والإدراك، والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة.. مما لا يدركه إلا من ذاقة وعرفه! وإن العكوف على هذا القرآن- في وعي وتدبر لا مجرد التلاوة والترنم! - لينشىء في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة ومن الحرارة والحيوية والانطلاق! ومن الإيجابية والعزم والتصميم ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب! وإن رؤية حقائق الوجود- من خلال التصوير القرآني- وحقائق الحياة، ورؤية الحياة البشرية وطبيعتها وحاجاتها من خلال التقريرات القرآنية، لهي رؤية باهرة واضحة دقيقة عميقة. تهدي إلى معالجتها وإلى مزاولتها بروح أخرى، غير ما توجه إليه سائر التصويرات والتقريرات البشرية..
وهذا كله أرجى إلى الرحمة.. وهو يكون في الصلاة وفي غير الصلاة. وليس هناك ما يخصص هذا التوجيه القرآني العام بالصلاة كما روى القرطبي عن النحاس.
ثم تنتهي السورة بالتوجيه إلى ذكر الله عامة.. في الصلاة وفي غير الصلاة..
«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
قال ابن كثير في التفسير: «يأمر الله تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً. كما أمر بعبادته في هذين.
الوقتين في قوله: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» - وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء. وهذه الآية مكية- وقال هاهنا: بالغدو، وهو أول النهار، والآصال جمع أصيل- كما أن الأيمان جمع يمين- وأما قوله: «تضرعاً وخيفة» أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول، لا جهراً، ولهذا قال: «ودون الجهر من القول» . وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهراً بليغاً. ولهذا لما سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» .. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» ..
ولم يقبل قول ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة.. وقال: «فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال لئلا يكونوا من الغافلين. ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» .. الآية. وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم» ..
ونحن نرى فيما أورده ابن كثير من المناسبة والأحاديث النبوية مدى ما كان هذا القرآن وكانت التربية النبوية تنقل إليه نفوس العرب من المعرفة بحقيقة ربهم، وحقيقة الوجود من حولهم. وندرك من سؤالهم ومن الإجابة عليهم مدى النقلة التي نقلها لهم هذا الدين، بهذا الكتاب الكريم، بالتوجيه النبوي القويم..
إنها نقلة بعيدة، تتجلى فيها نعمة الله ورحمته لو كان الناس يعلمون..!
وبعد، فإن ذكر الله- كما توجه إليه هذه النصوص- ليس مجرد الذكر بالشفة واللسان. ولكنه الذكر(3/1426)
بالقلب والجنان. فذكر الله إن لم يرتعش له الوجدان، وإن لم يخفق له القلب، وإن لم تعش به النفس..
إن لم يكن مصحوباً بالتضرع والتذلل والخشية والخوف.. لن يكون ذكراً.. بل قد يكون سوء أدب في حق الله سبحانه. إنما هو التوجه إلى الله بالتذلل والضراعة، وبالخشية والتقوى.. إنما هو استحضار جلال الله وعظمته، واستحضار المخافة لغضبه وعقابه، واستحضار الرجاء فيه والالتجاء إليه.. حتى يصفو الجوهر الروحي في الإنسان، ويتصل بمصدره اللدني الشفيف المنير..
فإذا تحرك اللسان مع القلب وإذا نبست الشفاه مع الروح فليكن ذلك في صورة لا تخدش الخشوع ولا تناقض الضراعة. ليكن ذلك في صوت خفيض، لا مكاء وتصدية، ولا صراخاً وضجة، ولا غناء وتطرية! «واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول» ..
«بالغدو والآصال» .
في مطالع النهار وفي أواخره. فيظل القلب موصولاً بالله طرفي النهار. وذكر الله لا يقتصر على هذه الآونة، فذكر الله ينبغي أن يكون في القلب في كل آن ومراقبة الله يجب أن تكون في القلب في كل لحظة. ولكن هذين الآنين إنما تطالع فيهما النفس التغير الواضح في صفحة الكون.. من ليل إلى نهار.. ومن نهار إلى ليل. ويتصل فيهما القلب بالوجود من حوله وهو يرى يد الله تقلب الليل والنهار وتغير الظواهر والأحوال..
وإن الله- سبحانه- ليعلم أن القلب البشري يكون في هذين الآنين أقرب ما يكون إلى التأثر والاستجابة..
ولقد كثر في القرآن التوجيه إلى ذكر الله سبحانه وتسبيحه في الآونة التي كأنما يشارك الكون كله فيها في التأثير على القلب البشري وترقيقه وإرهافه وتشويقه للاتصال بالله.. «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ» .. «وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» .. «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» ..
ولا داعي للقول بأن هذا الأمر بالذكر في هذه الآونة قد كان قبل فرض الصلاة المكتوبة في أوقاتها المعلومة.
مما يوحي بأن فرض الصلاة المكتوبة قد أغنى عن هذا الأمر في هذه الآونة. فهذا الذكر أشمل من الصلاة، وأوقاته ليست مقصورة على مواقيت الصلاة المكتوبة. كما أنه قد يكون في صور غير صورة الصلاة- المكتوبة وغير المكتوبة- في صورة الذكر بالقلب، أو بالقلب واللسان دون بقية حركات الصلاة.. بل إنه لأشمل من ذلك كذلك. إنه التذكر الدائم والاستحضار الدائم لجلال الله- سبحانه- ومراقبته في السر والعلن، وفي الصغيرة والكبيرة، وفي الحركة والسكنة، وفي العمل والنية.. وإنما ذكر البكرة والأصيل والليل.. لما في هذه الأونة من مؤثرات خاصة يعلم الله ما تصنع في القلب البشري، الذي يعلم خالقه فطرته وطبيعة تكوينة! «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» ..
الغافلين عن ذكر الله.. لا بالشفة واللسان، ولكن بالقلب والجنان.. الذكر الذي يخفق به القلب فلا يسلك صاحبه طريقاً يخجل أن يطلع عليه الله فيه ويتحرك حركة يخجل أن يراه الله عليها ولا يأتي صغيرة أو كبيرة إلا وحساب الله فيها.. فذلك هو الذكر الذي يرد به الأمر هنا وإلا فما هو ذكر لله، إذا كان لا يؤدي إلى الطاعة والعمل والسلوك والاتباع.
اذكر ربك ولا تغفل عن ذكره ولا يغفل قلبك عن مراقبته فالإنسان أحوج إلى أن يظل على اتصال بربه، ليتقوى على نزغات الشيطان: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» . ولقد(3/1427)
كانت السورة من قبل معرضاً للمعركة بين الإنسان والشيطان في أوائلها، وظل سياقها يعرض موكب الإيمان وشياطين الجن والإنس تعترض طريقه، كما ذكر الشيطان في نبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. وكما ذكر في أواخرها نزغ الشيطان والاستعاذة منه بالله السميع العليم.. وهو سياق متصل، ينتهي بالتوجيه إلى ذكر الله تضرعاً وخيفة، والنهي عن الغفلة.. ويأتي هذا الأمر وهذا النهي في صدد توجيه الله سبحانه لرسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين.. فإذا هو تكملة لمعالم الطريق، وتزويد لصاحب الدعوة بالزاد الذي يقوى به على مشاق الطريق..
ثم يضرب الله مثلاً بالذين عنده من الملائكة المقربين: الذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، فليس له في تركيب طبيعتهم مكان! ولا تستبد بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة. ومع هذا فهم دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصرون. وللإنسان أحوج منهم إلى الذكر والعبادة والتسبيح. وطريقه شاق! وطبيعته قابلة لنزغ الشيطان! وقابلة للغفلة المردية! وجهده محدود. لولا هذا الزاد في الطريق الكؤود:
«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ. وَيُسَبِّحُونَهُ. وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
إن العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين.. إنه ليس منهج معرفة نظرية. وجدل لاهوتي.
إنه منهج حركة واقعية لتغيير الواقع البشري. وللواقع البشري جذوره وركائزه في نفوس الناس وفي أوضاعهم سواء. وتغيير هذا الواقع الجاهلي إلى الواقع الرباني الذي يريده الله للناس وفق منهجه مسألة شاقة عسيرة تحتاج إلى جهد طويل، وإلى صبر عميق. وطاقة صاحب الدعوة محدودة. ولا قبل له بمواجهة هذه المشقة دون زاد يستمده من ربه. إنه ليس العلم وحده، وليست المعرفة وحدها. إنما هي العبادة لله والاستمداد منه..
هي الزاد، وهي السند، وهي العون في الطريق الشاق الطويل! ومن ثم هذا التوجيه الأخير في السورة التي بدأت بقول الله سبحانه لرسوله الكريم، «كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به، وذكرى للمؤمنين» .. والتي تضمن سياقها عرض موكب الإيمان، بقيادة الرهط الكريم من رسل الله الكرام وما يعترض طريقه من كيد الشيطان الرجيم، ومن مكر شياطين الجن والإنس ومن معارضة المتجبرين في الأرض، وحرب الطواغيت المتسلطين على رقاب العباد.
إنه زاد الطريق. وعدة الموكب الكريم في هذا الطريق..(3/1428)
(8) سورة الأنفال مدنيّة وآياتها خمس وسبعون
بسم الله الرّحمن الرّحيم نعود الآن إلى القرآن المدني- بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين- وقد سبقت منه في هذه الظلال- التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لا وفق ترتيب النزول- سور: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة..
ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء- اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال، على ما في هذا من خلافات قليلة- فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة، فيكاد يكون متعذرا ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئا مستيقنا- إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات..
وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقا كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية، وليست نهائية يقينية.. وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة.. لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة- على وجه الإجمال والترجيح- والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص- على وجه الإجمال والترجيح أيضا- على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال.. وعلى هذا النحو نمضي- بعون الله- في هذه السورة.. «1»
نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة.. نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهرا من الهجرة على الأرجح.. ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة بل إن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي. ولكن المعول عليه في قولهم: إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة، هو نزول أوائل السور. كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة «2» .
__________
(1) وقد حاولت في كتاب: «مشاهد القيامة في القرآن» أن أعرض هذه المشاهد وفق ترتيب النزول للسور. ولكني آثرت في ظلال القرآن اتباع المنهج الآخر..
(2) ص 27- 28 من الجزء الأول.(3/1429)
وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية.. وهي هذه الآيات:
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا. لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ..
ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة.. ولكن هذا ليس بسبب.. فإن هناك كثيرا من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة. وفي هذه السورة نفسها آية: 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
كما أن الآية: 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، ثُمَّ يُغْلَبُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» ..
والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض. فقد جاء فيها: أن أبا طالب قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي. قال: نعم الرب ربك. فاستوص به خيرا! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أنا استوصي به! بل هو يستوصي بي خيرا! فنزلت: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» .. الآية..
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله: «وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا، بل منكر. لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين. لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه» ..
وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد الله ابن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس- وعنه كذلك من طريق آخر- حديثا طويلا عن تبييت قريش ومكرهم هذا، جاء في نهايته قوله: «.. وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه- بعد قدومه المدينة- «الأنفال» يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ..
وهذه الرواية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها.
من تذكير الله سبحانه لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف.. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا(3/1430)
الأمر كما سنبين.. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى..
وبعد، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان- رضي الله عنه- لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين.. مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع.
والله المستعان..
هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى.. وغزوة بدر- بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة- تقوم معلما ضخما في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.
وقد سمى الله- سبحانه- يومها «يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» .. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها.
فقال سبحانه: «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها- مِنْ غَمٍّ- أُعِيدُوا فِيها، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ..» .. (الحج: 19- 24) وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر.. يوم الفرقان.. لا في الدنيا وحدها، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل.. وتكفي هذه الشهادة من الجليل- سبحانه- لتصوير ذلك اليوم وتقديره..
وسنعرف شيئا من قيمة هذا اليوم، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها..
ومع كل عظمة هذه الغزوة، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات «الجهاد في الإسلام» ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه. كذلك نحن لا ندرك طبيعة «الجهاد في الإسلام» وبواعثه وأهدافه، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته..
لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» ، في الفصل الذي عقده باسم: «فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ» فنبأه بقوله: «اقْرَأْ» وأرسله ب «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين.
فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة.
وأهل حرب. وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده..
ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها يجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف(3/1431)
والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم..
فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، عهد مطلق، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائر هم إلى الله وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين» ..
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:
السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعا بشريا.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء..
والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية.
ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون- وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخلية عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيم(3/1432)
الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها..
والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول- سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشا، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.
ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة ذات مراحل محددة لكل مرحلة وسائلها المتجددة.
على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن «زاد المعاد» . وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه! والمهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» ليدفعوا عن الإسلام هذا «الاتهام!» ..
يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمر ان لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط- وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: «الحرب الدفاعية» .. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة «الإسلام» ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات..
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده- سبحانه- وربوبيته للعالمين.. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف:
الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله.. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض..
أو بالتعبير القرآني الكريم:
«وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» ..
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ..» ..(3/1433)
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم- هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في ما يعرف باسم «الثيوقراطية» أو الحكم الإلهي المقدس!!! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة.
وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر. وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان.
لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال! إن هذا الإعلان العام لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا.. إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا.. إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل «الحركة» إلى جانب شكل «البيان» .. ذلك ليواجه «الواقع» البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدا، يواجه هذا الدين- بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان غير سلطان الله- بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية.. عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة.. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد..
وإذا كان «البيان» يواجه العقائد والتصورات، فإن «الحركة» تواجه العقبات المادية الأخرى- وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة.. وهما معا- البيان والحركة- يواجهان «الواقع البشري» بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته.. وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض.. «الإنسان» كله في «الأرض» كلها.. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى! إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب! .. إن موضوعه هو «الإنسان» .. نوع «الإنسان» .. ومجاله هو «الأرض» .. كل الأرض. إن الله- سبحانه- ليس ربا للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم.. إن الله هو «رب العالمين» .. وهذا الدين يريد أن يرد «العالمين» إلى ربهم وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى- في نظر الإسلام- هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر.. وهذه هي «العبادة» التي يقرر أنها لا تكون إلا لله. وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أن «الاتباع» في الشريعة والحكم هو «العبادة» التي صار بها اليهود والنصارى «مشركين» مخالفين لما أمروا به من «عبادة» الله وحده..(3/1434)
أخرج الترمذي- بإسناده- عن عدى بن حاتم- رضي الله عنه- أنه لما بلغته دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فر إلى الشام. وكان قد تنصر في الجاهلية. فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة وهو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» ...
وتفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقول الله سبحانه، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض.. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير «الإنسان» ، في «الأرض» من العبودية لغير الله..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في «الأرض» لإزالة «الواقع» المخالف لذلك الإعلان العام.. بالبيان وبالحركة مجتمعين.. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله- أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه- والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى «البيان» واعتناق «العقيدة» بحرية لا يتعرض لها السلطان.
ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي- بعد إزالة القوة المسيطرة- سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد! إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته.. ولكن الإسلام ليس مجرد «عقيدة» ..
إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان.. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا- بالفعل- في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم- بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم- ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله! .. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده وذلك بتلقي الشرائع منه وحده. ثم ليعتنق كل فرد- في ظل هذا النظام العام- ما يعتنقه من عقيدة! وبهذا يكون «الدين» كله لله. أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله.. إن مدلول «الدين» أشمل من مدلول «العقيدة» .. إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة. ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة.. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام..
والذي يدرك طبيعة هذا الدين- على النحو المتقدم- يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف- إلى جانب الجهاد بالبيان- ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية- بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح «الحرب الدفاعية» - كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام- إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.
وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة «دفاع» .(3/1435)
ونعتبره «دفاعا عن الإنسان» ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره.. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان! وبهذا التوسع في مفهوم كلمة «الدفاع» نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في «الأرض» بالجهاد ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على «الوطن الإسلامي!» - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب- فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي! ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان- رضي الله عنهم- قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية- من أنظمة الدولة السياسية وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟! إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير «الإنسان» .. نوع الإنسان.. في «الأرض» .. كل الأرض.. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! .. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله وهو طليق من هذه الأغلال! إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي- وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام- آمنا أم مهددا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام- بأمر من الله- لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها.. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم: «فاستقر أمر الكفار معه- بعد نزول براءة- على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام.. فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه..
فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن (وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة) وخائف محارب» .. وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه. لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!(3/1436)
ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة.. وقيل للمسلمين: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. ثم أذن لهم فيه، فقيل لهم: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ- إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» .. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» .. وقيل لهم: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
فكان القتال- كما يقول الإمام ابن القيم- «محرما، ثم مأذونا به، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين» ..
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وعلى مدى طويل من تاريخه.. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي! ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ثم يظنه شأنا عارضا مقيدا بملابسات تذهب وتجيء ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟! لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض، لدفع الفساد عن الأرض: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة. الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض. وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن «الإنسان» في «الأرض» ذلك السلطان الغاصب.. حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله.
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة. كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة.
والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة.. هذا هدف أولي لا بد منه.. ولكنه ليس الهدف الأخير.. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ويؤمن قاعدة الانطلاق..
الانطلاق لتحرير «الإنسان» ، ولإزالة العقبات التي تمنع «الإنسان» ذاته من الانطلاق! وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم. لأنه كان مكفولا للدعوة في مكة حرية البلاغ..
كان صاحبها- صلى الله عليه وسلم- يملك بحماية سيوف بني هاشم، أن يصدع بالدعوة ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ويواجه بها الأفراد.. لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة، أو تمنع الأفراد من سماعه! فلا ضرورة- في هذه المرحلة- لاستخدام القوة. وذلك إلى أسباب أخرى لعلها(3/1437)
كانت قائمة في هذه المرحلة. وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ... » من سورة النساء. ولا نرى بأسا في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى:
«ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.
وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به- مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة، المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي! «وربما كان ذلك أيضاً، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه المرحلة- إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها. وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبداً. ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبداً! «وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذبونه ويفتنونه «ويؤدبونه!» ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال:
هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمداً يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وفي كل محلة؟
«وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟! «وربما كان ذلك أيضاً، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة- فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من بيئات «الحضارة» القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!(3/1438)
«وربما كان ذلك، أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهاج حياة، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة.
« ... إلخ» ... «1»
فأما في المدينة- في أول العهد بالهجرة- فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك..
أولا: لأن هناك مجالا للتبليغ والبيان، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة وبقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تصريف شؤونها السياسية. فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحا ولا يثير حربا، ولا ينشىء علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان واضحا أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة. فالمجال أمام الدعوة مفتوح، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة.
ثانيا: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يريد التفرغ- في هذه المرحلة- لقريش التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها! لذلك بادر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بإرسال «السرايا» وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة.
ثم توالت هذه السرايا، على رأس تسعة أشهر. ثم على رأس ثلاثة عشر شهرا. ثم على رأس ستة عشر شهرا.
ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال.
وكان ذلك في الشهر الحرام. والتي نزلت فيها آيات البقرة: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ! قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا ... » «2» .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة.. وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها.
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع، لا تدع مجالا للقول بأن «الدفاع» بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية. كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر! إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل سلطان إلا سلطان الله، ليكون الدين كله لله- فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام!
__________
(1) ص 713- 716 من الجزء الخامس من الظلال:
(2) يراجع تفسير الآية والغزوة في الجزء الثاني من الظلال ص 225- 228.(3/1439)
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية:
«فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً؟ الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» ... (النساء: 74- 76) .
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ... (الأنفال: 38- 40) ..
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ! اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. (التوبة: 29- 32) .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض وتحقيق منهجه في حياة الناس. ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد الله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي.. مع تقرير مبدأ: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
أي لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله. أو أن الدين كله لله. بهذا الاعتبار.
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض. بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. وهذه وحدها تكفي.. ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة! لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، جميعا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادةِ الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر» .
إن هناك مبررا ذاتيا في طبيعة هذا الدين ذاته وفي إعلانه العام، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه، في مراحل محددة، بوسائل متجددة.. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء- ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها- إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية.. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة، وموقوتة!(3/1440)
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهدا بنفسه وماله.. «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ولا يخرجه لها مغنم ذاتي..
إن المسلم قبل أن يتطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان.. مع هواه وشهواته.. مع مطامعه ورغباته.. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه.. مع كل شارة غير شارة الإسلام.. ومع كل دافع إلا العبودية لله، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية «الوطن الإسلامي» يغضون من شأن «المنهج» ويعتبرونه أقل من «الموطن» ! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات.. إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي. أما الأرض- بذاتها- فلا اعتبار لها ولا وزن! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها. وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و «دار الإسلام» ونقطة الانطلاق لتحرير «الإنسان» ..
وحقيقة أن حماية «دار الإسلام» حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج. ولكنها هي ليست الهدف النهائي. وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي. إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها. ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها، وإلى النوع الإنساني بجملته. فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين، والأرض هي مجاله الكبير! وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة، ونظام المجتمع، وأوضاع البيئة.. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة. كي يخلو له وجه الأفراد من الناس، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار..
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ «الجهاد» ، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين، في ملابسات دفاعية وقتية، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد! ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي.. وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية..
حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية فيه لله وحده.. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه..
هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا..(3/1441)
هذا كله حق.. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة.. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء لإنقاذ «الإنسان» في «الأرض» من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية تاركا «الإنسان» .. نوع الإنسان.. في «الأرض» ..
كل الأرض.. للشر والفساد والعبودية لغير الله.
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! .. ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين! وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق! إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من الأجناس! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة.. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد.. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق، بين تصور أن الإسلام كان مضطرا لخوض معركة لا اختيار له فيها، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه. وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء، فيدخل في هذه المعركة..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا.. خطيرا..
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة الله، التي يتمثل فيها سلطان الله، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته.. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي، أو أوضاع الناس الاجتماعية.. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية! هذا تصور.. وذاك تصور.. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد.. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافا بعيدا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.(3/1442)
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية «الإنسان» في الاختيار.
وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته. إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
من حق الإسلام أن يخرج «الناس» من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين، وتحرير الناس أجمعين.. وعبادة الله وحده لا تتحقق- في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي- إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم.
أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعا واحدا يخضع له الجميع على السواء.. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية.
فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصا وعملا، سواء ادعاها قولا أم لم يعلن هذا الادعاء! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية، سواء سماها باسمها أم لم يسمها! والإسلام ليس مجرد عقيدة. حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو.
ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام. وهذا- كما قلنا من قبل- معنى أن يكون الدين كله لله. فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد! إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة. لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة. ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة.. ومن ثم يقوم المنافحون- المهزومون- عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين- المهزومين- ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين» .. وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة.. ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادا لفرض العقيدة على الضمير! ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام. فالإسلام منهج الله للحياة البشرية. وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية- متمثلة في الحاكمية- وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات.. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة.
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام. مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان.. فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ. مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة. وعلى(3/1443)
هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة، في المراحل التاريخية المتجددة. ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل.
وبعد، فإن هناك بقية في بيان طبيعة «الجهاد في الإسلام» و «طبيعة هذا الدين» يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، بعنوان «الجهاد في سبيل الله» .. وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارىء يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية:
«لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة «الجهاد» «بالحرب المقدسة» () إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم. وقد فسروها تفسيرا منكرا. وتفننوا فيها، وألبسوها ثوبا فضفاضا من المعاني المموهة الملفقة.
وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء. وقد كان من لباقتهم، وسحر بيانهم، وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة، أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة.. الجهاد.. تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة، مصلتة سيوفها، متقدة صدورها بنار التعصب والغضب، متطايرا من عيونها شرار الفتك والنهب، عالية أصواتها بهتاف:
«الله أكبر» ، زاحفة إلى الأمام، ما إن رأت كافرا حتى أمسكت بخناقه، وجعلته بين أمرين: إما أن يقول كلمة: «لا إله إلا الله» فينجو بنفسه، وإما أن يضرب عنقه، فتشخب أو داجه دما! «ولقد رسم الدهان هذه «الصورة» بلباقة فائقة، وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر، وكتبوا تحتها:
«هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء، وجشع إلى الفتك بالأبرياء» ! «والعجب كل العجب، أن الذين عملوا على هذه الصورة وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار، هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية، وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة () التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها، وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها، ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين، ويفتشون عن المناجم والمعادن، وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم. يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه. وبين أيديهم الدبابات المدججة، وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء، ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها، وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة، يريدون بذلك أن يهيئوا وقودا لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهابا واضطرابا. فلم تكن حروبهم في «سبيل الله» ، وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة، وأهوائهم الذميمة ...
«هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال، الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة. أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم «المتحضر المتمدن!» . وأي بلاد الله، يا ترى، قد سلمت من عدوانهم، وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية؟
وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وإفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة؟ .. لكن هؤلاء الدهاة(3/1444)
رسموا صورتنا بلباقة منكرة، وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع، وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة، حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا.
فما أعظم دهاءهم! وما أبرعهم في التزوير والتمويه! «أما سذاجتنا وبله رجالنا، فحدث عن البحر ولا حرج! وأي بله أعظم من اغترارنا بالصورة المنكرة التي صوروا بها مآثرنا حتى كدنا نؤمن بصحتها ومطابقتها للحقيقة؟ وما دار بخلدنا أن ننظر إلى الأيدي الأثيمة التي عملت عملها في رسم هذه الصورة المزورة، وأن نبحث عن الأقلام الخفية التي تفننت في تمويهها وزخرفتها.
وقد بلغ من اغترارنا بتزويرهم، وانخداعنا بتلك الصورة المموهة أن اعترانا الخجل والندامة، وعدنا نعتذر إلى القوم، نبدل كلام الله، ونحرف الكلم عن مواضعه، ونقول لهم: «ما لنا وللقتال، أيها السادة، إنما نحن دعاة مبشرون، ندعو إلى دين الله، دين الأمن والسلام والدعة بالحكمة والموعظة الحسنة، نبلغ كلام الله تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية، ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن، بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن من يؤمن بدعوتنا عن بينة! هذه هي دعوتنا لا تزيد ولا تنقص! أما السيف والقتال به فمعاذ الله أن نمت إليه بصلة. اللهم إلا أن يقال: إننا ربما دافعنا عن أنفسنا حينما اعتدى علينا أحد! ذلك أيضا قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة. أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضا! ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد «رسميا» ! ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله! حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم المضجع! فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام! أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها، فأنتم أحق بها وأهلها!» .
«هذه مكايدهم السياسية التي كشفنا لك القناع عن بعضها فيما تقدم. لكنا إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية، ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة «الجهاد في سبيل الله» ، واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم فضلا عن غير المسلمين، لاح لنا أن مرجع هذا الخطأ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما، ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة:
«فالأول: أنهم ظنوا الإسلام نحلة () بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة «النحلة» () عامة..
«والثاني: أنهم حسبوا المسلمين أمة «1» () بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال.
«فالحقيقة أن خطأ القوم في فهم هذين الأمرين المهمين، وعدم استجلائهم لوجه الحق في هاتين المسألتين الأساسيتين هو الذي شوه وجه الحقيقة الناصعة في هذا الشأن، وعاقهم عن إدراك مغزى الجهاد الإسلامي.
بل الحق- والحق أحق أن يتبع- أن هذا الخطأ الأساسي في فهم هاتين المسألتين قد أرخى سدوله على حقيقة الدين الإسلامي بأسره، وقلب الأمر ظهرا لبطن، وجعل موقف المسلمين من العالم ومسائله المتجددة ومشاكله المتشعبة حرجا ضيقا، لا يرضاه الإسلام وتعاليمه الخالدة:
«فالنحلة «2» () على حسب الاصطلاح الشائع عندهم، لا يراد بها إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر. ولا جرم أن «النحلة» بهذا المعنى لا تعدو أن تكون مسألة شخصية. فأنت حر فيما تختاره من العقيدة ولك الخيار في أن تعبد بأي طريق شئت من رضيت به ربا لنفسك. وإن أبت نفسك إلا التحمس
__________
(1) يعني أمة قومية وهي التي تطلق عليها لفظة وإلا فالمسلمون «أمة» بالمصطلح الإسلامي وهي الجماعة من الناس المتجمعة على عقيدة الإسلام، المنتظمة في تجمع قائم على هذا الأساس، الخاضعة لقيادة تنفذ شريعة الله.
(2) وردت في الأصل كلمة: «مذهب» التي ترادفها لفظة: () في الإنجليزية.. المترجم.(3/1445)
لهذه النحلة والانتصار لعقيدتها فلك أن تخترق الأرض، وتجوب بلاد الله الشاسعة، داعيا إلى عقيدتها، مدافعا عن كيانها بالحجج والبراهين، مجادلا من يخالفونك فيها بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام. أما السيف وآلات الحرب والقتال، فما لك وما لها في هذا الشأن؟ أتريد أن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بعقيدتك؟! وإن كان الإسلام نحلة () كنحل العالم، على حسب الاصطلاح الشائع عندهم كما يزعمون، فالظاهر أنه لا شأن فيها للسيف وأدوات الحرب، كما قالوا. ولو كان موقف الإسلام في نفس الأمر كما زعموا ووصفوا لما كان فيه مساغ للجهاد، ولم يكن من الإسلام في ورد ولا صدر لكن الأمر على خلاف ذلك، كما سوف تعرفه فيما يأتي من البيان. وكذلك كلمة «الأمة» () فما هي إلا عبارة عن طائفة من الناس متوافقة فيما بينها (..) اجتمعت وتألفت وامتازت من بين طوائف أخرى لاشتراكها في بعض الأمور الجوهرية. فالطائفة التي تكون «أمة» ، بهذا المعنى، لا يبعثها على استخدام السيف إلا أمران: إما أن يعتدي عليها أحد، ويريد أن يسلبها حقوقها المعروفة وإما أن تحمل هي بنفسها على طائفة أخرى لتنتزع من يدها حقوقها المعروفة. ففي الصورة الأولى منهما، لها سعة في الأمر، وهي لا تخلو من وازع خلقي يلجئها إلى استخدام السيف والبطش بمن اعتدى عليها. وإن كان بعض المتشدقين بالأمن والسلام لا يبيح ذلك أيضا! - أما الصورة الثانية- أي الاعتداء على حقوق غيرها والإغارة على الشعوب والأمم من غير ما سبب- فلا يبيحها غير الجبابرة المسيطرين () حتى إن ساسة الدول الكبرى كبريطانيا وأمريكا أيضا لا يقدرون أن يجترئوا على القول بجوازها! «فإن كان الإسلام «نحلة» كالنحل الأخرى، والمسلمون «أمة» كغيرهم من أمم العالم، فلا جرم أن «الجهاد» الإسلامي يفقد بذلك جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها.. لكن الحقيقة أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة، وأن المسلمين ليسو بأمة كأمم العالم.. بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية () ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي.. ومن هناك تعرف أن لفظ «المسلم» وصف للحزب الانقلابي العالمي (..) الذي يكونه الإسلام، وينظم صفوفه، ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام، ويطمح إليه ببصره. والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي (.) عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية، وإدراك هذا المبتغى.
«والإسلام يتجنب الكلمات الشائعة في دعوته وبيان منهجه العملي- شأن غيره من الدعوات الفكرية والمناهج الانقلابية- بل يؤثر لذلك لغة من المصطلحات () خاصة، لئلا يقع الالتباس بين دعوته وما إليها من الأفكار والتصورات، وبين الأفكار والتصورات الشائعة الرائجة. «فالجهاد» أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لأداء مهمته وتبيين تفاصيل دعوته. فأنت ترى أن الإسلام قد تجنب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال () في اللغة العربية، واستبدل بها كلمة () في اللغة الانجليزية. غير أن لفظة (الجهاد) أبلغ منها تأثيرا، وأكثر منها إحاطة بالمعنى المقصود. فما الذي أفضى بالإسلام إلى أن يختار هذه الكلمة الجديدة، صارفا بوجهه عن الكلمات القديمة الرائجة؟ الذي أراه وأجزم به أنه ليس لذلك إلا سبب واحد: وهو أن لفظة «الحرب» () كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية.
والغايات التي ترمي إليها أمثال هذه الحروب لا تعدو أن تكون مجرد أغراض شخصية أو اجتماعية، لا تكون(3/1446)
فيها رائحة لفكرة أو انتصار لمبدأ. وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبيل هذه الحروب، لم يكن له بد من ترك هذه اللفظة (الحرب) البتة. فإن الإسلام لا ينظر إلى مصلح أمة دون أمة، ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب وكذلك لا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك الأرض وتستولي عليها هذه المملكة أو تلك وإنما تهمه سعادة البشر وفلاحهم. وله فكرة خاصة ومنهاج عملي مختار لسعادة المجتمع البشري والصعود به إلى معارج الفلاح. فكل حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة، ومنهاج غير هذا المنهاج، يقاومها الإسلام، ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرما ولا يعنيه في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت فيها تلك الحكومة غير المرضية، أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها. فإن غايته استعلاء فكرته، وتعميم منهاجه، وإقامة الحكومات وتوطيد دعائمها على أساس هذه الفكرة وهذا المنهاج، بصرف النظر عمن يحمل لواء الحق والعدل بيده ومن تنتكس راية عدوانه وفساده! والإسلام يتطلب «الأرض» ، ولا يقنع بقطعة أو جزء منها وإنما يتطلب ويستدعي المعمورة الأرضية كلها. ولا يتطلبها لتستولي عليها وتستبد بمنابع ثروتها أمة بعينها بعد ما تنتزع من أمة أو أمم شتى، بل يتطلبها الإسلام ويستدعيها ليتمتع الجنس البشري بأجمعه بفكرة السعادة البشرية ومنهاجها العملي اللذين أكرمه الله بهما، وفضله بهما على سائر الأديان والشرائع. وتحقيقا لهذه الغاية السامية يريد الإسلام أن يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب علمي شامل ويبذل الجهد المستطاع للوصول إلى هذه الغاية العظمى ويسمي هذا الكفاح المستمر، واستنفاد القوى البالغ واستخدام شتى الوسائل المستطاعة «بالجهاد» . فالجهاد كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد. وإذا عرفت هذا فلا تعجب إذا قلت: إن تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم، وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام نوع من أنواع الجهاد، كما أن القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف، وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة أيضا من أصناف الجهاد. وكذلك بذل الأموال، وتحمل المشاق، ومكابدة الشدائد أيضا فصول وأبواب مهمة من كتاب «الجهاد» العظيم.
«لكن الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له وإنما هو الجهاد في سبيل الله وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبدا. وذلك أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه، كما أشرت إليه آنفا. وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر، وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو «الجهاد في سبيل الله» وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم. لكن الحق أن «سبيل الله» في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون، وأسمى غاية وأبعد مراما مما يظنون ويزعمون..
«فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل، أو جماعة من المسلمين، تبذل جهودها، وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة، وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية، فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض، مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية، لا تقصد من وراء جهودها، وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس، ولا تبتغي بها بدلا في هذه الحياة الفانية، ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة الله أن ينال جاها وشرفا أو سمعة وحسن أحدوثة، ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته، ويستبد بزمام الأمر، ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة، بعد ما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم. وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته:
«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» ... (النساء: 76)(3/1447)
.. «وقد تضمنت الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ... (البقرة: 21) «لباب هذه الدعوة، دعوة الإسلام الانقلابية، وجوهرها. فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال، أو الفلاحين، أو الملاكين، أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع، ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم.
وإنما يخاطب الإسلام بني آدم كافة. ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري، فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذوا إلها ولا ربا غيره. وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم، ولا يستنكفوا عن عبادته، ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق، فإن الحكم والأمر لله وحده، وبيده مقاليد السماوات والأرض فلا يجوز لأحد من خلقه، كائنا من كان، أن يعلو في الأرض ويتكبر، ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته. ودعوته لهم جميعا أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة، كما ورد في التنزيل:
«تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» ... (آل عمران: 64) .
«فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل، لا غموض فيها ولا إبهام. فإنه قد نادى بملء صوته:
«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. (يوسف: 40) «فليس لأحد من بني آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرا عليهم، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى، هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق، وعتو عن أمره، وطموح إلى مقام الألوهية «1» . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكا وأمراء إنما يشركون بالله، وذلك مبعث الفساد في الأرض، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.
«إن دعوة الإسلام إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد، لم تكن قضية كلامية. أو عقيدة لا هوتية فحسب.
شأن غيره من النحل والملل بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي (.)
أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة. فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ومنهم من استأثر بالملك والإمرة، وتحكم في رقاب الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة عليهم يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به.. فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعا وتستأصل شأفتهم استئصالا.. وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آبائهم أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا:
«ما علمت لكم من إله غيري» .. و «أنا ربكم الأعلى» .. و «أنا أحيي وأميت» .. و «من أشد منا قوة؟» ..
إلى غيرها من كلمات الاستكبار ودعاوى الألوهية التي تفوهوا بها وتجاسروا عليها بغيا وعدوانا. وطورا استغلوا جهل الدهماء وسفههم، فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة، يدعون الناس ويريدونهم على
__________
(1) ولا يختلف الحال لو كانت هيئة، أو كان «الشعب» هو الذي ينشىء شرائعه من غير سلطان من الملك الأعلى ... فالعبرة هي بهذا القيد.. سواء كان المشرّع فردا أم جماعة أم شعبا!(3/1448)
أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل متوارين بأنفسهم من ورائها، يلعبون بعقول الناس، ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون «1» ! فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد، وتنديده بالكفر والشرك بالله، واجتناب الأوثان والطواغيت.. كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة والعاملين عليها المتصرفين في أمورها، والذين يجدون فيها سندا لهم، وعونا على قضاء حاجاتهم وأغراضهم.. ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة، وخاطبهم قائلا: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» .. قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره، وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلما وعدوانا.. خرجت تقاومه، وتضع في سبيل الدعوة العقبات.
وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية، أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات () وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه، المستبدين بمنابع الثراء، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام! «إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية، وجملة من المناسك والشعائر، كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام. بل الحق أنه نظام شامل، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم، ويقطع دابرها، ويستبدل بها نظاما صالحا، ومنهاجا معتدلا، يرى أنه خير للإنسانية من النظم الأخرى، وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان، وسعادة له وفلاحا في العاجلة والآجلة معا.
«ودعوته في هذه السبيل، سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء، عامة للجنس البشري كافة، لا تختص بأمة دون أمة، أو طائفة دون طائفة. فهو يدعو بني آدم جميعا إلى كلمته حتى إنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه، واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس.. يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلا: لا تطغوا في الأرض، وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه. فإن أسلمتم لأمر الله، ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرا وبركة، فلكم الأمن والدعة والسلامة فإن الحق لا يعادي أحدا وإنما يعادي الحق الجور، والفساد والفحشاء، وأن يتعدى الرجل حدوده الفطرية، ويبتغي ما وراء ذلك، مما لا حظ له فيه حسب سنن الكون، وفطرة الله التي فطر الناس عليها.
«فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن، يصير عضوا في «الجماعة الإسلامية» أو «الحزب الإسلامي» لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود، أو بين الغني منهم والفقير. كلهم سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأمة على أمة. أو لطبقة على أخرى. وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي، الذي سمي «حزب الله» بلسان الوحي.
«وما إن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها. فمن طبيعته، وما يستدعيه وجوده، أن لا يألو جهدا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام، واستئصال شأفتها، وأن يستنفد مجهوده في أن يستبدل بها نظاما للعمران والاجتماع معتدلا، مؤسسا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم: «كلمة الله» . فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع،
__________
(1) أما في الجاهليات الحاضرة فإن شكل الأصنام والهيا كل فقط هو الذي تغير. وهي تقيم للمغفلين من الناس والمستخفين أصناما وهياكل معنوية من نوع آخر ينطق سدنتها باسمها ويقولون: إنها تريد كذا وكذا، فيستجيب المغفلون والمستخفون!!!(3/1449)
ولم يسع سعيه وراء تغيير نظم الحكم وإقامة نظام الحق.. نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام.. ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل، فاتته غايته. وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ لأجلها. فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية، وتحقيق هذه البغية.. بغية إقامة نظام الحق والعدل.. ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد في هذه السبيل. وهذه الغاية الوحيدة التي بينها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» .. (آل عمران: 110) «ولا يظن أحد أن هذا الحزب.. «حزب الله» بلسان الوحي.. مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين، يعظون الناس في المساجد، ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا! ليس الأمر كذلك! وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده، ويكون شهيدا على الناس ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم أن يقضي على منابع الشر والعدوان، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة، الذين تكبروا في أرض الله بغير الحق وجعلوا أنفسهم أربابا من دون الله ويستأصل شأفة ألوهيتهم. ويقيم نظاما للحكم والعمران صالحا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير.. وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم:
«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» .. (الأنفال: 38) .
«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» .. (الأنفال: 73) .
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .. (التوبة: 33) «فتبين من كل ذلك أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح، ويؤتي أكله، إلا بعد ما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين. ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
«وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة، لا يقدر أن يبقى ثابتا على خطته، متمسكا بمنهاجه، عاملا وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائما على أساس آخر، سائرا على منهاج غير منهاجه. وذلك أن حزبا مؤمنا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص، لا يمكن أن يعيش متمسكا بمبدئه عاملا حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادئ والغايات التي يؤمن بها، ويريد السير على منهاجها. فإن رجلا يؤمن بمبادىء الشيوعية، إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا، متمسكا بمبدئه، سائرا في حياته على البر نامج الذي تقرره الشيوعية، فلن يتمكن من ذلك أبدا، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية «1» تكون مهيمنة عليه، قاهرة بما أوتيت من سلطان، فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلا.. وكذلك إن أراد المسلم أن يقضي حياته مستظلا بنظام للحكم مناقض لمبادىء الإسلام الخالدة «2» وبوده أن يبقى مستمسكا بمبادىء الإسلام، سائرا وفق مقتضاه في أعماله اليومية، فلن يتسنى له ذلك، ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدا. لأن القوانين التي يراها باطلة، والضرائب
__________
(1) كتب هذا البحث سنة 1938 والنظام النازي قائم في ألمانيا.
(2) وكل حكم لا تتمحض فيه العبودية لله، بسيطرة شريعة الله كلها على الحياة كلها هو حكم مناقض للإسلام [.....](3/1450)
التي يعتقدها غرما ونهبا لأموال الناس، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتا على العدل، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض، ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها، ويرى فيها هلاكا للأمة.. يجد كل هذه مهيمنة عليه، ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده، بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها. فالذي يؤمن بعقيدة ونظام- فردا كان أو جماعة- مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة على فكرة غير فكرته، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام للحكم مستند إلى الفكرة التي يؤمن بها ويعتقد أن فيها سعادة للبشر. لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق. وإذا رأيت رجلا لا يسعى وراء غايته، أو يغفل عن هذا الواجب، فاعلم أنه كاذب في دعواه. ولما يدخل الإيمان في قلبه. وبهذا المعنى ورد في التنزيل:
«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» ... (التوبة: 43- 45) .
«وأي شهادة أصدق وأي حجة أنصع من شهادة القرآن وحجته ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله، وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه، وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ...
«لعلك تبينت مما أسلفنا آنفا أن غاية () الجهاد في الإسلام، هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه، وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها. وهذه المهمة.. مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام. غير منحصرة في قطر دون قطر. بل مما يريده الإسلام، ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة.. هذه غايته العليا، ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره.
إلا أنه لا مندوحة للمسلمين، أو أعضاء «الحزب الإسلامي» عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها. أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل (.) المحيط بجميع أنحاء الأرض. وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية، بل تدعو الناس جميعا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين، لا يمكنها أصلا أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قطر. بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينها، ولا تغفل عنها طرفة عين. فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية، ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافية واصطلحوا عليها. فالحق يتحدى العقول البشرية النزيهة.
ويقول لها مطالبا بحقه: ما بالكم تقولون: إن القضية الفلانية «حق» في هذا الجانب من ذاك الجبل أو النهر مثلا، ثم تعود القضية نفسها «باطلا» - بزعمكم- إذا جاوزنا ذاك الجبل أو النهر بأذرع؟! الحق حق في كل حال وفي كل مكان! وأي تأثير للجبال والأنهار في تغيير حقيقته المعنوية؟! الحق ظله وارف، وخيره عام شامل، لا يختص ببيئة دون بيئة، ولا قطر دون قطر. فأينما وجد «الإنسان» مقهورا فالحق من واجبه أن يدركه ويأخذ بحقه وينتصر له. ومهما أصيبت «الإنسانية» في أبنائها المستضعفين، فعلى العدل ومبادئه(3/1451)
والحاملين للوائه أن يلبوا نداءها، ويأخذوا بناصرهم حتى ينتصروا لهم من أعدائهم الجائرين، ويستردوا لهم حقوقهم المغصوبة التي استبد بها الطغاة بغيا وعدوانا. وبهذا المعنى نطق لسان الوحي، حيث ورد في التنزيل:
«وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» ... (النساء: 75) «وزد على ذلك أن الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية- على ما أثرت فيها الفوارق القومية والوطنية، وأحدثت فيها من نزعات الشتات والاختلاف- قد تشتمل على تلاؤم شامل، وتجانس عام بين أجزائها، ربما يتعذر معه أن تسير مملكة في قطر بعينه بحسب مبادئها وخططها المرسومة المستبينة، ما دامت الأقطار المجاورة لها لا توافقها على مبادئها وخطتها، ولا ترضى بالسير وفق منهاجها وبرنامجها «1» . من أجل ذلك وجب على الحزب المسلم، حفظا لكيانه، وابتغاء للإصلاح المنشود، ألا يقنع بإقامة نظام الحكم الإسلامي في قطر واحد بعينه. بل من واجبه الذي لا مناص له منه بحال من الأحوال، ألا يدخر جهدا في توسيع نطاق هذا النظام وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الأرض. ذلك بأن يسعى الحزب الإسلامي، في جانب، وراء نشر الفكرة الإسلامية، وتعميم نظرياتها الكاملة ونشرها في أقصى الأرض وأدناها ويدعو سكان المعمورة- على اختلاف بلادهم وأجناسهم وطبقاتهم أن يتلقوا هذه الدعوة بالقبول، ويدينوا بهذا المنهاج الذي يضمن لهم السعادتين، سعادتي الدنيا والآخرة.. وبجانب آخر، يشمر عن ساق الجد، ويقاوم النظم الجائرة المناقضة لقواعد الحق والعدل بالقوة، إذا استطاع ذلك وأعد له عدته، ويقيم مكانها نظام العدل والنصفة، المؤسس على قواعد الإسلام ومبادئه الخالدة التي لا تبلى، ولن تبلى جدتها على مرور الأيام والليالي.
«هذه هي الخطة التي سلكها. وهذا هو المنهاج الذي انتهجه النبي- صلّى الله عليه وسلم- ومن جاء بعده، وسار بسيرته من الخلفاء الراشدين، فإنهم بدأوا ببلاد العرب. ثم أشرقت شمس الإسلام من آفاقها. وأخضعوها أولا لحكم الإسلام، وأدخلوها في كنف المملكة الإسلامية الجديدة. ثم دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- الملوك والأمراء والرؤساء في مختلف بقاع الأرض إلى دين الحق والإذعان لأمر الله. فالذين آمنوا بهذه الدعوة انضموا إلى هذه المملكة الإسلامية وأصبحوا من أهلها، والذين لم يلبوا دعوتها ولم يتقبلوها بقبول حسن شرع في قتالهم وجهادهم.. ولما استخلف أبوبكر رضي الله عنه، بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- والتحاقه بالرفيق الأعلى، حمل على المملكتين المجاورتين للمملكة الإسلامية.. مملكتي الروم والفرس. اللتين بلغ من عتوهما وتماديهما في الغي والاستكبار في الأرض ما طبقت شهرته الآفاق. وبلغت هذه الحملات التي بدأ بها الصديق- رضي الله عنه- غايتها في عصر الفاروق الذي يرجع إليه الفضل العظيم في توطيد دعائم المملكة الإسلامية الأولى، حتى شمل ظلها الوارف تلك الأقطار جميعا «2» » ... (انتهت المقتطفات) .
__________
(1) وبخاصة إذا كانت هذه المبادئ والخطط هي مبادئ الإسلام وخططه التي تنتزع السلطان من كل متسلط وترده إلى الله وحده. ومن ثم تتجمع في وجهها جميع الأنظمة، وجميع الحكومات، وجميع المعسكرات التي تقوم على أساس عبودية البشر للبشر.. القاعدة التي تشترك فيها جميع أنظمة البشر!
(2) ولم تكن تلك الفتوحات التي بدأت على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسارت في طريقها في عهد الخليفتين الراشدين بعده..
