بباكستان. كما يراجع فصل:
«نظام أخلاقي» في كتاب: «نحو مجتمع إسلامي» للمؤلف. نشر «دار الشروق» .
(4/1918)
فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند الله إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات.
وهي فرع عن ذلك الإيمان.
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ.. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
ثم يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئاً، كما أنه ليس موكلاً بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلاً كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولاً عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه:
«وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجهاً لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال:
«قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعة. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
«أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟» ..
فهم لا يدركون- أولا يريدون أن يدركوا- أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.
وقبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معاً بالمعاملات..
قبل أن نمضي طويلاً في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكاً من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها- بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون- فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله..
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم- وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف- فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها- من غير اليهود- أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده- مهما تعرضت للخسارة- فأين من يدعون أنفسهم «مسلمين!» من هذا الاستمساك بالدين؟!!
(4/1919)
إن بيننا اليوم- ممن يقولون: إنهم مسلمون! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية.
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون» ؟! .. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: «أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟» ..
وهم يتساءلون ثانياً. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الأقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية- النظرية الأخلاقية مثلاً- ويعدونها تخليطاً من أيام زمان! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق.. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!! وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان! ويسخر أهل مدين من شعيب- كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق- فيقولون:
«إنك لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!! ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم.. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات فهو لا يبغي كسباً شخصياً من وراء دعوته لهم فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون:
«قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقاً حسناً؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب» ..
«يا قوم ... » ..
في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة.
(4/1920)
«أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟» ..
أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقاً مستيقناً.
«وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» ..
ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها.
«وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» ..
فأنها كم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعاً به! «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» ..
الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متضامناً متعاوناً لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام! «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» ..
فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي.
«عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» ..
عليه وحده لا أعتمد على غيره.
«وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ..
إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي.
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط:
فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير:
«ويا قوم لا يجرمنَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح. وما قوم لوط منكم ببعيد» ..
لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم- وهم في مواجهة العذاب والهلاك- باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة الله والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها:
«وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» ..
وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب:
(4/1921)
«قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» ..
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه:
«قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» ..
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة:
«وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ..
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
«وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» ..
ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
«وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» ..
لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة! وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية.
وعندئذ تأخذ شعيباً الغيرة على جلال ربه ووقاره فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعملون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين الله، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون:
«قالَ: يا قَوْمِ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا؟ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟» ..
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد الله.. أهؤلاء أعز عليكم من الله؟ .. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله؟
«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» ..
وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون الله ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير.
«إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
(4/1922)
والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه.
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله- سبحانه- ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه.. إن شعيباً لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه- الذين افترق طريقهم عن طريقه- وهذا هو الإيمان في حقيقته.. أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يُخشى ربه! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه، إنما هي لربه ودينه. وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته! ومن هذه الغضبة لله. والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم- بعد أن كان واحداً منهم- ويفترق الطريقان فلا يلتقيان:
«وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» ..
وامضوا في طريقكم وخطتكم، فقد نفضت يديّ منكم.
«إِنِّي عامِلٌ» ..
على طريقتي ومنهجي.
«سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» ..
أنا أم أنتم؟
«وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم.. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق..
ويسدل الستار هنا. على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة، ليرفع هناك على مصرع القوم، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح، فكان مصيرهم كمصيرهم، خلت منهم الدور، كأن لم يكن لهم فيها دور، وكأن لم يعمروها حيناً من الدهر. مضوا مثلهم مشيعين باللعنة، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب:
«وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ، كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ... » .
وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد.
(4/1923)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
[سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون، لتسجيل نهاية فرعون وملئه، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره. وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة التي لم تذكر هنا، كما تضم مشهداً من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام.
مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء..
ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزوداً بقوة من الله وسلطان، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه.
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» ..
ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها، فإذا هم يتبعون أمر فرعون، ويعصون أمر الله.
على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط:
«فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» ..
ولما كانوا تبعاً لفرعون في هذا الأمر، يمشون خلفه، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر، ودون أن يكون لهم رأي، مستهينين بأنفسهم، متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق.. لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعاً:
«يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعداً عن المستقبل، إذا المشهد ينقلب، وإذا المستقبل ماض قد وقع، وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى:
«فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ» !! أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم. ألم يكونوا قطيعاً يسير بدون تفكير؟ ألم يتنازلوا عن أخص خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار؟ فأوردهم النار. ويا بئساه من ورد لا يروي غلة، ولا يشفي صدى، إنما يشوي البطون والقلوب:
«وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ!» .
وإذا ذلك كله. قيادة فرعون لهم، وإيرادهم موردهم.. إذا ذلك كله حكاية تروى، ويُعلق عليها:
«وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
ويُسخر منها ويُتهكم عليها: «بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ» ..
(4/1924)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه!!! ألم يعد السحرة عطاء جزيلاً ورفداً مرفوداً.. فها هو ذا رفده لمن اتبعه.. النار.. وبئس الورد المورود.. وبئس الرفد المرفود! وذلك من بدائع التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب..
[سورة هود (11) : الآيات 100 الى 123]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
(4/1925)
هذه خاتمة السورة. تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة، مبنية على ما سبق في سياق السورة. من المقدمة ومن القصص. وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة الاتصال بما سبق من سياق السورة، متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك.
والتعقيب الأول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ- لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ- وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ..
والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحياً بالخوف من عذاب الآخرة الذي يعرض في مشهد شاخص من مشاهد يوم القيامة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ- إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ- إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» ..
يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد- صلى الله عليه وسلم- شأنهم شأن من قبلهم في الحالين. وإذا كان عذاب الاستئصال لا يقع عليهم في الأرض، فذلك لكلمة سبقت من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلافهم فيما جاءهم من كتاب. ولكن هؤلاء وهؤلاء سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد. فاستقم أيها الرسول على طريقتك انت ومن تاب معك، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا وأشركوا، وأقم الصلاة واصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين: «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ، وَلا تَطْغَوْا،
(4/1926)
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»
.. ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إلا قليل من الذين ينهون عن الفساد في الأرض. أما الكثرة فكانت ماضية فيما هي فيه، فاستحقت الهلاك. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض! إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون» ..
وكشف عن سنة الله في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدراً من الاختيار: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .
وفي النهاية يسجل السياق غرضاً من أغراض هذا القصص هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمر الرسول أن يلقي للمشركين كلمته الأخيرة، ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب الله. وأن يعبد الله ويتوكل عليه، ويدع له أخذ الناس بما يعملون: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ. مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ..
ومصارع القوم معروضة، ومشاهدهم تزحم النفس والخيال منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر، ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفت به وبداره الأرض، ومنهم من يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار. وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للأنظار.. في هذا الموضع وقد بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد.. هنا يأتي هذا التعقيب:
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ» ..
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» .. فما كان لك به من علم، إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور.
وذلك بعض أغراض القصص في القرآن «1» .
«منها قائم» .. لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كبقايا عاد في الأحقاف وبقايا ثمود في الحجر. ومنها «حصيد» كالزرع المحصود. اجتث من فوق الأرض وتعرى وجهها منه، كما حل بقوم نوح أو قوم لوط.
__________
(1) تراجع بتوسع أغراض القصة في فصل القصة في القرآن في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» : نشر «دار الشروق» .
(4/1927)
وما الأقوام؟ وما العمران؟ .. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات. غرس منها يزكو وغرس منها خبيث! غرس منها ينمو وغرس منها يموت! «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» ..
فهم قد عطلوا مداركهم، وتولوا عن الهدى، وكذبوا بالآيات، واستهزأوا بالوعيد، فصاروا إلى ما صاروا إليه ظالمين لأنفسهم لا مظلومين.
«فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» ..
وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص. فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير الله سبحانه وتكرر الإنذار مع كل رسول وقيل لهم: إن هذه الأرباب المفتراة لا تعصمهم من الله.. فها هي ذي العاقبة تصدق النذر. فلا تغني عنهم آلهتهم شيئاً، ولا تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك، بل ما زادهم هؤلاء الآلهة إلا خسارة ودماراً. (ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد) ذلك أنهم اعتمدوا عليهم، فزادوا استهتاراً وتكذيباً. فزادهم الله نكالاً وتدميراً. فهذا معنى «ما زادوهم» فهم لا يملكون لهم ضراً كما أنهم لا يملكون لهم نفعاً. ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد..
«وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» ...
كذلك الذي قصصناه عليك، وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة..
ظالمة: مشركة حين تدين لغير الله بالربوبية، وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الأرض والإعراض عن دعوة التوحيد والصلاح. وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون.
«إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ..
بعد الإمهال والمتاع والابتلاء، وبعد الإعذار بالرسل والبينات، وبعد أن يسود الظلم في الأمة ويسيطر الظالمون. ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة لا تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في الضلال..
ثم.. بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الضلال وتعتبر نفسها أمة وحدها لها دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولاؤها الخاص فيما بينها. وتعلن الأمة المشركة من قومها بهذا كله، وتدعها تلاقي مصيرها الذي يقدره الله لها. وفق سنته التي لا تتخلف على مدار الزمان.
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة، يراها من يخافون عذاب الآخرة، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة، فيخافوا هذا العذاب.. وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ- إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ- إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» ..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ» ..
(4/1928)
ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة، تذكر بهذا اليوم وتخيف..
وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب..
والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهماً.
ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم..
«ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» ..
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعاً، على غير إرادة منهم، إنما هو سوق الجميع سوقاً إلى ذلك المعرض المشهود، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون..
«يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» ..
فالصمت الهائل يغشى الجميع، والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام بإذن لا يجرؤ أحد على طلبه، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته بإذنه.. ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع:
«فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» ..
ومن خلال التعبير نشهد: «الَّذِينَ شَقُوا» نشهدهم في النار مكروبي الأنفاس «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ» من الحر والكتمة والضيق. ونشهد «الَّذِينَ سُعِدُوا» نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ولا ممنوع..
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم «ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار. وللتعبيرات ظلال. وظل هذا التعبير هنا هو المقصود.
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين. وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية.
فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها. إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله:
«إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» ..
وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة الله اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع، حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة. وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعد ما يوهم التقييد.
بعد هذا الاستطراد إلى المصير في الآخرة، بمناسبة عرض مصائر الأقوام في الدنيا، والمشابه بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك، أو هنا ثم هناك.. يعود السياق بما يستفاد من القصص ومن المشاهد إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه في مكة- تسرية وتثبيتاً وإلى المكذبين من قومه بياناً وتحذيراً. فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون- شأنهم شأن أصحاب ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر- ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه. فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر عذاب الاستئصال عن قوم موسى- بعد اختلافهم في دينهم- لأمر قد شاءه الله في إنظارهم.
ولكن قوم موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون، بعد الأجل، وفي الموعد المحدود. ولم يؤخر عنهم العذاب لأنهم على الحق. فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد:
«فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
(4/1929)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ.. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»
..
لا يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلاء. والخطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم- والتحذير لقومه. وهذا الأسلوب أفعل في النفس أحياناً، لأنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها الله لرسوله، وليست جدالاً مع أحد، ولا خطاباً للمتلبسين بها، إهمالاً لهم وقلة انشغال بهم! وعندئذٍ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطاباً مباشراً..
«فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ» ..
ومصيرهم إذن كمصيرهم.. العذاب.. ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشياً مع الأسلوب:
«وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» ..
ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم. وقد رأينا منه نماذج ومشاهد! وقد لا يصيبهم عذاب الاستئصال- في الدنيا- كما لم يصب قوم موسى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» ..
وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم، ولكن كلمة سبقت من الله أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة:
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ..
ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة، ولم يحل عذاب الاستئصال بهم، لأن لهم كتاباً، والذين لهم كتاب من اتباع الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة، لأن الكتاب دليل هداية باق، تستطيع الأجيال أن تتدبره كالجيل الذي أنزل فيه. والأمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي لا يشهدها إلا جيل، فإما أن يؤمن بها وإما أن لا يؤمن فيأخذه العذاب.. والتوراة والإنجيل كتابان متكاملان يظلان معروضين للأجيال حتى يجيء الكتاب الأخير، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل فيصبح هو الكتاب الأخير للناس جميعاً يدعى إليه الناس جميعاً، ويحاسب على أساسه الناس جميعاً، بما فيهم أهل التوراة وأهل الإنجيل. «وَإِنَّهُمْ» .. أي قوم موسى.. «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .. من كتاب موسى، لأنه لم يكتب إلا بعد أجيال، وتفرقت فيه الروايات واضطربت، فلا يقين فيه لمتبعيه.
وإذا كان العذاب قد أجل.. فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها. سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن تضيع:
«وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل. وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين..
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة. فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب. بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد. والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين! .. إنها فترة تهتز
(4/1930)
فيها بعض القلوب. وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت.
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه! كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون! وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة، وكيف يكشف لها معالم الطريق! ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي وعيده. وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم- كما أمروا- لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق.
ثم يتزودون بزاد الطريق، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عند ما يريد.
«فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ- وَمَنْ تابَ مَعَكَ- وَلا تَطْغَوْا. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» ..
هذا الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن تاب معه:
«فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» .. أحس- عليه الصلاة والسلام- برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيراً إليه:
«شيبتني هود ... » . فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف. وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً.. ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة.
وإنه لما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة.. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر. والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير. وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة، لإمساك النفوس على الصراط، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء..
«إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
والبصر- من البصيرة- مناسب في هذا الموضع، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير..
فاستقم- أيها الرسول- كما أمرت. ومن تاب معك ...
«وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» ..
لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبّدونهم لغير الله من العبيد.. لا تركنوا إليهم فإن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على
(4/1931)
هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه. ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير.
«فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» ..
جزاء هذا الانحراف.
«وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» ..
والاستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين..
والله- سبحانه- يرشد رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق:
«وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» ..
ولقد علم الله أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود! والآية هنا تذكر طرفي النهار- وهما أوله وآخرة، وزلفاً من الليل أي قريباً من الليل. وهذه تشمل أوقات الصلاة المفروضة دون تحديد عددها. والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك.
والنص يعقب على الأمر بإقامة الصلاة- أي أدائها كاملة مستوفاه- بأن الحسنات يذهبن السيئات. وهو نص عام يشمل كل حسنة، والصلاة من أعظم الحسنات، فهي داخلة فيه بالأولوية. لا أن الصلاة هي الحسنة التي تذهب السيئة بهذا التحديد- كما ذهب بعض المفسرين-:
«ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» ..
فالصلاة ذكر في أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب..
والاستقامة في حاجة إلى الصبر. كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر..
ومن ثم كان التعقيب على الأمر بالاستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو:
«وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» ..
والاستقامة إحسان. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان. والصبر على كيد التكذيب إحسان ... والله لا يضيع أجر المحسنين ...
ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون. فيشير من طرف خفي إلى أنه لو كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لأنفسهم الخير عند الله، فينهون عن الفساد في الأرض، ويصدون الظالمين عن الظلم، ما أخذ تلك القرى بعذاب الاستئصال الذي حل بهم، فإن الله لا يأخذ القرى بالظلم إذا كان أهلها مصلحين، أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد، إنما كان في هذه القرى قلة من المؤمنين لا نفوذ لهم ولا قوة، فأنجاهم الله. وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين لهم، فأهلك القرى بأهلها الظالمين:
«فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ! إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ، وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ. وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» ..
(4/1932)
وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال..
والاختلال! فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب.. وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره.. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع..
والتعقيب الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا أو ذاك:
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ- إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ- وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد، وباستعداد واحد.. نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها. وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض. وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض.
ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته. وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه. وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار. ويجازى على اختياره للهدى أو للضلال.. هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته. فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة. فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين. وأن يبلغ هذا الاختلاف أن يكون في أصول العقيدة- إلا الذين أدركتهم رحمة الله- الذين اهتدوا إلى الحق- والحق لا يتعدد- فاتفقوا عليه. وهذا لا ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلال.
ومن المقابل الذي ذكره النص:
«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ..
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة الله لهم مصير آخر هو الجنة تمتلىء بهم كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحق، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة! والخاتمة الأخيرة. خطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم- عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين. فأما الذين لا يؤمنون فليلق إليهم كلمته الأخيرة، وليفاصلهم مفاصلة حاسمة، وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في غيب الله. ثم ليعبد الله ويتوكل عليه، ويدع القوم لما يعملون..
(4/1933)
«وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
ويا لله للرسول- صلى الله عليه وسلم- لقد كان يجد من قومه، ومن انحرافات النفوس، ومن أعباء الدعوة، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه- وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه-:
«وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» ..
«وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ» ..
أي في هذه السورة.. الحق من أمر الدعوة، ومن قصص الرسل، ومن سنن الله، ومن تصديق البشرى والوعيد.
«وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
تعظهم بما سلف في القرون وتذكرهم بسنن الله وأوامره ونواهيه.
فأما الذين لا يؤمنون بعد ذلك فلا موعظة لهم ولا ذكرى. وإنما الكلمة الفاصلة، والمفاصلة الحاسمة:
«وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون» ..
كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلاقونه.. وما ينتظرونه غيب من غيب الله:
«وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ..
والأمر كله إليه. أمرك وأمر المؤمنين، وأمر الذين لا يؤمنون، وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما سيكون.
«فَاعْبُدْهُ» ..
فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة.
«وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» ..
فهو الولي وحده والنصير. وهو العليم بما تعملون من خير وشر، ولن يضيع جزاء أحد:
«وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية. بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون..
وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً..
وبعد. فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها- بل المتتبع للقرآن المكي كله- يجد أن هنالك خطاً أصيلاً ثابتاً عريضاً عميقاً، هو الذي ترتكز عليه وهو المحور الذي تدور حوله وإليه ترجع سائر خطوطها، وإليه
(4/1934)
تشد جميع خيوطها كذلك.. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله.. وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلاً..
وسنحتاج- في التعقيب الإجمالي على هذه السورة- أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور- كما يتجلى في سياق السورة- وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئاً ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به، ربطاً لأجزاء هذا التعقيب الأخير:
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد- صلى الله عليه وسلم- أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية..
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره.. وتقرير أن هذا هو الدين كله.. وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة.. كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها..
فيبقى هنا أن نجلي أولاً طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة:
إن حقيقة توحيد العبادة لله ترد في صيغتين هكذا:
«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ... » ..
«أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ... » ..
وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي.. فهل مدلولهما واحد؟. إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه.. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله..
والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه.. ولكن الأول «منطوق» والآخر «مفهوم» .. ولقد اقتضت حكمة الله- في بيان هذه الحقيقة الكبيرة- عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوماً ومتضمناً في الأمر الأول! إن هذا يعطينا إيحاء عميقاً بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان الله سبحانه، بحيث تستحق ألاّ توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم! كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها.. عبادة الله. وعدم عبادة سواه..
أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء. وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده.. ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله، ولا يتركون عبادته، ولكنهم- مع هذا- يعبدون معه غيره فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون!
(4/1935)
ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معاً بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة..
وقد تكرر مثل هذا في التعبير القرآني في مواضع شتى هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها:
«ألر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» ..
(هود: 1- 2) «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» ... (هود: 25- 26) «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..
(هود: 50) «وَقالَ اللَّهُ: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ. فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» ...
(النحل: 51) «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
(آل عمران: 67) «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ...
(الأنعام: 79) وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصاً منطوقاً على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله- سبحانه- بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد.. ولله الحكمة البالغة..
وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ثم نقف أمام مدلول مصطلح «العبادة» الوارد في السورة- وفي القرآن كله- لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة.
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه- في هذه السورة- ما هو مدلول مصطلح «العبادة» الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام «1» .. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات:
إن إطلاق مصطلح «العبادات» على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق
__________
(1) ص 1897- 1899 من هذا الجزء.
(4/1936)
مصطلح: «المعاملات» على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخراً عن عصر نزول القرآن الكريم ولم يكن هذا التقسيم معروفاً في العهد الأول.
ولقد كتبنا من قبل في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» شيئاً عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات:
«إن تقسيم النشاط الإنساني إلى «عبادات» و «معاملات» مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة «الفقه» . ومع أنه كان المقصود به- في أول الأمر- مجرد التقسيم «الفني» الذي هو طابع التاليف العلمي، إلا أنه- مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثاراً سيئة في التصور، تبعها- بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة «العبادة» إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله «فقه العبادات» . بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله «فقه المعاملات» ! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي.
«ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى «العبادة» أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً.
«وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج..
«ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى «العبادة» في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية- التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني- إلا حين يتم هذه النشاط وفق المنهج الرباني فيتم بذلك إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله! «وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم «العبادات» وخصوها بهذه الصفة- على غير مفهوم التصور الإسلامي- حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي أنها لم تجىء مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم «المعاملات» .. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج «العبادة» التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله- سبحانه- بالألوهية.
«إن ذلك التقسيم- مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا «مسلمين» إذا هم أدوا نشاط «العبادات» - وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزاولون كل نشاط «المعاملات» وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله! «وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين- على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين.
«وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني» «1» .
__________
(1) ص 129- ص 130 من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» نشر «دار الشروق»
(4/1937)
فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عند ما يخاطب به ان المطلوب منه هو «الدينونة» لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «العبادة» نصاً بأنها «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً: «بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» .. إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالإصالة! ..
ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء: «إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة المؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء.
«إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامه، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من اجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتاثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء» ..
وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بياناً في هذا التعقيب الختامي الأخير.
فالآن نبين إجمالاً قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء:
ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد- على هذا النحو الشامل- في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني.. أثرها في تصوره.. وأثر هذا التصور في كيانه:
«إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل- بكل معاني الشمول- يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء.
«كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها. وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام.
«عندئذ تتجمع هذه الكينونة.. تتجمع شعوراً وسلوكاً، وتصوراً واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج.
(4/1938)
وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقاً ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق! «والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في حالة «الوحدة» التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق- سبحانه- والوحدة هي حقيقة هذا الكون- على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال- والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء- على تنوع الأنواع والأجناس- والوحدة هي حقيقة الإنسان- على تنوع الأفراد والاستعدادات- والوحدة هي غاية الوجود الإنساني- وهي العبادة- على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها- وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود..
«وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق «الحقيقة» في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية وفي أوج تناسقها- كذلك- مع «حقيقة» هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه ومع «حقيقة» كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه.. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار.
«وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدواراً عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني..
«وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى- وهي لا بد كائنة بإذن الله- سيصنع الله بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشىء قوة لا تقاوم لأنها من صميم قوة هذا الكون وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضاً.
« ... إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله- بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله وحين يصبح كل نشاط فيها- صغر أم كبر- جزءاً من هذه العبادة أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام الإسراء أيضاً:
«تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» ... (الفرقان: 1) .
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ. لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» ... (الإسراء: 1) «1» .
وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية:
إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر- غير النظام الإسلامي- يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة ...
__________
(1) عن كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . فصل: «الشمول» ص 126- ص 131 مقتطفات. نشر «دار الشروق» . [.....]
(4/1939)
سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير الله بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله.
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة! إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» ... (محمد: 12) ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد.. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم- سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم- فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها..
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء! .. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالاً لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ .. كل الذين يسمونهم متحضرين..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء- سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات ... الخ.. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس- في هذه الجاهلية «الحضارية!» لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين! .. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟! وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده وحين يدينون لغيره من العبيد..
وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر! وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عند ما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة.. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور..
(4/1940)
إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال- وأحيانا من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن.. ومن.. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء! وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع- إلى جانب الأعراض والأخلاق- في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء! ... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضيحات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء! وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية.. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض..
وتقام أصنام من «الوطن» ومن «القوم» ومن «الجنس» ومن «الطبقة» ومن «الإنتاج» ... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب..
وتدق عليها الطبول وتنصب لها الرايات ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد. وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار.. وحتى حين يتعارض العِرض. مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحى ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام! إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليعبد الله وحده في الأرض وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان.. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض.. إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار! وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة
(4/1941)
كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها.
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء.. وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله، ليقيم من نفسه طاغوتا يعبّد الناس لشخصه من دون الله.. احتاج هذا الطاغوت كي يعبد (أي يطاع ويتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات أولا لحماية شخصه. وثانياً لتأليه ذاته. واحتاج إلى حواشٍ وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وترتل ذكره، وتنفخ في صورته «العبدية» الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان «الألوهية» العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها. وحشد الجموع- بشتى الوسائل- للتسبيح باسمها، وإقامة طقوس العبادة لها ... !
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً. لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل. وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد! وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال- وأرواح أحياناً وأعراض! - لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير.. ولكن هذه الطاقات والأموال- والأرواح أحياناً والأعراض- لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده وإنما يدينون للطواغيت من دونه.
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونه لله وحده وعبادة غيره من دونه.. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق. وفوق الذل والقهر والدنس والعار! وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
«ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة.
«لقد هربت أوربا من الله- في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف «1» - وثارت على الله- سبحانه- في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم- ومصالحهم كذلك- في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتخبة ... إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات، وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبوديه ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال،
__________
(1) يراجع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين» . نشر «دار الشروق» .
(4/1942)
فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، في معزل عن الله سبحانه!!! «ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و «الطبقة» إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين» الدينونة لطبقة «الصعاليك» ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين! «وفي كل حالة، وفي كل وضع، وفي كل نظام، دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال.
«إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحراراً كراماً شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية.
«من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله- سبحانه- وفي كتبه..
وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله، في كل زمان وفي كل مكان وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ، وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد» «1» .
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها- وهذه السورة نموذج منها- أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية- التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة- هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق..
ثم هي بعد- بعد ذلك لا قبله- قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة.. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين.. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.
والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية:
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح «2» أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم
__________
(1) مقتطفات من الجزء الحادي عشر ص 1754- 1755 في التعليق على سورة يونس. وهي بذاتها تصلح هنا للتعقيب على سورة هود!
(2) ص 1882- 1886 من هذا الجزء.
(4/1943)
عليه السلام أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح- عليه السلام- أبي البشر الثاني.. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول.. وأن الإسلام يعني توحيد الألوهيه من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع.
ثم بينا كذلك أن الجاهلية- سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع- أو هما معاً- كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم بالدينونة لغير الله- سبحانه- سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب، أو روح أو أرواح شتى أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم.. فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا التتابع التاريخي- الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه..
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم- وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ- ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأساً في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلاً في الديانة المصرية القديمة فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد- ولو على سبيل الاحتمال- وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف- عليه السلام- وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم- حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف-:
«إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ... (يوسف: 37- 40) وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجاً منحرفاً منذ البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفاً إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الاساس، حتى صارت من أصول المنهج!
(4/1944)
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع..
على أنه أياً كان المنهج وأياَ كانت النتائج التي يصل إليها فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم.. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج.
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية.. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة.
وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان.
أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنياً ولا مفهوماً! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير.. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولاً يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة.. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده.
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك..
إن البشرية اليوم- بجملتها- تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول- محمد صلى الله عليه وسلم- وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه، وإنكار لوجوده.. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة.
وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه- بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم ودينونتهم لغير الله من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين «1» ..
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام
__________
(1) يراجع فصل: «لا إله إلا الله منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق» نشر «دار الشروق»
(4/1945)
الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وتقديم الشعائر التعبدية لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده.. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعاً، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعاً..
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده..
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية.. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي- وهي تحسبه مجتمعاً مسلماً- وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلاً، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جداً..
ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة:
لقد أرسل كل رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحداً من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه الله إليه والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء.. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم.. عبدوا الله وحده كما طلب إليهم، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه.. وبذلك صاروا مسلمين.. صاروا «أمة مسلمة» ..
ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به وظلوا في دينونتهم لغير الله من خلقه وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام.. ولذلك صاروا «أمة مشركة» ..
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة.. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة.. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه.. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونه.. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين فاصل الرسولُ والأمة المسلمة التي معه قومهم
(4/1946)
على أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم.. لقد افترق المنهجان، فاختلفت الجنسيتان. وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعند ما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة.. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة..
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن الله سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله. سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع.
إن يد الله سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون.. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرأوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين..
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام والدينونة لله وحده بلا شريك ونبذ الدينونة لأحد من خلقه- في صورة من صور الدينونة- ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفاً- أو أمة- ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق الله صفاً آخر.. ثم يفاصل المؤمنون المشركين.. ثم يحق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين.. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري.
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى.
ولقد يبطىء الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر.. ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري.
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان.. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن سنة الله جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى.
(4/1947)
وأخيراً، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين، كما يتمثل في القرآن الكريم.. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية..
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ويريهم معالمه في مراحله جميعاً ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق وقد بات لا حبا موصولاً بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري وبات بهذا الركب الكريم مأنوساً مألوفاً لا موحشاً ولا مخوفاً! .. إنهم زُمرة من موكب موصول في طريق معروف وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ولا يمضون هكذا جزافاً يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة..
وهكذا يمكن اليوم وغداً أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم..
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن- بهذه الصورة- لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حياً يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه.
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه.
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده..
إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه: ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع.. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام.
أأقول: جزاء؟! كلا. والله. إنه لفضل من الله كبير.. «قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
والحمد لله العظيم رب الفضل العظيم..
(4/1948)
(12) سورة يوسف مكيّة وآياتها إحدى عشرة ومائة
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكية، نزلت بعد سورة هود، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود.. بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى المدينة.. وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- والعصبة المسلمة معه في مكة..
والسورة مكية بجملتها، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (1، 2، 3، 7) منها مدنية. ذلك أن الآيات الثلاث الأولى هذا نصها:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلام.. ونص الآية التالية في السياق هو:
«إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ... » .
ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية.
فالتقديم لهذه القصة بقول الله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة..
وكذلك هذه الأحرف المقطعة (الر) وتقرير أنها آيات الكتاب المبين. ثم تقرير أن الله أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيا.. هو كذلك من جو القرآن المكي، ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم! وتقرير أنه وحي من الله كان النبي صلى الله عليه وسلم من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته.
ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها، وهو قول الله تعالى:
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» ..
(4/1949)
فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب.
أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في المدينة! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة. وهذا نصها:
«لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا، في سياق السورة الموصول.
والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها.
بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة.. ففي الوقت الذي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش- منذ عام الحزن- وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة، كان الله- سبحانه- يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم- يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين- وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة. ومحنة الجب والخوف والترويع فيه. ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها..
هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها يوسف- عليه السلام- وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج منها كلها متجردا خالصا آخر توجهاته، وآخر اهتماماته، في لحظة الانتصار على المحن جميعا وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها: «إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين» .. آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم:
«فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَقالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. وَقالَ: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
وهكذا كانت طلبته الأخيرة.. بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل.. أن يتوفاه ربه مسلماً، وأن يلحقه بالصالحين.. وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير..
فلا عجب أن تكون هذه السورة. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك، مما يتنزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة معه في مكة، في هذه الفترة بالذات، تسلية وتسرية، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين الموحشين! لا بل إن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من مكة إلى دار أخرى يكون
(4/1950)
فيها النصر والتمكين مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد! كما أخرج يوسف من حضن أبيه، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين:
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في مصر في قصر العزيز.. حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق..!
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا- أشير إليه ولا أملك التعبير عنه! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عند ما يستيئس الرسل- كما استيأس يوسف في محنته الطويلة- والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب! .. الإيجاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة، وهي في مثل هذه الفترة تعيش، وفي جوها تتنفس، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح. من بعيد..
والسورة ذات طابع متفرد في احتوائها على قصة يوسف كاملة. فالقصص القرآني- غير قصة يوسف- يرد حلقات، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها. وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا. أما قصة يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة. وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا.
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة ويؤديها أداء كاملا.. ذلك أنها تبدأ برؤيا يوسف، وتنتهي بتأويلها. بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى.
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل من جميع الوجوه فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة، والتعقيبات التي تلتها.
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة- بعض الشيء- عن هذا الأداء الكامل، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد.
.. وبالله التوفيق..
إن قصة يوسف- كما جاءت في هذه السورة- تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا.. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء! إن القصة تعرض شخصية يوسف- عليه السلام- وهي الشخصية الرئيسية في القصة- عرضا كاملا في
(4/1951)
كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها.. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات.. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز.
وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال.. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة. متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول.. ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها.. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة.. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة.. ونموذج «العزيز» وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! .. ونموذج «الملك» في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق.. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر..
ومع استيفاء القصة لكل ملامح «الواقعية» السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة.. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة.. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه «الواقعية» كالمستنقع الذي أنشأته «الواقعية» الغربية الجاهلية! وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تزوّر- أي تزوير- في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف، فإنها لم تسف قط لتنشىء ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين «الواقعية» أو يسمونه أخيرا «الطبيعية!» .
وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف:
إخوة يوسف.. والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها! ثم تزين لهم «المحلل الشرعي!» الذي يخرجون به من تلك الجريمة..
ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية- وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم صلوات
(4/1952)
الله وسلامه- وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم، وحاجتهم النفسية- من ثم- إلى مبرر للجريمة، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها:
«لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا- وَنَحْنُ عُصْبَةٌ- إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ! اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ! قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ- إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ! - قالُوا: يا أَبانا، ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ! قالَ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ، قالُوا: يا أَبانا، إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ، وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ..
ونحن نجدهم- هم هم- في كل مواقف القصة بعد ذلك- كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها- فما إن يذهبوا بأخي يوسف بعد ما طلبه منهم وهم لا يعرفونه يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم- كنعان- ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف، حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله.. ما إن يروا هذا التدبير- وهم لا يعلمون ما وراءه- حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف:
«قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال: أنتم شر مكاناً، والله أعلم بما تصفون» ..
كذلك نجدهم- هم هم- بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة:
«وتولى عنهم وقال: يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين!» ..
ومثلها عند ما أرسل يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية- بعد ما كشف لهم عن شخصيته- فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه:
«ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف، لولا أن تفندون! قالوا: تالله إنك لفي ضلالك القديم!» ..
وامرأة العزيز.. في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية.. والتي تستخدم- مع ذلك- كل مكر الأنثى وكيدها، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها، الأنثى التي لا تحس في
(4/1953)
إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها، فإن الأداء القرآني- الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي- لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة- حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها- لينشىء ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب «القصة الواقعية» وكتاب «القصة الطبيعية» في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء! «وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً، وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! قال: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همت به وهم بها، لولا أن رأى برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين.
واستبقا الباب، وقدت قميصه من دبر، وألفيا سيدها لدى الباب، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟! قال: هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم! يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين! .. وقال نسوة في المدينة: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه! قد شغفها حباً! إنا لنراها في ضلال مبين! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكيناً، وقالت: اخرج عليهن! فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هذا بشراً، إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لُمْتُنَّني فيه! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين. قال: رب، السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم» ..
وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعد ما دخل يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا، فطلب الملك أن يأتوه به، فأبى حتى يحقق قضيته، ويبرىء ساحته، فاستدعاها الملك مع النسوة. وإذا بها ما تزال المرأة المحبة، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا:
«وقال الملك: ائتوني به. فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم» ..
ويوسف.. العبد الصالح- الإنسان- لم يزوّر الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة وهو يواجه الفتنة بكل بشريته- مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه- وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها.. لقد ضعف حين همت به حتى هم بها ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه
(4/1954)
من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة. ومنطق البيئة، وجو القصور، ونسوة القصور أيضا! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى.. ليست هنالك لمحة واحدة مزوّرة في واقعية الشخصية وطبيعيتها وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه..
والعزيز.. وشخصيته بطبيعتها الخاصة، وبطبيعة سمت الإمارة ثم بضعف النخوة، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته:
«فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، قالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ!» ..
والنسوة.. نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه.. اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه، بعد ما شغفها حبا! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة! ثم وهلتهن أمام طلعة يوسف. ثم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على يوسف بالإغراء والإغواء، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن: «حاشَ لِلَّهِ! ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» ..
نأخذ ذلك من قولة يوسف عليه السلام:
«قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده! والبيئة.. التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله. ثم من خلال ذلك التصرف في أمر يوسف، على الرغم مما بدا من براءته. ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها ولا يهم أن يذهب بريء كيوسف ضحيتها:
«ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» ..
فإذا تابعنا شخصية يوسف- عليه السلام- فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية، المتمثلة في كونه «العبد الصالح- الإنسان- بكل بشريته، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه» ..
فهو في السجن وظلماته- مع الظلم وظلماته! - لا يغفل عن الدعوة لدينه، في كياسة وتلطف- مع الحزم والفصل- وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها.. كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه:
«ودخل معه السجن فتيان. قال أحدهما: إني أراني أعصر خمراً، وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه. نبئنا بتأويله، إنا نراك من المحسنين. قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون.
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا الله،
(4/1955)
أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن، أما أحدكما فيسقي ربه خمراً، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» ..
وهو- مع هذا كله- بشر، فيه ضعف البشر. فهو يتطلب الخلاص من سجنه، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان الله- سبحانه- شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده:
«وقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك. فأنساه الشيطان ذكر ربه. فلبث في السجن بضع سنين ... » .
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين، وقد رأى الملك رؤياه، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة حتى تذكر صاحب السجن يوسف- بعد ما تمت التربية الربانية للعبد الصالح، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره- حتى إذا ما طلب الملك- بعد تأويله لرؤياه- أن يأتوه به، أجاب في هدوء المطمئن الواثق وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته:
«وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات.
يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكّر بعد أمة: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال: تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن. إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.. وقال الملك: ائتوني به.. فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين.
ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم.. وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم» ..
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية يوسف مكتملة ناضجة واعية، مطمئنة ساكنة واثقة، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة. ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله:
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة.
نجد يوسف وهو يواجه- للمرة الأولى- إخوته بعد ما فعلوا به تلك الفعلة القديمة وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى.. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته:
(4/1956)
«وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون.
قالوا: سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون. وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
ونجده وهو يدبر- بتدبير الله له- كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة، الضابطة الصابرة:
«وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ: قالَ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا- وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ-ماذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا: نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ. قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا: فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ، ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ.. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ! فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ، قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ، إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ»
..
ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته، وحن يوسف إلى أبويه وأهله، ورق لإخوته والضر باد بهم، فكشف لهم عن نفسه، في عتاب رقيق، وفي عفو كريم، يجيء في أوانه، وكل الملابسات توحي به، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك:
«فلما دخلوا عليه قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مُزجاة. فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أإنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف، وهذا أخي، قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، وأتوني بأهلكم أجمعين» ..
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع.. موقف اللقاء الجامع ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه.. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه، ويناجيه خالصا له، وذلك كله مطروح وراءه:
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
إنها شخصية موحدة متكاملة، بكل واقعيتها الممثلة لمقوّماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
ويعقوب.. الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها:
«إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ:
(4/1957)
يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة:
«قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتعْ ويلعبْ، وإنا له لحافظون.
قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون» ..
ثم نلتقي بهذه الشخصية- بكل واقعيتها تلك- وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له.. أخي يوسف.. وقد طلبه منهم عزيز مصر- يوسف- الذي لا يعرفونه! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف! «فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنّا له لحافظون: قال:
هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي، هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا، ونزداد كيل بعير، ذلك كيل يسير. قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم. فلما آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل.. وقال: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغني عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلا لله، عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون. ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، وإنه لذو علم لما علمناه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية.. والدا ملهوفا ونبيا موصولا.. ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء يعقوب- صاحب الشخصية الخاصة فيهم، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله-:
«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا، قالَ كَبِيرُهُمْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ؟ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا: يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ! وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا، وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها، وَإِنَّا لَصادِقُونَ. قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ! وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ. كَظِيمٌ. قالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ! قالَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» ..
(4/1958)
وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية. وهو يشم ريح يوسف في قميصه، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه:
«وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قالُوا: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قالُوا: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح، الواقعية المشاعر والتصرفات، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف! والواقعية الصادقة الأمينة النظيفة السليمة في الوقت نفسه، لا تقف عند واقعية الشخصيات الإنسانية التي تحفل بها القصة في هذا المجال الواسع، على هذا المستوي الرائع. ولكنها تتجلى كذلك في واقعية الأحداث والسرد والعرض وصدقها وطبيعيتها في مكانها وزمانها، وفي بيئتها وملابساتها.. فكل حركة وكل خالجة وكل كلمة تجيء في أوانها وتجيء في الصورة المتوقعة لها وتجيء في مكانها من مسرح العرض متراوحة بين منطقة الظل ومنطقة الضوء بحسب أهميتها ودورها وطبيعة جريان الحياة بها.. الأمر الملحوظ في الشخصيات أيضا كما قررنا من قبل هذا..
حتى لحظات الجنس في القصة ومواقفه أخذت مساحتها كاملة- في حدود المنهج النظيف اللائق «بالإنسان» في غير تزوير ولا نقص ولا تحريف للواقعية البشرية في شمولها وصدقها وتكاملها- ولكن استيفاء تلك اللحظات لمساحتها المتناسقة مع بقية الأحداث والمواقف لم يكن معناه الوقوف أمامها كما لو كانت هي كل واقعية الكائن البشري وكما لو كانت هي محور حياته كلها، وهي كل أهداف حياته التي تستغرقها! كما تحاول الجاهلية أن تفهمنا أن هذا وحده هو الفن الصادق! إن الجاهلية إنما تمسخ الكائن البشري باسم الصدق الفني! وهي تقف أمام لحظة الجنس كما لو كانت هي كل وجهة الحياة البشرية بجملتها فتنشىء منها مستنقعا واسعا عميقا، مزينا في الوقت ذاته بالأزهار الشيطانية! وهي لا تفعل هذا لأن هذا هو الواقع، ولا لأنها هي مخلصة في تصوير هذا الواقع! إنما تفعله لأن «بروتوكولات صهيون» تريد هذا! تريد تجريد «الإنسان» إلا من حيوانيته حتى لا يوصم اليهود وحدهم بأنهم هم الذين يتجردون من كل القيم غير المادية! وتريد أن تغرق البشرية كلها في وحل المستنقع كي تنحصر فيه كل اهتماماتها، وتستغرق فيه كل طاقاتها فهذه هي أضمن سبيل لتدمير البشرية حتى تجثو على ركبتيها خاضعة لملك صهيون المرتقب الملعون! ثم تتخذ من الفن وسيلة إلى هذا الشر كله، إلى جانب ما تتخذه من نشر المذاهب «العلمية!» المؤدية إلى ذات الهدف. تارة باسم «الداروينية» وتارة باسم «الفرويدية» وتارة باسم «الماركسية» أو «الاشتراكية العلمية» .. وكلها سواء في تحقيق المخططات الصهيونية الرهيبة! والقصة بعد ذلك تتجاوز الشخصيات والأحداث لترسم ظلال الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث القصة، وتتحرك فيها شخصياتها الكثيرة، وتسجل سماتها العامة، فترسم مسرح الأحداث بأبعاده العالمية في تلك الفترة التاريخية.. ونكتفي ببعض اللمحات والسهام التي ترسم تلك الأبعاد:
(4/1959)
إن مصر في هذه الفترة لم يكن يحكمها الفراعنة من الأسر المصرية إنما كان يحكمها «الرعاة» الذين عاش إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قريبا منهم، فعرفوا شيئا عن دين الله منهم. نأخذ هذا من ذكر القرآن للملك بلقب «الملك» في حين يسمى الملك الذي جاء على عهد موسى- عليه السلام- من بعد بلقبه المعروف. «فرعون» .. ومن هذا يتحدد زمن وجود يوسف- عليه السلام- في مصر فهو كان ما بين عهد الأسرة الثالثة عشرة والأسرة السابعة عشرة وهي أسر «الرعاة» الذين سماهم المصريون «الهكسوس» ! كراهية لهم إذ يقال: إن معنى الكلمة في اللغة المصرية القديمة: «الخنازير» أو «رعاة الخنازير» ! وهي فترة تستغرق نحو قرن ونصف قرن.
إن رسالة يوسف عليه السلام كانت في هذه الفترة. وهو كان قد بدأ الدعوة إلى الإسلام.. ديانة التوحيد الخالص.. وهو في السجن وقرر أنها دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقررها في صورة واضحة كاملة دقيقة شاملة. فيما حكاه القرآن الكريم من قوله:
«إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» ..
وهي صورة للإسلام واضحة كاملة ودقيقة شاملة- كما جاء به رسل الله جميعا- من ناحية أصول العقيدة.
تحتوي، الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، وتوحيد الله وعدم الشرك به أصلا، ومعرفة الله سبحانه بصفاته..
الواحد، القهار.. والحكم بعدم وجود حقيقة ولا سلطان لغيره أصلا ومن ثم نفي الأرباب التي تتحكم في رقاب العباد، وإعلان السلطان والحكم لله وحده، ما دام أن الله أمر ألا يعبد الناس غيره. ومزاولة السلطان والحكم والربوبية هي تعبيد للناس مخالف للأمر بعبادة الله وحده. وتحديد معنى «العبادة» بأنها الخضوع للسلطان والحكم والإذعان للربوبية، وتعريف الدين القيم بأنه إفراد الله سبحانه بالعبادة- أي إفراده بالحكم- فهما مترادفان أو متلازمان: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
وهذه هي أوضح صورة للإسلام وأكملها وأدقها وأشملها..