مجرد عدوى من الروح الامبراطورية السائدة في الأرض في ذلك الزمان كما يزعم بعض المستشرقين والمتأثرين بمزاعمهم! فما كان هذا الدين الذي جاء ليبدل واقع الأرض وتصوراتها ليأخذ «العدوى» من واقع الأرض وتصوراتها! وما كان رسول الله ليخدع عن حقيقة دين الله بهذه العدوى!(3/1452)
على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته، ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته، ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله.. نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى، التي قال الله سبحانه عن يومها إنه «يوم الفرقان» .. وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال، التي نزلت في هذه الغزوة، على وجه الإجمال.
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي- كما بينا من قبل- فقد سبقتها عدة سرايا، لم يقع قتال إلا في واحدة منها، هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. وكانت كلها تمشيا مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام.
والتي أسلفت الحديث عنها من قبل.. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين الكرام ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله وبتقرير ألوهية الله في الأرض وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت، تمشيا مع خطته العامة وانتصافا في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان.. وإن كان ينبغي دائما ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر- ولا ننسى- طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتا يغتصب سلطان الله ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال! أما أحداث هذه الغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها، ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة وندرك مرامي النصوص فيها وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى.. ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب!! إنما تدرك أولا وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي وفي واقعيتها الإيجابية وتعاملها مع الواقع الحي. وهي- وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثرا من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه- لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي.. ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم، وفاعليتها المستمرة، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين، الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب.. وهم قاعدون! ..
قال ابن إسحاق «1» : ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجاراتهم. وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون..
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير. وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس رضي الله عنهما.. كل قد
__________
(1) واعتمد ابن كثير على ابن إسحاق في روايته للغزوة في كتابه: «البداية والنهاية» ولم يفترق المقريزي في «إمتاع الأسماع» عن هذه الرواية في كثير. وكذلك رواها باختصار الإمام ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» والإمام ابن حزم في «جوامع السيرة» وقد استقينا من جميعها(3/1453)
حدثني بعض الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر، قالوا:
لما سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلقى حربا (وفي زاد المعاد وإمتاع الأسماع أنه صلى الله عليه وسلم أمر من كان ظهره- أي ما يركبه- حاضرا بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالا كبيرا) .. وقال ابن القيم: «وجملة من حضر بدرا من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: من المهاجرين ستة وثمانون.
ومن الأوس واحد وستون. ومن الخزرج مائة وسبعون. وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة وأصبر عند اللقاء، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة، وجاء النفير بغتة، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا. فاستأذنه رجال ظهورهم كانت في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم، فأبى. ولم يكن عزمهم على اللقاء، ولا أعدوا له عدة، ولا تأهبوا له أهبة. ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد» .
وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفا على أمر الناس (أي على أموالهم التي معه في القافلة) حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك. فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لنا في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال المقريزي في «إمتاع الأسماع» : فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول: يا معشر قريش، يا آل لؤي ابن غالب، اللطيمة (وهي العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب وليس فيما تحمله طعام يؤكل) قد عرض لها محمد في أصحابه. الغوث الغوث. والله ما أرى أن تدركوها! وقد جدّع أذني بعيره، وشق قميصه وحول رحله.
فلم تملك قريش من أمرها شيئا حتى نفروا على الصعب والذلول، وتجهزوا في ثلاثة أيام. وقيل في يومين.
وأعان قويهم ضعيفهم. وقام سهيل بن عمرو، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، يحضون الناس على الخروج. فقال سهيل: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدا والصباة (أي المرتدين، يقصد المسلمين!) من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأموالكم؟ من أراد مالا فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة. فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات! ومشى نوفل بن معاوية الديلي إلى أهل القوة من قريش فكلمهم في بذل النفقة والحملان (أي ما يحمل عليه من الدواب، يقال فيما يكون هبة خاصة) لمن خرج. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت. وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار وثلاث مائة دينار قوى بها في السلاح والظهر، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة. وكان لا يتخلف أحدا من قريش إلا بعث مكانه بعيثا. ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا، ويقال: إنه بعث مكانه العاصي، ابن هشام بن المغيرة- وكان له عليه دين- فقال: اخرج، وديني لك. فخرج عنه! ... وأخذ عداس (وهو الغلام النصراني الذي أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بقطف من العنب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى الطائف فرده أهله ردا قبيحا، وأتبعوه السفهاء والصبية يرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فلجأ منهم إلى بستان عتبة وشيبة. وقد وقع في نفس عداس ما وقع من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكب على يديه وقدميه يقبلهما!) يخذل شيبة(3/1454)
وعتبة ابني ربيعة عن الخروج، والعاص بن منبه بن الحجاج. وأبى أمية بن خلف أن يخرج، فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل فعنفاه. فقال ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي! فابتاعوا له جملا بثلاث مائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون! .. وما كان أحد منهم أكره للخروج من الحارث بن عامر. ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه. ورأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها (وفيها نذير لقريش بالقتل والدم في كل بيت) ... فكره أهل الرأي المسير، ومشى بعضهم إلى بعض، فكان من أبطئهم عن ذلك الحارث بن عامر، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، وأبو البختري (ابن هشام) وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه حتى بكتهم أبو جهل، وأعانه عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة، فاجمعوا المسير.. وخرجت قريش بالقيان والدفاف يغنين في كل منهل، وينحرون الجزر، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا.. وقادوا مائة فرس، عليها مائة دارع سوى دروع المشاة. وكانت إبلهم سبعمائة بعير. وهم كما ذكر الله تعالى عنهم بقوله: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .. (الأنفال: 47) .
وأقبلوا في تجمل عظيم وحنق زائد على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لما يريدون من أخذ عيرهم، وقد أصابوا من قبل عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه (في سرية عبد الله بن جحش) ..
وأقبل أبو سفيان بالعير ومعها سبعون رجلا (في رواية ابن إسحاق ثلاثون رجلا) منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو ابن العاص، فكانت عيرهم ألف بعير تحمل المال. وقد خافوا خوفا شديدا حين دنوا من المدينة، واستبطأوا ضمضم بن عمرو والنفير (الذين نفروا من قريش ليمنعوا عيرهم) .. فأصبح أبو سفيان ببدر وقد تقدم العير وهو خائف من الرصد. فضرب وجه عيره، فساحل بها (أي اتجه إلى ساحل البحر بعيدا عن طريق المدينة) وترك بدرا يسارا، وانطلق سريعا.. وأقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل. يطعمون الطعام من أتاهم وينحرون الجزر.. وأتاهم قيس بن امرئ القيس من أبي سفيان يأمرهم بالرجوع، ويخبرهم أن قد نجت عيرهم. فلا تجزروا أنفسكم أهل يثرب (يعني لا تعرضوا أنفسكم لأن يذبحكم أهل يثرب) فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك.
إنما خرجتم لتمنعوا العير وأموالكم، وقد نجاها الله! فعالج قريشا فأبت الرجوع (من الجحفة) . وقال أبو جهل: لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم ثلاثاً، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا فلن تزال العرب تهابنا أبدا.. وعاد قيس إلى أبي سفيان، فأخبره بمضى قريش. فقال: وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغي منقصة وشؤم.
إن أصاب محمد النفير ذللنا..
قال ابن إسحاق: وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان حليفا لبني زهرة، وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل. وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها، وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة. لا ما يقول هذا (يعني أبا جهل) فرجعوا، فلم يشهدها زهري واحد.. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بني عدي ابن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد (في إمتاع الأسماع أن طعمة بن عدي حمل على عشرين بعيرا، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة) .. وكان بين طالب بن أبي طالب- وكان في القوم- وبين بعض قريش محاورة.
فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم، وإن خرجتم معنا، إن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكة مع من رجع!(3/1455)
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه.
وكانت إبل أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها (أي كانو يركبونها بالتعاقب) فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا. وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة وأنسة موليا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتقبون بعيرا. وكان أبوبكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا..
قال المقريزي في إمتاع الأسماع:
ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش. فاستشار الناس، فقام أبو بكر- رضي الله عنه- فقال فأحسن. ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قال: يا رسول الله، إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبدا، ولتقاتلنك، فأتهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا» (وبرك الغماد موضع بأقصى اليمن) فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيرا ودعا له بخير.. ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس» . وإنما يريد الأنصار.. وكان يظنهم لا ينصرونه إلا في الدار، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم (وذلك في بيعة العقبة الثانية التي هاجر على أساسها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة) فقام سعد بن معاذ- رضي الله عنه- فقال: أنا أجيب عن الأنصار، كأنك يا رسول الله تريدنا! قال: «أجل» . قال: إنك عسى أن تكون قد خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره (يعني كما يبدو أنك ربما تكون قد خرجت لأمر ثم أوحي إليك في غيره إذ كان قد خرج للعير ثم عرض النفير) ، فإنا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق، فأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة. فامض يا نبي الله لما أردت. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل. وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت. والذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قط، وما لي بها من علم وما نكره أن نلقى عدونا غدا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عيناك..
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال: إنا خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولا أطوع لك منهم ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشا فتكون فيه، ونعد عندك رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببناه، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا..
فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- خيرا. وقال: «أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد» . فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.
والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» .. فعلم القوم أنهم إنما يلاقون القتال وأن العير تفلت ورجوا النصر لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن يومئذ عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الألوية. وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير. ورايتان سوداوان. إحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار (هو سعد بن معاذ) وأظهر السلاح.. وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود.
... ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من رمضان،(3/1456)
فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي الله عنهم يتحسسون على الماء. وأشار لهم إلى ظريب (تصغير ظرب وهو الجبل الصغير المنبسط في حجارة دقاق) وقال: أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظرب. فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم (الروايا من الإبل حوامل الماء وسقاء جمع سقاء) فأفلت عامتهم- وفيهم عجير- فجاء قريشا، فقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه قد أخذوا سقاءكم. فماج العسكر وكرهوا ذلك، والسماء تمطر عليهم. وأخذ تلك الليلة أبو يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي. فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهم فضربوهم. فقالوا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير! فأمسكوا عنهم! فسلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم!» ثم أقبل عليهم يسألهم، فأخبروه أن قريشا خلف هذا الكثيب، وأنهم ينحرون يوما عشرا ويوما تسعا، وأعلموه بمن خرج من مكة. فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين الألف والتسعمائة. وقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها» .
واستشار أصحابه في المنزل، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح.. انطلق بنا إلى أدنى بئر إلى القوم.
فإني عالم بها وبقلبها. بها قليب (أي بئر قديمة لا يعلم من حفرها) قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح.
ثم نبني عليها حوضا، ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونعور ما سواها من القلب. فقال: يا حباب أشرت بالرأي (وفي رواية ابن هشام عن ابن إسحاق أن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله، هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: يا رسول الله، هذا ليس بمنزل.. ثم أشار بما أشار) ونهض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنزل على القليب ببدر. وبات تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة (أي ما بقي من جذعها بعد قطع أعلاه) .
وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان. وفعل ما أشار به الحباب.. وبعث الله السماء، فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير. وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه. وإنما بينهم قوز من رمل. وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على المشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم. فناموا، حتى إن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه. واحتلم رفاعة ابن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل.. وبعث- صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود- رضي الله عنهما- فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون، وأن السماء تسح عليهم.
وبني لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما نزل على القليب- عريش من جريد. وقام سعد بن معاذ على بابه متوشح السيف. ومشى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على موضع الوقعة، وعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعا مصرعا، يقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان.. فما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدّ له الرسول. وعدل صلى الله عليه وسلم الصفوف. ورجع إلى العريش فدخل- صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حتى أصبحت فأقبلت. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم- تصوّب من العقنقل (وهو الكثيب الذي جاءوا منه) إلى الوادي، قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» . وقد قال رسول(3/1457)
الله- صلى الله عليه وسلم- وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر، فقال: «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» .
«وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري- أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري- بعث إلى قريش- حين مروا به- ابنا له بجزائر (أي ذبائح) أهداها لهم. وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.
قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم. قد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيهم حكيم ابن حزام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «دعوهم» . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل. إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل. ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه قال:
لا والذي نجاني من يوم بدر! قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار قالوا:
لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) قال: فاستجال بفرسه حول العسكر! ثم رجع إليهم، فقال: ثلاث مائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون.
ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد. قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا. نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم! فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى ألا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال:
ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي. قال: قد فعلت، أنت عليّ بذلك، إنما هو حليفي فعليّ عقله (أي دية أخيه الذي قتل في سرية عبد الله بن جحش كما سبق) وما أصيب من ماله. فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. يعني أبا جهل بن هشام. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرّضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها. فقلت له:
يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره (يعني انتفخت رئته من الخوف!) حين رأى محمدا وأصحابه. كلا! والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه (يعني أبا حذيفة رضي الله عنه وكان مسلما مع المسلمين) فقد تخوفكم عليه! ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس. وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك (أي عهدك) ومقتل أخيك! فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف، ثم صرخ: وا عمراه! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس (أي اشتد) واستوسقوا على ما هم عليه من الشر. فأفسد على الناس(3/1458)
الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره. قال: سيعلم مصفر استه (يريد أن يشبهه في الجبن كالرجل الذي يتأنث!) من انتفخ سحره؟ أنا أم هو! قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال:
أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- فلما التقيا ضربه حمزة فأطنّ قدمه (أي أطارها) بنصف ساقه. وهو دون الحوض. فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد- زعم- أن يبر يمينه، واتبعه حمزة، فضربه حتى قتله في الحوض! ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، ورجل آخر يقال: هو عبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة (وقال ابن إسحاق: إن عتبة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا إليه: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا) ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. «قم يا عبيدة ابن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي» . فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة: عبيدة؟
وقال حمزة: حمزة! وقال علي: علي! قالوا. نعم أكفاء كرام! فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة ابن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (أي جرحه جرحا لا يملك معه الحركة) وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه (أي أجهزا عليه) واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض. وقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم. قال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» .. ثم عدل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصفوف ورجع إلى العريش، فدخله ومعه فيه أبوبكر ليس معه فيه غيره. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: «اللهم إن نهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» وأبوبكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وفي إمتاع الأسماع للمقريزي: أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله إني أشير عليك- ورسول الله أعظم وأعلم من أن يشار عليه- إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا ابن رواحة، ألا أنشد الله وعده؟ إن الله لا يخلف الميعاد» .
قال ابن إسحاق: وقد خفق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خفقة وهو في العريش، ثم انتبه، فقال:
«أبشر يا أبابكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذا بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع» (يعني الغبار) .
وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين رحمة الله. ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار- وهو يشرب من الحوض- بسهم، فأصاب نحره، فقتل رحمة الله.
ثم خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الناس فحرضهم وقال: «والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل، صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» . فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ (كلمة تقال للإعجاب) أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن(3/1459)
يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف بن الحارث- وهو ابن عفراء- قال:
يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: «غمسه يده في العدو حاسرا» فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، أنه حدثه، أنه لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل بن هشام:
اللهم، أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة! فكان هو المستفتح.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: «شاهت الوجوه!» ثم نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة. فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم..
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوشحاً السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخافون عليه كرة العدو ورأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي- في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!» قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك.
فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال! قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يومئذ: «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرها» قال: فقال أبو حذيفة (ابن عتبة بن ربيعة) : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟! والله لئن لقيته لألحمنه السيف! قال: فبلغت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص» قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبي حفص- «أيضرب وجه عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسيف؟» فقال عمر:
يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف! فو الله لقد نافق! فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة- فقتل يوم اليمامة (في حروب الردة) شهيدا.
قال ابن هشام: وإنما نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب ... (وقد قتل لأنه رفض أن يستأسر) ...
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة. وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت «عبد الرحمن» ونحن بمكة. فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول: نعم! فيقول: فإني لا أعرف الرحمن،(3/1460)
فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف! قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه. قال: فقلت له: يا أبا علي، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله.
قال: قلت: نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي ابن أمية آخذ بيده ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها.
فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه. فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك!: قال: قلت: نعم! ها الله إذن. قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه (يعني أسيرين) وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة في اللبن؟ (يعني أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن!) ثم خرجت أمشي بهما.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن ابن عوف- رضي الله عنه- قال: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه، آخذ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال. قلت: حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.. قال عبد الرحمن: فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد. أحد. قال:
فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا! قال: قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا! قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا! قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجا! قالوا: فأحاطوا بنا، حتى جعلونا في مثل المسكة (أي السوار من عاج) وأنا أذب عنه قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط. قال: فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك. فو الله ما أغني عنك شيئا. قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.. فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي. وفجعني بأسيري! قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عدوه أمر بابي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى، وكان أول من لقي أبا جهل- كما حدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك- قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة:
سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (أي الشجر الملتف) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، قال:
فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فو الله ما شبهتها- حين طاحت- إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال:
وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي. فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
ثم مر بأبي جهل، وهو عقير، معوذ ابن عفراء، فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل، فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل- حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى- وقد قال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني: «انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به» قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فوجدته(3/1461)
بآخر رمق، فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، قال وقد كان خبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني (أي قبض عليّ ولزمني) ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه (يريد أكبر من رجل قتلتموه؟) أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال. قلت لله ورسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الله الذي لا إله غيره» ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحمد الله.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسعيد بن العاص- ومر به- إني أراك كأن في نفسك شيئا. أراك تظن أني قتلت أباك! إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ولكني قتلت خالي العاص بن هشام ابن المغيرة. فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور بروقه (أي بقرنه) فحدت عنه. وقصد له بن عمه علي فقتله! قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها. قالت:
لما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف. فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه. فتزايل لحمه، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة، فلما ألقاهم في القليب، وقف عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا» قالت: فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتي؟ فقال لهم: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق» قالت عائشة: والناس يقولون:
«لقد سمعوا ما قلت لهم» وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد علموا» .
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- في وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير. فقال: «يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء» أو كما قال- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديهه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت مامات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا..
ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، فاختلف المسلمون فيه.
فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مخافة أن يخالف إليه العدو: والله ما أنتم بأحق به منا، لقد رأينا المتاع حين لم يكن دونه ما يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كرة العدو، فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال. فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-(3/1462)
فقسمه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين عن بواء، يقول: على السواء.
قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أقبل بالأسارى، فرقهم في أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا» . فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه، في الأسارى. قال: فقال أبو عزيز: مربي أخي مصعب بن عمير، ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يدك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار- حين أقبلوا بي من بدر- فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها.
قال: فأستحيي فأردها على أحدهم، فيردها علي ما يمسها.
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر، بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب ابن عمير لأبي اليسر- وهو الذي أسره- ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.. فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم، ففدته بها.
قال ابن إسحاق: ثم بعثت قريش في فداء الأسرى.
في هذه الغزوة التي أجملنا عرضها بقدر المستطاع، نزلت سورة الأنفال.. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز..
وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية.. فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة:
إن هنالك حادثا بعينه في الغزوة يلقي ضوءا على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق- عن عبادة ابن الصامت- رضي الله عنه، قال:
«فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن بواء (يقول: على السواء) .
هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك:
لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الواقعة التي جعلها الله فرقانا في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة! ولقد أراد الله- سبحانه- أن يعلمهم، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أمورا عظاما ...
أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيرا من أمر الغنائم التي يختلفون عليها. فسمى يومها:
«يَوْمَ الْفُرْقانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير الله وقدره، في كل خطوة وفي كل حركة، ليقضي من ورائه أمرا أراده، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة، فكلها من فعل الله وتدبيره. إنما أبلاهم فيه بلاء حسنا من فضله! وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير وما أراده الله لهم، وللبشرية(3/1463)
كلها من ورائهم من إفلات العير، ولقاء النفير. ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير! لقد بدأت السورة بتسجيل سؤالهم عن الأنفال وبيان حكم الله فيها وردها إلى الله والرسول ودعوتهم إلى تقوى الله، وإصلاح ذات بينهم- بعد ما ساءت أخلاقهم في النفل كما يقول عبادة بن الصامت- ودعوتهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول، وتذكيرهم بإيمانهم وهذا مقتضاه. ورسم للمؤمنين صورة موحية تجف لها القلوب: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
ثم جعل يذكرهم بأمرهم وتدبيرهم لأنفسهم وتدبير الله لهم، ومدى ما يرونه من واقع الأرض ومدى قدرة الله من ورائه ومن ورائهم: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
ثم ذكرهم بما أمدهم به من العون، وما يسره لهم من النصر، وما قدره لهم بفضله من الأجر: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» .
وهكذا يمضي سياق السورة في هذا المجال يسجل أن المعركة بجملتها من صنع الله وتدبيره بقيادته وتوجيهه.
بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله.. ومن ثم تجريد المقاتلين ابتداء من الأنفال وتقرير أنها لله وللرسول، حتى إذا ردها الله عليهم كان ذلك منا منه وفضلا. وكذلك يجردهم من كل مطمع فيها ومن كل مغنم، ليكون جهادهم في سبيله خالصا له وحده.. فترد أمثال هذه النصوص:
«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ- إِذْ رَمَيْتَ- وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» .
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ(3/1464)
قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»
..
ولأن المعركة- كل معركة يخوضها المؤمنون- من صنع الله وتدبيره. بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده.
بفعله وقدره. له وفي سبيله. تتكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها، والمضي معها، والاستعداد لها، والاطمئنان إلى تولي الله فيها، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد، والاستمساك بآدابها، وعدم الخروج لها بطرا ورئاء الناس. ويؤمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتحريض المؤمنين عليها.. وترد أمثال هذه النصوص في بيان هذه المعاني:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ..» ..
وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها. فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ، إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق:
«أ» في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى الله، والوجل عند ذكره، وتعلق الإيمان بطاعة الله وطاعة رسوله:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ... «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .
«ب» وفي خطة المعركة يردون إلى قدر الله وتدبيره، وتصريفه لمراحلها جميعا: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا..» .(3/1465)
«ج» وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة الله لها، ومدده وعونه فيها: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ... » ..
«د» وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده الله لهم بها من حياة، وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم، وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
«هـ» وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» .. «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
«و» وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز، وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ- إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة- إلى جانب خط العقيدة- خط آخر هو خط الجهاد، وبيان قيمته الإيمانية والحركية. وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان.. والسورة بجملتها تتضمن هذا الإيحاء. فنكتفي ببعض النصوص في هذا التعريف، وندع تفصيلها إلى موضعه عند مواجهة النصوص:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» .
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ»
..
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..(3/1466)
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
وأخيرا فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم- إلى هذه الفترة التي نزلت فيها السورة- وأحكام الغنائم والمعاهدات وتضع خطوطا أصيلة في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام في مثل هذه النصوص الواضحة المحددة:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا: سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ... » ...
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ(3/1467)
عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ- إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسية.. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر، وفي التعقيب عليها، فإننا ندرك من هذا طرفا من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية وجانبا من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة:
لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة.. ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية.. لقد كانوا إنما خرجوا ليأخذوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم! فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة.. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى..
لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقانا بين الحق والباطل وفرقانا في خط سير التاريخ الإسلامي.
ومن ثم فرقانا في خط سير التاريخ الإنساني.. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم. وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة وتتلقاها مباشرة من يد ربّها ووليها، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة.
كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب، والغنائم والأسرى، والمعاهدات والمواثيق، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة. كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي، الذي ينشئ التصور الاعتقادي، ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني.. وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها.
ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها.. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوبا عميقا.
واستطرد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وحياة أصحابه في مكة، وهم قلة مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله، وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة. وإلى صور من حياة(3/1468)
المشركين قبل هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبعدها. وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه.
هذه موضوعات السورة وملامحها- وهي وحدة واحدة- وإن كنا سنجتزئ في هذا الجزء بشطر منها.
ثم تجيء بقيتها في الجزء العاشر بإذن الله تعالى..
فنكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بها وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها..(3/1469)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(3/1470)
موضوع هذا الدرس الأول في السورة، هو بيان حكم الله في الأنفال.. المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله.. بعد ما ثاربين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها. فردهم الله إلى حكمه فيها كما ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله واستجاش في قلوبهم وجدان الإيمان والتقوى.
ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا لأنفسهم من العير والغنيمة، وما أراده الله لهم من النصر والعزة. وكيف(3/1471)
سارت المعركة، وهم قلة لا عدد لها ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد. وكيف ثبتهم بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه ويغتسلون ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان. وكيف ألقى في قلوب أعدائهم الرعب وأنزل بهم شديد العقاب.
ومن ثم يأمر المؤمنين أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم، فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبر، وإن هم إلا ستار لقدر الله وقدرته، يفعل بهم ما يشاء..
ثم يسخر من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول لهم: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» .
ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالمنافقين الذين يسمعون ولكنهم لا يسمعون، لأنهم لا يستجيبون! وينتهي الدرس بنداءات متكررة للذين آمنوا. ليستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم- ولو خيل إليهم أنه الموت والقتل- وليذكرهم كيف كانوا قليلاً مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم وأيدهم بنصره وليعدهم أن يجعل لهم فرقاناً في قلوبهم وفي حركتهم إن هم اتقوه. ذلك إلى تكفير السيئات وغفران الذنوب وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه الغنائم والأنفال..
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانباً من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات.
ونضيف هنا إليها بعض الروايات زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة.
قال ابن كثير في التفسير: روى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه- واللفظ له- وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» . فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا رداء لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» ... إلى قوله:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. وقال الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا» . فجاء أبو اليسير بأسيرين، فقال: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنت وعدتنا.
فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر، ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك.
فتشاجروا، ونزل القرآن: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» ... قال: ونزل القرآن:(3/1472)
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» ... إلى آخر الآية ...
وروى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي.
عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر، وقتل أخي عمير، قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه. وكان يسمى ذا الكثيفة. فأتيت به النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اذهب فخذ سلبك» .
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب ابن سعد، عن سعد بن مالك، قال: قلت يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: «إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه» . قال: فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي. قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي. قال: قلت: قد أنزل الله فيّ شيئا؟ قال: «كنت سألتني السيف، وليس هولي، وإنه قد وهب لي، فهو لك» . قال: «وأنزل الله هذه الآية: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» .. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال.. ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» .. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء وكان الناس- يومئذ- حريصين على هذه الشهادة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين! ..
ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكرّهم الله سبحانه به، وردهم إليه.. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت- رضي الله عنه-: «فينا- أصحاب بدر- نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم..» .
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه إنما أصبح فضلاً من الله عليهم يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه ... وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك.
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها- وإن كان(3/1473)
هذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء- إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلباً لا يتعلق بالله، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق! إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة.. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» ..
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة الله ورسوله:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء لله والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى الله والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم الله وقسم رسول الله طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم.. ذلك:
«إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل «1» » . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولتعريف الإيمان وتحديده وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع.
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان «الحق» كما يريده رب هذا الدين ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى:
«إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي. وفي العبارة هنا قصر بلفظ:
«إنما» . وليس هنالك مبرر لتأويله- وفيه هذا الجزم الدقيق- ليقال: إن المقصود هو «الإيمان الكامل» ! فلو شاء الله- سبحانه- أن يقول هذا لقاله. إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة. إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون. فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين. والتوكيد في آخر الآيات: «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» يقرر هذه الحقيقة. فغير المؤمنين «حقاً» لا يكونون مؤمنين أصلاً.. والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضاً. والله يقول: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» فما لم يكن حقاً فهو الضلال. وليس المقابل لوصف: «المؤمنون حقاً» هو المؤمنون إيماناً غير كامل! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير!
__________
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس.(3/1474)
لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان، ولم يكن مؤمناً أصلاً.. جاء في تفسير ابن كثير: قال علي ابن طلحة عن ابن عباس، في قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» «قال: المنافقون: لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا (أي عن أعين الناس) ولا يؤدون زكاة أموالهم. فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين. ثم وصف الله المؤمنين فقال: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» فأدوا فرائضه. «وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً» يقول: زادتهم تصديقاً، «وعلى ربهم يتوكلون» يقول: لا يرجون غيره.
وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلاً وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه.
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» ...
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر بالله في أمر أو نهي فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة ... أو هي كما قالت أم الدرداء- رضي الله عنها- فيما رواه الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء قالت: «الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى.
قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك. فإن الدعاء يذهب ذلك» ..
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله، وجلا وتقوى لله.
«وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» .
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً، وما ينتهي به إلى الاطمئنان.. إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان «1» .. وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً، فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً.. لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» .. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. ومن ذلك قول أحد الصحابة- رضوان الله عليهم-: كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن..
وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص، يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السيف، قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول- صلى الله عليه وسلم- فيتصرف فيها بما يريد. وقد قال له: «إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه» فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه، توقع أن يكون الله- سبحانه- قد أنزل فيه شيئاً قال: «قلت: قد أنزل الله فيّ شيئاً» قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
__________
(1) هنا تعرض قضية: «الإيمان يزيد وينقص» وهي قضية من قضايا الفرق وقضايا علم الكلام في فترة الترف العقلي والفراغ من الاهتمامات العملية الجادة.. فلا ندخل نحن الآن فيها!!!(3/1475)
«كنت سألتني السيف وهو ليس لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك» .. فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم، ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم. وهو شيء هائل. وهي فترة عجيبة في حياة البشر. ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق.. كما أَن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً.. وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه.. وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً لأنها ابتداء مؤمنة. الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً! وليس الإيمان عندها بالتمني، لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل! «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ..
عليه وحده.. كما يفيده بناء العبارة. لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه.. أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير: «أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد ابن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان» ..
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد، توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه. والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله! وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب. فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها. إن الذي ينشئ النتائج- كما ينشئ الأسباب- هو قدر الله. ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن.. اتخاذ السبب عبادة بالطاعة.
وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله.. وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ولقد ظلت الجاهلية «العلمية!» الحديثة تلج فيما تسميه «حتمية القوانين الطبيعية» . ذلك لتنفي «قدر الله» وتنفي «غيب الله» . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها، أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي! ولجأت إلى نظرية «الاحتمالات» في عالم المادة. فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً. وبقي «الغيب» سراً مختوماً. وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة وبقي قول الله- سبحانه- «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً» هو القانون الحتمي الوحيد، الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون، بقدره النافذ الطليق! يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
«لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً، وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وأن لا مناص من أن الحالة (أ) تتبعها الحالة (ب) .. أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن، هو أن(3/1476)
الحالة (أ) يحتمل أن تتبعها الحالة (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر أحتمالا من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالا من (د) ... وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث، فأمره موكول إلى الأقدار. مهما تكن حقيقة هذه الأقدار» «1» ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء. وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث. وهو وحده الحقيقة المستيقنة. والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية! .. وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري- وللعقل البشري أيضاً- النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية، وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية! .. إنها نقلة التحرر العقلي، والتحرر الشعوري، والتحرر السياسي، والتحرر الاجتماعي، والتحرر الأخلاقي ... إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه ... وما يمكن أن يتحرر «الإنسان» أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب «الحتمية» وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس. أو عبوديته لإرادة (الطبيعة!) فكل «حتمية» غير إرادة الله وقدره، هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره.. ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده، واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه.. والتصور الاعتقادي في الإسلام كل متكامل. ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس «2» .
«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» ..
وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة- بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة- ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان، لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان.
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها. إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها. الأداء الكامل اللائق بوقفه العابد في حضرة المعبود- سبحانه- لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ..
في الزكاة وغير الزكاة.. وهم ينفقون «مما رزقناهم» .. فهو بعض مما رزقهم الرازق.. وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته. فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً. إنما هو مما رزقهم الله إياه- من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى- فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه، ويحتفظون منه ببقية. والأصل هو رزق الله وحده! تلك هي الصفات التي حدد الله بها- في هذا المقام- الإيمان. وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله والاستجابة الوجدانية لذكره والتأثر القلبي بآياته والتوكل عليه وحده وإقامة الصلاة له، والإنفاق من بعض رزقه..
__________
(1) راجع بتوسع تفسير قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» في الجزء السابع من الظلال ص 1113- 1121.
(2) يراجع بتوسع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» .. دار الشروق» .(3/1477)
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان- كما وردت في النصوص الأخرى- إنما هي تواجه حالة واقعة.. حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها.. فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة. وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملةً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً. بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أولا تستقصيها. فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة. ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي، لا منهج نظري معرفي، مهمته بناء (نظرية) وعرضها لذاتها! وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير:
«أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَمَغْفِرَةٌ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق. فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان. وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات.. ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات «لهم درجات عند ربهم» .. وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق- كما قال عبادة بن الصامت- بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم «مغفرة» .. وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم «رزق كريم» .. فتغطي الحالة كلها، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف. وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية وهي أن هذه صفات المؤمنين، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان.
«أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» ..
وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه، وأنه ليس الإيمان دعوى، ولا كلمات لسان، ولا هو بالتمني.. قال الحافظ الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد ابن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه مر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «كيف أصبحت يا حارث؟» قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: «انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري.
وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: «يا حارث. عرفت فالزم» .. ثلاثاً ... ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- له بالمعرفة من حال نفسه، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة. فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر. إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها. ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً ...
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان، ومن ورائها واقع يشهد شهادة ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان! إن التحرج ليس معناه التميع! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب والتحرج في تصورها ألزم. وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة!(3/1478)
بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها، وساءت أخلاقهم فيها- كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح- ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها، ومواقفهم فيها، ومشاعرهم تجاهها ... فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله وأن كل ما كان فيها من أحداث، وكل ما نشأ عنها من نتائج- بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها- إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده.. أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً، لا يقاس إلى ما أراده الله لهم، وبهم، من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض. ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض، وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق.. ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها ليروا أن ما يرونه هم، وما يكرهونه أو يحبونه، ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره، وهو يعلم عاقبة الأمور:
«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» ..
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول، ليعيد الرسول- صلى الله عليه وسلم- قسمتها بينهم على السواء- بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه- ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة فيمتنع التنازع عليها، ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله، فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم، ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم.
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم، ومن إرادة الله لهم، وبهم، ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب..
ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم.. من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها.. فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها؟ وما الذي أراده الله لهم، وبهم؟ وأين ما أرادوه مما أراده الله؟ ..
إنها نقلة بعيده في واقع الأمر ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور! «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..(3/1479)
إن رد الأنفال لله والرسول، وقسمتها بينهم على السواء، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية.. ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها.. إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك- بالحق- لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة وكراهة بعض المؤمنين للقتال.. وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال..
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة- من كتب السيرة- أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس معه في أمر القتال، بعد ما أفلتت القافلة، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها. وأن المقداد بن عمرو قام فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ... الخ» . وأن هذا كان كلام المهاجرين. فلما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً «1» ..
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر، والذي قاله المقداد، والذي قاله سعد بن معاذ- رضي الله عنهم- لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها، وشجعانها وفرسانها، كرهوا لقاءها كراهية شديدة، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» ! روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره- بإسناده- عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن بالمدينة: «إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟» فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا. فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا: «ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم!» فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير! ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك: فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ... » فتمنينا- معشر الأنصار- أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم! قال: فأنزل الله على رسوله- صلى الله عليه وسلم-: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» .
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ، وما كرهوا من أجله القتال، حتى ليقول عنهم القرآن الكريم:
«كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» .. وذلك بعد ما تبين الحق، وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعد ما أفلتت إحدى الطائفتين وهي- العير- وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى، وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم. كانت ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية- على الرغم
__________
(1) ص 1456 وما بعدها من هذا الجزء(3/1480)
من الاعتقاد القلبي- والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر- على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة- فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق، وتواجه الخطر فعلاً، وتنتصر على الهزة الأولى! .. لقد كان هؤلاء هم أهل بدر، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم «1» » .. وهذا يكفي..
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:
«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ» ..
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك. أما ما أراده الله لهم، وبهم، فكان أمراً آخر:
«وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ..
لقد أراد الله- وله الفضل والمنة- أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت. وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف- تعالى الله عن الجزاف- وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
نعم. أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة وأن يصبح لها قوة وسلطان.. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد ... إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.
وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد.. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان.
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال! فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي- لو كانت لهم غير ذات الشوكة-
__________
(1) أخرجه الشيخان.(3/1481)
قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي. بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل فقلبت بيقينها ميزان الظاهر فإذا الحق راجح غالب.
ألا إن غزوة بدر- بملابساتها هذه- لتمضي مثلاً في التاريخ البشري. ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة.. الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية.. ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.. ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض- بعد ما غلبت عليها الجاهلية- لجديرة بأن تقف طويلاً أمام (بدر) وقيمها الحاسمة التي تقررها والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:
«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» ...
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر. ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية ...
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها، حيث يتجلى كيف كانت حالهم، وكيف دبر الله لهم، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً ... والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهدة وحوادثه وانفعالاته وخفقاته، ليعيشوه مرة أخرى، ولكن في ضوء التوجيه القرآني، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً، والجزيرة العربية، والأرض كلها وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى كما أَنها تتجاوز يوم بدر، وتاريخ الجزيرة العربية، وتاريخ البشرية في الأرض، وتمتد وراء الحياة الدنيا، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى:
«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا(3/1482)
فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ»
..
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته، وتدبيره وقدره وتسير بجند الله وتوجيهه.. وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان، كأنه يكون الآن! فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد- بإسناده- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة «1» . فاستقبل النبي- صلى الله عليه وسلم- القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» ..
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر: عددهم. وطريقة مشاركتهم في المعركة. وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين ... ونحن- على طريقتنا في الظلال- نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة. والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» .. فهذا عددهم..
«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» .. فهذا عملهم.. ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية..
وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم، وهي قلة والأعداء كثرة. وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله- سبحانه- في كلماته..
قال البخاري: باب شهود الملائكة بدرا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» - أو كلمة نحوها- قال: «وكذلك من شهد بدراً من الملائكة» ... (انفرد بإخراجه البخاري) ...
«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون، وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين.. ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة، إنما يرد الأمر كله إليه- سبحانه- تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره. فهذه الاستجابة، وهذا المدد، وهذا الإخبار به ... كل ذلك لم يكن إلا بشرى، ولتطمئن به القلوب. أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون.. هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً..
__________
(1) في روايات أخرى أنهم بين الألف والتسع مائة.(3/1483)
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي، وأن يمضوا في طاعة أمر الله، واثقين بنصر الله.. كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم.. وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة، وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي.. وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة. ثم يجيء النصر من عند الله وحده. حيث لا يملك النصر غيره. وهو «العزيز» القادر الغالب على أمره. وهو «الحكيم» الذي يحل كل أمر محله..
«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» ..
أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته.. فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم والطمأنينة تفيض على قلوبهم (وهكذا كان يوم أحد.. تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة) .. ولقد كنت أمر على هذه الآيات، وأقرأ أخبار هذا النعاس، فأدركه كحادث وقع، يعلم الله سره، ويحكي لنا خبره.. ثم إذا بي أقع في شدة، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم، والتوجس القلق، في ساعة غروب.. ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق.. وأصحو إنساناً جديداً غير الذي كان.. ساكن النفس. مطمئن القلب. مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة.. كيف تم هذا؟ كيف وقع هذا التحول المفاجئ؟ لست أدري! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأُحد. أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي. وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور. وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر.. ويطمئن قلبي..
لقد كانت هذه الغشية، وهذه الطمأنينة، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر:
«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» ..
ولفظ «يغشيكم» ولفظ «النعاس» ولفظ «أمنة» .. كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف وترسم الظل العام للمشهد، وتصور حال المؤمنين يومذاك، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال.
وأما قصة الماء:
«وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» ..
فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة، قبيل المعركة.
قال علي بن طلحة، عن ابن عباس قال: نزل النبي- صلى الله عليه وسلم- حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة» ..(3/1484)
ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر، وتغوير ما وراءها من القلب.
«والمعروف أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده- فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» . فقال:
يا رسول الله، ليس بمنزل، ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء. فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففعل ذلك «1» » .
ففي هذه الليلة- وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر- كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً.. والمدد على هذا النحو مدد مزدوج: مادي وروحي. فالماء في الصحراء مادة الحياة، فضلاً على أن يكون أداة النصر. والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة.
ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء (ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم، فقد جاء هذا متأخرا في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة) . وهنا تثور الهواجس والوساوس، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها.. وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة..
«وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» ..
ويتم المدد الروحي بالمدد المادي وتسكن القلوب بوجود الماء، وتطمئن الأرواح بالطهارة وتثبت الأقدام بثبات الأَرض وتماسك الرمال.
ذلك إلى ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة:
«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» ..
إنه الأمر الهائل.. إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة..
هذا هو الأمر الذي لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث: كيف اشتركت الملائكة؟ ولا كم قتيلاً قتلت؟ ولا كيف قتلت؟ ... إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة.. إن حركة العصبة المسلمة في الأرض بهذا الدين أمر هائل عظيم.. أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة! إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني.. وقد أوحي إليهم ربهم: أني معكم. وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا، ففعلوا- لأنهم يفعلون ما يؤمرون- ولكننا لا ندري كيف فعلوا. وأمرهم أن يضربوا فوق أعناق المشركين وأن يضربوا منهم كل
__________
(1) عن ابن كثير في التفسير.(3/1485)
بنان. ففعلوا كذلك بكيفية لا نعلمها، فهذا فرع عن طبيعة إدراكنا نحن لطبيعة الملائكة، ونحن لا نعلم عنها إلا ما علمنا الله.. ولقد وعد الله سبحانه أن يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا. فكان ذلك، ووعده الحق، ولكنا كذلك لا نعلم كيف كان. فالله هو الذي خلق، وهو أعلم بمن خلق، وهو يحول بين المرء وقلبه وهو أقرب إليه من حبل الوريد..
إن البحث التفصيلي في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة. وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة.. ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، عند ما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول.. وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة، لهي أنفع وأجدى..
وفي نهاية هذا الاستعراض، وفي أعقاب المشهد الهائل الذي تتجلى فيه تلك الحقيقة الهائلة، يجيء التقرير الموضح لما وراء المعركة كلها. ووراء النصر فيها والهزيمة، من قاعدة ودستور لمجرى هذه الأمور:
لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»
..
إنها ليست فلته عارضة، ولا مصادفة عابرة، أن ينصر الله العصبة المسلمة، وأن يسلط على أعدائها الرعب والملائكة مع العصبة المسلمة.. إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، فاتخذوا لهم شقاً غير شق الله ورسوله، وصفا غير صف الله ورسوله. ووقفوا موقف الخلف والمشاقة هذا يصدون عن سبيل الله، ويحولون دون منهج الله للحياة.
َ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»
..
ينزل عقابه الشديد على الذين يشاقونه ويشاقون رسوله. وهو قادر على عقابهم وهم أضعف من أن يقفوا لعقابه..
قاعدة وسنة. لا فلتة ولا مصادفة. قاعدة وسنة أنه حيثما انطلقت العصبة المسلمة في الأرض لتقرير ألوهية الله وحده، وإقامة منهج الله وحده، ثم وقف منها عدوّ لها موقف المشاقة لله ورسوله، كان التثبيت والنصر للعصبة المسلمة، وكان الرعب والهزيمة للذين يشاقون الله ورسوله. ما استقامت العصبة المسلمة على الطريق، واطمأنت إلى ربها، وتوكلت عليه وحده، وهي تقطع الطريق.
وفي نهاية المشهد يتوجه بالخطاب إلى أولئك الذين شاقوا الله ورسوله.. إن هذا الذي حل بكم في الدنيا من الرعب والهزيمة ليس نهاية المطاف. فأمر هذا الدين والحركة به والوقوف في طريقه، ليس أمر هذه الأرض وحدها، ولا أمر هذه الحياة الدنيا بمفردها.. إنه أمر ممتد إلى ما وراء هذه الأرض، وإلى ما بعد هذه الحياة.. إن أبعاده تمتد وراء هذه الآماد القريبة:
«ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ، وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» ..
فهذه نهاية المطاف. وهذا هو العذاب الذي لا يقاس إليه ما ذقتم من الرعب والهزيمة ومن الضرب فوق الأعناق ومن ضرب كل بنان! والآن.. وقد أعاد عليهم مشاهد الوقعة وملابساتها، وأراهم يد الله فيها وتدبيره، وعونه ومدده،(3/1486)
وعلموا منها أنهم لم يكونوا فيها سوى ستار لقدر الله وقدرته.. الله هو الذي أخرج رسوله من بيته بالحق- لم يخرجه بطراً ولا اعتداء ولا طغياناً- والله هو الذي اختار لهم إحدى الطائفتين لأمر يريده، من قطع دابر الكافرين «ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون» .. والله هو الذي أمدهم بألف من الملائكة مردفين..
والله هو الذي غشاهم النعاس أمنة منه، ونزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجز الشيطان، وليربط على قلوبهم ويثبت به الأقدام.. والله هو الذي أوحى إلى الملائكة ليثبتوا الذين آمنوا، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب.. والله هو الذي أشرك الملائكة في المعركة وأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق وأن يضربوا من المشركين كل بنان.. والله هو الذي غنمهم الغنيمة ورزقهم من فضله بعد أن خرجوا بلا مال ولا ظهر ولا عتاد..
الآن.. وقد استعرض السياق القرآني هذا كله، فأعاده حاضراً في قلوبهم، شاخصاً لأبصارهم. وهو يتضمن صورة من النصر الحاسم الذي لا يستند إلى تدبير بشري، ولا إلى قوة العدد ولا قوة العدة إنما يستند إلى تدبير الله وتقديره وعونه ومدده كما يستند إلى التوكل على الله وحده، والالتجاء إليه، والاستغاثة به، والسير مع تدبيره وتقديره..
الآن.. وهذا المشهد حاضر في القلوب شاخص للأبصار.. الآن.. وفي أنسب اللحظات لاستجابة القلوب للتوجيه.. الآن يجيء الأمر للذين آمنوا- بصفتهم هذه- أن يثبتوا إذا لقوا الذين كفروا وألا يولوهم الأدبار من الهزيمة والفرار ما دام أن النصر والهزيمة موكولان إلى إرادة فوق إرادة الناس وإلى أسباب غير الأسباب الظاهرة التي يراها الناس وما دام أن الله هو الذي يدبر أمر المعركة- كما يدبر الأمر كله- وهو الذي يقتل الكفار بأيدي المؤمنين وهو الذي ينجح الرمية حين ترمى- وإنما المؤمنون ستار للقدرة يريد الله أن يجعل لهم ثواب الجهاد والبلاء فيه- وهو الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ويوهن تدبيرهم ويذيقهم العذاب في الدنيا والآخرة لأنهم شاقوا الله ورسوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» ..
ويبدو في التعبير القرآني شدة في التحذير وتغليظ في العقوبة وتهديد بغضب من الله ومأوى في النار:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا «زحفاً» أي متدانين متقاربين متواجهين فلا تفروا عنهم، إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب، حيث تختارون موقعاً أحسن، أو تدبرون خطة أحكم أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين، أو إلى قواعد المسلمين، لتعاودوا القتال.. وأن من تولى، وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب: غضباً من الله ومأوى في جهنم..
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر، أو بالقتال الذي يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حاضره. ولكن الجمهور على أنها عامة، وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات.
كما روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله(3/1487)
عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» ..
وقد أورد الجصاص في «أحكام القرآن» تفصيلا لا بأس من الإلمام به قال:
«قال الله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر. قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم.. وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيمن خف معه. فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا، انحازوا إلى المشركين، غلط لما وصفنا.. وقد قيل: إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه، قال الله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» : فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم- صلى الله عليه وسلم- وينصرفوا عنه ويسلموه، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس، كما قال الله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» وكان ذلك فرضا عليهم، قلت أعداؤهم أو كثروا، وأيضا فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان فئة المسلمين يومئذ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- فئتهم يومئذ، ولم تكن فئة غيره. قال ابن عمر: كنت في جيش، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة، فقلنا: نحن الفرارون. فقال النبي عليه السلام: «أنا فئتكم» . فمن كان بالبعد من النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي- صلى الله عليه وسلم- وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه، فلم يكن يجوز لهم الفرار. وقال الحسن في قوله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» قال: شددت على أهل بدر. وقال الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» وذلك لأنهم فروا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وكذلك يوم حنين فروا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» .. فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- قل العدو أو كثر، إذا لم يجد الله فيه شيئاً.. وقال الله تعالى في آية أخرى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» وهذا- والله أعلم- في الحال التي لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- حاضرا معهم، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ» فروي عن ابن عباس أنه قال: كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة: ثم قلت: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» ... الآية. فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين. وقال ابن عباس: إن فر رجل من رجلين فقد فر، وإن فر من ثلاثة فلم يفر- قال الشيخ يعني بقوله: فقد فر: الفرار من الزحف المراد بالآية، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة،(3/1488)
فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «أنا فئة كل مسلم» . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: «رحم الله أبا عبيد! لو انحاز إليّ لكنت له فئة» . فلما رجع إليه أصحاب
أبي عبيد قال: «أنا فئة لكم» ولم يعنفهم.. وهذا الحكم عندنا (يعني عند الحنفية) ثابت، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم، ونحو ذلك، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم. فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه (يعني الحنفية) واحتج بحديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير الأصحاب أربعة. وخير السرايا أربع مائة. وخير الجيوش أربعة آلاف. ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلبوا» وفي بعضها: «ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم» . وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل، فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟ فقال مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف، وإلا فأنت في سعة من التخلف.. وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر. وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن. والذي روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله- صلى الله عليه وسلم- «إذا اجتمعت كلمتهم» . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم» ... انتهى.
كذلك أورد «ابن العربي» في «أحكام القرآن» تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال:
«اختلف الناس: هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة؟
«فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر، لم يكن لهم فئة إلا رسول الله، وبه قال نافع، والحسن، وقتادة، ويزيد بن حبيب، والضحاك.
«ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله: «ومن يولهم يومئذ دبره» فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر. وليس به. وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف.
«والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال، وانقضاء الحرب، وذهاب اليوم بما فيه. وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا ... وعدّ الفرار يوم الزحف. وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف، ويبين الحكم، وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر» ..
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي «ابن عباس وسائر العلماء» .. ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية..
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده.. وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة- وهو يواجه الخطر- فإن هذه الهزة لا يجوز أن(3/1489)
تبلغ أن تكون هزيمة وفرارا. والآجال بيد الله، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة. وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها. فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا. فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة. ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها. ثم إنه إلى الله إن كان حياً، وإلى الله إن كتبت له الشهادة. فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله.. ومن ثم هذا الحكم القاطع:
«وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته، وما فيه من إيماءات عجيبة: «فلا تولوهم الأدبار» .. «ومن يولهم يومئذ دبره» .. فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية، مع التقبيح والتشنيع، والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء! .. ثم: «فقد باء بغضب من الله» .. فالمهزوم مولٍّ ومعه «غضب من الله» يذهب به إلى مأواه:
«وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار.
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم وتقتل لهم أعداءهم، وترمي لهم وتصيب ... وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه:
«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ- إِذْ رَمَيْتَ- وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها النبي- صلى الله عليه وسلم- في وجوه الكفار، وهو يقول: «شاهت الوجوه. شاهت الوجوه» فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله..
ولكن دلالة الآية أعم. فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم والعصبة المسلمة معه. ولذلك تلاها قول الله تعالى:
«وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» ..
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر، بعد أن يكتب لهم به النصر. فهو الفضل المضاعف أولا وأخيرا.
«إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ويجعلكم ستارا لقدرته، متى علم منكم الخلوص له ويعطيكم النصر والأجر.. كما أعطاكم هذا وذاك في بدر..
«ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» ..
وهذه أخرى بعد تلك الأولى! إن التدبير لا ينتهي عند أن يقتل لكم أعداءكم بأيديكم، ويصيبهم برمية رسولكم، ويمنحكم حسن البلاء ليأجركم عليه.. إنما هو يضيف إليه توهين كيد الكافرين، وإضعاف تدبيرهم(3/1490)
وتقديرهم.. فلا مجال إذن للخوف، ولا مجال إذن للهزيمة، ولا مجال إذن لأن يولي المؤمنون الأدبار عند لقاء الكفار..
ويتصل السياق هنا بكل ملابسات المعركة.. فإذا كان الله هو الذي قتل المشركين، وهو الذي رماهم، وهو الذي أبلى المؤمنين فيها ذلك البلاء الحسن، وهو الذي أوهن كيد الكافرين.. فما النزاع والاختلاف إذن في الأنفال، والمعركة كلها أديرت بتدبير الله وبتقديره، وليس لهم فيها إلا أن كانوا ستارا لهذا التدبير والتقدير؟! وعند ما يصل السياق إلى تقرير.. أن الله موهن كيد الكافرين.. يتجه بالخطاب إلى الكافرين، أولئك الذين استفتحوا قبيل المعركة، فدعوا الله أن يجعل الدائرة على أضل الفريقين وآتاهما بما لا يُعرف وأقطعهما للرحم- كما كان دعاء أبي جهل وهو استفتاحه: أي طلبه الفتح من الله والفصل- فدارت الدائرة على المشركين! ..
يتوجه إليهم بالخطاب، ساخرا من استفتاحهم ذاك مؤكدا لهم أن ما حدث في بدر إنما هو نموذج من السنة الجارية وليس فلتة عارضة وأن جموعهم وكثرتهم لن تغير من الأمر شيئا لأنها السنة الجارية: أن يكون الله مع المؤمنين:
«إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ. وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ. وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
إن تستفتحوا فتطلبوا من الله أن يفتح بينكم وبين المسلمين، وأن يهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم..
فقد استجاب الله، فجعل الدائرة عليكم، تصديقا لاستفتاحكم! لقد دارت الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم! ولقد علمتم- إن كنتم تريدون أن تعلموا- من هم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم! وعلى ضوء هذه الحقيقة، وفي ظل هذا الإيحاء، يرغبهم في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر والحرب للمسلمين، والمشاقة لله ورسوله:
«وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» ..
ومع الترغيب الترهيب:
«وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ» ..
والعاقبة معروفة، لا يغيرها تجمع، ولا تبدلها كثرة:
«وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» ..
وماذا تفعل الكثرة إذا كان الله في جانب المؤمنين؟
«وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
إن المعركة على هذا النحو لن تكون متكافئة أبداً لأن المؤمنين- ومعهم الله- سيكونون في صف والكفار- وليس معهم إلا ناس من البشر من أمثالهم- سيكونون في الصف الآخر. والمعركة على هذا النحو مقررة المصير! ولقد كان مشركو العرب يعرفون هذه الحقيقة. فإن معرفتهم بالله سبحانه لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة كما يتصور الناس اليوم من خلال تأثرهم ببعض التعميمات التاريخية. ولم يكن شرك العرب متمثلا في إنكار الله- سبحانه- ولا في عدم معرفتهم الحقيقة.. إنما كان يتمثل، أكثر ما يتمثل، في عدم إخلاصهم العبودية له وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم لحقيقته..(3/1491)
ولقد مر بنا في استعراض أحداث الموقعة من كتب السيرة: أن خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري- أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري- بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال لهم: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم! قد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم. ولئن كنا إنما نقاتل الله- كما يزعم محمد- فما لأحد بالله من طاقة.
كذلك مربنا قول الأخنس بن شريق لبني زهرة- وهو مشرك وهم مشركون-: يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرقة بن نوفل.. إلخ ومثله استفتاح أبي جهل نفسه- فرعون هذه الأمة كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يقول:
«اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة» ..
وكذلك قوله لحكيم بن حزام وقد جاءه رسولا من عتبة بن ربيعة ليرجع عن القتال: «كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا بين محمد» ! فهكذا كان تصورهم للحقيقة الإلهية، واستحضارهم لها في كل مناسبة. ولم يكن أمرهم أنهم لا يعرفون الله أو لا يعرفون أنه ما لأحد بالله من طاقة، أو لا يعرفون أنه هو الذي يحكم ويفصل بين الجبهتين حيث لا راد لحكمه! إنما كان شركهم الحقيقي يتمثل ابتداء في تلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله، الذي يعرفونه ويعترفون به على هذا النحو.. الأمر الذي يشاركهم فيه اليوم أقوام يظنون أنهم مسلمون- على دين محمد- كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين أبيهم إبراهيم! حتى لكان أبو جهل- وهو أبو جهل- يستفتح على الله فيقول: «اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف- وفي رواية: اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم- فأحنه الغداة» ! فأما تلك الأصنام التي عرف أنهم يعبدونها، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهية لها كألوهية الله- سبحانه- ولقد صرح القرآن الكريم بحقيقة تصورهم الاعتقادي فيها وبسبب تقديمهم الشعائر لها في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .. فهذا كان مبلغ تصورهم لها.. مجرد شفعاء عند الله.. وما كان شركهم الحقيقي من هذه الجهة ولا كان إسلام من أسلم منهم متمثلا في مجرد التخلي عن الاستشفاع بهذه الأصنام. وإلا فإن الحنفاء، الذي اعتزلوا عبادة الأصنام هذه وقدموا الشعائر لله وحده ما اعتبروا مسلمين! إنما تمثل الإسلام في الاعتقاد والشعائر وإفراد الله سبحانه بالحاكمية. والذين لا يفردون الله سبحانه بالحاكمية- في أي زمان وفي أي مكان- هم مشركون. لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله- مجرد اعتقاد- ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده.. فإلى هنا يكونون كالحنفاء الذين لم يعتبرهم أحد مسلمين- إنما يعتبر الناس مسلمين حين يتمون حلقات السلسلة، أي حين يضمون إلى الاعتقاد والشعائر، إفراد الله سبحانه بالحاكمية، ورفضهم الاعتراف بشرعية حكم أو قانون أو وضع أو قيمة أو تقليد لم يصدر عن الله وحده.. وهذا وحده هو الإسلام، لأنه وحده مدلول شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما عرف هذا المدلول في الاعتقاد الإسلامي وفي الواقع الإسلامي سواء! .. ثم أن يتجمع هؤلاء الذين يشهدون أن لا إله إلا الله على هذا النحو وبهذا المدلول في تجمع حركي بقيادة مسلمة وينسلخوا من التجمع الجاهلي وقيادته الجاهلية! وهذا ما ينبغي أن يتبينه الذين يريدون أن يكونوا «مسلمين» فلا تخدعهم عن حقيقة ما هم فيه خدعة أنهم(3/1492)
مسلمون اعتقادا وتعبداً. فإن هذا وحده لا يجعل الناس «مسلمين» ما لم يتحقق لهم أنهم يفردون الله سبحانه بالحاكمية، ويرفضون حاكمية العبيد، ويخلعون ولاءهم للمجتمع الجاهلي ولقيادته الجاهلية.
إن كثيرا من المخلصين الطيبين تخدعهم هذه الخدعة.. وهم يريدون لأنفسهم الإسلام ولكنهم يُخدعون عنه. فأولى لهم أن يستيقنوا صورة الإسلام الحقيقية.. والوحيدة.. وأن يعرفوا أن المشركين من العرب الذين يحملون اسم «المشركين» لم يكونوا يختلفون عنهم في شيء! فلقد كانوا يعرفون الله بحقيقته- كما تبين- ويقدمون له شفعاء من أصنامهم. وكان شركهم الأساسي يتمثل- لا في الاعتقاد- ولكن في الحاكمية! وإذا كان ينبغي للطيبين المخلصين الذين يريدون أن يكونوا مسلمين، أن يتبينوا هذه الحقيقة، فإن العصبة المسلمة التي تجاهد لإعادة نشأة هذا الدين في الأرض في عالم الواقع يجب أن تستيقن هذه الحقيقة بوضوح وعمق ويجب ألا تتلجلج فيها أي تلجلج ويجب أن تعرّف الناس بها تعريفا صريحا واضحا جازما.. فهذه هي نقطة البدء والانطلاق.. فإذا انحرفت الحركة عنها- منذ البدء- أدنى انحراف ضلت طريقها كله وبنت على غير أساس مهما توافر لها من الإخلاص بعد ذلك والصبر والتصميم على المضي في الطريق! ثم يعود السياق إلى الهتاف للذين آمنوا- في سلسلة متوالية من الهتافات الموحية- عقب ذكرهم: وذكر أن الله معهم.. يعود إليهم ليهتف بهم إلى طاعة الله ورسوله ويحذرهم التولي عنه، والتشبه بأولئك الذين يسمعون آيات الله تتلى عليهم فكأنهم لم يسمعوها.. أولئك الصم البكم، وإن كانت لهم آذان تسمع الأصوات وألسنة تنطق بالكلمات.. أولئك الذين هم شر الدواب التي تدب على هذه الأرض لأنهم لا يهتدون بما يسمعون:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا: سَمِعْنا، وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ. وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .
إن الهتاف هنا للذين آمنوا ليطيعوا الله ورسوله، ولا يتولوا عنه وهم يسمعون آياته وكلماته.. إن هذا الهتاف هنا إنما يجيء بعد جميع مقدماته الموحية.. يجيء بعد استعراض أحداث المعركة وبعد رؤية يد الله فيها، وتدبيره وتقديره، وعونه ومدده وبعد توكيد أن الله مع المؤمنين، وأن الله موهن كيد الكافرين. فما يبقى بعد ذلك كله مجال لغير السمع والطاعة لله والرسول. وإن التولي عن الرسول وأوامره بعد هذا كله ليبدو مستنكراً قبيحا لا يقدم عليه إنسان له قلب يتدبر وعقل يتفكر.. ومن هنا يجيء ذكر الدواب في موضعه المناسب! ولفظ «الدواب» يشمل الناس فيما يشمل، فهم يدبون على الأرض، ولكن استعماله يكثر في الدواب من الأنعام، فيلقي ظله بمجرد إطلاقه ويخلع على «الصم البكم الذين لا يعقلون» صورة البهيمة في الحس والخيال! وإنهم لكذلك! إنهم لدواب بهذا الظل. بل هم شر الدواب! فالبهائم لها آذان ولكنها لا تسمع إلا كلمات مبهمة ولها لسان ولكنها لا تنطق أصواتا مفهومة. إلا أن البهائم مهتدية بفطرتها فيما يتعلق بشؤون حياتها الضرورية.
أما هؤلاء الدواب فهم موكولون إلى إدراكهم الذي لا ينتفعون به. فهم شر الدواب قطعا! «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» ..
«وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» ..
أي لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم.. ولكنه- سبحانه- لم يعلم فيهم خيرا ولا رغبة في الهدى(3/1493)
فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم، وما أفسدوا هم من فطرتهم. ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه، ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا.. «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» ...
لأن العقل قد يدرك، ولكن القلب المطموس لا يستجيب. فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة. والاستجابة هي السماع الصحيح. وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب! ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا. الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنما يدعوهم إلى ما يحييهم.. إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة..
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء..
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله تعلن تحرر «الإنسان» وتكريمه بصدورها عن الله وحده، ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها لا يتحكم فرد في شعب، ولا طبقة في أمة، ولا جنس في جنس، ولا قوم في قوم.. ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد.
ويدعوهم إلى منهج للحياة، ومنهج للفكر، ومنهج للتصور يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان، العليم بما خلق هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء.
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والثقة بدينهم وبربهم، والانطلاق في «الأرض» كلها لتحرير «الإنسان» بجملته وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله، فاستلبها منه الطغاة! ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله سبحانه- في الأرض وفي حياة الناس وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله- سبحانه- وحاكميته وسلطانه حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده وعندئذ يكون الدين كله لله. حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة.
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة.
إن هذا الدين منهج حياة كاملة، لا مجرد عقيدة مستسرة. منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى. ومن ثم(3/1494)
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها.. وفي كل مجالاتها ودلالاتها. والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ..
استجيبوا له طائعين مختارين وإن كان الله- سبحانه- قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» ..
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة.. «يحول بين المرء وقلبه» فيفصل بينه وبين قلبه ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي بين جنبيه! إنها صورة رهيبة حقا يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم. اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق الدائم بالله- سبحانه- مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة من غفلاته، أو دفعة من دفعاته..
ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» .. فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقاً ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار وهو لا يملك منه شيئا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ..
ليقول لهم: إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى- لو كان يريد- وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنه- سبحانه- يكرمكم فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان.. أمانة الهداية المختارة وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة.
«وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
فقلوبكم بين يديه. وأنتم بعد ذلك محشورون إليه. فما لكم منه مفر. لا في دنيا ولا في آخرة. وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور.
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد، وعن تلبية دعوة الحياة، والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..(3/1495)
والفتنة: الابتلاء أو البلاء.. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره- وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة- ولا تقف في وجه الظالمين ولا تأخذ الطريق على المفسدين.. جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع (فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!) وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون! ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة- التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة- بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها.. وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا.. فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله. ولا عن تكاليف هذه الحياة، التي أعزها بها الله، وأعطاها وحماها:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله.. اذكروا أيام الضعف والخوف، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون.. ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين. يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله! ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
«تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» ..
وهو مشهد التربص الوجِل، والترقب الفزع، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة، والحركات المفزَّعة، والعيون الزائغة.. والأيدي تمتد للتخطف والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس! ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم، في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
«فَآواكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» ..
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
«لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية.. صوت الرسول الأمين الكريم.. ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه وهذا المشهد وذلك معروضان عليه، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه؟
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك.. كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهم(3/1496)
وحاضرهم.. ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق..
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين، ولا تذوقت المذاقين.. ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك. ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
«إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» ..
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله وأن تترقب في يقين وثقة، موعود الله للعصبة المسلمة، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه، وتصبر على تكاليفه.. وأن تنتظر قوله تعالى:
«فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق- لا مع ظواهر الواقع الخادع- ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع! ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى.. إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا.
والحياة التي يدعو إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حياة كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات.. لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد- فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان- وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان ومن التخلف عن دعوة الجهاد وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة. واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل.. ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد، التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول. فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
«لا إله إلا الله، محمد رسول الله» .. قضية إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والأخذ في هذا بما بلغه محمد- صلى الله عليه وسلم- وحده.. والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى. أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة. وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان- وهذا هو غالب الشرك ومعظمه- ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله. ولكن حملهم على إفراده- سبحانه- بالألوهية، وشهادة أن لا إله إلا الله، أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية- كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون- تحقيقا لقول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» .. كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه..
هذه هي قضية هذا الدين- اعتقادا لتقريره في الضمير، وحركة لتقريره في الحياة- ومن هنا كان التخلي عنها خيانة لله والرسول يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان فأصبح متعينا عليها(3/1497)
أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد.
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الإسلام.
فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عبارات وأدعيات. إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء وتأمين الحق والعدل للناس جميعا وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله..
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم، المدخر لعباده الأمناء على أماناته، الصابرين المؤثرين المضحين:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
..
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك! وهو- سبحانه- يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة. ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها.. ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد.. لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها. فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه.. أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .. فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما.. إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد..
هذا هو التنبيه الأول:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
..
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة.
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.. فقد يضعف عن الأداء- بعد الانتباه- لثقل التضحية وضخامة التكليف وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد! إنما يلّوح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
«وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
..
إنه- سبحانه- هو الذي وهب الأموال والأولاد.. وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد.. وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» ..
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور، والتربية والتوجيه، والفرض والتكليف. منهج الله الذي يعلم لأنه هو الذي خلق: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» .(3/1498)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
والهتاف الأخير للذين آمنوا- في هذا المقطع من السورة- هو الهتاف بالتقوى. فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل. وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي. وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة.. ثم هو زاد المغفرة للخطايا. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار..
وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال.
إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق. ولكن هذه الحقيقة- ككل حقائق العقيدة- لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها!.
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل.
ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا.. ذلك ما لم تكن هي التقوى.. فإذا كانت استنار العقل، ووضح الحق، وتكشف الطريق، واطمأن القلب، واستراح الضمير، واستقرت القدم وثبتت على الطريق! إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة.. إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه والذي خلقت به السماوات والأرض.. ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة.. الهوى هو الذي ينشر الغبش، ويحجب الرؤية، ويُعمي المسالك، ويخفي الدروب.. والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى.. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السر والعلن.. ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق.
وهو أمر لا يقدر بثمن.. ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب. ثم يضيف إليهما «الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب «الكريم» ذو الفضل العظيم!
[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 40]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)(3/1499)
يمضي السياق في السورة، يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر، مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره.. الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق.
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة- وقبل هذه الغزوة- من القلة والضعف وقلة المنعة، حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله..
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبيل الهجرة ويتآمرون. وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب- إن كان هذا هو الحق من عند الله- بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به! ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ويجمعوا لحرب رسول الله ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا، والحشر إلى جهنم في الآخرة، والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير.
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين: أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات. أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد ...
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين وحتى تتقرر الألوهية في(3/1500)
الأرض لله وحده- فيكون الدين كله لله- فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله، والله بما يعملون بصير. وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده، وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض، واصل المسلمون جهادهم، مستيقنين أن الله مولاهم، ونعم المولى ونعم النصير..
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ..
إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف. وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر.. ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق. وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة.. وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم! لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت أو ليقتلوه ويتخلصوا منه أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ليتفرق دمه في القبائل ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر! قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجريري، عن مقسم مولى ابن عباس، أخبره ابن عباس في قوله: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ» ... قال: «تشاورت قريش ليلة بمكة. فقال بعضهم:
إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم:
بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك فبات عليّ- رضي الله عنه- على فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.. فمكث فيه ثلاث ليال» .
«وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .
والصورة التي يرسمها قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ» .. صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون! إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور.(3/1501)
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ودعاويهم ومفترياتهم. حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا! مع وصف هذا القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا! لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا! إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
ذكر ابن كثير في التفسير- نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم- أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال: «فإنه- لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ولما قدم وجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن. فكان- عليه الصلاة والسلام- إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصا؟
أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تضرب رقبته صبرا بين يديه، ففعل ذلك والحمد لله. وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه..
كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير قال: قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول» . فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقتله، فقال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«اللهم أغن المقداد من فضلك» . فقال المقداد: هذا الذي أردت! قال: وفيه أنزلت هذه الآية: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا: قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ..
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن: إنه أساطير الأولين: «وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكره وأصيلاً» ..
وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن، وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك. وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات. وهم يعلمون أنها مناورات! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد! لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحةَ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة، والخروج من حاكمية العباد جملة والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته. ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده، دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله! .. وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد- صلى الله عليه وسلم- ويخضعون لقيادته وسلطانه وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة، وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة.
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وكان هذا واقعاً يشهده الملأ(3/1502)
من قريش ويحسون خطره على كيانهم، وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم.
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون- لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ويؤدون بعض الشعائر التعبدية، بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه.
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة.. ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين.. فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل. ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام..
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام، ومن هذا القرآن.. إنه لم يزعجهم من قبل أن «الحنفاء» اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده، واجتنبوا عبادة الأصنام أصلا.. فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية! إن هذا ليس هو الإسلام- كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين، ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع.. وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتى الأساليب.. ومنها هذا الأسلوب.. أسلوب الادعاء على القرآن الكريم، بأنه أساطير الأولين! وأنهم- لو شاءوا- قالوا مثله! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة..
وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون! والأساطير واحدتها أسطورة. وهي الحكاية المتلبسة- غالباً- بالتصورات الخرافية عن الآلهة وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً..
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين وقصص الخوارق والمعجزات وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين ... إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات فيقولون للجماهير المستغفلة: إنها أساطير الأولين اكتتبها محمد ممن يجمعونها وجاء يتلوها عليكم، زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله.. وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد انتهائه أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ليقول للناس:
إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد. وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير! ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس. وبخاصة في أول الأمر، قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص، وبين القرآن الكريم. لندرك لم نادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث. ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفر(3/1503)
القليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ولم يقبل فيه فدية كالآخرين.
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات، فلم يقف له منها شيء وراح الملأ من قريش- في ذعر- يقولون: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ!» ووجد كبراؤهم، من أمثال أبي سفيان، وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في خفية عن الآخرين حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألا يعودوا إليها، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين! على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه، لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون.. لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر.. لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن. فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون، وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم ... ويفهمون أنهم مسلمون، ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين! لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه.. لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها.. حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم، إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم، وقيمهم وموازينهم! ثم قالوا لهم: إن هذا الدين محترم، وإن هذا القرآن مصون. وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ويترنم به المترنمون، ويرتله المرتلون.. فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل؟! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم، وأما أنظمتكم وأوضاعكم، وأما شرائعكم وقوانينكم، وأما قيمكم وموازينكم، فإن هناك قرآناً آخر هو المرجع فيها كلها، فإليه ترجعون! إنها مناورة النضر بن الحارث، ولكن في صورة متطورة معقدة، تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة..
ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين، على مدار القرون! ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه- على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه- ما يزال يغلب! ..
إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين! إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية بحيث يذيعه- على السواء- اليهود، ويذيعه الصليبيون، ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين! وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس «المسلمين» ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل أو مجرد تمائم وتعاويذ! وبعد أن أبعدوه- حتى في خاطر الناس.. المسلمين! .. من أن يكون مصدر التوجيه للحياة وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون.. ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد وسيظل يعمل وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب، وتتخذه(3/1504)
وحده مصدر التوجيه وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين. من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد..
وما كان مرة لا بد أن سيكون..
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه وإذا بهم يتمنون على الله- إن كان هذا هو الحق من عنده- أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو أن يأتيهم بعذاب أليم. بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
«وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
وهو دعاء غريب يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقاً! ..
إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة. ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق عند ما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه.. وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس! ويعقب السياق على هذا العناد، وعلى هذا الادعاء، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه- إن كان هذا هو الحق من عنده- وإنه للحق.. مع هذا فإن الله فد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم. لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بينهم، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى. والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم. كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت. فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ..
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام- وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه! إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه- ولو بعد حين- وما دام الرسول- صلى الله عليه وسلم- بينهم، يدعوهم، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون. والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» ..
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:(3/1505)
«وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ. إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام.. فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع. إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه. إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف. إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله.. ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم- عليه السلام- فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب إنما هي وراثة دين وعقيدة.
والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم! إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم. فما هذه بصلاة! إنما كانت صفيرا بالأفواه وتصفيقا بالأيدي، وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لهيبة الله.
عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفقون ويصفرون.
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها «بلاد المسلمين» ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة. بعد ما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة: صورة ألوهية العبيد في الأرض، وحاكميتهم في حياة الناس.. وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها، وفرع منها! «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ..
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة. فأما العذاب الذي طلبوه- عذاب الاستئصال المعروف- فهو مؤجل عنهم، رحمة من الله بهم، وإكراما لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ومقامه فيهم، عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه.
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله.. هكذا فعلوا يوم بدر، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة.. وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية. والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ، فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً، فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم- أي جيشهم المهزوم- إلى مكة ورجع أبو سفيان بِعيره، مشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم! فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا. ففعلوا. فقال: ففيهم- كما ذكر ابن عباس- أنزل الله عز وجل: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... » .
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين.. إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم، في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا(3/1506)
الدين. وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين..
إن المعركة لن تكف. وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة. ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن. وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت.
والله- سبحانه- ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة..
إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا. وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى.. ذلك..
«لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ، فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
فكيف؟
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان فيقابله الحق بالكفاح والجهاد وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة.. وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل- حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم..
وتلك غاية الخسران..
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار! «فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» ..
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعاً أعمق في الحس.. وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير..
وعند ما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم، عن مصير الكفر المتعاون، ونهاية الخبث المتراكم، يتجه بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لينذر الكافرين إنذاره الأخير، ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة، وحتى يكون الدين كله لله، ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها، فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد، والله وليها الناصر المعين:
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ..
قل للذين كفروا- في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم، وحسرتهم على ما أنفقوا، وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يركم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم..(3/1507)
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» ..
فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر، ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله، ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله.. والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله، ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف. فالإسلام يجب ما قبله، ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه..
فأما إن هم عادوا- بعد هذا البيان- إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف.
ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين..
وهذه السنة ماضية لا تتخلف.. وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق! بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا:
«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ..
وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان، لا في ذلك الزمان.. ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة، وبقوانين الحرب والسلام، ليست هي النصوص النهائية، فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة ومع أن الإسلام- كما قلنا في تقديم السورة- حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة، وأنه حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية..
ومع هذا فإن قوله تعالى:
«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..
يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم..
ولقد جاء الإسلام- كما سبق في التعريف بالسورة- ليكون إعلاناً عاماً لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد- ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد- وذلك بإعلان ألوهية الله وحده- سبحانه- وربوبيته للعالمين.. وأن معنى هذا الإعلان: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور ... الخ «1» .
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال.. وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام، وتنفذه في عالم الواقع، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه..
وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر- في صورة من الصور- وذلك لضمان الهدف الأَول، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها، بحيث لا تكون هناك دينونة
__________
(1) ص 1433- 1452 من هذا الجزء.(3/1508)
إلا لله وحده- فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله- وليس هو مجرد الاعتقاد..
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول، على حين أن الله سبحانه يقول:
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..
ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام- وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب: «الجهاد في سبيل الله» للأستاذ أبي الأعلى المودودي، ما يكفي للبيان الواضح.. إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين! إن الذي يعنيه هذا النص: «ويكون الدين كله لله» .. هو إزالة الحواجز المادية، المتمثلة في سلطان الطواغيت، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد، فلا يكون هناك- حينئذ- سلطان في الأرض لغير الله، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله.. فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط. على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى، ويفتن بها الذين يتحررون فعلاً من كل سلطان إلا سلطان الله.. إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد. فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد.
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله، ولن يتحرر «الإنسان» في «الأرض» ، إلا حين يكون الدين كله لله، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه.
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
«حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره، وتركوا هذا لله:
«فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
«وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ. نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» ..
هذه تكاليف هذا الدين وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس..
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه! إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان.. وهو منهج حركي واقعي، يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة..
يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان.. ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله..
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري. والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل(3/1509)
بنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد- كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة- أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة. ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه.
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين.. لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون.. ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من «المسلمين» ، ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين! .. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..(3/1510)
انتهى الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر مبدوءا بقوله تعالى:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ»(3/1511)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من بقيّة سورة الأنفال وأول سورة التّوبة الجزء العاشر(3/1513)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال- التي وردت أوائلها في الجزء التاسع- ومن قسم كبير من سورة التوبة.. وسنمضي أولا مع بقية الأنفال، أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله.
لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع «1» . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها.. إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة، هي أن هذا الشطر الأخير منها، يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها، ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات، إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة، والشطر الأول دورة، بينهما هذا التناسق العجيب! لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها فردها إلى الله والرسول.. ثم دعاهم إلى التقوى، وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها.. ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها، مستحضرا جانبا من مواقف المعركة ومشاهدها، فإذا التدبير كله لله، والمدد كله من الله، والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله، وإن هم فيها إلا ستار وأداة.. ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف وطمأنهم إلى نصرة الله ومعيته، وإلى تخذيل الله لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم.. ثم حذرهم خيانة الله وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد وأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه وأن يقبل منهم الاستجابة- لو استجابوا- ويكل خبيئهم إلى الله وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..
وكذلك يسير هذا الشطر الثاني.. يبدأ ببيان حكم الله في الغنائم- بعد أن ردها إلى الله ورسوله- ثم يدعوهم إلى الإيمان بالله وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. ثم يكشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها، يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير، كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر الله وستار.. ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء، وإلى ذكر الله، وطاعته وطاعة رسوله ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ويدعوهم إلى الصبر وتجنب البطر والرياء في الجهاد ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، منخدعين بمكر الشيطان ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده، القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره.. ثم يريهم سنة الله
__________
(1) من ص 1462- 1469(3/1515)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
في أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم.. وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم، فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم.. وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا: إنهم شر الدواب، فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا، وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة، بعضها أحكام نهائية، وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة..
وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة- من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق- لما جاء في الدورة الأولى، مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات.
ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها، ومكملة لها:
يذكر الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه، بمنته عليهم في تأليف قلوبهم، وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته.
ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته.. ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ويريهم أنهم بإيمانهم- إذا صبروا- أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون، لأنهم لا يؤمنون! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا- متى صبروا. والله مع الصابرين.
ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى وهم لم يثخنوا في الأرض بعد، ولم يخضدوا شوكة عدوهم ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم. فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة، ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة.. وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى، وكيف يحببونهم في الإيمان، ويزينونه في قلوبهم ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر، سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة، ومن حيث المبدأ العام أيضا. حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي وطبيعة المنهج الإسلامي كله وحيث يبدو بوضوح كامل أن «التجمع الحركي» هو قاعدة الوجود الإسلامي، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم.
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 54]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)(3/1516)
السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع.. فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: « ... قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ(3/1517)
بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»
..
ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه:
«حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» ..
ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح وتبين منها أنه جهاد لله، وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة.. ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل، فردت إلى الله والرسول، وجرّد منها المجاهدون لتخلص نيتهم وحركتهم لله.. مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له. فهناك غنائم وهناك محاربون. وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم: هم يتطوعون للجهاد، وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون.. ثم هم يغنمون من المعركة غنائم. يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد.. ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله.. وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم- وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله- فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية، ومشاعرهم البشرية، دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه، والتنازع فيه، بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة..
إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل، الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع، من أجل تلك المغانم! «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ.. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل.. أولاً: حول مدلول «الغنائم» ومدلول «الأنفال» هل هما شيء واحد، أم هما شيئان مختلفان؟ وثانياً: حول هذا الخمس- الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين- كيف يقسم؟ وثالثاً: حول خمس الخمس الذي لله. أهو الخمس الذي لرسول الله، أم هو خمس مستقل؟ .. ورابعاً: حول خمس الخمس الذي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده؟ وخامساً: حول خمس الخمس الذي لأولي القربى، أهو باق في قرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بني هاشم وبني عبد المطلب، كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه؟ وسادساً: أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه من بعده؟ ... وخلافات أخرى فرعية.
ونحن- على طريقتنا في هذه الظلال- لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة.. هذا بصفة عامة.. وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعاً إسلامياً يواجهنا اليوم أصلاً.
فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه.. إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان. والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله(3/1518)
وحده! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً.
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين وليس هناك- في البدء- قضية أخرى سواها..
ليس هناك قضية غنائم، لأنه ليس هناك قضية جهاد! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية، وذلك لسبب بسيط: هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى!!! والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع! .. إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين. هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلاً! بدلاً من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه: دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد- كما دخل فيه الناس أول مرة- كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية.. ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق.. ثم يحتاج حينئذ- وحينئذ فقط- إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره.. وحينئذ- وحينئذ فقط- يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية- في الداخل وفي الخارج- وحينئذ- وحينئذ فقط- تكون لهذا الاجتهاد قيمته، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته! من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم حتى يحين وقتها عند ما يشاء الله وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام! وحسبنا- في هذه الظلال- أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي، والمنهج القرآني التربوي. فهذا هو العنصر الثابت، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم.. وكل ما عداه تبع له وقائم عليه «1» :
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ» .
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله، من بعده في هذه المصارف: «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ» .. بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم ... وفي هذا كفاية..
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير:
__________
(1) يراجع بتوسع مقدمة سورة الأنعام بالجزء السابع ص 1004- 1029 كما يراجع فصل «كيف الخلاص» من كتاب «الإسلام ومشكلات الحضارة» للمؤلف. «دار الشروق» . [.....](3/1519)
«إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
إن للإيمان أمارات تدل عليه والله- سبحانه- يعلق الاعتراف لأهل بدر- وهم أهل بدر- بأنهم آمنوا بالله، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان.
وهكذا نجد مدلول الإيمان- في القرآن- واضحاً جازماً لا تميع فيه، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد، عند ما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية، كما دخل الناس- بسبب الفرق المذهبية والسياسية- في الاتهامات ودفع الاتهامات وصار النبز بالكفر، ودفع هذا النبز، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة.. وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية.. أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو.. «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» .. ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة.. والكفر: رفض ما شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شرع الله.. في الصغير وفي الكبير سواء.. أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة.. وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات..
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله.
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة وردها إلى الله والرسول- في أول السورة- ليخلص الأمر كله لله والرسول وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض وليسلموا أمرهم كله- أوله وآخره- لله ربهم وللرسول قائدهم وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله، وتحت راية الله، طاعة لله يحكمونه في أرواحهم، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض..
فهذا هو الإيمان.. كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ..» .
حتى إذا استسلموا لأمر الله، وارتضوا حكمه ذاك، فاستقر فيهم مدلول الإيمان.. عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقي الخمس على الأصل- لله والرسول- يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده(3/1520)
ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله.. وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان.. هو شرط الإيمان، وهو مقتضى الإيمان..
«وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.. إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ»
..
وهكذا تتواتر النصوص، لتقرر أصلاً واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه.
ثم نقف أمام وصف الله- سبحانه- لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: «عبدنا» في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء، وأمر الخمس المتبقي أخيراً:
«إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ، وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
إنه وصف موحٍ.. إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التبليغ عن الله، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله.
وإنه لكذلك في واقع الحياة! إنه لكذلك مقام كريم.. أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان..
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى.
يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع «الإنسان» من بين سائر الأنواع وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا- كما خلقهم الله- في أحسن تقويم.
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها.. يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر، مشوبة بحب الاستعلاء، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى! ويقعون في عبودية «الحتميات» التي يقال لهم: إنه لا قبل لهم بها، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها.. «حتمية التاريخ» .. و «حتمية الاقتصاد» .. و «حتمية التطور» وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين «الإنسان» في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه، ولا أن يناقش- في عبوديته البائسة الذليلة- هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة! «1» ثم نقف كذلك أمام وصف الله- سبحانه- ليوم بدر بأنه يوم الفرقان:
«إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» ..
لقد كانت غزوة بدر- التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده- فرقاناً.. فرقاناً بين الحق والباطل- كما يقول المفسرون إجمالاً- وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيرا..
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» وكتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1521)
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله- سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير وفي عبودية الكون كله: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ويغشي على ذلك الحق الأصيل ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء! .. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان! لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات ...
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك.. فرقاناً بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات ... وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه.. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة..
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصوراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنساني، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة.. بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير «الإنسان» في «الأرض» بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته.. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ثم في حياة البشرية كلها أخيراً.. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.. «1»
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية.. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام.. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء.. هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. إنما صار- شيئاً فشيئاً- ملكاً للبشرية كلها تأثرت به سواء
__________
(1) يراجع ما جاء في الجزء التاسع عن أهداف الجهاد الإسلامي في تقديم سورة الأنفال: ص 1431- 1452.(3/1522)
في دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته! .. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائداً عندهم، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه- بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا! .. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله- منذ وقعة بدر- متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء» .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة. فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: «غر هؤلاء دينهم» .. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو- وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة- لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة وأن هذا ليس كلاماً يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر. ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة:
«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» .
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون غير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقال لهم الله- سبحانه- إنه صنع هذا:
«لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» ..
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة.. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل- في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان «النظري» للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد «النظري» بأن هذا حق وهذا باطل.. إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس. إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا..
فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد «نظرية» للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي! ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبار
__________
(1) يراجع في كتاب «هذا الدين» فصول: منهج مؤثر، رصيد الفطرة، رصيد التجربة، خطوط مستقرة. «دار الشروق» .(3/1523)
الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته- سبحانه- من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من بيته بالحق ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة..
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وأنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! «1» وهكذا كان يوم بدر «يوم الفرقان يوم التقى الجمعان» بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة..
«وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء.. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير.
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله- سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه:
«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها.. إن يد الله تكاد ترى، وهي توقف هؤلاء هنا، وهؤلاء هناك، والقافلة من بعيد! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر، وفي إغراء كل منهما بالآخر..
وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية، وبهذه الحركة المرئية، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير! وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها.. ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة وبين الفريقين ربوة تفصلهما.. أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين.
__________
(1) كان موضع هذه اللفتة في الجزء التاسع عند استعراض هذا النص. ولكن لم يفتح به علي وقتها، وفتح علي به هنا. والحمد لله أولا وأخيرا.(3/1524)
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه. وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده.
حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره.
«إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» ..
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد- بهذه الدقة وبهذا الضبط- لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به! أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه:
«لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ..
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر، كما يعبر به عن الكفر. وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان.. وهذا المدلول الثاني أظهر هنا، وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى:
«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» ..
فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان. هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن «1» .
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر- كما قال الله سبحانه- كان «يوم الفرقان» وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل- كما ذكرنا منذ قليل- ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة- يكفر عن بينه فيهلك عن بينة- ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة..
إن الموقعة- بظروفها التي صاحبتها- تحمل بينة لا تجحد، وتدل دلالة لا تنكر، على تدبير وراء تدبير البشر، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر.. إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا، وأنه لو كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم..
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال: «فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله- كما يزعم محمد- فما لأحد بالله من طاقة» ! ولقد علموا- لو كان العلم يجدي- أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين، وأنه ما لأحد بالله من طاقة.. فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة! هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب: «ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة» ..
ولكن يبقى وراءه إيحاه آخر:
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع- بعد استعلائه في
__________
(1) ص 1199- 1201 من الجزء الثامن من الظلال. «دار الشروق» .(3/1525)
عالم الضمائر- إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى فلا تعود لمن يختار الهلاك- أي الكفر- شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى كما أن الذي يريد أن يحيا- أي يؤمن- لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله، ويخذل الطغاة.
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع- في التعريف بسورة الأنفال- من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت وإعلاء راية الحق وسلطان الله.. فهذا مما يعين على جلاء الحق: «ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة» .. كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى، في هذه السورة: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..» فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب. لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير «الإنسان» في «الأرض» كما أسلفنا. «1»
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو:
«وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
فهو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر، وهو السميع العليم..
وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض ويكشف التدبير الخفي اللطيف:
«إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ. وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن. فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً. فلقد علم- سبحانه- أنه لو أراهم له كثيراً، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم: فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً! «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
ولقد كان- سبحانه- يعلم بذوات الصدور فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً، ولم يرهم إياه كثيراً..
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قليلاً.. وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة- من وراء الظاهر الخادع- هي التي أراها الله لرسوله فأدخل بها
__________
(1) يراجع بتوسع الجزء التاسع ص 1431- 1452.(3/1526)
الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم، من ضعف عن المواجهة وتنازع على الالتحام أو الإحجام.
وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور.
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها.
«وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة.. والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً- لأنهم يرونهم بعين الحقيقة! - والمشركون يرونهم قليلاً- وهم يرونهم بعين الظاهر- ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه..
«وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء ... فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه. ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره.
وإذ إن الأمر كذلك.. التدبير تدبير الله. والنصر من عند الله. والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر. والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.. فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل وليحترزوا من خداع الشيطان، الذي أهلك أولئك الكفار وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ. وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، وَقالَ: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ! وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات، وقواعد وتوجيهات، وصور ومشاهد وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر.. مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد! إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا- في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة- وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء، وإلى التزود بزاد النصر والتأهب بأهبته.(3/1527)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول.
وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي..
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟! وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي.
ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عند ما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قولهم: «وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل، وهي تواجه جالوت وجنوده: «وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً. وقد حكى الله- فيما بعد- عن العصبة التي أصابها القرح في «أحد» فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب والثقة بالله الذي ينصر أولياءه.. وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي.. كما أنه توكيد لهذا الواجب- واجب ذكر الله- في أحرج الساعات وأشد المواقف.. وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة يحققها هذا التعليم الرباني.
وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» .. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله(3/1528)
ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم- مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداء! .. ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة.. إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها. وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا.. والمسافة كبيرة كبيرة..
وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة.. أية معركة.. في ميدان النفس أم في ميدان القتال.
«وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح..
ويبقى التعليم الأخير:
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها.. والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر، وتقرير عبودية العباد لله وحده. وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية- بغير إذن الله وشرعه- وتخرج لإعلان تحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل عبودية لغير الله، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته.
وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر. وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد وفي إقامة منهجه في الحياة وفي إعلاء كلمته في الأرض وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه.. حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله..
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله: وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة.. وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه:
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل، وقد جاءه رسول أبي سفيان- بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين- يطلب إليه الرجوع بالنفير، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه. وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق. فقال أبو جهل: «لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم ثلاثاً، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر،(3/1529)
وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبداً» .. فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:
«وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع، لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغي منقصة وشؤم، إن أصاب محمد النفير ذللنا» .. وصحت فراسة أبي سفيان، وأصاب محمد- صلى الله عليه وسلم- النفير وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
«وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
لا يفوته منهم شيء، ولا يعجزه من قوتهم شيء، وهو محيط بهم وبما يعملون.
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار:
«وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، وَقالَ: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ، وَقالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ليس من بينها حديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا ما رواه مالك في الموطأ: حدثنا أحمد بن الفرج، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، قال: حدثنا مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما رئي إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا:
يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال: «أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة» ..
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وهو ضعيف الحديث، والخبر مرسل.
فأما سائر الآثار فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج.
وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق. وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير. وعن الحسن وعن محمد بن كعب. وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: «لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» .. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين. وأقبل جبير إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: «إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب» وذلك حين رأى الملائكة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان. عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر- يعني من الحرب- فكاد ذلك أن يثنيهم. فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف كنانة، فقال:(3/1530)
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعاً.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: «وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم» إلى قوله: «شديد العقاب» قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة، وقال: «إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله» .. وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم، وتبرأ منهم عند ذلك.
ونحن- على منهجنا في هذه الظلال- لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر. فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته. ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض..
وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم وأنه بعد ذلك- لما تراءى الجمعان أي رأى أحدهما الآخر- «نكص على عقبيهِ وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب» .. فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، ولم يوف بعهده معهم..
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم. والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث..
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا. ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلاً معيناً ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم. وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية:
«وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، وَقالَ: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» .. أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:
لا غالب لكم اليوم من الناس، لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب، فأنتم أعز نفراً وأكثر نفيراً وأعظم بأساً، وإني مع هذا- أو والحال أني- جار لكم. قال البيضاوي في تفسيره: وأوهمهم أن اتباعهم إياه، فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم، حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين» .
«فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ» .. أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر، وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه، نكص: أي رجع القهقرى، وتولى إلى الوراء، وهو جهة العقبين (أي مؤخري الرجلين) وأخطأ من قال من المفسرين: إن المراد بالترائي التلاقي- والمراد: أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم، وتركه إياهم وشأنهم وهو (وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله) أي تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز(3/1531)
أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً» .
... «أقول: معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم ... » .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» - وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين.. هو منهج تلك المدرسة بجملتها.. ومثله تفسير «الطير الأبابيل» بأنها ميكروبات الجدري! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم.. هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية حيث لا ضرورة لهذا التأويل، لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها.. وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة.. وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً «1» ..
وبعد، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، ويشجعهم على الخروج، ثم يتركهم لمصيرهم البائس ... كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون وهم يرونها تواجه جحافل المشركين، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ويرون- بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة- أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة، مخدوعين بدينهم، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم:
«إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» ..
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل: إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة- ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم- خرجوا مع النفير مزعزعين، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة! والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة فهم يرون ظواهر الأمور، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة، والثقة في الله، والتوكل عليه، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية.. فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها! إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان.
ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر.. فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من «الواقع» الحقيقي! الواقع الذي يشمل جميع القوى، ويوازن بينها موازنة صحيحة:
«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
__________
(1) يراجع تفسيرنا لسورة الفيل وتعقيبنا على تفسير الشيخ محمد عبده لها في الجزء الثلاثين من الظلال.(3/1532)
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه! وهذا ما يرجح الكفة، ويقرر النتيجة، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان.
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، عن العصبة المسلمة يوم بدر: «غر هؤلاء دينهم» .. هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه.
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة، وللأخطار الواضحة.. إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور- كما يسمونه- وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة! .. إنهم يحسبون الحياة كلها- بما فيها الدين والعقيدة- صفقة في سوق التجارة. إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى! .. إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان.. إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلب، أو الشهادة والجنة.. ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف فهناك الله.. وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض! والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، وأن ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله، وأن تلقي بالها دائماً إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين:
«وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
.. وصدق الله العظيم..
وأخيراً يعرض السياق القرآني مشهداً من مشاهد التدخل الإلهي في المعركة، والملأ الأعلى من الملائكة- بأمر الله وإذنه- يشارك في أخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب والملائكة يقبضون أرواحهم في صورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهيناً- جزاء على البطر والاستكبار- ويذكرونهم في أشد اللحظات ضيقاً وحرجاً بسوء أعمالهم وبسوء مآلهم، جزاء وفاقاً لا يظلمهم الله فيه شيئاً.. ويقرر السياق في إثر عرض هذا المشهد أن أخذ الكفار بتكذيبهم سنة ماضية: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» وأنه كذلك أخذ فرعون وملأه، وكذلك يأخذ كل من يفعل فعله ويشرك شركه:
«وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ. وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» .