وواضح أن يوسف- عليه السلام- عند ما سيطر على مقاليد الأمور في مصر، استمر في دعوته للإسلام على هذا النحو الواضح الكامل الدقيق الشامل.. ولا بد أن الإسلام انتشر في مصر على يديه- وهو يقبض على أقوات الناس وأزوادهم لا على مجرد مقاليد الحكم بينهم- وانتشر كذلك في البقاع المجاورة ممن كانت وفودها تجيء لتقتات مما تم ادخاره بحكمته وتدبيره- وقد رأينا إخوة يوسف يجيئون من أرض كنعان المجاورة في الأردن ضمن غيرهم من القوافل ليمتاروا من مصر ويتزودوا، مما يصور حالة الجدب التي حلت بالمنطقة كلها في هذه الفترة.
والقصة تشير إلى آثار باهتة للعقيدة الإسلامية التي عرف الرعاة شيئا عنها في أول القصة، كما تشير إلى انتشار هذه العقيدة ووضوحها بعد دعوة يوسف بها.
والإشارة الأولى وردت في حكاية قول النسوة حين طلع عليهن يوسف:
«فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن وقلن: حاش لله! ما هذا بشراً. إن هذا إلا ملك كريم» ..
(4/1960)
ووردت في قول العزيز لامرأته:
«يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين» ..
أما الإشارة الثانية الواضحة فقد جاءت على لسان امرأة العزيز التي يتجلى أنها آمنت بعقيدة يوسف وأسلمت في النهاية، فيما حكاه عنها السياق القرآني:
«قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرىء نفسي. إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم» ..
وإذا اتضح أن ديانة التوحيد- على هذا المستوي- كانت قد عرفت قبل تولي يوسف مقاليد الحكم في مصر فلا بد أن تكون قد انتشرت بعد ذلك واستقرت على نطاق واسع في أثناء توليه الحكم، ثم من بعد ذلك في عهد أسر الرعاة. فلما استرد الفراعنة زمام الأمور في الأسرة الثامنة عشرة أخذوا يقاومون ديانة التوحيد ممثلة في ذرية يعقوب التي تكاثرت في مصر، لإعادة الوثنية التي تقوم عليها الفرعونية! ...
وهذا يكشف لنا سببا أصيلا من أسباب اضطهاد الفراعنة بعد ذلك لبني إسرائيل- أي يعقوب- إلى جانب السبب السياسي، وهو أنهم جاءوا واستوطنوا وحكموا واستقروا في عهد ملوك الرعاة الوافدين.
فلما طرد المصريون ملوك الرعاة طاردوا حلفاءهم من بني إسرائيل أيضا.. وإن كان اختلاف العقيدتين ينبغي أن يكون هو التفسير الأقوى لذلك الاضطهاد الفظيع. ذلك أن انتشار عقيدة التوحيد الصحيحة يحطم القاعدة التي يقوم عليها ملك الفراعين! فهي العدو الأصيل للطواغيت وحكم الطواغيت وربوبية الطواغيت! ولقد وردت إشارة إلى هذا الذي نقرره في حكاية القرآن الكريم لقول مؤمن آل فرعون في سورة غافر في دفاعه الإسلامي المجيد عن موسى عليه السلام، في وجه فرعون وملئه عند ما همّ فرعون بقتل موسى، ليقتل معه الخطر الذي يتهدد ملكه كله من عقيدة التوحيد التي جاء بها موسى:
«وقال فرعون: ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.
وقال موسى: إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟ وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وإن يك كاذبا فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب. يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟ قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى. وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقال الذي آمن: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وما الله يريد ظلما للعباد، ويا قوم إني أخاف علكيم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد.. ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به، حتى إذا هلك قلتم: لن يبعث الله من بعده رسولا، كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب.
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم. كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا! كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ... إلخ» ..
فقد كان الصراع الحقيقي بين عقيدة التوحيد التي تفرد الله سبحانه بالربوبية، فتفرده بالعبادة- أي بالدينونة والخضوع والاتباع لحاكميته وحده- وبين الفرعونية التي تقوم على أساس العقيدة الوثنية، ولا تقوم إلا بها.
ولعل التوحيد الناقص المشوه الذي عرف به «أخناتون» لم يكن إلا أثرا من الآثار المضطربة التي بقيت
(4/1961)
من التوحيد الذي نشره يوسف عليه السلام في مصر كما أسلفنا وبخاصة إذا صح ما يقال في التاريخ من أن أم أخناتون كانت آسيوية ولم تكن فرعونية! وبعد هذا الاستطراد نعود إلى اللمحات الدالة على طبيعة الفترة التاريخية التي وقعت فيها أحداث القصة وتحركت فيها أشخاصها. فنجدها تتجاوز حدود الرقعة المصرية، وتسجل طابع العصر كله. فواضح تماما انطباع هذه الفترة الزمنية بالرؤى والتنبؤات التي لا تقتصر على أرض واحدة، ولا على قوم بأعيانهم.. ونحن نرى هذه الظاهرة واضحة في رؤيا يوسف وتعبيرها وتأويلها في النهاية. وفي رؤيا الفتيين صاحبي السجن.
وفي رؤيا الملك في النهاية.. وكلها تتلقى بالاهتمام سواء ممن يرونها أو ممن يسمعونها مما يشي بطابع العصر كله! وعلى وجه الإجمال فإن القصة غنية بالعناصر الفنية. غنية كذلك بالعنصر الإنساني، حافلة بالانفعال والحركة. وطريقة الأداء تبرز هذه العناصر إبرازا قويا. فضلا على خصائص التعبير القرآنية الموحية المؤثرة، ذات الإيقاع الموسيقي المناسب لكل جو من الأجواء التي يصورها السياق.
في القصة يتجلى عنصر الحب الأبوي في صور ودرجات منوعة واضحة الخطوط والظلال: في حب يعقوب ليوسف وأخيه وحبه لبقية أبنائه. وفي استجاباته الشعورية للأحداث حول يوسف من أول القصة إلى آخرها.
وعنصر الغيرة والتحاسد بين الإخوة من أمهات مختلفات، بحسب ما يرون من تنوع صور الحب الأبوي.
وعنصر التفاوت في الاستجابات المختلفة للغيرة والحسد في نفوس الإخوة فبعضهم يقودهم هذا الشعور إلى إضمار جريمة القتل، وبعضهم يشير فقط بطرح يوسف في الجب تلتقطه بعض السيارة نفورا من الجريمة..
وعنصر المكر والخداع في صور شتى. من مكر إخوة يوسف به، إلى مكر امرأة العزيز بيوسف وبزوجها وبالنسوة.
وعنصر الشهوة ونزواتها والاستجابة لها بالاندفاع أو بالإحجام. وبالإعجاب والتمني، والاعتصام والتأبي.
وعنصر الندم في بعض ألوانه، والعفو في أوانه. والفرح بتجمع المتفارقين..
وذلك إلى بعض صور المجتمع الجاهلي في طبقة العلية من الملأ: في البيت والسجن والسوق والديوان- في مصر يومذاك. والمجتمع العبراني، وما يسود العصر من الرؤى والتنبؤات.
وتبدأ القصة بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه، فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألا يقصها على إخوته كي لا يثير حسدهم فيغريهم الشيطان به فيكيدون له.. ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية أنهى السياق القصة، ولم يسر فيها كما سار كتّاب «العهد القديم» بعد هذا الختام الفني الدقيق، الوافي بالغرض الديني كل الوفاء.
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف. فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق، ويظل تأويلها مجهولا، يتكشف قليلا قليلا، حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلا طبيعيا لا تعمّل فيه ولا اصطناع! والقصة مقسمة إلى حلقات. كل حلقة تحتوي جملة مشاهد. والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القارئ وتصوره، ويكمل ما حذف من حركات وأقوال، مع ما في هذا من تشويق ومتاع..
وحسبنا هذا القدر من التحليل الفني لقصة يوسف، وتمثيلها للمنهج القرآني الإسلامي في الأداء. وفي هذا القدر ما يكشف عن مدى الإمكانيات التي يعرضها هذا المنهج للمحاولات البشرية في الأدب الإسلامي،
(4/1962)
لتمكينه من الأداء الفني الكامل والواقعية الصادقة السليمة، دون أن يسف أو يحتاج إلى التخلي عن النظافة اللائقة بفن يقدم ل «الإنسان» «1» ! وتبقى وراء ذلك كله عبرة القصة وقيمتها في مجال الحركة الإسلامية وإيحاءاتها المتوافية مع حاجات الحركة في بعض مراحلها. ومع حاجاتها الثابتة التي لا تتعلق بمرحلة خاصة منها. إلى جانب الحقائق الكبرى التي تتقرر من خلال سياق القصة، ثم من خلال سياق السورة كلها بعد ذلك. وبخاصة تلك التعقيبات الأخيرة في السورة..
ونكتفي في هذا التقديم للسورة بلمحات سريعة من هذا كله:
لقد أشرنا في مطالع هذا التقديم إلى مناسبة قصة يوسف بجملتها للفترة الحرجة التي كانت تمر بها الحركة الإسلامية في مكة عند نزول السورة، وللشدة التي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه يتعرضون لها. وذلك بما تحمل القصة من عرض لابتلاءات أخ كريم للنبي الكريم ثم بما تحمله بعد ذلك من استفزاز من الأرض ثم تمكين «2» .
وهذا الذي سبق أن قررناه يصور لونا من إيحاءات القصة المتوافية مع حاجات الحركة الإسلامية في تلك الفترة ويقرب معنى «الطبيعة الحركية» لهذا القرآن وهو يزود الدعوة، ويدفع الحركة، ويوجه الجماعة المسلمة توجيها واقعيا إيجابيا محدد الهدف مرسوم الطريق.
كذلك أشرنا في ثنايا تحليل القصة إلى الصورة الواضحة الكاملة الدقيقة الشاملة للإسلام، كما عرضها يوسف عليه السلام. وهي صورة تستحق الوقوف أمامها طويلا..
إنها تقرر ابتداء وحدة العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسل جميعا واستيفاء مقوماتها الأساسية في كل رسالة وقيامها على التوحيد الكامل لله سبحانه، وعلى تقرير ربوبيته للبشر وحده، ودينونة البشر له وحده..
كما تقرر تضمن تلك العقيدة الواحدة للإيمان بالدار الآخرة بصورة واضحة. وهذا التقرير يقطع الطريق على مزاعم ما يسمونه «علم الأديان المقارن» من أن البشرية لم تعرف التوحيد ولا الآخرة إلا أخيرا جدا، بعد أن اجتازت عقائد التعدد والتثنية بأشكالها وصورها المختلفة وأنها ترقت في معرفة العقيدة كما ترقت في معرفة العلوم والصناعات.. هذه المزاعم التي تتجه إلى تقرير أن الأديان من صنع البشر شأنها شأن العلوم والصناعات «3» .
كذلك هي تقرر طبيعة ديانة التوحيد التي جاء بها الرسل جميعا.. إنه ليس توحيد الألوهية فحسب. ولكنه كذلك توحيد الربوبية.. وتقرير أن الحكم لله وحده في أمر الناس كله وأن هذا التقرير ناشىء من أمر الله سبحانه بألا يعبد إلا إياه. والتعبير القرآني الدقيق في هذه القضية يحدد مدلول «العبادة» تحديدا دقيقا.
فهي الحكم من جانب الله والدينونة من جانب البشر.. وهذا وحده هو «الدين القيم» فلا دين إذن لله ما لم تكن دينونة الناس لله وحده، وما لم يكن الحكم لله وحده. ولا عبادة لله إذن إذا دان الناس لغير الله في
__________
(1) للاستزادة من البحث يراجع كتاب: «منهج الفن الإسلامي» لمحمد قطب. نشر «دار الشروق» .
(2) ص 1950 من هذا الجزء.
(3) يراجع ما سبق تقريره عن هذه القضية في هذا الجزء ص 1878- 1882.
(4/1963)
شأن واحد من شؤون الحياة. فتوحيد الألوهية يقتضي توحيد الربوبية. والربوبية تتمثل في أن يكون الحكم لله.. أو أن تكون العبادة لله.. فهما مترادفان أو متلازمان. والعبادة التي يعتبر بها الناس مسلمين أو غير مسلمين هي الدينونة والخضوع والاتباع لحكم الله دون سواه..
وهذا التقرير القرآني بصورته هذه الجازمة ينهي كل جدل في اعتبار الناس في أي زمان وفي أي مكان مسلمين أو غير مسلمين، في الدين القيم أم في غير هذا الدين.. فهذا الاعتبار يعد من المعلوم من الدين بالضرورة.. من دان لغير الله وحكّم في أي أمر من أمور حياته غير الله، فليس من المسلمين وليس في هذا الدين، ومن أفرد الله سبحانه بالحاكمية ورفض الدينونة لغيره من خلائقه فهو من المسلمين وفي هذا الدين..
وكل ما وراء ذلك تمحّل لا يحاوله إلا المهزومون أمام الواقع الثقيل في بيئة من البيئات وفي قرن من القرون! ودين الله واضح. وهذا النص وحده كاف في جعل هذا الحكم من المعلوم من الدين بالضرورة. من جادل فيه فقد جادل في هذا الدين! ومن الإيحاءات الواردة في ثنايا القصة صورة الإيمان المتجرد الخالص الموصول كما تتجلى في قلبي عبدين صالحين من عباد الله المختارين: يعقوب ويوسف:
فأما يوسف فقد أشرنا من قبل إلى موقفه الأخير متجردا من كل شيء، نافضا عنه كل شيء، متجها إلى ربه، مبتهلا إليه في انكسار وفي خشوع يناجيه:
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
ولكن هذا الموقف الأخير لم يكن هو كل شيء في هذا الجانب فهو على مدار القصة يقف هذا الموقف، موصولا بربه، يحسه- سبحانه- قريبا منه مستجيبا له:
في موقف الإغراء والفتنة والغواية يهتف:
«معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي. إنه لا يفلح الظالمون» ..
وفي الموقف الآخر وهو يخشى على نفسه الضعف والميل يهتف كذلك:
«رب، السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين» ..
وفي موقف تعريف نفسه لإخوته، يبين فضل الله عليه ويشكر نعمته ويذكرها:
«قالوا: أإنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» ..
وكلها مواقف تحمل إيحاءات يتجاوز مداها حاجة الحركة الإسلامية في مكة، إلى حاجة الحركة الإسلامية في كل فترة.
وأما يعقوب ففي قلبه تتجلى حقيقة ربه باهرة عميقة لطيفة مأنوسة في كل موقف وفي كل مناسبة وكلما اشتد البلاء شفت تلك الحقيقة في قلبه ورفت بمقدار ما تعمقت وبرزت..
فمنذ البدء ويوسف يقص عليه رؤياه يذكر ربه ويشكر نعمته:
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
(4/1964)
وفي مواجهة الصدمة الأولى في يوسف يتجه إلى ربه مستعينا به:
«قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون» ..
وفي مواجهته لعاطفته الأبوية الخائفة على أبنائه، وهو يوصيهم ألا يدخلوا من باب واحد وأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، لا ينسى أن هذا التدبير لا يغني عنهم من الله شيئا، وأن الحكم النافذ هو حكم الله وحده وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من الله وقدره:
«وَقالَ: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وفي مواجهة الصدمة الثانية في كبرته وهرمه وضعفه وحزنه، لم يتسرب اليأس من رحمة ربه لحظة واحدة إلى قلبه:
«قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .
ثم يبلغ تجلي الحقيقة في قلب يعقوب درجة البهاء والصفاء، وبنوه يؤنبونه على حزنه على يوسف وبكائه له حتى تبيض عيناه من الحزن فيواجههم بأنه يجد حقيقة ربه في قلبه كما لا يجدونها، ويعلم من شأن ربه ما لا يعلمون فمن هنا اتجاهه إليه وحده وشكواه له وبثه ورجاؤه في رحمته وروحه:
«وتولى عنهم وقال: يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين! قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون.. يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» ..
ولقد ذكرهم بما يعلمه من شأن ربه وما يجده من حقيقته في قلبه، وهم يجادلونه في ريح يوسف، وقد صدّق الله فيه ظنه:
«ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف، لولا أن تفندون. قالوا: تالله إنك لفي ضلالك القديم. فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً، قال: ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟» .
إنها الصورة الباهرة لتجلي حقيقة الألوهية في قلب من قلوب الصفوة المختارة. وهي تحمل الإيحاء المناسب لفترة الشدة في حياة الجماعة المسلمة في مكة كما أنها تحمل الإيحاء الدائم بالحقيقة الإيمانية الكبيرة، لكل قلب يعمل في حقل الدعوة والحركة بالإسلام على مدار الزمان أيضا.
وأخيرا نجيء إلى التعقيبات المتنوعة التي جاءت بعد القصة الطويلة إلى نهاية السورة.
إن التعقيب الأول والمباشر يواجه تكذيب قريش بالوحي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتقرير مأخوذ من هذا القصص الذي لم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاضرا وقائعه:
«ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون» ..
وهذا التعقيب يترابط مع التقديم للقصة في الاتجاه ذاته:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
(4/1965)
والتقديم والتعقيب على هذا النحو يؤلفان مؤثرا موحيا من المؤثرات الكثيرة في سياق السورة، لتقرير الحقيقة التي يعرضانها، وتوكيدها في مواجهة الاعتراض والتكذيب.
ومن ثم يعقب ذلك التسرية عن قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتهوين أمر المكذبين على نفسه.
وبيان مدى عنادهم وإصرارهم وعماهم عن الآيات المبثوثة في كتاب الكون، وهي حسب الفطرة السليمة في التنبه إلى دلائل الإيمان، والاستماع إلى الدعوة والبرهان. ثم تهديدهم بعذاب الله الذي قد يفاجئهم وهم غافلون:
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟» ..
وهي إيقاعات مؤثرة بقدر ما تحمل من حقائق عميقة عن طبيعة الناس حين لا يدينون بدين الله الصحيح.
وبخاصة في قوله تعالى: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» ..
فهذا هو التصوير العميق لكثير من النفوس التي يختلط فيها الإيمان بالشرك، لأنها لم تحسم في قضية التوحيد.
وهنا يجيء الإيقاع الكبير العميق المؤثر الموحي، بتوجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تحديد طريقه وتميزها وإفرادها عن كل طريق، والمفاصلة على أساسها الواضح الفريد:
«قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
ثم تختم السورة بإيقاع آخر يحمل عبرة القصص القرآني كله، في هذه السورة وفي سواها. يحملها للنبي- صلى الله عليه وسلم- والقلة المؤمنة معه، ومعها التثبيت والتسرية والبشرى ويحملها للمشركين المعاندين، ومعها التذكير والعظة والنذير. كما أن فيها للجميع تقريرا لصدق الوحي وصدق الرسول وتقريرا لحقيقة الوحي وحقيقة الرسالة، مع تخليص هذه الحقيقة من الأوهام والأساطير:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
إنه الإيقاع الأخير. والإيقاع الكبير..
وبعد فلعل من المناسب في تقديم السورة التي حوت قصة يوسف، نموذجا كاملا للأداء الفني الصادق الجميل، أن نلم بشيء من لطائف التناسق في الأداء القرآني في السورة بكاملها وأن نقف عند نماذج من هذه اللطائف تمثل سائرها:
في هذه السورة- كما في السور القرآنية الأخرى- تتكرر تعبيرات معينة، تؤلف جزءا من جو السورة وشخصيتها الخاصة. وهنا يرد ذكر العلم كثيرا، وما يقابله من الجهل وقلة العلم في مواضع شتى:
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ، كَما أَتَمَّها
(4/1966)
عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
..
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
«فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
«قالَ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما. ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» ..
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
«قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» ..
«يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«وَقالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ؟ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» ..
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
«قالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
« ... وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
«قالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» ..
«قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» ..
«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ..» ..
«وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ..
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..
الَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
..
«قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» ..
«قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ... » .
وهي ظاهرة بارزة تلفت النظر إلى بعض أسرار التناسق ولطائفه في هذا الكتاب الكريم.
وفي السورة تعريف بخصائص الألوهية، وفي مقدمتها «الحكم» وهو يرد مرة على لسان يوسف- عليه السلام- بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية، ويأتي مرة على لسان يعقوب- عليه السلام- بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم لله في صورتها القهرية القدرية، فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو الذي لا يجيء عفوا ولا مصادفة أبدا:
يقول يوسف في معرض تفنيد ربوبية الحكام في مصر ومخالفتها لوحدانية الألوهية:
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها
(4/1967)
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»
..
ويقول يعقوب في معرض تقرير أن قدر الله نافذ وأن قضاءه ماض:
«يا بَنِيَّ، لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وهذا التكامل في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم، كالدينونة القهرية له سبحانه في القدر. فكلاهما من العقيدة وليست الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد، بل الدينونة الإرادية في الشريعة هي كذلك في نطاق الاعتقاد.
ومن لطائف التناسق أن يذكر يوسف الحصيف الكيس اللطيف المدخل، صفة الله المناسبة.. «اللطيف» .
في الموقف الذي يتجلى فيه لطف الله في التصريف:
«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً. وَقالَ: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ.. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..
ومن لطائف التناسق ما سبق أن أشرنا إليه من التطابق في السورة بين تقديم القصص، والتعقيب المباشر عليه، والتعقيب الختامي الطويل.. وكل هذه التعقيبات تتجه إلى تقرير قضايا واحدة، وتتلاقى عليها بين البدء والختام..
وحسبنا في التعريف بالسورة هذه اللمسات حتى نلتقي بها في السياق.
(4/1968)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
(4/1969)
هذا الدرس هو المقدمة، ثم الحلقة الأولى من القصة، وتتألف من ستة مشاهد، وتبدأ من رؤيا يوسف إلى نهاية مؤامرة إخوته عليه، ووصوله إلى مصر.. وسنواجه النصوص الواردة فيه مباشرة، بعد ذلك التقديم السابق للسورة، وفيه غناء:
«الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
ألف. لام. را.. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ..
هذه الأحرف وما من جنسها وهي قريبة للناس متداولة بينهم. هي هي بعينها تلك الآيات البعيدة المتسامية على الطاقة البشرية. آيات الكتاب المبين. ولقد نزله الله كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية المعروفة:
«لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
وتدركون أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون بشراً، فلا بد عقلاً أن يكون القرآن وحيا. والعقل هنا مدعو لتدبر هذه الظاهرة ودلالتها القاهرة.
ولما كان جسم هذه السورة قصة فقد أبرز ذكر القصص من مادة هذا الكتاب، على وجه التخصيص:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» ..
فبإيحائنا هذا القرآن إليك قصصنا عليك هذا القصص- وهو أحسن القصص- وهو جزء من القرآن الموحى به.
«وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
فقد كنت أحد الأميين في قومك، الذين لا يتوجهون إلى هذا النحو من الموضوعات التي جاء بها القرآن، ومنها هذا القصص الكامل الدقيق.
هذه المقدمة إشارة البدء إلى القصة..
ثم يرفع الستار عن المشهد الأول في الحلقة الأولى، لنرى يوسف الصبي يقص رؤياه على أبيه:
«إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ، إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. قالَ: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ
(4/1970)
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
..
كان يوسف صبياً أو غلاماً وهذه الرؤيا كما وصفها لأبيه ليست من رؤى الصبية ولا الغلمان وأقرب ما يزاه غلام- حين تكون رؤياه صبيانية أو صدى لما يحلم به- أن يرى هذه الكواكب والشمس والقمر في حجره أو بين يديه يطولها. ولكن يوسف رآها ساجدة له، متمثلة في صورة العقلاء الذين يحنون رؤوسهم بالسجود تعظيماً. والسياق يروي عنه في صيغة الإيضاح المؤكدة:
«إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» ..
ثم يعيد لفظ رأى:
«رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .
لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأناً عظيماً لهذا الغلام. لم يفصح هو عنه، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك. ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها. أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب. ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير- غير الشقيق- فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلىء نفوسهم بالحقد، فيدبروا له أمراً يسوؤه:
«قالَ: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ..
ثم عللَّ هذا بقوله:
«إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض، ويزين لهم الخطيئة والشر.
ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقد أحسن من رؤيا ابنه يوسف أن سيكون له شأن، يتجه خاطره إلى أن هذا الشأن في وادي الدين والصلاح والمعرفة بحكم جو النبوة الذي يعيش فيه، وما يعلمه من أن جده إبراهيم مبارك من الله هو وأهل بيته المؤمنون. فتوقع أن يكون يوسف هو الذي يختار من أبنائه من نسل إبراهيم لتحل عليه البركة وتتمثل فيه السلسلة المباركة في بيت إبراهيم. فقال له:
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
واتجاه فكر يعقوب إلى أن رؤيا يوسف تشير إلى اختيار الله له، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق (والجد يقال له أب) .. هذا طبيعي. ولكن الذي يستوقف النظر قوله:
«وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» ..
والتأويل هو معرفة المآل. فما الأحاديث؟. أقصد يعقوب أن الله سيختار يوسف ويعلمه ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به من الأحاديث مآلها الذي تنتهي إليه، منذ أوائلها. وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة، وجاء التعقيب:
«إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
(4/1971)
مناسباً لهذا في جو الحكمة والتعليم؟ أم قصد بالأحاديث الرؤى والأحلام كما وقع بالفعل في حياة يوسف فيما بعد؟
كلاهما جائز، وكلاهما يتمشى مع الجو المحيط بيوسف ويعقوب.
وبهذه المناسبة نذكر كلمة عن الرؤى والأحلام وهي موضوع هذه القصة وهذه السورة.
إننا ملزمون بالاعتقاد بأن بعض الرؤى تحمل نبوءات عن المستقبل القريب أو البعيد. ملزمون بهذا أولاً من ناحية ما ورد في هذه السورة من وقوع مصداق رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبيه في السجن، ورؤيا الملك في مصر. وثانياً من ناحية ما نراه في حياتنا الشخصية من تحقق رؤى تنبؤية في حالات متكررة بشكل يصعب نفي وجوده.. لأنه موجود بالفعل! ..
والسبب الأول يكفي.. ولكننا ذكرنا السبب الثاني لأنه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها إلا بتعنت..
فما هي طبيعة الرؤيا؟
تقول مدرسة التحليل النفسي: إنها صور من الرغبات المكبوتة تتنفس بها الأحلام في غياب الوعي.
وهذا يمثل جانباً من الأحلام. ولكنه لا يمثلها كلها. (وفرويد) ذاته- على كل تحكمه غير العلمي وتمحله في نظريته- يقرر أن هناك أحلاماً تنبؤية.
فما طبيعة هذه الأحلام التنبؤية؟
وقبل كل شيء نقرر أن معرفة طبيعتها أو عدم معرفة لا علاقة له بإثبات وجودها وصدق بعضها. إنما نحن نحاول فقط أن ندرك بعض خصائص هذا المخلوق البشري العجيب، وبعض سنن الله في هذا الوجود.
ونحن نتصور طبيعة هذه الرؤى على هذا النحو.. إن حواجز الزمان والمكان هي التي تحول بين هذا المخلوق البشري وبين رؤية ما نسميه الماضي أو المستقبل، أو الحاضر المحجوب. وأن ما نسميه ماضياً أو مستقبلاً إنما يحجبه عنا عامل الزمان، كما يحجب الحاضر البعيد عنا عامل المكان. وأن حاسةً ما في الإنسان لا نعرف كنهها تستيقظ أو تقوى في بعض الأحيان، فتتغلب على حاجز الزمان وترى ما وراءه في صورة مبهمة، ليست علماً ولكنها استشفاف، كالذي يقع في اليقظة لبعض الناس، وفي الرؤى لبعضهم، فيتغلب على حاجز المكان أو حاجز الزمان، أو هما معاً في بعض الأحيان «1» . وإن كنا في نفس الوقت لا نعلم شيئاً عن حقيقة الزمان.
كما أن حقيقة المكان ذاتها- وهي ما يسمى بالمادة- ليست معلومة لنا على وجه التحقيق: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ! على أية حال لقد رأى يوسف رؤياه هذه، وسنرى فيما بعد ما يكون تأويل الرؤيا.
ويسدل السياق الستار على مشهد يوسف ويعقوب هنا ليرفعه على مشهد آخر: مشهد إخوة يوسف يتآمرون، مع حركة تنبيه لأهمية ما سيكون:
__________
(1) وأستطيع أن أكذب كل شيء قبل أن أكذب حادثا وقع لي وأنا في أمريكا وأهلي في القاهرة وقد رأيت فيما يرى النائم ابن أخت لي شابا وفي عينه دم يحجبها عن الرؤية. فكتبت إلى أهلي أستفسر عن عينه بالذات، فجاءني الرد بأن عينه قد أصيبت بنزيّف داخلي وأنه يعالج.
ويلاحظ أن النزيف الداخلي لا يرى من الخارج، فقد كان منظر عينه لمن يراها بالعين المجردة منظرا عاديا، ولكنها كانت محجوبة عن الإبصار بالنزف الداخلي في قاعها. أما الرؤيا فقد كشفت عن هذا الدم المحجوب في الداخل! ولا أذكر غير هذه لأنها وحدها تكفي.
(4/1972)
«لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة.
إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين.
قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين» ..
لقد كان في قصة يوسف وإخوته آيات وأمارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عن الآيات ويسأل ويهتم.
وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الانتباه والاهتمام. لذلك نشبهه بحركة رفع الستار عما يدور وراءه من أحداث وحركات. فنحن نرى وراءه مباشرة مشهد إخوة يوسف يدبرون ليوسف ما يدبرون.
ترى حدثهم يوسف عن رؤياه كما يقول كتاب «العهد القديم» ؟ إن السياق هنا يفيد أن لا. فهم يتحدثون عن إيثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم. أخيه الشقيق. ولو كانوا قد علموا برؤياه لجاء ذكرها على ألسنتهم، ولكانت أدعى إلى أن تلهج ألسنتهم بالحقد عليه. فما خافه يعقوب على يوسف لو قص رؤياه على إخوته قد تم عن طريق آخر، وهو حقدهم عليه لإيثار أبيهم له. ولم يكن بد أن يتم لأنه حلقة في سلسلة الرواية الكبرى المرسومة، لتصل بيوسف إلى النهاية المرسومة، والتي تمهد لها ظروف حياته، وواقع أسرته، ومجيئه لأبيه على كبرة. وأصغر الأبناء هم أحب الأبناء، وبخاصة حين يكون الوالد في سن الكبر. كما كان الحال مع يوسف وأخيه، وإخوته من أمهات.
«إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ» ..
أي ونحن مجموعة قوية تدفع وتنفع..
«إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إذ يؤثر غلاماً وصبياً صغيرين على مجموعة الرجال النافعين الدافعين! ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان، فيختل تقديرهم للوقائع، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة، وتهون أحداث ضخام. تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعاً عن نفسه، وهو لهم أخ. وهم أبناء نبي- وإن لم يكونوا هم أنبياء- يهون هذا. وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله:
«اقْتُلُوا يُوسُفَ. أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً» ..
وهما قريب من قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغالب إلى الموت.. ولماذا؟
«يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» ..
فلا يحجبه يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خالياً من حبه، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها:
«وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» ! ..
هكذا ينزغ الشيطان، وهكذا يسول للنفوس عند ما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلاً جاهلاً غير ذاكر حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفاً قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان!
(4/1973)
ولكن ضميراً واحداً فيهم، يرتعش لهول ما هم مقدمون عليه. فيقترح حلاً يريحهم من يوسف، ويخلي لهم وجه أبيهم، ولكنه لا يقتل يوسف، ولا يلقيه في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك. إنما يلقيه في الجب على طريق القوافل، حيث يرجح أن تعثر عليه إحدى القوافل فتنقذه وتذهب به بعيداً:
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ..
ونحسن من قوله:
«إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ..
روح التشكيك والتثبيط. كأنه يشككهم في أنهم مصرون على إيقاع الأذى بيوسف. وهو أسلوب من أساليب التثبيط عن الفعل، واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه.. نفهم هذا من المشهد التالي في السياق..
فها هم أولاء عند أبيهم، يراودونه في اصطحاب يوسف معهم منذ الغداة. وهاهم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف. فلنشهد ولنستمع لما يدور:
«قالُوا: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» ..
والتعبير يرسم بكلماته وعباراته كل ما بذلوه ليتدسسوا به إلى قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب، الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث لبركات أبيه إبراهيم..
«يا أَبانا» ..
بهذا اللفظ الموحي المذكر بما بينه وبينهم من آصرة.
«مالك لا تأمنا على يوسف؟» ..
سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي، وفيه استجاشة لنفي مدلوله من أبيهم، والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف. فهو كان يستبقي يوسف معه ولا يرسله مع إخوته إلى المراعي والجهات الخلوية التي يرتادونها لأنه يحبه ويخشى عليه ألا يحتمل الجو والجهد الذي يحتملونه وهم كبار، لا لأنه لا يأمنهم عليه. فمبادرتهم له بأنه لا يأتمنهم على أخيهم وهو أبوهم، مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر ومن ثم يفقد إصراره على احتجاز يوسف. فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة! «ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» ..
قلوبنا له صافية لا يخالطها سوء- وكاد المريب أن يقول خذوني- فذكر النصح هنا وهو الصفاء والإخلاص يشي بما كانوا يحاولون إخفاءه من الدغل المريب..
«أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ..
زيادة في التوكيد، وتصويراً لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة، مما ينشط والده لإرساله معهم كما يريدون.
(4/1974)
ورداً على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي- بطريق غير مباشر- أنه لا يأمنهم عليه، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب:
«قالَ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» ..
«إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» ..
إنني لا أطيق فراقه.. ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها. أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة.
«وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» ..
ولا بد أنهم وجدوا فيها عذراً كانوا يبحثون عنه، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب! واختاروا أسلوباً من الأساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه:
«قالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» ..
لئن غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية هكذا فلا خير فينا لأنفسنا وإننا لخاسرون كل شيء، فلا نصلح لشيء أبداً! وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الإحراج.. ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضي مشيئته! والآن لقد ذهبوا به، وها هم أولاء ينفذون المؤامرة النكراء. والله سبحانه يلقي في روع الغلام أنها محنة وتنتهي، وأنه سيعيش وسيذكّر إخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون أنه هو:
«فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
فقد استقر أمرهم جميعاً على أن يجعلوه في غيابة الجب، حيث يغيب فيه عنهم. وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع، والموت منه قريب، ولا منقذ له ولا مغيث. وهو وحده صغير وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعة أنه ناج، وأنه سيعيش حتى يواجه إخوته بهذا الموقف الشنيع، وهم لا يشعرون بأن الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير.
وندع يوسف في محنته في غيابة الجب، يؤنسه ولا شك ما ألقى الله في روعه ويطمئنه، حتى يأذن الله بالفرج. ندعه لنشهد إخوته بعد الجريمة يواجهون الوالد المفجوع:
«وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ، قالُوا: يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ، وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ..
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة، فلو كانوا أهدأ أعصاباً ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلاً على التسرع، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس،
(4/1975)
وهم ينفونها، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان. فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب..
فعلوا هذا.
«وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا: يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ..
ويحسون أنها مكشوفة، ويكاد المريب أن يقول خذوني، فيقولون:
«وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» ..
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله، ولو كان هو الصدق، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول.
وأدرك يعقوب من دلائل الحال، ومن نداء قلبه، أن يوسف لم يأكله الذئب، وأنهم دبروا له مكيدة ما.
وأنهم يلفقون له قصة لم تقع، ويصفون له حالاً لم تكن، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمراً منكراً وذللته ويسرت لهم ارتكابه وأنه سيصبر متحملاً متجملاً لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو، مستعيناً بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب:
«قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .
ثم لنعد سريعاً إلى يوسف في الجب، لنرى المشهد الأخير في هذه الحلقة الأولى من حلقات القصة:
«وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ، فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ، فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ: يا بُشْرى. هذا غُلامٌ. وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ، وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» ..
لقد كان الجب على طريق القوافل، التي تبحث عن الماء في مظانه، في الآبار وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة، ويكون في بعض الأحيان جافاً كذلك:
«وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ» ..
أي قافلة سميت سيارة من السير الطويل كالكشافة والجوالة والقناصة ...
«فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» ..
أي من يرد لهم الماء ويكون خبيراً بمواقعه..
«فَأَدْلى دَلْوَهُ» ..
لينظر الماء أو ليملأ الدلو- ويحذف السياق حركة يوسف في التعلق بالدلو احتفاظاً بالمفاجأة القصصية للقارىء والسامع-:
«قالَ: يا بُشْرى! هذا غُلامٌ!» ..
ومرة أخرى يحذف السياق كل ما حدث بعد هذا وما قيل، وحال يوسف، وكيف ابتهج للنجاة، ليتحدث عن مصيره مع القافلة:
«وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» ..
(4/1976)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
أي اعتبروه بضاعة سرية وعزموا على بيعه رقيقاً. ولما لم يكن رقيقاً فقد أسروه ليخفوه عن الأنظار. ثم باعوه بثمن قليل:
«وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» .. وكانوا يتعاملون في القليل من الدراهم بالعد، وفي الكثير منها بالوزن..
«وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» ..
لأنهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه..
وكانت هذه نهاية المحنة الأولى في حياة النبي الكريم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 34]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
(4/1977)
الحلقة الثانية من حلقات القصة، وقد وصل يوسف إلى مصر، وبيع بيع الرقيق ولكن الذي اشتراه توسم فيه الخير- والخير يتوسم في الوجوه الصباح، وبخاصة حين تصاحبها السجايا الملاح- فإذا هو يوصي به امرأته خيراً، وهنا يبدأ أول خيط في تحقيق الرؤيا.
ولكن محنة أخرى من نوع آخر كانت تنتظر يوسف حين يبلغ أشده، وقد أوتي حكماً وعلماً يستقبل بهما هذه المحنة الجارفة التي لا يقف لها إلا من رحم الله. إنها محنة التعرض للغواية في جو القصور، وفي جو ما يسمونه «الطبقة الراقية» وما يغشاها من استهتار وفجور.. ويخرج يوسف منها سليماً معافى في خلقه وفي دينه، ولكن بعد أن يخالط المحنة ويصلاها..
«وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْواهُ، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
إن السياق لا يكشف لنا حتى الآن عمن اشتراه، وسنعلم بعد شوط في القصة أنه عزيز مصر (قيل: إنه كبير وزرائها) ولكنا نعلم منذ اللحظة أن يوسف قد وصل إلى مكان آمن، وأن المحنة قد انتهت بسلام، وأنه مقبل بعد هذا على خير:
«أَكْرِمِي مَثْواهُ» ..
والمثوى مكان الثويّ والمبيت والإقامة، والمقصود بإكرام مثواه إكرامه، ولكن التعبير أعمق، لأنه يجعل الإكرام لا لشخصه فحسب، ولكن لمكان إقامته.. وهي مبالغة في الإكرام. في مقابل مثواه في الجب وما حوله من مخاوف وآلام! ويكشف الرجل لامرأته عما يتوسمه في الغلام من خير، وما يتطلع إليه فيه من أمل:
«عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» ..
ولعلهما لم يكن لهما أولاد كما تذكر بعض الروايات. ومن ثم تطلع الرجل أن يتخذاه ولداً إذا صدقت فراسته، وتحققت مخايل نجابته وطيبته مع وسامته.
وهنا يقف السياق لينبه إلى أن هذا التدبير من الله، وبه وبمثله قدر ليوسف التمكين في الأرض- وها قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته- ويشير إلى أنه ماض في الطريق ليعلمه الله من تأويل الأحاديث- على الوجهين اللذين ذكرناهما من قبل- ويعقب السياق على هذا الابتداء في تمكين يوسف بما يدل عليه من أن قدرة الله غالبه، لا تقف في طريقها قوة، وأنه مالك أمره ومسيطر عليه فلا يخيب ولا يتوقف ولا يضل:
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» ..
(4/1978)
وها هو ذا يوسف أراد له إخوته أمراً، وأراد له الله أمراً، ولما كان الله غالباً على أمره ومسيطراً فقد نفذ أمره، أما إخوة يوسف فلا يملكون أمرهم فأفلت من أيديهم وخرج على ما أرادوا:
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
لا يعلمون أن سنة الله ماضية وأن أمره هو الذي يكون.
ويمضي السياق ليقرر أن ما شاء الله ليوسف، وقال عنه:
«وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» ..
قد تحقق حين بلغ أشده:
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
فقد أوتي صحة الحكم على الأمور، وأوتي علماً بمصائر الأحاديث أو بتأويل الرؤيا، أو بما هو أعم، من العلم بالحياة وأحوالها، فاللفظ عام ويشمل الكثير. وكان ذلك جزاء إحسانه. إحسانه في الاعتقاد وإحسانه في السلوك:
«وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ..
وعندئذ تجيئه المحنة الثانية في حياته، وهي أشد وأعمق من المحنة الأولى. تجيئه وقد أوتي صحة الحكم وأوتي العلم- رحمة من الله- ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذي سجله الله له في قرآنه.
والآن نشهد ذلك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير:
«وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ: هَيْتَ لَكَ! قالَ: مَعاذَ اللَّهِ. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ- وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ- وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ، وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ. إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» ..
إن السياق لم يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه فلننظر في هذا الأمر من باب التقدير.
لقد كان يوسف غلاما عند ما التقطته السيارة وباعته في مصر. أي إنه كان حوالي الرابعة عشرة تنقص ولا تزيد. فهذه هي السن التي يطلق فيها لفظ الغلام، وبعدها يسمى فتى فشاباً فرجلاً ... وهي السن التي يجوز فيها أن يقول يعقوب: «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ» .. وفي هذا الوقت كانت هي زوجة، وكانت وزوجها لم يرزقا أولاداً كما يبدو من قوله: «أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً» .. فهذا الخاطر.. خاطر التبني.. لا يرد على النفس عادة إلا حين لا يكون هناك ولد ويكون هناك يأس أو شبه يأس من الولد. فلا بد أن تكون قد مضت على زواجهما فترة، يعلمان فيها أن لا ولد لهما. وعلى كل حال فالمتوقع عن رئيس وزراء مصر ألا تقل سنه عن أربعين سنة، وأن تكون سن زوجه حينئذ حوالي الثلاثين.
ونتوقع كذلك أن تكون سنها أربعين سنة عند ما يكون يوسف في الخامسة والعشرين أو حواليها. وهي
(4/1979)
السن التي نرجح أن الحادثة وقعت فيها.. نرجحه لأن تصرف المرأة في الحادثة وما بعدها يشير إلى أنها كانت مكتملة جريئة، مالكة لكيدها، متهالكة كذلك على فتاها. ونرجحه من كلمة النسوة فيما بعد.. «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه» .. وإن كانت كلمة فتى تقال بمعنى عبد، ولكنها لا تقال إلا ولها حقيقة من مدلولها من سن يوسف. وهو ما ترجحه شواهد الحال.
نبحث هذا البحث، لنصل منه إلى نتيجة معينة. لنقول: إن التجربة التي مر بها يوسف- أو المحنة- لم تكن فقط في مواجهة المراودة في هذا المشهد الذي يصوره السياق. إنما كانت في حياة يوسف فترة مراهقته كلها في جو هذا القصر، مع هذه المرأة بين سن الثلاثين وسن الأربعين، مع جو القصور، وجو البيئة التي يصورها قول الزوج أمام الحالة التي وجد فيها امرأته مع يوسف:
«يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين» .
وكفى..!
والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز، فيكون جوابها عليهن، مأدبة يخرج عليهن يوسف فيها، فيفتتن به، ويصرحن، فتصرح المرأة:
«وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» ..
فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك بيئة خاصة. هي بيئة الطبقة المترفة دائماً. ويوسف كان فيها مولى وتربى فيها في سن الفتنة.. فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيراً أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب.
وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل. وهي كانت متهالكة.
والآن نواجه النصوص:
«وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ، وَقالَتْ: هَيْتَ لَكَ!» ..
وإذن فقد كانت المراودة في هذه المرة مكشوفة، وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الأخير.. وحركة تغليق الأبواب لا تكون إلا في اللحظة الأخيرة، وقد وصلت المرأة إلى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة، ونداء الجسد الأخير:
«وَقالَتْ: هَيْتَ لَكَ!» .
هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة. إنما تكون هي الدعوة الأخيرة.
وقد لا تكون أبداً إذا لم تضطر إليها المرأة اضطراراً. والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل، وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج، فلا بد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة.
«قالَ: مَعاذَ اللَّهِ. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ..
«مَعاذَ اللَّهِ» ..
أعيذ نفسي بالله أن أفعل.
«إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» ..
(4/1980)
وأكرمني بأن نجاني من الجب وجعل في هذه الدار مثواي الطيب الآمن.
«إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .. الذين يتجاوزون حدود الله، فيرتكبون ما تدعينني اللحظة إليه.
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهرة بعد تغليق الأبواب، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته:
«وَقالَتْ: هَيْتَ لَكَ» .
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» ! لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة. فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعاً شبقاً، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضاً على أصبعه بفمه! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن- أي نعم من القرآن! - تنهى عن مثل هذا المنكر، وهو لا يرعوي! حتى أرسل الله جبريل يقول له: أدرك عبدي، فجاء فضربه في صدره.. إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع! وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل، وهم بها هم النفس، ثم تجلى له برهان ربه فترك.
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي. وقال: إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة، وهم هو برد الاعتداء ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر.. وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة. وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص.
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعد ما أوتيهما..
الذي خطر لي أن قوله تعالى:
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» ..
هو نهاية موقف طويل من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم.. وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة.. ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً.
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص، ونتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من
(4/1981)
اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي «1» .
«كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» ..
«وَاسْتَبَقَا الْبابَ» ..
فهو قد آثر التخلص بعد أن استفاق.. وهي عدت خلفه لتمسك به، وهي ما تزال في هياجها الحيواني.
«وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» ..
نتيجة جذبها له لترده عن الباب..
وتقع المفاجأة:
«وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ» ..
وهنا تتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضراً على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب. إنها تتهم الفتى:
«قالَتْ: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟» ..
ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه، فتشير بالعقاب المأمون.
«إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ! ويجهر يوسف بالحقيقة في وجه الاتهام الباطل:
«قالَ: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» ! وهنا يذكر السياق أن أحد أهلها حسم بشهادته في هذا النزاع:
«وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
فأين ومتى أدلى هذا الشاهد بشهادته هذه؟ هل كان مع زوجها (سيدها بتعبير أهل مصر) وشهد الواقعة؟
أم أن زوجها استدعاه وعرض عليه الأمر، كما يقع في مثل هذه الأحوال أن يستدعي الرجل كبيراً من أسرة المرأة ويطلعه على ما رأى، وبخاصة تلك الطبقة الباردة الدم المائعة القيم! هذا وذلك جائز. وهو لا يغير من الأمر شيئاً. وقد سمي قوله هذا شهادة، لأنه لما سئل رأيه في الموقف والنزاع المعروض من الجانبين- ولكل منها ومن يوسف قول- سميت فتواه هذه شهادة، لأنها تساعد على تحقيق النزاع والوصول إلى الحق فيه.. فإن كان قميصه قد من قبل فذلك إذن من أثر مدافعتها له وهو يريد الاعتداء عليها فهي صادقة وهو كاذب. وإن كان قميصه قد من دبر فهو إذن من أثر تملصه منها وتعقبها هي
__________
(1) قال الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة، ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم. ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته» .. انتهى. وهو تعليل صحيح في جملته بغض النظر عن الإشارة الاعتزالية في قول الزمخشري: «ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم» . فهو إشارة منه إلى مذهب المعتزلة في أن البرهان عقلي. والبرهان الذي أخذه الله على المكلفين هو ما قرره في شريعته..
ولكن هذا خلاف مذهبي تاريخي لا شأن لنا به. فهو بجملته غريب على التصور الإسلامي!
(4/1982)
له حتى الباب، وهي كاذبة وهو صادق.. وقدم الفرض الأول لأنه إن صح يقتضي صدقها وكذبه، فهي السيدة وهذا فتى، فمن باب اللياقة أن يذكر الفرض الأول! والأمر لا يخرج عن أن يكون قرينة.
«فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ» ..
تبين له حسب الشهادة المبنية على منطق الواقع أنها هي التي راودت، وهي التي دبرت الاتهام.. وهنا تبدو لنا صورة من «الطبقة الراقية» في الجاهلية قبل آلاف السنين وكأنها هي هي اليوم شاخصة. رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية وميل إلى كتمانها عن المجتمع، وهذا هو المهم كله:
«قالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» ! هكذا. إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم.. فهي اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق.
والتلطف في مجابهة السيدة بنسبة الأمر إلى الجنس كله، فيما يشبه الثناء. فإنه لا يسوء المرأة أن يقال لها: إن كيدكن عظيم! فهو دلالة في حسها على أنها أنثى كاملة مستوفية لمقدرة الأنثى على الكيد العظيم! والتفاتة إلى يوسف البريء:
«يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» ..
فأهملْه ولا تُعِرْه اهتماماً ولا تتحدث به.. وهذا هو المهم.. محافظة على الظواهر! وعظة إلى المرأة التي راودت فتاها عن نفسه، وضبطت متلبسة بمساورته وتمزيق قميصه:
«وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» ..
إنها الطبقة الأرستقراطية، من رجال الحاشية، في كل جاهلية. قريب من قريب! ويسدل الستار على المشهد وما فيه.. وقد صور السياق تلك اللحظة بكل ملابساتها وانفعالاتها ولكن دون أن ينشىء منها معرضاً للنزوة الحيوانية الجاهرة، ولا مستنقعاً للوحل الجنسي المقبوح! ولم يحل السيد بين المرأة وفتاها. ومضت الأمور في طريقها. فهكذا تمضي الأمور في القصور! ولكن للقصور جدراناً، وفيها خدم وحشم. وما يجري في القصور لا يمكن أن يظل مستوراً. وبخاصة في الوسط الأرستقراطي، الذي ليس لنسائه من هم إلا الحديث عما يجري في محيطهن. وإلا تداول هذه الفضائح ولوكها على الألسن في المجالس والسهرات والزيارات:
«وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ. قَدْ شَغَفَها حُبًّا. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وهو كلام أشبه بما تقوله النسوة في كل بيئة جاهلية عن مثل هذه الشؤون. ولأول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز، وأن الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر- أي كبير وزرائها- ليعلن هذا مع إعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة:
«امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ» ..
ثم بيان لحالها معه:
«قَدْ شَغَفَها حُبًّا» ..
(4/1983)
فهي مفتونة به، بلغ حبه شفاف قلبها ومزقه، وشغاف القلب غشاؤه الرقيق:
«إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وهي السيدة الكبيرة زوجة الكبير، تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن اشتهارها بهذه الفتنة وانكشافها وظهور أمرها، وهو وحده المنتقد في عرف هذه الأوساط لا الفعلة في ذاتها لو ظلت وراء الأستار؟! وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن:
«فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، وَقالَتِ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ! ما هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ. وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» ..
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكيناً تستعملها في الطعام- ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأواً بعيداً، وأن الترف في القصور كان عظيماً. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف:
«وَقالَتِ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ» ..
«فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» ..
بهتن لطلعته، ودهشن.
«وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» ..
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
«وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ!» ..
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيراً عن الدهشة بصنع الله..
«ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» «1» .
وهذه التعبيرات دليل- كما قلنا في تقديم السورة- على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان.
__________
(1) أتعب الرواة والمفسرون أنفسهم في وصف حسن يوسف الذي بهر النسوة وبهر امرأة العزيز. وتصور بعضهم أوصافا أقرب ما تكون إلى أوصاف النساء. وما بمثل هذه الأوصاف تبهر النساء! وإن للرجولة لجمالها الخاص في اكتمال الملامح الرجولية. وإن كان هناك احتمال آخر وهو أن نساء تلك الطبقة كثيرا ما تنحرف فطرتهن فتعجبهن في الرجل ملامح وتقاطيع مما يحسب جميلا في النساء. ويغفلن عن غيرها مما يوجد في الرجل من سمات الرجال!
(4/1984)
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول.
فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى:
«قالَتْ: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ» ..
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» ..
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام- تريد أن تقول: إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها! - ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط، لا ترى بأساً من الجهر بنزاوتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء:
«وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» ! فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد.
ويسمع يوسف هذا القول في مجتمع النساء المبهورات، المبديات لمفاتنهن في مثل هذه المناسبات. ونفهم من السياق أنهن كن نساء مفتونات فاتنات في مواجهته وفي التعليق على هذا القول من ربة الدار فإذا هو يناجي ربه:
«قالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» ..
ولم يقل: ما تدعوني إليه. فهن جميعاً كن مشتركات في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات..
وإذا هو يستنجد ربه أن يصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه، ويدعو الله أن ينقذه منه:
«وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
وهي دعوة الإنسان العارف ببشريته. الذي لا يغتر بعصمته فيريد مزيداً من عناية الله وحياطته، يعاونه على ما يعترضه من فتنة وكيد وإغراء.
«فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن، بعد هذه التجربة أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى لا يحس في نفسه أثراً منه. أو بهما جميعاً.
«إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» الذي يسمع ويعلم، يسمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء.
وهكذا اجتاز يوسف محنته الثانية، بلطف الله ورعايته. وانتهت بهذه النجاة الحلقة الثانية من قصته المثيرة.
(4/1985)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
[سورة يوسف (12) : الآيات 35 الى 52]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
(4/1986)
«1» وهذه هي الحلقة الثالثة والمحنة الثالثة والأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف فكل ما بعدها رخاء، وابتلاء لصبره على الرخاء، بعد ابتلاء صبره على الشدة. والمحنة في هذه الحلقة هي محنة السجن بعد ظهور البراءة. والسجن للبريء المظلوم أقسى، وإن كان في طمأنينة القلب بالبراءة تعزية وسلوى.
وفي فترة المحنة هذه تتجلى نعمة الله على يوسف، بما وهبه من علم لدني بتعبير الرؤيا وبعض الغيب القريب الذي تبدو أوائله فيعرف تأويله. ثم تتجلى نعمة الله عليه أخيراً بإعلان براءته الكاملة إعلاناً رسمياً بحضرة الملك، وظهور مواهبه التي تؤهله لما هو مكنون له في عالم الغيب من مكانة مرموقة وثقة مطلقة، وسلطان عظيم.
«ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» ..
وهكذا جو القصور، وجو الحكم المطلق، وجو الأوساط الأرستقراطية، وجو الجاهلية! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حباً، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقاً، ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه، والمرأة تعلن في مجتمع النساء- دون حياء- أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، وإما أن يلقى السجن والصغار، فيختار السجن على ما يؤمر به!.
بعد هذا كله، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين! ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشاراً في طبقات الشعب الأخرى.. وهنا لا بد أن تحفظ سمعة «البيوتات» ! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من «الوسط الراقي!» قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية! «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» ..
سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص..
ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن، وما ظهر من صلاحه وإحسانه، فوجه إليه الأنظار، وجعله موضع ثقة المساجين، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية،
__________
(1) ينتهي الجزء هنا.
(4/1987)
فغضب عليهم في نزوة عارضة، فألقي بهم في السجن.. يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها. ويطلبان إليه تعبيرها، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك:
«قال أحدهما: إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه.
نبئنا بتأويله، إنا نراك من المحسنين» ..
وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة فكونه سجيناً لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والأوضاع الفاسدة، القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أرباباً يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين! ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداء إلى أنه سيؤول لهم الرؤى، لأن ربه علمه علماً لدنياً خاصاً، جزاء على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء.
هو وآباؤه من قبله.. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه:
«قالَ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي. إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» ..
ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف.. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها..
«قالَ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» ..
بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى. وهذا- فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف- وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى- وقوله:
«ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه.
«إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» ..
مشيرا بهذا إلى القوم الذين ربي فيهم، وهم بيت العزيز وحاشية الملك والملأ من القوم والشعب الذي يتبعهم.
والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما- وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل.
وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر- كما قلنا من قبل- أن الإيمان بالآخرة كان عنصراً من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعاً منذ فجر البشرية الأول ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة- بجملتها- متأخراً.. لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخراً فعلاً، ولكنه كان دائماً عنصراً أصيلاً في الرسالات السماوية الصحيحة..
ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه:
«وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي: إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ..
(4/1988)
فهي ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئاً قط.. والهداية إلى التوحيد فضل من الله على المهتدين، وهو فضل في متناول الناس جميعاً لو اتجهوا إليه وأرادوه. ففي فطرتهم أصوله وهواتفه، وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله، وفي رسالات الرسل بيانه وتقريره. ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه:
«ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» ..
مدخل لطيف.. وخطوة خطوة في حذر ولين.. ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر، ويفصح عن عقيدته ودعوته إفصاحاً كاملاً، ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، وفساد ذلك الواقع النكد الذي يعيشون فيه.. بعد ذلك التمهيد الطويل:
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ؟ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
لقد رسم يوسف- عليه السلام- بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة. كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً عنيفاً..
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟» ..
إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما هذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة. وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنما يعرضها قضية موضوعية:
«أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟» ..
وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزاً شديداً.. إن الفطرة تعرف لها إلهاً واحداً ففيم إذن تعدد الأرباب؟ .. إن الذي يستحق أن يكون رباً يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار. ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود فيجب تبعاً لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس. وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله ربا.. إن الرب لا بد أن يكون إلهاً يملك أمر هذا الكون ويسيره.
ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله رباً للناس يقهرهم بحكمه، وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره! والله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب- كالشأن في كل الأرباب إلا الله- وما شقيت البشرية قط شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم.. فهذه الأرباب الأرضية التي تغتصب سلطان الله وربوبيته أو يعطيها الجاهليون هذا السلطان تحت تأثير الوهم والخرافة والأسطورة، أو تحت تأثير القهر أو الخداع أو الدعاية! هذه الأرباب الأرضية لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها، ومن حرصها على ذواتها وبقائها، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته، وفي تدمير كل القوى والطاقات التي تهدد ذلك السلطان من قريب أو من بعيد وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل ولا تنفثئ نفختها الخادعة! والله الواحد القهار في غنى عن العالمين فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة-
(4/1989)
وفق منهجه- فيعدّ لهم هذا كله عبادة. وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم، لإصلاح حياتهم وواقعهم.. وإلا فما أغناه سبحانه عن عباده أجمعين! «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .. ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد «1» ! ثم يخطو يوسف- عليه السلام- خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية:
«ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» ..
إن هذه الأرباب- سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله- ليست من الربوبية في شيء، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء. فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار الذي يخلق ويقهر كل العباد.. ولكن البشر في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع يسمون من عند أنفسهم أسماء، ويخلعون عليها صفات، ويعطونها خصائص وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان.. والله لم يجعل لها سلطانا ولم ينزل بها من سلطان..
وهنا يضرب يوسف- عليه السلام- ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين: لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة.. أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون «العبادة» ! «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
إن الحكم لا يكون إلا لله. فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته. إذ الحاكمية من خصائص الألوهية.
من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب. أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعاً في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفراً بواحاً، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده! وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعاً لله في أولى خصائص ألوهيته- سبحانه- فليس من الضروري أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري أو يقول:
أنا ربكم الأعلى، كما قالها فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية ويستمد القوانين من مصدر آخر. وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه.. ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية.
والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته. إنما مصدر الحاكمية هو الله. وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة. فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية إنما يملكه الله وحده.
والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية، وما أنزل الله به من سلطان..
ويوسف- عليه السلام- يعلل القول بأن الحكم لله وحده. فيقول:
«أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» .
ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى «العبادة» التي يخص بها الله وحده..
__________
(1) يراجع ما سبق تقريره في هذا الجزء عن قيمة العبودية لله وحده في واقع الحياة البشرية. ص 1938- 1943.
(4/1990)
إن معنى عبد في اللغة: دان، وخضع، وذل.. ولم يكن معناه في الإصطلاح الإسلامي في أول الأمر أداء الشعائر.. إنما كان هو معناه اللغوي نفسه.. فعند ما نزل هذا النص أول مرة لم يكن شيء من الشعائر.
قد فرض حتى ينطلق اللفظ إليه. إنما كان المقصود هو معناه اللغوي الذي صار هو معناه الاصطلاحي. كان المقصود به هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده. سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية. فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله- سبحانه- بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه..
وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف- عليه السلام- اختصاص الله بالعبادة تعليلاً لاختصاصه بالحكم. فالعبادة- أي الدينونة- لا تقوم إذا كان الحكم لغيره.. وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة. فكله حكم تتحقق به الدينونة.
ومرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله- حكماً معلوماً من الدين بالضرورة- لأنها تخرجه من عبادة الله وحده.. وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعاً. وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه.. فكلهم سواء في ميزان الله.
ويقرر يوسف- عليه السلام- أن اختصاص الله- سبحانه- بالحكم- تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة- هو وحده الدين القيم:
«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
وهو تعبير يفيد القصر. فلا دين قيماً سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقاً لاختصاصه بالعبادة..
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
وكونهم «لا يعلمون» لا يجعلهم على دين الله القيم. فالذي لا يعلم شيئاً لا يملك الاعتقاد فيه ولا تحقيقه..
فإذا وجد ناس لا يعلمون حقيقة الدين، لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنهم على هذا الدين! ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام. ذلك أن الجهل مانع للصفة ابتداء. فاعتقاد شيء فرع عن العلم به.. وهذا منطق العقل والواقع.. بل منطق البداهة الواضح.
لقد رسم يوسف- عليه السلام- بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزاً شديداً..
إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعياً أخص خصائص الألوهية، وهو الربوبية. أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه. وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه- ولو لم يقله بلسانه- فالعمل دليل أقوى من القول.
وإن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس. فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة. بل هي أصلا مدلول العبادة.
(4/1991)
وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه، مرتبطاً في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن. ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس، ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقاً به:
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ، أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ» ..
ولم يعين من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفاً وتحرجاً من المواجهة بالشر والسوء.
ولكنه أكد لهما الأمر واثقاً من العلم الذي وهبه الله له:
«قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» ..
وانتهى فهو كائن كما قضاه الله.
وأحب يوسف السجين البريء، الذي أمر الملك بسجنه دون تحر ودون بحث، إلا ما نقله إليه بعض حاشيته من وشاية لعلهم صوروا له فيها حادث امرأة العزيز وحادث النسوة تصويراً مقلوباً، كما يقع عادة في مثل هذه الأوساط.. أحب يوسف أن يبلغ أمره إلى الملك ليفحص عن الأمر:
«وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ» ..
اذكر حالي ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين بشرعه وتخضع لحكمه، فهو بهذا ربك.
فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع.. وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي. ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولاً كالفراعنة، ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة.
ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية..
وهنا يسقط السياق أن التأويل قد تحقق، وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف. ويترك هنا فجوة، نعرف منها أن هذا كله قد كان. ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلاً لم ينفذ الوصية، ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف، ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر وملهياتها وقد عاد إليها، فنسي يوسف وأمره كله..
«فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ» ..
«فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» ..
والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف. وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. وكان هذا من اصطفائه وإكرامه.
إن عباد الله المخلصين ينبغي أن يخلصوا له سبحانه، وأن يدعوا له وحده قيادهم، ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم. وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحباً وشوقاً.. فيتم عليهم فضله بهذا كله..
والآن نحن في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات:
«وَقالَ الْمَلِكُ: إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ «1» ، وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ.
__________
(1) من العجف وهو ظهور العظام من الهزال.
(4/1992)
يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «1» . قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» ..
طلب الملك تأويل رؤياه. فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها، أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم.
وصرف الحديث عنه! فقالوا: إنها «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل. «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» .. إذا كانت أضغاثاً مختلطة لا تشير إلى شيء! والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث: رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك. وطلب تأويلها في كل مرة، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر- كما أسلفنا- وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال. فنكمل حديث رؤيا الملك الآن! هنا تذكر أحد صاحبيه في السجن، الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه، وذكر يوسف في دوامة القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب.. هنا تذكر الرجل الذي أوّلَ له رؤياه ورؤيا صاحبه، فتحقق التأويل:
«وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «2» : أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» ! أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.. ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه:
«يُوسُفُ- أَيُّهَا الصِّدِّيقُ- أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ: وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
والساقي يلقب يوسف بالصدّيق، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل..
«أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ... » ..
ونقل الفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنه يطلب تأويلها، فكان دقيقاً في نقلها، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولاً، وليجيء تأويلها ملاصقاً في السياق لذكرها.
ولكن كلام يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه. وهذا أكمل:
«قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» ..
أي.. متوالية متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
«فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ» ..
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
«إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ» ..
__________
(1) تعبرون: أي تصلون إلى نهايتها وتذكرون مآلها. [.....]
(2) بعد أمة من السنين أو الأوقات: أي مجموعة. والمقصود عدد من السنين هي بضع سنين ما بين ثلاث وتسع.
(4/1993)
فجردوه من سنابله، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
«ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ» ..
لا زرع فيهن.
«يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ» ..
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها! «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ» ..
أي إلا قليلاً مما تحفظونه وتصونونه من التهامها! «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» ..
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب.
تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمراً، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتاً..
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف. فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخيّ رغيد.
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركاً فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة.
ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف، وأمره أن يأتوه به:
«وَقالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ» ..
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولاً تنفيذياً مكلفاً بمثل هذا الشأن.
نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحاً في موقفه، وتعلن براءته- على الأشهاد- من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.. لقد رباه ربه وأدبه.
ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلاً ولا عجولاً! إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد..
«قالَ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ؟ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» .
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيراً بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلاً، ولا يخذل طويلاً.
(4/1994)
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة «رب» بمدلولها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه..
ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن- والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه-:
«قالَ: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟» ..
والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقرراً الاتهام، ومشيراً إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:
«ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟» .
ومن هذا نعلم شيئاً مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ما قالته النسوة ليوسف وما لَمّحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائماً هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية! وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:
«قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ! ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» ! وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولو من مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تنقدم لتقول كل شيء في صراحة:
«قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» ..
الآن حصحص الحق وظهر ظهوراً واضحاً لا يحتمل الخفاء:
«أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» ..
وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر.
كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:
«أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» ..
شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟
يشي السياق بحافز آخر، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية. أن يحترمها تقديراً لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:
(4/1995)
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» ..
ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:
«وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:
«وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إنها امرأة أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه! وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة، التي لم تسق لمجرد الفن، إنما سيقت للعبرة والعظة. وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسماً رشيقاً رفيقاً شفيفاً. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام، وتسير الحياة بيوسف رخاء، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة.
وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله.
(4/1996)
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقيّة سورة يوسف وسورتا الرّعد وابراهيم الجزء الثالث عشر
(4/1997)
انتهى الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر مبدوءا بقوله تعالى:
«وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ... »
(4/2000)
بسم الله الرّحمن الرّحيم يتألف هذا الجزء من بقية سورة يوسف المكية، ومن سورتي الرعد وإبراهيم المكيتين أيضا. فهو جزء كامل من القرآن المكي بكل خصائص القرآن المكي «1» .
فأما سورتا الرعد وإبراهيم فسنعرّف بهما- إن شاء الله- في موضعهما. وأما بقية سورة يوسف، فنرجو أن يراجع قبل قراءتها في هذا الجزء ما سبق من التعريف بالسورة في الجزء الماضي.
إننا نستقبل في هذا الجزء بقية قصة يوسف، والتعقيبات المباشرة عليها ثم التعقيبات الأخيرة في السورة..
وكذلك نستقبل فيه مرحلة جديدة من مراحل حياة الشخصية الأساسية في القصة- شخصية يوسف عليه السلام- ومع امتداد هذه الشخصية واستقامتها على المقوّمات الأساسية لها- تلك التي مر ذكرها في التعريف بشخصيات القصة في التقديم للسورة «2» ، فإننا نجد في هذه المرحلة الجديدة ملامح جديدة تبرز- هي امتداد طبيعي واقعي لنشأة الشخصية وللمرحلة السابقة من حياتها ولكنها مع ذلك ذات طابع مميز..
نجد شخصية يوسف- عليه السلام- وقد استقامت مع نشأتها والأحداث التي مرت بها، والابتلاءات التي اجتازتها، في ظل التربية الربانية للعبد الصالح، الذي يعد ليمكن له في الأرض، وليقوم بالدعوة إلى دين الله وهو ممكن له في الأرض، وهو قابض على مقاليد الأمور في مركز التموين في الشرق الأوسط! وأول ملامح هذه المرحلة هذا الاعتزاز بالله، والاطمئنان إليه، والثقة به، والتجرد له، والتعري من كل قيم الأرض، والتحرر من كل أوهاقها، واستصغار شأن القوى المتحكمة فيها، وهو ان تلك القيم وهذه القوى في النفس الموصولة الأسباب بالله- سبحانه وتعالى! تبدو هذه الظاهرة الواضحة في موقف يوسف، ورسول الملك يجيء إليه في سجنه يبلغه رغبة الملك في أن يراه.. فلا يخف يوسف- عليه السلام- لطلب الملك ولا يتلهف على مغادرة سجنه الظالم المظلم إلى رحاب الملك الذي يرغب في لقائه ولا تستخفه الفرحة بالخروج من هذا الضيق.
ولا تتجلى هذه الظاهرة- وما وراءها من التغيرات العميقة في الموازين والقيم والمشاعر في نفس يوسف
__________
(1) تراجع مقدمة سورة الأنعام في الجزء السابع، ومقدمة سورة يونس في الجزء الحادي عشر، ومقدمة سورة هود في الجزء الثاني عشر.
(2) ص 1951- 1963 من الجزء الثاني عشر من هذه الطبعة المنقحة. «دار الشروق» .
(4/2001)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
الصديق، إلا حين نعود القهقرى بضع سنين، لنجد يوسف يوصي ساقي الملك- وهو يظن أنه ناج- أن يذكره عند ربه.. إن الإيمان هو الإيمان، ولكن هذه هي الطمأنينة. الطمأنينة التي تنكسب في القلب وهو يلابس قدر الله في جريانه.. وهو يرى كيف يتحقق هذا القدر أمام عينيه فعلا.. الطمأنينة التي كان يطلبها جده إبراهيم عليه السلام، وهو يقول لربه: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» فيسأله ربه- وربه يعلم: - «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟» فيقول- وربه يعلم حقيقة ما يشعر وما يقول- «بلى! ولكن ليطمئن قلبي» ..
إنها هي هي الطمأنينة التي تسكبها التربية الربانية في قلوب الصفوة المختارة، بالابتلاء والمعاناة، والرؤية والمشاهدة، والمعرفة والتذوق.. ثم الثقة والسكينة..
وهذه هي الظاهرة الواضحة في كل مواقف يوسف من بعد، حتى يكون الموقف الأخير في نجائه مع ربه، منخلعا من كل شيء تهفو له النفوس في هذه الأرض: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» .
أما التعقيبات التي ترد في نهاية القصة، والتعقيبات العامة في السورة، فقد تحدثنا عنها إجمالا عند تقديم السورة في الجزء الثاني عشر «1» . وسوف نواجهها بالتفصيل في مواضعها من السياق إن شاء الله.. إنما أردنا فقط أن نبرز تلك الظاهرة الجديدة في الشخصية الرئيسية في القصة. ذلك أنها الظاهرة الأساسية التي تتكامل بها صورة الشخصية كما أنها هي الظاهرة الأساسية التي يحتفل بها سياق القصة وسياق السورة من الناحية الحركية التربوية للمنهج القرآني..
والآن سنواجه النصوص تفصيلا:
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 79]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)
__________
(1) تراجع ص 1951- 1963 من الجزء الثاني عشر.
(4/2002)
نمضي في هذا الدرس مع قصة يوسف، في حلقة جديدة من حلقاتها- الحلقة الرابعة- وقد وقفنا في نهاية الجزء الثاني عشر عند نهاية الحلقة الثالثة. وقد أخرج من السجن، واستدعاه الملك ليكون له شأن معه، هو الذي سنعرفه في هذه الحلقة الجديدة.
هذا الدرس يبدأ بآخر فقرة في المشهد السابق. مشهد الملك يستجوب النسوة اللاتي قطعن أيديهن- كما رغب إليه يوسف أن يفعل- تمحيصاً لتلك المكايد التي أدخلته السجن، وإعلاناً لبراءته على الملأ، قبل أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته وهو يبدؤها واثقاً مطمئناً، في نفسه سكينة وفي قلبه طمأنينة وقد أحس أنها ستكون مرحلة ظهور في حياة الدولة، وفي حياة الدعوة كذلك. فيحسن أن يبدأها وكل ما حوله واضح، ولا شيء من غبار الماضي يلاحقه وهو بريء.
ومع أنه قد تجمل فلم يذكر عن امرأة العزيز شيئاً، ولم يشر إليها على وجه التخصيص، إنما رغب إلى الملك أن يفحص عن أمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، فإن امرأة العزيز تقدمت لتعلن الحقيقة كاملة:
«الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وفي هذه الفقرة الأخيرة تبدو المرأة مؤمنة متحرجة، تبرئ نفسها من خيانة يوسف في غيبته ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطلقة، لأن النفس أمارة بالسوء- إلا ما رحم ربي- ثم تعلن ما يدل على إيمانها بالله- ولعل ذلك كان اتباعاً ليوسف- «إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وبذلك يسدل الستار على ماضي الآلام في حياة يوسف الصديق. وتبدأ مرحلة الرخاء والعز والتمكين..
«وَقالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
لقد تبينت للملك براءة يوسف، وتبين له معها علمه في تفسير الرؤيا، وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة، كذلك تبينت له كرامته وإباؤه، وهو لا يتهافت على الخروج من السجن، ولا يتهافت على لقاء الملك. وأي ملك؟ ملك مصر! ولكن يقف وقفة الرجل الكريم المتهم في سمعته، المسجون ظلماً، يطلب رفع الاتهام عن سمعته قبل أن يطلب رفع السجن عن بدنه ويطلب الكرامة لشخصه ولدينه الذي يمثله قبل أن يطلب الحظوة عند الملك..
(4/2004)
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:
«ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» ..
فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ولا ليسمعه كلمة «الرضاء الملكي السامي!» فيطير بها فرحاً.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار واَلنجيّ والصديق..
فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام- وهم أبرياء مطلقو السراح- فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح- حتى المادي- أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء! «وَقالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» ..
ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك..
«فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» ..
فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من الفتنة- فتنة الجوع- فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:
«قالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
والأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيراً كبيراً لشعب مصر وللشعوب المجاورة:
«إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.
(4/2005)
وهنا تعرض شبهة.. أليس في قول يوسف- عليه السلام-: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» .. أمران محظوران في النظام الإسلامي:
أولهما: طلب التولية، وهو محظور بنص قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله (أو حرص عليه) ... (متفق عليه) .
وثانيهما: تزكية النفس، وهي محظورة بقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» ؟
ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنها لم تكن مقررة على أيام يوسف- عليه السلام- والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست موحدة كأصول العقيدة، الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول..
لا نريد أن نجيب بهذا، وإن كان له وجه، لأننا نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقاً، وأوسع آفاقاً من أن يرتكن إلى هذا الوجه وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من الأصول والنصوص، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في كيانها، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود والركود! إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه لا يعيش ولا يفهم في فراغ! .. لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي..
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة، دون إدراك لهاتين الحقيقتين ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها.. الذين يفعلون ذلك ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ.. هؤلاء ليسوا «فقهاء» ! وليس لهم «فقه» بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلاً! إن «فقه الحركة» يختلف اختلافاً أساسياً عن «فقه الأوراق» مع استمداده أصلاً وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها «فقه الأوراق» ! إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره «الواقع» الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركباً لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه! ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها.. إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ! ونأخذ مثالاً لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب،
(4/2006)
وهو المأخوذ من قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» ومن قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله» ..
لقد نشأ هذا الحكم- كما نزلت تلك النصوص- في مجتمع مسلم ليطبق في هذا المجتمع وليعيش في هذا الوسط وليلبي حاجة ذلك المجتمع. وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي.. وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي.. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة.. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها يعتبر «فراغاً» بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح له، ولا يصلحه كذلك! .. ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي. وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني..
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة ...
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم. كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحداً بالتزاحم عليه- اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى- ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم.
وهؤلاء يجب أن يُمنعوها! ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضاً..
إن الحركة هي العنصر المكوّن لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية..
أولاً: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله- على عهد النبوات- أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله- على مدار الزمان بعد ذلك- فيستجيب للدعوة ناس يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة. فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيداً ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق..
هؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستاراً لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقاً لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة الله في الأرض- أي لينفذ حكم الله في الأرض- ليس له من هذا النصر والتمكين شيء إنما هو نصر لدين الله، وتمكين لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ولا عند حدود جنس معين ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوّم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا «الإنسان» .. كل الإنسان: في «الأرض» .. كل الأرض.. من العبودية لغير الله وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت «1» .
__________
(1) يراجع فصل «الجهاد في سبيل الله» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(4/2007)
وفي أثناء الحركة بهذا الدين- وقد لا حظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم- تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة.. وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها.. ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية- كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين ثم الأنصار. وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل- ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام.. في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين- مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحياناً فغلبتهم الأطماع- وعندئذ تنتفي الحاجة- من جانب آخر- إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة.. لن يوجد اليوم أو غداً، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها.. وهذه نقطة البدء.. ثم تعقبها الفتنة والابتلاء- كما حدث أول مرة- فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء. وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكّن لهم في الأرض- كما مكن للمسلمين أول مرة- فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي.. ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين والقيم الإيمانية.. ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم! ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى. فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن هذا الدين يتحرك دائماً ولا يكف عن الحركة.. يتحرك لتحرير «الإنسان» .
كل الإنسان.. في «الأرض» .. كل الأرض.. من العبودية لغير الله وليرفعه عن العبودية للطواغيت بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! وإذن فستظل الحركة- التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة- تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ولا تقف أبداً ليركد هذا المجتمع ويأسن- إلا أن ينحرف عن الإسلام- وسيظل الحكم الفقهي- الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية- قائماً وعاملاً في محيطه الملائم.. ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه.
ثم يقال: ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضاً ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية! وهذا القول كذلك وهم ناشئ من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة.. إن المجتمع المسلم يكون
(4/2008)
أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين- كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه، والالتزام في المجتمع المسلم- ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية..
سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية. أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام- الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد- أو أهل الشورى- له.. يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة. والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته- أو يكتبون- يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر- بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية- فراغاً لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام.. إن تركيبه العضوي مناقض تماماً للتركيب العضوي للمجتمع المسلم. فالمجتمع المسلم- كما قلنا- يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام. مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من فتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف. أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية.. وهو- من ثم- يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغاً لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام! هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم- أول ما يحيرهم- طريقة اختيار أهل الحل والعقد- أو أهل الشورى- من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد- متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها- فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصاً يضمن ولاءهم له، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟ ...
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جواباً في هذه المتاهة! أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة.. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر، وبقيمه وأخلاقه الحاضرة! هذه نقطة البدء في المتاهة.. ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ، ويوغل في هذا الفراغ، حتى يبعد في التيه، وحتى يأخذه الدوار! إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام.. لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظام
(4/2009)
الإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ، ولم تتحرك في فراغ كذلك! إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي.. ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت- في وجه الجاهلية- لإنشائه وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.
إنه مجتمع جديد.. ومجتمع وليد.. ومجتمع متحرك دائماً في طريقه لتحرير «الإنسان» ،.. كل الإنسان..
في «الأرض» .. كل الأرض.. من العبودية لغير الله، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت..
أياً كانت هذه الطواغيت..
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة، واختيار الإمام، واختيار أهل الشورى ... وما إليها ... قضايا كثيرة تثار، ويطرقها الباحثون في الإسلام.. في الفراغ.. في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه.. بتركيبه العضوي المختلف تماماً عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم.. وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماماً عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته..
أعمال البنوك وأساسها الربوي.. شركات التأمين وقاعدتها الربوية.. تحديد النسل وما أدري ماذا؟! إلى آخر هذه «المشكلات» التي يشغل «الباحثون» بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم..
إنهم جميعاً- مع الأسف- يبدأون من نقطة البدء في المتاهة! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر فتنتقل هذه المجتمعات إذن- متى طبقت عليها أحكام الإسلام- إلى الإسلام! وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة! إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم. إنما المجتمع المسلم بحركته- في مواجهة الجاهلية ابتداء- ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانياً، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمداً من أصول الشريعة الكلية.. والعكس لا يمكن أن يكون أصلاً! إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك.. لا ينشأ في الأدمغة والأوراق إنما ينشأ في واقع الحياة. وليست أية حياة. إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد.. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولاً بتركيبه العضوي الطبيعي فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق..
وعندئذ تختلف الأمور جداً..
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص- بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة- إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل ... الخ وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفاً أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها، ولا شكلها، حتى نشرع لها سلفاً! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها.. ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها. ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك! إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه! ولكن الأمر غير ذلك تماماً.. إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشرية
(4/2010)
أن تطابق نفسها عليه وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة.. ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد.. هو التحرك- في وجه الجاهلية- لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم..
وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء. فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد، ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن الله له في الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه، وتميزوا بقيمه.. وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها.. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام وينشأ فقه إسلامي حي متحرك- لا في فراغ- ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات..
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلاً أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر.. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية.. من يدرينا أن مجتمعاً كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلاً؟! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات؟! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته؟! وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلاً؟ .. وهكذا..
وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلماً ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه..
فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته! إن نقطة البدء في المتاهة- كما قلنا- هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية وانه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها.
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه. وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها.. حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلاً من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره! ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية، والمجتمعات الجاهلية، والحاجات الجاهلية. وأن يقولوا للناس- وللذين يستفتونهم بوجه خاص- تعالوا أنتم أولاً إلى الإسلام، وأعلنوا خضوعكم سلفاً لأحكامه.. أو بعبارة أخرى.. تعالوا أنتم أولاً فادخلوا في دين الله، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده، واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به. وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء وتقرير ربوبيته- أي حاكميته وسلطانه- وحده في حياة الناس بجملتها. وتنحية ربوبية العباد للعباد، بتنحية حاكمية العباد للعباد، وتشريع العباد للعباد.
(4/2011)
وحين يستجيب الناس- أو الجماعة منهم- لهذا القول، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود. وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلاً..
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس، باستنبات البذور في الهواء، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء! إن العمل في الحقل «الفكري» للفقه الإسلامي عمل مريح! لأنه لا خطر فيه! ولكنه ليس عملاً للإسلام ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملاً للإسلام في هذه الفترة فأحسب- والله أعلم- أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضاً! إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول، ومجرد خادم مطيع، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه، المتنكر له، الشارد عنه.. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه..
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ، ولا تعمل في فراغ.. وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع.. ولن تنعكس الآية أبداً.
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائماً واحدة والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوماً ما سهلاً ولا يسيراً. ولن يبدأ أبداً من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي. ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على «الجاهز» والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام. وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية «الجاهزة» ! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة.. إلى آخر ما يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر! كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده.
وتخرج بذلك من الإسلام خروجاً كاملاً. يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة.. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله- أي تدين لها وتخضع وتتبع- فتجعلها بذلك أرباباً متفرقة معبوده مطاعة. وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك.. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام..
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاماً في الأرض وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية:
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية- إذن- بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق.. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة
(4/2012)
في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب- كما أسلفنا- ولا يمكن التكهن بها سلفاً، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين! إن هذا لا يعني- بحال- أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلاً من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه- بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به- ليس قائماً الآن فعلاً. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقاً بقيام ذلك المجتمع.. ويبقى الالتزام بها قائماً في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية..
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية.. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين وتوهمهم أنه لا يزال بخير وهو يمحى من الوجود محواً! إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد.. وجد من يوم أن قيل للناس:
اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فعبدوه. ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت. إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده- من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزّلت شرائع! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة..
وهذا هو الطريق وحده وليس هنالك طريق آخر..
وليت هنالك طريقاً سهلاً عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وببيان أحكام الإسلام! ولكن هذه إنما هي «الأمانيّ» ! فالجماهير لا تتحول أبداً من الجاهلية وعبادة الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة.. والذي يبدؤه فرد، ثم تتبعه طليعة، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكّن لها في الأرض.. ثم.. يدخل الناس في دين الله أفواجاً.. ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس ديناً غيره: «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه» ..
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف- عليه السلام.
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكماً مطاعاً لا خادماً في وضع جاهلي.
وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه. وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما..
(4/2013)
ثم نعود بعد هذا الاستطراد إلى صلب القصة وإلى صلب السياق. إن السياق لا يثبت أن الملك وافق.
فكأنما يقول: إن الطلب تضمن الموافقة! زيادة في تكريم يوسف، وإظهار مكانته عند الملك. فيكفي أن يقول ليجاب، بل ليكون قوله هو الجواب.. ومن ثم يحذف رد الملك، ويدع القارئ يفهم أنه أصبح في المكان الذي طلبه.
ويؤيد هذا الذي نقوله تعقيب السياق:
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
فعلى هذا النحو من إظهار براءة يوسف، ومن إعجاب الملك به، ومن الاستجابة له فيما طلب.. على هذا النحو مكنا ليوسف في الأرض، وثبتنا قدميه، وجعلنا له فيها مكاناً ملحوظاً. والأرض هي مصر.
أو هي هذه الأرض كلها باعتبار أن مصر يومذاك أعظم ممالكها.
«يتبوأ منها حيث يشاء» ..
يتخذ منها المنزل الذي يريد، والمكان الذي يريد، والمكانة التي يريد. في مقابل الجب وما فيه من مخاوف، والسجن وما فيه من قيود.
«نصيب برحمتنا من نشاء» ..
فنبدله من العسر يسراً، ومن الضيق فرجاً، ومن الخوف أمناً، ومن القيد حرية، ومن الهوان على الناس عزاً ومقاماً علياً.
«ولا نضيع أجر المحسنين» ..
الذين يحسنون الإيمان بالله، والتوكل عليه، والاتجاه إليه، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس.. هذا في الدنيا..
«وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» ..
فلا ينقص منه المتاع في الدنيا وإن كان خيراً من متاع الدنيا، متى آمن الإنسان واتقى. فاطمأن بإيمانه إلى ربه، وراقبه بتقواه في سره وجهره.
وهكذا عوض الله يوسف عن المحنة، تلك المكانة في الأرض، وهذه البشرى في الآخرة جزاء وفاقاً على الإيمان والصبر والإحسان.
ودارت عجلة الزمن. وطوى السياق دوراتها بما كان فيها طوال سنوات الرخاء. فلم يذكر كيف كان الخصب، وكيف زرع الناس. وكيف أدار يوسف جهاز الدولة. وكيف نظم ودبر وادخر. كأن هذه كلها أمور مقررة بقوله:
«إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
وكذلك لم يذكر مقدم سني الجدب، وكيف تلقاها الناس، وكيف ضاعت الأرزاق.. لأن هذا كله ملحوظ في رؤيا الملك وتأويلها:
«ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون» ..
(4/2014)
كذلك لم يبرز السياق الملك ولا أحداً من رجاله بعد ذلك في السورة كلها. كأن الأمر كله قد صار ليوسف. الذي اضطلع بالعبء في الأزمة الخانقة الرهيبة. وأبرز يوسف وحده على مسرح الحوادث، وسلط عليه كل الأضواء. وهذه حقيقة واقعية استخدمها السياق استخداماً فنياً كاملاً في الأداء.
أما فعل الجدب فقد أبرزه السياق في مشهد إخوة يوسف، يجيئون من البدو من أرض كنعان البعيدة يبحثون عن الطعام في مصر. ومن ذلك ندرك اتساع دائرة المجاعة، كما ندرك كيف وقفت مصر- بتدبير يوسف- منها، وكيف صارت محط أنظار جيرانها ومخزن الطعام في المنطقة كلها. وفي الوقت ذاته تمضي قصة يوسف في مجراها الأكبر بين يوسف وإخوته وهي سمة فنية تحقق هدفاً دينياً في السياق:
«وجاء إخوة يوسف، فدخلوا عليه، فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم. ألا ترون أني أو في الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون.
قالوا: سنراود عنه أباه وإناه لفاعلون. وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم، لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
لقد اجتاح الجدب والمجاعة أرض كنعان وما حولها. فاتجه إخوة يوسف- فيمن يتجهون- إلى مصر.
وقد تسامع الناس بما فيها من فائض الغلة منذ السنوات السمان. وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف، وهم لا يعلمون. إنه يعرفهم فهم هم لم يتغيروا كثيراً. أما يوسف فإن خيالهم لا يتصور قط أنه هو ذاك! وأين الغلام العبراني الصغير الذي ألقوه في الجب منذ عشرين عاماً أو تزيد «1» من عزيز مصر شبه المتوج في سنه وزيه وحرسه ومهابته وخدمه وحشمه وهيله وهيلمانه؟
ولم يكشف لهم يوسف عن نفسه. فلا بد من دروس يتلقونها:
«فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون» ..
ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلاً طيباً، ثم أخذ في إعداد الدرس الأول:
«ولما جهزهم بجهازهم قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم» ..
فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه، واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل، وأن لهم أخاً أصغر من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه. فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم:
إنه يريد أن يرى أخاهم هذا.
«قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم» ..
وقد رأيتم أنني أو في الكيل للمشترين. فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود:
«ألا ترون أني أو في الكيل وأنا خير المنزلين؟» ..
ولما كانوا يعلمون كيف يضن أبوهم بأخيهم الأصغر- وبخاصة بعد ذهاب يوسف- فقد أظهروا أن الأمر ليس ميسوراً، وإنما في طريقه عقبات من ممانعة أبيهم، وأنهم سيحاولون إقناعه، مع توكيد عزمهم- على الرغم من هذه العقبات- على إحضاره معهم حين يعودون:
__________
(1) وهو المتوقع بعد سنوات الإقامة في بيت العزيز وبضع سنين في السجن وسبع سنوات رخاء وبعض سني الجدب حتى جاءوا.
(4/2015)
«قالوا: سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون» ..
ولفظ «نراود» يصور الجهد الذي يعلمون أنهم باذلوه..
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف. وقد تكون خليطاً من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي، ومن الجلود والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق.. أمر غلمانه بدسها في رحالهم- والرحل متاع المسافر- لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها:
«وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» ..
وندع يوسف في مصر. لنشهد يعقوب وبنيه في أرض كنعان. دون كلمة واحدة عن الطريق وما فيه:
«فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل، وإنّا له لحافظون. قال:
هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي. هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا، ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير. ذلك كيل يسير. قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله: لتأتنني به- إلا أن يحاط بكم- فلما آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل» ..
ويبدو أنهم في دخلتهم على أبيهم، وقبل أن يفكوا متاعهم، عاجلوه بأن الكيل قد تقرر منعه عنهم ما لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم. فهم يطلبون إليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير ليكتالوا له ولهم. وهم يعدون بحفظه:
«فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل، وإنّا له لحافظون» ..
ولا بد أن هذا الوعد قد أثار كوامن يعقوب. فهو ذاته وعدهم له في يوسف! فإذا هو يجهر بما أثاره الوعد من شجونه:
«قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل!» ..
فخلوني من وعودكم وخلوني من حفظكم، فإذا أنا طلبت الحفظ لولدي والرحمة بي..
«فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ! وبعد الاستقرار من المشوار، والراحة من السفر فتحوا أوعيتهم ليخرجوا ما فيها من غلال فإذا هم يجدون فيها بضاعتهم التي ذهبوا يشترون بها، ولم يجدوا في رحالهم غلالاً! إن يوسف لم يعطهم قمحاً، إنما وضع لهم بضاعتهم في رحالهم. فلما عادوا قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، وفتحوا رحالهم فوجدوا بضاعتهم. وكان ذلك ليضطرهم إلى العودة بأخيهم، وكان هذا بعض الدرس الذي عليهم أن يأخذوه.