والآيتان الأوليان في هذا المقطع:(3/1533)
«وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
قد تعنيان حال المشركين يوم بدر والملائكة تشترك في المعركة- كما قال لهم الله سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وإن كنا- كما قلنا عند استعراض هذا النص في الجزء التاسع- لا ندري كيف تضرب الملائكة فوق الأعناق وكل بنان. ولكن جهلنا بالكيفية لا يدعونا إلى تأويل هذا النص عن مدلوله الظاهر وهو أن هناك أمراً من الله للملائكة بالضرب، وأن الملائكة «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» » ..
وتكون هاتان الآيتان هنا تذكيراً بما كان يوم بدر وتكملة لحكاية فعل الملائكة فيه بالذين كفروا..
كما أن هاتين الآيتين قد تعنيان حالة دائمة كلما توفت الملائكة الذين كفروا.. في يوم بدر وفي غيره..
ويكون قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى» .. موجهاً توجيه الخطاب لكل من يرى، كما يكثر مثل هذا الأسلوب في التوجيه إلى المشاهد البارزة التي من شأنها أن يتوجه إليها كل من يرى..
وسواء كان هذا أو ذاك. فالتعبير القرآني يرسم صورة منكرة للذين كفروا، والملائكة تستل منهم أرواحهم في مشهد مهين يضيف المهانة والخزي، إلى العذاب والموت:
«وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» ..
ثم يتحول السياق من صيغة الخبر إلى صيغة الخطاب:
«وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» .
ليرد المشهد حاضراً كأنه اللحظة مشهود وكأنما جهنم بنارها وحريقها في المشهد وهم يدفعون إليها دفعاً مع التأنيب والتهديد:
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» ..
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً، تستحقونه بما قدمت أيديكم:
«وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
وهذا النص- بما يعرضه من مشهد «عذاب الحريق» - يثير في النفس سؤالاً: ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم- كأنه واقع بهم- بعد البعث والحساب؟ أم إنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم؟ ..
وكلاهما جائز، لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني.. ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير..
فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه. وهو واقع ماله من دافع.
أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب.
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة، مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد.. إن
__________
(1) وليس كالذي قاله المرحوم السيد رشيد رضا من أنه ثبت أن الملائكة لم تشترك في المعركة يوم بدر إلا بمخالطة أرواح المؤمنين وتثبيتهم.
فهذا مخالف لظاهر النص. والنص أولى بالاتباع.(3/1534)
أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب، سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم:
«كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
إن الله- سبحانه- لا يكل الناس إلى فلتات عابرة، ولا إلى جزاف لا ضابط له.. إنما هي سنته يمضي بها قدره.. وما أصاب المشركين في يوم بدر، هو ما يصيب المشركين في كل وقت وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم:
«كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ» ..
ولم يعجزوه- سبحانه- ولم يتخلف عنهم عقابه:
«إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» .
ولقد آتاهم الله من نعمته، ورزقهم من فضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها.. وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً، لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ ولكنهم كفروا ولم يشكروا وطغوا وبغوا بما أُعطوا، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة.. وجاءتهم آيات الله فكفروا بها.. وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها.. وعندئذ غير الله النعمة، وأخذهم بالعذاب، ودمر عليهم تدميراً:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ، فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ. وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» ..
لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته. ولم يهلكهم قبلها سبحانه- مع أنهم كانوا كافرين- لأن هذه سنته ورحمته: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» .. وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم.. بأنهم «كانُوا ظالِمِينَ» .. مستخدماً لفظ «الظلم» بمعنى «الكفر» أو «الشرك» وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن..
ولا بد أن نقف قليلاً عند نص هذه الآية:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..
إنه، من جانب، يقرر عدل الله في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها.. ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم، حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم.. ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة- تقابل التكريم العظيم- على هذا الكائن. فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه(3/1535)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
ويملك أن يزاد عليها، إذا هو عرف فشكر كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه.
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانباً من جوانب «التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان» وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه.. ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله وتكريمه بهذا التقدير كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله فيبدو عنصراً إيجابياً في صياغة هذا المصير- بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه- وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية، التي تصوره عنصراً سلبياً إزاء الحتميات الجبارة. حتمية الاقتصاد، وحتمية التاريخ، وحتمية التطور.. إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول «1» ! كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه وتصور عدل الله المطلق، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره، ولا يظلم فيها عبد من عبيده:
«وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
«فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» ..
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. والحمد لله رب العالمين..
[سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 75]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .(3/1536)
هذا الدرس الأخير من سورة الأنفال يتضمن الكثير من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال ونظرته كذلك إلى علاقات الدم والجنس والأرض وعلاقات العقيدة.(3/1537)
ومنه تتبين عدة قواعد وأحكام بعضها نهائي في موضوعه وبعضها مرحلي كان يواجه أحوالاً معينة واقعة، ثم أدخلت عليه التعديلات النهائية المستقرة في سورة التوبة قرب نهاية العهد المدني.
ومن بين هذه القواعد والأحكام حسب ورودها في السياق القرآني:
أن الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي، ثم يخلفون عهدهم معه هم شر الدواب.. ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي.
أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم، وتعلنهم بإلغائه. ومن ثم تصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب من وراءهم من أمثالهم.
أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض التي ترهبها جميع القوى المبطلة والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض، فتهاب أولاً أن تهاجم دار الإسلام وتستسلم كذلك لسلطان الله فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة، ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله لله.
أنه إذا جنح فريق من غير المسلمين إلى مسالمة المعسكر الإسلامي وموادعته وعدم الوقوف في وجهه فإن القيادة الإسلامية تقبل منهم المسالمة، وتعاهدهم عليها. فإن أضمروا الخديعة ولم يبد في الظاهر ما يدل عليها، ترك أمرهم إلى الله، وهو يكفي المسلمين شر الخادعين.
أن الجهاد فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم. وأنهم منصورون بعون الله على أعدائهم، وأن الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء، وكفء لاثنين في أضعف الحالات وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يثقوا بالله، وأن يثبتوا في المعركة، ويصبروا عليها والبقية على الله. ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة..
أن المعسكر الإسلامي يجب أن يكون همه ابتداء القضاء على قوة الطاغوت بتحطيم كل أسباب القوة. فإذا كان أسر المقاتلين وفداؤهم لا يحقق هذه الغاية، فإن هذا الإجراء يستبعد.. ذلك أنه لا يكون للرسل وأتباعهم أسرى إلا بعد أن يثخنوا في الأرض، فيدمروا قوة عدوهم، ويستعلوا هم في الأرض ويتمكنوا بقوتهم وعندئذ لا يكون هناك من بأس في أخذ الأسرى وفدائهم. أما قبل ذلك فالتقتيل في المعركة أولى وأجدى.
أن الغنائم حل للمسلمين في المعركة من أموال المشركين. كما أحل لهم أن يأخذوا فدية الأسرى بعد أن يثخنوا في الأرض ويتمكنوا فيها ويخضدوا شوكة عدوهم ويحطموها.
أن الأسرى في المعسكر المسلم ينبغي أن يرغبوا في الإسلام. بوعد الله لهم أن يعطيهم خيراً مما أخذ منهم من الغنيمة أو الفداء. مع تحذيرهم من الخيانة ببأس الله الذي أمكن منهم أول مرة.
أن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس(3/1538)
العقيدة والتنظيم الحركي معاً، فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الإسلام، فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الإسلام.. أي لا تناصر ولا تكافل.. ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد.
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي، لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فيكونوا أقرب في الولاء- متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي- فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي.
هذه- على وجه الإجمال- هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي.. وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية:
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة، عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة.
وهي تمثل إحدى قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى، ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية.
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقية. فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ويستعد للمبادأة والشر فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود، وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين.. على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سراً أو جهراً! ..
فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية، أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها «1» .
__________
(1) ولقد نظمت هذه الحالات تنظيما نهائيا فيما بعد في سورة التوبة(3/1539)
وهذه- كما هو ظاهر- مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة لا ترفض الموادعة- متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب- وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء، وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً.
أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك، فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة، والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله:
«ولما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه- وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم- وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن. ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم. ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى» ..
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة.
وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة، تواجه أحوالاً واقعة ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية، حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة..
وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد. ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته:
«فصل في ترتيب سياق هديه (صلى الله عليه وسلم) مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل.. أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ» فنبأه بقوله: «اقْرَأْ» وأرسله ب «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب.
ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه(3/1540)
فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم. فقتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية ... إلخ» ..
ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد، ومراجعة أحداث السيرة، وتاريخ نزول السور والآيات التي تتضمن هذه الأحكام، يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا، تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة، وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة. ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات.. ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية، إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية. فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة، والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي..
وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية:
«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ» ..
ولفظ «الدواب» وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض، فيشمل الأناسي فيما يشمل، إلا أنه- كما أسلفنا- يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين.. ظل البهيمة.. ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة! وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص.. قيل: إنهم بنو قريظة، وقيل: إنهم بنو النضير.
وقيل: إنهم بنو قينقاع. وقيل: إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين.. والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً. فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طائفة طائفة، كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً.. والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها، إلى حين نزول هذه الآيات. ولكن الحكم الصادر فيها، المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة، ويقرر صفة ثابتة..
فهؤلاء الذين كفروا ولجُّوا في الكفر «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .. ففسدت بذلك فطرتهم، وباتوا بذلك شر الدواب عند الله. هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه، فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى- خصيصة التقيد بالعهد- وانطلقوا من كل قيد، كما تنطلق البهيمة، لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها، وهؤلاء لا ضابط لهم. فهم بذلك شر الدواب عند الله! هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم.. جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم، والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم، إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من المسلمين، مأمورون- إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال- أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع:(3/1541)
«فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» ..
وإنه لتعبير عجيب، يرسم صورة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذي يكفي السماع به للهرب والشرود.
فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب؟ إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد، وانطلقوا من ضوابط الإنسان، ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً، وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد..
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة. إن هذا الدين لا بد له من هيبة، ولا بد له من قوة، ولا بد له من سطوة، ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من كل طاغوت. والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ، في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت، هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين! وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة.
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
«وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» ..
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ولم يخن ولم يغدر ولم يغش ولم يخدع وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم. فليس بينه وبينهم أمان..
وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة.. إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم.. فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة، لأن كل خصم قد أخذ حذره فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة! إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ويريد للبشرية أن تعف فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة.
إن الإسلام يكره الخيانة، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة.. إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة.. وليس مسلماً من يبرر الوسيلة بالغاية، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية، لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات.. إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل، فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية.. من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة.
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .(3/1542)
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق. لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان.. قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت. ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي. ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي! وعلى الذين يبرهم «التقدم الفني في صناعة القانون» أن يدركوا حقيقة «الواقع» بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً! وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر، ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر! «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» ..
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق، لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم، ولن يفلت الخائنين لخيانتهم. والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم، وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم.
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة- متى أخلصوا النية فيها لله- من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة.
فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض، ويعلون كلمته في الناس، وينطلقون باسمه. يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك.
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» .
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ويخص «رباط الخيل» لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة.. ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- والمهم هو عموم التوجيه:
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ..
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في «الأرض» لتحرير «الإنسان» .. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها.. والأمر الثاني: إن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على «دار الإسلام» التي تحميها تلك القوة.. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير «الإنسان» كله في «الأرض» كلها.. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه..(3/1543)
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب، وتنظيماً للشعائر، ثم تنتهي مهمته! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية. فلا مفر للإسلام- لإقرار منهجه الرباني- من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى، وتقاوم المنهج الرباني..
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة.. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني. ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ولا لتقرير سلطان زعيم، أو دولة، أو طبقة، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية.. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعبيد..
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي «1» .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة. فالنص يقول:
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ..
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها.
كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
«تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» ..
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض. الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله.
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالاً، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
«وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ- يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله، من كل غاية أرضية، ومن كل دافع شخصي ومن كل شعور قومي أو طبقي، ليتمحض خالصاً لله «في سبيل الله» لتحقيق كلمة الله، ابتغاء رضوان الله.
__________
(1) تراجع بتوسع الرسالة القيمة بعنوان: «الجهاد في سبيل الله» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان. كما يراجع ما كتبناه عن الجهاد في مقدمة سورة الأنفال ص 1431- 1443 من الجزء التاسع.(3/1544)
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه- منذ الوهلة الأولى- كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول.
وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق. وكل حرب تقوم للقهر والإذلال. وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن، أو قوم على قوم، أو جنس على جنس، أو طبقة على طبقة.. ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة.. حركة الجهاد في سبيل الله.. والله- سبحانه- لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب. إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته. وهو غني عن العالمين. ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين.
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ويجنحون إلى السلم والمسالمة وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً:
«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح، تعبير لطيف، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وموقفه كذلك منهم، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يقاتله وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية، ولا للدولة المسلمة. وقد أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يترك هذا الفريق، وأن يقبل مهادنته ومسالمته (وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد، أو كان له عهد غير موقت، مدة أربعة أشهر، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه) ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات، ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه. فقد عمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- به- حتى نزلت سورة براءة- ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة..
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية.. ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ولم تكن أحكام الجزية موجودة. والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي، أن يقال: إن هذا الحكم ليس نهائياً وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة (التوبة) والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام: إما محاربين يحاربون. وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله. وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا.. وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي. وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:
قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن يزيد، عن أبيه، عن(3/1545)
يزيد بن الخطيب الأسلمي- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: «اغزوا باسم الله. في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» ..
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين، مع ذكر الجزية.. والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح وبعد الفتح لم تعد هجرة (بالقياس إلى الجماعة المسلمة الأولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن) والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية. ققبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس، وهم مثلهم في الشرك ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم. وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد (أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك، وروى غيره عن أبي حنيفة) :
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه، أن قول الله تعالى:
«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة. إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين. وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة. فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية- وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم- أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ليكون الدين كله لله.
ولقد استطردت- بعض الشيء- في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ويستكثرون على دينهم- الذي لا يدركون حقيقته- أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه وأهله- الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً- ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ولا حول لهم في الأرض ولا قوة.. وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته! إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية، فيجعلون منها نصوصاً نهائية وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة، فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص(3/1546)
المقيدة المرحلية! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين، وعن دار الإسلام عند ما تهاجم! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة. والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام! إن الإسلام- في حسهم- يتقوقع، أو يجب أن يتوقع داخل حدوده- في كل وقت- وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه، ولا بالخضوع لمنهج الله، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان! أما القوة المادية- الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس- فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه، فيتحرك حينئذ للدفاع! ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع- دون ليّ لأعناق النصوص- لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ولاستطاعوا أن يقولوا: إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة.
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:
لقد عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة. مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً، وأن يوادعهم ما وادعوه ...
ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا.
ولما كانت غزوة الخندق وتجمع المشركون على المدينة ونقضت بنو قريظة العهد وخاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المسلمين عرض على عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها. وكانت هذه المقالة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لهما مراوضة ولم تكن عقداً. فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهما أنهما قد رضيا، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع؟ أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: «بل أمر أصنعه لكم، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قِرىً. فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «أنتم وذاك» وقال لعيينة والحارث: «انصرفا، فليس لكما عندنا إلا السيف» .. فهذا الذي فكر فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إجراء لمواجهة الضرورة.. وليس حكماً نهائياً..
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية- وهم على شركهم- بشروط لم يسترح إليها المسلمون، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكب(3/1547)
والسيوف في القرب، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده.. وقد رضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما ألهمه الله- هذه الشروط، التي تبدو في ظاهرها مجحفة، لأمر يريده الله ألهم به رسوله.. وفيها متسع- على كل حال- لمواجهة الظروف المشابهة تتصرف من خلاله القيادة المسلمة..
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة، وهو منهج متحرك مرن، ولكنه متين واضح، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها! وإنما المطلوب هو تقوى الله، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع، وهو دين مسيطر حاكم، يلبي- وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة- كل حاجات الواقع وضروراته والحمد لله..
وعند ما أمر الله تعالى رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يقبل موادعة من وادعوه، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه وجهه إلى التوكل عليه، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:
«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
ثم أمنه من خداعهم، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم. وقال له: إن الله حسبه وكافيه وحافظه وهو الذي أيده بنصره- في بدر- وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام وكانت عصية على التآلف، لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:
«وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
حسبك الله، فهو كافيك، وهو الذي أيدك بنصره أول مرة، وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وجعل منهم قوة موحدة، بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً.
سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج- وهم الأنصار- فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً.. أو كان المقصود هم المهاجرون، وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية.. أو كان الجميع مقصودين، فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً! ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة- أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة-: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً. إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق. فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب! وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه،(3/1548)
فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله، ولا يقدر عليها إلا الله.
يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى» قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم. قال: «هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور.
لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» .. (أخرجه أبو داود) .
ويقول- صلى الله عليه وسلم-: «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» ..
(رواه الطبراني) .
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته عليه الصلاة والسلام كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة، ولا مجرد أعمال مثالية فردية إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت، بإذن الله، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه.
بعد ذلك يمضي السياق يطمئن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والعصبة المسلمة من ورائه، إلى ولاية الله- سبحانه- له ولها وهو حسبه وحسبها ثم يأمره بتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله فهم أكفاء لعشرة أمثالهم ممن لا يفقهون فقههم وهم على الأقل أكفاء لمثليهم في أضعف الحالات:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها، ولا معقب عليها- قوة الله القوي العزيز- وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة- التي تتصدى لكتائب الله- فإذا الفرق شاسع، والبون بعيد. وإذا هي معركة مضمونة العاقبة، معروفة النهاية، مقررة المصير.. وهذا كله يتضمنه قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ..
ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال- في سبيل الله- وقد تهيأت كل نفس، واستعد كل قلب وشد كل عصب، وتحفز كل عرق وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ» ..
حرضهم وهم لعدوهم وعدو الله كفء، وإن قل عددهم وكثر أعداؤهم وأعداء الله حولهم:
«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ..
فأما تعليل هذا التفاوت فهو تعليل مفاجئ عجيب. ولكنه صادق عميق:
«بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..(3/1549)
فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر؟ ولكنها صلة حقيقية، وصلة قوية.. إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها، وتفقه منهجها، وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها.. إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي، وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك.
وتفقه أنها هي- الأمة المسلمة- المهتدية بهدى الله، المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض الممكنة فيها لا لتستعلي هي وتستمتع ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ولتعمر الأرض بالحق وتحكم بين الناس بالقسط وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس.. وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ويدفع بها إلى إلجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة. بينما أعداؤها «قوم لا يفقهون» . قلوبهم مغلقة، وبصائرهم مطموسة وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة. إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير! وهذه النسبة.. واحد لعشرة.. هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون.. وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي: واحد لاثنين:
«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة، وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف.. وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها.. فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم، وتثبت أقدامهم وليست أحكاماً تشريعية- فيما نرجح- والله أعلم بما يريد.
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى- بمناسبة تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في أسرى بدر- وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
..
قال ابن إسحاق- وهو يقص أخبار الغزوة-: «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي، في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس،(3/1550)
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!» قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال! وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم- قال: لما كان يومئذ التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلا، واستشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعلياً. فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال قلت: والله ما أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكني من فلان- قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل (ابن أبي طالب) فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمّتهم وقادتهم! .. فهوى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.. فلما كان من الغد- قال عمر- فغدوت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان. فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما! قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» إلى قوله: «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» فأحل لهم الغنائم ...
ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن هاشم، عن حميد، عن أنس- رضي الله عنه- قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. قال: وأنزل الله عز وجل: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
وقال الأعمش، عن عمر بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما تقولون في الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم.. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم.. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب. فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه! فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليهم شيئاً. ثم قام فدخل. فقال ناس:
يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم(3/1551)
عليه السلام قال: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: «ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم» . وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً» .
أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق» . قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام! فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إلا سهيل بن بيضاء» . فأنزل الله عز وجل: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... ) إلى آخر الآية ...
(رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه) .
والإثخان المقصود: التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر. فعاتب الله المسلمين فيه.
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين. وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة. وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين. وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء.
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب.. ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول: «وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين» ..
لهذين السببين البارزين نحسب- والله أعلم- أن الله- سبحانه- كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال. ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص- وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف- قال الله تعالى:
«ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» ..
ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
«تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» ..
أي: فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم! «وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» ..
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله، فهو خير وأبقى. والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا! «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
قدر لكم النصر، وأقدركم عليه، لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» .
«لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..(3/1552)
ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم! ثم زادهم الله فضلاً ومنة فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم- ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها- وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل- مذكراً إياهم بتقوى الله، وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته، لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم، فلا تغرهم المغفرة والرحمة، ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة:
«فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء، وتطلق فيها الأمل، وتشيع فيها النور، وتعلقها بمستقبل خير من الماضي، وبحياة أكرم مما كانوا فيه، وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار. وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان فيعلم الله أن فيها خيراً.. والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص. الخير محض الخير، والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه.
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه، ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى. لا ليستذلهم انتقاماً، ولا ليسخرهم استغلالاً كما كانت تتجه فتوحات الرومان وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام! عن الزهري عن جماعة سماهم قال: بعثت قريش في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا.
وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلما! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: الله أعلم بإسلامك، فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» : قال: ما ذاك عندي يا رسول الله! قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم؟» . قال: «والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني- عشرين أوقية من مال كان معي! - فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا. ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك» . ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه. فأنزل الله عز وجل: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل.
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم، يحذرهم خيانة الرسول- صلى الله عليه وسلم- كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير:
«وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..(3/1553)
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره، ولم يفردوه سبحانه بالربوبية، وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده. فإن أرادوا خيانة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهم أسرى في يديه، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر، ومكنت منهم رسول الله وأولياءه.. والله «عليم» بسرائرهم «حكيم» في إيقاع العقاب بهم:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
قال القرطبي في التفسير، قال ابن العربي: لما أسر من أسر من المشركين، تكلم قوم منهم بالإسلام، ولم يمضوا فيه عزيمة، ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين- قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً. إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها. وقد بين الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- الحقيقة فقال: «وإن يريدوا خيانتك» . أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً «فقد خانوا الله من قبل» بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك. وإن كان هذا القول منهم خيراً، ويعلمه الله، فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم: ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم.
وأخيراً يختم هذا الدرس، وتختم السورة معه، ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم، وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك.. إنها ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد.. ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية.. إنما هي علاقة العقيدة، وعلاقة القيادة، وعلاقة التنظيم الحركي.. فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام، متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد، أولئك بعضهم أولياء بعض.. والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة، ولم يدينوا بعد للقيادة ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد.. وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره.. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك.. هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات، كما تصورها هذه النصوص الحاسمة:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ.. فِي الدِّينِ.. فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ- إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ.. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر، كانت ولاية توارث وتكافل في الديات(3/1554)
وولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة.. حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة، ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم، داخل المجتمع المسلم..
فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية- العامة والخاصة- فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام- لمن استطاع- فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا، استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة.. وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم- إن استنصروهم في الدين خاصة- على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية! ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي، وقيمه الأساسية. ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية- على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام.. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً: هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق.. ولم يكن الناس- فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة- ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله أَلبتة إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع الله آلهة أخرى: إما في صورة الاعتقاد والعبادة وإما في صورة الحاكمية والاتباع وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد، ويرتدون إلى الجاهلية، التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى.. إما في الاعتقاد والعبادة، وإما في الاتباع والحاكمية، وإما فيها جميعاً..
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري.. إنها تستهدف «الإسلام» .. إسلام العباد لرب العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة.. وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله.. جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله. بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم. فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه.. ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من(3/1555)
شؤون هذه الحياة، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني «1» ..
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري.. هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده. والتي واجهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بدعوته.. هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في «نظرية» مجردة. بل ربما أحياناً لم تكن لها «نظرية» على الإطلاق! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي. متمثلة في مجتمع، خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك- بإرادة واعية أو غير واعية- للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد.
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في «نظرية» مجردة، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية، ورد الناس إلى الله مرة أخرى، لا يجوز- ولا يجدي شيئاً- أن تتمثل في «نظرية» مجردة. فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي، فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل، لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته. بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام- على مدار التاريخ البشري- هي قاعدة: «شهادة أن لا إله إلا الله» . أي إفراد الله- سبحانه- بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية.. إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. فشهادة أن لا إله إلا الله، لا توجد فعلاً ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم..
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية.. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند أنفسهم بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه.. وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه وهو رسول الله.. وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: «شهادة أن محمداً رسول الله» .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها- وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية، في داخل دار الإسلام وخارجها في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى «2» ..
__________
(1) يراجع بتوسع في هذه النقطة كتاب: «مبادئ الإسلام» للسيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان. كما يراجع فصل: «شريعة كونية» في كتاب «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .
(2) يراجع فصل: «لا إله إلا الله منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .(3/1556)
ولكن الإسلام- كما قلنا- لم يكن يملك أن يتمثل في «نظرية» مجردة ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً. فإن وجودهم على هذا النحو- مهما كثر عددهم- لا يمكن أن يؤدي إلى «وجود فعلي» للإسلام.
لأن الأفراد «المسلمين نظرياً» الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية. سيتحركون طوعاً أو كرهاً، بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا.. أي أن الأفراد «المسلمين نظرياً» سيظلون يقومون «فعلاً» بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون «نظرياً» لإزالته وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي، لإقامة المجتمع الإسلامي! ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى.. لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه. وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته- وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي- أي التجمع الذي جاء منه- ومن قيادة ذلك التجمع- في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية، من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة.
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا. لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً- كأعضاء الكائن الحي- على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه. ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه، وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي. ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي.
وهكذا وجد الإسلام.. هكذا وجد متمثلاً في قاعدة نظرية مجملة- ولكنها شاملة- يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع.. ولم يوجد قط في صورة «نظرية» مجردة عن هذا الوجود الفعلي.. وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى.. ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان، بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية.
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي(3/1557)
- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع «1» - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة، في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين- بطبقاتهم- والذين آووا ونصروا وعلاقاته مع الذين آمنوا ولم يهاجروا وعلاقاته مع الذين كفروا..
إنها كلها تقوم على أساس ذلك الفقه بطبيعة النشأة العضوية الحركية للمجتمع الإسلامي.
ونستطيع الآن أن نواجه هذه النصوص والأحكام الواردة فيها:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ- إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
لقد انخلع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد- الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية- ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أعضاء هذا التجمع الوليد.. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفراداً، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
ثم لما فتح الله للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد رسول الله فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة.. وكان حكم الله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا.. لم يهاجروا
__________
(1) ص 1431- 1452 من الجزء التاسع. [.....](3/1558)
إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ويحقق فيها وجوده الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبياً، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلاً دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل الله لهم ولاية- بكل أنواع الولاية- مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين- التي أسلفنا- ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية.. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب- وحدها- على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين- في دار الإسلام- في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولاً، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي..
.. وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي..
والتعقيب على هذا الحكم:
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره- سبحانه- يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره.
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن الأمور بطبيعتها كذلك- كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً.. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي- لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً- وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد:(3/1559)
«إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير.. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام الله- فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها- تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير.
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» ..
أولئك هم المؤمنون حقاً.. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان.. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين.. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها.. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي.. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقاً) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية..
وهؤلاء المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم.. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله.. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم.
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد- وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى- إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه.. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم الله- سبحانه- عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها.. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام- كالجولة الأولى- تأخذ- في التنظيم- كل أحكامها المرحلية، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى- بإذن الله- فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل كما حدث في الجولة الأولى..
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة، وتكاليفها الخاصة.. قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم، في كل صوره وأشكاله، وفي كل التزاماته ومقتضياته. بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم.. فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية، اللازمة لعملية البناء الأولى، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية. وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة- ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ..(3/1560)
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام.. إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية. ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي.. إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ولكنه يضبطها. يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها- في إطاره العام. ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية.. وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى..
«إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها. فهي من العلم المحيط بكل شيء. علم الله تعالى..
وبعد فإن الإسلام- وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة- إنما كان يستهدف إبراز «إنسانية الإنسان» وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني. وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه..
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية- بل الكائنات المادية- في صفات توهم أصحاب «الجهالة العلمية!» مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه «الصفات» مع الحيوان ومع المادة له «خصائص» تميزه وتفرده وتجعل منه كائناً فريداً- كما اضطر أصحاب «الجهالة العلمية!» أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة «1» ! والإسلام- بمنهجه الرباني- يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز «الإنسان» وتفرده بين الخلائق فيبرزها وينميها ويعليها.. وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة، إنما يمضي على خطته تلك. فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في «الإنسان» من «خصائص» ..
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح، ولا المصير الأرضي المشترك.. فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان. وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع، وإلى اهتمامات القطيع، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده، ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.
__________
(1) في مقدمة هؤلاء جوليان ها كسلي من أصحاب «الداروينية الحديثة» .(3/1561)
ثم إن هذه الآصرة- آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج- هي آصرة حرة يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية. فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها.. إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ولا تغيير اللون الذي ولد به. فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة..
كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين- ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره- كلها مسائل عسيرة التغيير ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود.. ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني.. فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره.
.. وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي..
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة. على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما «عربية» إنما كانت دائماً «إسلامية» . ولم تكن يوماً ما «قومية» إنما كانت دائماً «عقيدية» ..
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة.. فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد وتبرز فيها «إنسانيتهم» وحدها بلا عائق.. وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! ..
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً. فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ولغات متعددة، وأرضين متعددة ... ولكن هذا كله لم يقم على آصرة «إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة.. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني- بصفة عامة- وعبودية سائر الأجناس الأخرى.. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.(3/1562)
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً.. ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلالياً يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها: الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة. إنما أقامته على القاعدة «الطبقية» .. فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية- وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!! لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني..
وما يزال مفرداً.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق.. وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه «البهائم» من الحظيرة والكلأ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه «الناس» ! وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة.. خصيصة الإنسان العليا..
ولكن الله غالب على أمره.. وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء..
وسيكون ما يريده الله حتماً.. وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها. والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق. وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام..(3/1563)
(9) سورة التوبة مدنيّة وآياتها تسع وعشرون ومائة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه السورة مدنية من أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن «1» - ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته «2» ، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.
والسورة- بهذا الاعتبار- ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته- حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها- وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية ثم أريد للآيات التي تتضمن.
الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى. مما نرجو أن يوفقنا الله لإيضاحه وبيانه في هذا التقديم وفي ثنايا استعراض النصوص القرآنية للسورة.
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك.. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة..
ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.. ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل.. المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام. والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها. والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها. أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلت
__________
(1) الرواية الراجحة أن سورة النصر هي آخر سورة نزلت..
(2) الطبقات التي نعنيها في المجتمع المسلم ليست طبقات اجتماعية بالمعنى الصغير المفهوم الآن من الطبقية ولكنها الطبقات التي تقوم على قيم إسلامية بحتة كالسابقين من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وأصحاب بيعة الرضوان ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، والقاعدين، والمنافقين ... إلخ(3/1564)
متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة.. وهذا- على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه.
وقد تضمنت السورة في المقطع الأول منها- من أولها إلى ختام الآية الثامنة والعشرين- تحديدا للعلاقات النهائية بين المعسكر الإسلامي والمشركين عامة في الجزيرة مع إبراز الأسباب الواقعية والتاريخية والعقيدية التي يقوم عليها هذا التحديد، بالأسلوب القرآني الموحي المؤثر، وفي تعبيرات قوية الإيقاع حاسمة الدلالة، عميقة التأثير هذه نماذج منها:
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» . «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؟ - فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً؟ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ... » .
... «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ- إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ- وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ.. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
... «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- إِنْ شاءَ- إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وظاهر من الأسلوب القرآني في الآيات التي اقتطفناها هنا، وفي آيات المقطع كله ومن القوة في التخضيض(3/1565)
والتأليب على قتال المشركين ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة، مدى ما كان يعتلج في نفوس الجماعة المسلمة- أو فريق منها على الأقل له وزنه- من التحرج والتخوف والتردد في اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة في ذلك الحين، بسبب عوامل شتى نرجو أن نكشف عنها في هذا التقديم وفي أثناء استعراض النصوص القرآنية قريبا.
أما المقطع الثاني- في السورة- فقد تضمن تحديدا للعلاقات النهائية كذلك بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب عامة مع بيان الأسباب العقيدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام وحقيقته المستقلة وعن انحراف أهل الكتاب عن دين الله الصحيح عقيدة وسلوكا بما يجعلهم- في اعتبار الإسلام- ليسوا على دين الله الذي نزله لهم والذي به صاروا أهل كتاب:
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.»
«وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله.. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل.. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون.
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.. هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» .
وظاهر كذلك من الأسلوب القرآني في هذا المقطع أنه مواجهة لما كان في النفوس يومذاك من تهيب وتردد في مواجهة أهل الكتاب عامة- أو الغالبية العظمى منهم- بهذا اللون من العلاقات التي تنص عليها الآية الأولى في المقطع.. وحقيقة إن المقصود- كان- بالمواجهة ابتداء هم الروم وحلفاؤهم من نصارى العرب في الشام وما وراءها وهذا وحده كان يكفي للتردد والتهيب لما كان للروم من بأس وسمعة تاريخية بين أهل الجزيرة..
ولكن النص عام في أهل الكتاب عامة ممن تنطبق عليهم الأوصاف الواردة في الآية كما سنفصل- إن شاء الله- عند مواجهة النصوص.
وفي المقطع الثالث يبدأ النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض وتكاسلوا عن النفير.. وهؤلاء ليسوا كلهم من المنافقين كما سيتبين، مما يشي بمشقة هذه الخطوة، وهذه الغزوة، على النفوس في ذلك الحين للأسباب التي نرجو أن نفصلها- بإذن الله- ونقف عندها في حينها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .(3/1566)
وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع ومن تذكير الذين آمنوا بنصر الله للرسول- صلى الله عليه وسلم- إذ أخرجه الذين كفروا دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافا وثقالا.. ظاهر من هذا كله ما كان في الموقف من مشقة ومن تخلف ومن قعود ومن تهيب ومن تردد، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد..
ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة- وهو أطول مقاطعها، وهو يستغرق أكثر من نصفها- في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله.. وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية. ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته:
«لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا تبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ... » .
... «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ» .
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» ...
... «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَما هُمْ مِنْكُمْ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» . «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» ...
... «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
«يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم» .
«يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قُلِ: اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .
«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، نَسُوا(3/1567)
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ»
..
... «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
«ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه، وبما كانوا يكذبون» ..
«الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم. استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين» .
«فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا:
لا تنفروا في الحر، قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم، فاستأذنوك للخروج، فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين. ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون. ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون» ...
إلخ ... إلخ وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة يشير إليها قول الله سبحانه:
«وفيكم سماعون لهم» كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم.. هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح مما سنفصل القول فيه بعد استعراض التصنيف القرآني الوارد في السورة لهذه الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة.
والمقطع الخامس في سياق السورة هو الذي يتولى هذا التصنيف. ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار- وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية- جماعات أخرى.. الأعراب وفيهم المخلصون والمنافقون والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان والمنافقون من أهل المدينة. وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الدين! .. والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم، وتوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخلص من(3/1568)
المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم:
«الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» .
«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... » .
... «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ..» إلخ.
وظاهر من تعدد الطوائف والطبقات والمستويات الإيمانية في المجتمع المسلم- كما تصفه هذه النصوص- مدى الخلخلة التي وجدت فيه بعد الفتح، مما كان المجتمع قد برئ منه أو كاد قبيل فتح مكة كما سيجيء.
والمقطع السادس في سياق السورة يتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله على الجهاد في سبيله وطبيعة هذا الجهاد وحدوده، وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه، وأنه لا يحل لهم أن يتخلفوا عنه وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه وضرورة المفاصلة مع المشركين والمنافقين.. وفي ثنايا هذا المقطع يرد بيان لما قضى الله به في شأن بعض الذين تخلفوا عن الغزوة مخلصين غير منافقين ووصف لبعض أحوال المنافقين وموقفهم تجاه ما يتنزل من القرآن الكريم:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ...
... «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ..
... «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ(3/1569)
بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
...
... «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ...
... «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه:
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» .
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي- قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل- عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوي.. وفي هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة- وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار- مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير، تفي بحاجة المجتمع إليها.
ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل. إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده.. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة فلم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش- تحس بالخطر(3/1570)
الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: «أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله.
ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
لم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش أول الأمر- تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه.. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركة قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض «1» ! وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان..
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى وكان هذا النوع قليلاً، فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.. قال ابن كثير في التفسير: «وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- (يعني ليلة العقبة) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» . قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل» .
ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشاً وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم وأنهم
__________
(1) يراجع في هذا الجزء التعليق على الآيات الأخيرة في سورة الأنفال ص 1555- 1558.(3/1571)
لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.
ومن رواية ابن كثير في كتابه: «البداية والنهاية» : «قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر. قال: مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم.. عكاظ والمجنة.. وفي المواسم، يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» . فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر- كذا قال فيه- فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم «1» ، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا. فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» . فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة- وهو من أصغرهم- وفي رواية البيهقي- وهو أصغر السبعين- إلا أنا. فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف.
فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.. قالوا: أبط عنا يا أسعد! فو الله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبدا! قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة» (وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار- زاد البيهقي عن الحاكم- بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار: وروى غير واحد غير ابن خيثم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه) .
فقد كان الأنصار إذن يعلمون- عن يقين واضح- تكاليف هذه البيعة وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا- حتى ولا النصر والغلبة- وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا- مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأُعدوا هذا الإعداد- هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة..
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون- ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم- أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقاً. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً- ولو لم يكونوا منافقين- ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
__________
(1) المحقق أنهم اثنان وسبعون: ولكن العرب كثيرا ما تحذف الكسر!(3/1572)
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
وحين نراجع السور المدنية- بترتيب النزول التقريبي- فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع- على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد- وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة..
ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين- وبخاصة في فترات الشدة- أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.. نذكر منها على سبيل المثال:
«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ «1» » ... (الأنفال: 5- 8) «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ... (آل عمران:
7- 9) «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ... (الحشر: 11- 13) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ
__________
(1) يراجع تفسير هذه الآيات والملابسات التي أحاطت بنزولها في الجزء التاسع من الظلال ص 1479- 1482 من الطبعة الثانية المنقحة.(3/1573)
فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ- وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ- إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ... إلخ» (الأحزاب: 9- 14) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ، فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ-: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» ... (النساء: 71- 73) «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ... » ... (النساء: 77- 78) «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ»
..
(محمد: 36- 38) .
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة: 14- 22) .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ» ...
(المائدة: 51- 53) .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ،(3/1574)
يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»
... (الممتحنة: 1- 4) .
وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض..
نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة..
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ومن المترددين كذلك والمتهيبين وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين.. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد..
نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوته أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها.
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. (التوبة: 100) .
«لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة» .. (من حديث أخرجه البخاري. وكان هذا رد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عمر- رضي الله عنه- وقد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة) .
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» ... (الفتح: 18- 19) .
«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ... (الحديد: 10) .
«مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي فو الله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت(3/1575)
غدوة رجل من أصحابي ولا روحة» ... (أورده ابن القيم في زاد المعاد وهو رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد إذ تلاحى مع عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهما- وخالد هو سيف الله. ولكن عبد الرحمن من السابقين الأولين. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخالد: «دع عنك أصحابي» وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.
ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركه الإسلامية، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق.. من ذلك المجتمع.
بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزاً قوياً دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة- فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك- فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها! ... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائياً فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير ... كان ذلك إيذاناً بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر- ولكن على نطاق أوسع- بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر كما أنه- سبحانه- كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة.. والله أعلم حيث يجعل رسالته..
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: «التوبة» : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ..(3/1576)
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من «الطلقاء» الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين- مع عشرة آلاف- سبباً في اختلال التوازن في الصف- بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن- ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة.. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.
ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح عند ما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارتدت الجزيرة العربية كلها ولم يثبت إلا مجتمع المدينة- القاعدة الصلبة الخالصة- فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها.. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار وأن ترده عن مجراه الجارف وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى..
إن رؤية هذه الحقيقة- على هذا النحو- كفيلة بأن ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة- في أول الأمر- وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل! لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة.
وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي ... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى..
إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة- قبل بدر- وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.
وأخيرا فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
إن هذه الحقيقة- كما أنها ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية- هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.(3/1577)
إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيا ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ما حق يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن الله- سبحانه- هو الذي يتكفل بهذا لدعوته. فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرّض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ الناس عنهم حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة.. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده- سبحانه- والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والآن نعرض- على وجه الإجمال- للموضوعات الرئيسية التي تضمنتها السورة، وبخاصة الأحكام النهائية التي قررتها في علاقة المعسكر الإسلامي بسائر المعسكرات حوله.. فالأحكام التي وردت في هذه السورة- بوصفها آخر ما نزل من الأحكام- هي التي تمثل قمة الخط الحركي للمنهج الإسلامي..
ونحب هنا أن نعيد ما قلناه في الجزء التاسع- في تقديم سورة الأنفال- عن طبيعة هذا المنهج لنفهم على ضوئه هذه الأحكام النهائية الأخيرة ولو كان في إعادته شيء من التكرار في كتاب الظلال. ذلك أن قرب هذه الفقرات التي سنعيدها هنا ضروري لحيوية السياق:
«لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» في الفصل الذي عقده باسم: «فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» فنبأه بقوله: «اقْرَأْ» وأرسله ب «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة. وأهل حرب. وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم.
فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم.. فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أن(3/1578)
يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حالة أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب..
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله وأن يجاهدهم بالعلم والحجة وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ونهى أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين» ..
انتهى.
«ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:
«السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعا بشريا.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية، تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات وتخضعهم بالقهر والتضليل، وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء.
«والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية.. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضلّلا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون- وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان-:
إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون لهذا الدين جميلا بتخلية عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت جميعا من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها، والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.
«والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول سواء- وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشا،(3/1579)
أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين.. إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة، ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة..
على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
«والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد- وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه. فإن فعل ذلك أحد، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله، أو يعلن استسلامه! «1» » .
في ضوء هذا البيان نستطيع أن نفهم لم كانت هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة: من براءة الله ورسوله من عهود المشركين وإمهال ذوي العهود الموقوتة منهم- ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا، ولم يظاهروا عليهم أحدا- إلى مدتهم. وإمهال ذوي العهود غير الموقوتة- ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا كذلك ولم يظاهروا عليهم أحدا- إلى أربعة أشهر ومثلهم من لم يكن لهم مع المسلمين عهد أصلا من المشركين.
ونبذ عهود الناقضين لعهودهم، مع إمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض آمنين. فإذا انسلخت هذه الأشهر أخذوا وقتلوا حيث وجدوا وحوصروا ومنعوا من التنقل وهم آمنون.. كما نفهم الأحكام الواردة فيها عن قتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله الصحيح، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. ثم الأحكام الواردة بجهاد المنافقين مع الكافرين بالغلظة عليهم. وعدم الصلاة على موتاهم أو القيام على قبورهم.. وكلها أحكام تعدّل الأحكام المرحلية السابقة في السور التي نزلت قبل التوبة. وهذا التعديل نحسب أنه أصبح مفهوما لنا الآن، في ضوء ذلك البيان! وليس هنا مجال تفصيل القول في هذه الأحكام الأخيرة، ولا في الأحكام المرحلية السابقة لها ولا في غيرها من موضوعات السورة الأخرى. فسنعرض لهذا كله بالتفصيل- إن شاء الله- عند استعراض النصوص القرآنية في سياق السورة بالتفصيل.
ولكننا فقط نبادر فنقول: إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد- عن طريق الاجتهاد المطلق- أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة. في مكان من الأمكنة! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام كما كان حالها عند نزول سورة التوبة، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية. سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب.
__________
(1) يراجع بقية ما جاء في مقدمة سورة الأنفال عن الجهاد في الإسلام ص 1431- 1452 من الجزء التاسع.(3/1580)
إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين- الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان- وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعا إلى عبادة الله وحده وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والخضوع لسلطان غير سلطانه، والتحاكم إلى شرع غير شرعه..
ومن ثم نراهم يقولون مثلا: إن الله سبحانه يقول: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ..
ويقول: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» ..
ويقول: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ... ويقول عن أهل الكتاب: «قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين. وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك- في تصورهم المهزوم- أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض. ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون الله. ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الاقليمية! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله- سبحانه! - تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم، وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة! وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين الله القوي المتين! إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها وفي إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.
إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.(3/1581)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ»
..
وتقول في شأن أهل الكتاب:
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم- اللحظة وموقتا- غير مكلفين بتحقيقها- ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها- ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عند ما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلا، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة.. إنه منهج الله هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه، والاستمتاع بخيره وليس منهج عبد من العبيد ولا مذهب مفكر من البشر حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره..
إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا. فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر! فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية، ووضع العبودية فيه لله وحده وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد.. فإن الأمر يختلف من أساسه. ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ويحرر البشر من العبودية للعباد ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده.
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله. ينسون هذه الحقيقة الكبرى..
وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!! إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين «1» . لعل الله أن يرزقهم القوة من عنده وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين! وأخيرا فإن هذه السورة لم تكتب البسملة في أولها كبقية السور- في مصحف عثمان رضي الله عنه وهو
__________
(1) يراجع في تقديم سورة الأنفال ما ورد عن مبررات الجهاد الإسلامي ص 1431- 1452 من الجزء التاسع.(3/1582)
عمدة المصاحف- وقد روى الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس قال: «قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال- وهي من المثاني «1» - وإلى براءة- وهي من المئين- وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ؟ ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان مما يأتي عليه الزمان وهو تتنزل عليه السور ذات العدد. فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة. وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. وكانت قصتها شبيهة بقصتها.
وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ووضعتهما في السبع الطوال» .
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى تقديم تفسير مقبول لوضع السورتين هكذا، وعدم الفصل بينهما بسطر:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . كما أنها تفيدنا في تقرير أن وضع الآيات في السور، وترتيبها في مواضعها، كان يتم بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حياته. وأن سورا متعددة كانت تظل مفتوحة في الوقت الواحد فإذا نزلت آية أو آيات في مناسبة واقعة تواجه واقعا قائما. أو تكمل حكما أو تعد له، وفق المنهج، الحركي الواقعي لهذا الدين، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن توضع في موضعها من سورتها..
وبذلك كانت هناك حكمة معينة في أن تتضمن كل سورة ما تضمنته من الآيات، وحكمة معينة كذلك في ترتيبها في مواضعها من السورة.
ولقد لاحظنا- كما أثبتنا ذلك مرارا في التعريف بالسور- أن هناك «شخصية» خاصة لكل سورة وسمات معينة تحدد ملامح هذه الشخصية. كما أن هناك جوا معينا وظلالا معينة. ثم تعبيرات بعينها في السورة الواحدة. تؤكد هذه الملامح، وتبرز تلك الشخصية! ولعل في الفقرة السابقة، وفي حديث ابن عباس قبلها، ما يفسر هذه الظاهرة الواضحة التي أثبتناها مرارا في التعريف بالسور في هذه الظلال.
والآن نكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بالسورة وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها.
.. وعلى الله التوفيق ومنه التيسير..
__________
(1) السورة التي لا تبلغ آياتها مائة وليست من القصار.(3/1583)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 28]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)(3/1584)
هذا المقطع من سياق السورة نزل متأخراً عن بقيتها وإن كان قد جاء ترتيبه في مقدماتها. وترتيب الآيات في السورة كان يتم- كما تقدم- بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو أمر توقيفي منه صلى الله عليه وسلم.
وهو يتضمن إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين. سواء كان هذا الإنهاء بعد أربعة أشهر لمن كانت عهودهم مطلقة، أو الناكثين لعهودهم أو كان بعد انتهاء الأجل لمن كانت لهم عهود مقيدة، ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً.. فعلى الجملة كانت النتيجة الأخيرة هي إنهاء العهود مع المشركين في الجزيرة العربية وإنهاء مبدأ التعاقد أصلاً مع المشركين بعد ذلك، بالبراءة المطلقة من المشركين، وباستنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله.