على أية حال لقد اتخذوا من رد بضاعتهم إليهم دليلاً على أنهم غير باغين فيما يطلبون من استصحاب أخيهم ولا ظالمين:
«قالوا: يا أبانا ما نبغي. هذه بضاعتنا ردت إلينا» ..
(4/2016)
ثم أخذوا يحرجونه بالتلويح له بمصلحة أهلهم الحيوية في الحصول على الطعام:
«ونمير أهلنا» ..
والميرة الزاد، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم..
«ونحفظ أخانا» ..
ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم:
«ونزداد كيل بعير» ..
وهو ميسور لهم حين يرافقهم:
«ذلك كيل يسير» ..
ويبدو من قولهم: «ونزداد كيل بعير» أن يوسف- عليه السلام- كان يعطي كل واحد وسق بعير- وهو قدر معروف- ولم يكن يبيع كل مشتر ما يريد. وكان ذلك من الحكمة في سنوات الجدب، كي يظل هناك قوت للجميع:
واستسلم الرجل على كره ولكنه جعل لتسليم ابنه الباقي شرطاً:
«قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم» ..
أي لتقسمن لي بالله قسماً يربطكم، أن تردوا عليّ ولدي، إلا إذا غلبتم على أمركم غلباً لا حيلة لكم فيه، ولا تجدي مدافعتكم عنه:
«إلا أن يحاط بكم» ..
وهو كناية عن أخذ المسالك كلها عليهم. فأقسموا:
«فلما آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل» ..
زيادة في التوكيد والتذكير.
وبعد هذا الموثق جعل الرجل يوصيهم بما خطر له في رحلتهم القادمة ومعهم الصغير العزيز:
«وقال: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة. وما أغني عنكم من الله من شيء.
إن الحكم إلا لله، عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون» ..
ونقف هنا أمام قول يعقوب- عليه السلام-:
«إن الحكم إلا لله» ..
وواضح من سياق القول أنه يعني هنا حكم الله القدري القهري الذي لا مفر منه ولا فكاك. وقضاءه الإلهي الذي يجري به قدره فلا يملك الناس فيه لأنفسهم شيئاً.
وهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشره.
وحكم الله القدري يمضي في الناس على غير إرادة منهم ولا اختيار.. وإلى جانبه حكم الله الذي ينفذه الناس عن رضى منهم واختيار. وهو الحكم الشرعي المتمثل في الأوامر والنواهي.. وهذا كذلك لا يكون إلا لله. شأنه شأن حكمه القدري، باختلاف واحد: هو أن الناس ينفذونه مختارين أو لا ينفذونه. فيترتب
(4/2017)
على هذا او ذاك نتائجه وعواقبه في حياتهم في الدنيا وفي جزائهم في الآخرة. ولكن الناس لا يكونون مسلمين حتى يختاروا حكم الله هذا وينفذوه فعلاً راضين..
وسار الركب، ونفذوا وصية أبيهم:
«وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ- إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها- وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
فيم كانت هذه الوصية؟ لم قال لهم أبوهم: لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة؟
تضرب الروايات والتفاسير في هذا وتبدى وتعيد، بلا ضرورة، بل ضد ما يقتضيه السياق القرآني الحكيم.
فلو كان السياق يحب أن يكشف عن السبب لقال. ولكنه قال فقط- إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها- فينبغي أن يقف المفسرون عند ما أراده السياق. احتفاظاً بالجو الذي أراده. والجو يوحي بأنه كان يخشى شيئاً عليهم، ويرى في دخولهم من أبواب متفرقة اتقاء لهذا الشيء مع تسليمه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء. فالحكم كله إليه، والاعتماد كله عليه. إنما هو خاطر شعر به، وحاجة في نفسه قضاها بالوصية، وهو على علم بأن إرادة الله نافذة. فقد علمه الله هذا فتعلم.
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
ثم ليكن هذا الشيء الذي كان يخشاه هو العين الحاسدة، أو هي غيرة الملك من كثرتهم وفتوتهم. أو هو تتبع قطاع الطريق لهم. أو كائناً ما كان فهو لا يزيد شيئاً في الموضوع. سوى أن يجد الرواة والمفسرون باباً للخروج عن الجو القرآني المؤثر إلى قال وقيل، مما يذهب بالجو القرآني كله في كثرة الأحايين! فلنطو نحن الوصية والرحلة كما طواها السياق، لنلتقي بإخوة يوسف في المشهد التالي بعد الوصول:
«ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه. قال: إني أنا أخوك، فلا تبتئس بما كانوا يعملون» ..
ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى، وإطلاعه على أنه أخوه ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل، وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما علمها من البيت الذي كان يعيش فيه. فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في أرض كنعان.
يعجل السياق بهذا، بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف. ولكن بعد أن اختلى يوسف بأخيه. ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه، وعند رؤيته لأخيه، بعد الفراق الطويل.
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر. وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب! ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة، وما دار فيها بين يوسف وإخوته، ليعرض مشهد الرحيل الأخير.
فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه، ريثما يتلقى إخوته درساً أو دروساً ضروريةً لهم، وضرورية للناس في كل زمان ومكان:
«فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون: قالوا- وأقبلوا عليهم- ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم. قالوا:
تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا:
(4/2018)
جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه- كذلك كدنا ليوسف، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، إلا أن يشاء الله، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم- قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال: أنتم شر مكاناً. والله أعلم بما تصفون. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذن لظالمون» ..
وهو مشهد مثير، حافل بالحركات والانفعالات والمفاجئات، كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالاً، غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ.
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك- وهي عادة من الذهب- وقيل: إنها كانت تستخدم للشراب، ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح، لندرته وعزته في تلك المجاعة.
يدسها في الرحل المخصص لأخيه، تنفيذاً لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل.
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع، في صيغة إعلان عام، وهم منصرفون:
«أيتها العير إنكم لسارقون» ..
ويرتاع إخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة- وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- فيعودون أدراجهم يتبينون الأمر المريب:
«قالوا- وأقبلوا عليهم- ماذا تفقدون؟» .
قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال، أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان:
«قالوا: نفقد صواع الملك» ..
وأعلن المؤذن أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعاً. وهي مكأفاة ثمينة في هذه الظروف:
«ولمن جاء به حمل بعير» من القمح العزيز «وأنا به زعيم» .. أي كفيل.
ولكن القوم مستيقنون من براءتهم، فهم لم يسرقوا، وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات، فهم يقسمون واثقين:
«قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض» ..
فقد علمتم من حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا..
«وما كنا سارقين» .. أصلاً فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع.
قال الغلمان أو الحراس:
«فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟» ..
وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف. فقد كان المتبع في دين يعقوب: أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيراً أو رقيقاً في مقابل ما يسرق. ولما كان إخوة يوسف موقنين بالبراءة، فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق. ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه:
«قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. كذلك نجزي الظالمين» ..
وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق. والسارق من الظالمين.
(4/2019)
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف. فأمر بالتفتيش. وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه، كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
«فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه» ! ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم، الحالفين، المتحدين.. فلا يذكر شيئاً عن هذا، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته.. بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
«كذلك كدنا ليوسف» ..
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق.
«ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك» ..
فلو حكّم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه، إنما كان يعاقب السارق على سرقته، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم. وهذا هو تدبير الله الذي ألهم يوسف أسبابه. وهو كيد الله له. والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء. وإن كان الشر قد غلب عليه. وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لأحراجهم أمام أبيه. وهو سوء- ولو مؤقتاً- لأبيه. فلهذا اختار تسميته كيداً على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره. وهو من دقائق التعبير.
«ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك» .. «إلا أن يشاء الله» ..
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه.
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
«نرفع درجات من نشاء» ..
وإلى ما ناله من علم، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
«وفوق كل ذي علم عليم» ..
وهو احتراس لطيف دقيق.
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
«كذلك كدنا ليوسف.. ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ... » ..
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة «الدين» - في هذا الموضع- تحديداً دقيقاً.. إنه يعني: نظام الملك وشرعة.. فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته. إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه. وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم فطبقها يوسف عليهم عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيه.. وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها «الدين» ..
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعاً. سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهليين! إنهم يقصرون مدلول «الدين» على الاعتقاد والشعائر.. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ويؤدي الشعائر المكتوبة ... داخلاً في «دين الله» مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
(4/2020)
الأرض.. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول «دين الملك» بأنه نظام الملك وشريعته. وكذلك «دين الله» فهو نظامه وشريعته..
إن مدلول «دين الله» قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر.. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
لقد كان يعني دائماً: الدينونة لله وحده بالتزام ما شرعه، ورفض ما يشرعه غيره. وإفراده- سبحانه- بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء وتقرير ربوبيته وحده للناس: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره. وكان مفرق الطريق دائماً بين من هم في دين «الله» ومن هم في «دين الملك» أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع! وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماماً.
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذراً في أنهم يجهلون مدلول كلمة «دين الله» وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي «الدين» . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين! وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين! إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها. فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يخفف عنهم العذاب فيها ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها.. ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل. وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض! إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم.. أنه ليس دين الله قطعاً. فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة. فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في «دين لله» . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في «دين الملك» . ولا جدال في هذا.
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين. لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية. والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلاً وواقعاً أن يكون معتقداً به. إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة.. وهذه بديهية..
وخير لنا من أن ندافع عن الناس- وهم في غير دين الله- ونتلمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده! ..
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول «دين الله» ليدخلوا فيه.. أو يرفضوه..
هذا خير لنا وللناس أيضاً.. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة.. وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه- وأنهم في دين الملك
(4/2021)
لا في دين الله- قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين الله! كذلك فعل الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه- وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان..
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير. نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف، وعلى يوسف من قبله، فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة، وينفونها عنهم، ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب:
«قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» ! إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير. كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعاً للتهمة التي تحرجهم، وتبرؤاً من يوسف وأخيه السارق، وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه! لقد قذفوا بها يوسف وأخاه! «فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم» ..
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه، ولم يبد تأثره منها. وهو يعلم براءته وبراءة أخيه. إنما قال لهم:
«أنتم شر مكاناً» ..
يعني أنكم بهذا القذف شر مكاناً عند الله من المقذوف- وهي حقيقة لا شتمة.
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» .. وبحقيقة ما تقولون. وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه، ولا دخل له بالموضوع! ..
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه. عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: «لتأتنني به إلا أن يحاط بكم» .. فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى، الشيخ الكبير، ويعرضون أن يأخذ بدله واحداً منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين:
«قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين» :
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درساً. وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع! ليكون وقعها أعمق وأشد أثراً في النفوس:
«قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذن لظالمون» ..
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئاً بجريرة سارق. لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق. فعبر أدق تعيير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة «1» :
__________
(1) كان يوسف يتكلم العبرية لغة أهله واللغة المصرية القديمة لغة وسطه. والمفهوم أنه كان يخاطبهم بالمصرية فيعرفونها أو تترجم لهم.
(4/2022)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
«معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده» وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه..
«إنا إذن لظالمون» ..
وما نريد أن نكون ظالمين..
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج، أمام أبيهم حين يرجعون.
[سورة يوسف (12) : الآيات 80 الى 101]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
(4/2023)
يئس إخوة يوسف من محاولة تخليص أخيهم الصغير، فانصرفوا من عنده، وعقدوا مجلساً يتشاورون فيه.
وهم هنا في هذا المشهد يتناجون. والسياق لا يذكر أقوالهم جميعاً. إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه:
«فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً. قال كبيرهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين. ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق، وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين. واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، وإنا لصادقون» ..
إن كبيرهم ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم، كما يذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل. ويقرن هذه إلى تلك، ثم يرتب عليهما قراره الجازم: ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه، إلا أن يأذن له أبوه، أو يقضي الله له بحكم، فيخضع له وينصاع.
(4/2024)
أما هم فقد طلب إليهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق. ذلك ما علموه شهدوا به. أما إن كان بريئاً، وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه، فهم غير موكلين بالغيب.
كما أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يحدث ما حدث، فذلك كان غيباً بالنسبة إليهم، وما هم بحافظين للغيب.
وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها- وهي عاصمة مصر- والقرية اسم للمدينة الكبيرة- وليسأل القافلة التي كانوا فيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتمتار الغلة في السنين العجاف..
ويطوي السياق الطريق بهم، حتى يقفهم في مشهد أمام أبيهم المفجوع، وقد أفضوا إليه بالنبأ الفظيع.
فلا نسمع إلا رده قصيراً سريعاً، شجياً وجيعاً. ولكن وراءه أملاً لم ينقطع في الله أن يرد عليه ولديه، أو أولاده الثلاثة بما فيهم كبيرهم الذي أقسم ألا يبرح حتى يحكم الله له. وإنه لأمل عجيب في ذلك القلب الوجيع:
«قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم» ..
«بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل» .. كلمته ذاتها يوم فقد يوسف. ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.. «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..
الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب، عند ما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.
هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.
«وتولى عنهم وقال: يا أسفا على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ..
وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه، فينفرد في معزل، يندب فجيعته في ولده الحبيب. يوسف. الذي لم ينسه، ولم تهوّن من مصيبته السنون، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل:
«يا أسفا على يوسف!» ..
ويكظم الرجل حزنه ويتجلد فيؤثر هذا الكظم في أعصابه حتى تبيض عيناه حزناً وكمداً:
«وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ..
ويبلغ الحقد بقلوب بنيه ألا يرحموا ما به، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم، فلا يسرون عنه، ولا يعزونه، ولا يعللونه بالرجاء، بل يريدون ليطمسوا في قلبه الشعاع الأخير:
«قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين!» ..
وهي كلمة حانقة مستنكرة. تالله تظل تذكر يوسف، ويهدك الحزن عليه، حتى تذوب حزناً أو تهلك أسى بلا جدوى. فيوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود!
(4/2025)
ويرد عليهم الرجل بأن يتركوه لربه، فهو لا يشكو لأحد من خلقه، وهو على صلة بربه غير صلتهم، ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون:
«قال: إنما أشكو بثي «1» وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون» .
وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر، ولألائها الباهر.
إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلاً على عودته إلى أبيه، واستنكار بنيه لهذا التطلع بعد هذا الأمد الطويل في وجه هذا الواقع الثقيل.. إن هذا كله لا يؤثر شيئاً في شعور الرجل الصالح بربه. فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلم هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة بذلك الواقع الصغير المنظور! وهذه قيمة الإيمان بالله، ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. معرفة التجلي والشهود وملابسة قدرته وقدره، وملامسة رحمته ورعايته، وإدراك شأن الألوهية مع العبيد الصالحين.
إن هذه الكلمات: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها.
وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله، فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب..
والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه- مهما بلغت- إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق! ولا نملك أن نزيد. ولكننا نحمد الله على فضله في هذا، وندع ما بيننا وبينه له يعلمه سبحانه ويراه..
ثم يوجههم يعقوب إلى تلمس يوسف وأخيه وألا ييأسوا من رحمة الله، في العثور عليهما، فإن رحمة الله واسعة وفرجه دائماً منظور:
«يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» ..
فيا للقلب الموصول!!! «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه» ..
تحسسوا بحواسكم، في لطف وبصر وصبر على البحث. ودون يأس من الله وفرجه ورحمته. وكلمة «روح» أدق دلالة وأكثر شفافية. ففيها ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روْح الله الندي:
«إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» ..
فأما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله، الندية أرواحهم بروْحه، الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية، فإنهم لا ييأسون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب، واشتد بهم الضيق. وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه، وفي أنس من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب ...
ويدخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة، وقد أضرت بهم المجاعة، ونفدت منهم النقود، وجاءوا
__________
(1) همي ومصيبتي.
(4/2026)
ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد.. يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام:
«فلما دخلوا عليه قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مُزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا، إن الله يجزي المتصدقين» ..
وعند ما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز، والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته. فقد انتهت الدروس، وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم، فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم، ولم يطلع عليه أحد إلا الله:
«قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟» !! ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئاً من نبراته. ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته. والتمع في نفوسهم خاطر من بعيد:
«قالوا: أإنك لأنت يوسف؟» ..
أإنك لأنت؟! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير..
«قال: أنا يوسف. وهذا أخي. قد من الله علينا. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» ..
مفاجأة! مفاجأة عجيبة. يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة..
ولا يزيد.. سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه، معللاً هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء.
أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف، ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسناً إليهم وقد أساءوا. حليماً بهم وقد جهلوا. كريماً معهم وقد وقفوا منه موقفاً غير كريم:
«قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين» ..
اعتراف بالخطيئة، وإقرار بالذنب، وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة والحلم والتقوى والإحسان. يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل. شيمة الرجل الكريم. وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة. إنه كان من المحسنين.
«قال: لا تثريب عليكم اليوم. يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين» ..
لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم. فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور. والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين.. ثم يحول الحديث إلى شأن آخر. شأن أبيه الذي ابيضت عيناه من الحزن. فهو معجل إلى تبشيره. معجل إلى لقائه. معجل إلى كشف ما علق بقلبه من حزن، وما ألم بجسمه من ضنى، وما أصاب بصره من كلال:
«اذهبوا بقميصي هذا، فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً، وأتوني بأهلكم أجمعين» ..
كيف عرف يوسف أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل؟ ذلك مما علمه الله. والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة.. وما لها لا تكون خارقة ويوسف نبي رسول ويعقوب نبي رسول؟
(4/2027)
ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير.
«ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تفندون!» ..
ريح يوسف! كل شيء إلا هذا. فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل.
وأن له ريحاً يشمها هذا الشيخ الكليل! إني لأجد ريح يوسف. لولا أن تقولوا شيخ خرف: «لولا أن تفندون» .. لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد.
كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير. ومن أين فصلت؟ يقول بعض المفسرين: إنها منذ فصلت من مصر، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد. ولكن هذا لا دلالة عليه. فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان، واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود.
ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف. كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح. وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح. ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون! ولكن المحيطين بيعقوب لم يكن لهم ما له عند ربه، فلم يجدوا ما وجد من رائحة يوسف:
«قالوا: تالله. إنك لفي ضلالك القديم» ..
في ضلالك بيوسف، وضلالك بانتظاره وقد ذهب مذهب الذي لا يعود.
ولكن المفاجأة البعيدة تقع، وتتبعها مفاجأة أخرى:
«فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه، فارتد بصيراً» ..
مفاجأة القميص. وهو دليل على يوسف وقرب لقياه. ومفاجأة ارتداد البصر بعد ما ابيضت عيناه.. وهنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه. تلك التي حدثهم بها من قبل فلم يفهموه:
«قال: ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟» ..
«قالُوا: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ» ..
ونلمح هنا أن في قلب يعقوب شيئاً من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن يصفو ويسكن ويستريح:
«قال: سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم» .
وحكاية عبارته بكلمة «سوف» لا تخلو من إشارة إلى قلب إنساني مكلوم..
ويمضي السياق في مفاجات القصة. فيطوي الزمان والمكان، لنلتقي في المشهد النهائي المؤثر المثير:
«فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه. وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وقال: يا أبت، هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني
(4/2028)
من السجن وجاء بكم من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم» ..
ويا له من مشهد! بعد كر الأعوام وانقضاء الأيام. وبعد اليأس والقنوط. وبعد الألم والضيق. وبعد الامتحان والابتلاء. وبعد الشوق المضني والحزن الكامد واللهف الظامئ الشديد.
يا له من مشهد حافل بالانفعال والخفقان والفرح والدموع! ويا له من مشهد ختامي موصول بمطلع القصة: ذلك في ضمير الغيب وهذا في واقع الحياة. ويوسف بين هذا كله يذكر الله ولا ينساه:
«فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» ..
ويذكر رؤياه ويرى تأويلها بين يديه في سجود إخوته له- وقد رفع أبويه على السرير الذي يجلس عليه- كما رأى الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين:
«ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً» ..
ثم يذكر نعمة الله عليه:
«وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي» ..
ويذكر لطف الله في تدبيره لتحقيق مشيئته:
«إن ربي لطيف لما يشاء» ..
يحقق مشيئته بلطف ودقة خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها:
«إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» ..
ذات التعبير الذي قاله يعقوب وهو يقص عليه رؤياه في مطلع القصة:
«إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
ليتوافق البدء والختام حتى في العبارات.
وقبل أن يسدل الستار على المشهد الأخير المثير، نشهد يوسف ينزع نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج والجاه والسلطان، والرغد والأمان ... ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر! كل دعوته- وهو في أبهة السلطان، وفي فرحة تحقيق الأحلام- أن يتوفاه ربه مسلماً وأن يلحقه بالصالحين:
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ..
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ» ..
آتيتني منه سلطانه ومكانه وجاهه وماله. فذلك من نعمة الدنيا.
«وعلمتني من تأويل الأحاديث» ..
بإدراك مآلاتها وتعبير رؤاها. فذلك من نعمة العلم.
(4/2029)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
نعمتك يا ربي أذكرها وأعددها..
«فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ..
بكلمتك خلقتها وبيدك أمرها، ولك القدرة عليها وعلى أهلها..
«أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ..
فأنت الناصر والمعين..
رب تلك نعمتك. وهذه قدرتك.
رب إني لا أسألك سلطاناً ولا صحة ولا مالاً. رب إني أسألك ما هو أبقى وأغنى:
«توفني مسلماً وألحقني بالصالحين» ..
وهكذا يتوارى الجاه والسلطان، وتتوارى فرحة اللقاء واجتماع الأهل ولمة الإخوان. ويبدو المشهد الأخير مشهد عبد فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه، وأن يلحقه بالصالحين بين يديه.
إنه النجاح المطلق في الامتحان الأخير..
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
(4/2030)
انتهت قصة يوسف لتبدأ التعقيبات عليها. تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن السورة.
وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة، والجولات الموحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي أثار الغابرين، وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم. فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق.
وهو ترتيب ذو هدف معلوم.
تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد- صلى الله عليه وسلم- ثم بعث إليهم. وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة، وقد غبرت بهم القرون. وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
فها هو ذا يعقب على القصة بعد تمامها، ويعطف ختامها على مطلعها:
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» ..
ذلك القصص الذي مضى في السياق من الغيب الذي لا تعلمه ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيباً بالقياس إليك. وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم، وهم يمكرون ذلك المكر الذي تحدثت عنه القصة في مواضعه. وهم يمكرون بيوسف، وهم يمكرون بأبيهم، وهم يدبرون أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجياً وهو من المكر بمعنى التدبير. وكذلك ما كان هناك من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن.. كل أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سبقت السورة لتثبته من بين ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين، وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة.
ولقد كان من مقتضى ثبوت الوحي، وإيحاء القصص، واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب، أن يؤمن الناس بهذا القرآن، وهم يشهدون الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويعرفون أحواله، ثم يسمعون منه ما يسمعون. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وهم يمرون كذلك على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها، ولا يدركون مدلولها، كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه. فما الذي ينتظرونه؟
وعذاب الله قد يأخذهم بغته وهم لا يشعرون:
«وما أكثر الناس- ولو حرصت- بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين. وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون؟» ..
ولقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة. ولكن الله العليم بقلوب البشر، الخبير بطبائعهم وأحوالهم، ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة المشركة إلى الإيمان، لأنهم- كما قال في هذه الآيات- يمرون على الآيات الكثيرة معرضين. فهذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان، ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق.
(4/2031)
وإنك لغني عن إيمانهم فما تطلب منهم أجراً على الهداية وإن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب، وهي تبذل لهم بلا أجر ولا مقابل:
«وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ..
تذكرهم بآيات الله، وتوجه إليها أبصارهم وبصائرهم، وهي مبذولة للعالمين، لا احتكار فيها لأمة ولا جنس ولا قبيلة، ولا ثمن لها يعجز عنه أحد، فيمتاز الأغنياء على الفقراء، ولا شرط لها يعجز عنه أحد فيمتاز القادرون على العاجزين. إنما هي ذكرى للعالمين. ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد..
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» ..
والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون، معروضة للأبصار والبصائر.
في السماوات وفي الأرض. يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية تخايل للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق.
وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل في الخضم الزاخر، والعين الفوارة، والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية، والبرعم الناعم، والزهرة المتفتحة، والحصيد الهشيم. لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب والنمل الدائب، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام.. لحظة تأمل في صبح أو مساء، في هدأة الليل أو في زحمة النهار.. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب..
إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب، والتأثر المستجيب. ولكنهم «يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» .. لذلك لا يؤمن الأكثرون! وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك- في صورة من صوره- إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولاً بأول كل خالجة شيطانية، وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف، لتكون كلها لله، خالصة له دون سواه. والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد:
«وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» ..
مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص. مشركون سبباً من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله.. لذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» «1» .
__________
(1) رواه الحافظ أبو يعلي الموصلي- بإسناده- عن معقل بن يسار. قال: شهدت النبي- صلى الله عليه وسلم- أو قال: حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
(4/2032)
وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي:
روى الترمذي- وحسنه- من رواية ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك» .
وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الرقى والتمائم شرك» .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من علق تميمة فقد أشرك» .
وعن أبي هريرة- بإسناده- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله: أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه» .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» .
وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن محمود بن لبيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء» ؟
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان.
وهناك الشرك الواضح الظاهر، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة. الدينونة في شرع يتحاكم إليه- وهو نص في الشرك لا يجادَل عليه- والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله. والدينونة في زيّ من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر..
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعاً ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركاً للأمر الواضح الصادر من رب العبيد.. إنه عندئذ لا يكون ذنباً، ولكنه يكون شركاً. لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير..
ومن ثم يقول الله:
«وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» ..
فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان.
وبعد فما الذي ينتظره أولئك المعرضون عن آيات الله المعروضة في صفحات الوجود، بعد أعراضهم عن آيات القرآن التي لا يسألون عليها أجراً؟
ماذا ينتظرون؟
«أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ، أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟» ..
وهي لمسة قوية لمشاعرهم، لإيقاظهم من غفلتهم، وليحذروا عاقبة هذه الغفلة. فإن عذاب الله الذي لا
(4/2033)
يعلم موعده أحد، قد يغشاهم اللحظة بغاشية تلفهم وتشملهم، وربما تكون الساعة على الأبواب فيطرقهم اليوم الرهيب المخيف بغتة وهم لا يشعرون.. إن الغيب موصد الأبواب، لا تمتد إليه عين ولا أذن، ولا يدري أحد ماذا سيكون اللحظة، فكيف يأمن الغافلون؟
وإذا كانت آيات هذا القرآن الذي يحمل دليل الرسالة، وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار.. إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون، ويشركون بالله شركاً ظاهرا أو خفيا وهم الأكثرون. فالرسول- صلى الله عليه وسلم- ماض في طريقه ومن اهتدى بهديه، لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين:
«قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ! وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
«قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي» ..
واحدة مستقيمة، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة.
«أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» ..
فنحن على هدى من الله ونور. نعرف طريقنا جيداً، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس. فهو اليقين البصير المستنير. ننزه الله- سبحانه- عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
«وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
لا ظاهر الشرك ولا خافيه.
هذه طريقي فمن شاء فليتابع، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية.. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضاً! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين.. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس.. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! .. إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن
(4/2034)
عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟
ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته، وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين.. إن محمداً ليس بدعاً من الرسل، ورسالته ليست بدعاً من الرسالات. وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل، آيات معروضة في الأرض.
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب. حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون.. ثم إذا هم ساكنون، لا حس ولا حركة. آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.. إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزاً مهما يكن جاسياً غافلاً قاسياً. ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» ..
لم يكونوا ملائكة ولا خلقاً آخر. إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة، لا من أهل البادية، ليكونوا أرق حاشية وألين جانباً.. وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم..
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟» ..
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:
«وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
فتتدبروا سنن الله في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:
«حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين» .
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
(4/2035)
إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ ... » ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً:
«جاءَهُمْ نَصْرُنا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية- والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! .. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها- في أول الأمر- الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جدا.
(4/2036)
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً.
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس.. ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا- كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب- وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثاً مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضاً ولا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
«لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها، وبين ثناياها، متناسقة مع موضوع القصة، وطريقة أدائها، وعباراتها كذلك.
فتحقق الهدف الديني كاملاً، وتحقق السمات الفنية كاملة، مع صدق الرواية، ومطابقة الواقع في الموضوع.
وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء. فهي رؤيا تتحقق رويداً رويداً، ويوما بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة. فلا تتم العبرة بها- كما لا يتم التنسيق الفني فيها- إلا بأن يتابع السياق خطوات القصة ومراحلها حتى نهايتها. وإفراد حلقة واحدة منها في موضع لا يحقق شيئا من هذا كله كما يحققه إفراد بعض الحلقات في قصص الرسل الآخرين. كحلقة قصة سليمان مع بلقيس.
أو حلقة قصة مولد مريم. أو حلقة قصة مولد عيسى. أو حلقة قصة نوح والطوفان ... إلخ فهذه الحلقات تفي بالغرض منها كاملا في مواضعها. أما قصة يوسف فتقتضي أن تتلى كلها متوالية حلقاتها ومشاهدها، من بدئها إلى نهايتها وصدق الله العظيم:
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ. وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ..
(4/2037)
(13) سورة الرّعد مكيّة وآياتها ثلاث وأربعون
بسم الله الرّحمن الرّحيم كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرج أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني! وهذه السورة كلها- شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها- من بين هذه النصوص التي لا أكاد أجرؤ على مسها بتفسير أو إيضاح.
ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته، بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرآن. وعن الاهتمامات والأهداف التي تنزل لها، وبعد ما انماعت وذبلت في حسهم وتصورهم مدلولاته وأبعادها الحقيقية، وبعد ما انحرفت في حسهم مصطلحاته عن معانيها.. وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها، بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزل عليهم القرآن أول مرة يتحركون.. وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئا. فهذا القرآن لا يدرك أسراره قاعد، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.
ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن! إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي. ومن ثم أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه «الظلال» ! وإنني لأدرك الآن- بعمق- حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تلقى مباشرة هذا القرآن.
لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة ويتلقون إيقاعه في حسهم، وصوره وظلاله، وإيحاءاته وإيماءاته.
وينفعلون بها انفعالا مباشرا، ويستجيبون لها استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن ثم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها، بالانقلاب المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم، ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في الحياة من حولهم، وفي أقدار العالم كله يومذاك، وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فما لأذن. وينضجون
(4/2038)
بحرارته وإشعاعه وإيحائه ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء! ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم، فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم وتصوراتهم ومؤثراتهم.
فنخطئ ولا شك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج.. لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن..
وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرءونها ليدنوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته، ويطرحوا عنهم هذه الظلال. وهم لن يتناولوه في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع الجاهلية باسمه وتحت رايته.
وبعد فهذا استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة- سورة الرعد- وكأنما أقرؤها لأول مرة، وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة، ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبل! وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد «1» ، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها والتي تفعم النفس، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات، والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها.
لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك! إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية «2» كلها على وجه التقريب- هو العقيدة وقضاياها..
هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث.. وما إليها ...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور
__________
(1) الإيقاع الموسيقي في القرآن يتألف من عناصر شتى: من مخارج الحروف في الكلمة الواحدة ومن تناسق الإيقاعات بين كلمات الفقرة ومن اتجاهات المد في الكلمات، ثم من اتجاهات المد في نهاية الفاصلة المطردة في الآيات ومن حرف الفاصلة ذاته (وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتاب التصوير الفني) وجميع العناصر التي يتألف منها الإيقاع في هذه السورة واحدة فيما عدا اتجاه المد وحرف الفاصلة في القسم الأول منها حتى آية 5 فمد الفاصلة وحرفها: «يؤمنون. توقنون. يتفكرون. يعقلون. خالدون» وبقية السورة: «العقاب. هاد. بمقدار.
المتعال. بالنهار ... إلخ» .
(2) السورة مكية بخلاف ما ورد في المصحف الأميري وبعض المصاحف- اعتمادا على بعض الروايات- أنها مدنية.. ومكية السورة شديدة الوضوح: سواء في طبيعة موضوعها، أو طريقة أدائها، أو في جوها العام. الذي لا يخطىء تنسمه من يعيش فترة في ظلال القرآن!
(4/2039)
المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة وفي ضوء جديد ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد! إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال في كلمات وينتهي كأية قضية ذهنية باردة إنما تعرض وحولها اطار، هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد ولا تبلى جدتها. لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك، وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف! ومن ثم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي لا تنفد ولا تبلى جدتها! وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة: في السماوات المرفوعة بغير عمد. وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس نابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع، والرعد يسبح ويحمد، والملائكة تخاف وتخشع، والصواعق يصيب بها من يشاء، والسحاب الثقال والمطر في الوديان، والزبد الذي يذهب جفاء، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه: تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يلم بالشارد والوارد، والمستخفي والسارب، ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج.
والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون، مكشوفا لعلم الله، وما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد.
إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى المحيطة بالكون ظاهره وخافيه، جليله ودقيقه، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف، ترجف له القلوب.
وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال. إلى مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، وخلجات الأنفس في هذا وذاك. إلى وقفات على مصارع الغابرين، وتأملات في سير الراحلين، وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون..
هذا عن موضوعات السورة وقضاياها، وعن آفاقها الكونية وآمادها.. ووراءها خصائص الأداء الفنية العجيبة. فالإطار العام الذي تعرض فيه قضاياها هو الكون كما أسلفنا ومشاهده وعجائبه في النفس وفي الآفاق. وهذا الإطار ذو جو خاص:
إنه جو المشاهد الطبيعية المتقابلة: من سماء وأرض. وشمس وقمر. وليل ونهار. وشخوص وظلال.
وجبال راسية وأنهار جارية. وزبد ذاهب وماء باق. وقطع من الأرض متجاورات مختلفات. ونخيل صنوان وغير صنوان.. ومن ثم تطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة، فيتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية، وتتسق في الجو العام.. ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير الشمس والقمر. ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد. ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به. ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار. ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق. ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا. وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل
(4/2040)
للشركاء. ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى. ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه. ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب.. وبالإجمال تتقابل المعاني، وتتقابل الحركات، وتتقابل الاتجاهات.. تنسيقا للجو العام في الأداء! وظاهرة أخرى من ظواهر التناسق في جو الأداء.. فلأنه جو الطبيعة من سماء وأرض، وشمس وقمر، ورعد وبرق، وصواعق وأمطار.. وحياة وإنبات.. يجيء الحديث عما تكنه الأرحام من حيوان ويجيء معها: «وما تغيض الأرحام وما تزداد» .. ويتناسق غيض الأرحام وازديادها مع سيل الماء في الأودية ومع الإنبات.. وذلك من بدائع التناسق في هذا القرآن «1» .
ذلك طرف من الأسباب التي من أجلها أقف أمام هذه السورة- كما وقفت من قبل كثيرا أمام غيرها- متهيبا أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر، متحرجا أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني ...
ولكنها ضرورة الجيل.. الجيل الذي لا يعيش في جو هذا القرآن.. نستعين عليها بالله. والله المستعان.
__________
(1) يراجع فصل: «التناسق الفني» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق» .
(4/2041)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)
(4/2042)
تبدأ السورة بقضية عامة من قضايا العقيدة: قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه. وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله، ومن إيمان بالبعث، ومن عمل صالح في الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله، وأن هذا القرآن وحي من عنده سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
«المر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
ألف. لام. ميم. را.. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ» .. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي الله، لا من عمل مخلوق كائناً من كان.
«وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» ..
الحق وحده. الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقاً لا ريب فيه.
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» ..
(4/2043)
لا يؤمنون بأنه موحى به، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة.
هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله، ويشير إلى جملة قضاياها. ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم. وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة.. لمسة في السماوات، ولمسة في الأرضين. ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة..
ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام، ويستعجلون عذاب الله، ويطلبون آية غير هذه الآيات:
«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يُفَصِّلُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» .
«وهو الذي مد الأرض، وجعل فيها رواسي وأنهارا، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
«وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
«وإن تعجب فعجب قولهم: أئذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ أولئك الذين كفروا بربهم. وأولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب. ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد» .
والسماوات- أياً كان مدلولها وأياً كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور- معروضة على الأنظار، هائلة- ولا شك- حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة. وهي هكذا لا تستند إلى شيء. مرفوعة «بغير عمد» مكشوفة «ترونها» ..
هذه هي اللمسة الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد- أو حتى بعمد- إلا الله وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه. ثم يتحدث الناس عما في تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان! ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ..
(4/2044)
فإن كان علو فهذا أعلى. وإن كانت عظمة فهذا أعظم. وهو الاستعلاء المطلق، يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة.
وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة. لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور، تتجاوران وتتسقان في السياق..
ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير. تسخير الشمس والقمر. تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال.
ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته. فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول. وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير. وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس: نجم وكوكب، ويتقابلان في الأوان، بالليل والنهار..
ثم نمضي مع السياق.. فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير:
«كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ..
وإلى حدود مرسومة، ووفق ناموس مقدر. سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية.
أو جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلى الأمد المقدر لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور.
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ..
الأمر كله، على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى.. والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه، لا شك عظيم التدبير جليل التقدير.
ومن تدبيره الأمر أنه «يفصل الآيات» وينظمها وينسقها، ويعرض كلاً منها في حينه، ولعلته، ولغايته «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» حين ترون الآيات مفصلة منسقة، ومن ورائها آيات الكون، تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام.. ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة الدنيا، لتقدير أعمال البشر، ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمه الخلق الأول عن حكمة وتدبير.
وبعد ذلك يهبط الخط التصويري الهائل من السماء إلى الأرض فيرسم لوحتها العريضة الأولى:
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
والخطوط العريضة في لوحة الأرض هي مد الأرض وبسطها أمام النظر وانفساحها على مداه. لا يهم ما يكون شكلها الكلي في حقيقته. إنما هي مع هذا ممدودة مبسوطة فسيحة. هذه هي اللمسة الأولى في اللوحة.
ثم يرسم خط الرواسي الثوابت من الجبال، وخط الأنهار الجارية في الأرض. فتتم الخطوط العريضة الأولى في المشهد الأرضي، متناسقة متقابلة.
ومما يناسب هذه الخطوط الكلية ما تحتويه الأرض من الكليات، وما يلابس الحياة فيها من كليات كذلك.
(4/2045)
وتتمثل الأولى فيما تنبت الأرض: «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» . وتتمثل الثانية في ظاهرتي الليل والنهار: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» .
والمشهد الأول يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريباً. هي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنوناً أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود. وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره.
والمشهد الثاني مشهد الليل والنهار متعاقبين، هذا يغشي ذاك، في انتظام عجيب. هو ذاته مثار تأمل في مشاهد الطبيعة، فقدوم ليل وإدبار نهار أو إشراق فجر وانقشاع ليل، حادث تهوّن الألفة من وقعه في الحس، ولكنه في ذاته عجب من العجب، لمن ينفض عنه موات الألفة وخمودها، ويتلقاه بحس الشاعر المتجدد، الذي لم يجمده التكرار.. والنظام الدقيق الذي لا تتخلف معه دورة الفلك هو بذاته كذلك مثار تأمل في ناموس هذا الكون، وتفكير في القدرة المبدعة التي تدبره وترعاه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
ونقف كذلك هنا وقفة قصيرة أمام التقابلات الفنية في المشهد قبل أن نجاوزه إلى ما وراءه.. التقابلات بين الرواسي الثابتة والأنهار الجارية. وبين الزوج والزوج في كل الثمرات. وبين الليل والنهار. ثم بين مشهد الأرض كله ومشهد السماء السابق. وهما متكاملان في المشهد الكوني الكبير الذي يضمهما ويتألف منهما جميعاً.
ثم تمضي الريشة المبدعة في تخطيط وجه الأرض بخطوط جزئية أدق من الخطوط العريضة الأولى:
«وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
وهذه المشاهد الأرضية، فينا الكثيرون يمرون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلع إليها! إلا أن ترجع النفس إلى حيوية الفطرة والاتصال بالكون الذي هي قطعة منه، انفصلت عنه لتتأمله ثم تندمج فيه..
«وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» ..
متعددة الشيات، وإلا ما تبين أنها «قطع» فلو كانت متماثلة لكانت قطعة.. منها الطيب الخصب، ومنها السبخ النكد. ومنها المقفر الجدب، ومنها الصخر الصلد. وكل واحد من هذه وتلك انواع وألوان ودرجات.
ومنها العامر والغامر. ومنها المزروع الحي والمهمل الميت. ومنها الريان والعطشان. ومنها ومنها ومنها.. وهي كلها في الأرض متجاورات.
هذه اللمسة العريضة الأولى في التخطيط التفصيلي.. ثم تتبعها تفصيلات: «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ» . «وزرع» .
«ونخيل» تمثل ثلاثة أنواع من النبات، الكرام المتسلق. والنخل السامق. والزرع من بقول وأزهار وما أشبه.
مما يحقق تلوين المنظر، وملء فراغ اللوحة الطبيعية، والتمثيل لمختلف أشكال النبات.
ذلك النخيل. صنوان وغير صنوان. منه ما هو عود واحد. ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد..
وكله «يسقى بماء واحد» والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم:
«ونفضل بعضها على بعض في الأكل» .
فمن غير الخالق المدبر المريد يفعل هذا وذاك؟!
(4/2046)
من منا لم يذق الطعوم مختلفات في نبت البقعة الواحدة. فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجه القرآن إليها العقول والقلوب؟ إنه بمثل هذا يبقى القرآن جديداً أبداً، لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين القطع المتجاورات المختلفات. والنخل صنوان وغير صنوان والطعوم مختلفات. والزرع والنخيل والأعناب..
تلك الجولة الهائلة في آفاق الكون الفسيحة، يعود منها السياق ليعجّب من قوم، هذه الآيات كلها في الآفاق لا توقظ قلوبهم، ولا تنبه عقولهم، ولا يلوح لهم من ورائها تدبير المدبر، وقدرة الخالق، كأن عقولهم مغلولة، وكأن قلوبهم مقيدة، فلا تنطلق للتأمل في تلك الآيات:
«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
وإنه لعجيب يستحق التعجيب، أن يسأل قوم بعد هذا العرض الهائل:
«أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ..
والذي خلق هذا الكون الضخم ودبره على هذا النحو، قادر على إعادة الأناسي في بعث جديد. إنما هو الكفر بربهم الذي خلقهم ودبر أمرهم. وإنما هي أغلال العقل والقلب. فالجزاء هو الأغلال في الأعناق، تنسيقاً بين غل العقل وغل العنق والجزاء هو النار خالدين فيها. فقد عطلوا كل مقومات الإنسان التي من أجلها يكرمه الله، وانتكسوا في الدنيا فهم في الآخرة يلاقون عاقبة الانتكاس حياة أدنى من حياتهم الدنيا، التي عاشوها معطلي الفكر والشعور والإحساس.
هؤلاء القوم الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقاً جديداً. وعجبهم هذا هو العجب! هؤلاء يستعجلونك أن تأتيهم بعذاب الله، بدلاً من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» ..
وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم:
«وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» ..
فهم في غفلة حتى عن مصائر أسلافهم من بني البشر، وقد كان فيها مثل لمن يعتبر.
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ» ..
فهو بعباده رحيم حتى وإن ظلموا فترة، يفتح لهم باب المغفرة ليدخلوه عن طريق التوبة. ولكن يأخذ بعقابه الشديد من يصرون ويلجون، ولا يلجون من الباب المفتوح.
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» ..
والسياق يقدم هنا مغفرة الله على عقابه، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية. ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم، والشر الذي يريدونه لأنفسهم. ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة، وعمى القلب، والانتكاس الذي يستحق درك النار.
(4/2047)
ثم يمضي السياق في التعجيب من أمر القوم، الذين لا يدركون كل تلك الآيات الكونية، فيطلبون آية واحدة ينزلها الله على رسوله. آية واحدة والكون حولهم كله آيات:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» ..
إنهم يطلبون خارقة. والخوارق ليست من عمل الرسول ولا اختصاصه. إنما يبعث بها الله معه، حين يرى بحكمته أنها لازمة. «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» محذر ومبصر. شأنك شأن كل رسول قبلك، فقد بعث الله الرسل للأقوام للهداية «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» فأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبر الكون والعباد.
وبذلك تنتهي الجولة الأولى في الآفاق، والتعقيبات عليها. ليبدأ السياق جولة جديدة في واد آخر: في الأنفس والمشاعر والأحياء:
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ- يَحْفَظُونَهُ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» ..
ويقف الحس مشدوهاً يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصوير، وتحت إيقاع هذه الموسيقى العجيبة في التعبير. يقف مشدوهاً وهو يقفو مسارب علم الله ومواقعه وهو يتبع الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الليل وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل جاهر. وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف، يتتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه.. ألا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله، تطمئن في حماه..
وإن المؤمن بالله ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء. ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس، لا يقاس إلى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب.
وأين أية قضية تجريدية، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله:
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» ؟
حين يذهب الخيال يتتبع كل أنثى في هذا الكون.. المترامي الأطراف.. كل أنثى.. كل أنثى في الوبر والمدر، في البدو والحضر، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات. ويتصور علم الله مطلاً على كل حمل في أرحام هذه الإناث، وعلى كل قطرة من دم تغيض أو تزداد في تلك الأرحام! وأين أية قضية تجريدية وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله:
«سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ؟
حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل.
ويتصور علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء الليل.
وأطراف النهار! إن اللمسات الأولى في آفاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا أعمق من هذه اللمسات الأخيرة في أغوار
(4/2048)
النفس والغيب ومجاهيل السرائر. وإن هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر..
ونستعرض شيئاً من بدائع التعبير والتصوير في تلك الآيات:
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» .. فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات الأرحام، عقب بأن كل شيء عنده بمقدار. والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص والزيادة. والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من ناحية الموضوع. كما أنها من ناحية الشكل والصورة ذات علاقة بما سيأتي بعدها من الماء الذي تسيل به الأودية «بقدرها» في السيولة والتقدير.. كما أن في الغيض والزيادة تلك المقابلة المعهودة في جو السورة على الإطلاق..
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» ..
ولفظة «الكبير» ولفظة «المتعال» كلتاهما تلقي ظلها في الحس. ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى. إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره. وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله.. وكذلك «المتعال» ..
تراني قلت شيئاً؟ لا. ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام «الكبير المتعال» ! «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» .. والتقابل واضح في العبارة. إنما تستوقفنا كلمة «سارب» وهي تكاد بطلها تعطي عكس معناها، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء. والسارب: الذاهب. فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء. هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو. جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار. فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء! «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ- يَحْفَظُونَهُ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ..
والحفظة التي تتعقب كل انسان، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة، والتي هي من أمر الله، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف. أكثر من أنها.. «مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» .. فلا نتعرض نحن لها: ما هي؟ وما صفاتها؟ وكيف تتعقب؟ وأين تكون؟ ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق. فذلك هو المقصود هنا وقد جاء التعبير بقدره ولم يجىء هكذا جزافاً وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل! «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..
فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم.
فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزاً أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة ... إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لا حقا له في الزمان بالقياس إليهم.
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك- إلى جانب التبعة- دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة
(4/2049)
الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه.
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء لأنهم- حسب المفهوم من الآية- غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء:
«وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» ..
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة.
وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم- إذا استحقوه بما في أنفسهم- ولا يعصمهم منه وال يناصرهم..
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه. واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع. وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق. وتظل النفس فيه في ترقب وحذر، وفي تأثر وانفعال:
«هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ. خَوْفاً وَطَمَعاً. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ، وَما هُوَ بِبالِغِهِ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ. قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ..
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان. وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس- سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئاً! والسياق يحشدها هنا ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب. ويضم إليها هيئة أخرى: هيئة ملهوف يتطلب الماء، باسطاً كفيه ليبلغه، فاتحاً فاه يتلقف منه قطرة..
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقاً أو جزافاً. إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد، وتلفه في جو من الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر، نفياً للشركاء المدعاة، وإرهاباً من عقبى الشرك بالله.
«هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ. خَوْفاً وَطَمَعاً.» ..
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص، وجعل لها خصائصها وظواهرها. ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة، ولأنه قد يكون نذيرا بسبيل مدمر كما علمتكم تجاربكم. وتطمعون في الخير من ورائه، فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات، المجري للأنهار.
«وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» ..
(4/2050)
وهو كذلك الذي ينشئ السحاب- والسحاب اسم جنس واحدته سحابة- الثقال بالماء. فوفق ناموسه في خلقة هذا الكون وتركيبه تتكون السحب، وتهطل الأمطار. ولو لم يجعل خلقة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار. ومعرفة كيف تتكون السحب، وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئاً من روعتها، ولا شيئاً من دلالتها. فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله. ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه، ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه! والرعد.. الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد.. هذا الصوت المقرقع المدوي. إنه أثر من آثار الناموس الكوني، الذي صنعه الله- أياً كانت طبيعته وأسبابه- فهو رجع صنع الله في هذا الكون، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام. كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان.. وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلاً، ويكون الرعد «يسبح» فعلاً بحمد الله. فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل! وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعاً لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامته لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله- كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن- والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي. وفيه الملائكة تسبح من خيفته، وفيه دعاء لله، ودعاء للشركاء. وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.. ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء..
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال.. بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء.
والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال والله يصيب بها أحياناً من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم، لعلمه أن لا خير في إمهالهم، فاستحقوا الهلاك..
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه.. في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال:
«وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» ! وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق، الناطقة كلها بوجود الله- الذي يجادلون فيه- وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته (وللخوف إيقاعه في هذا المجال) فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال؟! وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه. ودعوة الله هي وحدها الحق وما عداها باطل ذاهب، لا ينال صاحبه منه إلا العناء:
«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» ..
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف.. فدعوة واحدة هي الحق، وهي التي تحق، وهي التي تستجاب.
(4/2051)
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه. وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء.. ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم. ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه. وفمه مفتوح يلهث بالدعاء. يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه. وما هو ببالغه. بعد الجهد واللهفة والعناء. وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء:
«وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار! وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله، ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء، إذا كل من في الكون يعنو لله، وكلهم محكومون بإرادته، خاضعون لسنته، مسيرون وفق ناموسه. المؤمن منهم يخضع طاعة وإيماناً، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاماً، فما يملك أحد أن يخرج على إرادة الله، ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة:
«وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» ..
ولأن الجو جو عبادة ودعاء، فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو اقصى رمز للعبودية، ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض، ظلالهم كذلك. ظلالهم بالغدو في الصباح، وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال. يضم هذه الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال. وهي في ذاتها حقيقة، فالظلال تبع للشخوص. ثم تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد، فإذا هو عجب. وإذا السجود مزدوج: شخوص وظلال! وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء. كلها تسجد لله.. وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله! وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية. فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء:
«قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ. قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ..
سلهم- وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته- رضي أم كره-: «مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» .. وهو سؤال لا ليجيبوا عنه، فقد أجاب السياق من قبل. إنما ليسمعوا الجواب ملفوظاً وقد رأوه مشهوداً: «قل: الله» .. ثم سلهم: «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟» ..
سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء. سلهم والقضية واضحة، والفرق بين الحق والباطل واضح: وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور. وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض. وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين، فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين.
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله، خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله. فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك، فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء؟ فهم معذورون إذن إن
(4/2052)
كان الأمر كذلك، في اتخاذ الشركاء، فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق، التي بها يستحق المعبود العبادة وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه! وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئاً، وما هي بخالقة شيئاً، إنما هي مخلوقة. وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة. وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير..
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع، حيث لا معارضة ولا جدال، بعد هذا السؤال:
«قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ..
فهي الوحدانية في الخلق، وهي الوحدانية في القهر- أقصى درجات السلطان- وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعاً وكرهاً لله وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء.. وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع.. فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول، إلا أن يكون أعمى مطموساً يعيش في الظلمات، حتى يأخذه الهلاك؟! وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء. بين «خوفاً وطمعاً» وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال- و «الثقال» هنا، بعد إشارتها إلى الماء، تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف- وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته. وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع.
وبين السماوات والأرض، وسجود من فيهن طوعاً وكرهاً. وبين الشخوص والظلال. وبين الغدو والآصال.
وبين الأعمى والبصير. وبين الظلمات والنور. وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ... وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب.
ثم نمضي مع السياق. يضرب مثلاً للحق والباطل. للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح. للخير الهادئ والشر المتنفج. والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار. ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء.
وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق.
«أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء، فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ..
وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق ويؤلف جانباً من المشهد الكوني العام، الذي تجري في جوه قضايا السورة وموضوعاتها. وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار.. وأن تسيل هذه الأودية بقدرها، كل بحسبه، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء.. وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة.. وليس هذا أو ذلك بعد إلا إطاراً للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه.
إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد
(4/2053)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان. هذا الزبد نافش راب منتفخ.. ولكنه بعد غثاء. والماء من تحته سارب ساكن هادئ.. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة.. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل. ولكنه بعدُ خبثٌ يذهب ويبقى المعدن في نقاء..
ذلك مثل الحق والباطل في هذا الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه. والحق يظل هادئاً ساكناً. وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات. ومصائر الأعمال والأقوال. وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل.
فمن استجاب لله فله الحسنى. والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به. وما هو بمفتد، إنما هو الحساب الذي يسوء، وإنما هي جهنم لهم مهاد. ويا لسوء المهاد!:
«لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. وَبِئْسَ الْمِهادُ» ..
ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون. وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب..
ومع جهنم وبئس المهاد.. على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء..
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 43]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38)
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
(4/2054)
بعد المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب، وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية، وتصويرية دقيقة رفيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد.. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر، فالأول علم والثاني عمى. وفي طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء. يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين. فلمسة في بسط الرزق وتقديره وردهما إلى الله. فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله. فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال وتقطع به الأرض ويكلم به الموتى. فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم أو تحل قريباً من دارهم. فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة. فلمسة من مصارع الغابرين ونقص أطراف الأرض منهم حيناً بعد حين. يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بتركهم للمصير المعلوم! من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، تحضّر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني، وهي على استعداد وتفتح لتلقيها وأن شطري السورة متكاملان وكل منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته لهدف واحد وقضية واحدة.
والقضية الأولى هي قضية الوحي، وقد أثيرت في صدر السورة. وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد..
«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق. وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف. فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى.
والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع..
«إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر.
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
(4/2056)
«الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» ..
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان.
وعهد الإيمان قديم وجديد. قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله المدركة إدراكاً مباشراً لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود، ووحدة الخالق صاحب الإرادة، وأنه وحده المعبود. وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير.. ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه، مع العمل الصالح والسلوك القويم، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم..
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر. سواء مع الرسول أو مع الناس.
ذوي قرابة أو أجانب. أفراداً أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله. يقررها في كلمات.
«وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» ..
هكذا في إجمال. فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه. أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء. لهذا ترك الأمر مجملاً، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذا التفصيل يطول، وهو غير مقصود، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع.. ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
«وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» ..
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب. وهم أولو الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب.
«وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» ..
والصبر ألوان. وللصبر مقتضيات. صبر على تكاليف الميثاق. من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد.. الخ وصبر على النعماء والبأساء. وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر. وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور.. وصبر وصبر وصبر.. كله ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجاً من أن يقول الناس: جذعوا. ولا تجملاً ليقول الناس: صبروا. ولا رجاء في نفع من وراء الصبر. ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع. ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله، والصبر على نعمته وبلواه. صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع..
«وَأَقامُوا الصَّلاةَ» ..
(4/2057)
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله، ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه.
«وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» ..
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق. ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة. والتي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغل وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله. والإنفاق سراً وعلانية. السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان. والعلانية حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ويطاع القانون. ولكل موضعه في الحياة.
«ويدرأون بالحسنة السيئة» ..
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله. ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة. فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس، وتوجهها إلى الخير وتطفئ جذوة الشر، وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية. فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيباً في مقابلة السيئة بالحسنة وطلباً لنتيجتها المرتقبة..
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي.
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالباً في المعاملة الشخصية بين المتماثلين. فأما في دين الله فلا.. إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم. والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم. والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب.
«أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» ..
«أولئك» في مقامهم العالي لهم عقبى الدار: جنات عدن للإقامة والقرار.
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم. ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم، وتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان.
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم، في حركة رائحة غادية:
«يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ» ..
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضراً وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافاً أطوافاًً:
«سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» ..
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام.
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا. ولا بصيرة لهم فيبصروا. وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب:
(4/2058)
«وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» ..
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي وينقضون من بعده كل عهد، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس. والذي لا يرعى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق. ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سراً وعلانية ودرء السيئة بالحسنة. فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد.
«أولئك» .. المبعدون المطرودون «لهم اللعنة» والطرد في مقابل التكريم هناك «وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» ولا حاجة إلى ذكرها، فقد عرفت بمقابلها هناك! أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم. مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء. ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض، وهو الذي أعطاهم إياه:
«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» ..
ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق، ومن هو أعمى. فالآن يحكي السياق شيئاً عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون، والذين لا يكفيهم هذا القرآن، فإذا هم يطلبون آية. وقد حكى السياق شيئاً كهذا في شطر السورة الأول، وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذراً والآيات عند الله. وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال. ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله، لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها. هذا القرآن العميق التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض، ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية. وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم، وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم، وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين:
«ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! قل: إن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
«كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن.
قل: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت، وإليه متاب.
«ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعاً. أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد. ولقد أستهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم. فكيف كان عقاب؟» ..
(4/2059)
إن الرد على طلبهم آية خارقة، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان، فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس:
«قل: إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب» ..
فالله يهدي من ينيبون إليه. فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلاً لهداه. والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال، فيضلهم الله. فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد..
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة. في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» ..
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه. تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق. بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير. وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء. وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله. يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفرداً بلا أنيس. فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله. ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعاني ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنة لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود.
ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريداً وحيداً شارداً في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكناً إلى الله، مطمئناً إلى حماه، مهما اوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» ..
(4/2060)
طوبى (على وزن كبرى من طاب يطيب) للتفخيم والتعظيم. وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة..
أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات. ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريباً، فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل. فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله:
«كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ، لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قُلْ: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ» ..
والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن، العظيم الرحمة، الذي تطمئن القلوب بذكره، واستشعار رحمته الكبرى. وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، فلهذا أرسلناك. فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده، وأنك تائب إليه وراجع، لا تتجه إلى أحد سواه.
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن. هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات. ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء. فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين:
«ولو أن قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعاً. أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد» ..
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى. لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثاراً في أقدار الحياة، بل أبعد أثراً في شكل الأرض ذاته. فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟! وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها. طبيعته في دعوته وفي تعبيره. طبيعته في موضوعه وفي أدائه. طبيعته في حقيقته وفي تأثيره.. إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى. وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام. والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات! «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» ..
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال.
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعاً على نحو
(4/2061)
خلقة الملائكة لو كان يريد. أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه.. ولكن لم يرد هذا ولا ذاك. لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلقته على هذا النحو الذي كان.
فليدعوهم إذن لأمر الله. وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك.
«أو تحل قريباً من دارهم» ..
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها.
«حتى يأتي وعد الله» ..
الذي أعطاهم إياه، وأمهلهم إلى انتهاء أجله:
«إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ..
فهو آت لا ريب فيه، فملاقون فيه ما وعدوه.
والأمثلة حاضرة، وفي مصارع الغابرين عبرة، بعد الإنظار والإمهال:
«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» .
وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب. فلقد كان عقاباً تتحدث به الأجيال!!! والقضية الثانية هي قضية الشركاء. وقد أثيرت في الشطر الأول من السورة كذلك. وهي تثار هنا في سؤال تهكمي حين تقرن هذه الشركاء إلى الله القائم على كل نفس، المجازي لها بما كسبت في الحياة. وتنتهي هذه الجولة بتصوير العذاب الذي ينتظر المفترين لهذه الفرية في الدنيا والعذاب الأشق في الآخرة. وفي مقابلة ما ينتظر المتقين من أمن وسلام! «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ وجعلوا لله شركاء. قل: سموهم. أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض؟ أم بظاهر من القول؟ بل زين للذين كفروا مكرهم، وصدوا عن السبيل، ومن يضلل الله فما له من هاد. لهم عذاب في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق..
«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها. تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» ..
والله سبحانه رقيب على كل نفس، مسيطر عليها في كل حال، عالم بما كسبت في السر والجهر. ولكن التعبير القرآني المصور يشخص الرقابة والسيطرة والعلم في صورة حسية- على طريقة القرآن- صورة ترتعد لها الفرائص:
«أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» ..
فلتتصور كل نفس أن عليها حارساً قائماً عليها مشرفاً مراقباً يحاسبها بما كسبت. ومن؟ إنه الله! فأية نفس لا ترتعد لهذه الصورة وهي في ذاتها حق، إنما يجسمها التعبير للإدراك البشري الذي يتأثر بالحسيات أكثر مما يتأثر بالتجريديات.
(4/2062)
أفذلك كذلك؟ ثم يجعلون لله شركاء؟! هنا يبدو تصرفهم مستنكراً مستغرباً في ظل هذا المشهد الشاخص المرهوب.
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» ..
الله القائم على كل نفس بما كسبت، لا تفلت منه ولا تروغ.
«قل: سموهم» ! فإنهم نكرات مجهولة. وقد تكون لهم أسماء. ولكن التعبير هنا ينزلهم منزلة النكرات التي لا تعرف أسماؤها.
«أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض؟» .. يا للتهكم! أم إنكم أنتم البشر تعلمون ما لا يعلمه الله؟ فتعلمون أن هناك آلهة في الأرض، وغاب هذا عن علم الله؟! إنها دعوى لا يجرؤون على تصورها. ومع هذا فهم يقولونها بلسان الحال، حين يقول الله أن ليست هناك آلهة، فيدعون وجودها وقد نفاه الله! «أم بظاهر من القول؟» .
تدعون وجودها بكلام سطحي ليس وراءه مدلول. وهل قضية الألوهية من التفاهة والهزل بحيث يتناولها الناس بظاهر من القول؟! وينتهي هذا التهكم بالتقرير الجاد الفاصل:
«بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» ..
فالمسألة إذن أن هؤلاء كفروا وستروا أدلة الإيمان عنهم وستروا نفوسهم عن دلائل الهدى، فحقت عليهم سنة الله، وصورت لهم نفوسهم أنهم على صواب، وأن مكرهم وتدبيرهم ضد الدعوة حسن وجميل، فصدهم هذا عن السبيل الواصل المستقيم. ومن تقتضي سنة الله ضلاله لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد، لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد.
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب:
«لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .
إن أصابتهم قارعة فيها، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع. وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب. ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب ...
«وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ»
..
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود.
«وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» .
يحميهم من أخذه، ومن نكاله. فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب..
وعلى الضفة الأخرى «المتقون» .. في مقابل «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ»
. المتقون الذين وقوا أنفسهم بالإيمان والصلاح فهم في مأمن من العذاب. بل لهم فوق الأمن الجنة التي وعدوها: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» فهو المتاع والاسترواح- ومشهد الظل الدائم والثمر الدائم مشهد تطمئن له النفس وتستريح- في مقابل المشقة هناك:
(4/2063)
ذلك العذاب وهذه الجنة هما النهاية الطبيعية لهؤلاء وهؤلاء:
«تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا. وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» ..
ويمضي السياق مع قضية الوحي وقضية التوحيد معاً يتحدث عن موقف أهل الكتاب من القرآن ومن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويبين للرسول أن ما أنزل عليه هو الحكم الفصل فيما جاءت به الكتب قبله، وهو المرجع الأخير، أثبت الله فيه ما شاء إثباته من أمور دينه الذي جاء به الرسل كافة ومحا ما شاء محوه مما كان فيها لانقضاء حكمته. فليقف عند ما أنزل عليه، لا يطيع فيه أهواء أهل الكتاب في كبيرة ولا صغيرة.
أما الذين يطلبون منه آية، فالآيات بإذن الله وعلى الرسول البلاغ.
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا، وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ، وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
إن الفريق الصادق من أهل الكتاب في الاستمساك بدينه، ويجد في هذا القرآن مصداق القواعد الأساسية في عقيدة التوحيد كما يجد الاعتراف بالديانات التي سبقته وكتبها، ودرسها مع الإكبار والتقدير، وتصور الآصرة الواحدة التي تربط المؤمنين بالله جميعاً. فمن ثم يفرحون ويؤمنون. والتعبير بالفرح هنا حقيقة نفسية في القلوب الصافية وهو فرح الالتقاء على الحق، وزيادة اليقين بصحة ما لديهم ومؤازرة الكتاب الجديد له..
«ومن الأحزاب من ينكر بعضه» ..
الأحزاب من أهل الكتاب والمشركين.. ولم يذكر السياق هذا البعض الذي ينكرونه، لأنه الغرض هو ذكر هذا الإنكار للرد عليه:
«قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ. إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» ..
فله وحده العبادة، وإليه وحده الدعوة، وله وحده المآب.
وقد أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب، وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه، سواء فرح به أهل الكتاب كله، أم أنكر فريق منهم بعضه.
ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماماً، وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة:
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا» ..
«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» ..
فالذي جاءك هو العلم اليقين، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين. وهذا التهديد الموجه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أبلغ في تقرير هذه الحقيقة التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هناك اعتراض على بشرية الرسول فقد كان الرسل كلهم بشراً:
(4/2064)
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» .
وإذا كان الاعتراض بأنه لم يأت بخارقة مادية، فذلك ليس من شأنه إنما هو شأن الله:
«وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
وفق ما تقتضيه حكمته وعند ما يشاء.
وإذا كان هناك خلاف جزئي بين ما أنزل على الرسول وما عليه أهل الكتاب، فإن لكل فترة كتاباً، وهذا هو الكتاب الأخير:
«لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» ..
فما انقضت حكمته يمحوه، وما هو نافع يثبته. وعنده أصل الكتاب، المتضمن لكل ما يثبته وما يمحوه.
فعنه صدر الكتاب كله، وهو المتصرف فيه، حسبما تقتضي حكمته، ولا راد لمشيئته ولا اعتراض.
وسواء أخذهم الله في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بشيء مما أوعدهم، أو توفاه إليه قبل ذلك، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، ولا يبدل من طبيعة الرسالة وطبيعة الألوهية:
«وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
وفي هذا التوجيه الحاسم ما فيه من بيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة.. إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله. كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة، إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة.
وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية- حين تبطر وتكفر وتفسد- فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه، ولا بد له من النفاذ «1» :
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها! وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
وليسوا هم بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيداً ممن كان قبلهم. فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً:
«وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» ..
ويختم السورة بحكاية إنكار الكفار للرسالة. وقد بدأها بإثبات الرسالة. فيلتقي البدء والختام. ويشهد الله مكتفياً بشهادته. وهو الذي عنده العلم المطلق بهذا الكتاب وبكل كتاب:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا. قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» «2» .
__________
(1) هذا هو المعنى المتعين لهذا النص، لا ما يخبط فيه دعاة «التفسير العلمي للقرآن» من دلالة هذه الآية على نقص أطراف الأرض عند القطبين وانبعاجها عند خط الاستواء! إلى آخر هذا الهواء! إن السياق القرآني يحدد مدلول العبارات فيه. فليتق الله من يخبطون في هذا المجال دون فقه وبصيرة بطبيعة هذا القرآن!
(2) تذكر بعض الروايات في التفسير المأثور أن المقصود بقوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» شهادة من آمن من أهل الكتاب بأن هذا-[.....]
(4/2065)
وتنتهي السورة وقد طوفت بالقلب البشري في أرجاء الكون، وأرجاء النفس، ووقعت عليه إيقاعات مطردة مؤثرة عميقة. وتركته بعد ذلك إلى شهادة الله التي جاء بها المطلع وجاء بها الختام، والتي يحسم بها كل جدل، وينتهي بعدها كل كلام..
وبعد.. ففي السورة معالم للعقيدة الإسلامية، وللمنهج القرآني في عرض هذه العقيدة.. وكان من حق هذه المعالم أن نقف عندها في مواضعها لولا أننا آثرنا ألا نقطع تدفق السياق القرآني في هذه السورة بتلك الوقفات وأن نبقيها إلى النهاية لنقف أمامها متمهلين! وقد أشرنا في أثناء استعراض السورة في سياقها إلى تلك المعالم إشارات سريعة فنرجو أن نقف عندها الأن وقفات أطول بقدر المستطاع.
.. والله المستعان..
إن افتتاح السورة، وطبيعة الموضوعات التي تعالجها، وكثيراً من التوجيهات فيها.. كل أولئك يدل دلالة واضحة على أن السورة مكية- وليست مدنية كما جاء في بعض الروايات والمصاحف- وأنها نزلت في فترة اشتد فيها الإعراض والتكذيب والتحدي من المشركين كما كثر فيها طلب الخوارق من الرسول- صلى الله عليه وسلم- واستعجال العذاب الذي ينذرهم به مما اقتضى حملة ضخمة تستهدف تثبيت الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه على الحق الذي أنزل إليه من ربه، في وجه المعارضة والإعراض، والتكذيب والتحدي والاستعلاء بهذا الحق، والإلتجاء إلى الله وحده وإعلان وحدانيته إلهاً ورباً والثبات على هذه الحقيقة والاعتقاد بأنها هي وحدها الحق، مهما كذب بها المشركون. كما تستهدف مواجهة المشركين بدلائل هذا الحق في الكون كله، وفي أنفسهم، وفي التاريخ البشري وأحداثه كذلك مع حشد جميع هذه المؤثرات ومخاطبة الكينونة البشرية بها خطاباً مؤثراً موحياً عميق الإيقاع قوي الدلالة.
وهذه نماذج من التوكيدات على أن هذا الكتاب هو وحده الحق وأن الإعراض عنه، والتكذيب به، والتحدي، وبطء الاستجابة، وو عورة الطريق.. كلها لا تغير شيئاً من تلك الحقيقة الكبيرة:
«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» .
«لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ، وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .
« ... كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ..
__________
- القرآن حق استنادا إلى ما سبق في السورة من قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك» .. وهذا ما قد وقع فعلا في مكة.. ثم في المدينة. ونحن لا ننفي وجهة هذه الرواية. فقد تكون هي المقصودة.
(4/2066)
«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
«كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قُلْ: هُوَ رَبِّي، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ مَتابِ» ..
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا، وَإِلَيْهِ مَآبِ. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ»
..
«وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا. قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» ..
وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويتحدون بها هذا القرآن ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي.
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجهر- في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق- بالحق الذي معه كاملاً وهو أنه لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا معبود إلا الله، وأن الله هو الواحد القهار، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار.. وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها.. وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم! ..
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين، وألا يخفوا منها شيئاً، وألا يؤجلوا منها شيئاً.. وفي مقدمة هذه الحقائق: أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا لله. ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله.. فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أياً كانت المعارضة والتحدي وأياً كان الإعراض من المكذبين والتولي وأيا كان وعورة الطريق وأخطارها كذلك.. وليس من «الحمكة والموعظة الحسنة» إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين، أو يكيدون له وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئاً من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ولا أن يبدأوا مثلاً من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده! إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- بتوجيه من ربه.. فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج.. والله- بعد ذلك- متكفل بدينه، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت!
(4/2067)
والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلوّ- وهو هذا القرآن- وبين كتاب الكون المفتوح ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره.
كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضاً. ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعاً وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعا! وهذه السورة تحوي الكثير من النماذج الباهرة في عرض صفحات الكتاب الكوني- عقب الكتاب القرآني- في مواجهة الكينونة البشرية بجملتها.. وهذه بعض هذه النماذج:
«المر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.»
«اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يُفَصِّلُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ- صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ- يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
يحشد السياق هذه المشاهد الكونية، ليحيل الكون كله شاهداً ناطقاً بسلطان الله- سبحانه- في الخلق والإنشاء، والتقدير والتدبير. ثم يعجّب من أمر قوم يرون هذه الشواهد كلها، ثم يستكثرون قضية البعث والنشأة الأخرى، ويكذبون بالوحي من أجل أنه يقرر هذه الحقيقة القريبة.. القريبة في ظل تلك المشاهد العجيبة..
«وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
«هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ... » ..
يعرض هذه الصفحة من الوجود الكوني ليعجّب من أمر قوم يجادلون في الله ويشركون به، وهم يشاهدون آثار ربوبيته وقدرته وسلطانه، ودينونة الكون له، وتصريفه وتدبيره لأمر العباد فيه وعجز كل من عداه- سبحانه- عن الخلق والتدبير والتقدير:
«وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ- وَما هُوَ بِبالِغِهِ- وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.. قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ. قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .
وهكذا يستحيل الكون معرضاً باهراً لدلائل القدرة وموحيات الإيمان، يخاطب الفطرة بالمنطق الشامل العميق ويخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل ما فيها من قوى الإدراك الباطنة والظاهرة، في تناسق عجيب.
ثم يضيف إلى صفحات الكتاب الكوني، صفحات التاريخ الإنساني ويعرض آثار القدرة والسلطان
(4/2068)
والهيمنة والقهر والتقدير والتدبير في حياة الإنسان:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ!» .
«اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ- يَحْفَظُونَهُ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» ..
«اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» ..
«وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» .
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
«وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ، وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ!» .
وهكذا يحشد المنهج القرآني هذه الشواهد والدلائل في التاريخ البشري ويحيلها إلى مؤثرات وموحيات، تخاطب الكينونة البشرية بجملتها في تناسق واتساق.
ونقف من هذا الحشد على معلم من معالم هذا المنهج في الدعوة إلى الله- على بصيرة- دعوة تخاطب الكينونة البشرية بجملتها، ولا تخاطب فيها جانباً واحداً من قواها المدركة.. جانب الفكر والذهن، أو جانب الإلهام والبصيرة، أو جانب الحس والشعور..
وهذا القرآن ينبغي أن يكون هو كتاب هذه الدعوة، الذي يعتمد عليه الدعاة إلى الله، قبل الاتجاه إلى أي مصدر سواه. والذي ينبغي لهم بعد ذلك أن يتعلموا منه كيف يدعون الناس، وكيف يوقظون القلوب الغافية، وكيف يحيون الأرواح الخامدة.
إن الذي أوحى بهذا القرآن هو الله، خالق هذا الأنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير بدروب نفسه ومنحنياتها.. وكما أن الدعاة إلى الله يجب أن يتبعوا منهج الله في البدء بتقرير ألوهية الله- سبحانه- وربوبيته وحاكميته وسلطانه فإنهم كذلك يجب أن يسلكوا إلى القلوب طريق هذا القرآن في تعريف الناس بربهم الحق- على ذلك النحو- كيما تنتهي هذه القلوب إلى الدينونة لله وحده، والاعتراف بربوبيته المتفردة وسلطانه..
ولتعريف الناس بربهم الحق، ونفي كل شبهة شرك، يعنى المنهج القرآني ببيان طبيعة الرسالة، وطبيعة الرسول.. ذلك أن انحرافات كثيرة في التصور الاعتقادي جاءت لأهل الكتاب من قبل، من جراء الخلط بين طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة- وبخاصة في العقائد النصرانية- حيث خلعت على عيسى- عليه السلام- خصائص الألوهية وخصائص الربوبية ودخل أتباع شتى الكنائس في متاهة من الخلافات العقيدية المذهبية بسبب ذلك الخلط المنافي للحقيقة.
ولم تكن عقائد النصارى وحدهم هي التي دخلت في تلك المتاهة فقد خبطت شتى الوثنيات في ذلك التيه وتصورت للنبوة صفات غامضة بعضها يصل بين النبوة والسحر! وبعضها يصل بين النبوة والتنبؤات الكشفية! وبعضها يصل بين النبوة والجن والأرواح الخفية!
(4/2069)
وكثير من هذه التصورات كان يخالج الوثنية العربية.. من أجل هذا كان بعضهم يطلب من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن ينبئهم بالغيب! وبعضهم كان يقترح أن يصنع لهم خوارق مادية معينة! كما أنهم كانوا يرمونه- صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر، وبأنه «مجنون» - أي على صلة بالجن! - وبعضهم كان يطلب أن يكون معه ملك ... إلى آخر هذه المقترحات والتحديات والاتهامات التي كانت متلبسة بالتصورات الوثنية عن طبيعة النبي وطبيعة النبوة! ولقد جاء هذا القرآن ليجلي الحقيقة كاملة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي وعن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول وعن حقيقة الألوهية المتمثلة في الله وحده- سبحانه- وحقيقة العبودية التي تشمل كل ما خلق الله وكل من خلق ومنهم أنبياء الله ورسله فهم عباد صالحون وليسوا خلقاً آخر غير البشر وليس لهم من خصائص الألوهية شيء وليسوا على اتصال بعوالم الجن والخفاء المسحور إنما هو الوحي من الله- سبحانه- وليس لهم وراءه شيء من القدرة على الخوارق- إلا بإذن الله حين يشاء- فهم بشر من البشر، وقع عليهم الاختيار، وبقيت لهم بشريتهم وعبوديتهم لله- سبحانه- كبقية خلق الله.
وفي هذه السورة نماذج من تجلية طبيعة النبوة والرسالة وحدود النبي والرسول وتخليص العقول والأفكار من رواسب الوثنيات كلها وتحريرها من تلك الأساطير التي أفسدت عقائد أهل الكتاب من قبل وردتها إلى الوثنية بأوهامها وأساطيرها! وقد كانت تلك التجلية تواجه تحديات المشركين الواقعية ولم تكن جدلاً ذهنياً، ولا بحثاً فلسفياً «ميتافيزيقياً» ... كانت «حركة» تواجه «الواقع» وتجاهده مجاهدة واقعية:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» ..
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» ..
«كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ، قُلْ: هُوَ رَبِّي، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ مَتابِ» ..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» ..
«وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول.. إنما هو منذر، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله. ثم هو عبد لله، الله ربه، وإليه متابه ومآبه وهو بشر من البشر يتزوج وينسل ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية..
وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهِّومة في الفضاء والظلام، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية والتي قضت على «المسيحية» منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام تجعل المسيح عبد الله لا يأتي بآية إلا بإذن الله.
(4/2070)
ولا ننتهي من هذه الوقفة قبل أن نلم بتلك اللفته البارزة في قوله تعالى:
«وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ..
إن هذا القول إنما يقال للنبي- صلى الله عليه وسلم- الرسول الذي أوحي إليه من ربه. وكلف مخاطبة الناس بهذه العقيدة.. وخلاصة هذا القول: إن أمر هذا الدين ليس إليه هو، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس. فالله وحده هو الذي يملك الهداية. وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته..
البلاغ.. وحسابهم بعد ذلك على الله.. وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته. فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله.
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر.. ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين.. ليس لهم أن يقولوا:
لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! ..
إنْ عليهم إلا البلاغ.. أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد. إنما هو من شأن الله! فينبغي- تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له- أن يترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار..
والسورة مكية.. من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- «بالبلاغ» .. ذلك أن «الجهاد» لم يكن بعد قد كتب. فأما بعد ذلك فقد أمر بالجهاد- بعد البلاغ- وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين. فالنصوص فيه نصوص حركية مواكبه لحركة الدعوة وواقعها وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها.. وهذا ما تغفل عنه كثرة «الباحثين» في هذا الدين في هذا الزمان. وهم يزاولون «البحث» ولا يزاولون «الحركة» فلا يدركون- من ثم- مواقع النصوص القرآنية، وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين! وكثيرون يقرأون مثل هذا النص: «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» ثم يأخذون منه أن مهمة الدعاة إلى الله تنتهي عند البلاغ. فإذا قاموا «بالتبليغ» فقد أدوا ما عليهم! .. أما «الجهاد» ! فلا أدري- والله- أين مكانه في تصور هؤلاء! كما أن كثيرين يقرأون مثل هذا النص، فلا يلغون به الجهاد، ولكن يقيدونه! .. دون أن يفطنوا إلى أن هذا نص مكي نزل قبل فرض الجهاد. ودون أن يدركوا طبيعة ارتباط النصوص القرآنية بحركة الدعوة الإسلامية. ذلك أنهم هم لا يزاولون الحركة بهذا الدين إنما هم يقرأونه في الأوراق وهم قاعدون! وهذا الدين لا يفقهه القاعدون. فما هو بدين القاعدين! على أن «البلاغ» يظل هو قاعدة عمل الرسول، وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين. وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد. فإنه متى صح، واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية..
أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره.. فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله، المبلغين التبليغ الصحيح، بالإعراض والتحدي، ثم بالإيذاء والمكافحة ... ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في حينها،
(4/2071)
نتاجاً طبيعياً للتبليغ الصحيح لا محالة: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» ..
هذا هو الطريق ... وليس هنالك غيره من طريق! ثم نقف من السورة أمام معلم آخر، وهي تقرر كلمة الفصل في العلاقة بين اتجاه «الإنسان» وحركته وبين تحديد مآله ومصيره وتقرير أن مشيئة الله به إنما تتحقق من خلال حركته بنفسه وذلك مع تقرير أن كل حدث إنما يقع ويتحقق بقدر من الله خاص.. ومجموعة النصوص الخاصة بهذا الموضوع في السورة كافية بذاتها لجلاء النظرة الإسلامية في هذه القضية الخطيرة.. وهذه نماذج منها كافية:
«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» ..
«لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» ..
«قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» ..
«أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً؟!» ..
«بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» ..
وواضح من النص الأول من هذه النصوص أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم بأنفسهم، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييراً شعورياً وعملياً. فإذا غير القوم ما بأنفسهم اتجاهاً وعملاً غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم.. فإذا اقتضى حالهم أن يريد الله بهم السوء مضت إرادته ولم يقف لها أحد، ولم يعصمهم من الله شيء، ولم يجدوا لهم من دونه ولياً ولا نصيراً.
فأما إذا هم استجابوا لربهم، وغيروا ما بأنفسهم بهذه الاستجابة، فإن الله يريد بهم الحسنى، ويحقق لهم هذه الحسنى في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً، فإذا لم يستجيبوا أراد بهم السوء، وكان لهم سوء الحساب، ولم تغن عنهم فدية إذا جاءوه- غير مستجيبين- يوم الحساب! وواضح من النص الثاني أن الاستجابة أو عدم الاستجابة راجعة إلى اتجاههم وحركتهم وأن مشيئة الله بهم إنما تتحقق من خلال هذه الحركة وذلك الاتجاه.
أما النص الثالث فإن مطلعه يتحدث عن طلاقة مشيئة الله في إضلال من يشاء. ولكن عقب النص: «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ... الخ» يقرر أن الله- سبحانه- يقضي بالهدى لمن ينيب إليه فيدل هذا على أنه إنما يضل من لا ينيب ومن لا يستجيب، ولا يضل منيباً ولا مستجيباً. وذلك وفق وعده سبحانه في قوله: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» . فهذه الهداية وذلك الإضلال هما مقتضى مشيئته سبحانه بالعباد. هذه المشيئة التي تجري وتتحقق من خلال تغيير العباد ما بأنفسهم، والاتجاه إلى الاستجابة أو الإعراض.
والنص الرابع يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً.. وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، أو لقهرهم على الهدى. ولكنه- سبحانه- شاء أن
(4/2072)
يخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال- حاشاه! - إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.
أما النص الخامس فيقرر أن الذين كفروا زُين لهم مكرهم وصُدوا عن السبيل.. وأخذ أمثال هذا النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر والاختيار.. أما أخذه مع مجموعة النصوص- كما رأينا- فإنه يعطي التصور الشامل: وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة لله. أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم بالتزيين والصد والإضلال.
وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل.. ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم. فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» ..
وليست هنالك آلية في نظام الكون كله، ولا حتمية أسباب تنشئ بذاتها آثاراً. فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر.. وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» .
وهذا التصور- كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة- يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله. فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته.. وما أثقلها من تبعة! وما أعظمها كذلك من كرامة! «1» وفي السورة كلمة الفصل كذلك في دلالة الكفر وعدم الاستجابة لهذا الحق الذي جاء به هذا الدين، على فساد الكينونة البشرية، وتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية فيها، واختلال طبيعتها وخروجها عن سوائها.
فما يمكن أن تكون هناك بنية إنسانية سوية، غير مطموسة ولا معطلة ولا مشوهة ثم يعرض عليها هذا الحق، ويبين لها بالصورة التي بينها المنهج القرآني ثم لا تستجيب لهذا الحق بالإيمان والإسلام. والفطرة الإنسانية بطبيعتها مصطلحة على هذا الحق في أعماقها فإذا صدت عنه فإنما يصدها صاحبها لآفة فيه تجعله يختار لنفسه غير هذا الهدى وتجعله بذلك مستحقاً للضلال، ومستحقاً للعذاب، كما قال الله سبحانه في السورة الأخرى «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» ..
وفي هذه السورة ترد أمثال هذه الآيات الدالة على طبيعة الكفر فتقرر أنه عمىً وانطماس بصيرة، وأن الهدى دلالة على سلامة الكينونة البشرية من هذا العمى، ودلالة على سلامة القوى المدركة فيها وأن في صفحة هذا الكون من الدلائل ما يبين عن الحق لمن يتفكرون ولمن يعقلون:
«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .
(4/2073)
اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ... » ..
«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» ..
«وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
وهكذا يتقرر أن الذين لا يستجيبون لهذا الحق هم- بشهادة الله سبحانه- عُمْي. وأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون. وأن الذين يستجيبون له هم أولو الألباب، وهؤلاء تطمئن قلوبهم بذكر الله، وتتصل بما هي عارفة له ومصطلحة عليه بفطرتها العميقة، فتسكن وتستريح.
وإن الإنسان ليجد مصداق قول الله هذا في كل من يلقاه من الناس معرضاً عن هذا الحق الذي تضمنه دين الله، والذي جاء به في صورته الكاملة محمد رسول الله.. فإن هي إلا جبلات مؤوفة مطموسة. وإن هي إلا كينونات معطلة في أهم جوانبها بحيث لا تتلقى إيقاعات هذا الوجود كله من حولها، وهو يسبح بحمد ربه وينطق بوحدانيته وقدرته وتدبيره وتقديره.
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عُمياً- بشهادة الله سبحانه- فإنه لا ينبغي لمسلم يزعم أنه يؤمن برسول الله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله.. لا ينبغي لمسلم يزعم هذا الزعم أن يتلقى في شأن من شؤون الحياة عن أعمى! وبخاصة إذا كان هذا الشأن متعلقاً بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان أو بالقيم والموازين التي تقوم عليها حياته أو بالعادات والسلوك والتقاليد والآداب التي تسود مجتمعه..
وهذا هو موقفنا من نتاج الفكر- غير الإسلامي- بجملته- فيما عدا العلوم المادية البحته وتطبيقاتها العملية مما قصده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» . فإنه ما ينبغي قط لمسلم يعرف هدى الله ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله، أن يقعد مقعد التلميذ الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى ولم يعلم أنه الحق.. فهو أعمى بشهادة الله سبحانه.. ولن يرد شهادة الله مسلم.. ثم يزعم بعد ذلك أنه مسلم!!! إنه لا بد لنا أن نأخذ هذا الدين مأخذ الجد وأن نأخذ تقريراته هذه مأخذ الجزم.. وكل تميع في مثل هذه القضية هو تميع في العقيدة ذاتها إن لم يكن هو رد شهادة الله- سبحانه- وهو الكفر البواح في هذه الصورة! وأعجب العجب أن ناساً من الناس اليوم يزعمون أنهم مسلمون ثم يأخذون في منهج الحياة البشرية عن فلان وفلان من الذين يقول عنهم الله سبحانه: إنهم عمي. ثم يظلون يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون! إن هذا الدين جد لا يحتمل الهزل، وجزم لا يحتمل التميع، وحق في كل نص فيه وفي كل كلمة..
(4/2074)
فمن لم يجد في نفسه هذا الجد وهذا الجزم وهذه الثقة فما أغنى هذا الدين عنه. والله غني عن العالمين «1» ! وما يجوز أن يثقل الواقع الجاهلي على حس مسلم، حتى يتلقى من الجاهلية في منهج حياته وهو يعلم أن ما جاءه به محمد- صلى الله عليه وسلم- هو الحق وأن الذي لا يعلم أن هذا هو الحق «أعمى» . ثم يتبع هذا الأعمى، ويتلقى عنه، بعد شهادة الله سبحانه وتعالى..
وأخيراً نقف أمام المعلم الأخير من المعالم التي تقيمها هذه السورة لهذا الدين..
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير. فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق.. هم الذين يفسدون في الأرض كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض، وتزكو بهم الحياة:
َ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ. وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ... »
..
«وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» ..
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- هو الحق. ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة، وبعهد الله على آدم وذريته، أن يعبدوه وحده، فيدينوا له وحده، ولا يتلقوا عن غيره، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه. ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه ويخافون سوء الحساب، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل خالجة وكل حركة ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان..
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة التي تسير على هدى الله وحده والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه.. إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم- هو الحق وحده والتي تتبع- من ثم- مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده.. إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! ..
إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم- هو وحده الحق، الذي لا يجوز العدول عنه، ولا التعديل فيه.. إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله، تضع
__________
(1) يراجع فصل: «التصور الإسلامي والثقافة» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(4/2075)
هي مناهج الحكم ومناهج الحياة، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله وتعبدهم لما تشرع، فتجعل دينونتهم لغير الله..
وآية هذا الذي نقوله- استمداد من النص القرآني- هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين. وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها.. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! .. وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! .. إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق.. لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده ولا تلتزم- من ثم- بعهد الله وشرعه ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.
إن المسلم يرفض- بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق- كل منهج للحياة غير منهج الله وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي وكل وضع كذلك سياسي، غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده.
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه.
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.. فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي! ..
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون. فلم تسعد قط ولم ترتفع «إنسانيتها» قط، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم «1» .
هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها، ولكنها تشير إليها.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» .
(4/2076)
(14) سورة إبراهيم مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة- سورة إبراهيم- مكية، موضوعها الأساسي هو موضوع السور المكية الغالب: العقيدة في أصولها الكبيرة: الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والحساب والجزاء.
ولكن السياق في السورة يسلك نهجا خاصا بها في عرض هذا الموضوع وحقائقه الأصيلة. نهجا مفردا يميزها- كالشأن في كل سورة قرآنية- عن السور غيرها. يميزها بجوها وطريقة أدائها، والأضواء والظلال الخاصة التي تعرض فيها حقائقها الكبرى. ولون هذه الحقائق التي قد لا تفترق موضوعيا عن مثيلاتها في السور الأخرى ولكنها تعرض من زاوية خاصة، في أضواء خاصة فتوحي إيحاءات خاصة. كما تختلف مساحتها في رقعة السورة وجوها، فتزيد أطرافا وتنقص أطرافا، فيحسها القارئ جديدة بما وقع فيها من تجديد في «اللقطات الفنية» . ونحن نستعمل هذا التعبير «اللقطات الفنية» لأنه يلاحظ في صورته المعجزة في طريقة الأداء القرآنية! ويبدو أنه كان لجو السورة من اسمها نصيب.. إبراهيم.. أبو الأنبياء.. المبارك، الشاكر الأواه المنيب.
وكل الظلال التي تخلعها هذه الصفات ملحوظة في جو السورة، وفي الحقائق التي تبرزها، وفي طريقة الأداء، وفي التعبير والإيقاع.