ومن بين ما يتضمنه كذلك عدم السماح للمشركين بالطواف بالمسجد الحرام أو عمارته في صورة من الصور بعد ذلك. خلافاً لما كان عليه العهد العام المطلق بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمشركين، أن يأمن بعضهم بعضاً في البيت الحرام والأشهر الحرم مع بقائهم على شركهم.
والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم.
كان قد تبين من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي- والإنساني- وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور.. منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماماً، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين.
إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة «أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» في مكة. ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.. ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد- وهم من أهل الكتاب! - وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد!. وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى- وهم من أهل الكتاب كذلك! - لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! .. إنها طبائع الأشياء.. إنها أولاً طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً- ويستشعرها بالفطرة- أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين «الناس كافة» وبين حرية الاختيار الحقيقية.. ثم إنها ثانياً طبيعة(3/1586)
التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! .. فهي حتمية لا اختيار فيها- في الحقيقة- لهؤلاء ولا هؤلاء! وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وعلى مدى التجارب وتتجلى في صور شتى، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى..
وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف، وإلى تحركاته المستمرة، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة.
وقد ذكر الإمام البغوي في تفسيره أن المفسرين قالوا: إنه لما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أرجف المنافقون، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء، مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر.
وذكر الإمام الطبري- بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» .
ومما رواه الطبري كذلك- بإسناده- عن مجاهد قوله: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك حين فرغ منها، وأراد الحج. ثم قال: «إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» . فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا «1» . فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يَسح أحد» .
وهذه الأسباب القريبة المباشرة لا شك كان لها وزنها في اتخاذ الخطوة الأخيرة الحاسمة. ولكنها بدورها ليست إلا حلقات في السلسلة الطويلة الناشئة ابتداء من الحتمية الجذرية الكبيرة: وهي تعارض المنهجين أصلاً، وعدم إمكان التعايش بينهما إلا فترات اضطرارية تنتهي حتما..
__________
(1) واضح من النص القرآني أنه أمهل ذوي العهود غير الناقضين إلى مدتهم. ولعل مجاهدا- رضي الله عنه- إنما عنى ذلك إجمالا..(3/1587)
وقد أراد المرحوم الشيخ رشيد رضا أن يلم بحلقات السلسلة منذ بدء الدعوة- وإن يكن لم يحاول أن يلم بأصل الاختلاف الجذري الدائم الذي ينشئ هذه السلسلة بحلقاتها والذي ينتهي بما انتهت إليه حتماً- فقال في تفسير المنار:
«من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه، أن الله تعالى بعث محمداً رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة، ذكرنا كلياتها في تفسير:
(2: 3) (ص 190- ص 228 ج 1) وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة «1» ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص 26- ص 40 ج 3) فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حليف أو قريب.
فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (ص) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علناً في دار الندوة ورجحوا في آخر الأمر قتله فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير (8: 30 وإذ يمكر بك الذين كفروا- ص 650 ج 9) فهاجر (ص) وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصاراً لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم. وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (ص) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون. فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه. كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء (ص 1547- 1556) .
«وقد عاهد (ص) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة «2» . ودخلت خزاعة في عهده (ص) كما دخلت بنو بكر في عهد قريش ثم عدا هؤلاء على أولئك وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم، وفتحه (ص) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريباً في قوله تعالى من هذه السورة 7: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ- إلى قوله في آخر أية 12- فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» . أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه، مع بقائهم على شركهم الذي ليس
__________
(1) لا بد أن ننبه هنا إلى منهج مدرسة الأستاذ الشيخ محمد عبده، المتأثرة بفلسفة غريبة عن الإسلام وهي فلسفة «ديكارت» مما جعلها تركز تركيزا شديدا على «العقل» وتعطيه أكثر من مجاله في مسائل العقيدة. فلا بد أن نضيف إلى البراهين العقلية والعلمية البراهين الفطرية البديهية كذلك في هذا الدين ومجاوبتها لكل الكينونة البشرية بما فيها العقل والذهن.
(2) هذا كلام صحيح إذ أريد به أن نشر العقيدة بالاقناع والحجة هو قاعدة هذه الحركة. ولكنه يتجاوز مداه المأمون حين يراد به أن الجهاد في الإسلام لا يكون إلا دفاعا عن المسلمين، وأن السلم واجبة في غير هذه الحالة.. كما يتجه المؤلف رحمه الله.(3/1588)
له شرع يدان به «1» ، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق، من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب «2» ؟! «هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى: (2: 190 وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) وقوله: (8: 61 وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) بقدر الإمكان. وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك» .. انتهى.
وظاهر من هذا الاستعراض ومن التعقيب عليه- ومما جاء بعده في تفسير السورة في تفسير المنار- أنه مع لمس السبب الأصيل العميق الكامن وراء هذه السلسلة من نقض العهود، وابتداء أول فرصة لحرب الإسلام وأهله من المشركين وأهل الكتاب، فإن المؤلف لا يتابع هذا السبب إلى جذوره ولا يرى امتداده وشموله ولا يستشرف الحقيقة الكبيرة في طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي وطبيعة الاختلاف الجذري بين منهج الله ومناهج العبيد، التي لا يمكن الالتقاء على شيء منها وبالتالي لا يمكن التعايش الطويل بين المعسكرات القائمة على منهج الله وهذه المناهج أصلاً! فأما الأستاذ محمد عزة دروزة في تفسيره للسورة في كتابه: «التفسير الحديث» فيبعد جداً عن هذه الحقيقة الكبرى ولا يلمس ذلك السبب الأصيل العميق أصلاً. ذلك أنه مشغول- كغيره من الكتاب المحدثين الواقعين تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين، وللقوة الظاهرة لمعسكرات المشركين والملحدين وأهل الكتاب في هذا الزمان- بتلمس شهادة لهذا الدين بأنه دين السلم والسلام الذي لا يعنيه إلا أن يعيش داخل حدوده في سلام! فمتى أمكنت المهادنة والمعاهدة فهو حريص عليها، لا يعدل بها هدفاً آخر! وهو من ثم لا يرى سبباً لهذه النصوص الجديدة الأخيرة في سورة التوبة إلا نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن الذين لم ينقضوا عهودهم- سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة- فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها. وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة! وكذلك الناكثون أنفسهم! وأن الآيات المرحلية هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة!!! وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
«وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني، حيث ينطوي فيهما أنه كان بين
__________
(1- 2) من العجيب أنه مع لمس المؤلف- رحمه الله- لهذه الحقيقة الأصيلة التي هي القاعدة الأساسية لعدم إمكان التعايش على أساس المعاهدات بين المعسكر الإسلامي ومعسكر الشرك ومعسكر أهل الكتاب- إلا في فترات موقوتة لا تمثل قاعدة دائمة- فإنه اتجه إلى أن قاعدة العلاقات بين المعسكر الإسلامي وهذه المعسكرات هي المعاهدات السلمية ما لم يقع الاعتداء على المسلمين في دارهم! وأن هذا ممكن دائما! وغيره هو الاستثناء! وأن الأمر خاص بمشركي الجزيرة.. (وهذا صحيح نسبيا، ولكن حقيقة الأمر في المشركين عامة هي ذاتها حقيقة مشركي الجزيرة. كما سنبين في أثناء مواجهة النصوص) .(3/1589)
المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر.
«ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقاً. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق. وقد روى المفسر نفسه قولاً عجيباً عن سليمان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآيات وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف، وقال:
إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر، منها هذه الآية وسماها سيفاً في المشركين من العرب، وسيفاً في قتال أهل الكتاب وهي آية التوبة هذه: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» (29) وسيفاً في المنافقين وهو هذه الآية من سورة التوبة أيضاً: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (73) وسيفاً في قتال الباغين وهو هذه الآية في سورة الحجرات: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» (9) . ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين ومن لا عهد لهم إطلاقاً دون تفريق. مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه:
«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (8) أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين! «كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقاً تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله.
«وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد، فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق(3/1590)
في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئاً من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمينَ قبل العهد، وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه: «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ، أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90) تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً بذلك. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله.
«أما المسألة الثانية: فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكف عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة.
«والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة، وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيامهم بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعد هذا من قبيل الإكراه في الدين، بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق، كما يمثل نظاماً جاهلياً فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة، وأن الإسلام الذي يشترط عليهم الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك، والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلاً وخلقاً وعبادة وعقيدة وعملاً. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب، أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم» ... انتهى وواضح من هذه الفقرات التي اقتطفناها ومن أمثالها في تفسير المؤلف كله أنه ابتداء لا يلقي باله إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وردها إلى الله وحده، حيثما كان ذلك ممكناً له، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن..
فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء. وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام. وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية! وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض «1» !
__________
(1) يراجع ما كتبناه عن الجهاد وما اقتبسناه من كتاب الأستاذ المودودي عن (الجهاد في سبيل الله) في الجزء التاسع من الظلال ص 1431-[.....](3/1591)
وواضح كذلك أن المؤلف لا يلقي باله إلى طبيعة المنهج الحركي في الإسلام، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة. فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها. دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها.. وحقيقة إن هذه الأحكام ليست (منسوخة) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال- بعد نزول الأحكام الأخيرة- فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة، وكانوا قادرين على تنفيذها..
.. إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا..
وبعد، فإننا نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها الفقرة السابقة:
«والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم» .
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يُفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله.. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه:
«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» ..
(الحج: 40) والذي يقول عنه سبحانه كذلك: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» ..
(البقرة: 251) وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:
إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة لنشر منهج الله في الأرض حوله وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة- في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان- حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف. وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة- تمهيداً لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين- في ظروف مختلفة- عهداً بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين- ومن أهل الكتاب من قبلهم- فما كانت هذه العهود- إلا نادراً- عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار(3/1592)
واقعي إلى حين! فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلاً أن ترى الإسلام ما يزال قائماً حيالها مناقضاً في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفاً لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ... (البقرة: 217) والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» .. (البقرة: 109) ويقول فيها كذلك: «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» .. (البقرة: 120) فيعلن- سبحانه- بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه- على مدار التاريخ- بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرناً والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين- وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان- في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا. وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة.. وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي- أو الذي كان إسلامياً بتعبير أدق- وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئاً من هذا كله لا يصبح مفهوماً بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها..
وقد تجلى ذلك القانون- كما أسلفنا- قبيل نزول سورة التوبة وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين- وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة- أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده..
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة- حينذاك- لم يكن معناه وضوحه- بنفس الدرجة- لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلاً على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم- من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعاً- بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئا(3/1593)
ولم يظاهروا عليهم أحداً- ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .. (الأنفال: 58) فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفاً لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين.. ولكن الله- سبحانه- كان يريد أمراً أكبر من المألوف وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك- ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك- من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويداً رويداً- في ظل السلم- إلى الإسلام.. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف.. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم- ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضاً! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد الله. وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! .. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها- كما تقدم- وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات أم من المنافع والمصالح. كما أنه- سبحانه- كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.
وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين الله أفواجاً ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال. ولا يجد في نفسه دافعاً لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر فهي صفقة رابحة بلا عناء كبير.. أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟! .. وكان الله- سبحانه- يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» .
هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط- بعد الفتح- اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين..
اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، وأن يتكرر إعلان البراءة(3/1594)
من الله ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة ونفس النغمة العالية حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ الله منهم ويبرأ رسوله:
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. (1)
«وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» .. (3)
واقتضت تطمين المؤمنين وتخويف المشركين بأن الله مخزي الكافرين، وأن الذين يتولون لا يعجزون الله ولا يفلتون من عذابه:
«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» .. (2)
«فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ... (3)
واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلا الذين عاهدوا ثم استقاموا فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه- مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهداً ولا يتذممون من فعلة لو أنهم قدروا عليهم، وتصوير كفرهم، وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحياناً من مودة بسبب قوتهم:
«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ- كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ... (7- 10) .
واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء الله ودين الله:
«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. (13- 15) .
واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة ومقاومة مشاعر القرابة والمصلحة معا والتخيير بينها وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله، ووقف المسلمين على مفرق الطريق:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» .. (23- 24) .
واقتضت تذكيرهم بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه فلم ينصرهم إلا الله بجنده وبتثبيته لرسوله:
«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ... «25- 26» .(3/1595)
واقتضت أخيراً تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم وتعطل التجارة وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة الله لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ... (28) .
وهذه التوكيدات والتقريرات، وهذه الإيحاءات والاستثارات، وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب..
تشي- كما أسلفنا- بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح، ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام.. ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل، والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة، لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مراراً من قبل.
والآن نكتفي بهذا القدر من الحديث العام عن ذلك المقطع الأول من السورة وما يشي به من حالة المجتمع في حينه لنواجه نصوصه بالتفصيل:
«براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً- فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم. وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» .
هذه الآيات- وما بعدها إلى الآية الثامنة والعشرين- نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الإسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية- بصفة عامة- وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين.. سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنقضه، حينما لاح له أن مواجهة المسلمين للروم- حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك- ستكون فيها القاضية على الإسلام وأهله، أو على الأقل ستضعف من شوكة المسلمين وتهد من قوتهم.. ومن لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرض للمسلمين من قبل بسوء.. ومن كان له عهد- موقوت أو غير موقوت- فحافظ على عهده ولم ينقص المسلمين شيئاً ولم يظاهر عليهم أحداً.. فهؤلاء جميعاً نزلت هذه الآيات وما بعدها لتحدد العلاقات النهائية بينهم وبين المجتمع المسلم في ظل الاعتبارات التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التوسع سواء في تقديم السورة، أو في تقديم هذا الدرس خاصة.
وأسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها، يأخذ شكل الإعلان العام، ورنينه العالي! فيتناسق أسلوب التعبير وإيقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع على طريقة القرآن في التعبير «1» .
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» فصل «التناسق الفني» وفصل «طريق القرآن» . «دار الشروق» .(3/1596)
وقد وردت روايات متعددة في ظروف هذا الإعلان، وطريقة التبليغ به، ومن قام بالتبليغ. أصحها وأقربها إلى طبائع الأشياء وأكثرها تناسقاً مع واقع الجماعة المسلمة يومذاك ما قرره ابن جرير وهو يستعرض هذه الروايات. ونقتطف هنا من تعليقاته ما يمثل رؤيتنا لحقيقة الواقعة مغفلين ما لا نوافقه عليه من كلامه وما تناقض فيه بعض قوله مع بعض. إذ كنا لا نناقش الروايات المتعددة ولا نناقش تعليقات الطبري ولكن نثبت ما نرجح أنه حقيقة ما حدث من مراجعة ما ورد وتحقيقه:
قال في رواية له عن مجاهد: «براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين» .. قال: أهل العهد:
مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك حين فرغ منها، وأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما. فطافا بالناس، بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر.. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يسح أحد» .
وقال- بعد استعراض جملة الروايات في حقيقة الأجل ومبدئه ونهايته والمقصودين به:
«وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ..
(سورة التوبة: 4) .
«فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (سورة التوبة: 5) يدل على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو لم يكن كان له منه عهد. وذلك قوله: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ- إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» . (سورة التوبة: 7) فهؤلاء مشركون وقد أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم.
«وبعد، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أنه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: «ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهد فعهده إلى مدته» ، أوضح الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجله محدوداً، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان بإتمام(3/1597)
عهده إلى غايته مأموراً. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب» .
وقال في تعقيب آخر على الروايات المتعددة في شأن العهود:
«فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا.
فأما من كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم سبيلاً، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد وفى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك.
وعلى ذلك ظاهر التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» .
وإذا نحن تركنا الروايات التي بها ضعف، وما يمكن أن يكون قد تركه الخلاف السياسي- فيما بعد- بين شيعة علي- رضي الله عنه- وأنصار الأمويين، أو أهل السنة، من الأثر في بعض الروايات فإننا نستطيع أن نقول: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث بأبي بكر- رضي الله عنه- أميراً للحج في هذا العام لما كرهه من الحج والمشركون يطوفون بالبيت عراة. ثم نزلت أوائل سورة التوبة هذه فبعث بها عليا- رضي الله عنه- في أثر أبي بكر. فأذن بها في الناس- بكل ما تضمنته من أحكام نهائية ومنها ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك.
وقد روى الترمذي في كتاب التفسير- بإسناده- عن علي قال: «بعثني النبي- صلى الله عليه وسلم- حين أنزلت «براءة» بأربع. أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» ...
وهذا الخبر هو أصح ما ورد في هذا الباب. فنكتفي به.
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
هذا الإعلان العام، بهذا الإيقاع العالي يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة. إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمشركين في الجزيرة. والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين، يحدد موقف كل مسلم ويوقع إيقاعاً عميقاً عنيفاً على قلب كل مسلم، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد! ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان:
«فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» ..
فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها: أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم، ويعدّلون أوضاعهم.. آمنين.. لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم. حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم، وعند أول توقع بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك وأن الروم سيأخذونهم أسرى! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون! ومتى كان ذلك؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا..
وفي أي عصر تاريخي؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت(3/1598)
الفرصة! .. ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان.. ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير- بتأثيره- بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير.
ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها. إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب! ولن يفلتوا منه بالهرب! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره: أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم:
«وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» ..
وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم وهم في قبضته- سبحانه- والأرض كلها في قبضته كذلك؟! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه؟! بعد ذلك يبين الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة وتبلغ إلى المشركين لينذروا بها وبالموعد المضروب فيها:
«وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
ويوم الحج الأكبر اختلفت الروايات في تحديده: أهو يوم عرفة أم يوم النحر. والأصح أنه يوم النحر.
والأذان البلاغ وقد وقع للناس في الموسم وأعلنت براءة الله ورسوله من المشركين كافة- من ناحية المبدأ- وجاء الاستثناء في الإبقاء على العهد إلى مدته في الآية التالية.. والحكمة واضحة في تقرير المبدأ العام ابتداء في صورة الشمول لأنه هو الذي يمثل طبيعة العلاقات النهائية. أما الاستثناء فهو خاص بحالات تنتهي بانتهاء الأجل المضروب. وهذا الفهم هو الذي توحي به النظرة الواسعة لطبيعة العلاقات الحتمية بين المعسكر الذي يجعل الناس عبيداً لله وحده، والمعسكرات التي تجعل الناس عبيداً للشركاء، كما أسلفنا في التقديم للسورة والتقديم لهذا المقطع منها كذلك.
ومع إعلان البراءة المطلقة يجيء الترغيب في الهداية والترهيب من الضلالة:
«فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة يشيران إلى طبيعة المنهج الإسلامي. إنه منهج هداية قبل كل شيء. فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لا لمجرد أنه لا يحب أن يباغتهم ويفتك بهم متى قدر- كما كان الشأن في العلاقات الدولية ولا يزال! - ولكنه كذلك يمهلهم هذه المهلة للتروي والتدبر، واختيار الطريق الأقوم ويرغبهم في التوبة عن الشرك والرجوع إلى الله ويرهبهم من التولي، وييئسهم من جدواه، وينذرهم بالعذاب الأليم في الآخرة فوق الخزي في الدنيا. ويوقع في قلوبهم الزلزلة التي ترجها رجاً لعل الركام الذي ران على الفطرة أن ينفض عنها، فتسمع وتستجيب! ثم.. هو طمأنة للصف المسلم، ولكل ما في قلوب بعضه من مخاوف ومن تردد وتهيب ومن تحرج وتوقع. فالأمر قد صار فيه من الله قضاء. والمصير قد تقرر من قبل الابتداء! وبعد تقرير المبدأ العام في العلاقات بالبراءة المطلقة من المشركين ومن عهودهم يجيء الاستثناء المخصص(3/1599)
للحالات المؤقتة، التي يصار بعدها إلى ذلك المبدأ العام:
«إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ..
وأصح ما قيل عن هؤلاء الذين ورد فيهم هذا الاستثناء أنهم جماعة من بني بكر- هم بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة- لم ينقضوا عهدهم الذي كان في الحديبية مع قريش وحلفائهم، ولم يشتركوا مع بني بكر في العدوان على خزاعة، ذلك العدوان الذي أعانتهم عليه قريش، فانتقض بذلك عهد الحديبية، وكان فتح مكة بعد سنتين اثنتين من الحديبية، وكان العهد لمدة عشر سنوات من الحديبية. وكانت هذه الجماعة من بني بكر بقيت على عهدها وبقيت على شركها. فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هنا أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم. والذي يؤيد ما ذهبنا إليه- وهو رواية محمد بن عباد بن جعفر- أن السدي يقول:
«هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج حيان من بني كنانة. وأن مجاهد يقول: «كان لبني مدلج وخزاعة عهد فهو الذي قال الله «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ» .. غير أنه يلاحظ أن خزاعة كانت قد دخلت في الإسلام بعد الفتح. وهذا خاص بالمشركين الذين بقوا على شركهم.. كما يؤيده ما سيجيء في الآية السابعة من قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» .. فهذان الحيان من كنانة ممن عاهدوا عند المسجد الحرام في الحديبية، ثم لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً. فهم المعنيون في الاستثناء أولاً وأخيراً كما ذهب إلى ذلك المفسرون الأوائل، وقد أخذ بهذا القول الأستاذ الشيخ رشيد رضا. وذهب الأستاذ محمد عزة دروزة إلى أن المعنيين بالمعاهدين عند المسجد الحرام هم طائفة أخرى غير المذكورة في الاستثناء الأول. ذلك أنه كان يحب أن يذهب إلى جواز قيام معاهدات دائمة بين المسلمين والمشركين، فارتكن إلى قوله تعالى: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» ليستدل منه على جواز تأبيد المعاهدات! وهو قول بعيد كل البعد عن طبيعة الموقف، وعن طبيعة المنهج، وعن طبيعة هذا الدين أيضاً! كما بينا ذلك مراراً.
لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا بعهدهم، فلم يمهلهم أربعة أشهر- كما أمهل كل من عداهم- ولكنه أمهلهم إلى مدتهم. ذلك أنهم لم ينقصوا المسلمين شيئاً مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدواً، فاقتضى هذا الوفاء لهم والإبقاء على عهدهم إلى نهايته.. ذلك مع حاجة الموقف الحركي للمجتمع المسلم في ذلك الحين إلى تخليص الجزيرة بجملتها من الشرك وتحويلها إلى قاعدة أمينة للإسلام لأن أعداءه على حدود الجزيرة قد تنبهوا لخطره، وأخذوا يجمعون له كما سيجيء في الحديث عن غزوة تبوك- ومن قبل كانت وقعة مؤتة إنذاراً بهذا التحفز الذي أخذ فيه الروم. فضلاً على تحالفهم مع الفرس في الجنوب في اليمن، للتألب على الدين الجديد.
ولقد حدث ما ذكره ابن القيم من أن هؤلاء الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهودهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدتهم. بل حدث أن الآخرين الذين كانوا ينقضون عهودهم وغيرهم ممن أمهلوا أربعة أشهر يسيحون فيها في الأرض، لم يسيحوا في الأرض وإنما اختاروا الإسلام أيضاً! لقد علم الله- سبحانه- وهو ينقل بيده خطى هذه الدعوة، أنه كان الأوان قد آن لهذه الضربة الأخيرة وأن الظروف كانت قد تهيأت والأرض كانت قد مهدت وأنها تجيء في أوانها المناسب وفق واقع الأمر الظاهر، وفق قدر الله المضمر المغيب. فكان هذا الذي كان.(3/1600)
ونقف أمام التعقيب الإلهي على الأمر بالوفاء بالعهد للموفين بعهدهم:
«فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ..
إنه يعلق الوفاء بالعهد بتقوى الله وحبه- سبحانه- للمتقين. فيجعل هذا الوفاء عبادة له وتقوى يحبها من أهلها.. وهذه هي قاعدة الأخلاق في الإسلام.. إنها ليست قاعدة المنفعة والمصلحة وليست قاعدة الاصطلاح والعرف المتغيرين أبداً.. إنها قاعدة العبادة لله وتقواه. فالمسلم يتخلق بما يحبه الله منه ويرضاه له وهو يخشى الله في هذا ويتطلب رضاه. ومن هنا سلطان الأخلاق في الإسلام كما أنه من هنا مبعثها الوجداني الأصيل.. ثم هي في الطريق تحقق منافع العباد، وتؤمن مصالحهم، وتنشئ مجتمعاً تقل فيه الاحتكاكات والتناقضات إلى أقصى حد ممكن، وترتفع بالنفس البشرية صُعداً في الطريق الصاعد إلى الله ...
وبعد تقرير الحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين.. المعاهدين وغير المعاهدين منهم سواء.. مع استثناء الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً بالوفاء لهم بعهدهم إلى مدتهم. يجيء ذكر الإجراء الذي يتخذه المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب:
«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وقد اختلفت الأقوال عن المقصود هنا بقوله تعالى: «الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ» .. هل هي الأشهر الحرم المصطلح عليها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب: وعلى ذلك يكون الوقت الباقي بعد الأذان في يوم الحج الأكبر بهذه البراءة هو بقية الحجة ثم المحرم.. خمسين يوماً.. أم إنها أربعة أشهر يحرم فيها القتال ابتداء من يوم النحر فتكون نهايتها في العشرين من ربيع الأخر؟ .. أم إن الأجل الأول للناقضين عهودهم. وهذا الأجل الثاني لمن ليس لهم عهد أصلاً أو لمن كان له عهد غير مؤقت؟
والذي يصح عندنا أن الأربعة الأشهر المذكورة هنا غير الأشهر الحرم المصطلح عليها. وأنه أطلق عليها وصف الأشهر الحرم لتحريم القتال فيها بإمهال المشركين طوالها ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وأنها عامة- إلا فيمن لهم عهد مؤقت ممن أمهلوا إلى مدتهم- فإنه ما دام أن الله قد قال لهم: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» فلا بد أن تكون هذه الأشهر الأربعة ابتداء من يوم إعلانهم بها.. وهذا هو الذي يتفق مع طبيعة الإعلان.
وقد أمر الله المسلمين- إذا انقضت الأشهر الأربعة- أن يقتلوا كل مشرك أنى وجدوه أو يأسروه أو يحصروه إذا تحصن منهم أو يقعدوا له مترصدين لا يدعونه يفلت أو يذهب- باستثناء من أمروا بالوفاء لهم إلى مدتهم- بدون أي إجراء آخر معه. ذلك أن المشركين أنذروا وأمهلوا وقتاً كافياً فهم إذن لا يقتلون غدراً، ولا يؤخذون بغتة، وقد نبذت لهم عهودهم، وعلموا سلفاً ما ينتظرهم.
غير أنها لم تكن حملة إبادة ولا انتقام.. إنما كانت حملة إنذار ودفع إلى الإسلام:
«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
لقد كانت هنالك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان ومن إيذائهم للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، ومن حرب للمسلمين وتأليب على دولتهم.. ثم من سماحة لهذا الدين. ورسوله وأهله معهم.. وإنه(3/1601)
لتاريخ طويل.. ومع هذا كله فلقد كان الإسلام يفتح لهم ذراعيه فيأمر الله نبيه والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وحوربوا وشردوا وقتلوا.. كان يأمرهم أن يكفوا عن المشركين إن هم اختاروا التوبة إلى الله، والتزموا شعائر الإسلام التي تدل على اعتناقهم هذا الدين واستسلامهم له وقيامهم بفرائضه. وذلك أن الله لا يرد تائباً مهما تكن خطاياه:.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ولا نحب أن ندخل هنا في الجدل الفقهي الطويل الذي تعرضت له كتب التفسير وكتب الفقه حول هذا النص:
«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» ..
وعما إذا كانت هذه شرائط الإسلام التي يكفر تاركها؟ ومتى يكفر؟ وعما إذا كان يكتفى بها من التائب دون بقية أركان الإسلام المعروفة؟ .. الخ فما نحسب أن هذه الآية بصدد شيء من هذا كله. إنما هو نص كان يواجه واقعاً في مشركي الجزيرة يومذاك. فما كان أحدهم ليعلن توبته ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا وهو يعني الإسلام كله، ويعني استسلامه له ودخوله فيه. فنصت الآية على التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأنه ما كان ليفعل هذا منهم في ذلك الحين إلا من نوى الإسلام وارتضاه بكامل شروطه وكامل معناه. وفي أولها الدينونة لله وحده بشهادة أن لا إله إلا الله، والاعتراف برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- بشهادة أن محمداً رسول الله.
فليست هذه الآية بصدد تقرير حكم فقهي، إنما هي بصدد إجراء واقعي له ملابساته.
وأخيراً فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك. فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل مشرك كما قلنا. إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك. فالمشركون الأفراد، الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى يكفل لهم الإسلام- في دار الإسلام- الأمن، ويأمر الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يجيرهم حتى يسمعوا كلام الله ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم مشركون.
«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ..
إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب.. وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم!!! ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام.. ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة وراء قمة.. وهذه منها.. هذه الحراسة للمشرك، عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين.. هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام! .. إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام للإسلام..(3/1602)
والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الأفراد على الاعتقاد! والذين يهولهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم:
«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» ..
إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه.. ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد وتلجئهم إلى عبادة غير الله.. ومتى حطم هذه القوى، وأزال هذه العقبات، فالأفراد- على عقيدتهم- آمنون في كنفه يعلمهم ولا يرهبهم ويجيرهم ولا يقتلهم ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا كله وهم يرفضون منهج الله! وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع العبيد لا يأمن فيها من يخالفها من البشر على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه ولا على حرمة واحدة من حرمات الإنسان! ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم يتمتمون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان وفي كل زمان! «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ؟ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ. فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ، وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» .
لما انتهى في مجموعة الآيات السابقة إلى تقرير الأحكام النهائية الأخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة، وهي تعني إنهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعاً.. بعضهم بعد مهلة أربعة أشهر، وبعضهم بعد انتهاء مدتهم.. حيث يؤول الأمر بعد هذه الأحكام إلى حالتين اثنتين: توبة وإقامة للصلاة وإيتاء للزكاة- أي دخول في الإسلام وأداء لفرائضه- أو قتال وحصار وأسر وإرصاد..
لما انتهى إلى الأمر بإنهاء حالة التعاقد على ذلك الوجه أخذ في هذه المجموعة الجديدة من الآيات يقرر- عن طريق الاستفهام الاستنكاري- أنه لا ينبغي ولا يجوز وليس من المستساغ أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله. وهو استنكار للمبدأ في ذاته واستبعاد له من أساسه! بقوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ» .
ولما كان هذا الاستنكار في هذه المجموعة التالية في السياق للمجموعة الأولى، قد يفهم منه نسخ ما كان قد تقرر في المجموعة الأولى من إمهال ذوي العهود الموفين بعهودهم الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا(3/1603)
عليهم أحداً إلى مدتهم.. فقد عاد يقرر هذا الحكم مرة أخرى بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» .. وجاءت في هذا التوكيد الجديد زيادة بيان.. إذ كان الأمر الأول مطلقاً بالوفاء بعهود من استقاموا على عهودهم إلى مدتهم.. فجاء هذا التوكيد يقيد هذا الإطلاق بأن هذا الوفاء مرهون باستقامتهم في المستقبل إلى نهاية المدة كذلك كما استقاموا في الماضي. وهي دقة بالغة في صياغة النصوص في هذه العلاقات والمعاملات، وعدم الاكتفاء بالمفهومات الضمنية، وإتباعها بالمنطوقات القطعية.
ونظراً لما أسلفنا بيانه في مقدمات السورة ومقدمات هذا المقطع منها، من الظواهر والأعراض والاعتبارات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومئذ تجاه هذه الخطوة الحاسمة الخطيرة، فقد أخذ السياق يثير في نفوس المسلمين ما يدفع عنهم التردد والتحرج والتهيب، بإطلاعهم على حقيقة حال المشركين ومشاعرهم ونواياهم تجاه المسلمين، وأنهم لا يرعون فيهم عهداً، ولا يتحرجون فيهم من شيء ولا يتذممون، وأنهم لا يفون بعهد، ولا يرتبطون بوعد وأنهم لا يكفون عن الاعتداء متى قدروا عليه. وأن لا سبيل لمهادنتهم أو ائتمانهم ما لم يدخلوا فيما دخل فيه المسلمون.
«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟» ..
إن المشركين لا يدينون لله بالعبودية خالصة، وهم كذلك لا يعترفون برسالة رسوله. فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله؟ إنهم لا يواجهون بالإنكار والجحود عبداً مثلهم، ولا منهجاً من مناهج العبيد من أمثالهم. إنما هم يواجهون بالجحود خالقهم ورازقهم وهم يحادون الله ورسوله بهذا الجحود ابتداء.. فكيف يجوز أن يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟
هذه هي القضية التي يثيرها هذا السؤال الاستنكاري.. وهي قضية تنصب على مبدأ التعاهد ذاته لا على حالة معينة من حالاته..
وقد يستشكل على هذا بأنه كانت للمشركين عهود فعلاً وبعض هذه العهود أمر الله بالوفاء بها. وأنه قد وقعت عهود سابقة منذ قيام الدولة المسلمة في المدينة. عهود مع اليهود وعهود مع المشركين. وأنه وقع عهد الحديبية في السنة السادسة للهجرة. وأن النصوص القرآنية في سور سابقة كانت تجيز هذه العهود وإن كانت تجيز نبذها عند خوف الخيانة.. فإذا كان مبدأ التعاهد مع المشركين هو الذي يرد عليه الإنكار هنا، فكيف إذن أبيحت تلك العهود وقامت حتى نزل هذا الاستنكار الأخير لمبدأ التعاهد؟! وهذا الاستشكال لا معنى له في ظل الفهم الصحيح لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي الذي أسلفنا الحديث عنه في مطالع هذه السورة وفي مطالع سورة الأنفال قبلها.. لقد كانت تلك المعاهدات مواجهة للواقع في حينه بوسائل مكافئة له أما الحكم النهائي فهو أنه لا ينبغي أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله..
كانت أحكاماً مرحلية في طريق الحركة الإسلامية التي تستهدف ابتداء ألا يكون في الأرض شرك بالله وأن تكون الدينونة لله وحده.. ولقد أعلن الإسلام هدفه هذا منذ أول يوم ولم يخدع عنه أحداً. فإذا كانت الظروف الواقعية تقضي بأن يدع من يسالمونه ابتداء من المشركين ليتفرغ لمن يهاجمونه وأن يوادع من يريدون موادعته في فترة من الفترات. وأن يعاهد من يريدون معاهدته في مرحلة من المراحل. فإنه لا يغفل لحظة عن هدفه(3/1604)
النهائي الأخير كما أنه لا يغفل عن أن هذه الموادعات والمعاهدات من جانب بعض المشركين موقوته من جانبهم هم أنفسهم. وأنهم لا بد مهاجموه ومحاربوه ذات يوم وأنهم لن يتركوه وهم يستيقنون من هدفه ولن يأمنوه على أنفسهم إلا ريثما يستعدون له ويستديرون لمواجهته.. ولقد قال الله للمسلمين منذ أول الأمر:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» .. وهي قولة الأبد التي لا تتخصص بزمن ولا بيئة! وقوله الحق التي لا تتعلق بظرف ولا حالة! ومع استنكار الأصل، فقد أذن الله- سبحانه- بإتمام عهود ذوي العهود الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً إلى مدتها، مع اشتراط أن تكون الاستقامة على العهد- في هذه المدة- من المسلمين مقيدة باستقامة ذوي العهود عليها:
«إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ..
وهؤلاء الذين تشير الآية إلى معاهدتهم عند المسجد الحرام ليسوا طائفة أخرى غير التي ورد ذكرها من قبل في قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» .. كما فهم بعض المفسرين المحدثين.. فهي طائفة واحدة ذكرت أول مرة بمناسبة عموم البراءة وإطلاقها، لاستثنائها من هذا العموم. وذكرت مرة ثانية بمناسبة استنكار مبدأ التعاهد ذاته مع المشركين مخافة أن يظن أن هذا الحكم المطلق فيه نسخ للحكم الأول.. وذكرت التقوى وحب الله للمتقين هنا وهناك بنصها للدلالة على أن الموضوع واحد. كما أن النص الثاني مكمل للشروط المذكورة في النص الأول. ففي الأول اشتراط استقامتهم في الماضي، وفي الثاني اشتراط استقامتهم في المستقبل. وهي دقة بالغة في صياغة النصوص- كما أسلفنا- لا تلحظ إلا بضم النصين الواردين في الموضوع الواحد، كما هو ظاهر ومتعين.
ثم يعود لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية بعد استنكاره بأسبابه العقيدية والإيمانية ويجمع بين هذه وتلك في الآيات التالية:
«كَيْفَ؟ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم. ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم، وفي غير ذمة يرعونها لكم أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم! فهم لا يرعون عهداً، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها. فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، لو أنهم قدروا عليكم. مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة. فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم! .. وإذا كانوا اليوم- وأنتم أقوياء- يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد. فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد وتأبى أن تقيم على العهد فما بهم من وفاء لكم ولا ود! «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..(3/1605)
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم، والانطلاق في التنكيل بكم- لو قدروا- من كل تحرج ومن كل تذمم.. إنه الفسوق عن دين الله، والخروج عن هذاه. فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمناً قليلاً من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته. وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئاً من مصالحهم أو أن يكلفهم شيئاً من أموالهم! فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم (فسيجيء أنهم أئمة الكفر) .. أما فعلهم هذا فهو الفعل السيئ الذي يقرر الله سوءه الأصيل:
«إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ!» ..
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم.. إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم.. إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها.. للإيمان ذاته.. كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين، على مدار التاريخ والقرون.. فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل: «وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» .. وكذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب بتوجيه من ربه: «قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله؟» وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين: «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . فالإيمان هو سبب النقمة، ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن، ولا يراعون فيه عهداً ولا يتذممون من منكر:
«لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم.. تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه وتنتهي بالوقوف في وجهه وتربصهم بالمؤمنين وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة، إذا هم ظهروا عليهم وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم، ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم.. وهم آمنون..!
ثم يبين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين:
«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك. لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة.. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم! هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي بالإضافة إلى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج الله الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة الله وحده، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد.. يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من الله سبحانه، بهذا الحسم الصريح:
«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..(3/1606)
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء. وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة ويصبح المسلمون الجدد إخواناً للمسلمين القدامى ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب! «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنون.
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه، وطعن في دين المسلمين. فهم إذن أئمة في الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود. وعندئذ يكون القتال لهم لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى.. كما سبق أن قلنا:
إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوباً كثيرة إلى الصواب وتريهم الحق الغالب فيعرفونه ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق ولأن وراءه قوة الله وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صادق فيما أبلغهم من أن الله غالب هو ورسله. فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى. لا كرهاً وقهراً، ولكن اقتناعاً بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب. كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين.
وبعد.. فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعاداً أخرى في الزمان والمكان؟
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين.
وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع. وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة..
هذا حق في ذاته.. ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين- على مدى التاريخ- من المؤمنين. ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة. ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة.
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائماً هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة:
«كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً! يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين. فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ..
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما ختم بهذه الرسالة. وأن(3/1607)
موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق فإن أبعاد المعركة تترامى ويتجلى الموقف على حقيقته كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء! ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات الله وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرناً بالمسلمين في كل مكان؟ .. إنهم لا يرقبون فيهم إِلاًّ ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد..
عند ما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ «البداية والنهاية» لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656 هـ: «1» «ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان.
ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون.
وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار، إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم، فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة- فإنا لله وإنا إليه راجعون- كذلك في المساجد والجوامع والربط. ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم «2» ، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا أمانا بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة..
«وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف. وقيل:
ألف ألف. وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس- فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم. وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.. وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفى قبره، وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر. ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام. وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة. ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم..
«وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير،
__________
(1) «البداية والنهاية» للحافظ ابن كثير، ج 13.
(2) ذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة!) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها وممن دلّوا على عورات المدينة، وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقضوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الأمن والحماية.(3/1608)
وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد. منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار. وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد..
«ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون.
فإنا لله وإنا إليه راجعون..
«ولما نودي ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد.
فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى..» الخ الخ.
هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة. فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟
كلا! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة! .. إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند- ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء- قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيداً والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهباً للطير والوحش، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة، لا تقل- إن لم تزد- على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد! ..
أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى (ممر خيبر) .. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار! .. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة، القطار في النفق. ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء! .. وصدق قول الله سبحانه: «كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاًّ ولا ذمة» .. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟ .. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليوناً.. بمعدل مليون في السنة.. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق.. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. وفي هذا العام وقع في القطاع الصيني(3/1609)
من التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار.. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام. وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية (التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعاً لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!!) فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته.. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات! كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليوناً منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي- التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالاً ونساء في «مفارم» اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء- ماضية إلى الآن!!! وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية.. الآن.. في هذا الزمان.. ويصدق قول الله سبحانه: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً؟» . «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية. ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد.. إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية لله وحده ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير الله. في كل زمان وفي كل مكان.
ومن ثم فإن تلك النصوص- وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة- إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان. لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائماً في كل زمان وفي كل مكان. والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان..
«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً؟ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لأن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والأمر بتخيير المشركين في الجزيرة بين الدخول فيما دخل فيه المسلمون أو قتالهم- إلا من استجار فيجار حتى يسمع كلام الله ثم يبلغ مأمنه خارج دار الإسلام- وبيان علة هذا الاستنكار وهي أنهم لا يرعون إِلاًّ ولا ذمة في مؤمن متى ظهروا على المؤمنين.
تجيء هذه الفقرة لمواجهة ما حاك في نفوس الجماعة المسلمة- بمستوياتها المختلفة التي سبق الحديث عنها- من تردد وتهيب للإقدام على هذه الخطوة الحاسمة! ومن رغبة وتعلل في أن يفيء المشركون الباقون إلى الإسلام دون اللجوء إلى القتال الشامل! ومن خوف على النفوس والمصالح وركون إلى أيسر الوسائل! ...
والنصوص القرآنية تواجه هذه المشاعر والمخاوف والتعلات باستجاشة قلوب المسلمين بالذكريات والأحداث القريبة والبعيدة. تذكرهم بنقض المشركين لما أبرموه معهم من عقود وما عقدوه معهم من أيمان. وتذكرهم(3/1610)
بما همَّ به المشركون من إخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة قبل الهجرة. وتذكرهم بأن المشركين هم الذين بدأوهم بالاعتداء في المدينة.. ثم تثير فيهم الحياء والنخوة أن يكونوا إنما يخشون لقاء المشركين.
والله أولى أن يخشوه إن كانوا مؤمنين.. ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم، فيكونوا هم ستاراً لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم، وخزيانهم وقهرهم. وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم.. ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال. تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين، وهزيمة المشركين. فيومئذ قد يفيء بعضهم- ممن يقسم الله له التوبة- إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر! .. وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه. وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد..
«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان، ونقض للعهود. وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديبية. ولقد قبل- صلى الله عليه وسلم- من شروطهم- بإلهام من ربه وهداية- ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولاً للدنية! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه.
ولكنهم هم لم يفوا، وخاسوا بالعهد بعد عامين اثنين، عند أول فرصة سنحت.. كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول- صلى الله عليه وسلم- من قبل في مكة وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة.
وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء. أما محمد رسول الله، الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده، فلم يرعوا معه هذه الخصلة وهموا بإخراجه ثم تآمروا على حياته وبيتوا قتله في بيت الله الحرام، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات! .. كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة. فهم الذين أصروا- بقيادة أبي جهل- على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق. ثم جمعوا لهم في حنين كذلك.. وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى: «وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله..
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين، يخاطبهم:
«أَتَخْشَوْنَهُمْ؟» ..
فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب! ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال:
«فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..(3/1611)
إن المؤمن لا يخشى أحداً من العبيد. فالمؤمن لا يخشى إلا الله. فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية، وأولى بالمخافة وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان! وإن مشاعر المؤمنين لتثور وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث.. وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم صلى الله عليه وسلم.. وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة، أو وجدوا في موقفهم ثغرة. وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطراً وطغياناً.. وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال:
«قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» ..
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته، وأداة مشيئته، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون. يشفها من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملاً، وهزيمة الباطل، وتشريد المبطلين..
وليس هذا وحده ولكن خيراً آخر يُنتظر وثواباً آخر يُنال:
«وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» ..
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان، ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين يُنصرون، ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم، ويرون آثار الإيمان في مواقفهم- وهذا ما كان فعلاً- وعندئذٍ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم، وأجر هداية الضالين بأيديهم وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات. حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات.
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوباً كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ. وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة، مرهوبة الجانب، عزيزة الجناب.
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة، إلا وعداً واحداً: هو الجنة. ولم يكن يأمرها إلا أمراً واحداً: هو الصبر.. فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب، آتاها الله النصر وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به. ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته. وإن هي إلا ستار لقدرته..
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة، وأن تنبذ عهود المشركين كافة وأن يقف المسلمون إزاءهم صفاً.. لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا والخبايا، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مضلحة.. لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير، وإعلان المفاصلة للجميع، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا(3/1612)
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» .
لقد كان في المجتمع المسلم- كما هو الحال عادة- فئة تجيد المداورة، وتنفذ من الأسوار. وتتقن استخدام الأعذار. وتدور من خلف الجماعة، وتتصل بخصومها استجلاباً للمصلحة ولو على حساب الجماعة، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات. فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار.
وإنه لمن مصلحة الجماعة، ومن مصلحة العقيدة، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج، وتعرف المداخل، فيمتاز المكافحون المخلصون، ويكشف المداورون الملتوون، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته، وإن كان الله يعلمهم من قبل:
«وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم. وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف، وتتمحص القلوب. ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات.
«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ، وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .
وبعد البراءة والإعلان لم يبق عذر ولا حجة لمن لا يقاتل المشركين ولم يعد هنالك تردد في حرمانهم زيارة البيت أو عمارته، وقد كانوا يقومون بهما في الجاهلية، وهنا ينكر السياق على المشركين أن يكون لهم الحق في أن يعمروا بيوت الله، فهو حق خالص للمؤمنين بالله، القائمين بفرائضه وما كانت عمارة البيت في الجاهلية وسقاية الحاج لتغير من هذه القاعدة.. وهذه الآيات كانت تواجه ما يحيك في نفوس بعض المسلمين الذين لم تتضح لهم قاعدة هذا الدين.
«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» ..
فهو أمر مستنكر منذ الابتداء، ليس له مبرر لأنه مخالف لطبائع الأشياء. إن بيوت الله خالصة لله، لا يذكر فيها إلا اسمه، ولا يدعى معه فيها أحد غيره، فكيف يعمرها من لا يعمر التوحيد قلوبهم، ومن يدعون مع الله شركاء، ومن يشهدون على أنفسهم بالكفر شهادة الواقع الذي لا يملكون إنكاره، ولا يسعهم إلا إقراره؟
إقراره؟
«أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» ..(3/1613)
فهي باطلة أصلاً، ومنها عمارة بيت الله التي لا تقوم إلا على قاعدة من توحيد الله.
«وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» ..
بما قدموا من الكفر الواضح الصريح.
إن العبادة تعبير عن العقيدة فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، وبالعمل الواقع الصريح، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء:
«إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» ..
والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر، لا يجيء نافلة. فلا بد من التجرد لله ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصداً في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله. وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله:
«فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» ..
فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح.
هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء- لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج- بالذين آمنوا إيماناً صحيحاً وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته:
«أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟» ..
«لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» .
وميزان الله هو الميزان وتقديره هو التقدير.
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .
المشركين الذين لا يدينون دين الحق، ولا يخلصون عقيدتهم من الشرك، ولو كانوا يعمرون البيت ويسقون الحجيج.
وينتهي هذا المعنى بتقرير فضل المؤمنين المهاجرين المجاهدين، وما ينتظرهم من رحمة ورضوان، ومن نعيم مقيم وأجر عظيم:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
وأفعل التفضيل هنا في قوله: «أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ» ليس على وجهه، فهو لا يعني أن للآخرين درجة أقل، إنما هو التفضيل المطلق. فالآخرون «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» فلا مفاضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجة ولا في نعيم.(3/1614)
ثم يمضي السياق في تجريد المشاعر والصلات في قلوب الجماعة المؤمنة، وتمحيصها لله ولدين الله فيدعو إلى تخليصها من وشائج القربى والمصلحة واللذة، ويجمع كل لذائذ البشر، وكل وشائج الحياة، فيضمها في كفة، ويضع حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله في الكفة الأخرى، ويدع للمسلمين الخيار.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ- إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ-- وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها.. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكاً فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها. وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق- في غير سرف ولا مخيلة- بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ- إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ-» ..
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعاً، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة.
«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
و «الظَّالِمُونَ» هنا تعني المشركين. فولاية الأهل والقوم- إن استحبوا الكفر على الإيمان- شرك لا يتفق مع الإيمان.