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة. ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها.
وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة: حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران..
وبروز هاتين الحقيقتين، أو هذين الظلين. لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة. ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة. وهذا ما أردنا الإشارة إليه:
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب.. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد:
(4/2077)
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد- صلى الله عليه وسلم- ولمثل ما أرسل به، حتى في ألفاظ التعبير:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن الله، وحين يشاء الله، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم، فالهدى والضلال متعلقان بسنة الله التي اقتضتها مشيئته المطلقة.
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين:
«قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .
وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين:
«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» .
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. وكل رسول يبين لقومه «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد الله بلا ظل من مماثلة أو مشابهة.
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد الله للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ.. وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ..» .
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة:
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ
(4/2078)
مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
..
«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة، وتتسقان مع ظل إبراهيم: أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة.
وحقيقة نعمة الله على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة.. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي، ثم يجيء رسول ورسول.
كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم- أبي الأنبياء- فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب! ونبصر فنشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية، في صعيد واحد، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون- حقيقة الإيمان والكفر- فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان:
«ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود. والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله. جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب.
قالت رسلهم: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ قالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا، فأتونا بسلطان مبين.
قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا. وعلى الله فليتوكل المتوكلون. وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.
«وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» ..
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى:
حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة.
وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة.. وذلك إلى التماثل بين قول الله لمحمد- صلى الله عليه وسلم-:
(4/2079)
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .
وحكاية قوله لموسى- عليه السلام-:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة. فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة. وهذه نماذج منها:
«وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قالُوا: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» ..
«وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ...
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة: مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النبوة، وشجرة الإيمان، وشجرة الخير. والكلمة الخبيثة: كالشجرة الخبيثة: شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان.
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله، وتتناثر في سياقها.
يعدد الله نعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم. وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في هذه الأرض، كالمؤمن والبار والطائع: لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل اطار من مشاهد الوجود العظيمة:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
(4/2080)
والنور أجلّ نعم الله في الوجود. والنور هنا هو النور الأكبر. النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه.. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه. ووظيفة الرسل كما بينتها السورة.
وفي قول الرسل مجتمعين:
«يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» ..
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب..
وفي جو الحديث عن النعمة يذكّر موسى قومه بأنعم الله عليهم:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» .
وفي هذا الجو يذكر وعد الله للرسل:
«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» ..
وهي نعمة من نعم الله الكثار الكبار.
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ..
مع بيان أن الله غني عن الشكر وعن الشاكرين:
«إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» .
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر:
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
ولكن الذين يتدبرون آيات الله، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع، وفي دعاء واجف، عند بيت الله الحرام، كله حمد وشكر وصبر ودعاء.
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ..
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو:
«وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
(4/2081)
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» ..
«اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ..
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ» ..
وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء:
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
فيبرز منة الله تنسيقا للرد مع جو السورة كله. جو النعمة والمنة والشكر والكفران..
وهكذا يتساوق التعبير اللفظي مع ظلال الجو العام في السورة كلها على طريقة التناسق الفني في القرآن..
وتنقسم السورة إلى مقطعين متماسكي الحلقات:
المقطع الأول يتضمن بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول. ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا وفي الآخرة، ويعقب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة.
والمقطع الثاني يتحدث عن نعم الله على البشر، والذين كفروا بهذه النعمة وبطروا. والذين آمنوا بها وشكروا ونموذجهم الأول هو إبراهيم. ويصور مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجملها، وأحفلها بالحركة والحياة.. ليختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها:
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
فلنأخذ في السير مع المقطع الأول في السياق:
(4/2082)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 27]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ألر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24)
تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
(4/2083)
«ألر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. عَلَى الْآخِرَةِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
ألف لام. را.. «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ» ..
هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف كتاب أنزلناه إليك. لم تنشئه أنت. أنزلناه إليك لغاية:
«لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
لتخرج هذه البشرية من الظلمات. ظلمات الوهم والخرافة. وظلمات الأوضاع والتقاليد. وظلمات الحيرة في تيه الأرباب المتفرقة، وفي اضطراب التصورات والقيم والموازين.. لتخرج البشرية من هذه الظلمات كلها إلى النور. النور الذي يكشف هذه الظلمات. يكشفها في عالم الضمير وفي دنيا التفكير. ثم يكشفها في واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد.
والإيمان بالله نور يشرق في القلب، فيشرق به هذا الكيان البشري، المركب من الطينة الغليظة ومن نفخة روح الله. فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة. طينة من لحم ودم كالبهيمة، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها. لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح الله، يرقرقها الإيمان ويجلوها، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم، ويشف بها هذا الكيان المعتم.
والإيمان بالله نور تشرق به النفس، فترى الطريق. ترى الطريق واضحة إلى الله، لا يشوبها غبش ولا يحجبها ضباب. غبش الأوهام وضباب الخرافات. أو غبش الشهوات وضباب الأطماع. ومتى رأت الطريق سارت على هدى لا تتعثر ولا تضطرب ولا تتردد ولا تحتار.
والإيمان بالله نور تشرق به الحياة. فإذا الناس كلهم عباد متساوون. تربط بينهم آصرتهم في الله وتتمحض دينونتهم له دون سواه، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة. وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة. معرفة الناموس المسير لهذا الكون وما فيه ومن فيه. فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه.
والإيمان بالله نور. نور العدل. ونور الحرية. ونور المعرفة. ونور الأنس بجوار الله، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السراء والضراء. ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضراء والشكر في السراء على نور من إدراك الحكمة في البلاء.
والإيمان بالله وحده إلهاً ورباً، منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور.. منهج حياة يقوم على قاعدة العبودية لله وحده، والدينونة لربوبيته وحده، والتخلص من ربوبيات العبيد، والاستعلاء على حاكمية العبيد..
وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشرية، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة، ما يملأ الحياة سعادة ونوراً وطمأنينة وراحة. كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصماً من التقلبات والتخبطات التي تتعرض لها المجتمعات التي تخضع لربوبية العبيد، وحاكمية العبيد، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع، وفي الخلق والسلوك، وفي العادات والتقاليد.. وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشرية أن تبذل في تأليه العبيد، والطبل والزمر للطواغيت!!!
(4/2085)
وإن وراء هذا التعبير القصير: «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ..» لآفاقاً بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب. وفي عالم الحياة والواقع، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير! «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» ..
فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ، وليس من وظيفته إلا البيان. أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإنما يتحقق بإذن الله، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته، وما الرسول إلا رسول! «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ..
فالصراط بدل من النور. وصراط الله: طريقه، وسنته، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة. والنور يهدي إلى هذا الصراط، أو النور هو الصراط. وهو أقوى في المعنى. فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون. هو السنة. هو الناموس. هو الشريعة. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك ولا تخطئ التصور ولا تخطئ السلوك. فهي على صراط مستقيم.. «صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور.
والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون.. ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه.
إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه:
«اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ..
فمن خرج واهتدى فذاك. ولا يذكر عنه شيئاً هنا، إنما يمضي السياق إلى تهديد الكافرين ينذرهم بالويل من عذاب شديد. جزاء كفرهم هذه النعمة. نعمة إرسال الرسول بالكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
وهي النعمة الكبرى التي لا يقوم لها شكر إنسان. فكيف بالكفران:
«وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ..
ثم يكشف عن صفة تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم:
«الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ» .. «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» ..
فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ويتعارض مع الاستقامة على الصراط.
وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة، لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلاً، ويراعى فيه وجه الله. فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة.
إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا- كما يقوم في الأخيلة المنحرفة- فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا. والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض. وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها. إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظاراً للآخرة، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله، وتمهيداً للآخرة.. هذا هو الإسلام.
فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض، ومن الكسب الحرام، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم.. لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله، وفي ظل الاستقامة على هداه. ومن ثم يصدون عن سبيل الله. يصدون أنفسهم ويصدون الناس، ويبغونها عوجاً لا استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن
(4/2086)
يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بخيرات الأرض، والكسب الحرام، والمتاع المرذول، والكبرياء في الأرض، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار.
إن منهج الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة.
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» .
وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة. فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم، ليبين لهم وليفهموا عنه، فتتم الغاية من الرسالة.
وقد أرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- بلسان قومه- وإن كان رسولاً إلى الناس كافة- لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى كافة البشر. وعمره- صلى الله عليه وسلم- محدود. وقد أمر ليدعو قومه أولاً حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام. ومن ثم تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض.
والذي حدث بالفعل- وهو من تقدير الله العليم الخبير- أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام إلى آخر حدود الجزيرة، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة، الذي توفي الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولم يتحرك بعد.. وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو إلى الإسلام، تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة. ولكن الذي قدره الله له، والذي يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود، أن يبلغ الرسول- صلى الله عليه وسلم- قومه بلسانهم، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى الأصقاع.. وقد كان.. فلا تعارض بين رسالته للناس كافة، ورسالته بلسان قومه، في تقدير الله، وفي واقع الحياة.
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» .. «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ..
إذ تنتهي مهمة الرسول- كل رسول- عند البيان. أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال، فلا قدرة له عليه، وليس خاضعاً لرغبته، إنما هو من شأن الله. وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة. فمن سار على درب الضلال ضل، ومن سار على درب الهدى وصل.. هذا وذلك يتبع مشيئة الله، التي شرعت سنته في الحياة.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
القادر على تصريف الناس والحياة، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافاً بلا توجيه ولا تدبير.
وكذلك كانت رسالة موسى. بلسان قومه.
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ. وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» ..
(4/2087)
والتعبير يوحد بين صيغة الأمر الصادر لموسى والصادر لمحمد- عليهما صلاة الله وسلامه- تمشياً مع نسق الأداء في السورة- وقد تحدثنا عنه آنفاً- فإذا الأمر هناك:
«لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
والأمر هنا:
«أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
الأولى للناس كافة والثانية لقوم موسى خاصة، ولكن الغاية واحدة:
«أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» ..
وكل الأيام أيام الله. ولكن المقصود هنا أن يذكرهم بالأيام التي يبدو فيها للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو بالنقمة كما سيجيء في حكاية تذكير موسى لقومه. وقد ذكرهم بأيام لهم، وأيام لأقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم. فهذه هي الأيام.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
ففي هذه الأيام ما هو بؤسى فهو آية للصبر، وفيها ما هو نعمى فهو آية للشكر. والصبار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك ما وراءها، ويجد فيها عبرة له وعظة كما يجد فيها تسرية وتذكيراً.
وراح موسى يؤدي رسالته، ويذكر قومه:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..
إنه يذكرهم بنعمة الله عليهم. نعمة النجاة من سوء العذاب الذي كانوا يلقونه من آل فرعون، يسامونه سوماً، أي يوالون به ويتابعون، فلا يفتر عنهم ولا ينقطع. ومن ألوانه البارزة تذبيح الذكور من الأولاد واستحياء الإناث، منعاً لتكاثر القوة المانعة فيهم واستبقاء لضعفهم وذلهم. فإنجاء الله لهم من هذه الحال نعمة تذكر. وتذكر لتشكر.
«وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..
بلاء بالعذاب أولاً، لامتحان الصبر والتماسك والمقاومة والعزم على الخلاص والعمل له. فليس الصبر هو احتمال الذل والعذاب وكفى. ولكن الصبر هو احتمال العذاب بلا تضعضع ولا هزيمة روحية، واستمرار العزم على الخلاص، والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان. وإلا فما هو صبر مشكور ذلك الاستسلام للذل والهوان.. وبلاء بالنجاة ثانيا لامتحان الشكر، والاعتراف بنعمة الله، والاستقامة على الهدى في مقابل النجاة.
ويمضي موسى في البيان لقومه. بعد ما ذكرهم بأيامه. ووجههم إلى الغاية من العذاب والنجاة. وهي الصبر للعذاب والشكر للنجاة.. يمضي ليبين لهم ما رتبه الله جزاء على الشكر والكفران:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ..
ونقف نحن أمام هذه الحقيقة الكبيرة: حقيقة زيادة النعمة بالشكر، والعذاب الشديد على الكفر.
نقف نحن أمام هذه الحقيقة تطمئن إليها قلوبنا أول وهلة لأنها وعد من الله صادق. فلا بد أن يتحقق
(4/2088)
على أية حال.. فإذا أردنا أن نرى مصداقها في الحياة، ونبحث عن أسبابه المدركة لنا، فإننا لا نبعد كثيراً في تلمس الأسباب.
إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية. فالخير يشكر لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة..
هذه واحدة.. والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته، تراقبه في التصرف بهذه النعمة. بلا بطر، وبلا استعلاء على الخلق، وبلا استخدام للنعمة في الأذى والشر والدنس والفساد.
وهذه وتلك مما يزكي النفس، ويدفعها للعمل الصالح، وللتصرف الصالح في النعمة بما ينميها ويبارك فيها ويرضي الناس عنها وعن صاحبها، فيكونون له عوناً ويصلح روابط المجتمع فتنمو فيه الثروات في أمان. إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة. وإن كان وعد الله بذاته يكفي لاطمئنان المؤمن، أدرك الأسباب أولم يدركها، فهو حق واقع لأنه وعد الله.
والكفر بنعمة الله قد يكون بعدم شكرها. أو بإنكار أن الله واهبها، ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي! كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله! وقد يكون بسوء استخدامها بالبطر والكبر على الناس واستغلالها للشهوات والفساد.. وكله كفر بنعمة الله..
والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة. عيناً بذهابها. أو سحق آثارها في الشعور. فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين! وقد يكون عذاباً مؤجلاً إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة كما يشاء الله. ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء.
ذلك الشكر لا تعود على الله عائدته. وهذا الكفر لا يرجع على الله أثره. فالله غني بذاته محمود بذاته، لا بحمد الناس وشكرهم على عطاياه.
«وَقالَ مُوسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» ..
إنما هو صلاح الحياة يتحقق بالشكر، ونفوس الناس تزكو بالاتجاه إلى الله، وتستقيم بشكر الخير، وتطمئن إلى الاتصال بالمنعم، فلا تخشى نفاد النعمة وذهابها، ولا تذهب حسرات وراء ما ينفق أو يضيع منها. فالمنعم موجود، والنعمة بشكره تزكو وتزيد.
ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه. ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات. وذلك من بدائع الأداء في القرآن، لإحياء المشاهد، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع، وتتحرك فيه الشخوص، وتتجلى فيه السمات والانفعالات..
والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ؟ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ، وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ، وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
هذا التذكير من قول موسى. ولكن السياق منذ الآن يجعل موسى يتوارى ليستمر في عرض قصة الرسل والرسالات في جميع أزمانها. قصة الرسل والرسالات وحقيقتها في مواجهة الجاهلية، وعاقبة المكذبين بها
(4/2089)
على اختلاف الزمان والمكان.. وكأن موسى «راوية» يبدأ بالإشارة الى أحداث الرواية الكبرى. ثم يدع أبطالها يتحدثون بعد ذلك ويتصرفون.. وهي طريقة من طرق العرض للقصة في القرآن، تحول القصة المحكية إلى رواية حية كما أسلفنا. وهنا نشهد الرسل الكرام في موكب الإيمان، يواجهون البشرية متجمعة في جاهليتها. حيث تتوارى الفواصل بين أجيالها وأقوامها. وتبرز الحقائق الكبرى مجردة عن الزمان والمكان، كما هي في حقيقة الوجود خلف حواجز الزمان والمكان:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ؟» ..
فهم كثير إذن، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآن. ما بين ثمود وقوم موسى. والسياق هنا لا يعنى بتفصيل أمرهم، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به:
«جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ..
الواضحات التي لا يلتبس أمرها على الإدراك السليم.
«فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ، وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل من يريد تمويج الصوت ليسمع عن بعد، بتحريك كفه أمام فمه وهو يرفع صوته ذهاباً وإياباً فيتموج الصوت ويُسمع. يرسم السياق هذه الحركة التي تدل على جهرهم بالتكذيب والشك، وإفحاشهم في هذا الجهر، وإتيانهم بهذه الحركة الغليظة التي لا أدب فيها ولا ذوق، إمعاناً منهم في الجهر بالكفر.
ولما كان الذي يدعوهم إليه رسلهم هو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وربوبيته للبشر بلا شريك من عباده..
فإن الشك في هذه الحقيقة الناطقة التي تدركها الفطرة، وتدل عليها آيات الله المبثوثة في ظاهر الكون المتجلية في صفحاته، يبدو مستنكراً قبيحاً. وقد استنكر الرسل هذا الشك. والسماوات والأرض شاهدان.
«قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» ..
أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما أبداعاً وأنشأهما إنشاء؟ قالت رسلهم هذا القول، لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان، فمجرد الإشارة إليهما يكفي، ويرد الشارد إلى الرشد سريعاً، ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان، وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب:
«أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» .
والدعوة أصلاً دعوة إلى الإيمان، المؤدي إلى المغفرة. ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة، لتتجلى نعمة الله ومنته. وعندئذٍ يبدو عجيباً أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة! «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» .. «وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» ..
فهو- سبحانه- مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة، ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب.
إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى. إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب، ترجعون فيه إلى نفوسكم، وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم. وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم.. فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان؟!
(4/2090)
هنا يرجع القوم في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول:
«قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» ..
وبدلاً من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته، فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار، ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم. ولا يسألون أنفسهم: لماذا يرغب الرسل في تحويلهم؟! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم: ما قيمته؟ ما حقيقته؟ ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير؟! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة، إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق:
«فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» ..
ويرد الرسل.. لا ينكرون بشريتهم بل يقررونها، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار رسل من البشر، وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى:
«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
ويذكر السياق لفظ «يمن» تنسيقاً للحوار مع جو السورة. جو الحديث عن نعم الله. ومنها هذه المنة على من يشاء من عباده. وهي منة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم. ولكن كذلك على البشرية التي تشرف بانتخاب أفراد منها لهذه المهمة العظمى. مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى. وهي منة على البشرية بتذكير الفطرة التي ران عليها الركام لتخرج من الظلمات إلى النور ولتتحرك فيها أجهزة الاستقبال والتلقي فتخرج من الموت الراكد إلى الحياة المتفتحة.. ثم هي المنة الكبرى على البشرية بإخراج الناس من الدينونة للعباد إلى الدينونة لله وحده بلا شريك واستنقاذ كرامتهم وطاقتهم من الذل والتبدد في الدينونة للعبيد..
الذل الذي يحني هامة إنسان لعبد مثله! والتبدد الذي يسخر طاقة إنسان لتأليه عبد مثله! فأما حكاية الإتيان بسلطان مبين، وقوة خارقة، فالرسل يبينون لقومهم أنها من شأن الله. ليفرقوا في مداركهم المبهمة المظلمة بين ذات الله الإلهية، وذواتهم هم البشرية، وليمحصوا صورة التوحيد المطلق الذي لا يلتبس بمشابهة في ذات ولا صفة، وهي المتاهة التي تاهت فيها الوثنيات كما تاهت فيها التصورات الكنسية في المسيحية عند ما تلبست بالوثنيات الإغريقية والرومانية والمصرية والهندية. وكانت نقطة البدء في المتاهة هي نسبة الخوارق إلى عيسى- عليه السلام- بذاته واللبس بين ألوهية الله وعبودية عيسى عليه السلام! «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
وما نعتمد على قوة غير قوته:
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
يطلقها الرسل حقيقة دائمة. فعلى الله وحده يتوكل المؤمن، لا يتلفت قلبه إلى سواه، ولا يرجو عوناً إلا منه، ولا يرتكن إلا إلى حماه.
ثم يواجهون الطغيان بالإيمان، ويواجهون الأذى بالثبات ويسألون للتقرير والتوكيد:
«وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا؟ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
«وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا» ..
إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه. المالئ يديه من وليه وناصره. المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد
(4/2091)
أن ينصر وأن يعين. وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضمن هداية السبيل؟
والقلب الذي يحس أن يد الله- سبحانه- تقود خطاه، وتهديه السبيل، هو قلب موصول بالله لا يخطئ الشعور بوجوده- سبحانه- وألوهيته القاهرة المسيطرة وهو شعور لا مجال معه للتردد في المضي في الطريق، أياً كانت العقبات في الطريق، وأياً كانت قوى الطاغوت التي تتربص في هذا الطريق. ومن ثم هذا الربط في رد الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من الطواغيت ثم إصرارهم على المضي في طريقهم في وجه هذا التهديد.
وهذه الحقيقة- حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه- لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلاً في مواجهة طاغوت الجاهلية والتي تستشعر في أعماقها يد الله- سبحانه- وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة، وتحس الأنس والقربى..
وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل. وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد؟! «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا» ..
«وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» ..
لنصبرن لا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن، ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد..
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وهنا يسفر الطغيان عن وجهه. لا يجادل ولا يناقش ولا يفكر ولا يتعقل، لأنه يحس بهزيمته أمام انتصار العقيدة، فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ! هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية.. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها.
فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية.
لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى..
وعند ما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية..
إن التجمع الجاهلي- بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع
(4/2092)
ولحساب منهجه وتصوره.. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها..
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل، وإن كانوا طغاة متجبرين:
«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائماً بعد مفاصلة الرسل لقومهم.. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها.. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجاً وقيادة وتجمعاً.. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة، ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين، ولتمكن للمؤمنين في الأرض، ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين ... ولا يكون هذا التدخل أبداً والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة..
«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» ..
نون العظمة ونون التوكيد.. كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد. لنهلكن المتجبرين المهددين، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد..
«وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» ..
لا محاباة ولا جزافاً، إنما هي السنة الجارية العادلة:
«ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» ..
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر. وخاف وعيد، فحسب حسابه، واتقى أسبابه، فلم يفسد في الأرض، ولم يظلم في الناس. فهو من ثم يستحق الاستخلاف، ويناله باستحقاق.
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة- قوة الطغاة الظالمين- بالقوة الجبارة الطامة- قوة الجبار المهيمن المتكبر- فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين.
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله- سبحانه- في صف. ودعا كلاهما بالنصر والفتح.. وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
«وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» ..
والمشهد هنا عجيب. إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد. مشهد الخيبة في هذه الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها، وهو يُسقى من الصديد السائل من الجسوم. يُسقاه بعنف فيتجرعه غصباً وكرهاً، ولا يكاد يسيغه، لقذارته ومرارته، والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت، ليستكمل عذابه. ومن ورائه عذاب غليظ..
(4/2093)
إنه مشهد عجيب، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروّع الفظيع.
وتشترك كلمة «غليظ» في تفظيع المشهد، تنسيقاً له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين.
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلاً مصوراً في مشهد يضرب الذين كفروا ولفتة إلى قدرة الله على أن يُذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد.. ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى، وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض، مخايلاً بالساحة الأخرى:
«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلاً. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بدداً.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار. فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله.. مفككة كالهباء والرماد، لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر. ويلتقي معهما التعقيب:
«ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف.. إلى بعيد!! ثم يلتقي مع مشهد الرماد المتطاير ظل آخر في الآية التالية، التي يلتفت فيها السياق من مصائر المكذبين السابقين إلى المكذبين من قريش، يهددهم بإذهابهم والإتيان بخلق جديد:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» ..
والانتقال من حديث الإيمان والكفر، ومن قضية الرسل والجاهلية إلى مشهد السماوات والأرض.. هو انتقال طبيعي في المنهج القرآني كما أنه انتقال طبيعي في مشاعر الفطرة البشرية يدل على ربانية هذا المنهج القرآني..
إن بين فطرة الكائن الإنساني وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة! .. إن فطرته تتلاقى مباشرة مع السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه إليه والتقاط إيقاعاته ودلالاته! والذين يرون هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الإيقاعات وهذه الإيحاءات هم أفراد معطلو الفطرة.
في كيانهم خلل تعطلت به أجهزة الاستقبال الفطرية. كما تصاب الحواس بالتعطل نتيجة لآفة تصيبها.. كما تصاب العين بالعمى، والأذن بالصمم، واللسان بالبكم! .. إنهم أجهزة تالفة لا تصلح للتلقي ومن باب
(4/2094)
أولى لا تصلح للقيادة والزعامة! .. ومن هؤلاء كل أصحاب التفكير المادي- الذي يسمونه «المذاهب العلمية» كذباً وافتراء.. إن العلم لا يتفق مع تعطل أجهزة الاستقبال الفطرية وفساد أجهزة الاتصال الإنسانية بالكون كله! إنهم الذين يسميهم القرآن بالعمْي.. وما يمكن أن تقام الحياة الإنسانية على مذهب أو رأي أو نظام يراه أعمى!!! إن خلق السماوات والأرض بالحق يوحي بالقدرة كما يوحي بالثبات. فالحق ثابت مستقر حتى في جرسه اللفظي.. ذلك في مقابل الرماد المتطاير إلى بعيد. وفي مقابل الضلال البعيد.
وفي ضوء مصير المعاندين الجبارين في معركة الحق والباطل يجيء التهديد:
«إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» ..
والقادر على خلق السماوات والأرض، قادر على استخلاف جنس غير هذا الجنس في الأرض. واستخلاف قوم مكان قوم من أقوام هذا الجنس. وظل الذهاب بالقوم يتسق من بعيد مع ظل الرماد المتطاير الذاهب إلى الفناء.
«وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» ..
وخلق السماوات والأرض شاهد. ومصارع المكذبين من قبل شاهدة. والرماد المتطاير شاهد من بعيد! ألا إنه الإعجاز في تنسيق المشاهد والصور والظلال في هذا القرآن! ثم نرقى إلى أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق. فلقد كنا منذ لحظة مع الجبارين المعاندين. ولقد خاب كل جبار عنيد. وكانت صورته في جهنم تخايل له من ورائه وهو بعد في الدنيا. فالآن نجدهم هناك، حيث يتابع السياق خطواته بالرواية الكبرى- رواية البشرية ورسلها- في المشهد الأخير. وهو مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين. وبين الشيطان والجميع:
«وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً- فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قالُوا: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ. سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.»
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» .
لقد انتقلت الرواية.. رواية الدعوة والدعاة، والمكذبين والطغاة.. انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:
«وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» ..
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين. ومعهم الشيطان.. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات.. برزوا «جميعاً» مكشوفين. وهم مكشوفون لله دائماً. ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون
(4/2095)
لا يحجبهم حجاب، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق.. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار، وبدأ الحوار:
«فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟» ..
والضعفاء هم الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله. والضعف ليس عذراً، بل هو الجريمة فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحريه- التي هي ميزته ومناط تكريمه- أو أن ينزل كارهاً. والقوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال! من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟
لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان! إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان! إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت.
فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان! إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء.. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة!! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم:
«إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ؟ ..
وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟! أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة، وتعريضهم إياهم للعذاب؟
إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال! ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال:
«قالُوا: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ! سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ!» ..
وهو رد يبدو فيه البرم والضيق:
«لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» ..
فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد ونضللكم. ولو هدانا الله لقدناكم
(4/2096)
إلى الهدى معنا، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار. وهم إنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله.. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي، فيعلنونهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله.
لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص:
«سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» ! لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجباً. نرى الشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، او مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب:
«وَقالَ الشَّيْطانُ- لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ- إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ. ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
الله! الله! أما إن الشيطان حقاً لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار..
إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة..
هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه- وقد قضي الأمر- هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان:
«إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ» ! ثم يخزهم وخزة أخرى بتعبيرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة وتركوا دعوة الحق من الله:
«وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي» ! ثم يؤنبهم، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم. يؤنبهم على أن أطاعوه!:
«فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» ! ثم يخلي بهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ:
«ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» ..
وما بيننا من صلة ولا ولاء! ثم يبرأ من إشراكهم به ويكفر بهذا الإشراك:
«إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» ! ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه:
(4/2097)
«إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ! فيا للشيطان! ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوه! وقبل أن يسدل الستار نبصر على الضفة الأخرى بتلك الأمة المؤمنة، الأمة الفائزة، الأمة الناجية:
«وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
ويسدل الستار..
فيا له من مشهد! ويا لها من خاتمة لقصة الدعوة والدعاة مع المكذبين والطغاة! وفي ظل هذه القصة بفصولها جميعاً. في الدنيا حيث وقفت أمة الرسل في مواجهة الجاهلية الظالمة:
«وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ. يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» ..
وفي الآخرة حيث شاهدنا ذلك المشهد الفريد: مشهد الذين استكبروا والضعفاء والشيطان، مع ذلك الحوار العجيب..
في ظل تلك القصة ومصائر الأمة الطيبة، والفرقة الخبيثة، يضرب الله مثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة فتكون خاتمة كتعليق الراوية على الرواية بعد إسدال الستار:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ.. «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ..
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ... والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.. هو مشهد مأخوذ من جو السياق، ومن قصة النبيين والمكذبين، ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص. وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح، وهي تؤتي أكلها كل فترة، أكلاً جنياً طيباً.. نبياً من الأنبياء.. يثمر إيماناً وخيراً وحيوية..
ولكن المثل- بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة- أبعد من هذا آفاقاً، وأعرض مساحة، وأعمق حقيقة.
إن الكلمة الطيبة- كلمة الحق- لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان- وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان- سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل- وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء- مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن..
وإن الكلمة الخبيثة- كلمة الباطل- لكالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى وتتشابك ويخيل إلى بعض
(4/2098)
الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء.
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة، ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان.
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي. مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق.. والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به- فقلما يوجد الشر الخالص- وعند ما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.
إن الخير بخير! وإن الشر بشر! «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض، ولكن الناس كثيراً ما ينسونه في زحمة الحياة.
وفي ظل الشجرة الثابتة، التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه، فيرسمها: أصلها ثابت مستقر في الأرض، وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر، قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات.
في ظل الشجرة الثابتة مثلاً للكلمة الطيبة: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» ..
وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: «وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» .. فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق! يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر، الثابتة في الفطر، المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة. ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول وبوعده للحق بالنصر في الدنيا، والفوز في الآخرة.. وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة، لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل، ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب.
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم (والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب) وبعدهم عن النور الهادي، واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله.. يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود.
«وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ..
بإرادته المطلقة، التي تختار الناموس، فلا تتقيد به ولكنها ترضاه. حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة، ولا يقوم في طريقها عائق والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء.
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات. وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء، والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات، والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة، تحتوي دائماً على الحقيقة الكبرى.. حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل، وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير، وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار.
والآن نقف وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية. وهي الحقائق التي
(4/2099)
أشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني، ونرى انها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة:
إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير.. إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل الله الكرام، داعين بحقيقة واحدة، جاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد.. كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة وكلهم لا يدعو مع الله أحداً، ولا يتوكل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سنداً إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في الله الواحد- إذن- ليس كما يزعم «علماء الدين المقارن» أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد ...
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك «العلماء» : إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حيناً بعد حين. حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولاً لدى جماهير الناس مما كانت، بفعل توالي رسالات التوحيد وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ... لو قال أولئك «العلماء» قولاً كهذا لساغ.. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا- حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! - ومن الرغبة الخفية- الواعية أو غير الواعية- في تحطيم المنهج الديني في التفكير وإثبات أن الدين لم يكن قط وحياً من عند الله إنما كان اجتهاداً من البشر، ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء.. ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ويسمى مع ذلك «علماً» ينخدع به الكثيرون! وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا «العلم» فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه، ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة وأن يدلي بقول يصطدم اصطداماً مباشراً مع مقررات دينه، ومع منهجه الواضح في هذا الشان الخطير «1» ..
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة- إذن- بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة، مواجهة واحدة- كما يعرضها السياق القرآني مغضياً عن الزمان والمكان، مبرزاً للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان- وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل! إنها حقيقة تستوقف النظر حقاً! .. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان.. إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات..
__________
(1) يراجع ما كتب عن هذه القضية في الجزء الثاني عشر ص 1882- 1886 من هذه الطبعة المنقحة.
(4/2100)
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ومن تأليه غير الله. أو من ربوبية غير الله- وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية- فسواء كان الاعتقاد قائماً على تعدد الآلهة أو كان قائماً على توحيد الإله مع تعدد الأرباب- أي المتسلطين- فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى! ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة، وإخلاص الدين لله- أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية، أي الحاكمية والسلطان- ومن ثم تصطدم اصطداماً مباشراً بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية وتصبح بذاتها خطراً على وجود الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص، يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد، ومن ناحية القيادة، ومن ناحية الولاء.. الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان..
وعند ما يشعر التجمع الجاهلي- بوصفه كياناً عضوياً واحداً متسانداً- بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له..
فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام! إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماماً للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر. فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة، أو تعدد الأرباب، ومن ثم يدين فيه العباد للعباد. والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد..
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي، في أول الأمر وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح، فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام.. ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! .. إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاحتياج ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد! وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! .. إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة وكذلك لم يخدع الرسل الكرام- صلوات الله وسلامه عليهم- أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة..
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ..
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص.
إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم، ويندمجوا في تجمعهم، ويذوبوا في هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيداً وينفوهم من أرضهم..
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي، ولا أن يذوبوا فيه، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص.. هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي.. ولم يقولوا- كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام.. ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات-: حسناً! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
(4/2101)
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي، لا بد ان يتبعه حتماً تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه..
وليس في ذلك اختيار.. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات.. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساساً بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادماً للتجمع الجاهلي لا خادماً لإسلامه كما يظن بعض الأغرار «1» ! ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال. وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم.. فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته.. وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين.. وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله، وهم واعون مقدرون..
وأخيراً.. نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان، وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان.. جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق، الواثق المطمئن، الرصين المكين:
«قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟» ..
... «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكباً موحداً في مواجهة الجاهلية الموحدة ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم، من وراء الزمان والمكان، ومن وراء الأجناس والأقوام! ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام، والحق الكامن في كيان هذا الوجود:
«قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» ..
«وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا؟» ..
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» ..
وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة، والحق الكامن في الوجود كله. ويبدو أنه حق واحد موصول بالله الحق، ثابت وطيد عميق الجذور: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ» ..
وأن ما عداه هو الباطل الزائل «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» ..
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» في كتاب «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(4/2102)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
كذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده:
«وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد، لا تبلغ الإشارة مداه، ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه ...
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
(4/2103)
يبدأ هذا الشوط الثاني من نهاية الشوط الأول، قائماً عليه، متناسقاً معه، مستمداً منه.
لقد تضمن الشوط الأول رسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. ورسالة موسى- عليه السلام- لقومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويذكرهم بأيام الله.
فبين لهم وذكرهم بنعمة الله عليهم، وأعلن لهم ما تأذن الله به: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.. ثم عرض عليهم قصة النبوات والمكذبين. بدأها ثم توارى عن السياق وتابعت القصة أدوارها ومشاهدها حتى انتهت بالكافرين إلى ذلك الموقف، الذي يستمعون فيه من الشيطان عظته البليغة! حيث لا تنفع العظات! فالآن يعود السياق إلى المكذبين من قوم محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد ما عرض عليهم ذلك الشريط الطويل- أولئك الذين أنعم الله عليهم- فيما أنعم- برسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويدعوهم ليغفر الله لهم، فإذا هم يكفرون النعمة، ويردونها، ويستبدلون بها الكفر، يؤثرونه على الرسول وعلى دعوة الإيمان..
ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بالتعجيب من أمر هؤلاء الذين يبدلون نعمة الله كفراً، ويقودون قومهم إلى دار البوار، كما قاد من قبلهم أتباعهم إلى النار. في قصة الرسل والكفار.
(4/2104)
ثم يستطرد إلى بيان نعم الله على البشر في أضخم المشاهد الكونية البارزة. ويقدم نموذجاً لشكر النعمة:
إبراهيم الخليل- بعد أن يأمر الذين آمنوا بلون من ألوان الشكر هو الصلاة والبر بعباد الله- قبل ان يأتي يوم لا تربو فيه الأموال. يوم لا بيع فيه ولا خِلال.
فأما الذين كفروا فليسوا بمتروكين عن غفلة ولا إهمال، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. وأما وعد الله لرسله فهو واقع مهما يمكر الذين كفروا وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال..
وهكذا يتماسك الشوط الثاني مع الشوط الأول ويتناسق.
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها، وَبِئْسَ الْقَرارُ؟! «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. قُلْ: تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» ..
ألم تر إلى هذا الحال العجيب. حال الذين وهبوا نعمة الله، ممثلة في رسول وفي دعوة إلى الإيمان، وفي قيادة إلى المغفرة، وإلى مصير في الجنة.. فإذا هم يتركون هذا كله ويأخذون بدله «كفراً» ! أولئك هم السادة القادة من كبراء قومك- مثلهم مثل السادة القادة من كل قوم- وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم، وأنزلوهم بها- كما شاهدنا منذ قليل في الأقوام من قبل! - وبئس ما أحلوهم من مستقر، وبئس القرار فيها من قرار! ألم تر إلى تصرف القوم العجيب، بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم- وقد عرضه القرآن عليهم عرض رؤية في مشاهد تلك القصة التي مضى بها الشوط الأول من السورة. عرضه كأنه وقع فعلاً. وإنه لواقع. وما يزيد النسق القرآني على أن يعرض ما تقرر وقوعه في صورة الواقع المشهود.
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفراً. وكانت دعوته إلى التوحيد، فتركوها:
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ» ..
جعلوا لله أقراناً مماثلين يعبدونهم كعبادته، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه! جعلوا لله هذه الأنداد لِيِضِلُّوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل.
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمداً إلى تضليل قومهم عن سبيل الله، باتخاذ هذه الأنداد من دون الله. فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان. لا في زمن الجاهلية الأولى، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق، في أية صورة من صور الانحراف، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله.. عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطراً على الكبراء يتقونه بكل وسيلة. ومنها كان اتخاذ الآلهة أنداداً لله في زمن الجاهلية الأولى. ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر، تأمر بما لم يأمر الله به، وتنهى عما لم ينه عنه الله. فإذا واضِعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله، وفي واقع الحياة! فيا أيها الرسول «قل» للقوم: «تمتعوا» .. تمتعوا قليلاً في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله. والعاقبة معروفة: «فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» ..
(4/2105)
ودعهم. وانصرف عنهم إلى «لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» . انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة.
الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها، ولا يستبدلون بها الكفر. انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله:
«قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا: يُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» ..
قل لعبادي الذين آمنوا: يشكروا ربهم بإقامة الصلاة. فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله. وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سراً وعلانية. سراً حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين، فلا يكون الإنفاق تفاخراً وتظاهراً ومباهاة. وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع. وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال.
قل لهم: ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة، ولا تنفع كذلك فيه صداقة، إنما ينفع المدخر من الأعمال:
«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» ..
وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى. وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر: السماوات والأرض. الشمس والقمر. الليل والنهار. الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض. البحر تجري فيه الفلك، والأنهار تجري بالأرزاق.. هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون: إن الإنسان لظلوم كفار. يبدل نعمة الله كفراً، ويجعل لله أنداداً، وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان:
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
إنها حملة. إنها سياط تلذع الوجدان ... حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار.. وسياط ذات إيقاع، وذات رنين، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار! إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضاً لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة «ميتافيزيقية» ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه..
إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق.
والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء
(4/2106)
بالقياس إلى الإنسان: خط السماوات والأرض. يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابته من الأرض بهذا الماء. فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق.. ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد.
خط الشمس والقمر. فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر: خط الليل والنهار.. ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها:
«وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» ..
إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل. في مشهد الكون ومعرض الآلاء.
أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء، والأرض تتلقاه، والثمرات تخرج من بينهما. والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة. والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان. والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران. والليل والنهار يتعاقبان.. أفكل أولئك للإنسان؟ ثم لا يشكر ولا يذكر؟
«إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ! «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ..
وبعد ذلك يجعلون لله أنداداً، فكيف يكون الظلم في التقدير، والظلم في عبادة خلق من خلقه في السماوات أو في الأرض؟
«وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» ..
والزرع مورد الرزق الأول، ومصدر النعمة الظاهر. والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج الثمر، وموافقة هذا كله للإنسان. وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء. والناس يسمعون كلمة «الرزق» فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال. ولكن مدلول «الرزق» أوسع من ذلك كثيراً، وأعمق من ذلك كثيراً.. إن أقل «رزق» يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لو لاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد. ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله..
«وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» ..
بما أودع في العناصر من خصائص تُجري الفلك على سطح الماء وبما اودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان.
«وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ» ..
تجري فتجري الحياة، وتفيض فيفيض الخير، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات..
كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان..
«وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ» ..
لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار.. ولكنه ينتفع بآثارهما،
(4/2107)
ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها. فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها.
«وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» ..
سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم او ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان فضلاً على فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه.
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة. ففي كل خط من النقط ما لا يحصى.
ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:
«وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» ..
من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع ...
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» ..
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان:
بدء ونهاية. وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة- فوق كثرتها- فلا يحيط بها إدراك إنسان..
وبعد ذلك كله تجعلون لله أنداداً، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفراً..
«إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» !!! وحين يستيقظ ضمير الإنسان، ويتطلع إلى الكون من حوله، فإذا هو مسخر له، إما مباشرة، وإما بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم ويتأمل فيما حوله فإذا هو صديق له برحمة الله، معين بقدرة الله، ذلول له بتسخير الله.. حين يستيقظ ضمير الإنسان فيتطلع ويتأمل ويتدبر. لا بد يرتجف ويخشع ويسجد ويشكر، ويتطلع دائماً إلى ربه المنعم: حين يكون في الشدة ليبدله منها يسراً، وحين يكون في الرخاء ليحفظ عليه النعماء.
والنموذج الكامل للإنسان الذاكر الشاكر هو أبو الأنبياء. إبراهيم. الذي يظلل سمته هذه السورة، كما تظللها النعمة وما يتعلق بها من شكران او كفران.. ومن ثم يأتي به السياق في مشهد خاشع، يظلله الشكر، وتشيع فيه الضراعة، ويتجاوب فيه الدعاء، في نغمة رخية متموجة، ذاهبة في السماء.
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً، وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ..
إن السياق يصور إبراهيم- عليه السلام- إلى جوار بيت الله الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش، فإذا بها تكفر فيه بالله، مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله! فيصوره في هذا المشهد الضارع الخاشع
(4/2108)
الذاكر الشاكر، ليرد الجاحدين إلى الاعتراف، ويرد الكافرين إلى الشكر، ويرد الغافلين إلى الذكر، ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون.
ويبدأ إبراهيم دعاءه:
«رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» ..
فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه. والسياق يذكرها هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمناً، ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة، وجعلوا لله أنداداً، وصدوا عن سبيل الله. ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن:
«وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» ..
ويبدو في دعوة إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربه، والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه. فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه، يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه. ثم ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله. وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده. فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء. ويخرج من الدينونة المذلة لشتى الأرباب، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد.. إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربه ليحفظها عليه، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام.
يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير:
«رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» ..
ثم يتابع الدعاء.. فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني، ينتسب إلي ويلتقي معي في الآصرة الكبرى، آصرة العقيدة:
«فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي» ..
وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك:
«وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب بل لا يذكر العذاب، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته. ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم! ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم، ويذكر الوظيفة التي اسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها:
«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» ..
لماذا؟
«رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ» ..
(4/2109)
فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان.
«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» ..
وفي التعبير رقة ورفرفة، تصور القلوب رفافة مجنحة، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندِّي الجدب برقة القلوب..
«وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» ..
عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج..لماذا؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا؟ نعم! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور:
«لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ..
وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام.. إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله. ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويّها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض.. إنه شكر الله المنعم الوهاب.
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم.. فلا صلاة قائمة لله، ولا شكر بعد استجابة الدعاء، وهويّ القلوب والثمرات! ويعقب إبراهيم على دعاء الله لذريته الساكنة بجوار بيته المحرم لتقيم الصلاة وتشكر الله.. يعقب على الدعاء بتسجيله لعلم الله الذي يطلع على ما في قلوبهم من توجه وشكر ودعاء. فليس القصد هو المظاهرات والأدعية والتصدية والمكاء. إنما هو توجه القلب إلى الله الذي يعلم السر والجهر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء:
«رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ..
ويذكر إبراهيم نعمة الله عليه من قبل فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
وهبة الذرية على الكبر أوقع في النفس. فالذرية امتداد. وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد. وإن إبراهيم ليحمد الله، ويطمع في رحمته:
«إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» .
ويعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديماً للشكر. الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق، أو يصرفه عنها صارف، ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه:
«رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» ..
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش. وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه، ويدعو الله ليوفقه إليه. وهم ينأون عنها ويعرضون، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده! ويختم إبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين جميعاً، يوم يقوم الحساب، فلا ينفع إنساناً إلا عمله ثم مغفرة الله في تقصيره:
«رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ..
وينتهي المشهد الطويل: مشهد الدعاء الخاشع الضارع. ومشهد تعداد النعم والشكر عليها.. في إيقاع موسيقي
(4/2110)
متموج رخي.. ينتهي بعد أن يخلع على الموقف كله ظلاً وديعاً لطيفاً، تهفو القلوب معه إلى جوار الله، وتذكر القلوب فيه نعم الله. ويرتسم إبراهيم أبو الأنبياء نموذجاً للعبد الصالح الذاكر الشاكر، كما ينبغي أن يكون عباد الله، الذين وجه الحديث إليهم قبيل هذا الدعاء..
ولا يفوتنا أن نلمح تكرار إبراهيم- عليه السلام- في كل فقرة من فقرات دعائه الخاشع المنيب لكلمة:
«ربنا» أو «ربِّ» . فإن لهجان لسانه بذكر ربوبية الله له ولبنيه من بعده ذات مغزى.. إنه لا يذكر الله- سبحانه- بصفة الألوهية، إنما يذكره بصفة الربوبية. فالألوهية قلما كانت موضع جدال في معظم الجاهليات- وبخاصة في الجاهلية العربية- إنما الذي كان دائماً موضع جدل هو قضية الربوبية. قضية الدينونة في واقع الحياة الأرضية. وهي القضية العملية الواقعية المؤثرة في حياة الإنسان. والتي هي مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية وبين التوحيد والشرك في عالم الواقع.. فإما أن يدين الناس لله فيكون ربهم وإما أن يدينوا لغير الله فيكون غيره ربهم.. وهذا هو مفرق الطريق بين التوحيد والشرك وبين الإسلام والجاهلية في واقع الحياة.
والقرآن وهو يعرض على مشركي العرب دعاء أبيهم إبراهيم والتركيز فيه على قضية الربوبية كان يلفتهم إلى ما هم فيه من مخالفة واضحة لمدلول هذا الدعاء! ثم يكمل السياق الشوط مع «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» .. وهم ما يزالون بعد في ظلمهم لم يأخذهم العذاب. والذين أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يقول لهم: «تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» .. وأن ينصرف إلى عباد الله المؤمنين يأمرهم بالصلاة والإنفاق سراً وعلانية «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» ..
يكمل السياق الشوط ليكشف عما أعد للكافرين بنعمة الله ومتى يلقون مصيرهم المحتوم وذلك في مشاهد متعاقبة من مشاهد القيامة، تزلزل الأقدام والقلوب:
«وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» ..
والرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون. ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون، ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعاً بهم في هذه الحياة الدنيا. فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها. ولا فكاك منها. أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك. ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول.. مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء. رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكاً. يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم. وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه، فهي هواء خواء..
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه. حيث يقفون هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب. الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب:
«إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» ..
(4/2111)
فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك.. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار..
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك. فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار يومئذ ولا فكاك.. وهنا يرسم مشهداً آخر لليوم الرعيب المنظور:
«وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟! وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ، وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ؟» ..
أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفاً، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء، يقولون:
«ربنا» ..
الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل ويجعلون له أنداداً! «أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» ..
وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون. وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها. فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة:
«أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟!» ..
فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزولوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلاً بارزاً للظالمين ومصيرهم المحتوم:
«وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» ..
فكان عجيباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم، خالية منهم، وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك:
«ما لكم من زوال» ! وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرجاء.
وإن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين. فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم. وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم. ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين، وتصور مصائرهم للناظرين. ثم يؤخذون إخذة الغابرين، ويلحقون بهم وتخلو منهم الديار بعد حين! ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة. فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير:
«وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ.. وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» ..
إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال. فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافيا
(4/2112)
وليس بعيداً عن متناول القدرة. بل إنه لحاضر «عند الله» يفعل به كيفما يشاء.
«فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» ..
فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر:
«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» ..
لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو.. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو بالقياس إلى الله تعالى، يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقاً لعدل الله في الجزاء.
وسيكون ذلك لا محالة:
«يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» ..
ولا ندري نحن كيف يتم هذا، ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السماوات، ولا مكانها ولكن النص يلقي ظلال القدرة القادرة التي تبدل الأرض وتبدل السماوات في مقابل ذلك المكر الذي مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير.
وفجأة نرى ذلك قد تحقق:
«وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» ..
وأحسوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق. ليسوا في دورهم وليسوا في قبورهم. إنما هم في العراء أمام الواحد القهار.. ولفظة «القهار» هنا تشترك في ظل التهديد بالقوة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال.
ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت:
«وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
فمشهد المجرمين: اثنين اثنين مقرونين في الوثاق، يمرون صفاً وراء صف.. مشهد مذل دال كذلك على قدرة القهار. ويضاف إلى قرنهم في الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابلية للالتهاب، وهي في ذات الوقت قذرة سوداء.. «من قطران» .. ففيها الذل والتحقير، وفيها الإيحاء بشدة الاشتعال بمجرد قربهم من النار! «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
فهو مشهد العذاب المذل المتلظي المشتعل جزاء المكر والاستكبار..
«لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل. إن الله سريع الحساب. فالسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم، ويعوق انتصار أحد عليهم. فها هم أولاء يجزون ما كسبوا ذلاً وألماً وسرعة حساب! وفي النهاية تختم السورة بمثل ما بدأت، ولكن في إعلان عام جهير الصوت، عالي الصدى، لتبليغ البشرية كلها في كل مكان:
(4/2113)
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .
إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار، هي أن يعلم الناس «أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .. فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة.
وليس المقصود بطبيعة الحال مجرد العلم، إنما المقصود هو إقامة حياتهم على قاعدة هذا العلم.. المقصود هو الدينونة لله وحده، ما دام أنه لا إله غيره. فالإله هو الذي يستحق أن يكون رباً- أي حاكماً وسيداً ومتصرفاً ومشرعاً وموجهاً- وقيام الحياة البشرية على هذه القاعدة يجعلها تختلف اختلافاً جوهرياً عن كل حياة تقوم على قاعدة ربوبية العباد للعباد- أي حاكمية العباد للعباد ودينونة العباد للعباد- وهو اختلاف يتناول الاعتقاد والتصور، ويتناول الشعائر والمناسك كما يتناول الأخلاق والسلوك، والقيم والموازين وكما يتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكل جانب من جوانب الحياة الفردية والجماعية على السواء.
إن الاعتقاد بالألوهية الواحدة قاعدة لمنهج حياة متكامل وليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر. وحدود العقيدة أبعد كثيراً من مجرد الاعتقاد الساكن.. إن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة.. وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام هي قضية عقيدة. كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة. فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء..
ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن قبل أن ندرك حدود العقيدة في هذا الدين، وقبل أن ندرك مدلولات:
«شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» على هذا المستوى الواسع البعيد الآماد. وقبل أن نفهم مدلول: العبادة لله وحده ونحدده بأنه الدينونة لله وحده لا في لحظات الصلاة، ولكن في كل شأن من شؤون الحياة! إن عبادة الأصنام التي دعا إبراهيم- عليه السلام- ربه أن يجنبه هو وبنيه إياها، لا تتمثل فقط في تلك الصورة الساذجة التي كان يزاولها العرب في جاهليتهم، أو التي كانت تزاولها شتى الوثنيات في صور شتى، مجسمة في أحجار أو أشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو نار، أو أرواح أو أشباح ...
إن هذه الصور الساذجة كلها لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للاصنام من دون الله. والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور الساذجة يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها ويمنعنا من الرؤية الصحيحة لحقيقة ما يعتور البشرية من صور الشرك والجاهلية الجديدة! ولا بد من التعمق في إدراك طبيعة الشرك وعلاقة الأصنام بها كما أنه لا بد من التعمق في معنى الأصنام، وتمثل صورها المتجددة مع الجاهليات المستحدثة! إن الشرك بالله- المخالف لشهادة أن لا إله إلا الله- يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة في كل شأن من شؤون الحياة خالصة لله وحده. ويكفي أن يدين العبد لله في جوانب من حياته، بينما هو يدين في جوانب أخرى لغير الله، حتى تتحقق صورة الشرك وحقيقته.. وتقديم الشعائر ليس إلا صورة واحدة من صور الدينونة الكثيرة.. والأمثلة الحاضرة في حياة البشر اليوم تعطينا المثال الواقعي للشرك في أعماق طبيعته.. إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر. بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
(4/2114)
لشرائع من عند غير الله. ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله.
ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر تفرض عليه هذه الأخلاق والتقاليد والعادات والأزياء- مخالفة لشرع الله وأمره- إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته ويخالف عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في أخص حقيقتها.. وهذا ما يغفل عنه الناس اليوم فيزاولونه في ترخص وتميع، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون في كل زمان ومكان! والأصنام.. ليس من الضروري أن تتمثل في تلك الصور الأولية الساذجة.. فالأصنام ليست سوى شعارات للطاغوت، يتخفى وراءها لتعبيد الناس باسمها، وضمان دينونتهم له من خلالها..
إن الصنم لم يكن ينطق أو يسمع أو يبصر.. إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها يتمتم حولها بالتعاويذ والرقى.. ثم ينطق باسمها بما يريد هو أن ينطق لتعبيد الجماهير وتذليلها! فإذا رفعت في أي أرض وفي أي وقت شعارات ينطق باسمها الحكام والكهان، ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال ... فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها! إذا رفعت «القومية» شعاراً، أو رفع «الوطن» شعاراً، أو رفع «الشعب» شعاراً، أو رفعت «الطبقة» شعاراً ... ثم أريد الناس على عبادة هذه الشعارات من دون الله وعلى التضحية لها بالنفوس والأموال والأخلاق والأعراض. بحيث كلما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعليماته مع مطالب تلك الشعارات ومقتضياتها، نحيت شريعة الله وقوانينه وتوجيهاته وتعاليمه، ونفذت إرادة تلك الشعارات- أو بالتعبير الصحيح الدقيق:
إرادة الطواغيت الواقفة وراء هذه الشعارات- كانت هذه هي عبادة الأصنام من دون الله.. فالصنم ليس من الضروري أن يتمثل في حجر أو خشبة ولقد يكون الصنم مذهباً أو شعاراً! إن الإسلام لم يجىء لمجرد تحطيم الأصنام الحجرية والخشبية! ولم تبذل فيه تلك الجهود الموصولة، من موكب الرسل الموصول ولم تقدم من أجله تلك التضحيات الجسام وتلك العذابات والآلام، لمجرد تحطيم الأصنام من الأحجار والأخشاب! إنما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة.. ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة، وتقرير ما إذا كانت توحيداً أم شركاً؟ دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام! والذين يظنون أنفسهم في «دين الله» لأنهم يقولون بأفواههم «نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» ، ويدينون لله فعلاً في شؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث.. بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله- وكثرتها مما يخالف مخالفة صريحة شريعة الله- ثم هم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم- أرادوا أم لم يريدوا- ليحققوا ما تتطلبه منهم الأصنام الجديدة. فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام، نبذت أوامر الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام ...
الذين يظنون أنفسهم «مسلمين» وفي «دين الله» وهذا حالهم.. عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه من الشرك العظيم!!!
(4/2115)
إن دين الله ليس بهذا الهزل الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم «مسلمين» في مشارق الأرض ومغاربها! إن دين الله منهج شامل لجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها. والدينونة لله وحده في كل تفصيل وكل جزئية من جزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها- فضلاً على أصولها وكلياتها- هي دين الله، وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه.
وإن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه..
وإن عبادة الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات! ولينظر الناس في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ ولمن الطاعة والاتباع والامتثال؟
.. فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله. وإن كان لغير الله- معه أو من دونه- فهم في دين الطواغيت والأصنام.. والعياذ بالله..!
«هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
(4/2116)
انتهى الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر مبدوءا بسورة الحجر
(4/2117)
بسم الله الرّحمن الرّحيم سورتا الحجر والنّحل الجزء الرابع عشر
(4/2119)
(15) سورة الحجر مكيّة وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكية بجملتها، نزلت بعد سورة يوسف، في الفترة الحرجة، ما بين «عام الحزن» وعام الهجرة.. تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود وفي تقديم سورة يوسف بما فيه الكفاية..
وهذه السورة عليها طابع هذه الفترة، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية.. إنها تواجه واقع تلك الفترة مواجهة حركية وتوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة معه، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا كبيرا. كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته.
ولما كانت حركة الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت، بسبب موقف قريش العنيد منها ومن النبي- صلى الله عليه وسلم- والعصبة المؤمنة معه حيث اجترأت قريش على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب. واشتد استهزاؤها بدعوته كما اشتد إيذاؤها لصحابته.. فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين المكذبين ويتوعدهم ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم ويكشف للرسول- صلى الله عليه وسلم- عن علة تكذيبهم وعنادهم وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه، لكنها ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات. ومن ثم يسلي الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويواسيه ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه والصدع به بقوة في مواجهة الشرك وأهله والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة، وطول الطريق! ومن هنا تلتقي هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك الفترة وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية. أي الحاجات والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية.
ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة، وذلك كالذي تواجهه الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان.
ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن.. سمة الواقعية الحركية.. لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه..
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت
(4/2121)
نزول النص القرآني.. لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي ويواجه حالة واقعة كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى- صلوات الله وسلامه عليه- والعصبة المسلمة معه.. من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى- في سبيل الله- به..
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى.. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية.. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. على النحو الذي أسلفنا.. وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة! وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد كما كانت الحركة الأولى- على عهد محمد صلى الله عليه وسلم- تواجه جاهلية العرب بمثل هذه المحاولة قبل أن تقوم الدولة في المدينة وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس.
نحن اليوم في شبه هذا الموقف لا في مثله، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية..
نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة.. ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة.. وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي «اجتهادا» جديدا في «فقه الحركة» يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا..
هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة.. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة، وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه ... إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي! .. هذا النوع من الفقه يأتي في حينه وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك! إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء! ونعود إلى استكمال الحديث عن موضوعات السورة:
محور هذه السورة الأول: هو إبراز طبيعة المكذبين بهذا الدين ودوافعهم الأصيلة للتكذيب، وتصوير المصير المخوف الذي ينتظر الكافرين المكذبين.. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات، متنوعة
(4/2122)
الموضوع والمجال، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل. سواء في ذلك القصة، ومشاهد الكون، ومشاهد القيامة، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه.
وإذا كان جو سورة الرعد يذكّر بجو سورة الأنعام. فإن جو هذه السورة- الحجر- يذكر بجو سورة الأعراف. - وابتداؤها كان بالإنذار، وسياقها كله جاء مصداقا للإنذار- فهنا كذلك في سورة الحجر يتشابه البدء والسياق، مع اختلاف في الطعم والمذاق! إن الإنذار في مطلع سورة الأعراف صريح:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ..»
ثم ترد فيها قصة آدم وإبليس ويتابعها السياق حتى تنتهي الحياة الدنيا، ويعود الجميع إلى ربهم، فيجدوا مصداق النذير.. ويلي القصة عرض لبعض مشاهد الكون: السماوات والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره، والرياح والسحاب والماء والثمرات.. ويلي ذلك قصص قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى: وكلها تصدق النذير..
وهنا في سورة الحجر يجيء الإنذار كذلك في مطلعها، ولكن ملفعا بظل من التهويل والغموض يزيد جوها رهبة وتوقعا للمصير:
«رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ..
ثم يعرض السياق بعض مشاهد الكون: السماء وما فيها من بروج، والأرض الممدودة والرواسي الراسخة، والنبت الموزون، والرياح اللواقح، والماء والسقيا، والحياة والموت والحشر للجميع.. يلي ذلك قصة آدم وإبليس، منتهية بمصير أتباعه ومصير المؤمنين.. ومن ثم لمحات من قصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح منظورا فيها إلى مصائر المكذبين، وملحوظا فيها أن مشركي العرب يعرفون الآثار الدارسة لهذه الأقوام، وهم يمرون عليها في طريقهم إلى الشام.
فالمحور في السورتين واحد، ولكن شخصية كل منهما متميزة وإيقاعهما يتشابه ولا يتماثل، على عادة القرآن الكريم في تناوله لموضوعاته الموحدة، بطرق شتى، تختلف وتتشابه، ولكنها لا تتكرر أبدا ولا تتماثل! ويمكن تقسيم سياق السورة هنا إلى خمس جولات، أو خمسة مقاطع، يتضمن كل منها موضوعا أو مجالا:
تتضمن الجولة الأولى بيان سنة الله التي لا تتخلف في الرسالة والإيمان بها والتكذيب. مبدوءة بذلك الإنذار الضمني الملفع بالتهويل:
«رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
ومنتهية بأن المكذبين إنما يكذبون عن عناد لا عن نقص في دلائل الإيمان:
(4/2123)
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!» ..
وأنهم جميعا من طراز واحد:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
وتعرض الجولة الثانية بعض آيات الله في الكون: في السماء وفي الأرض وما بينهما. وقد قدرت بحكمة، وأنزلت بقدر:
«وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ، فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..
وإلى الله مرجع كل شيء وكل أحد في الوقت المقدر المعلوم: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
أما الجولة الثالثة فتعرض قصة البشرية وأصل الهدى والغواية في تركيبها وأسبابها الأصيلة، ومصير الغاوين في النهاية والمهتدين. وذلك في خلق آدم من صلصال من حمأ مسنون والنفخ من روح الله في هذا الطين.
ثم في غرور إبليس واستكباره وتوليه الغاوين دون المخلصين.
والجولة الرابعة في مصارع الغابرين من قوم لوط وشعيب وصالح، مبدوءة بقول الله: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» ثم يتتابع القصص، يجلو رحمة الله مع إبراهيم ولوط، وعذابه لأقوام لوط وشعيب وصالح.. ملحوظا في هذا القصص أنه يعرض على قريش مصارع أقوام يمرون على أرضهم في طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» ..
أما الجولة الخامسة والأخيرة فتكشف عن الحق الكامن في خلق السماوات والأرض المتلبس بالساعة وما بعدها من ثواب وعقاب، المتصل بدعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فهو الحق الأكبر الشامل للكون كله، وللبدء والمصير: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ..» إلى آخر السورة..
(4/2124)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
هذا المقطع الأول في سياق السورة، يتحدث عن طبيعة الكتاب الذي يكذب به المشركون.. ويهددهم بيوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين! كما يكشف لهم عن سبب إرجاء هذا اليوم عنهم، فهو موقوت بأجل معلوم.. ويذكر تحدياتهم واستهزاءهم وطلبهم الملائكة، ثم يهددهم بأن نزول الملائكة يكون معه الهلاك والتدمير! وأخيراً يكشف عن العلة الحقيقية للتكذيب.. إنها ليست نقص الدليل ولكنه العناد الأصيل! ..
ألف. لام. را.. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» ..
هذه الأحرف ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن. هذه الأحرف التي في متناول الجميع، هي «تلك» الآيات العالية الأفق البعيدة المتناول، المعجزة التنسيق. هذه الأحرف التي لا مدلول لها في ذاتها هي القرآن الواضح الكاشف المبين.
فإذا كان قوم يكفرون بآيات الكتاب المعجز ويكذبون بهذا القرآن المبين فسيأتي يوم يودون فيه لو كانوا غير ما كانوا ويتمنون فيه لو آمنوا واستقاموا:
«رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» ..
(4/2125)
ربما.. ولكن حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة.. ربما.. وفيها التهديد الخفي، والاستهزاء الملفوف وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن تضيع، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون! وتهديد آخر ملفوف:
«ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع. لا تأمل فيها ولا تدبرو لا استطلاع. ذرهم في تلك الدوامة: الأمل يلهي والمطامع تغر، والعمر يمضي والفرصة تضيع. ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد، ولا يمنعهم منه مانع. وأن ليس وراءهم حسيب وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون! وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية. فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان، وهو يجري وراءه، وينشغل به، ويستغرق فيه، حتى يجاوز المنطقة المأمونة وحتى يغفل عن الله، وعن القدر، وعن الأجل وحتى ينسى أن هنالك واجباً، وأن هنالك محظوراً بل حتى لينسى أن هنالك إلهاً، وأن هنالك موتاً، وأن هناك نشوراً.
وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يدعهم له.. «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان.. وهو أمر فيه تهديد لهم، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم.
وإن سنة الله لماضية لا تتخلف وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ..
فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم. ولسوف يعلمون.
وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم، يمنحه الله للقرى والأمم، لتعمل، وعلى حسب العمل يكون المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها، وينتهي وجودها، إما نهائياً بالهلاك والدثور، وإما وقتياً بالضعف والذبول.
ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم.
فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتماً إلى المصير المعلوم.
إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم:
«ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ..
(4/2126)
ويحكي السياق سوء أدبهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد جاءهم بالكتاب والقرآن المبين، يوقظهم من الأمل الملهي، ويذكرهم بسنة الله، فإذا هم يسخرون منه ويتوقحون:
«وقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!» ..
وتبدو السخرية في ندائهم:
«يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» ..
فهم ينكرون الوحي والرسالة ولكنهم يتهكمون على الرسول الكريم بهذا الذي يقولون.
ويبدو سوء الأدب في وصفهم للرسول الأمين:
«إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» ..
جزاء على دعوته لهم بالقرآن المبين.
وهم يتمحكون فيطلبون الملائكة مصدقين:
«لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!» .
وطلب نزول الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها، مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومع غيره من الرسل قبله: وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا الكائن الإنساني الذي كرمه الله، فجعل النبوة في جنسه، ممثلة في أفراده المختارين.
والرد على ذلك التهكم وتلك الوقاحة وهذا الجهل هو ذكر القاعدة التي تشهد بها مصارع السالفين: أن الملائكة لا تنزل على الرسول إلا لهلاك المكذبين من قومه حين ينتهي الأجل المعلوم وعندئذ فلا إمهال ولا تأجيل:
«ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» ..
فهل هو ما يريدون وما يتطلبون؟! ثم يردهم السياق إلى الهدى والتدبر.. إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق، ليحقوه وينفذوه. والحق عند التكذيب هو الهلاك. فهم يستحقونه فيحق عليهم. فهو حق تنزل به الملائكة لتنفذه بلا تأخير. وقد أراد الله لهم خيراً مما يريدون بأنفسهم، فنزل لهم الذكر يتدبرونه ويهتدون به، وهو خير لهم من تنزيل الملائكة بالحق الأخير! لو كانوا يفقهون:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ..
فخير لهم أن يقبلوا عليه. فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل. ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية الله وحفظه، إن كانوا يريدون الحق، وإن كانوا يطلبون الملائكة للتثبت.. إن الله لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة، لأنه أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ، لا ملائكة الهلاك والتدمير.
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب- إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة- ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصوناً محفوظاً لا تتبدل فيه كلمة،
(4/2127)
ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف.
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق، وكثر فيه النزاع، وطمت فيه الفتن، وتماوجت فيه الأحداث. وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود- خاصة- ثم من «القوميين» دعاة «القومية» الذين تسمّوا بالشعوبيين! ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.
كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات..
ولكنها عجزت جميعاً- وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا- أن تحدث حدثاً واحداً في نصوص هذا الكتاب المحفوظ وبقيت نصوصه كما أنزلها الله حجة باقية على كل محرف وكل مؤول وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.
ثم جاء على المسلمين زمان- ما نزال نعانيه- ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم. وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم.. كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات. ومن الأنظمة والقوانين.. وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص «الإنسان» وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان.. وأحياناً إلى حياة يشمئز منها الحيوان.. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من «التقدم» و «التطور» و «العلمانية» و «العلمية» و «الانطلاق» و «التحرر» و «تحطيم الأغلال» و «الثورية» و «التجديد» ... إلى آخر تلك الشعارات والعناوين.. وأصبح «المسلمون» بالأسماء وحدها مسلمين. ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير.
وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقوداً للنار.. وهو وقود هزيل! ..
ولكن أعداء هذا الدين- بعد هذا كله- لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها. ولم يكونوا في هذا من الزاهدين. فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال! ولقد بذل أعداء هذا الدين- وفي مقدمتهم اليهود- رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله. وقدروا على أشياء كثيرة.. قدروا على الدس في سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين.
وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث..
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد- والظروف الظاهرية كلها مهيأة له-.. لم يقدروا على إحداث شيء في
(4/2128)
هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقاً تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مجرد وعد. أما هو اليوم- من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. وصدق الله العظيم..
ويعزي الله سبحانه نبيه- صلى الله عليه وسلم- فيخبره أنه ليس بدعاً من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب، فهكذا المكذبون دائماً في عنادهم الذميم:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين:
«كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
نَسلُكه في قلوبهم مكذّباً بما فيه مستهزأ به لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة فالمكذبون أمة واحدة، من طينة واحدة:
«وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان، فهم معاندون ومكابرون، مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم السياق نموذجاً باهراً للمكابرة المرذولة والعناد البغيض:
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» ..
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها.. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكّر أبصارنا وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل:
«إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» ..
سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكّر مسحور! يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل.
فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف! إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير، مثيراً لشعور الاشمئزاز والتحقير..
(4/2129)
وهذا النموذج ليس محلياً ولا وقتياً، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين.. إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته، وتستغلق بصيرته، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي، وينقطع عن الوجود الحي من حوله، وعن إيقاعاته وإيحاءاته.
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها «المذاهب العلمية!» وهي أبعد ما تكون عن العلم بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة..
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله ويجادلون في وجوده- سبحانه- وينكرون هذا الوجود..
ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته، بلا خالق، وبلا مدبر، وبلا موجه.. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية و «أخلاقية!» كذلك. ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس، والتي لا تنفصل عنه بحال..
«علمية» .. هي وحدها «العلمية» ! وعدم الشعور بوجود الله سبحانه، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النّكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحاً عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ!» ..
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء. وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطاباً هامساً وجاهراً، باطناً وظاهراً، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه.. وهي موافقات لا تحصى.. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري، كما ترفضه الفطرة من أعماقها. وكلما توغل «العلم» في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه.. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا! إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الخالي من الحياة. وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا.. كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: «لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة
(4/2130)
التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
«إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أو من بوجود الله إيماناً راسخا» «1» وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة. والمنطق السائد في بحثه هو منطق «العلم الحديث» - بكل خصائصه- لا منطق الإلهام الفطري، ولا منطق الحس الديني. ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري، كما يقررها الحس الديني. ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا! والذين يجادلون في الله- مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل، وعن منطق الكون ... أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا.. إنهم العُمْي الذين يقول الله تعالى فيهم: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى» .
وإذا كانت هذه حقيقتهم فإن ما ينشئونه من مذاهب «علمية!» اجتماعية وسياسية واقتصادية وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط، صادر عن أعمى، معطل الحواس الأخرى، محجوباً عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعاً- على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها. وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئاً فضلاً على أن يكيف نظرته، ويقيم منهج حياته، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلاً! إن هذه قضية إيمانية اعتقادية، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره، ويقيم مذهبه في الحياة، ويقيم نظام حياته كذلك، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشئ ذاته، ومنشئ الإنسان أيضا.. إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير ولا يمكن أن تلتحم في جزئية واحدة مع حياة مسلم، يقيم اعتقاده وتصوره، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره.
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى «الاشتراكية العلمية» منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى «الاشتراكية العلمية» - وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء انظمتها- عدولاً جذرياً عن الإسلام: اعتقاداً وتصوراً ثم منهجا ونظاما.. حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك «الاشتراكية العلمية» واحترام العقيدة في الله بتاتاً. ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والاسلام.. وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها..
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان إما أن يتخذوا الإسلام ديناً، وإما ان يتخذوا المادية دينا. فإذا
__________
(1) من مقال «الخلايا الحية تؤدي رسالتها» في كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين «العلميين» بلغتهم.. وليس هذا إقرارا منا بصحة كل ما نستشهد به وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها.
(4/2131)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا «الاشتراكية العلمية» المنبثقة من «الفلسفة المادية» ، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه، نظاما.. وعلى الناس أن تختار.. إما الإسلام، وإما المادية، منذ الابتداء! إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير. إنما هو نظام قائم على عقيدة.. كما أن «الاشتراكية العلمية» - بهذا الاصطلاح- ليست قائمة على هواء، إنما هي منبثقة انبثاقاً طبيعيا من «المذهب المادي» الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر اصلا، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي.. ومن ثَمَّ ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى «الاشتراكية العلمية» بكل تطبيقاتها! ولا بد من الاختيار بينهما.. ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!!
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
من مشهد المكابرة. وكان ميدانه السماء. إلى معرض الآيات الكونية مبدوءاً بمشهد السماء. فمشهد الأرض.
فمشهد الرياح اللواقح بالماء. فمشهد الحياة والموت. فمشهد البعث والحشر.. كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم باب من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون.
فلنعرضها مشهداً مشهداً كما هي في السياق:
«وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً. وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» ..
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة.. لوحة الكون العجيبة، التي تنطق بآيات القدرة المبدعة، وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير، كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير.
والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي
(4/2132)
تتنقل فيها في مدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة، وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل:
«وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ» ..
وهي لفتة هنا إلى جمال الكون- وبخاصة تلك السماء- تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون.
فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها، إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعاً، وينشأ من تناسقها جميعاً.
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد.. ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهوّم، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد!.
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:
«وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ» ..
ومع الزينة الحفظ والطهارة:
«وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» ..
لا ينالها ولا يدنسها ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها، وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء- وهي رمز للسمو والارتفاع- فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها:
«إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» ..
وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟ .. كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئاً في العقيدة ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكاً جديدا لحقيقة جديدة.
فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعُلىً مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد.
ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت، والشيطان الصاعد، والشهاب المنقض، فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل.
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر، المبسوطة للخطو والسير وما فيها من رواسٍ، وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء:
«وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ» ..
إن ظل الضخامة واضح في السياق. فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة- تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة «بروج» وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه «مبين» .. والإشارة في الأرض إلى الرواسي- ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله: «وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ» . وإلى النبات موصوفاً بأنه «موزون» وهي كلمة
(4/2133)
ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير.. ويشترك في ظل التضخيم جمع «معايش» وتنكيرها، وكذلك «ومن لستم له برازقين» من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام. فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم.
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس. فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو وهذه الرواسي الملقاه على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض. وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها. وهي كثيرة شتى، يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا. جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم كذلك «من لستم له برازقين» . فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض. وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى. أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها، ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمماً أخرى تعيش من رزق الله، ولا تكلفها شيئاً.
هذه الأرزاق- ككل شيء- مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق:
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» ..
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئاً، إنما خزائن كل شيء- مصادره وموارده- عند الله. في علاه.
ينزله على الخلق في عوالمهم «بقدر معلوم» فليس من شيء ينزل جزافاً، وليس من شيء يتم اعتباطاً.
ومدلول هذا النص المحكم: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه. ومدلول «خزائنه» يتجلى في صورة أقرب بعد ما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي وطبيعة تركيبها وتحليلها- إلى حد ما- وعرف مثلاً أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسوجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضاً! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها.. وهو شيء على كثرته قليل قليل ... «1»
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:
«وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ، فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..
أرسلنا الرياح لواقح بالماء «2» ، كما تلقح الناقة بالنتاج فانزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فأسقينا كموه فعشتم به:
«وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..
__________
(1- 2) أراد بعضهم أن يفسر لواقح هنا بالمعنى العلمي الذي كشف وهو أن الرياح تحمل اللقاح من شجرة إلى شجرة. ولكن السياق هنا يشير إلى أنها لواقح بالماء دون سواه «فأنزلنا من السماء ماء فأسقينا كموه» وليس هناك ذكر ولو من بعيد للإنبات حتى يكون هناك ظل في المشهد للنبات، والتعبير القرآني دقيق في رسم ظلال المشاهد من قريب ومن بعيد. يدرك ذلك من يعيش في ظلال القرآن ناجيا من الشوائب والإيحاءات الغريبة، حتى يتكون له حس قرآني بريء من تلك الشوائب والإيحاءات الغريبة! وعندئذ يلفظ حسه كل تأويل غريب دخيل!
(4/2134)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
فما من خزائنكم جاء، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم.
والرياح تنطلق وفق نواميس كونية، وتحمل الماء وفقاً لهذه النواميس وتسقط الماء كذلك بحسبها.
ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس؟ لقد قدره الخالق، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر:
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» .
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء.. «فَأَسْقَيْناكُمُوهُ» .. والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء، وجعلنا الماء صالحاً لحاجتكم، وقدرنا هذا وذاك. وأجريناه وحققناه بقدر الله. والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب.
لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث.. سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته هناك في حركات الأنفس.. تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين، وفي الرياح والماء والاستقاء. وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله. وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء.
ثم يتم السياق رجع كل شيء إلى الله، فيرد إليه الحياة والموت، والأحياء والأموات، والبعث والنشور.
«وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الأول. فهناك قال:
«وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ..
وهنا يقرر أن الحياة والموت بيد الله، وأن الله هو الوارث بعد الحياة. وأنه هو يعلم من كتب عليهم أن يستقدموا فيتوفوا، ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية، وإليه المصير:
«إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
يقدر لكل أمة أجلها بحكمته، ويعلم متى تموت، ومتى تحشر، وما بين ذلك من أمور..
ونلاحظ في هذا المقطع وفي الذي قبله تناسقاً في حركة المشهد. في تنزيل الذكر. وتنزيل الملائكة. وتنزيل الرجوم للشياطين. وتنزيل الماء من السماء.. ثم في المجال الذي يحيط بالأحداث والمعاني، وهو مجال الكون الكبير: السماء والبروج والشهب، والأرض والرواسي والنبات، والرياح والمطر.. فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض.. وذلك من بدائع التصوير في هذا الكتاب العجيب.
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 48]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
(4/2135)
هنا نجيء إلى قصة البشرية الكبرى: قصة الفطرة الأولى. قصة الهدى والضلال وعواملهما الأصيلة.
قصة آدم. مم خلق؟ وماذا صاحب خلقه وتلاه؟
ولقد مرت بنا هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل. في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف. «1»
ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص، في معرض خاص، في جو خاص، ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء، واختلفت الظلال، واختلف الإيقاع.
مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف.
تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث في الأشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها:
ففي سورة البقرة سبقها في السياق: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وفي سورة الأعراف سبقها: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
وهنا سبقها: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ» ..
ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض..
في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق الله للناس ما فيها جميعا:
__________
(1) هذا بحسب ترتيب السورة في المصحف، لا بحسب ترتيب النزول والأعراف مكية كالحجر. وقد نزلتا قبل البقرة المدنيّة.
(4/2136)
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سره: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال:
أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم: إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟» .. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وسكنى آدم وزوجه الجنة. وإزلال الشيطان لهما عنها وأخراجهما منها. ثم الهبوط إلى الأرض للخلافه فيها، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية، واستغفارهما وتوبة الله عليهما ... وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم، فكان هذا متصلاً باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض، وعهده معه، والتجربة القاسية لأبي البشر..
وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها. حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولي. ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه. وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود.. ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء ابليس واستكباره. وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث، ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد. ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة، هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة. ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهم إلى الأرض جميعاً للعمل في أرض المعركة الكبرى: «قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون» .. ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى. وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار. ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النار: «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» .. وأسدل الستار..
فأما هنا في هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم، وسر الهدى والضلال، وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان.. ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون، ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم وخلق الشيطان من قبل من نار السموم. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافاً من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون. وطرده ولعنته. وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته. وزاد أن إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين. إنما سلطانه على من يدينون له ولا يدينون لله. وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل. تبعا لنقطة التركيز في السياق، وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان، وبيان مجال سلطة الشيطان..
فلنمض إلى مشاهد القصة في هذا المجال:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» ..
وفي هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال- وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند نقره، المتخذ من الطين الرطب الآسن- والنار الموسومة بأنها شعواء سامة.. نار السموم.. وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من روح الله، أما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم.
(4/2137)
«وإذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال: يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين؟ قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال: فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين» ..
وإذ قال ربك للملائكة.. متى قال؟. وأين قال؟ وكيف قال؟ كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة في الجزء الأول من هذه الظلال. إنه لا سبيل إلى الإجابة، لأنه ليس لدينا نص يجيب. وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص، وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل «1» .
فأما خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان؟ فهو كذلك ما لا ندري كيفيته، ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال.
وقد يقال بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية، وبخاصة قوله: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. وقوله: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين. أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين. وأن هنالك أطواراً بين الطين والإنسان تشير إليها كلمة «سلالة» . وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص، فكل زيادة تحمل عليها ضرب من التمحل ليس القرآن في حاجة إليه. وللبحث العلمي أن يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له،، فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات، يحقق منها ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة، ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص. غير متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي تضمنها القرآن وهي ابتداء خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين.
فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا، وإلى أفق الحياة الإنسانية أخيرا؟ فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون. وما يزال سر الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه. فأما سر الحياة الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا، تفوقاً حاسماً فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان. فأما هذا السر فما تزال النظريات تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله، مما يزعم بعضها أن الإنسان «تطور» عنه. كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر:
وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء- وإن كان بعضها أرقى من بعض- ثم نشأة هذا الإنسان متفرداً منذ البدء ايضاً. والقرآن الكريم يفسر لنا ذلك التفرد، هذا التفسير المجمل الواضح البسيط:
«فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ... »
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم، منذ بدء التكوين، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين.
كيف؟ ..
ومتى كان في نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم؟.
__________
(1) ص 59- 60 من الجزء الأول من الظلال
(4/2138)
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين..
- لقد كان خلق الشيطان- من قبل- من نار السموم. فهو سابق إذن للإنسان في الخلق. هذا ما نعلمه. أما كيف هو وكيف كان خلقه. فذلك شأن آخر. ليس لنا أن نخوض فيه. إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم. ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار. والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم. ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار. وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار! ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ومنحته خصائصه الإنسانية، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية فسلك طريقاً غير طريقها منذ الابتداء. بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه! هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقي عنه ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان.
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته: من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات. ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات.. هذا مع أن هذا الكائن «مركّب» منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه. طبيعته طبيعة «المركّب» لا طبيعة «المخلوط» أو «الممزوج!» .. ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين.. إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته. إنه لا يكون طيناً خالصاً في لحظة، ولا يكون روحاً خالصاً في لحظة ولا يتصرف تصرفاً واحداً إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال! والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه ان يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون مَلَكا أو ليكون حيوانا. وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان. والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص.
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة..
كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. انكر عليهم كما ورد في حديث عائشة- رضي الله عنها- وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك وأقام له عليها نظاماً بشرياً لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير.
(4/2139)
والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله. والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان.
والذي يريد قتل النوازع الفطرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد. ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان..
والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية، كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء.. كلاهما عدو «للإنسان» يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان! إن الإنسان حيوان وزيادة.. فله مثل مطالب الحيوان، وله ما يقابل هذه الزيادة. وليست هذه المطالب دون هذه هي «المطالب الأساسية» كما يزعم اعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية «العلمية» .
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان، كما يقررها القرآن. نمر بها سراعا، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى، راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها:
لقد قال الله للملائكة: «إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» ..
وقد كان ما قاله الله. فقوله- تعالى- إرادة. وتوجه الإرادة ينشئ الخلق المراد. ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني. فالجدل على هذا النحو عبث عقلي. بل عبث بالعقل ذاته، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم. وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحام له في غير ميدانه، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية، وخطأ في المنهج من الأساس. إنه يقول: كيف يتلبس الخالد بالفاني، وكيف يتلبس الأزلي بالحادث؟ ثم ينكر أو يثبت ويعلل! بينما العقل الإنساني ليس مدعواً أصلاً للفصل في الموضوع. لأن الله يقول: إن هذا قد كان. ولا يقول:
كيف كان. فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه. وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده- غير التسليم بالنص- لأنه لا يملك وسائل الحكم. فهو حادث. والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته، ولا على الأزلي في خلقه للحادث. وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية- وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره. يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون.
فلننظر بعد ذلك ماذا كان:
«فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» ..
كما هي طبيعة هذا الخلق- الملائكة- الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق.
«إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ..
وإبليس خلق آخر غير الملائكة. فهو من نار وهم من نور. وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وهو أبى وعصى. فليس هو من الملائكة بيقين. أما الاستثناء هنا فليس على وجهه. إنما هو كما تقول: حضر بنو فلان إلا أحمد. وليس منهم. إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة. وأما أن الأمر المذكور للملائكة: «وإذ
(4/2140)
قال ربك للملائكة» .. فكيف شمل إبليس؟ فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده، وقد ذكر صريحاً في سورة الأعراف: «قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟» .. وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع. فقول الله تعالى له: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟» .. قاطع في أن الأمر قد صدر له. وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة. فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما. وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف. ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة. وهذا ما نختاره.
وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص. لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال.
«قالَ: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟ قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ..
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم. وذكر إبليس الصلصال والحمأ، ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين. وتشامخ برأسه المغرور يقول: إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون!.
وكان ما ينبغي أن يكون:
«قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ «1» وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» ..
جزاء العصيان والشرود.
عندئذ تتبدى خليقة الحقد وخليقة الشر:
«قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» ..
لقد طلب النظرة إلى يوم البعث، لا ليندم على خطيئته في حضرة الخالق العظيم، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم. ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده. يربط لعنة الله له بآدم، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير! «قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» ..
وبذلك حدد إبليس ساحة المعركة. إنها الأرض:
«لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» ..
وحدد عدته فيها إنه التزيين. تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه. وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله، وتظهره في غير حقيقته وردائه. فليفطن الناس إلى عدة الشيطان وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء.
ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك. إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته، فليس للشيطان- بشرطه هو- على عباد الله المخلصين من سبيل:
«وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» ..
__________
(1) رجيم: أي طريد مرجوم.
(4/2141)
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي قرره إبليس- اللعين- قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله.. أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه.. ومن ثم كان الجواب:
«هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» ..
هذا صراط. هذا ناموس. هذه سنة. وهي السنة التي إرتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال.
«إن عبادي» المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءا من عباد الله المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما من يخلصون أنفسهم لله، فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب! فأما العاقبة. عاقبة الغاوين. فهي معلنة في الساحة منذ البدء:
«وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» .
فهؤلاء الغاوون صنوف ودرجات. والغواية ألوان وأشكال. ولكل باب منهم جزء مقسوم، بحسب ما يكونون وما يعملون.
وينتهي المشهد وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة. ووضح كيف يسلك الشيطان طريقه إلى النفوس. وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة. فأما من يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان..
وبمناسبة ذكر مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» .
والمتقون هم الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه. ولعل العيون في الجنات تقابل في المشهد تلك الأبواب في جهنم وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع هناك. ونزعنا ما في صدورهم من غل، في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق. لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا. جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم....
وبعد، فإن قصة البشرية الكبرى- كما تعرض في هذا السياق القرآني- تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك ان نستطرد فيها- في ظلال القرآن- فنكتفي أن نلم بها إلماما، على قدر المناسبة:
أن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان. فهو تكوين خاص متفرد، يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء. وأيا كانت نشأة الحياة، ونشأة الأحياء فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني.. خاصية الروح الإلهي المودع فيه..
(4/2142)
وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا، يتفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى. وهي قطعاً ليست مجرد الحياة. فهو يشترك في «الحياة» مع سائر الأحياء. ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة.
هذه الخاصية- كما يلهم النص القرآني- لم تجئ للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته- كما تزعم الدارونية- ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته. فلم يجئ على هذا الكائن الإنساني زمان كان فيه مجرد حيّ من الأحياء- بلا روح إنساني خاص- ثم دخلته هذه الروح، فصاربها هو هذا الإنسان! ولقد اضطرت الدارونية الحديثة- على يد جوليان هاكسلي- أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة وهي تقرر «تفرد الإنسان» من الناحية الحيوية والوظيفية. ومن ثم تفرده من الناحية العقلية، وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية..
ولكنها ظلت تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان! والتوفيق عسير بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان، وبين القاعدة التي تقوم عليها الداروينية- قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان- ولكن الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع- غير العلمي- الذي صبغوه بصبغة العلم، في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة! والذي شجع اليهود على نشره وتمكينه وتثبيته، وإضفاء الصبغة «العلمية» عليه لغرض في نفوسهم ولغاية في مخططاتهم «1» ! ولقد سبق أن تحدثنا عن هذه القضية، ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه الظلال «2» فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك:
«وعلى أية حال، فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي «الإنساني» كان ترقياً في بروز هذه الخصائص، ونموها، وتدريبها، واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقياً في «وجود» الإنسان.. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان.. كما تقول الداروينية.
«ووجود أنواع مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً- بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء- هو مجرد نظرية «ظنية» وليست «يقينية» لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها! «على أنه- على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور- ليس هناك ما يمنع من وجود «أنواع» من الحيوان، في أزمان متوالية، بعضها أرقى من بعض، بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها. ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة (وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة للظروف السائدة) «3» .. ولكن هذا لا «يحتم» أن يكون بعضها «متطورا» من بعض.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا، لا تستطيع أن تثبت
__________
(1) يراجع فصل: «اليهود الثلاثة» في كتاب: «التطور والثبات في الحياة البشرية» لمؤلفه: محمد قطب. «دار الشروق» .
(2) ص 1264- 1265 من الجزء الثامن.
(3) إضافات لم تجئ موضحة في المقتطفات. [.....]
(4/2143)
- في يقين مقطوع به- أن هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية- وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها- ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنيا.. وهذا يمكن تعليله بما قلنا من ان الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر، فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى، فانقرض.
«وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع.. وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية.
«وتفرد الإنسان من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون- وفيهم الملحدون بالله كلية- للاعتراف به، دليل مرجح (في مجال البحوث الإنسانية) على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي» .
هذه النشأة المتفردة للإنسان، باحتوائها على هذه الخاصية المنشئة للوجود الأنساني المستقل.. خاصية النفخة من روح الله.. تجعل النظرة إلى هذا الأنسان و «مطالبه الأساسية» تختلف اختلافاً أصيلا عن نظرة المذاهب المادية، بكل إفرازاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكل إفرازاتها في التصورات والقيم التي ينبغي أن تسود الحياة الإنسانية.
إن الزعم بأن الإنسان مجرد حيوان متطور عن حيوان! هي التي جعلت الإعلان الماركسي يذكر أن مطالب الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! فهذه فعلاً هي مطالب الحيوان الأساسية! ولا يكون الإنسان في وضع أحقر مما يكون وفق هذه النظرة! ومن ثم تهدر كل حقوقه المترتبة على تفرده عن الحيوان بخصائصه الإنسانية.. تهدر حقوقه في الاعتقاد الديني. وتهدر حقوقه في حرية التفكير والرأي.