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها) .. وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية، وما يتبعه من جراح واستشهاد.. وهو- بعد هذا كله- «الجهاد في سبيل الله» مجرداً من الصيت والذكر(3/1615)
والظهور. مجرداً من المباهاة، والفخر والخيلاء. مجرداً من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه. وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب..
«قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ.. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ... »
ألا إنها لشاقة. ألا وإنها لكبيرة. ولكنها هي ذاك.. وإلا:
«فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، والدولة المسلمة. فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه- فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها- وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها.. لذة الشعور بالاتصال بالله، ولذة الرجاء في رضوان الله، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط، والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك.
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب..
المواطن التي نصرهم الله فيها، ولم تكن لهم قوة ولا عدة. ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته. يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد. ليعلم المؤمنون أن التجرد لله، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد:
«لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريباً من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة. فأما وقعة حنين «1» فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وذلك لما فرغ- صلى الله عليه وسلم- من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري، ومعه ثقيف بكمالها، وبنو جشم، وبنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني هلال- وهم قليل- وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا
__________
(1) بتصرف قليل عن ابن كثير في التفسير.(3/1616)
ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم. فخرج إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة، وهم الطلقاء، في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له «حنين» فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح. انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم. فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين- كما قال الله عز وجل- وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء، يسوقها إلى نحو العدو، والعباس آخذ بركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع السير، وهو ينوه باسمه- عليه الصلاة والسلام- ويدعو المسلمين إلى الرجعة، ويقول: «إلي يا عباد الله. إلي أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال: «أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب» وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- والعباس وعلي والفضل بن عباس، وأبو سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، وغيرهم- رضي الله عنهم- ثم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته: يا أصحاب الشجرة- يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه- فجعل ينادي بهم:
يا أصحاب السمرة، ويقول تارة: يا أصحاب سورة البقرة. فجعلوا يقولون: يا لبيك، يا لبيك. وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصدقوا الحملة ... وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين- للمرة الأولى- جيش عدته اثنا عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتصقت به.
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية، وبانفعالاتها الشعورية:
«إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» ..
فمن انفعال الإعجاب بالكثرة، إلى زلزلة الهزيمة الروحية، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم. إلى حركة الهزيمة الحسية، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب..
«ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» ..
وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدئ الانفعالات الثائرة.
«وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» ..
فلا نعلم ماهيتها وطبيعتها.. وما يعلم جنود ربك إلا هو..
«وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» .(3/1617)
بالقتل والأسر والسلب والهزيمة:
«وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ..
«ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
فباب المغفرة دائماً مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب.
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوة غير قوته، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية. حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة. إن الكثرة العددية ليست بشيء، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة. وإن الكثرة لتكون أحياناً سبباً في الهزيمة، لأن بعض الداخلين فيها، التائهين في غمارها، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله، انشغالاً بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة.
لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة، لا بالزبد الذي يذهب جفاء، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح! وعند ما يبلغ السياق إلى هذا المقطع، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ، ينهي القول في شأن المشركين. ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
إنما المشركون نجس. يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها. إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم «1» .
«نَجَسٌ. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» ..
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصبّ النهي على مجرد القرب منه، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور! ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة ... إنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة..
نعم! ولكنها العقيدة. والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة! وبعد ذلك، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة:
«وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ» ..
__________
(1) يراجع فصل «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1618)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب..
«إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة، وعن تقدير وحساب..
لقد كان المنهج القرآني يعمل، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد..
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات. فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات. ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد.
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها، هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه.
وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة. وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيداً لله وحده، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أرباباً بعضهم لبعض.. وهما منهجان لا يلتقيان.. ولا يتعايشان..
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها لا يملك إنسان أن يقوّم الأحكام الإسلامية، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات.
[سورة التوبة (9) : الآيات 29 الى 35]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)(3/1619)
هذا المقطع الثاني في سياق السورة يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة.
وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ وتتحدث عن المشركين فيها وتحدد صفات ووقائع وأحداثاً تنطبق عليهم انطباقاً مباشراً. فإن النصوص في المقطع الثاني- الخاصة بأهل الكتاب- عامة في لفظها ومدلولها وهي تعني كل أهل الكتاب. سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك.
هذه الأَحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب- وبخاصة النصارى منهم- فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى.
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس.. أساس إعطاء الجزية.. وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين. فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين..
إنهم لا يُكرَهون على اعتناق الإسلام عقيدة. فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس.
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى.
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر، أية عقبات مادية من قوة الدولة، ومن نظام الحكم، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض! ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده- كما هو الإعلان العام للإسلام- ومناهج الجاهلية تريد- دفاعاً عن وجودها- أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض، وأن تقضي عليها..(3/1620)
وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة.. والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل.
ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب ونص على أنه «شرك» و «كفر» و «باطل» وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» . أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك.
والنصوص الحاضرة تقرر:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحق.
رابعاً: أن اليهود منهم قالت: عزير ابن الله. وأن النصارى منهم قالت: المسيح ابن الله وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل سواء من الوثنيين الإغريق، أو الوثنيين الرومان، أو الوثنيين الهنود، أو الوثنيين الفراعنة، أو غيرهم من الذين كفروا (وسنفصل فيما بعد أن التثليث عند النصارى، وادعاء البنوة لله منهم أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة وليس من أصل النصرانية ولا اليهودية) .
خامساً: أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. كما اتخذوا المسيح رباً. وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد الله والدينونة له وحده، وأنهم لهذا «مشركون» ! سادساً: أنهم محاربون لدين الله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وأنهم لهذا «كافرون» ! سابعاً: أن كثيراً من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
وعلى أساس هذه الأوصاف وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين الله، القائمين على منهج الله..
ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، مفاجئ ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم كما يحلو للمستشرقين والمبشرين وتلاميذهم أن يقولوا، زاعمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير أقواله وأحكامه عن أهل الكتاب عند ما أحس بالقوة والقدرة على منازلتهم! ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية- المكية والمدنية- عن أهل الكتاب، تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها، وانحرافها وبطلانها وشركهم وكفرهم بدين الله الصحيح- حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل- أما التعديلات فهي محصورة في طريقة التعامل معهم.. وهذه- كما قلنا مراراً- تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة.
أما الأصل الذي تقوم عليه- وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب- فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم الله عليهم.
ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه.. ثم نستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله، تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم:(3/1621)
في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية أو نصرانية ذات عدد أو وزن في المجتمع.. إنما كان هناك أفراد، يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول ودخلوا في الإسلام، وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم.. ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة.. وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات:
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا: آمَنَّا بِهِ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» ... (القصص: 52- 53) .
«قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» ... (الإسراء: 107- 109) .
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ... (الأحقاف: 10) .
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ» ... (العنكبوت: 47) .
«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ... (الأنعام: 114) .
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» ... (الرعد: 36) .
وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية مع النص في بعضها على أنهم من النصارى، ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة، عند ما أحسوا خطر الإسلام في المدينة:
«وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ... (آل عمران: 199) .
«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى. ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ؟ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» ... (المائدة: 82- 85) .
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة- ومن اليهود منهم بصفة خاصة- فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام، منذ أن أحسوا خطره عليهم في المدينة، حرباً خبيثة، يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن(3/1622)
تصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة، مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به ويقرونه ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين! .. كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود وتسجيله وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف والفساد والبطلان في شتى السور المدنية.. على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب. نذكر من ذلك:
«وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .. (الزخرف: 63- 65) «وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ- بَغْياً بَيْنَهُمْ» ... «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» ... (الشورى: 14) .
«وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ، وَقُولُوا: حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ. وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ... (الأعراف: 161- 163) .
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ... (الأعراف: 167) .
«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَدَرَسُوا ما فِيهِ؟ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ... (الأعراف: 169) .
أما القرآن المدني فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب كما حكى عنهم أشنع الوسائل وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغيرها. قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة. وسنكتفي هنا بنماذج محدودة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة:
«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ؟ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» ... (البقرة: 75- 79) .
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ، وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ؟ وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ- فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ(3/1623)
مُهِينٌ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ. قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!»
... (البقرة: 87- 91) .
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ... (آل عمران: 98- 99) .
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا؟ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» ... (النساء: 51- 52) .
«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَقالَ الْمَسِيحُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْواهُ النَّارُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ!» ...
(المائدة: 72- 75) .
من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها- وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء- يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين الله الصحيح لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة. وأن وصمهم بالانحراف والفسوق والشرك والكفر ليس جديداً، ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد.. وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه. فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم:
«وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» ... (الأعراف: 159) .
«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»
...
(آل عمران: 75) .
«ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. لَيْسُوا سَواءً: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» ... (آل عمران: 112- 115) .
أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب. فترة بعد فترة. ومرحلة بعد مرحلة.
وواقعة بعد واقعة. وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب وتصرفاتهم ومواقفهم مع المسلمين.
ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين:
«وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ- وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا(3/1624)
وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»
... (العنكبوت: 46) .
«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ... (البقرة:
136- 137) .
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ... (آل عمران: 64) .
«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ... (البقرة: 109) .
ثم أتى الله بأمره الذي وكل المؤمنين إليه فوقعت أحداث، وتعدلت أحكام، وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة، في هذه السورة، على النحو الذي رأينا..
إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة ومن الشرك بالله والكفر بآياته.. إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل.. وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة، في هذه الفقرات:
«وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته، إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة، المكافئة للواقع البشري المتغير، من الناحية الأخرى ... الخ» .
والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة ... فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية.
إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها أولاً: في تقريرات الله- سبحانه- عنها، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وباعتبار أن هذه التقريرات- بسبب كونها ربانية- لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء.. وثانياً: في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات الله سبحانه! إن الله سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم.. وهو تارة يتحدث عنهم- سبحانه- وحدهم، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين باعتبار أَن هنالك وحدة هدف- تجاه الإسلام والمسلمين- تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين.
وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين.. والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا تحتاج منا إلى تعليق.. وهذه نماذج منها..
«ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» ... (البقرة: 105) .(3/1625)
«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ... (البقرة: 109) .
«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ... (البقرة: 120) .
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» ... (آل عمران: 69) .
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ... (آل عمران: 72- 73) .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» ... (آل عمران:
100) ...
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ... »
... (النساء: 44- 45) .
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» ... (النساء: 51) .
وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين ... فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق. وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى، ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً. وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين! ... الخ.
وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها الله- سبحانه- في قوله تعالى:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ... (البقرة: 217) .
«وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً» ... (النساء: 102) .
«إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» ... (الممتحنة: 2) .
«وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» ... (التوبة: 8) .
«لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» ... (التوبة: 10) .
إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين، هي بعينها- وتكاد تكون بألفاظها- هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك.. مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين.
وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة، لا على وصف حالة مؤقتة، كقوله تعالى في شأن المشركين:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ..(3/1626)
وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب:
«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..
إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة! فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات، متمثلة في مواقف أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- من الإسلام وأهله، على مدار التاريخ، تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة.
إننا إذا استثنينا حالات فردية- أو حالات جماعات قليلة- من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين والاقتناع بصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصدق هذا الدين. ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين.. وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم.. فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة، إلا تاريخاً من العداء العنيد، والكيد الناصب، والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ..
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة! وليست هذه الظلال مجالاً لعرض هذا التاريخ الطويل. ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..
لقد استقبل اليهود رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق..
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل القبلة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم. وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير: «1» «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ- فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» ...
(البقرة: 89- 90) .
__________
(1) تراجع مقدمات سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في هذه الطبعة المنقحة من الظلال.(3/1627)
«وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ... (البقرة: 101) .
«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ... (البقرة: 142) .
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ... (آل عمران: 70- 71) .
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ... (آل عمران: 72) .
«وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . (آل عمران: 78) .
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ؟ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ... (آل عمران: 98- 99) .
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ! فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ... » ... (النساء: 153) .
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» ... (التوبة: 32) .
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب، مما هو معروف مشهور.
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير..
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي- رضي الله عنه- ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي! ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود! لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته «المسيحية» وهو ركام من الوثنيات القديمة،(3/1628)
والأضاليل الكنسية، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام- وتاريخه «1» .. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة، ليواجهوا هذا الدين الجديد.
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين. وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى عامل بصرى من قبل الروم- وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه- مما جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في غزوة «مؤتة» فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة (وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى) . ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر- رضي الله عنه- إلى أطراف الشام لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين! ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض. ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.
إن «الحروب الصليبية» المعروفة بهذا الاسم في التاريخ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام..
لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير.. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد..
منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة.
ثم بعد ذلك في «مؤتة» . ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عند ما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل.. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة.
ومما جاء في كتاب «حضارة العرب» لجوستاف لوبون- وهو فرنسي مسيحي-:
«كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين، ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم. ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد، أثناء مرضهما «2» » .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر (اسمه يورجا) «3» يقول:
__________
(1) يراجع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين» . «دار الشروق» .
(2- 3) نقلا عن كتاب: «الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام» للأستاذ علي علي منصور.(3/1629)
«ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل، شقيق السلطان، أطلق ألف رقيق من الأسرى، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن» .
ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية- على مدار التاريخ- ولكن يكفي أن نقول: إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً. حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي! ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه.
«لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة. ولكننا بعد اختبار، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه.
إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا.
أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي «1» » .
ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال.. وقد تحدثنا من قبل مراراً في أجزاء الظلال السابقة- بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة- عن طبيعة هذه المعركة، الطويلة، ومسائلها وأشكالها. فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة «2» .
وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع- بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام
__________
(1) من كتاب جورج براون نقلا عن كتاب: «التبشير والاستعمار في البلاد العربية» للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.
(2) يراجع كتاب: «الاستعمار والتبشير» للدكتور مصطفى خالدي والدكتور عمر فروخ. وكتاب: «الغارة على العالم الإسلامي» للاستاذين اليافي ومحب الدين الخطيب. وكتاب: «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» للدكتور محمد محمد حسين. وكتاب: «هل نحن مسلمون» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1630)
بتحرير الإنسان، وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها- أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة، هي المقتضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة. وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها. فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة.
وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة وكانت تمهيداً تشريعياً للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله- وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة- ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة. إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة. فهي ما تزال معلنة ولن تزال.. إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماماً! ..
وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ! ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان.. ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في إطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها.
وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين- الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان- وضعفهم وانكسارهم على دين الله القوي المتين! إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت- وستظل دائماً- وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي. والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة.. وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي. ولا بد من هذا القيد: «الحركة وفق المنهج الإسلامي» فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج بحيث نعتبر «الواقع البشري» هو الأصل أياً كانت الحركة التي أنشأته، ولكن «الواقع البشري» يصبح عنصراً أساسياً في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته.
وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم وهي تتحرك الحركة الحية في مجالها الواقعي وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل.
وحسبنا هذا التمهيد المجمل لنواجه في ظله النصوص القرآنية الواردة في هذا المقطع:
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» ..
هذه الآية- والآيات التالية لها في السياق- كانت تمهيداً لغزوة تبوك ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب.. وذلك يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة. وهذا ما يلهمه السياق القرآني في مثل هذه المواضع.. فهذه الصفات القائمة لم تذكر هنا على أنها شروط لقتال أهل الكتاب إنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة هؤلاء(3/1631)
الأقوام وواقعهم وأنها مبررات ودوافع للأمر بقتالهم. ومثلهم في هذا الحكم كل من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم..
وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحق.
ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق. وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين. فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
(وسنين بالضبط كيف أنه لا يؤمن باليوم الآخر) ، ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم. وأن هذا مخالف لدين الحق..
وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء.. فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق..
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. فهم محاربون لدين الله. ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل. فهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله (سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم) :
وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم. كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام وقالت ببنوة عيسى عليه السلام، وبتثليث الأقانيم- على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث! - على مدار التاريخ حتى الآن! وإذن فهو أمر عام، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم.. ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والرهبان الذين حبسوا انفسهم في الأديرة ... بوصفهم غير محاربين- فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة- وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين. ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء. فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً- كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام! - فالاعتداء قائم ابتداء. الاعتداء على ألوهية الله! والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله! والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله- سبحانه- والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء.. ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء! إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. والذي يقول(3/1632)
ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه: إنه يؤمن بالله. وكذلك الذي يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم. أو إن الله ثالث ثلاثة. أو إن الله تجسد في المسيح ... إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف! .. والذين يقولون: إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار، والذين يقولون: إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق! هؤلاء وهؤلاء لا يقال: إنهم يؤمنون باليوم الآخر..
وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم «لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . وسواء كان المقصود بكلمة «رسوله» هو رسولهم الذي أرسل إليهم، أو هو النبي- صلى الله عليه وسلم- فالفحوى واحدة. ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل. وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول.. وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية. وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل «صك الغفران» ! وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم. وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله.. فهذا كله ينطبق عليه: «وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. وهذا كله قائم في أهل الكتاب، كما كان قائماً يومذاك! كذلك تصفهم الآية بأنهم «لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ» .. وهذا واضح مما سبق بيانه. فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله. كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله، وتلقي الأحكام من غير الله، والدينونة لسلطان غير سلطان الله. وهذا كله قائم في أهل الكتاب، كما كان قائماً فيهم يومذاك..
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا.. فلا إكراه في الدين. ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. فما حكمة هذا الشرط، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال؟
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم- وفق ما تصوره هذه الآيات- كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم وعدم إمكان التعايش بين المنهجين وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية (وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً!) .
والإسلام- بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض- لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك.
وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق حتى تستسلم وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً.
وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع. فإن لم يقتنع بقي على عقيدته، وأعطى الجزية. لتحقيق عدة أهداف:
أولها: أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق.(3/1633)
وثانيها: أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة (الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين.
وثالثها: المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل، بما في ذلك أهل الذمة، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة.
ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم. ولا عن مقادير هذه الجزية. ولا عن طريق ربطها ومواضع هذا الربط.. ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم، كما كانت معروضة على عهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها.
إنها قضية تعتبر اليوم «تاريخية» وليست «واقعية» .. إن المسلمين اليوم لا يجاهدون! .. ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون! .. إن قضية «وجود» الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج! والمنهج الإسلامي- كما قلنا من قبل مراراً- منهج واقعي جاد يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع- لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي- ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ويسميهم «الأرأيتيين» الذين يقولون: «أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم؟» إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام.. أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق فيشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ويطبقون هذا في واقع الحياة.. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان.. ويومئذ- ويومئذ فقط- سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات.. ويومئذ- ويومئذ فقط- يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية، والاشتغال بصياغة الأحكام، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل، لا في عالم النظريات! وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية- من ناحية الأصل والمبدأ- فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي. وعند هذا الحد نقف، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال! «وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» ..
لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» .. كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة- تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها- تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه. وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام. والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة ولهم أعوان من القبائل(3/1634)
العربية، وسلطنة خاضعة لنفوذهم هي سلطنة الغساسنة.. وحقيقة أن هذه لم تكن أول ملحمة يخوضها المسلمون مع الروم، بعد أن أعز الله أولئك العرب بالإسلام، وجعل منهم أمة تواجه الروم والفرس بعد أن كانوا قبائل لا تجرؤ ولا تفكر في الالتحام بالروم والفرس وكل ما عرف عنها من شجاعة إنما يتبدى في قتال بعضها لبعض، وفي الغارات والثارات والنهب والسلب! ولكن مهابة الروم كانت ما تزال باقية في أعماق النفوس- وبخاصة تلك التي لم يتم انطباعها بالطابع الإسلامي الأصيل- وكانت آخر ملحمة كبيرة بين المسلمين والروم- وهي غزوة مؤتة- ليست في صالح المسلمين. وقد احتشد فيها من الروم وعملائهم من نصارى العرب ما روي أنه مائتا ألف! كل هذه الملابسات- سواء ما يتعلق منها بتركيب المجتمع المسلم في هذه الفترة أو ما يختص برواسب المهابة للروم والتخوف من الالتحام معهم مضافاً إليها ظروف الغزوة ذاتها- وقد سميت غزوة العسرة لما سنبينه من الظروف التي أحاطت بها- وفوق ذلك كله شبهة أن الروم وعمالهم من نصارى العرب هم أهل كتاب.. كل هذه الملابسات دعت إلى زيادة الإيضاحات والبيانات القوية لتقرير حتمية هذا الأمر، وإزالة الشبهات والمعوقات النفسية، وجلاء الأسباب والعوامل لتلك الحتمية..
وفي هذه الآية يبين السياق القرآني ضلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب، والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم. وأنهم لم يستقيموا على العقيدة الصحيحة التي جاءتهم بها كتبهم فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب، وهم يخالفون في الاعتقاد الأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم. والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم: عزير ابن الله في حين أن الآيات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب.. وذلك- على ما نرجح- يرجع إلى أمرين:
الأول: أنه لما كان نص الآيات عاماً والأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون عاما فقد اقتضى السياق بيان الأصل الاعتقادي الذي يستند إليه هذا الأمر العام في شأن أهل الكتاب عامة من اليهود والنصارى سواء.
الثاني: أن اليهود كانوا قد رحلوا من المدينة إلى أطراف الشام بعد ما اشتبكوا مع الإسلام والمسلمين في حرب مريرة منذ مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة. انتهت بإجلاء بني قينقاع وبني النضير إلى أطراف الشام هم وأفراد من بني قريظة. فكان اليهود يومئذ في طريق الانطلاق الإسلامي إلى أطراف الشام. مما اقتضى أن يشملهم ذلك الأمر، وأن يشملهم هذا البيان.
وقول النصارى: «المسيح ابن الله» معلوم مشهور وما تزال عليه عقائدهم حتى اللحظة منذ أن حرفها بولس، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة- كما سنبين- فأما قول اليهود: «عزير ابن الله» فليس شائعاً ولا معروفاً اليوم. والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم «عزرا» - وهو عزير- نعت فيه بأنه كاتب ماهر في توراة موسى، وأنه وجه قلبه لالتماس شريعة الرب.. ولكن حكاية هذا القول عن اليهود في القرآن دليل قاطع على أن بعضهم على الأقل- وبخاصة يهود المدينة- زعموا هذا الزعم، وراج بينهم وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق!(3/1635)
وقد أورد المرحوم الشيخ رشيد رضا في الجزء العاشر من تفسير المنار (ص 378- ص 385) خلاصة مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود وعلق عليها كذلك تعليقاً مفيداً ننقل منه هنا فقرات تفيدنا في بيان حقيقة ما عليه اليهود إجمالاً. قال:
«جاء في دائرة المعارف اليهودية (طبعة 1903) أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده. وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة (وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة) «1» لو لم يكن جاء بها موسى (التلمود 21 ب) فقد كانت نسيت. ولكن عزرا أعادها أو أحياها. ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات (المعجزات) كما رأوها في عهد موسى.. اهـ.. وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية- وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها- وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده.
وقال الدكتور جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس: عزرا (عون) كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة «ارتحشثتا» الطويل الباع وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عدداً وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة 457 ق. م (عزرا ص 7) وكانت مدة السفر أربعة أشهر.
«ثم قال: وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعاً يقابل بموضع موسى وإيليا ويقولون إنه أسس المجمع الكبير، وأنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة، وأنه ألف أسفار «الأيام» و «عزرا» و «نحميا» .
«ثم قال: ولغة سفر «عزرا» من ص 4: 8- 6: 19 كلدانية، وكذلك ص 7: 1- 27، وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية. اهـ.
«وأقول: إن المشهور عند مؤرخي الأمم، حتى أهل الكتاب منهم، أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه، قد فقدت قبل عهد سليمان عليه السلام. فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر «2» ، كما تراه في سفر الملوك الأول. وأن (عزرا) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها. ويقول أهل الكتاب: إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله.. وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن، حتى من تآليفهم، كذخيرة الألباب للكاثوليك- وأصله فرنسي- وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى. ومنها قوله:
«جاء في سفر عزرا (4 ف 14 عدد 21) أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد «نبوخذ نصر» حيث قال: «إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت! «3» » ويزاد على ذلك
__________
(1) لعل تعبير «حامل الشريعة» أدق في ترجمة الأصل الانجليزي من عبارة «ناشر الشريعة» .
(2) جاء في القرآن الكريم عن هذه الواقعة: «إن آية ملكه (أي طالوت) أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة» .
(3) ونحن نقول: إن قول القرآن أصدق. وقد قرر أنه كان هناك (بقية) !(3/1636)
أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون، ولذلك ترى «ثرثوليانوس» والقديس «إيريناوس» والقديس «إيرونيموس» والقديس «يوحنا الذهبي» والقديس «باسيليوس» وغيرهم يدعون عزرا: مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود.. اهـ..
إلى أن قال:
... «نكتفي بهذا البيان هنا ولنا فيه غرضان: (أحدهما) : أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم. (وثانيهما) : أن هذا المستند واهي النسيان متداعي الأركان، وهذا هو الذي حققه علماء أوربة الأحرار «1» . فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما في سفره وسفر نحميا من كتابته للشريعة: أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت قد أتلفت، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة فيها: وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها مَن كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقاً.. (انظر ص 14 ج 9 من الطبعة الرابعة عشرة سنة 1929) .
«وجملة القول: أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب «ابن الله» . ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بالمعنى الذي سيأتي قريباً عن فيلسوفهم (فيلو) وهو قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى «2» . وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم..
... «وأما الذين قالوا هذا القول من اليهود فهم بعض يهود المدينة، كالذين قال الله فيهم: «وقالت اليهود: يد الله مغلولة، غلت أيديهم» ! .. الآية.. والذين قال فيهم: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» رداً على قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» . ويحتمل أن يكون قد سبقهم إليه غيرهم ولم ينقل إلينا..
«روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس (رضي) قال:
أتى رسول الله (ص) سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وأبو أنس وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟! ... الخ.
__________
(1) يجب أن ننبه نحن في الظلال إلى دلالة مثل هذه العبارات (الأحرار) في مدرسة الشيخ محمد عبده وتلاميذها، فقد كانت هذه المدرسة بجملتها متأثرة بمناهج تفكير وبأفكار غربية غريبة على منهج التفكير الإسلامي الخالص، وكان هذا التأثر يجعلها تنظر إلى كتاب أوربا المناهضين للكنيسة بوصفهم أحرارا. وكذلك الكتاب الذين يكتبون عن الديمقراطية والحرية الغربية، وكذلك إلى الأوضاع الأوربية نظرة استحسان. وكانت تدعو إلى الأخذ بما تسميه (الصالح من هذه الأفكار والأوضاع) بناء على ذلك التأثر.. وهذا مزلق خطر، كان يعطف عليه لورد كرومر وأمثاله من الصليبيين! والأمر في حاجة إلى نظرة أعمق وأوسع وإلى استقلال واستغناء بالمنهج الإسلامي. [.....]
(2) ونحن نرى أنه لا مجال لهذا التردد، فإن النص القرآني يلهم أن قول اليهود: «عزير ابن الله» هو كقول النصارى: «المسيح ابن الله» كلاهما مقصود به ما يضاهي قول الذين كفروا من قبل! فهو من إسناد البنوة التي تخرج قائلها من دين الحق وتلحقه بالكافرين والمشركين.(3/1637)
«ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود. وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول: إن الله ابناً هو كلمته التي خلق بها الأشياء. فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا: إن عزيراً ابن الله بهذا المعنى» ..
ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا- في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق- فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله، أو أن يكونوا يدينون دين الحق. وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال. وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد- في ظل هذا الاستسلام- من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك.
أما قول النصارى «المسيح ابن الله» وأنه ثالث ثلاثة فهو- كما قلنا- شائع مشهور، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائياً! وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا- جاء فيه بعنوان: «ثالوث: -» «كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحاً وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام. وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة، وصفاتهم المميزة وألقابهم. ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد. وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم (أحدهما) الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معاً (والآخر) التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.
«والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي. وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة «ترياس» باليونانية، ثم كان «ترتليانوس» أول من استعمل كلمة «ترينيتاس» المرادفة لها ومعناها الثالوث، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية «1» ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض
__________
(1) المراد بالأراتيكية المبتدعة، من الأرتقة، والأشهر الهرتقة، وبعضهم يقول: هرطقة بقلب التاء طاء وأصله تفخيمها.(3/1638)
«والسابيليين» الذين كانوا يعتقدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس «والأريوسيين» الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له، «والمكدونيين» الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوما.
«وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما بأن الابن والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة.
«وعبارة (ومن الابن أيضاً) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبتت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق «سويد تيراغ» الثالوث على أقنوم المسيح معلماً بثالوث. ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم. وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين الجرمانيين.
«وقد ذهب (كنت) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت، وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساساً تخيليا وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد آراء السابيليين على الخصوص» اهـ.
ومن هذا العرض المجمل المفيد، يتبين أن جميع الطوائف والمذاهب المسيحية الكنسية لا تدين دين الحق، الذي يقوم على توحيد الله سبحانه وعلى أنه ليس كمثله شيء وأنه لا ينبثق منه- سبحانه- أحد! وكثيراً ما ذكر «الأريوسيون» على أنهم «موحدون» وإطلاق اللفظ هكذا مضلل فالآريوسيون لا يوحدون التوحيد المفهوم من دين الله الحق، إنما هم يخلطون! فبينما هم يقررون أن المسيح ليس أزلياً كالله- وهذا حق-- يقررون في الوقت نفسه أنه (الابن) ! وأنه مخلوق من (الأب) قبل خلق العالم! وهذا لا يعتبر من «التوحيد» الحقيقي في شيء! ولقد صدر حكم الله بالكفر الصريح على من يقولون: المسيح ابن الله. وعلى من يقولون: المسيح هو الله.
وعلى من يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. ولا تجتمع صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة، ولا في قلب. إنما هما أمران مختلفان! والتعقيب القرآني على قول اليهود: «عزير ابن الله» . وقول النصارى: «المسيح ابن الله» يثبت أنهم(3/1639)
في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبل ومعتقداتهم وتصوراتهم:
«ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» ..
فهو أولاً يثبت أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولاً عنهم. ومن ثم يذكر «أفواههم» لاستحضار الصورة الحسية الواقعية- على طريقة القرآن في التصوير- إذ أنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم. فهذه الزيادة ليست لغواً- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وليست إطناباً زائداً، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية فهي التي تستحضر «صورة» القول، وتحيلها واقعية كأنها مسموعة مرئية! وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر- إلى جانب استحياء الصورة وإثباتها- وهو أن هذا القول لا حقيقة له في عالم الواقع إنما هو مجرد قول بالأفواه، ليس وراءه موضوع ولا حقيقة! ثم نجيء إلى ناحية أخرى من الإعجاز القرآني الدال على مصدره الرباني. ذلك قول الله سبحانه:
«يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» .
ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية: إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله.. وهذا صحيح.. ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى. ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق. مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب- وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم «بولس الرسول» أولاً ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً..
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية. وأزوريس يمثل (الأب) وحوريس يمثل (الابن) في هذا الثالوث.
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة «الكلمة هي الإله الثاني» ويدعى أيضاً «ابن الله البكر» .
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله: «برهما» في حالة الخلق والتكوين.
و «فشنو» في حالة الحفظ والقوامة. و «سيفا» في حالة الإهلاك والإبادة.. وفي هذه العقيدة، أن «فشنو» هو (الابن) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في (برهما) ! وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر! وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم. وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات.. إشارة إلى التثليث.. وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل! ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى- التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن- مع هذا النص القرآني: «يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» - كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح- تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، بالدلالة على مصدره، وأنه من لدن عليم خبير..(3/1640)
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك، بقوله تعالى:
«قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» .
و.. نعم.. قاتلهم الله! كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير؟! ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد:
«اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ. وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ..
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة. من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب.. فهم إذن على دين الله.. فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين الله، بشهادة واقعهم- بعد شهادة اعتقادهم- وأنهم أمروا بأن يعبدوا الله وحده، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله- كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً- وأن هذا منهم شرك بالله.. تعالى الله عن شركهم.. فهم إذن ليسوا مؤمنين بالله اعتقاداً وتصورا كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً.
وقبل أن نقول: كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للآية. وهو فصل الخطاب.
الأحبار: جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود.. والرهبان: جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب، ولا يتكلف للمعاش.
وفي «الدر المنثور» .. روى الترمذي (وحسنه) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- قال: أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ في سورة براءة: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه. وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه» .
وفي تفسير ابن كثير: وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير- من طرق- عن عدي بن حاتم- رضي الله عنه- أنه لما بلغته دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقدم عدي المدينة- وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم: فذلك عبادتهم إياهم ... » .(3/1641)
وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً» أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ.
وقال الألوسي في التفسير:
«الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم. بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم» ..
ومن النص القرآني الواضح الدلالة ومن تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو فصل الخطاب، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار.
أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم.. ومع هذا فقد حكم الله- سبحانه- عليهم بالشرك في هذه الآية- وبالكفر في آية تالية في السياق- لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها.. فهذا وحده- دون الاعتقاد والشعائر- يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين.
أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين..
أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته ولا تقديم الشعائر التعبدية له.. كما هو واضح من الفقرة السابقة.. ولكنا إنما نزيدها هنا بياناً! وهذه الحقائق- وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب- هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير «حقيقة الدين» عامة..
إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم ديناً غيره هو «الإسلام» .. والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة- بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده- فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله- مهما كانت دعواهم في الإيمان- لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله..
إن مصطلح «الدين» قد انحسر في نفوس الناس اليوم، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير، وشعائر تعبدية تقام وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم- ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه(3/1642)
وسلم- أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله، وأنهم أشركوا به، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله.
إن المعنى الأول للدين هو الدينونة- أي الخضوع والاستسلام والاتباع- وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر. والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله- دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله- مؤمنين بالله، مسلمين، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر.. وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه الذين يحرصون على تثبيت لافتة «الإسلام» على أوضاع، وعلى أشخاص، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله.. وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله.. «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» ...
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في تحريض المؤمنين على القتال:
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله. وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر- وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر- إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر..
«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» ..
فهم محاربون لنور الله. سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه- كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ.
وهذا التقرير- وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذ ذاك- هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله.
«وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» ..
وهو الوعد الحق من الله، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون..
وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق وعلى الكيد والحرب من الكافرين (والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم) .. كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان! ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيدا:(3/1643)
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» .. هو هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله الأخير. وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال..
وهذا صحيح على أي وجه أوّلنا الآية. فالمقصود إجمالاً بدين الحق هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع- وهذه هي قاعدة دين الله كله، وهو الدين الممثل أخيراً فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- فأيما شخص أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق، ودخلوا في مدلول آية القتال.. مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة كما قلنا مراراً.
«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ..
وهذا توكيد لوعد الله الأول: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. ولكن في صورة أكثر تحديداً. فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمه، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله.
ودين الحق- كما أسلفنا- هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة. وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل.. ولا يدخل فيه طبعاً تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم. كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين، وهي تقيم في الأرض أرباباً يعبدها الناس من دون الله، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها الله.
والله سبحانه يقول: إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.. ويجب أن نفهم «الدين» بمدلوله الواسع الذي بيناه، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه..
إن «الدين» هو «الدينونة» .. فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء..
والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على «الدين» كله بهذا المدلول الشامل العام! إن الدينونة ستكون لله وحده. والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة لله وحده.
ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان. وكان دين الحق أظهر وأغلب وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف وترجف! ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء..
ولكن هذه ليست نهاية المطاف.. إن وعد الله قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي، مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله..(3/1644)
ثم يحطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» التي فسرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأنهم «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم» ..
فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان! يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» ..
وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون الله، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء. فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال:
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان. ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه- بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم- لتلك الخطايا! ومنها الربا- وهو أوسع أبوابها وأبشعها- وغيرها كثير.
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله.
ولا بد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك.
«إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ..» .
للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة. ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير.. ولا يظلم ربك أحداً..
والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل. وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة. وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة! والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة:
«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»
..
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة، ليطيل المشهد في الخيال والحس.. وهي إطالة مقصودة:(3/1645)
«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
ويسكت السياق: وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب..
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال:
«يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ» .
وينتظر السامع عملية الإحماء! ثم ها هي ذي حميت واحمرت. وها هي ذي معدة مهيأة. فليبدأ العذاب الأليم ... ها هي ذي الجباه تكوى ... لقد انتهت عملية الكي في الجباه، فليداروا على الجنوب ... ها هي ذي الجنوب تكوى ... لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور ... ها هي ذي الظهور تكوى ... لقد انتهى هذا اللون من العذاب فليتبعه الترذيل والتأنيب:
«هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» ..
هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة، فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب! «فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» ! ذوقوه بذاته، فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه! ألا إنه لمشهد مفزع مروع، يعرض في تفصيل وتطويل وأناة! وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان.. ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل الله.. والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك! وبعد. فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب. نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك- وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة.
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين الله، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم.. ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية! ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب (ومن يزعمون أنهم على شيء من دين الله من أمثالهم، كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم «مسلمين» ) ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة، نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك. حيث قال الله- سبحانه- للمؤمنين:
«كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» .(3/1646)
«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .
... الخ ... الخ ...
وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة- وأمرهم ظاهر- نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة.. فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق. تستهدف- أول ما تستهدف- تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك «اللافتة» الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية.. مشركين كالمشركين.. كفاراً كالكفار..
محاربين لله ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين.. ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.. في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة:
«قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... الخ» ..
وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة- في السور المكية والمدنية على السواء- عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين الله الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل فضلاً على وقفتهم من رسالة الله الأخيرة، التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان.
فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين الله أصلاً في قوله تعالى:
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.. وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» . (المائدة: 68) .
كذلك سبق وصفهم بالكفر، وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة.. يهوداً ونصارى.. أو مجتمعين في صفة «أهل الكتاب» في مثل قوله تعالى:
«وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ! غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ.(3/1647)
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ... »
... (المائدة: 64) .
«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... » ... (المائدة: 72) «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... » ... (المائدة: 73) «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» .. «البينة: 1» .
وغيرها كثير، أثبتنا بعضه فيما تقدم، والقرآن الكريم- مكيُّه ومدنيّه- حافل بمثل هذه التقريرات.
وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين. وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين، وإجازة التزوج بالمحصنات (أي العفيفات) من نسائهم.. فإن ذلك لم يكن مبنيا على أساس أنهم على شيء من دين الله الحق ولكن كان مراعى فيه- والله أعلم- أن لهم أصلاً من دين وكتاب- وإن كانوا لا يقيمونه- فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له.. أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين، فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين الله بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم! وفي قول الله- سبحانه- فصل الخطاب في هذا الموضوع! والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين..
إن هذه «اللافتة» المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة، تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة «الجاهلية» . فتتحتم- إذن- إزالة هذه اللافتة وتعريتهم من ظلها الخادع وكشفهم على حقيقتهم الواقعة.. ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك- والتي أشرنا إليها من قبل- سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها، وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة! وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب- قبل الإسلام- من هيبة وسمعة ومخافة! .. ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة، عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل.. وهم أهل كتاب!!! وأعداء هذا الدين، الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية، وبتاريخ الحركة الإسلامية، على السواء.. وهم من أجل ذلك حريصون- كل الحرص- على رفع «لافتة إسلامية» على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً. ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة «الجاهلية» الحقيقة القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة! لقد أخطأوا- مضطرين- مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها.. وأقرب مثال لذلك حركة «أتاتورك» اللاإسلامية الكافرة في تركيا.. وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة. ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام «الخلافة» .. وهو- وإن كان مجرد مظهر- كان آخر عروة(3/1648)
تنقض قبل نقض عروة الصلاة! كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ينقض هذا الدين عروة عروة، فأولها الحكم، وآخرها الصلاة» ..
ولكن أولئك الأعداء الواعين- من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة «أتاتورك» حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة «أتاتورك» في وجهتها الدينية، بستار الإسلام ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع- وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة- ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين! والسذج ممن يدعون أنفسهم «مسلمين» يخدعون في هذه اللافتة.. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن «الجاهلية» القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة.. صفة الشرك والكفر الصريحة.. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة! بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين «1» .
هؤلاء السذج- من الدعاة إلى الإسلام- أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين! إن هذا الدين يغلب دائما عند ما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة- في أي زمان وفي أي مكان-. والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة! إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف وإظهارها على حقيقتها.. شركاً وكفراً.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة. بل كيما ينتبه هؤلاء
__________
(1) راجع كتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1649)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم- وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير- عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير الله ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون! وكل تحرج في غير موضعه وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة «أتاتورك» في التاريخ الحديث وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة. نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح.. مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل «ولفرد كانتول سميث» في كتابه: «الإسلام في التاريخ الحديث» إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى، ونفي الإلحاد عنها، واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث «إسلامي» (كذا) في التاريخ الحديث!!!
[سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة.. ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة- تبوك- كان في رجب من الأشهر الحرم. ولكن كانت هناك ملابسة واقعة. وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي! وذلك بسبب «النسيء» الذي ورد ذكره في الآية الثانية- كما سنبين- فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك، إنما كان في ذي القعدة! فكأن رجب كان في جمادى الآخرة.. وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر، ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر! وبيان هذه القضية: أن الله حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع المفرد: رجب.. والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل.. وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم، وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه لارتباطها بموسم الحج الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين، وبخاصة سكان مكة. كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم، والانتقال إليه، والتجارة فيه!(3/1650)
ثم كانت- بعد ذلك- تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر.. وهنا تلعب الأهواء ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل «ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله» .. فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة! كان رجب هو جمادى الآخرة، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة! وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً، ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء! فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء وتبين مخالفته ابتداء لدين الله، الذي يجعل التحليل والتحريم (والتشريع كله) حقاً خالصا لله وتجعل مزاولته من البشر- بغير ما أذن الله- كفرا.. بل زيادة في الكفر.. ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب. وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على الله وحده. وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله، يوم خلق الله السماوات والأرض. فتشريع الله للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس. والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا «1» ..
وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة، من اعتبار أهل الكتاب مشركين، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين. والأمر بقتالهم كافة.. المشركين وأهل الكتاب..
كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة.. الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله كما تقرره من قبل كلمات الله- سبحانه- وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك، لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي.
وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة.. بالإضافة إلى الحقيقة الأولى: وهي أن النسيء زيادة في الكفر.
لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل الله، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه.. هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق الذي يعالج المعوقات دون النفير العام، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب..
«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره الله عليها. وإلى أصل الخلقة. خلقة السماوات والأرض. ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة، مقسمة إلى اثني عشر شهراً. يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة. وأن ذلك في كتاب الله- أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون. فهي ثابتة على نظامها، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة. لأنها تتم
__________
(1) يراجع فصل «شريعة كونية» في كتاب: «معالم في الطريق» «دار الشروق» .(3/1651)
وفق قانون ثابت، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض:
هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها، ليقول: إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله ثابت كثباتها، لا يجوز تحريفه بالهوى، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت، وفق ناموس لا يتخلف:
«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» ..
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل، الذي تقوم به السماوات والأرض، منذ أن خلق الله السماوات والأرض.
وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة.. يتبع بعضها بعضاً، ويمهد بعضها لبعض، ويقوي بعضها بعضاً. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه. ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره، وثبات أسسه، وقدم أصوله.. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة.
«ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» ..
لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض.
ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون.. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام فتخالفوا عن إرادة الله. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض، حين تستحيل كلها جحيماً حربية، لا هدنة فيها ولا سلام.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» ..
ذلك في غير الأشهر الحرم، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة، المنوط بها حفظ الحرمات، ووقف القوة الشريرة المعتدية ويشيع الفساد في الأرض والفوضى في النواميس. فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم، فلا يعتدى عليها ولا تهان.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» ..
قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً، ولا يبقون منكم على جماعة. والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد. وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال. معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل.
لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً. ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينها، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها. وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين- وثنيين وأهل كتاب- إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية، أو معركة وطنية، أو معركة استراتيجية..
كلا. إنها قبل كل شيء معركة العقيدة. والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة.. أي الدين «1» .. وهذه لا تجدي
__________
(1) يراجع فصل: «لا إله إلا الله منهج حياة» في كتاب «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .(3/1652)
فيها أنصاف الحلول. ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات. ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل. سنة الله التي لا تتخلف، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض، وتقوم عليه العقائد والأديان، وتقوم عليه الضمائر والقلوب. في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات الله، وأن يحلوا ما حرم الله، وأن يحرفوا نواميس الله.
فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل. فهو جهاد في سبيل الله يقفون فيه عند حدوده وآدابه ويتوجهون به إلى الله يراقبونه في السر والعلانية. فلهم النصر، لأن الله معهم، ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال.
«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ. يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ..
قال مجاهد- رضي الله عنه-: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول:
أيها الناس: إني لا أعاب ولا أخاب، ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» قال: يعني الأربعة. فيحلوا ما حرم الله تأخير هذا الشهر الحرام.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده فلما كان هو قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم. قال: ننسئه العام. هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.. قال ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم.
هما محرمان..
فهذان قولان في الآية، وصورتان من صور النسيء. في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد، ولكنها ليست هي التي نص عليها الله، بسبب إحلال شهر المحرم. وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما، وحل صفر ضاع في ثانيهما! وهذه كتلك في إحلال ما حرم الله والمخالفة عن شرع الله..
«زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ» ..
ذلك أنه- كما أسلفنا- كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد.
«يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» ..
ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل..
«زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» ..
فإذا هم يرون السوء حسناً، ويرون قبح الانحراف جمالاً، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال.(3/1653)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ..
الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم. فاستحقوا بذلك أن يتركهم الله لما هم فيه من ظلام وضلال.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
هذا المقطع من سياق السورة يرجح أنه نزل بعد الأمر بالنفير العام لغزوة تبوك. ذلك حين بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، وانضمت إليهم لخم وجذام وعاملة وغسان من قبائل العرب. وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء من أعمال الشام. فاستنفر الناس إلى قتال الروم. وكان- صلى الله عليه وسلم- قلما يخرج إلى غزوة إلا ورّى بغيرها مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة. فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الزمان. إذ كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبب إلى الناس المقام.. عندئذ بدأت تظهر في المجتمع المسلم تلك الأعراض التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. كما وجد المنافقون فرصتهم للتخذيل. فقالوا: لا تنفروا في الحر. وخوفوا الناس بعد الشقة، وحذروهم بأس الروم.. وكان لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة.. وهذا ما تعالجه هذه الفقرة..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ. أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا(3/1654)
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ»
..
ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟» ..
إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض.. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه:
«اثاقلتم» «1» . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» .. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق.
إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود:
«أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» .
وما يحجم ذو عقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق» . فالنفاق- وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال- هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله.
وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد:
«إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء..
«وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» ..
__________
(1) هذه قرأة حفص وهي أبلغ تصويرا من القراءات التي ورد فيها: «تثاقلتم» ..(3/1655)
يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله:
«وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً» ..
ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب! «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
لا يعجزه أن يذهب بكم، ويستبدل قوماً غيركم، ويغفلكم من التقدير والحساب! إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة: وإن التثاقل إلى الإرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. فهو فناء في ميزان الله وفي حساب الروح المميزة للأنسان.
ويضرب الله لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء:
«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه فأطلعه الله على ما ائتمرت، وأوحي إليه بالخروج، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة. والسياق يرسم مشهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه:
«إِذْ هُما فِي الْغارِ» .
والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق- رضي الله عنه- يجزع- لا على نفسه ولكن على صاحبه- أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدمية لأبصرنا تحت قدميه.
والرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: «يا أبا بكر ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟» .
ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول- صلى الله عليه وسلم- مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار:
«وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» .
وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة:
«وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» ..
وقد قرئ «وكلمةَ الله» بالنصب. ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير.
فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة. والله «عزيز» لا يذل أولياؤه «حكيم» يقدر النصر في حينه لمن يستحقه.(3/1656)
ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل! وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الآخرة:
«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات.
«ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير، فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح الله عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة الله، وأعزهم بكلمة الله، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح.
قرأ أبو طلحة- رضي الله عنه- سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها.
وروى ابن جرير بإسناده- عن أبي راشد الحراني قال: «وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له قد أعذر الله إليك. فقال: أتت علينا سورة البعوث «1» .
«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا» .
وروى كذلك بإسناده- عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله، خفافاً وثقالاً. ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات الله انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة.