وتهدر حقوقه في اختيار نوع العمل، ومكان الإقامة. وتهدر حقوقه في نقد النظام السائد وأسسه الفكرية والمذهبية. بل تهدر حقوقه في نقد تصرفات «الحزب» ومن هم أقل من الحزب من الحكام المتسلطين في تلك الأنظمة البغيضة، التي تحشر الأناسي حشراً، وتسوقهم سوقاً، لأن هؤلاء «الأناسيّ» وفق الفلسفة المادية ليسوا سوى نوع من الحيوان تطور عن حيوان! .. ثم يسمى ذلك النكد كله: «الاشتراكية العلمية» ! فأما النظرة الإسلامية إلى «الإنسان» - وهي تقوم على أساس تفرده بخصائصه الإنسانية إلى جانب ما يشارك فيه الحيوان من التكوين العضوي- فإنها منذ اللحظة الأولى تعتبر أن مطالب الإنسان الأساسية مختلفة وزائدة عن مطالب الحيوان الأساسية. فليس الطعام والشراب والمسكن والجنس هي كل مطالبه الأساسية.
وليس ما وراءها من مطالب العقل والروح مطالب ثانوية! .. إن العقيدة وحرية التفكير والإرادة والاختيار هي مطالب أساسية كالطعام والشراب والمسكن والجنس.. بل هي أعلى منها في الاعتبار لأنها هي المطالب الزائدة في الإنسان على الحيوان. أي المطالب المتعلقة بخصائصه التي تقرر إنسانيته! والتي بإهدارها تهدر آدميته! ومن ثم لا يجوز أن تهدر في النظام الإسلامي حرية الاعتقاد والتفكير والاختيار في سبيل «الإنتاج» وتوفير الطعام والشراب والمسكن والجنس للآدميين! كما لا يجوز أن تهدر القيم الاخلاقية- كما يقررها الله للإنسان لا كما يقررها العرف والبيئة والاقتصاد- في سبيل توفير تلك المطالب الحيوانية..
إنهما نظرتان مختلفتان من الأساس في تقييم «الإنسان» و «مطالبه الأساسية» .. ومن ثم لا يمكن الجمع بينهما في نظام واحد على الإطلاق! فإما الإسلام، وإما المذاهب المادية بكل ما تفرزه من إفرازات نكدة..
(4/2144)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
بما فيها ما يسمونه هناك: «الاشتراكية العلمية» فإن هو إلا إفراز خبيث من إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله.
والمعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج الله والتزيين له فيما عداه. استدراجه إلى الخروج من عبادة الله- أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور، وشعيرة ونسك، وشريعة ونظام- فأما الذين يدينون له وحده- أي يعبدونه وحده- فليس للشيطان عليهم من سلطان.. «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» ..
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون وبين الاتجاة إلى جهنم التي وعد بها الغاوون، هو الدينونة لله وحده- التي يعبر عنها في القرآن دائماً بالعبادة- أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة.
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود الله سبحانه، ولا صفاته.. أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية العقيدة! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله.. وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين.
إن الدينونة لله وحده هي مناط الإسلام. فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من الأحكام.
وسواء كان هذا الحكم خاصاً بالاعتقاد والتصور. أو خاصاً بالشعائر والمناسك. أو خاصاً بالشرائع والقوانين.
أو خاصاً بالقيم والموازين ... فهو سواء.. الدينونة فيه لله هي الإسلام. والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان.
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع. فالدينونة لله كل لا يتجزأ. وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء.. وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان! وأخيراً نقف أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين:
«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» ..
إن هذا الدين لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض ولا تحويلهم خلقاً آخر. ومن ثم يعترف لهم بأنه كان في صدورهم غلٌّ في الدنيا وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب بها الإيمان والإسلام من جذورها ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها، ويتسامى بها لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله- وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ - ولكنهم في الجنة- وقد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا- ينزع أصل الإحساس بالغل من صدورهم ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود..
إنها درجة أهل الجنة.. فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض، فليستبشر بأنه من أهلها، ما دام ذلك وهو مؤمن، فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال..
[سورة الحجر (15) : الآيات 49 الى 84]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
(4/2145)
يتضمن هذا الدرس نماذج من رحمة الله وعذابه، ممثلة في قصص إبراهيم وبشارته على الكبر بغلام عليم، ولوط ونجاته وأهله إلا امرأته من القوم الظالمين، وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر وما حل بهم من عذاب أليم.
هذا القصص يساق بعد مقدمة: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» فيجيء بعضه مصداقاً لنبأ الرحمة، ويجيء بعضه مصداقاً لنبأ العذاب.. كذلك هو يرجع إلى مطالع السورة. فيصدق ما جاء فيها من نذير: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» .. فهذه نماذج من القرى المهلكة بعد النذر، حل بها جزاؤها بعد انقضاء الأجل.. وكذلك يصدق هذا القصص ما جاء في مطالع السورة في شأن الملائكة حين يرسلون: «وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
(4/2146)
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ»
..
فتبدو السورة وحدة متناسقة، يظاهر بعضها بعضا.. وذلك مع ما هو معلوم من أن السور لم تكن تنزل جملة إلا نادرا، وأن الآيات الواردة فيها لم تكن تنزل متتالية تواليها في المصحف. ولكن ترتيب هذه الآيات في السور ترتيب توقيفي، فلا بد من حكمة في ترتيبها على هذا النسق. وقد كشفت لنا جوانب من هذه الحكمة حتى الآن في السور التي عرضناها في تماسك بنيان السور، واتحاد الجو والظلال في كل سورة.. والعلم بعد ذلك لله. إنما هو اجتهاد. والله الموفق إلى الصواب.
«نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» ..
يجيء هذا الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد ذكر جزاء الغاوين وجزاء المتقين في سياق السورة.
والمناسبة بينهما ظاهرة في السياق. ويقدم الله نبأ الغفران والرحمة على نبأ العذاب. جرياً على الأصل الذي ارتضت مشيئته. فقد كتب على نفسه الرحمة. وإنما يذكر العذاب وحده أحياناً أو يقدم في النص لحكمة خاصة في السياق تقتضي إفراده بالذكر أو تقديمه.
ثم تجيء قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط.. وقد وردت هذه الحلقة من قصة إبراهيم وقصة لوط في مواضع متعددة بأشكال متنوعة، تناسب السياق الذي وردت فيه. ووردت قصة لوط وحده في مواضع أخرى.
وقد مرت بنا حلقة من قصة لوط في الأعراف، وحلقة من قصة إبراهيم ولوط في هود.. فأما في الأولى فقد تضمنت استنكار لوط لما يأتيه قومه من الفاحشة، وجواب قومه: «أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» .. وإنجاءه هو وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وذلك دون ذكر لمجيء الملائكة إليه وائتمار قومه بهم.. وأما في الثانية فقد جاءت قصة الملائكة مع إبراهيم ولوط مع اختلاف في طريقه العرض. فهناك تفصيل في الجزء الخاص بإبراهيم وتبشيره وامرأته قائمة، وجداله مع الملائكة عن لوط وقومه. وهو ما لم يذكر هنا. وكذلك يختلف ترتيب الحوادث في القسم الخاص بلوط في السورتين.. ففي سورة هود لم يكشف عن طبيعة الملائكة إلا بعد أن جاءه قومه يهرعون إليه وهو يرجوهم في ضيفه فلا يقبلون رجاءه، حتى ضاق بهم ذرعاً وقال قولته الأسيفة: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد!» . وأما هنا فقدم الكشف عن طبيعة الملائكة منذ اللحظة الأولى، وأخر حكاية القوم وائتمار هم بضيف لوط. لأن المقصود هنا ليس هو القصة بترتيبها الذي وقعت به، ولكن تصديق النذير، وأن الملائكة حين ينزلون فإنما ينزلون للعذاب فلا ينظر القوم ولا يمهلون..
«ونبئهم عن ضيف إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما. قال: إنا منكم وجلون. قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال: أبشرتموني على أن مسني الكبر؟ فبم تبشرون؟ قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال: ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟» .
قالوا: سلاما. قال: إنا منكم وجلون.. ولم يذكر هنا سبب قوله، ولم يذكر أنه جاءهم بعجل حنيذ..
«فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة» .. كما جاء في سورة هود. ذلك أن المجال هنا هو مجال تصديق الرحمة التي ينبئ الله بها عباده على لسان رسوله، لا مجال تفصيلات قصة إبراهيم..
«قالُوا: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» ..
(4/2147)
وهكذا عجلوا له البشرى، وعجل بها السياق دون تفصيل.
كذلك يثبت هنا رد إبراهيم ولا يدخل امرأته وحوارها في هذه الحلقة:
«قال: أبشرتموني على أن مسني الكبر؟ فبم تبشرون؟» فقد استبعد إبراهيم في أول الأمر أن يرزق بولد وقد مسه الكبر (وزوجته كذلك عجوز عقيم كما جاء في مجال آخر) فرده الملائكة إلى اليقين:
«.. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين» ..
أي من اليائسين. فآب إبراهيم سريعا، ونفى عن نفسه القنوط من رحمة الله:
«قال: ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟» وبرزت كلمة «الرحمة» في حكاية قول إبراهيم تنسيقا مع المقدمة في هذا السياق وبرزت معها الحقيقة الكلية: أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. الضالون عن طريق الله، الذين لا يستروحون روحه، ولا يحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته. فأما القلب الندي بالإيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادلهمت حوله الخطوب، ومهما غام الجو وتلبد، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر.. فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين. وقدرة الله تنشئ الأسباب كما تنشئ النتائج، وتغير الواقع كما تغير الموعود.
وهنا- وقد اطمأن إبراهيم إلى الملائكة، وثابت نفسه واطمأنت للبشرى- راح يستطلع سبب مجيئهم وغايته:
«قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين «1» » ..
ولا يعرض السياق لجدال إبراهيم عن لوط وقومه هنا كما عرض له في سورة هود. بل يصل إخبار الملائكة له، بالنبأ كله. ذلك أنه يصدق رحمة الله بلوط وأهله، وعذابه لامرأته وقومه. وينتهي بذلك دورهم مع إبراهيم، ويمضون لعملهم مع قوم لوط..
«فلما جاء آل لوط المرسلون، قال: إنكم قوم منكرون. قالوا: بل جئناك بما كانوا فيه يمترون.
وآتيناك بالحق وإنا لصادقون. فأسر بأهلك بقطع من الليل، واتبع أدبارهم، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمر: أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» ..
وهكذا يعجل السياق إخبارهم للوط بأنهم الملائكة، جاءوه بما كان قومه يمترون فيه من أخذهم بذنوبهم وإهلاكهم جزاء ما يرتكبون، تصديقا لوعد الله، وتوكيدا لوقوع العذاب حين ينزل الملائكة بلا إبطاء.
«قال: إنكم قوم منكرون» ..
قالها ضيّق النفس بهم، وهو يعرف قومه، ويعرف ماذا سيحاولون بأضيافه هؤلاء، وهو بين قومه غريب، وهم فجرة فاحشون.. إنكم قوم منكرون ان تجيئوا إلى هذه القرية وأهلها مشهورون بما يفعلون مع أمثالكم حين يجيئون!
__________
(1) أي إنها باقية مع القوم تلقى مصيرهم. وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع.
(4/2148)
«قالُوا: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» ..
وهذه التوكيدات كلها تصور لنا جزع لوط وكربه. وهو في حيرة بين واجبه لضيفه وضعفه عن حمايتهم في وجه قومه. فجاءه التوكيد بعد التوكيد، لإدخال الطمأنينة عليه قبل إلقاء التعليمات إليه:
«فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» ..
والسرى سير الليل، والقطع من الليل جزؤه. وقد كان الأمر للوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح، وأن يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع أحدا منهم يتخلف أو يتلكأ أو يتلفت إلى الديار على عادة المهاجرين الذين يتنازعهم الشوق إلى ما خلفوا من ديارهم فيتلفتون إليها ويتلكأون. وكان الموعد هو الصبح والصبح قريب:
«وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ» ..
وأطلعناه على ذلك الأمر الخطير: أن آخر هؤلاء القوم- وهو دابرهم- مقطوع في الصباح. وإذا انقطع آخرهم فقد انقطع أولهم والتعبير على هذا النحو يصور النهاية الشاملة التي لا تبقي أحدا. فلا بد من الحرص واليقظة كي لا يتخلف أحد ولا يتلفت، فيصيبه ما يصيب أهل المدينة المتخلفين.
قدم السياق هذه الواقعة في القصة لأنها الأنسب لموضوع السورة كله. ثم أكمل ما حدث من قوم لوط قبلها.
لقد تسامعوا بأن في بيت لوط شبانا صباح الوجوه ففرحوا بأن هناك صيدا:
«وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ» ..
والتعبير على هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة الذي وصل إليه القوم في الدنس والفجور في الفاحشة الشاذة المريضة. يكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة، يستبشرون بالعثور على شبان يعتدون عليهم جهرة وعلانية. هذه العلانية الفاضحة في طلب هذا المنكر- فوق المنكر ذاته- شيء بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لولا أنه وقع. فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه، ويتخفى بمرضه، ويحاول الحصول على لذته المستقذرة في الخفاء وهو يخجل أن يطلع عليه الناس. وإن الفطرة السليمة لتتخفى بهذه اللذة حين تكون طبيعية. بل حين تكون شرعية. وبعض أنواع الحيوان يتخفى بها كذلك.. بينما أولئك القوم المنحوسون يجاهرون بها، ويتجمهرون لتحصيلها، ويستبشرون جماعات وهم يتلمظون عليها! إنها حالة من الارتكاس معدومة النظير.
فأما لوط فوقف مكروباً يحاول أن يدفع عن ضيفه وعن شرفه. وقف يستشير النخوة الآدمية فيهم ويستجيش وجدان التقوى لله. وإنه ليعلم أنهم لا يتقون الله، ويعلم أن هذه النفوس المرتكسة المطموسة لم تعد فيها نخوة ولا شعور إنساني يستجاش. ولكنه في كربه وشدته يحاول ما يستطيع:
«قالَ: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ» ..
وبدلا من أن يثير هذا في نفوسهم رواسب المروءة والحياة، إذا هم يتبجحون فيؤنبون لوطا على استضافة أحد من الرجال. كأنما هو الجاني الذي هيأ لهم أسباب الجريمة ودفعهم إليها وهم لا يملكون له دفاعا! «قالُوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟» ..
ويمضي لوط في محاولته يلوح لهم باتجاه الفطرة السليم إلى الجنس الآخر. إلى الإناث اللواتي جعلهن الله
(4/2149)
لتلبية هذا الدافع العميق في نظام الحياة ليكون النسل الذي تمتد به الحياة وجعل تلبية هذا الدافع معهن موضع اللذة السليمة المريحة للجنسين معا- في الحالات الطبيعية- ليكون هذا ضمانا لامتداد الحياة، بدافع من الرغبة الشخصية العميقة.. يمضي لوط في محاولته هذه:
«قالَ: هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» ..
ولوط النبي لا يعرض بناته على هؤلاء الفجار ليأخذوهن سفاحا. إنما هو يلوح لهم بالطريق الطبيعي الذي ترضاه الفطرة السليمة، لينبه فيهم هذه الفطرة. وهو يعلم أنهم إن ثابوا إليها فلن يطلبوا النساء سفاحا. فهو مجرد هتاف للفطرة السليمة في نفوسهم لعلها تستيقظ على هذا العرض الذي هم عنه معرضون.
وبينما هذا المشهد معروض. القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون. ولوط يدافعهم ويستشير نخوتهم، ويستجيش وجدانهم، ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم، وهم في سعارهم مندفعون..
بينما المشهد البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد، على طريقة العرب في كلامهم بالقسم:
«لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
لتصوير حالتهم الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا ان يسمعوا هواتف النخوة والتقوى والفطرة السليمة.
ثم تكون الخاتمة. وتحق عليهم كلمة الله:
«ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» ..
وإذا نحن أمام مشهد الدمار والخراب والخسف والهلاك المناسب لتلك الطبائع المقلوبة:
«فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» ..
وقد خسف بقرى لوط بظاهرة تشبه ظاهرة الزلازل أو البراكين وتصاحبها أحيانا ظاهرة الخسف وتناثر أحجار ملوثة بالطين وهبوط مدن بكاملها تسيح في الأرض. ويقال: إن بحيرة لوط الحالية وجدت بعد هذا الحادث، بعد انقلاب عمورة وسدوم في باطن الأرض، وهبوط مكانها وامتلائه بالماء. ولكننا لا نعلل ما وقع لهم بأنه كان زلزالا أو بركانا عابراً مما يقع في كل حين.. فالمنهج الإيماني الذي نحرص عليه في هذه الظلال يبعد كل البعد عن هذه المحاولة! إننا نعلم علم اليقين أن الظواهر الكونية كلها تجري وفق ناموس الله الذي أودعه هذا الكون. ولكن كل ظاهرة وكل حدث في هذا الكون لا يقع بأية حتمية إنما يقع وفق قدر خاص به. بلا تعارض بين ثبات الناموس وجريان المشيئة بقدر خاص لكل حدث.. كذلك نحن نعلم علم اليقين أن الله سبحانه يجري في حالات معينة أقداراً معينة بأحداث معينة لوجهة معينة. وليس من الضروري أن يكون ذلك الذي دمر قرى لوط زلزال أو بركان عادي فقد يريد الله أن ينزل بهم ما يشاء، وقتما يشاء، فيكون ما يشاء، وفق ما يشاء.. وهذا هو المنهج الإيماني في تفسير معجزات الرسل أجمعين..
وقرى لوط تقع في طريق مطروق بين الحجاز والشام يمر عليها الناس. وفيها عظات لمن يتفرس ويتأمل، ويجد العبرة في مصارع الغابرين. وإن كانت الآيات لا تنفع إلا القلوب المؤمنة المتفتحة المستعدة للتلقي والتدبر واليقين:
(4/2150)
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ «1» . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وهكذا صدق النذير، وكان نزول الملائكة إيذانا بعذاب الله الذي لا يرد ولا يمهل ولا يحيد.
كذلك كان الحال مع قوم شعيب- أصحاب الأيكة «2» - ومع قوم صالح- أصحاب الحجر:
«وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ. وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وقد فصل القرآن قصة شعيب مع قومه: أهل مدين وأصحاب الأيكة في مواضع أخرى. فأما هنا فيشير إشارة إلى ظلمهم وإلى مصرعهم تصديقا لنبأ العذاب، في هذا الشوط، ولإهلاك القرى بعد انقضاء الأجل المعلوم الوارد في مطالع السورة. ومدين والأيكة كانتا بالقرب من قرى لوط. والإشارة الواردة هنا..
«وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ..» قد تعني مدين والأيكة، فهما في طريق واضح غير مندثر، وقد تعني قرى لوط السالفة الذكر وقرية شعيب، جمعهما لأنهما في طريق واحد بين الحجاز والشام. ووقوع القرى الداثرة على الطريق المطروق أدعى إلى العبرة، فهي شاهد حاضر يراه الرائح والغادي. والحياة تجري من حولها وهي داثرة كأن لم تكن يوماً عامرة. والحياة لا تحفلها وهي ماضية في الطريق! أما اصحاب الحجر فهم قوم صالح، والحجر تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وهي ظاهرة إلى اليوم. فقد نحتوها في الصخر في ذلك الزمان البعيد، مما يدل على القوة والأيد والحضارة.
«وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ» ..
وهم لم يكذبوا سوى رسولهم صالح. ولكن صالحا ليس إلا ممثلا للرسل أجمعين فلما كذبه قومه قيل:
إنهم كذبوا المرسلين. توحيدا للرسالة وللرسل وللمكذبين. في كل أعصار التاريخ، وفي كل جوانب الأرض، على اختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأقوام.
«وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» ..
وآية صالح كانت الناقة. ولكن الآيات في هذا الكون كثير. والآيات في هذه الأنفس كثير. وكلها معروضة للأنظار والأفكار. وليست الخارقة التي جاءهم بها صالح هي وحدها الآية التي آتاهم الله. وقد أعرضوا عن آيات الله كلها، ولم يفتحوا لها عينا ولا قلبا، ولم يستشعرها فيهم عقل ولا ضمير.
«وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وهذه اللمحة الخاطفة من الأمن في البيوت الحصينة في صلب الجبال، إلى الصيحة التي تأخذهم فلا تبقي لهم مما جمعوا ومما كسبوا ومما بنوا ومما نحتوا شيئاً يغني عنهم ويدفع الهلاك الخاطف.. هذه اللمحة تلمس القلب البشري لمسة عنيفة. فما يأمن قوم على أنفسهم أكثر مما يأمن قوم بيوتهم منحوتة في صلب الصخور.
وما يبلغ الاطمئنان بالناس في وقت أشد من اطمئنانهم في وقت الصباح المشرق الوديع.. وها هم أولاء
__________
(1) طريق باق لم يندثر.
(2) الشجر الملتف الكثيف. وقد أرسل شعيب إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين.
(4/2151)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قوم صالح تأخذهم الصيحة مصبحين وهم في ديارهم الحصينة آمنون. فإذا كل شيء ذاهب، وإذا كل وقاية ضائعة، وإذا كل حصين موهون.. فما شيء من هذا كله بواقيهم من الصيحة. وهي فرقعة ريح أو صاعقة، تلحقهم فتهلكهم في جوف الصخر المتين.
وهكذا تنتهي تلك الحلقات الخاطفة من القصص في السورة، محققة سنة الله في أخذ المكذبين عند انقضاء الأجل المعلوم. فتتناسق نهاية هذا الشوط مع نهايات الأشواط الثلاثة السابقة في تحقيق سنة الله التي لا ترد، ولا تتخلف، ولا تحيد.
[سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 99]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
تلك السنن العامة التي لا تتخلف، والتي تحكم الكون والحياة، وتحكم الجماعات والرسالات، وتحكم الهدى والضلال، وتحكم المصائر والحساب والجزاء. والتي انتهى كل مقطع من مقاطع السورة بتصديق سنة منها، أو عرض نماذج منه في شتى هذه المجالات.. تلك السنن شاهد على الحكمة المكنونة في كل خلق من خلق الله، وعلى الحق الأصيل الذي تقوم عليه طبيعة هذا الخلق.
ومن ثم يعقب السياق في ختام السورة ببيان هذا الحق الأكبر، الذي يتجلى في طبيعة خلق السماوات والأرض وما بينهما. وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها. وطبيعة الدعوة التي يحملها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد حملها الرسل قبله. ويجمع بينها كلها في نطاق الحق الأكبر الذي يربطها ويتجلى فيها ويشير إلى أن ذلك الحق متلبس بالخلق، صادر عن أن الله هو الخالق لهذا الوجود: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» ..
فليمض الحق الأكبر في طريقه، ولتمض الدعوة المستندة إلى الحق الأكبر في طريقها، وليمض الداعية إلى الحق لا يبالي المشركين المستهزئين: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» .. وسنة الله ماضية في
(4/2152)
طريقها لا تتخلف. والحق الأكبر من ورائها متلبساً بالدعوة وبالساعة وبخلق السماوات والأرض، وبكل ما في الوجود الصادر عن الخلاق العليم.. إنها لفتة ضخيمة تختم بها السورة. لفته إلى الحق الأكبر الذي يقوم به هذا الوجود..
«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» ..
إن هذا التعقيب بتقرير الحق الذي تقوم به السماوات والأرض، والذي به كان خلقهما وما بينهما، لتعقيب عظيم الدلالة، عميق المعنى، عجيب التعبير. فماذا يشير إليه هذا القول: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» ؟ إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود: عميق في تكوينه. عميق في تدبيره. عميق في مصير هذا الوجود وما فيه ومن فيه..
عميق في تصميم هذا الوجود. فهو لم يخلق عبثا، ولم يكن جزافا، ولم يتلبس بتصميمه الأصيل خداع ولا زيف ولا باطل. والباطل طارئ عليه ليس عنصراً من عناصر تصميمه.
عميق في تكوينه. فقوامه من العناصر التي يتألف منها حق لا وهم ولا خداع. والنواميس التي تحكم هذه العناصر وتؤلف بينها حق لا يتزعزع ولا يضطرب ولا يتبدل. ولا يتلبس به هوى أو خلل أو اختلاف.
عميق في تدبيره. فبالحق يدبر ويصرف، وفق تلك النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى ولا نزوة، إنما تتبع الحق والعدل.
عميق في مصيره. فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة وكل تغيير يقع في السماوات والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق. وكل جزاء يترتب يتبع الحق الذي لا يحابي.
ومن هنا يتصل الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما، بالساعة الآتية لا ريب فيها. فهي آتية لا تتخلف. وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود. فهي في ذاتها حقيقة، وقد جاءت لتحق الحق.
«فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» ..
ولا تشغل قلبك بالحنق والحقد، فالحق لا بد أن يحق:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. الذي خلق ويعلم ما خلق ومن خلق. والخلق كله من إبداعه فلا بد أن يكون الحق أصيلا فيه، ولا بد أن ينتهي كل شيء فيه إلى الحق الذي بدأ منه وقام عليه. فهو فيه أصيل وما عداه باطل وزيف طارئ يذهب، فلا يبقى إلا ذلك الحق الكبير الشامل المستقر في ضمير الوجود.
يتصل بهذا الحق الكبير تلك الرسالة التي جاء بها الرسول. وذلك القرآن الذي أوتيه:
«وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» .
والمثاني الأرجح أن المقصود بها آيات سورة الفاتحة السبع- كما ورد في الأثر- فهي تثنى وتكرر في الصلاة، أو يثنى فيها على الله «1» .
__________
(1) بعض التفاسير المأثورة تقول: إن المقصود بها السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة بوصفهما سورة واحدة. ولما كانت هذه السور مدنية فإنها تذكر أن هذه الآية مدنية. والذي يلهمه سياق السورة أن الآية مكية وأنها تشير إلى الفاتحة وآياتها السبع المثاني.
(4/2153)
والقرآن العظيم سائر القرآن.
والمهم أن وصل هذا النص بآيات خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق والساعة الآتية لا ريب فيها، يشي بالاتصال بين هذا القرآن والحق الأصيل الذي يقوم به الوجود وتقوم عليه الساعة. فهذا القرآن من عناصر ذلك الحق، وهو يكشف سنن الخالق ويوجه القلوب إليها، ويكشف آياته في الأنفس والآفاق ويستجيش القلوب لإدراكها، ويكشف أسباب الهدى والضلال، ومصير الحق والباطل، والخير والشر والصلاح والطلاح. فهو من مادة ذلك الحق ومن وسائل كشفه وتبيانه. وهو أصيل أصالة ذلك الحق الذي خلقت به السماوات والأرض. ثابت ثبوت نواميس الوجود، مرتبط بتلك النواميس. وليس أمراً عارضاً ولا ذاهباً.
إنما يبقى مؤثراً في توجيه الحياة وتصريفها وتحويلها، مهما يكذب المكذبون، ويستهزئ المستهزءون، ويحاول المبطلون، الذين يعتمدون على الباطل، وهو عنصر طارئ زائل في هذا الوجود.
ومن ثم فإن من أوتي هذه المثاني وهذا القرآن العظيم، المستمد من الحق الأكبر، المتصل بالحق الأكبر..
لا يمتد بصره ولا تتحرك نفسه لشيء زائل في هذه الأرض من أعراضها الزوائل. ولا يحفل مصير أهل الضلال، ولا يهمه شأنهم في كثير ولا قليل. إنما يمضي في طريقه مع الحق الأصيل:
«لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» ..
«لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» ..
والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أي يتوجه. ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتصورها المتخيل. والمعنى وراء ذلك ألا يحفل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ذلك المتاع الذي آتاه الله لبعض الناس رجالاً ونساء- امتحاناً وابتلاء- ولا يلقي إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال. أو نظرة تمن. فهو شيء زائل وشيء باطل ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم.
وهذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول، والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل. يليها توجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى إهمال القوم المتمتعين، والعناية بالمؤمنين، فهؤلاء هم أتباع الحق الذي جاء به، والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما وأولئك هم أتباع الباطل الزائل الطارئ على صميم الوجود..
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» ..
ولا تهتم لمصيرهم السيئ الذي تعلم أن عدل الله يقتضيه، وأن الحق في الساعة يقتضيه. ودعهم لمصيرهم الحق.
«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
«وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» ..
فذلك هو طريق الدعوة الأصيل.. ويفرد الإنذار هنا دون التبشير لأنه الأليق بقوم يكذبون ويستهزئون،
(4/2154)
ويتمتعون ذلك المتاع البراق، ولا يستيقظون منه لتدبر الحق الذي تقوم عليه الدعوة، وتقوم عليه الساعة، ويقوم عليه الكون الكبير.
«وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» .. تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ومنهم بقايا الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك.. وكان منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى..
ولكن هذه البقايا لم تكن تتلقى هذا القرآن بالتسليم الكامل، إنما كانت تقبل بعضه وترفض بعضه، وفق الهوى ووفق التعصب وهؤلاء هم الذين يسميهم الله هنا: «الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» ..
«كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهذه السورة مكية. ولكن الخطاب بالقرآن كان عاماً للبشر. ومن البشر هؤلاء المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين (والعضة: الجزء. من عضى الشاة أي فصل بين أعضائها) .. وهم مسؤولون عن هذه التفرقة.
وقد جاءهم القرآن بالنذارة البينة، كما جاءتهم كتبهم من قبل. ولم يكن أمر القرآن ولا أمر النبي بدعاً لا عهد لهم به. فقد أنزل الله عليهم مثله، فكان أولى أن يستقبلوا الجديد من كتاب الله بالقبول والتسليم..
وحين يصل السياق إلى هذا الحد، يتجه بالخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يمضي في طريقه.
يجهر بما أمره الله أن يبلغه. ويسمي هذا الجهر صدعا- أي شقا- دلالة على القوة والنفاذ. لا يقعده عن الجهر والمضي شرك مشرك فسوف يعلم المشركون عاقبة امرهم. ولا استهزاء مستهزئ فقد كفاه الله شر المستهزئين:
«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ..
والرسول- صلى الله عليه وسلم- بشر لا يملك نفسه أن يضيق صدره وهو يسمع الشرك بالله، ويسمع الاستهزاء بدعوة الحق. فيغار على الدعوة ويغار على الحق، ويضيق بالضلال والشرك. لهذا يؤمر أن يسبح بحمد ربه ويعبده، ويلوذ بالتسبيح والحمد والعبادة من سوء ما يسمع من القوم. ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال الحياة، حتى يأتيه اليقين الذي ما بعده يقين.. الأجل.. فيمضي إلى جوار ربه الكريم:
«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .
ويكون هذا ختام السورة.. الإعراض عن الكافرين واللواذ بجوار الله الكريم. أولئك الكافرين الذين سيأتي يوم يودون فيه لو كانوا مسلمين..
إن الصدع بحقيقة هذه العقيدة والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها. ضرورة في الحركة بهذه الدعوة فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية ويوقظ المشاعر المتبلدة ويقيم الحجة على الناس «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أما التدسس الناعم بهذه العقيدة وجعلها عضين يعرض الداعية منها جانبا ويكتم جانبا، لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير! فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
والصدع بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة، والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب، وجعل القرآن عضين..
لا هذه ولا تلك.. إنما هو البيان الكامل لكل حقائق هذه العقيدة في وضوح جلي، وفي حكمة كذلك في الخطاب ولطف ومودة ولين وتيسير.
(4/2155)
«وليست وظيفة الإسلام أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان.. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل.. فالجاهلية هي الجاهلية، والإسلام هو الإسلام.. الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده، وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد والقيم والموازين، من مصدر آخر غير المصدر الإلهي.. والإسلام هو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام» «1» .
وهذه الحقيقة الأساسية الكبيرة هي التي يجب أن يصدع بها أصحاب الدعوة الإسلامية، ولا يخفوا منها شيئا وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت وتململ الجماهير:
«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» ..
__________
(1) راجع بتوسع فصل: «نقلة بعيدة» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(4/2156)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
(16) سورة النّحل مكيّة وآياتها ثمان وعشرون ومائة
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
(4/2157)
هذه السورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط.
وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم- عليه السلام- ودين محمد- صلى الله عليه وسلم- وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذبين لهم. وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله.. ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة..
وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.
فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل..
هو السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.
في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير.
حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام والرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثر، والعقل ليتدبر. وتحشد الكون كله: سماءه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره، وحيوانه وطيوره. كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت، والحس المطموس.
(4/2158)
هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار، ومصارع الغابرين تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة. كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح.
فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير.. كلها متداخلة.. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون..
ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر، والتوجيهات إليها، والتعقيب بها في مقاطع السورة، وتضرب عليها الأمثال، وتعرض لها النماذج، وأظهرها نموذج إبراهيم «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق.
ونبدأ الشوط الأول، وموضوعه هو التوحيد وأدواته هي آيات الله في الخلق، وأياديه في النعمة، وعلمه الشامل في السر والعلانية، والدنيا والآخرة. فلنأخذ في التفصيل:
«أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» ..
لقد كان مشركوا مكة يستعجلون الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالاً، وزادوا استهزاء، وزادوا استهتارا وحسبوا أن محمدا يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في أنظارهم ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن. هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب، خيرا من خطابها بالعذاب! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور، وحرية الإرادة والتفكير.
وجاء مطلع السورة حاسماً جازماً: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ» .. يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته، لا يقدمها استعجال.
ولا يؤخرها رجاء. فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر.
وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر، وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع فامر الله لا بد واقع، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه، ويتحقق به وجوده، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة، في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور.
فأما ما هم عليه من شرك بالله الواحد، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى:
(4/2159)
«سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» بكل صوره وأشكاله، الناشئة عن هبوط في التصور والتفكير.
أتى أمر الله المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون. الله الذي لا يدع الناس إلى ضلالهم وأوهامهم إنما هو ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
وهذا أولى نعمه وكبراها. فهو لا ينزل من السماء ماء يحيي الأرض والأجسام وحدها- كما سيجيء- إنما ينزل الملائكة بالروح من أمره. وللتعبير بالروح ظله ومعناه. فهو حياة ومبعث حياة: حياة في النفوس والضمائر والعقول والمشاعر. وحياة في المجتمع تحفظه من الفساد والتحلل والانهيار. وهو أول ما ينزله الله من السماء للناس، وأول النعم التي يمن الله بها على العباد. تنزل به الملائكة أطهر خلق الله على المختارين من عباده- الأنبياء- خلاصته وفحواه: «أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.»
إنها الوحدانية في الألوهية. روح العقيدة. وحياة النفس. ومفرق الطريق بين الاتجاه المحيي والاتجاه المدمر. فالنفس التي لا توحد المعبود نفس حائرة هالكة تتجاذبها السبل وتخايل لها الأوهام وتمزقها التصورات المتناقضة، وتناوشها الوساوس، فلا تنطلق مجتمعة لهدف من الأهداف! والتعبير بالروح يشمل هذه المعاني كلها ويشير إليها في مطلع السورة المشتملة على شتى النعم، فيصدر بها نعمه جميعا وهي النعمة الكبرى التي لا قيمة لغيرها بدونها ولا تحسن النفس البشرية الانتفاع بنعم الأرض كلها إن لم توهب نعمة العقيدة التي تحييها.
ويفرد الإنذار، فيجعله فحوى الوحي والرسالة، لأن معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين والجاحدين لنعمة الله، والمحرمين ما أحله الله، والناقضين لعهد الله، والمرتدين عن الإيمان ومن ثم يكون إظهار الإنذار أليق في هذا السياق. وتكون الدعوة إلى التقوى والحذر والخوف أولى في هذا المقام.
ثم يأخذ في عرض الآيات. آيات الخلق الدالة على وحدانية الخالق وآيات النعمة الدالة على وحدانية المنعم يعرضها فوجا فوجا، ومجموعة مجموعة. بادئاً بخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان.
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» .
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» .. الحق قوام خلقهما، والحق قوام تدبيرهما، والحق عنصر أصيل في تصريفهما وتصريف من فيهما وما فيهما. فما شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف. إنما كل شيء قائم على الحق ومتلبس به ومفض له وصائر في النهاية إليه.. «تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. تعالى عن شركهم، وتعالى عما يشركون به من خلق الله الذي خلق السماوات والأرض، وخلق من فيهما وما فيهما، فليس أحد وليس شيء شريكاً له وهو الخالق الواحد بلا شريك.
«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير. بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو في وحدانيته. وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة. فهكذا يصوره التعبير، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير، لتبدو المفارقة كاملة، والنقلة بعيدة، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين: مشهد النطفة المهينة الساذجة، ومشهد الإنسان الخصيم المبين.. وهو إيجاز مقصود في التصوير.
وفي هذا المجال الواسع- مجال الكون: السماوات والأرض- الذي يقف فيه الإنسان، يأخذ السياق
(4/2160)
في استعراض خلق الله الذي سخره للإنسان، ويبدأ بالأنعام:
«وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ. وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ...
وفي بيئة كالبيئة التي نزل فيها القرآن أول مرة، وأشباهها كثير وفي كل بيئة زراعية والبيئات الزراعية هي الغالبة حتى اليوم في العالم.. في هذه البيئة تبرز نعمة الأنعام، التي لا حياة بدونها لبني الإنسان. والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة كانت هي الإبل والبقر والضأن والمعز. أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة ولا تؤكل «1» والقرآن إذ يعرض هذه النعمة هنا ينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر وتلبية لأشواقهم كذلك:
ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وما إليها. ومنها تأكلون لحماً ولبناً وسمناً، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد لا يبلغونه إلا بشق الأنفس. وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح. جمال الاستمتاع بمنظرها فارهة رائعة صحيحة سمينة. وأهل الريف يدركون هذا المعنى بأعماق نفوسهم ومشاعرهم أكثر مما يدركه أهل المدينة.
وفي الخيل والبغال والحمير تلبية للضرورة في الركوب. وتلبية لحاسة الجمال في الزينة: «لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» .
وهذه اللفتة لها قيمتها في بيان نظرة القرآن ونظرة الإسلام للحياة. فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات.
تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان.
«إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» يعقب بها على حمل الأثقال إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس توجيها إلى ما في خلق الأنعام من نعمة، وما في هذه النعمة من رحمة.
«وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» .. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة.. ليظل المجال مفتوحاً في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم.
فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها.
ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها. وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!.
إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيِّئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل. استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة.
ولقد جدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان. وستجد وسائل
__________
(1) هناك خلاف فقهي في الخيل فأبو حنيفة يحرم لحومها استنادا إلى هذا النص الذي يخصصها للركوب والزينة وإلى بعض الأحاديث.
والجمهور يحلها استنادا إلى أحاديث صحيحة وإلى السنة العملية.
(4/2161)
أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان. والقرآن يهيِّئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
وفي معرض النقل والحمل والركوب والسير لبلوغ غايات محسوسة في عالم الأرض، يدخل السياق غايات معنوية وسيرا معنوياً وطرقا معنوية. فثمة الطريق إلى الله. وهو طريق قاصد مستقيم لا يلتوي ولا يتجاوز الغاية. وثمة طرق أخرى لا توصل ولا تهدي. فأما الطريق إلى الله فقد كتب على نفسه كشفها وبيانها:
بآياته في الكون وبرسله إلى الناس:
«وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ. وَمِنْها جائِرٌ. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
والسبيل القاصد هو الطريق المستقيم الذي لا يلتوي كأنه يقصد قصدا إلى غايته فلا يحيد عنها. والسبيل الجائر هو السبيل المنحرف المجاوز للغاية لا يوصل إليها، أو لا يقف عندها! «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» .. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان مستعداً للهدى والضلال، وأن يدع لإرادته اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. فكان منهم من يسلك السبيل القاصد، ومنهم من يسلك السبيل الجائر.
وكلاهما لا يخرج على مشيئه الله، التي قضت بأن تدع للإنسان حرية الاختيار.
والفوج الثاني من آيات الخلق والنعمة:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
والماء ينزل من السماء وفق النواميس التي خلقها الله في هذا الكون، والتي تدبر حركاته، وتنشئ نتائجها وفق إرادة الخالق وتدبيره. بقدر خاص من أقداره ينشئ كل حركة وكل نتيجة. هذا الماء يذكر هنا نعمة من نعم الله «لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ» فهي خصوصية الشراب التي تبرز في هذا المجال ثم خصوصية المرعى «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» وهي المراعي التي تربون فيها السوائم. ذلك بمناسبة ذكر الأنعام قبلها وتنسيقاً للجو العام بين المراعي والأنعام. ثم الزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. في تدبير الله لهذا الكون، ونواميسه المواتية لحياة البشر، وما كان الإنسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته، موافقة لفطرته، ملبية لحاجاته. وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق الإنسان في هذا الكوكب الأرضي، وأن تكون النسب بين هذا الكوكب وغيره من النجوم والكواكب هي هذه النسب، وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه، ممكنة للإنسان من الحياة، ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه.
والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار، وبين النواميس العليا للوجود، ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره. أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء، فلا توقظ تطلعهم، ولا تثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد.
والفوج الثالث من أفواج الآيات:
«وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
(4/2162)
ومن مظاهر التدبير في الخلق، وظواهر النعمة على البشر في آن: الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم.
فكلها مما يلبي حاجة الإنسان في الأرض. وهي لم تخلق له ولكنها مسخرة لمنفعته. فظاهرة الليل والنهار ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري. ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل أو ليلا بلا نهار، ثم يتصور مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون.
كذلك الشمس والقمر. وعلاقتهما بالحياة على الكوكب الأرضي، وعلاقة الحياة بهما في أصلها وفي نموها، «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» للإنسان ولغير الإنسان مما يعلم الله..
وكل أولئك طرف من حكمة التدبير، وتناسق النواميس في الكون كله، يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل وتدرك ما وراء الظواهر من سنن وقوانين: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
والفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان:
«وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» ..
وما خلق الله في الأرض وما أودع فيها للبشر من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم في بعض الجهات وفي بعض الأزمان. ونظرة إلى هذه الذخائر المخبوءة في الارض، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوماً بعد يوم، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ووقت الحاجة إليها. وكلما قيل: إن كنزا منها قد نفد أعقبه كنز آخر غني، من رزق الله المدخر للعباد.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» ولا ينسون أن يد القدرة هي التي خبأت لهم هذه الكنوز.
والفوج الخامس من أفواج الخلق والأنعام في البحر الملح الذي لا يشرب ولا يسقي، ولكنه يشتمل على صنوف من آلاء الله على الإنسان:
«وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها، وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
ونعمة البحر وأحيائه تلبي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه. فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام.
وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال: «وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها: رؤية الفلك «مَواخِرَ» تشق الماء وتفرق العباب.. ومرة اخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلى الجمال في مظاهر الكون، بجانب الضرورة والحاجة، لنتملى هذا الجمال ونستمتع به، ولا نحبس أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات.
كذلك يوجهنا السياق- أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه- إلى ابتغاء فضل الله ورزقه، وإلى شكره على ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
والفوج الأخير في هذا المقطع من السورة:
«وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» .
فأما الجبال الرواسي فالعلم الحديث يعلل وجودها ولكنه لا يذكر وظيفتها التي يذكرها القرآن هنا. يعلل وجودها بنظريات كثيرة متعارضة أهمها أن جوف الأرض الملتهب يبرد فينكمش، فتتقلص القشرة الأرضية من فوقه وتتجعد فتكون الجبال والمرتفعات والمنخفضات. ولكن القرآن يذكر أنها تحفظ توازن الأرض.
وهذه الوظيفة لم يتعرض لها العلم الحديث.
(4/2163)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
وفي مقابل الجبال الرواسي يوجه النظر إلى الأنهار الجواري، والسبل السوالك. والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار، حيث مساقط الأمطار. والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار. وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال. وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي يهتدي بها السالكون في الأرض من جبال ومرتفعات ومنفرجات، وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين في البر والبحر سواء.
وعند ما ينتهي استعراض آيات الخلق، وآيات النعمة، وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب السياق عليه بما سيق هذا الاستعراض من أجله. فقد ساقه في صدد قضية التعريف بالله سبحانه وتوحيده وتنزيهه عما يشركون:
«أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ..
وهو تعقيب يجيء في أوانه، والنفس متهيئة للإقرار بمضمونه: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟» .. فهل هنالك إلا جواب واحد: لا. وكلا: أفيجوز أن يسوي إنسان في حسه وتقديره.. بين من يخلق ذلك الخلق كله، ومن لا يخلق لا كبيرا ولا صغيراً؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» فما يحتاج الأمر إلى أكثر من التذكر، فيتضح الأمر ويتجلى اليقين.
ولقد استعرض ألوانا من النعمة. فهو يعقب عليها: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .. فضلاً على أن تشكروها. وأكثر النعم لا يدريها الإنسان، لأنه يألفها فلا يشعر بها إلا حين يفتقدها.. وهذا تركيب جسده ووظائفه متى يشعر بما فيه من إنعام إلا حين يدركه المرض فيحس بالاختلال؟ إنما يسعه غفران الله للتقصير ورحمته بالإنسان الضعيف «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
والخالق يعلم ما خلق. يعلم الخافي والظاهر: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» فكيف يسوونه في حسهم وتقديرهم بتلك الآلهة المدعاة وهم لا يخلقون شيئا ولا يعلمون شيئا، بل إنهم لأموات غير قابلين للحياة على الإطلاق. ومن ثم فهم لا يشعرون:
«وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» ..
والإشارة هنا إلى البعث وموعده فيها تقرير أن الخالق لا بد أن يعلم موعد البعث. لأن البعث تكملة للخلق.
وعنده يستوفي الأحياء جزاءهم على ما قدموا. فالآلهة التي لا تعلم متى يبعث عبادها هي آلهة لا تستحق التأليه، بل هي سخرية الساخرين. فالخالق يبعث مخاليقه ويعلم متى يبعثهم على التحقيق!
[سورة النحل (16) : الآيات 22 الى 50]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
(4/2164)