__________
(1) وردت صفات كثيرة لسورة براءة فسميت «الفاضحة» لما فضحته من سرائر المنافقين. ومنها «المنفرة» و «المعبرة» و «المبعثرة» و «المثيرة» و «البعوث» بفتح الباء لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبعثرته وبعثها للمجاهدين. وكذلك المدمدمة والمخزية والمنكلة والمشردة.(3/1657)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 92]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)(3/1658)
من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف. وبخاصة جماعة المنافقين، الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام، بعد أن غلب وظهر، فرأى هؤلاء أن حب السلامة وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف.
وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق القرآني. ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسلفنا:
«لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ» ..
لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك! ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة. ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة. ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة.
وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة:
«لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» ..
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة. كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص. كثيرون تعرفهم البشرية(3/1661)
في كل زمان وفي كل مكان، فما هي قلة عارضة، إنما هي النموذج المكرور. وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص! «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ» ..
فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً. وما يكذب إلا الضعفاء. أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين. فالقوي يواجه والضعيف يداور. وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام..
«يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» ..
بهذا الحلف وبهذا الكذب، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس، والله يعلم الحق، ويكشفه للناس، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران.
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ..
«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» ...
إنه لطف الله برسوله، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب. فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير. وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير.
وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم. فعندئذ تتكشف حقيقتهم، ويسقط عنهم ثوب النفاق، ويظهرون للناس على طبيعتهم، ولا يتوارون خلف إذن الرسول.
وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون.
«لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» .
وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ. فالذين يؤمنون بالله، ويعتقدون بيوم الجزاء، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم الله، طاعة لأمره، ويقيناً بلقائه، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه. وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلاً عن الإذن لهم. إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقاً من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون.
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق! ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج، لديهم وسائله، وعندهم عدته:
«وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً» ..(3/1662)
وقد كان فيهم عبد الله بن أبي سلول، وكان فيهم الجد بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء.
«وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ» ..
لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء.
«فَثَبَّطَهُمْ» ..
ولم يبعث فيهم الهمة للخروج.
«وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» ..
وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو، ولا ينبعثون للجهاد. فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين.
وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين:
«لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ..
والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل. وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين. ولكن الله الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين، كفى المؤمنين الفتنة، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ..
والظالمون هنا معناهم «المشركون» فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين! وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم، وسوء طويتهم، فلقد وقفوا في وجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبذلوا ما في طوقهم، حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه:
«لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ» .
وكان ذلك عند مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه. ثم جاء الحق وانتصرت كلمة الله فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون، وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين.
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ، وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؟ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» .(3/1663)
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، وهو في جهازه (أي لغزوة تبوك) للجد بن قيس أخي بني سلمة: «هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟» (يعني الروم) فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية.
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون. والرد عليهم:
«أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» ..
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون. كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير. وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون.
إنهم لا يريدون بالرسول خيراً ولا بالمسلمين وإنهم ليسوؤهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً:
«إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» ..
وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة:
«وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ» ..
واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو! «وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» ..
بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء.
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم لله، والرضى بقدره، واعتقاد الخير فيه. والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله، وأن الله ناصر له ومعين:
«قُلْ: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
والله قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء، فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله، نصراً عزيزاً لا رخيصاً، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية. والله هو الناصر وهو المعين:
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
والاعتقاد بقدر الله، والتوكل الكامل على الله، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق. فذلك أمر الله الصريح:(3/1664)
«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... » وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله، ومن لا يأخذ بالأسباب، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحداً، ولا تراعي خاطر إنسان! على أن المؤمن أمره كله خير. سواء نال النصر أو نال الشهادة. والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب الله المباشر أو على أيدي المؤمنين:
«قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» ..
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال. النصر الذي تعلو به كلمة الله، فهو جزاؤهم في هذه الأرض، أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله. وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين.. «فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» والعاقبة معروفة.. والعاقبة للمؤمنين.
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد الله عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله:
«قُلْ: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ، إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ. وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى، وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» .
إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير.
والتعبير القرآني الدقيق:
«وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» ..
فهم يأتونها مظهراً بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعاً، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين.
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح.
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنأوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها:
«فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» .(3/1665)
إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير.
كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا. وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب! وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم في كل زمان، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا، وهم- بما علم الله من دخيلتهم- صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير.
والتعبير «وتزهق أنفسهم» يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك. ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة.
وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء! ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف، لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقية، وعن طمع ورهب. ثم يحلفون أنهم من المسلمين، أسلموا اقتناعاً، وآمنوا اعتقاداً.. فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق:
«وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» ..
إنهم جبناء. والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهداً ويجسمه في حركة. حركة النفس والقلب، يبرزها في حركة جسد وعيان:
«لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» ..
فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يحتمون به، ويأمنون فيه. حصناً أو مغارة أو نفقاً. إنهم مذعورون مطاردون.
يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي. ومن هنا:
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ» ..
بكل أدوات التوكيد، ليداروا ما في نفوسهم، وليتقوا انكشاف طويتهم، وليأمنوا على ذواتهم.. وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء. لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب. الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق.
ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين، وما يند منهم من أقوال وأعمال، تكشف عن نواياهم(3/1666)
التي يحاولون سترها، فلا يستطيعون. فمنهم من يلمز النبي- صلى الله عليه وسلم- في توزيع الصدقات، ويتهم عدالته في التوزيع، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم، ومنهم من يقول: هو اذن يستمع لكل قائل، ويصدق كل ما يقال، وهو النبي الفطن البصير، المفكر المدبر الحكيم. ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال. ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين.
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل، فأهلكهم الله بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم. ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون.
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ، وَالْعامِلِينَ عَلَيْها، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
من المنافقين من يغمزك بالقول، ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات، ويدعي أنك تحابي في قسمتها. وهم لا يقولون ذلك غضباً للعدل، ولا حماسة للحق، ولا غيرة على الدين، إنما يقولونه لحساب ذواتهم وأطماعهم، وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم:
«فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا» ولم يبالوا الحق والعدل والدين! «وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» ! وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول الآية، تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم لمزوا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في عدالة التوزيع.
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: بينما النبي- صلى الله عليه وسلم- يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصر التميمي، فقال: أعدل يا رسول الله. فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية ... » قال أبو سعيد، فنزلت فيهم: «ومنهم من يلمزك في الصدقات» .
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «لما قسم النبي- صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فذكرت له ذلك فقال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزل «ومنهم من يلمزك في الصدقات» وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل. فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة في قوله: «ومنهم من يلمزك في الصدقات» يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات.
وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم ذهباً(3/1667)
وفضة، فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي الله- صلى الله عليه وسلم- «ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟» وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين. يقولونها لا غيرة على الدين، ولكن غضباً على حظ أنفسهم، وغيظاً أن لم يكن لهم نصيب.. وهي آية نفاقهم الصريحة، فما يشك في خلق الرسول- صلى الله عليه وسلم- مؤمن بهذا الدين، وهو المعروف حتى قبل الرسالة بأنه الصادق الأمين.
والعدل فرع من أمانات الله التي ناطها بالمؤمنين فضلاً على نبي المؤمنين.. وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل، ولكنها تتحدث عنها في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياها.
وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق اللائق بالمؤمنين الصادقي الإيمان:
«وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» ..
فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان، وأدب الإيمان: الرضا بقسمة الله ورسوله، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب. والاكتفاء بالله، والله كاف عبده. والرجاء في فضل الله ورسوله والرغبة في الله خالصة من كل كسب مادي، ومن كل طمع دنيوي.. ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن. وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين.
وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق الله وحق رسوله، تطوعاً ورضا وإسلاماً، يقرر أن الأمر- مع ذلك- ليس أمر الرسول إنما هو أمر الله وفريضته وقسمته، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين. فهذه الصدقات- أي الزكاة- تؤخذ من الأغنياء فريضة من الله، وترد على الفقراء فريضة من الله.
وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن، وليست متروكة لاختيار أحد، حتى ولا اختيار الرسول:
«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله، ومكانها في النظام الإسلامي، لا تطوعاً ولا تفضلاً ممن فرضت عليهم. فهي فريضة محتمة. ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع. فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة. وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ.. كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول، ولن يقوم! إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل- بكل صنوفه وألوانه- وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه، وأن تمكنه منه بالإعداد له، وبتوفير وسائله، وبضمان الجزاء الأوفى عليه، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح، منفذاً شريعة الله، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه(3/1668)
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي «1» » .
وعن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما. ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب «2» » .
إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام. وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط «3» :
والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال. وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول. وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة. ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين. والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون.
وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة. بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم. فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي. وبعضهم يكون لم يؤد شيئاً في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها. فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي.. وهي قبل هذا وذاك فريضة من الله، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها الله، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء.
«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» .. وقد سبق بيانهما.
«وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» .. أي الذين يقومون على تحصيلها.
«وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» .. وهم طوائف، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه. ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا. ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون.. وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام.. ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك. ندرك هذه الحقيقة، فنرى مظهراً لكمال حكمة الله في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال.
«وَفِي الرِّقابِ» .. ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم. ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق..
وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له، ليحصل على حريته
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(3) يراجع فصل «التكافل الاجتماعي في كتاب: «العدالة الاجتماعية» . وفي كتاب: «دراسات إسلامية» كما يراجع تفسير الجزء الثالث من هذه الظلال: أو آخر سورة البقرة «دار الشروق» .(3/1669)
بمساعدة قسطه من الزكاة. أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال.
«وَالْغارِمِينَ» .. وهم المدينون في غير معصية. يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم، بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجار مهما تكن الأسباب! فالإسلام نظام تكافلي، لا يسقط فيه الشريف، ولا يضيع فيه الأمين، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب! «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة، تحقق كلمة الله.
«وَابْنِ السَّبِيلِ» .. وهو المسافر المنقطع عن ماله، ولو كان غنياً في بلده.
هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان «1» .. هذه هي فريضة اجتماعية، تؤدى في صورة عبادة إسلامية. ذلك ليطهر الله بها القلوب من الشح وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة، تندّي جو الحياة الإنسانية، وتمسح على جراح البشرية وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود. وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه، كما تربط بينه وبين الناس:
«فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، ويدبر أمرها بالحكمة:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .
وبعد بيان قواعد الصدقات، التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم. ذلك البيان الذي يكشف عن جهل الذين يلمزون الرسول- صلى الله عليه وسلم- فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول الأمين. بعد هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين، وما يقولون وما يفعلون:
«وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ. قُلْ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها. ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ. يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ. قُلِ: اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. قُلْ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» ..
إنه سوء الأدب في حق الرسول، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. إنهم يجدون من النبي- صلى الله عليه وسلم- أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته ويهش لهم ويفسح لهم من صدره. فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه، ويصفونه بغير حقيقته، ويقولون عن النبي- صلى الله عليه وسلم- «هو أذن» أي سماع لكل قول، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدقه، ومن دس عليه قولاً قبله.
يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي- صلى الله عليه وسلم- حقيقة أمرهم، أو يفطن إلى نفاقهم: أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون
__________
(1) يراجع كتاب: «السلام العالمي والإسلام» في موضوع الزكاة «دار الشروق» .(3/1670)
المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين. وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية. وكلاهما يدخل في عمومها. وكلاهما يقع من المنافقين.
ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم:
«وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ» ..
نعم.. ولكن:
«قُلْ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» ..
أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم. وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم، ولا يرميكم يخداعكم، ولا يأخذكم بريائكم.
«يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» .
فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم.
«وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
فيطمئن إليهم ويثق بهم، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء.
«وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» ..
يأخذ بيدهم إلى الخير.
«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
من الله غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول الله.
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» ..
يحلفون بالله لكم ليرضوكم، على طريقة المنافقين في كل زمان، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور ثم يجبنون عن المواجهة، ويضعفون عن المصارحة، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم.
«وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» ..
فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي لا يؤمن بالله عادة ولا يعنو له، يعنو لإنسان مثله ويخشاه ولقد كان خيراً أن يعنو لله الذي يتساوى أمامه الجميع، ولا يذل من يخضع له، إنما يذل من يخضع لعباده، ولا يصغر من يخشاه، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله.
«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها، ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ» .. سؤال للتأنيب والتوبيخ، فإنهم ليدعون الإيمان، ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد. فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون، فكيف لا يعلمون؟
إنهم يخشون عباد الله فيحلفون لهم ليرضوهم، ولينفوا ما بلغهم عنهم. فكيف لا يخشون خالق العباد، وهم يؤذون رسوله، ويحاربون دينه. فكأنما يحاربون الله، تعالى الله أن يقصده أحد بحرب! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة، وتخويف من يؤذون رسول الله، ويكيدون لدينه في الخفاء.(3/1671)
وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه، وإنهم ليخشون أن يكشف الله سترهم، وأن يطلع الرسول- صلى الله عليه وسلم- على نواياهم:
«يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ. قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. قُلْ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» ..
إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل الله قرآناً يكشف خبيئتهم، ويتحدث عما في قلوبهم، فينكشف للناس ما يخبئونه. وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات.
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء (يقصدون قراء القرآن) فرفع ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته فقال:
يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟» إلى قوله: «كانوا مجرمين» وإن رجليه لتسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متعلق بسيف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال محمد بن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.. إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير:
والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير:
يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: «بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟
هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- «احبسوا على هؤلاء الركب» فأتاهم فقال: قلتم كذا. قلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون.
إنما كنا نخوض ونلعب.. كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها، وهي ذات صلة وثيقة بأصل العقيدة..
كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب. «قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟» .
لذلك، لعظم الجريمة، يجبههم بأنهم قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إيمانهم الذي أظهروه، وينذرهم(3/1672)
بالعذاب، الذي إن تخلف عن بعضهم لمسارعته إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح، فإنه لن يصرف عن بعضهم الذي ظل على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله، وبعقيدته ودينه:
«بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .
وعند ما يصل السياق إلى هذا الحد في استعراض تلك النماذج من أقوال المنافقين وأعمالهم وتصوراتهم، يعمد إلى تقرير حقيقة المنافقين بصفة عامة، وعرض الصفات الرئيسية التي تميزهم عن المؤمنين الصادقين، وتحديد العذاب الذي ينتظرهم أجمعين:
«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ. نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» .
المنافقون والمنافقات من طينة واحدة، وطبيعة واحدة. المنافقون في كل زمان وفي كل مكان. تختلف أفعالهم وأقوالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد. سوء الطوية ولؤم السريرة، والغمز والدس، والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة. تلك سماتهم الأصيلة. أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس. وهم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لأنهم لا يجرؤون على الجهر إلا حين يأمنون. إنهم «نسوا الله» فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس يذلون لهم ويدارونهم «فنسيهم» الله فلا وزن لهم ولا اعتبار. وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله. وما يحسب الناس حساباً إلا للرجال الأقوياء الصرحاء، الذين يجهرون بآرائهم، ويقفون خلف عقائدهم، ويواجهون الدنيا بأفكارهم، ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار.
أولئك ينسون الناس ليذكروا إله الناس، فلا يخشون في الحق لومة لائم، وأولئك يذكرهم الله فيذكرهم الناس ويحسبون حسابهم.
«إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» ..
فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطريق، وقد وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار:
«وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، هِيَ حَسْبُهُمْ» .
وفيها كفايتهم وهي كفاء إجرامهم.
«وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ» ..
فهم مطرودون من رحمته..
«وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» ..
هذه الطبيعة الفاسقة المنحرفة الضالة، ليست جديدة، ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال. ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز. ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة، بعد ما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض. وكانوا أشد قوة(3/1673)
وأكثر أموالاً وأولاداً فلم يغن عنهم من ذلك كله شيء.
والقرآن يذكر القوم بما كان من أسلافهم، ويبصرهم بأنهم يسلكون طريقهم، ويحذرهم أن يلاقوا مصيرهم. لعلهم يهتدون:
«كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
إنها الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته. وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام:
«أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ..
وبطلت بطلاناً أساسياً، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر.
«وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل.
ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون:
«أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ؟ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء «ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم» ممن ساروا في نفس الطريق؟ «قوم نوح» وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب «وعاد» وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية «وثمود» وقد أخذتهم الصيحة «وقوم إبراهيم» وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم «وأصحاب مدين» وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة «والمؤتفكات» قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين «أتتهم رسلهم بالبينات» فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم:
«فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ؟
إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر. وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحداً من الناس. وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين. عندئذ تحق عليهم كلمة الله، وعندئذ تجري فيهم سنة الله، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون. والله من ورائهم محيط.(3/1674)
إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء، نراها في كل زمان وفي كل مكان.
إلا من رحم الله من عباده المخلصين.
وفي مقابل المنافقين والكفار، يقف المؤمنون الصادقون. طبيعة غير الطبيعة، وسلوكاً غير السلوك، ومصيراً غير المصير:
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة.. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. أن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء..
«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» ..
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر.
«يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» .. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير! «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.
«وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» ..
الصلة التي تربطهم بالله.
«وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» ..
الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.
«وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله. ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله.. وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون(3/1675)
هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم.
«أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» ..
والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة الله في اطمئنان القلب، وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث.
ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله.
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لتقابل من صفات المنافقين: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي.. وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار.. وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية:
«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة الله بين العباد.
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين، وكانت لعنته لهم بالمرصاد، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضئالة والحرمان. فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين:
«جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» ..
للإقامة المطمئنة. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم:
«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم.
«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..
إن لحظة اتصال بالله. لحظة شهود لجلاله. لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة. لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار.
لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع، وكل رجاء.. فكيف برضوان من الله يغمر هذه الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع؟
«ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
وبعد بيان صفة المؤمنين الصادقين وصفة المنافقين الذين يدّعون الإيمان.. يأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين. ويقرر القرآن الكريم أن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بأمر خيبهم الله فيه، وهو من وحي الكفر الذي صاروا إليه. ويعجب من نقمتهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما كان لهم من بعثته إلا الخير والغنى. ويرغبهم في التوبة ويخوفهم التمادي في الكفر والنفاق:(3/1676)
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ. فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
لقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- لاين المنافقين كثيراً، وأغضى عنهم كثيراً، وصفح عنهم كثيراً..
فها هو ذا يبلغ الحلم غايته، وتبلغ السماحة أجلها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة، ويلحقهم بالكافرين في النص، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهاداً عنيفاً غليظاً لا رحمة فيه ولا هوادة.
إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع.. وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله. واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر.
وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين. أتكون بالسيف كما روي عن علي- كرم الله وجهه- واختاره ابن جرير- رحمه الله- أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس- رضي الله عنه- والذي وقع- كما سيجيء- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يقتل المنافقين..
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا. وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» ..
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول- صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.. وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية:
قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي. وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصاري: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:
سمن كلبك يأكلك. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالساً تحت ظل شجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه» .
فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عز وجل: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... الآية» .
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه: أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها. فقال عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم على أن يصله شيء يكره ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى. فأخبر بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنكرها وحلف بالله ما قالها، فأنزل الله الآيات. فقال الرجل قد قلته، وقد عرض الله عليّ التوبة، فأنا أتوب، فقبل منه ذلك..
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة: «وهموا بما لم ينالوا» وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة، من قتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غيلة وهو عائد من تبوك. فنختار إحداها:(3/1677)
قال الإمام أحمد- رحمه الله- حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال:
لما أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذ العقبة «1» ، فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل عمار- رضي الله عنه- يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة «قد. قد» حتى هبط رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ورجع عمار. فقال يا عمار: «هل عرفت القوم؟» فقال:
لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون. قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال:
«أرادوا أن ينفروا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- راحلته فيطرحوه» قال: فسأل عمار رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً.
فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال: فعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم ثلاثة قالوا:
والله ما سمعنا منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم. وسواء كانت هي أو شيء مثلها هو الذي تعنيه الآية، فإنه ليبدو عجيباً أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة. والنص يعجب هنا منهم:
«وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» ..
فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها.. اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون! ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل:
«فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه. فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح.
ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج، فالعاقبة كذلك معروفة: العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض.. ولمن شاء أن يختار، وهو وحده الملوم:
«فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
ثم يمضي السياق في عرض نماذج من المنافقين وأحوالهم وأقوالهم من قبل الغزوة وفي ثناياها.
«وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ، وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» .
من المنافقين من عاهد الله لئن أنعم الله عليه ورزقه، ليبذلن الصدقة، وليصلحن العمل. ولكن هذا العهد
__________
(1) مرتفع في الطريق ضيق.(3/1678)
إنما كان في وقت فقره وعسرته. في وقت الرجاء والطمع. فلما أن استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء الله به.
والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم الله ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من الله أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند الله باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل الله تطوعاً ورضى وتطهراً، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضاً أعظم عند الله.
فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقه أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار.
والذي يعاهد الله ثم يخلف العهد، والذي يكذب على الله فلا يفي بما وعد، لا يسلم قلبه من النفاق:
«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» «1» .
فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على الله نفاقاً دائماً في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية:
«فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» ..
«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» ؟
ألم يعلموا- وهم يدعون الإيمان- أن الله مطلع على السرائر، عالم بما يدور بينهم من أحاديث، يحسبونها سراً بينهم لأنهم يتناجون بها في خفية عن الناس؟ وأن الله يعلم الغيب الخافي المستور، فيعلم حقيقة النوايا في الصدور؟ ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا، ألا يستخفوا عن الله بنية، وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا الله عليه، والكذب عليه في إعطاء العهود.
وقد وردت روايات عن سبب نزول الآيات الثلاث، نذكر منها رواية عن ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معان- بإسناده- عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال: ثم قال مرة أخرى. فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت» قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اللهم ارزق ثعلبة مالاً» قال: فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدود، فضاقت المدينة، فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره، فقال: «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!» وأنزل الله جل ثناؤه: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» .. الآية.. ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين
__________
(1) ورد في الصحيحين.(3/1679)
على الصدقة من المسلمين. رجلاً من جهينة ورجلاً من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين وقال لهما: «مرا بثعلبة وبفلان- رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة.
وأقرآه كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ. وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال: بل فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات. ثم رجعا إلى ثعلبة فقال:
أروني كتابكما فقرأه فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما رآهما قال: «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي. فأنزل الله عز وجل «وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... » الآية. وعند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجل من أقارب ثعلبة فسمع بذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: «إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني» فلما أبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقبض صدقته رجع إلى منزله فقبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يقبل منه شيئاً. ثم أتى أبا بكر- رضي الله عنه- حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى أن يقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولي عمر- رضي الله عنه- أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها.
فلما ولي عثمان- رضي الله عنه- أتاه فقال: اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان..
وسواء كانت هذه الواقعة مصاحبة لنزول الآيات أو كان غيرها، فإن النص عام، وهو يصور حالة عامة، ويرسم نموذجاً مكرراً للنفوس التي لم تستيقن، ولم يبلغ الإيمان فيها أن يتمكن. وإذا كانت الرواية صحيحة في ربط الحادثة بنزول الآيات، فإن علم الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن نقض العهد والكذب على الله قد أورث المخلفين نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، يكون هو الذي منعه من قبول صدقة ثعلبة وتوبته التي ظهر بها، ولم يعامله بالظاهر حسب الشريعة. إنما عامله بعلمه بحاله الذي لا شك فيه، لأنه إخبار من العليم الخبير.
وكان تصرفه- صلى الله عليه وسلم- تصرفاً تأديبياً برد صدقته. مع عدم اعتباره مرتداً فيؤخذ بعقوبة الردة ولا مسلماً فتقبل منه زكاته. ولا يعني هذا إسقاط الزكاة عن المنافقين شريعة. إن الشريعة تأخذ الناس بظاهرهم.
فيما ليس فيه علم يقيني، كالذي كان في هذا الحادث الخاص، فلا يقاس عليه.
غير أن رواية الحادث تكشف لنا كيف كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى الزكاة المفروضة. إنهم كانوا يحتسبونها نعمة عليهم، من يحرم أداءها أو يحرم قبولها منه، فهو الخاسر الذي يستحق الترحم مما أصابه من رفض زكاته! مدركين لحقيقة المعنى الكامن في قوله تعالى:
«خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» ..
فكانت لهم غنماً ينالونه لا غرماً يحملونه. وهذا هو الفارق بين فريضة تؤدى ابتغاء رضوان الله وضريبة تدفع لأن القانون يحتمها ويعاقب عليها الناس!(3/1680)
والآن يعرض السياق لوناً آخر من تصورات المنافقين للزكاة يخالفون به ذلك التصور الحق عند المؤمنين الصادقين ويكشف عن لون من طبيعة الغمز فيهم واللمز، النابعين من طبعهم المنحرف المدخول:
«الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس.
أخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة- بألفاظ مختلفة- قال: حث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجرا له، جاء بأحدهما لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه! وهكذا تقولوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته، وكل على غاية جهده. ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة. لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر. لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثاً ذاتياً، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة. من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وعن المقل! إنه يذكر بنفسه، يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيراً، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل. فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين. ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس، لا ينفقون إلا رياء، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير.
ومن ثم يجبههم الرد الحاسم الجازم:
«سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ويا لهولها سخرية. ويا لهولها عاقبة. فمن شرذمة صغيرة هزيلة من البشر الضعاف الفانين وسخرية الخالق الجبار تنصب عليهم وعذابه يترقبهم؟! ألا إنه للهول المفزع الرهيب! «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
هؤلاء المنافقون الذين يلمزون المتطوعين بالصدقات على هذا النحو، قد تقرر مصيرهم، فما عاد يتبدل:
«فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» ..
لن يجديهم استغفار، فإنه وعدم الاستغفار لهم سواء.
ويبدو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب الله عليهم. فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر، فلا رجعة فيه:(3/1681)
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة. وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح..
«إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» ..
والسبعون تذكر عادة للتكثير، لا على أنها رقم محدد. والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة. والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء. والله أعلم بالقلوب.
وينتقل السياق- مرة أخرى- إلى الحديث عن المتخلفين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك:
«فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقالُوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا. إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ. وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ. وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» ..
هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض. ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة. وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.. هؤلاء المخلفون- والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاً يترك- فرحوا بالسلامة والراحة «خلاف رسول الله» وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال! «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..
«وَقالُوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال.
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز.
وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات. ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال.
والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة:
«وَقالُوا: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» .
فإن كانوا يشفقون من حر الأرض، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال. فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً، وأطول أمداً؟ وإنها لسخرية مريرة، ولكنها كذلك حقيقة. فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حر الأرض، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا الله:
«فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..(3/1682)
وإنه لضحك في هذه الأرض وأيامها المعدودة، وإنه لبكاء في أيام الآخرة الطويلة. وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما يعدون.
«جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
فهو الجزاء من جنس العمل، وهو الجزاء العادل الدقيق.
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد- في ساعة العسرة- وتخلفوا عن الركب في أول مرة. هؤلاء لا يصلحون لكفاح، ولا يُرجون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين:
«فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» ..
إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة. والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء، جناية على الصف كله، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحة المرير..
«فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا» .
لماذا؟.
«إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» ..
ففقدتم حقكم في شرف الخروج، وشرف الانتظام في الكتيبة، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل. فلا سماحة في هذا ولا مجاملة:
«فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» ..
المتجانسين معكم في التخلف والقعود.
هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً. فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق..
وكما أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم:
«وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» .
ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية. ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة.
فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف. ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين.
والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول- صلى الله عليه وسلم- على قبر منافق.. ولكن القاعدة- كما ذكرنا- أوسع(3/1683)
من المناسبة الخاصة. فالصلاة والقيام تكريم. والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد، لتبقى له قيمته، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة، ثم يعودون في الصف مكرمين! لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير:
«وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» ..
والمعنى العام للآية قد سبق في السياق. أما مناسبة ورودها فتختلف. فالمقصود هنا ألا يقام وزن لأموالهم وأولادهم، لأن الأعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم. وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور.
إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون.
«وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، وَقالُوا: ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
إنهما طبيعتان.. طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء. وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء. وإنهما خطتان..
خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون. وخطة الاستقامة والبذل والكرامة.
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل. جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن. دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان، مادام فيها السلامة، وطلاب السلامة لا يحسون العار، فالسلامة هدف الراضين بالدون:
«رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» ..
«وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» ..
ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم.
«إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون «1» » ومن هؤلاء.. أولئك الذين
__________
(1) من فصل ضريبة الذل في كتاب «دراسات إسلامية» . «دار الشروق» . [.....](3/1684)
«رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» ..
«لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» .. وهم طراز آخر غير ذلك الطراز.. «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» ..
فنهضوا بتكاليف العقيدة، وأدوا واجب الإيمان وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» ..
خيرات الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية. وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى، ولهم رضوان الله الكريم «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها» .. «ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
«وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ، وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
فأما الأولون فهم ذوو الأعذار الحقيقية فلهم عذرهم إن استأذنوا في التخلف، وأما الآخرون فقعدوا بلا عذر. قعدوا كاذبين على الله والرسول. وهؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم. أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعل لهم مصيراً غير هذا المصير.
وأخيراً يحدد التبعة. فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون. فالإسلام دين اليسر ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم، لأنهم معذورون:
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة تقعدهم ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به.. ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله، لا يغشون ولا يخدعون، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه- دون القتال- من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين. ليس عليهم جناح، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون، فلا جناح على المحسنين، إنما الجناح على المسيئين.
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة.
فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً، لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- تختلف الروايات في تعيين أسمائهم، ولكنها تنفق على الواقعة الصحيحة.
روى العوفي عن ابن عباس: «وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً: فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه.
وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن من مزينة.(3/1685)
وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف: سالم بن عوف، ومن بني واقف:
حرمي بن عمر، ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى: فضل الله، ومن بني سلمة: عمرو بن عتمة وعبد الله بن عمرو والمزني.
وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلية بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو المزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانوا أهل حاجة: فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك العصبة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر. وإلا فلنسدد ولنقارب والله المستعان.(3/1686)
انتهى الجزء العاشر ويليه الجزء الحادي عشر مبدوءا بقوله تعالى:
«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ»(3/1687)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بقيّة سورة التوبة وسورة يونس الجزء الحادي عشر(3/1689)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يتألف هذا الجزء من بقية سورة التوبة- التي سبق الشطر الأكبر منها في الجزء العاشر- ومن سورة يونس..
وسنمضي أولا مع بقية سورة التوبة: أما سورة يونس فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله.
لقد جاء في الجزء العاشر عن سورة التوبة هذه الفقرات التي تكشف عن طبيعتها وعن الملابسات والظروف التي أحاطت بنزولها وعن أهميتها في بيان العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى وفي بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام أيضا:
«هذه السورة مدنية، من أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه، وكل طبقة من طبقاته ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.
«والسورة- بهذا الاعتبار- ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته- حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها- وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج، وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط هذه الصور والأحكام والقواعد كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤوّل لتطابق تلك الأحكام المرحلية وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى ... » ..
كذلك ذكرنا في تقديم السورة أنها ذات مقاطع- مع وحدة موضوعها وجوها وملابساتها- يتولى كل مقطع بيان الأحكام النهائية في موضوعه.. وقد تناول المقطع الأول منها بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة العربية. كما تناول المقطع الثاني بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين وأهل الكتاب عامة. ثم تولى المقطع الثالث النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز لغزوة تبوك- أي غزو أهل الكتاب المتجمعين على أطراف الجزيرة للانقضاض على الإسلام والمجتمع الإسلامي- كما تولى المقطع الرابع فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف المسلم، وإيذاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخلص من المؤمنين.(3/1691)
يصاحب هذا الكشف تحذير الخلص من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين، وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله ...
وهذه المقاطع الأربعة قد سيقت بجملتها في الجزء العاشر.. إلا بقية في الحديث عن المتخلفين، وعن حدود التبعة في التخلف عن الجهاد..
ولقد كانت آخر آية في الجزء العاشر هي قوله تعالى:
«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ، حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» ..
أما التكملة التي يبدأ بها هذا الجزء فهي قوله تعالى:
«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ. قُلْ لا تَعْتَذِرُوا، لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» ..
وقد كان هذا من إنباء الله- سبحانه- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- عما سيكون من حال المنافقين المتخلفين وأعذارهم إذا رجع من الغزوة سالما هو ومن معه من المسلمين الخلص وتوجيه له ولهم إلى ما يجب أن يجيبوهم به، وما يجب أن يعاملوهم به كذلك.
بعد ذلك يجيئ المقطع الخامس في السورة وهو يتولى تصنيف المجتمع المسلم بجملته في هذه الفترة- من الفتح إلى تبوك- ومنه نعلم- كما قلنا في تقديم السورة- أنه كان إلى جواز السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار- وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية- جماعات أخرى.. الأعراب، وفيهم المخلصون والمنافقون. والمنافقون من أهل المدينة، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي، ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها، متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الإسلام، ويدبرون المكائد، ويتصلون بأعداء الإسلام في الخارج.. والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم وتوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم في مثل هذه النصوص:
«الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ،(3/1692)
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» ..
«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... » .
«وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» ..
وسنحاول أن نتبين من هم المقصودون بكل فئة من هذه الفئات، في ثنايا استعراض النصوص فيما بعد تفصيلا.
فأما المقطع السادس والأخير في السورة، فيتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله سبحانه على الجهاد في سبيله وطبيعة هذا الجهاد وحدوده وكيفيته وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه.. كذلك يتضمن ضرورة المفاضلة الكاملة بين المسلمين ومن عداهم على أساس العقيدة وحدها وإقامة العلاقات بينهم وبين من عداهم على هذه الوشيجة دون سواها بما في ذلك أهلهم وقرابتهم وعشيرتهم.. ثم يتضمن بيانا لمصائر الذين تخلفوا عن الغزوة غير منافقين ولا متآمرين مع ذكر بعض أحوال المنافقين ومواقفهم المميزة لهم تجاه الأوامر القرآنية.. وذلك في مثل هذه النصوص:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ، مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» .
«لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ- مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ- ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
«ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» .(3/1693)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» .
«وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» .
«وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده، والاكتفاء بكفالته سبحانه:
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ..
وسنحاول بعد هذا الاستعراض السريع أن نواجه النصوص القرآنية الباقية في السورة بالتفصيل.. والله المعين..
[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 96]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا يجد لهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة.. من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة.. إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في القعود وهم أغنياء قادرون، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج.. إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور..
هؤلاء هم المؤاخذون بتخلفهم عن الخروج، والاستئذان في القعود، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون، لا يؤدون حق الله عليهم وقد أغناهم وأقدرهم ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم.. ومن ثم يختار الله- سبحانه- لهم هذا الوصف:
«رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» ..(3/1694)
فهو سقوط الهمة، وضعف العزيمة، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد.. وهم معذورون.. فأما أولئك فما هم بمعذورين! «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
فقد أغلق الله فيهم منافذ الشعور والعلم، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة. وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر، وتطبع على القلوب والعقول. والحركة دليل الحياة، ومحرك في الوقت ذاته للحياة.
ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل، وتشد العضل، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة.. وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة.
ويمضي السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف..
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة، سقوط الهمة، وذلة النفس، وانحناء الهامة، والتهرب من المواجهة والمصارحة:
«يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ» ..
وهذا من إنباء الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة. مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة.
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية وهي ضعف الإيمان، وإيثار السلامة، والإشفاق من الجهاد! «قُلْ: لا تَعْتَذِرُوا. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ» ! قل: وفروا عليكم معاذيركم. فلن نطمئن إليكم، ولن نصدقكم، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل. ذلك أن الله قد كشف لنا حقيقتكم، وما تنطوي عليه صدوركم وقص علينا دوافع أعمالكم وحدثنا عن حالكم، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم.
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ» ذو دلالة خاصة.
فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان. تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب، وثقة من المؤمن بربه، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه. وللتعبير القرآني دائماً دلالته وإيحاؤه.
قل: لا تعتذروا. فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام. ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان:
«وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» ..
والله لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيزن قولكم بعملكم. وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم.
ولن ينتهي الأمر- على كل حال- بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا. فوراء ذلك حساب(3/1695)
وجزاء، يقومان على علم الله المطلق بالظواهر والسرائر:
«ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
والغيب ما غاب عن الناس علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه. والله سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى. وبمعنى أشمل وأكبر. فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة..
وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبين: «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. إيماءة مقصودة. فهم يعلمون ما كانوا يعملون. ولكن الله- سبحانه- أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله، والله أعلم به منه! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها، والله يعلمها دون صاحبها! .. والمقصود- بطبيعة الحال- هو نتيجة الإنباء. وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال. ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق.
«سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ- إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ- لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ. فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وهذا إنباء آخر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما سيكون من أمر القوم عند ما يعود إليهم هو والمؤمنون الخلص معه سالمين آمنين. وكان المنافقون قد ظنوا أنهم لا يعودون من لقاء الروم! فقد علم الله وأخبر نبيه أنهم سيؤكدون معاذيرهم بالحلف بالله لعل المسلمين يعرضون عن فعلتهم وتخلفهم عفواً وصفحاً ولا يحاسبونهم عليها ويجازونهم بها.
ثم يوجهه ربه إلى الإعراض عنهم فعلاً، لكن لا بمعنى العفو والصفح إنما بمعنى الإهمال والاجتناب.
معللاً ذلك بأنهم دنس يتجنب ويتوقى:
«فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ» ..
وهو التجسيم الحسي للدنس المعنوي. فهم ليسوا رجساً- أي دنساً- بأجسادهم وذواتهم إنما هم رجس بأرواحهم وأعمالهم. ولكنها الصورة المجسمة أشد بشاعة وأبين قذارة، وأدعى إلى التقزز والاشمئزاز، وإلى الاحتقار كذلك والازدراء! والقاعدون في الجماعة المكافحة- وهم قادرون على الحركة- الذين يقعد بهم إيثار السلامة عن الجهاد..
رجس ودنس. ما في ذلك شك ولا ريب.. رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر كالجثة المنتنة في وسط الأحياء تؤذي وتعدي! «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وهم يحسبون أنهم يكسبون بالتخلف ويربحون بالقعود ويجنون السلامة والراحة ويحتفظون بالعافية والمال.. ولكن الحقيقة أنهم دنس في الدنيا، وأنهم يضيعون نصيبهم في الآخرة. فهي الخسارة المطبقة بكل ألوانها وأشكالها.. ومن أصدق من الله حديثاً؟.
ثم يمضي السياق ينبئ عما سيقع من هؤلاء القاعدين بعد عودة المجاهدين:
«يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ. فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» ..
إنهم يطلبون ابتداء من المسلمين أن يعرضوا عن فعلتهم صفحاً وعفواً. ثم يتدرجون من هذا إلى طلب رضى المسلمين عنهم ليضمنوا السلامة في المجتمع المسلم بهذا الرضى! ويضمنوا أن يظل المسلمون يعاملونهم بظاهر(3/1696)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
إسلامهم كما كانوا يعاملونهم ولا يجاهدونهم ويغلظون عليهم كما أمرهم الله في هذه السورة أن يفعلوا محدداً بذلك العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين فيهم.
ولكن الله سبحانه يقرر أنهم فسقوا عن دين الله بهذا القعود الناشئ عن النفاق وأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين. حتى ولو استطاعوا أن يحلفوا ويعتذروا حتى يرضى عنهم المسلمون! .. وحكم الله فيهم هو الحكم. ورضا الناس- ولو كانوا هم المسلمين- في هذه الحالة لا يغير من غضب الله عليهم، ولا يجديهم فتيلاً. إنما السبيل إلى إرضاء الله هو الرجوع عن هذا الفسق، والعودة إلى دين الله القويم! وهكذا كشف الله هؤلاء القاعدين- من غير عذر- في الجماعة المسلمة وقرر العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين. كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبين المسلمين وأهل الكتاب. وكانت هذه السورة هي الحكم النهائي الأخير.
[سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 110]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)(3/1697)
هذا الدرس بجملته تصنيف للمجتمع الإسلامي في ذلك الحين- إبان غزوة تبوك- يصور طوائفه وطبقاته الإيمانية الداخلة في تركيبه العضوي العام، مع تميز كل منها بصفاته وأعماله.
ولقد فصلنا القول في الجزء العاشر عند تقديم السورة عن الأسباب التاريخية التي أنشأت هذه المستويات الإيمانية المتعددة في الجماعة المسلمة في المدينة. فنجتزئ هنا من ذلك التفصيل بالفقرات الأخيرة منه، لاستحضار الملابسات التي كانت تحيط بوجود هذه المستويات المتعددة في المجتمع الواحد:
... «لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزاً قوياً دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة- فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك- فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها! ... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائياً، فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير.. كان ذلك إيذاناً بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.
«غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر- ولكن على نطاق أوسع- بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير، في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة.. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين(3/1698)
بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر! كما أنه- سبحانه- كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة.. والله أعلم حيث يجعل رسالته..
«وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: «التوبة» : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ..
«وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من «الطلقاء» الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين- مع عشرة الآلاف- سبباً في اختلال التوازن في الصف- بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن- ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
«كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة.. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة «1» » ..
وفي ضوء هذا البيان المجمل نملك المضي مع نصوص هذا الدرس تفصيلاً:
«الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
بدأ بتصنيف الأعراب- وهم البدو- وقد كانت قبائل منهم حول المدينة، وكانت لهم أدوار في الهجوم على دار الإسلام في المدينة- قبل إسلامهم- فلما أسلموا كانوا بوجه عام داخلين في الفئتين اللتين ورد وصفهما في هذه الآيات.
وقد بدأ الحديث عنهما بتقرير قاعدة كلية عن طبيعة الأعراب:
«الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
والتعبير بهذا العموم يعطي وصفاً ثابتاً متعلقاً بالبدو وبالبداوة. فالشأن في البدو أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
والجدارة بعدم العلم بما أنزل الله على رسوله ناشئة من ظروف حياتهم، وما تنشئه في طباعهم من جفوة، ومن بعد عن المعرفة وعن الوقوف عند الحدود، ومن مادية حسية تجعل القيم المادية هي السائدة. وإن كان الإيمان يعدل من هذه الطباع، ويرفع من تلك القيم، ويصلهم بالأفق الوضيء المرتفع على الحسية.
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب.. ومما أورده ابن كثير في التفسير:
__________
(1) يراجع بتوسع الجزء العاشر ص 1570- 1578 وكذلك: ص 1593- 1596.(3/1699)
«قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم «نهاوند» ، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدرك لتريبني! فقال زيد:
وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال! فقال زيد ابن صوحان: صدق الله ورسوله: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» .
«وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن» ..
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى «1» كما قال تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» .
«ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرد عليه أضعافها حتى رضي-، قال: «لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي» لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.
«قال حديث مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو أسامة وابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا:
أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم! قالوا: لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟» ..
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب. حتى بعد الإسلام. فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عند ما يقهرون غيرهم أو بالنفاق والالتواء عند ما يقهرهم غيرهم وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية.
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
عليم بأحوال عباده وصفاتهم وطباعهم. حكيم في توزيع المواهب والخصائص والاستعدادات، وتنويع الأجناس والشعوب والبيئات.
وبعد الوصف الرئيسي العام للأعراب يجيئ التصنيف حسبما أحدث الإيمان في النفوس من تعديلات وما أنشأه كذلك من فروق بين القلوب التي خالطتها بشاشته والقلوب التي بقيت على ما فيها من كفر ونفاق مما يمثل الواقع في المجتمع المسلم حينذاك:
«وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وربما عجل بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم، إلحاقاً لهم بمنافقي المدينة الذين كان يتحدث عنهم في المقطع السالف كله وليتصل جو الحديث عن المنافقين من هؤلاء ومن هؤلاء.
«وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً» ..
__________
(1) القرية هي الحاضرة أو المدينة.(3/1700)
فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة، وفي غزوات المسلمين تظاهراً بالإسلام، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة! وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارهاً، لا مساعدة للغزاة المجاهدين، ولا حباً في انتصار الإسلام والمسلمين.
«وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ» ..
وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين! وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من الله- سبحانه- عليهم ودعاء الله معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم:
«عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» ..
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم وتدور عليهم فلا تدعهم. وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه «1» .
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .
والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم، وتخفيه ظواهرهم.. والله سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون.
وهناك الفريق الآخر ممن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان:
«وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
فهو الإيمان بالله واليوم الآخر باعث الإنفاق عند هذا الفريق، لا الخوف من الناس، ولا الملق للغالبين، ولا حساب الربح والخسارة في دنيا الناس! وهذا الفريق المؤمن بالله واليوم الآخر يبتغي بما ينفق أن يكون قربى من الله ويتطلب صلوات الرسول..
أي دعواته.. الدالة على رضاه صلى الله عليه وسلم، المقبولة عند الله، وهو يدعو بها للمؤمنين بالله واليوم الآخر، المنفقين ابتغاء القربى من الله ورضاه.
لذلك يبادر السياق فيقرر لهم أنها قربى مقبولة عند الله:
«أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ» ..
ويبشرهم بحسن العاقبة وعداً من الله حقاً:
«سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» ..
ويجسم الرحمة كأنها دار يدخلونها فتحتويهم وذلك في مقابل تجسيم «دائرة السوء» على الفريق الآخر، الذي يتخذ ما ينفق مغرماً، ويتربص بالمؤمنين الدوائر.
«إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
يقبل التوبة، ويتقبل النفقة، ويغفر ما كان من ذنب، ويرحم من يبتغون الرحمة..
وبعد تصنيف الأعراب على وجه الإجمال يستطرد السياق في تصنيف المجتمع كله.. حاضره وباديه..
__________
(1) يراجع فصل: «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1701)
إلى أربع طبقات إيمانية: السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. والمنافقين الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن الأعراب. والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. والذين أرجئ الحكم في أمرهم حتى يقضي الله فيهم بقضائه:
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.. «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ. «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؟ وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
والظاهر أن هذا التصنيف قد نزلت به هذه الآيات بعد العودة من تبوك وبعد اعتذار من اعتذر من المنافقين المتخلفين ومن المؤمنين المتخلفين كذلك. سواء منهم من اعتذر صادقاً ومن ربط نفسه بسارية المسجد حتى يحله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن لم يعتذر بشيء راجياً أن يقبل الله توبته بصدقه، وهم الثلاثة الذين خلفوا فلم يحكم في شأنهم بشيء حتى تاب الله عليهم وقبل توبتهم- كما سيجيء- وكان مجموع هؤلاء يمثل صنوف الناس من حول الدعوة في الجزيرة بعد غزوة تبوك. وكان الله- سبحانه- يكشف أرض الحركة كلها وما عليها ومن عليها لرسوله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين الخلص، هذا الكشف النهائي الكامل قرب نهاية المطاف في الجولة الأولى لهذا الدين، في موطنه الأول، قبل أن ينطلق إلى الأرض كلها بإعلانه العام بالعبودية لله وحده والدينونة له وحده، وتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد في شتى الصور والأشكال.
ولا بد للحركة الإسلامية حين تنطلق أن تتكشف لها أرض المعركة، وما عليها ومن عليها، فهذا التكشف ضروري لكل خطوة حتى يعرف أصحاب الحركة مواضع أقدامهم في كل خطوة في الطريق.
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
وهذه الطبقة من المسلمين- بمجموعاتها الثلاث: «السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ. وَالْأَنْصارِ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» - كانت تؤلف القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم في الجزيرة بعد الفتح- كما أسلفنا في الجزء العاشر في تقديم السورة «1» وكانت هي التي تمسك هذا المجتمع كله في كل شدة، وفي كل رخاء كذلك:
فابتلاء الرخاء كثيراً ما يكون أصعب وأخطر من ابتلاء الشدة! والسابقون من المهاجرين نميل نحن إلى اعتبار أنهم هم الذين هاجروا قبل بدر، وكذلك السابقون من
__________
(1) ص 1570- 1578.(3/1702)
الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان- الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعاً إبان غزوة تبوك- فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني- وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر، وهي أشد الفترات طبعاً.
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار. فقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل: هم الذين صلوا للقبلتين. وقيل: هم أهل بدر. وقيل: هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية. وقيل: هم أهل بيعة الرضوان ... ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح.. والله أعلم..
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكوُّن طبقاته الإيمانية، يكون حاضراً بين يدي قارئ هذا الجزء، خيراً من إحالته إلى الجزء السابق لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا:
«لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش- تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: «أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
«لم تكد الجاهلية- ممثلة في قريش أول الأمر- تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة.. وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..
«لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركة قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض..
«وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.
«بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى وكان هذا النوع قليلاً فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
«وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار،(3/1703)
الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.. قال ابن كثير في التفسير: «وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- (يعني ليلة العقبة) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» . قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» . قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل» .
«ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة ويوثقون هذا البيع، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشاً وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة، وبين ظهرانيهم في المدينة» ..
... «فقد كان الأنصار إذن يعلمون- عن يقين واضح- تكاليف هذه البيعة وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا- حتى ولا النصر والغلبة- وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا- مع السابقين من المهاجرين الذين بُنوا هذا البناء وأُعدوا هذا الإعداد- هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة..
«ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون- ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم- أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء: عبد الله بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقاً. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً- ولو لم يكونوا منافقين- ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني، ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
«وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
«وحين نراجع السور المدنية- بترتيب النزول التقريبي- فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع- على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد- وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة.
«ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين- وبخاصة في فترات الشدة- أعراض من الضعف والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.(3/1704)
.. «إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
«وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد..
«نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوته أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة، وتنص عليها ... » .
... «ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركه الإسلامية، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق ...
من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
«إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف- وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة- قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية ... » .
ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك «بإحسان» يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي. وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقى مؤثراً في التاريخ البشري كله، كما نستشرف حقيقة قول الله سبحانه فيهم:
«رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ..
ورضى الله عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه سبحانه، والثقة بقدره، وحسن الظن بقضائه، والشكر على نعمائه، والصبر على ابتلائه..
ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر، المتبادل الوافر، الوارد الصادر، بين الله سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ويرفع من شأن هذه الصفوة- من البشر- حتى ليبادلون ربهم الرضى وهو ربهم الأعلى، وهم عبيده المخلوقون.. وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أن(3/1705)
تعبر عنه ولكن يُتنسم ويُستشرف ويستجلى من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول! ذلك حالهم الدائم مع ربهم: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» . وهناك تنتظرهم علامة هذا الرضى:
«وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» .. «ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ..
وأي فوز بعد هذا وذلك عظيم؟؟؟
ذلك مستوى.. وفي مقابله مستوى:
«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» ..
ولقد سبق الحديث والكشف عن المنافقين عامة- سواء من منافقي المدينة أو منافقي الأعراب- ولكن الحديث هنا عن صنف خاص من المنافقين. صنف حذق النفاق ومرن عليه، ولجّ فيه ومرد، حتى ليخفى أمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كل فراسته وتجربته! فكيف يكون؟
والله سبحانه يقرر أن هذه الفئة من الناس موجودة في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة. ويطمئن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه، من كيد هذه الفئة الخفية الماكرة الماهرة كما ينذر هؤلاء الماكرين المهرة في النفاق بأنه سبحانه لن يدعهم، فسيعذبهم عذاباً مضاعفاً في الدنيا والآخرة:
«لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» ..
والعذاب مرتين في الدنيا، الأقرب في تأويله أنه عذاب القلق النازل بهم من توقع انكشاف أمرهم في المجتمع المسلم وعذاب الموت والملائكة تسألهم أرواحهم وتضرب وجوههم وأدبارهم. أو هو عذاب الحسرات التي تصيبهم بانتصار المسلمين وغلبتهم وعذاب الخوف من انكشاف نفاقهم وتعرضهم للجهاد الغليظ..
والله أعلم بما يريد..
وبين المستويين المتقابلين، مستويان بين بين.. أولهما:
«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ؟ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؟ وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ..» .
وأمر الله لرسوله بإجراء معين مع هذه الطائفة دليل على أنها كانت معينة بأشخاصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر.
وقد روي أن الآيات نزلت في جماعة خاصة معينة فعلاً، ممن تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، ثم أحسوا وطأة الذنب، فاعترفوا بذنوبهم، ورجوا التوبة. فكان منهم التخلف وهو العمل السيئ. وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح.
قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا(3/1706)
عبيد بن سلمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: «وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً» . نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك.
فلما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوته، وكان قريباً من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله، وقالوا: نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله- صلى الله عليه وسلم- يطلقنا ويعذرنا! وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. فقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوته، فمر في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم! فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله- صلى الله عليه وسلم- لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين! فأنزل الله: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» إلى «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» و «عَسَى» من الله واجب.. فأطلقهم نبي الله وعذرهم.
ووردت روايات متعددة أخرى منها: أنها في أبي لبابة وحده لما وقع في غزوة بني قريظة من تنبيههم لما يراد بهم، وأنه الذبح، بالإشارة إلى عنقه! ولكن هذا مستبعد فأين هذه الآيات مما وقع في بني قريظة! كذلك ورد أنها في الأعراب.. وقد عقب ابن جرير على هذه الروايات كلها بقوله:
«وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
«وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» ..
فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترف بذنبه، الموثق نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ» بالاعتراف بذنوبهم جماعة، علم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست بالواحد، فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذ لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعة فعلت ذلك- فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل- إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صح ما قلنا في ذلك، وقلنا: «كان منهم أبو لبابة» لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك» ..
ولما ذكر الله- سبحانه- صفة هذه الجماعة من الناس المتخلفين المعتذرين التائبين عقب عليها بقوله:
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وكما قال ابن جرير: «وعسى من الله واجب» .. فهو رجاء من يملك إجابة الرجاء سبحانه! والاعتراف بالذنب على هذا النحو، والشعور بوطأته، دليل حياة القلب وحساسيته، ومن ثم فالتوبة مرجوة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.. وقد قبل الله توبتهم وغفر لهم..
ثم قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-:
«خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
ولقد كانت تلك الحساسية التي بعثت الندم والتوبة في تلك القلوب، جديرة بالطمأنينة، حقيقة بالعطف الذي يسكب فيها الأمل، ويفتح لها أبواب الرجاء.. وإن كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقود(3/1707)
حركة، ويربي أمة، وينشئ نظاماً، قد رأى الأخذ بالحزم في أمرهم حتى يأتيه أمر من ربه في شأنهم..
قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا لبابة وصاحبيه «1» ، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق بها عنا وصل علينا..
يقولون: استغفر لنا.. وطهرنا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا أخذ منها شيئاً حتى أومر. فأنزل الله: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» . يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت الآية أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جزءاً من أموالهم، فتصدق به عنهم» .
وهكذا منَّ الله عليهم لما علمه سبحانه من حسن سريرتهم، وصدق توبتهم، فأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم، وأن يصلي عليهم- أي يدعو لهم، فالأصل في الصلاة الدعاء- ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها وفي تطوعهم بهذه الصدقات تطهير لهم وتزكية، وفي دعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهم طمأنينة وسكن.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
يسمع الدعاء، ويعلم ما في القلوب. ويقضي بما يسمعه ويعلمه قضاء السميع العليم. وهو وحده الذي يقضي في شأن العباد، فيقبل منهم توبتهم ويأخذ منهم صدقاتهم، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينفذ ما يأمره به ربه، ولا ينشئ شيئاً من هذا من عنده.. وتقريراً لهذه الحقيقة يقول تعالى في الآية التالية:
«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؟» .
وهو استفهام تقريري يفيد: فليعلموا أن الله هو يقبل التوبة والله هو يأخذ الصدقة، والله هو يتوب ويرحم عباده.. وليس شيء من هذا لأحد غيره سبحانه.. «وأن نبي الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه- صلى الله عليه وسلم- وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد. وأن محمداً إنما يفعل ما يفعل من ترك وإطلاق وأخذ صدقة وغير ذلك من أفعاله بأمر الله» ..
كما يقول ابن جرير..
وفي النهاية يتوجه الحديث إلى المتخلفين التائبين:
«وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
ذلك أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة وعمل يصدق العقيدة. فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الظاهر، يراه الله ورسوله والمؤمنون. فأما في الآخرة فمردهم إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور.
__________
(1) في رواية أنهم ثلاثة، وفي رواية أنهم سبعة، وفي رواية أنهم عشرة، وأن ثلاثة منهم لم يربطوا أنفسهم.(3/1708)
إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف. ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة. فيصدق أو يكذب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يكتسحها بعد أن تكون! إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا، ما لم تتحول إلى حركة واقعية. وللنية الطيبة مكانها ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء. إنما هي تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل.
وهذا معنى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات» .. الأعمال.. لا مجرد النيات! والفريق الأخير هو الذي لم يبت في أمره، وقد وكل أمره إلى ربه:
«وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
وهؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك- غير المنافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين- وهذا القسم لم يكن حتى نزول هذه الآية قد بت في أمره بشيء.
وكان أمرهم موكولاً إلى الله، لم يعلموه ولم يعلمه الناس بعد.. وقد روي أن هذه الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا- أي أجل إعلان توبتهم والقضاء في أمرهم- وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال ابن أمية، الذين قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً إلى الدعة واسترواحاً للظلال في حر الهاجرة! ثم كان لهم شأن مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيأتي تفصيله في موضعه من السورة في الدرس التالي.
روى ابن جرير بإسناده- عن ابن عباس- قال: لما نزلت هذه الآية.. يعني قوله: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» .. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم.. يعني أموال أبي لبابة وصاحبيه..
فتصدق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وهم الذين قال الله: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. فجعل الناس يقولون. هلكوا! إذ لم ينزل لهم عذر. وجعل آخرون يقولون:
عسى الله أن يغفر لهم! فصاروا مرجئين لأمر الله، حتى نزلت: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» .. الذين خرجوا معه إلى الشام.. «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. ثم قال: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» - يعني المرجئين لأمر الله- نزلت عليهم التوبة فعموا بها، فقال: «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» ..
إلى قوله: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .. (وكذلك روى- بإسناده- عن عكرمة وعن مجاهد، وعن الضحاك وعن قتادة. وعن ابن إسحاق) . فهذه الرواية أرجح والله أعلم..
ولما كان أمرهم مرجأ، فإننا نحب أن نرجئ الحديث فيه حتى يجيء في موضعه. إن شاء الله تعالى.
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ؟ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .(3/1709)
وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك.
قال ابن كثير في التفسير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب. وكان قد تنصر في الجاهلية. وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرِق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أُحد فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العاقبة للمتقين. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصيب في ذلك اليوم، فجرح وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه- صلوات الله وسلامه عليه- وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله! ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر! وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة.. وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي- صلى الله عليه وسلم- فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويغلبه، ويرده عما هو فيه وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية! فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا- إن شاء الله-» فلما قفل- عليه السلام- راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة.. (وكذلك روى- بإسناده- عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة) .
فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- ألا يقوم فيه، وأن يقوم في المسجد الأول- مسجد قباء- الذي أقيم على التقوى من أول يوم، والذي يضم رجالاً يحبون أن يتطهروا. «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» ..
هذا المسجد- مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر بالله، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة،(3/1710)
الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين..
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق! ... وتتخذ في صور شتى كثيرة..
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها. ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك البيان القوي الصريح:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً، وَكُفْراً، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ. وَلَيَحْلِفُنَّ: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ؟ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
والتعبير القرآني الفريد يرسم هنا صورة حافلة بالحركة، تنبئ عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار وتكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة وتطمئن العاملين المتطهرين من كل كيد يراد بهم، مهما لبس أصحابه مسوح المصلحين:
«أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ؟ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن.. ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر! لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار.. إنه قائم على شفا جرف هار.. قائم على حافة جرف منهار.. قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار.. إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق! .. إنه ينهار! إنه ينزلق! إنه يهوي! إن الهوة تلتهمه! يا للهول! إنها نار جهنم.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. الكافرين المشركين.
الذين بنوا هذه البنية ليكيدوا بها هذا الدين! إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات! .. ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم، في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق! وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار! ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بُناته الأشرار وبناة كل مساجد الضرار:
«لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
لقد انهار الجرف المنهار. انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه. انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته. بقي فيها «ريبة» وشكاً وقلقاً وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر. إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور!(3/1711)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار.. تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية.. وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد. وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار.
وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء..
وتبقى وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه..
لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفي توجيهه، وفي توعيته، وفي إعداده لمهمته الضخمة.. ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال.
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 129]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)(3/1712)
هذا المقطع الأخير من السورة- أو الدرس الأخير فيها- بقية في الأحكام النهائية في طبيعة العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره تبدأ من تحديد العلاقة بين المسلم وربه، وتحديد طبيعة «الإسلام» الذي أعلنه ومن بيان تكاليف هذا الدين، ومنهج الحركة به في مجالاته الكثيرة.
إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين.. الله- سبحانه- فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع.
فهي بيعة مع الله لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله- سبحانه- ودون الجهاد(3/1713)
في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله. فقد باع المؤمن لله في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم، هو الجنة: وهو ثمن لا تعدله السلعة، ولكنه فضل الله ومَنَّه:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
والذين باعوا هذه البيعة، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة.. منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع الله في الشعور والشعائر ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين الله في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود الله في أنفسهم وفي سواهم:
«التَّائِبُونَ، الْعابِدُونَ، الْحامِدُونَ، السَّائِحُونَ، الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .
والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة، وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها- ولو كانوا أولى قربى- فقد اختلفت الوجهتان، واختلف المصيران، فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة، والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم. ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم. وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة، ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم:
«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ..
وولاء المؤمن يجب أن يتمحض لله الذي عقد معه تلك الصفقة وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة- وهذا بيان من الله للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة- وحسب المؤمنين ولاية الله لهم ونصرته فهم بها في غنى عن كل ما عداه، وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل الله أمراً عظيماً، تجاوز الله عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً:
«لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ..
ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أولئك القريبون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية، ومركز الانطلاق الإسلامي واستنكار لما وقع منهم من تخلف مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة:(3/1714)
«ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»
..
ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام. وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد، وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين ويبقى البعض للقيام بحاجات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض، ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف:
«وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ!» .
وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية- بعد ما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه- وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..
وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي.. يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموجبات الإيمان القلبية، وبالتكاليف والواجبات العملية. ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات، ولا تعظهم النذر والابتلاءات:
«وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ. أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ؟ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته. مع توجيهه- صلى الله عليه وسلم- إلى الاعتماد على الله وحده، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون:
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» .
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض- وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال- لتقرير حدود الله والمحافظة عليها أي لتقرير حاكمية الله للعباد، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية! ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات الله وشريعة الله في هذا الزمان وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود(3/1715)
الدفاع الإقليمي عن «أرض الإسلام» ! بينما كلمات الله- سبحانه- تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون «أرض الإسلام» هذه من الكفار دون ذكر لأنهم معتدون! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية الله- سبحانه- بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير الله. وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد! وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير، لنواجه نصوصه بالتفصيل.
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ، الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان.. هذا النص- حين واجهته في «الظلال» أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان! إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله وعن حقيقة البيعة التي أعطوها- بإسلامهم- طوال الحياة. فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان. وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق! حقيقة هذه البيعة- أو هذه المبايعة كما سماها الله كرماً منه وفضلاً وسماحة- أن الله- سبحانه- قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله.
لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة.. والطريق:
هو الجهاد والقتل والقتال.. والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» ..
من بايع على هذا. من أمضى عقد الصفقة. من ارتضى الثمن ووفى. فهو المؤمن.. فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا.. ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها- حتى مع الله- وكرمه فقيده بعقوده وعهوده وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:.. شر البهيمة.. «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ» .. كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.
وإنها لبيعة رهيبة- بلا شك- ولكنها في عنق كل مؤمن- قادر عليها- لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه.
ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» ..(3/1716)
عونك اللهم! فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم «مسلمين» في مشارق الأرض ومغاربها، قاعدون، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد. ولا يقتلون. ولا يقتلون. ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال! ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين- على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- في بيعة العقبة الثانية. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- (يعني ليلة العقبة) -:
اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» . قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» . قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل. «1»
هكذا.. «ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل» .. لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين انتهى أمرها، وأمضى عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: «لا نقيل ولا نستقيل» فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار والجنة: ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من الله؟ أليس الله هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن.
وعداً قديماً في كل كتبه:
«وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» ..
«وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟» .
أجل! ومن أوفى بعهده من الله؟
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن.. كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .. «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» ..
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه. ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! .. بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده. ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في «الأرض» كلها لتحرير «الإنسان» كله. ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً! .. وما دام في «الأرض» كفر. وما دام في «الأرض» باطل. وما دامت في «الأرض» عبودية لغير الله تذل كرامة «الإنسان» فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. وإلا فليس بالإيمان: و «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق» ... (رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي) .
__________
(1) في الرواية: «فنزلت: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» .. ونحن نستبعد أن تكون الآية نزلت يومذاك.
فيومذاك لم يكن قد فرض قتال. وهذه آية مدنية قطعا. ولكنها تنفق مع مضمون تلك البيعة العام.(3/1717)
«فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً، كما وعد الله.. وما الذي فات؟
ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك! ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله. ينتصر- إذا انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه. ويستشهد- إذا استشهد- في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة.
ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة- أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.
إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة وانتصار الإيمان فيه على الألم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة.. فإذا أضيفت إلى ذلك كله.. الجنة.. فهو بيع يدعو إلى الاستبشار وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال:
«فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية:
«وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» ..
فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور.. وهو لا يدع مجالاً للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري- لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه- ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي، يحمي نفسه بالقوة المادية ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد، وتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد. كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد.. ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في «الأرض» لتحقيق إعلانه العام بتحرير «الإنسان» أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية والتي تحاول بدورها- في حتمية لا فكاك منها- أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد! فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل. فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان..
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة.. وهو قليل.. أضيف إليه الكثير! ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين، لنصر إلههم وديانته وعبادته! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله- سبحانه- وتصورهم للجهاد في سبيله.(3/1718)
فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد.. ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها- بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم! - وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ: إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن.. فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال! إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن. كل مؤمن على الإطلاق. منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين الله..
ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال: والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
«التَّائِبُونَ. الْعابِدُونَ. الْحامِدُونَ. السَّائِحُونَ. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ. الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» ..
«التَّائِبُونَ» .. مما أسلفوا، العائدون إلى الله مستغفرين. والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك. فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح.
«الْعابِدُونَ» .. المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية، إقراراً بالربوبية.. صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع. فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية.
«الْحامِدُونَ» .. الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء. في السراء للشكر على ظاهر النعمة، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة. وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه، مهما خفي على العباد إدراكه.
«السَّائِحُونَ» .. وتختلف الروايات فيهم. فمنها ما يقول: إنهم المهاجرون. ومنها ما يقول: إنهم المجاهدون. ومنها ما يقول: إنهم المتنقلون في طلب العلم. ومنهم من يقول: إنهم الصائمون.. ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ! ... » .. فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد. فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله، وإدراك حكمته في خلقه، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق. لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار. ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك..
«الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ» .. الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم.(3/1719)
«الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» .. وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه.. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده، وشريعة الله وحدها هي الحاكمة فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله.. والذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم! «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» .. وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس. ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها.. ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم. ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله.. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه.. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم! هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته. وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح. وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته. وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله. وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك..
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته. قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال.
وليست الحياة لهواً ولعباً. وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة.. إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله.. ثم الجنة والرضوان..
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ... وصدق الله. وصدق رسول الله..(3/1720)
والمؤمنون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في الله بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها- ولو كانوا أولي قربى- بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة:
«ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى - مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر لهم فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم، في غير صلة بالله، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه.. ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً.. أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان.
إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر. ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض.. إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها. أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان «1» :
«وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» .
فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه. فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه، ذلك إذ قال له: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» .. فلما أن مات أبوه على الشرك، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه، «تبرأ منه» وقطع صلته به.
«إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ..
كثير التضرع لله، حليم على من آذاه. ولقد آذاه أبوه فكان حليماً وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعاً.
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية: أنه لا عقوبة بغير نص ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل:
__________
(1) يراجع فصل: «جنسية المسلم عقيدته» في كتاب: «معالم في الطريق» . «دار الشروق» .(3/1721)
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه. وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلاً.. ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء. ومنه البيان والتعليم.
ولقد جعل الله هذا الدين يسراً لا عسراً، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً.
وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً- لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير- ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد. ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه الله. تحقيقاً لرحمة الله بالعباد..
وفي نهاية هذه الآيات، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده. وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة.
«إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة.. كلها بيد الله دون سواه. وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء.
وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله.. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه.. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق.. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضاً..
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين- أياً كانت الأسباب- أمراً مستنكراً عظيماً وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها.. وفي الآيات التالية يبين مدى فضل الله ورحمته بالمؤمنين إذ يتجاوز عما بدا من التردد والتخلف من المؤمنين المخلصين، ويتوب عليهم فيما وقع منهم من أخطاء صغرت أم كبرت.. كذلك يبين عن مصير الثلاثة الذين خلفوا بغير حكم في أمرهم- وهم المرجون لأمر الله الذين سبق ذكرهم- حتى نزل هذا الحكم بعد فترة من الزمان:
«لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
وتوبة الله على النبي- صلى الله عليه وسلم- تفهم بالرجوع إلى ما كان في أحداث الغزوة بجملتها والظاهر أنها متعلقة بما سبق أن قال الله عنه لنبيه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» .. ذلك حين استأذنه جماعة من أولي الطول بأعذار منتحلة فأذن لهم، وقد عفا الله عنه في اجتهاده-(3/1722)
صلى الله عليه وسلم- مع تنبيهه إلى أن الأولى كان هو التريث حتى يتبين الصادقين في أعذارهم من الكاذبين المتمحلين! وتوبته على المهاجرين والأنصار يشير النص الذي بين أيدينا إلى ملابساتها في قوله تعالى: «الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» .. وقد كان بعضهم تثاقل في الخروج ثم لحق بالركب كما سنفصل- وهم من خلص المؤمنين- وبعضهم استمع للمنافقين المرجفين بهول لقاء الروم! ثم ثبت الله قلبه ومضى بعد تردد.
ويحسن أن نستعرض بعض ظروف الغزوة وملابساتها لنعيش في جوها الذي يقرر الله- سبحانه- أنه كان «ساعة العسرة» . ولندرك طبيعة الانفعالات والحركات التي صاحبتها (ونحن نلخص في هذا من السيرة لابن هشام، ومن إمتاع الأسماع للمقريزي، ومن البداية والنهاية لابن كثير، ومن تفسير ابن كثير) :
لما نزل قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ... » أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم (ويلاحظ أن الاشتباك بالروم كان قد سبق نزول هذه الآيات في غزوة مؤتة فهذا الأمر الأخير إنما جاء تقريراً للخطة الدائمة المستقرة في آخر ما نزل من القرآن) وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاء، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال والزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، واخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له (أي يقصد إليه) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
واستأذن بعض المنافقين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في التخلف مخافة الفتنة ببنات الروم! فأذن! وفي هذا نزل عتاب الله لنبيه في الإذن مصدرا بالعفو عنه في اجتهاده: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟» ..
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر- زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: «وقالوا: لا تنفروا في الحر، قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون» .
وبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك فبعث إليهم النبي- صلى الله عليه وسلم- طلحة ابن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا. ثم تاب الضحاك.
ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جد في سفره وأمر الناس بالجهاز والإسراع. وحض أهل الغنى على النفقة وحمل المجاهدين الذين لا يجدون ما يركبون فحمل رجال من أهل الغنى محتسبين عند الله. وكان في مقدمة المنفقين المحتسبين، عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فأنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.. قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض» . وقال عبد الله بن أحمد في مسند أبيه-(3/1723)
بإسناده- عن عبد الرحمن بن حباب السلمي، قال: خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول بيده هكذا يحركها (وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب) : «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» .. (وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن يسار عن أبي داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به.
وقال: غريب من هذا الوجه) . ورواه البيهقي من طريق عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به، وقال: ثلاث مرات وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها..
وأخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة- بألفاظ مختلفة- قال: حث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف (أي درهم) ، فقال يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال:
فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟! وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل (وهو الذي بات يعمل عند يهودي ليحصل على صاعين أجرا له جاء بأحدهما لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-) إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه! ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم البكاءون. وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم «1» ، فاستحملوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (أي طلبوا منه أن يحملهم على ركائب إلى أرض المعركة، وكانوا أهل حاجة. فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» . فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل (من السبعة البكائين) وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قال: جئنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه. فأعطاهما ناضحاً له (أي جملاً يستقي عليه الماء) فارتحلاه. وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد (أحد البكائين) فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.. ثم أصبح مع الناس. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أين المتصدق هذه الليلة؟» فلم يقم أحد! ثم قال: «أين المتصدق؟ فليقم» فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«أبشر، فو الذي نفسي بيده، لقد كتبت لك في الزكاة المتقبلة» ..
ثم خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمن معه وقد قارب عددهم ثلاثين ألفاً من أهل المدينة ومن قبائل
__________
(1) سبق ذكرهم في نهاية الجزء العاشر فيرجع إلى تفصيل الخبر هناك.(3/1724)
الأعراب من حولها. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب ابن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية (وهم الثلاثة الذين سيرد تفصيل قصتهم) وأبو خيثمة وعمير بن وهب الجمحي.. وضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عسكره على «ثنية الوداع» وضرب عبد الله بن أبي- رأس النفاق- عسكره على حدة، أسفل منه، قال ابن إسحاق: (وكانوا فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين) .. ولكن الروايات الأخرى تقول: إن الذين تخلفوا فعلاً دون المائة.. فلما سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سائراً، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه» حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» . وتلوّم أبو ذر على بعيره (أي انتظر عليه) ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ماشيا. ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا ذر» فلما تأمله القوم قالوا:
يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
ثم إن أبا خيثمة رجع- بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً- إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (أي في حديقته) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء. وهيأت له فيه طعاماً. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الضحَّ (أي الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهيئا لي زاداً. ففعلتا. ثم قدم ناضحة فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك.. وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطلب يطلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ففعل. حتى إذا دنا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا خيثمة» . فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أولى لك يا أبا خيثمة! «1» » . ثم أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخبر. فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيرا، ودعا له بخير.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: «مُخشن بن حُمير» (قال ابن هشام: ويقال: مخشى) يشيرون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر
__________
(1) وهي كلمة تقال للوعيد..(3/1725)
(يعنون الروم) كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.. فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- لعمار بن ياسر:
«أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا» . فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها (وهو الحبل يشد على بطن البعير) يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فأنزل الله عز وجل: «ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب.
قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟» وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي! وكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشن بن حمير. فتسمى عبد الرحمن. وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر..
قال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم من تبوك- بعد ما أقام بها بضع عشرة ليلة لم يلق فيها حرباً- هَمَّ جماعة من المنافقين بالفتك به، وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي، وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه.
عمار آخذ بزمام الناقة، وحذيفة يسوقها فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم، فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبصر حذيفة غضبه، فرجع إليهم ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد ظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة، ووقفوا ينتظرون الناس. ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة: «هل عرفت هؤلاء القوم؟» قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم. ثم قال: «علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟» قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالأوا عليه، وسماهم لهما، واستكتمهما ذلك، فقالا: يا رسول الله، أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال:
«أكره أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ..
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- إنما أعلم بأسمائهم حذيفة ابن اليمان وحده. وهذا هو الأشبه، والله أعلم «1» ..
فأما العسرة التي لقيها المسلمون في الغزوة فقد وردت بعض الروايات بشواهد منها.. قال ابن كثير في التفسير:
قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. في غزوة تبوك. وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء..
قال قتادة: خرجوا إلى الشام على تبوك في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، فأصابهم فيها جهد شديد
__________
(1) لم أجد هذا فيما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة.(3/1726)
حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.
وروى ابن جرير- بإسناده- إلى عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده.
وقال ابن جرير في قوله: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» - أي من النفقة والظهر والزاد والماء- «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» - أي عن الحق، ويشك في دين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم- «ثم تاب عليهم» يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
ولعل هذا الاستعراض أن يصور لنا اليوم كيف كانت «العسرة» كما ينقل لنا لمحة من الجو الذي عاشه المجتمع المسلم في تلك الفترة يتجلى فيها تفاوت المقامات الإيمانية من اليقين الجاد عند طائفة. إلى الزلزلة والأرجحة تحت مطارق العسرة عند طائفة. إلى القعود والتخلف- بغير ريبة- عند طائفة. إلى النفاق الناعم عند طائفة. إلى النفاق الفاجر عند طائفة. إلى النفاق المتآمر عند طائفة.. مما يشي أولاً بالحالة العامة للتركيب العضوي للمجتمع في هذه الفترة ويشي ثانياً بمشقة الغزوة- في مواجهة الروم ومع العسرة- هذه المشقة الممحصة. الممتحنة الكاشفة والتي لعل الله سبحانه قد قدرها من أجل التمحيص والكشف والتمييز.
هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم. ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكاً ولا نفاقاً، إنما قعدوا كسلاً واسترواحاً للظلال في المدينة. وهؤلاء جماعتان جماعة قضي في أمرهم من قبل، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واعترفوا بذنوبهم، وجماعة أخرى: «مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، أي تركوا بلا حكم. وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم. وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق..
وقبل أن نقول نحن عن هؤلاء شيئاً في تفسير النص المصور لحالهم وقبل أن نعرض الصورة الفنية المعجزه التي رسمها التعبير لهم ولحالهم، ندع أحدهم يتحدث عما كان.. هو كعب بن مالك- رضي الله عنه-:
أخرج أحمد والبخاري ومسلم من طريق الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله(3/1727)
ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان-.
قال كعب رضي الله عنه: فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصغو، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت. فلم يزل ذلك يتهادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ولم أقض في جهازي شيئاً، فلم يزل يتهادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليت أني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك» ؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيرا.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي.
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم انج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له. وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟» فقلت يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه، وإني لأرجو فيه عقبى من الله. والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك! فقال صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت. وبادرني رجال من بني سلمة وأتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.(3/1728)
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه. فو الله ما رد علي السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى. هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
قال فسكت، قال فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته. قال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب ابن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه:
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرتها.. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربنها. وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. فجاءت امراة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلالاً شيخ ضائع، وليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟
قال «لا، ولكن لا يقربنك» فقالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك! فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما أدري ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب.
قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا. قال: ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر.
فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحوله الناس، فقام إلي طلحة ابن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة.(3/1729)
قال كعب رضي الله عنه: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور:
«أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فو الله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. وأنزل الله: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إلى قوله- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» .
قال كعب: فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه. فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ- إلى قوله- الْفاسِقِينَ» .
هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا- كما رواها أحدهم كعب بن مالك- وفي كل فقرة منها عبرة، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي، ومتانة بنائها، وصفاء عناصرها، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة، ولتكاليف الدعوة، ولقيمة الأوامر، ولضرورة الطاعة.
فهذا كعب بن مالك- وزميلاه- يتخلفون عن ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ساعة العسرة.
يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة، فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب. ولكن كعباً ما يلبث بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يحس ما فعل، يشعره به كل ما حوله: «فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله» - يعني بمن عذر الله الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون.
فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الغزوة البعيدة الشقة.
لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق، وإلا العاجزون الذين عذرهم الله. أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحاً من العسرة، وأصلب عوداً من الشدة..
هذه واحدة.
والثانية هي التقوى. التقوى التي تلجئ المخطئ إلى الصدق والإقرار. والأمر بعد ذلك لله: «فقلت:
يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر. لقد أعطيت جدلا. ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله أن يسخطك علي.
ولئن حدثتك بحديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى من الله. والله ما كان لي عذر. والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك» .
فالله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ. ومع حرصه البالغ على رضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-(3/1730)
وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقاً بالأنظار أو مهملاً لا ينظر إليه إنسان- مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق والرجاء في الله أوثق.
«ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس عن كلامنا. أيها الثلاثة. من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس- أو قال: تغيروا لنا- حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم. فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد. وآتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم عليه في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى. هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت.
قال: فعدت فنشدته فسكت، فعدت فنشدته. قال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار» ..
هكذا كان الضبط، وهكذا كانت الطاعة في الجماعة المسلمة- على الرغم من كل ما وقع من خلخلة بعد الفتح ومن بلبلة في ساعة العسرة-.. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة. فلا مخلوق يفتح فمه بكلمة، ولا مخلوق يلقى كعباً بأنس، ولا مخلوق يأخذ منه أو يعطي. حتى ابن عمه وأحب الناس إليه، وقد تسور عليه داره، لا يرد عليه السلام، ولا يجيبه عن سؤال. فإذا أجاب بعد الإلحاح لم يطمئن لهفته ولم يسكن قلقه، إنما قال: «الله ورسوله أعلم» .
وكعب في لهفته- وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف- يتلمس حركة من بين شفتي الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة، ولم يكتب له الذبول والجفاف! وبينما هو طريد شريد، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة- ولو على سبيل الصدقة- يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه.. ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار، ويعد هذا بقية من البلاء، ويصبر على الابتلاء.
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه. لتدعه فريداً طريداً من الأنس كله، مخلفاً بين الأرض والسماء. فيخجل أن يراجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في امرأته، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب.
هذه صفحة. والصفحة الأخرى هي صفحة البشرى. بشرى القبول. بشرى العودة إلى الصف. بشرى التوبة من الذنب. بشرى البعث والعودة إلى الحياة.. «فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا. قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته:
يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجداً وعرفت أن قد جاء الفرج. فآذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم قِبلي وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاء الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته. والله ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة،(3/1731)
ويقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة» ..
هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوّم في هذه الجماعة. وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة. وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلاً لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه، فهو في يوم كما قال عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قالها- صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور، كما قال كعب، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل الله توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته.
تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب الله عليهم، وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية، وعلى القيم التي كانت تعيش بها.
والقصة كما رواها أحد أصحابها، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية:
«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ..» ..
«ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ» ..
فما الأرض؟ إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها.
فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق.
«وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» ..
فكأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم.
«وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» ..
وليس هناك ملجأ من الله لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات. ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب..
ثم يجيء الفرج.. «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
تاب عليهم من هذا الذنب الخاص، ليتوبوا توبة عامة عن كل ما مضى، ولينيبوا إلى الله إنابة كاملة في كل ما سيأتي. ومصداق هذا في قول كعب: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي إلا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فو الله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني الله تعالى. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.(3/1732)
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا- في ظلال القرآن- مع هذه القصة الموحية ومع التعبير القرآني الفريد فيها. فحسبنا هنا ما وفق الله إليه فيها «1» .
وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين تخلفوا وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعاً أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة، فهم أهلها الأقربون. وهم بها ولها. وهم الذين آووا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبايعوه وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله. وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة..
فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه.. وحين يخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحر أو البرد. في الشدة أو الرخاء. في اليسر أو العسر. ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها، فإنه لا يحق لأهل المدينة، أصحاب الدعوة، ومن حولهم من الأعراب، وهم قريبون من شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا، أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين، الذين لم يتخلفوا، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع.. وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» .
ثم يمضي السياق بعد هذا الهتاف مستنكراً مبدأ التخلف عن رسول الله:
«ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» .
وفي التعبير تأنيب خفي. فما يؤنب أحد يصاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأوجع من أن يقال عنه: إنه يرغب بنفسه عن نفس رسول الله، وهو معه، وهو صاحبه! وإنها لإشارة تلحق أصحاب هذه الدعوة في كل جيل. فما كان لمؤمن أن يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله في سبيل هذه الدعوة وهو يزعم أنه صاحب دعوة وأنه يتأسى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم!
__________
(1) نرجو توفيق الله «في ظلال السيرة» للوقوف طويلا أمام هذه المواقف الموحية في السيرة.(3/1733)
إنه الواجب الذي يوجبه الحياء من رسول الله- فضلاً على الأمر الصادر من الله- ومع هذا فالجزاء عليه ما أسخاه! «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
إنه على الظمأ جزاء، وعلى النصب جزاء، وعلى الجوع جزاء. وعلى كل موطئ قدم يغيظ الكفار جزاء.
وعلى كل نيل من العدو جزاء. يكتب به للمجاهد عمل صالح، ويحسب به من المحسنين الذين لا يضيع لهم الله أجراً.
وإنه على النفقة الصغيرة والكبيرة أجر. وعلى الخطوات لقطع الوادي أجر.. أجر كأحسن ما يعمل المجاهد في الحياة.
ألا والله، إن الله ليجزل لنا العطاء. وإنها والله للسماحة في الأجر والسخاء. وإنه لمما يخجل أن يكون ذلك كله على أقل مما احتمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الشدة واللأواء. في سبيل هذه الدعوة التي نحن فيها خلفاء، وعليها بعده أمناء! ويبدو أن تنزل القرآن في هذه السورة بالنكير على المتخلفين والتنديد بالتخلف وبخاصة من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب قد جعل الناس يتزاحمون في المدينة ليكونوا رهن إشارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبخاصة من القبائل المحيطة بالمدينة. مما اقتضى بيان حدود النفير العام- في الوقت المناسب للبيان من الناحية الواقعية- فقد اتسعت رقعة الأرض الإسلامية حتى كادت الجزيرة كلها تدين للإسلام، وكثر عدد الرجال المستعدين للجهاد، وقد بلغ من عددهم- بعد تخلف المتخلفين في تبوك- نحواً من ثلاثين ألفاً، الأمر الذي لم يتهيأ من قبل في غزوة من غزوات المسلمين. وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة وهي تختلف عن مطالب القبيلة الساذجة، وعن حاجات المجتمع القبلي الأولية.. ونزلت الآية التالية تبين هذه الحدود في جلاء:
«وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» ..
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية، وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم.. والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية: أن المؤمنين لا ينفرون كافة. ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة- على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون- لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة..
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه- وله أصل من تأويل ابن عباس- رضي الله عنهما- ومن تفسير الحسن البصري، واختيار ابن جرير، وقول لابن كثير- أن هذا الدين منهج حركي، لا يفقهه إلا من يتحرك به فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا،(3/1734)
لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ولا فقهوا فقههم ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه.
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن، من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة، هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين! ولكن هذا وهم، لا يتفق مع طبيعة هذا الدين.. إن الحركة هي قوام هذا الدين ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به، ويجاهدون لتقريره في واقع الناس، وتغليبه على الجاهلية، بالحركة العملية.
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب- دراسة باردة! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق! إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة. ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة. والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية «يجددون» بها الفقه الإسلامي أو «يطورونه» - كما يقول المستشرقون من الصليبيين! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد، وردهم إلى العبودية لله وحده، بتحكيم شريعة الله وحدها وطرد شرائع الطواغيت..
هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين! إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية.. فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه. وليس العكس هو الصحيح.. وجدت الدينونة لله وحده، ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه لله وحده.. والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه.. ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة- إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة- وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة لله وحده، واستيحاء شريعته وحدها، تحقيقاً لهذه الدينونة، جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته.. وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية، وبدأ نمو الفقه الإسلامي.. الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه، والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه. ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة، بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة! .. من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين، يجيء فقههم للدين من تحركهم به، ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي، يعيش بهذا الدين، ويجاهد في سبيله، ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة.
فأما اليوم.. «فماذا» ..؟ أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته لله وحده والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد والذي قرر أن تكون شريعة الله شريعته والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد؟
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه، إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو «تجديده» أو «تطويره!» في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش. ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة لله وحده وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا لله، وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة..
إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو «تجديدة» أو(3/1735)
«تطويره» في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته. كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد، يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة، ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة! .. إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع.
إن الدينونة لله وحده أنشأت المجتمع المسلم والمجتمع المسلم أنشأ «الفقه الإسلامي» .. ولا بد من هذا الترتيب.. لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشئ من الدينونة لله وحده، مصمم على تنفيذ شريعته وحدها. ثم بعد ذلك- لا قبله- ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ، وليس «جاهزاً» معداً من قبل! ذلك أن كل حكم فقهي هو- بطبيعته- تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة، ذات حجم معين، وشكل معين، وملابسات معينة. وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة، داخل الإطار الإسلامي لا بعيداً عنه، وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ومن ثم «يفصل» لها حكم مباشر على «قدها» .. فأما تلك الأحكام «الجاهزة» في بطون الكتب فقد «فصلت» من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلاً. ولم تكن وقتها «جاهزة» باردة! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية وعلينا اليوم أن «نفصل» مثلها للحالات الجديدة.. ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير الله في شرائعه وألا يفصل حكماً شرعياً إلا من شريعة الله دون سواها.
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر، اللائق بجدية هذا الدين. وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ويمكن من التفقه في الدين حقاً.. وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين وإلا هروباً من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار «تجديد الفقه الإسلامي» أو «تطويره» ! .. هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين! بعد ذلك ترد آية تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك. وهما الخطة والمدى اللذان سار عليهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فلم تشذ عنها إلا حالات كانت لها مقتضيات واقعة:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
فأما خطة الحركة الجهادية التي تشير إليها الآية في قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» ..
فقد سارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه من يلون «دار الإسلام» ويجاورونها، مرحلة فمرحلة. فلما أسلمت الجزيرة العربية- أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة- كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم. ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس، فلم يتركوا وراءهم جيوباً ووحدت الرقعة الإسلامية، ووصلت حدودها، فإذا هي كتلة ضخمة شاسعة الأرجاء، متماسكة الأطراف.. ثم لم يأتها الوهن فيما بعد إلا من تمزقها، وإقامة الحدود المصطنعة فيما بينها على أساس ملك البيوت، أو على أساس القوميات! وهي خطة عمل أعداء هذا الدين على التمكين لها جهد طاقتهم وما يزالون يعملون. وستظل هذه الشعوب التي جعل منها الإسلام «أمة واحدة» في «دار الإسلام» المتصلة الحدود- وراء فواصل الأجناس واللغات والأنساب والألوان- ستظل ضعيفة مهيضة إلا أن تثوب إلى دينها، وإلى رايته الواحدة وإلا أن تتبع خطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-(3/1736)
وتدرك أسرار القيادة الربانية التي كفلت لها النصر والعز والتمكين.
ونقف مرة أخرى أمام قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
فنجد أمراً بقتال الذين يلون المسلمين من الكفار. لا يذكر فيه أن يكونوا معتدين على المسلمين ولا على ديارهم.. وندرك أن هذا هو الأمر الأخير، الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة المسلمة في المدينة.
ويريد بعض الذين يتحدثون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، وبعض الذين يتعرضون لتفسير آيات الجهاد في القرآن.. أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآني بذاته مطلق، وهو النص الأخير! وقد عودنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام، أن يكون دقيقاً في كل موضع وألا يحيل في موضع على موضع بل يتخير اللفظ المحدد ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص. إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص.
ولقد سبق لنا في تقديم السورة في الجزء العاشر، وفي تقديم آيات القتال مع المشركين والقتال مع أهل الكتاب، أن فصلنا القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على طبيعة المنهج الحركي للإسلام فحسبنا ما ذكرناه هناك «1» .
إلا أن الذين يكتبون اليوم عن العلاقات الدولية في الإسلام، وعن أحكام الجهاد في الإسلام، والذين يتصدون لتفسير الآيات المتضمنة لهذه الأحكام، يتعاظمهم ويهولهم أن تكون هذه هي أحكام الإسلام! وأن يكون الله- سبحانه- قد أمر الذين آمنوا ان يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وأن يظلوا يقاتلون من يلونهم من الكفار، كلما وجد هناك من يلونهم من الكفار! .. يتعاظمهم ويهولهم أن يكون الأمر الإلهي هكذا، فيروحون يتلمسون القيود للنصوص المطلقة ويجدون هذه القيود في النصوص المرحلية السابقة! إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو..
إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في «سبيل الله» .. جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله.. جهاد لتحرير «الإنسان» من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد.. «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» .. وأنه ليس جهاداً لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله. إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم، إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهاداً لإقامة مملكة لعبد، إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض.. ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في «الأرض» كلها، لتحرير «الإنسان» كله. بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها.. فكلها «أرض» يسكنها «الإنسان» وكلها فيها طواغيت تعبد العباد للعباد! وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعاً أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم.. إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! .. لولا أن الأمر ليس كذلك. وليس له
__________
(1) ص 1564- 1583 وص 1586- 1598 وص 1606- 1609 وص 1620- 1630 من الجزء العاشر.(3/1737)
شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية. فليس لواحد منها أن يقول:
إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعاً من ذلة العبودية للعباد ويرفع البشر جميعاً إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك! ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبياً منظماً لئيماً ماكراً خبيثاً يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد! والمسألة على هذا الوضع لا تكون مستساغة.. لولا أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.. إن الإسلام يقوم على قاعدة: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» .. ولكن لماذا ينطلق إذن بالسيف مجاهداً ولماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» ؟ .. إنه لأمر آخر غير الإكراه على العقيدة كان هذا الجهاد.. بل لأمر مناقض تماماً للإكراه على العقيدة.. إنه لضمان حرية الاعتقاد كان هذا الجهاد! .. لأن الإسلام كإعلان عام لتحرير «الإنسان» في «الإرض» من العبودية للعباد يواجه دائماً طواغيت في الأرض يخضعون العباد للعباد. ويواجه دائماً أنظمة تقوم على أساس دينونة العبيد للعبيد تحرس هذه الأنظمة قوة الدولة أو قوة الدولة أو قوة تنظيمية في صورة من الصور وتحول دون الناس في داخلها ودون سماع الدعوة الإسلامية كما تحول دونهم ودون اعتناق العقيدة إذا ارتضتها نفوسهم، أو تفتنهم عنها بشتى الوسائل.. وفي هذا يتمثل انتهاك حرية الاعتقاد بأقبح أشكاله.. ومن هنا ينطلق الإسلام بالسيف ليحطم هذه الأنظمة، ويدمر هذه القوى التي تحميها.. ثم ماذا؟ .. ثم يترك الناس- بعد ذلك- أحراراً حقاً في اختيار العقيدة التي يريدونها. إن شاءوا دخلوا في الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وكانوا إخواناً في الدين للسابقين في الإسلام! وإن شاءوا بقوا على عقائدهم وأدوا الجزية، إعلاناً عن استسلامهم لانطلاق الدعوة الإسلامية بينهم بلا مقاومة ومشاركة منهم في نفقات الدولة المسلمة التي تحميهم من اعتداء الذين لم يستسلموا بعد، وتكفل العاجز منهم والضعيف والمريض كالمسلمين سواء بسواء.
إن الإسلام لم يكره فرداً على تغيير عقيدته كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوباً بأسرها- كشعب الأندلس قديماً وشعب زنجبار حديثاً- لتكرههم على التنصر. وأحياناً لا تقبل منهم حتى التنصر، فتبيدهم لمجرد أنهم مسلمون.. وأحياناً لمجرد أنهم يدينون بمذهب نصراني مخالف لمذهب الكنيسة الرسمية.. وقد ذهب مثلا اثنا عشر ألفاً من نصارى مصر ضحايا بصور بشعة إذ أحرقوا أحياء على نار المشاعل لمجرد مخالفتهم لجزئية اعتقادية عن كنيسة روما تتعلق بانبثاق الروح القدس من الآب فقط، أو من الآب والابن معاً! أو يتعلق بما إذا كان للمسيح طبيعة واحدة لاهوتية، أو طبيعة لاهوتية ناسوتية.. إلى آخر هذه الجزئيات الاعتقادية الجانبية! وأخيراً فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحياً في هذا الزمان وتتعاظمهم لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر.. وهو يهول فعلاً! .. فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها أو قليلة الحيلة عموماً! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعاً بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون(3/1738)
الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً.. ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً! ولكن فات هؤلاء جميعاً أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه. وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يوماً بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة.. وأن الزمان قد استدار اليوم كهيئته يوم بعث الله محمدا- صلى الله عليه وسلم- ليدعو الناس- في جاهليتهم- إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فجاهد والقلة التي معه حتى قامت الدولة المسلمة في المدينة. وأن الأمر بالقتال مر بمراحل وأحكام مترقية حتى انتهى إلى تلك الصورة الأخيرة.. وأن بين الناس اليوم وهذه الصورة أن يبدأوا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول.. ثم يصلوا- يوم أن يصلوا- إلى هذه الصورة الأخيرة بإذن الله.. ويومئذ لن يكونوا هم هذا الغثاء الذي تتقاسمه المذاهب والمناهج والأهواء والذي تتقاسمة الرايات القومية والجنسية والعنصرية. ولكنهم سيكونون العصبة المسلمة الواحدة التي ترفع راية: لا إله إلا الله. ولا ترفع معها راية أخرى ولا شعاراً، ولا تتخذ لها مذهباً ولا منهجاً من صنع العبيد في الأرض إنما تنطلق باسم الله وعلى بركة الله..
إن الناس لا يستطيعون أن يفقهوا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال! إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض ومكافحة ألوهية الطواغيت! إن فقه هذا الدين لا يجوز أن يؤخذ عن القاعدين، الذين يتعاملون مع الكتب والأوراق الباردة! إن فقه هذا الدين فقه حياة وحركة وانطلاق. وحفظ ما في متون الكتب. والتعامل مع النصوص في غير حركة، لا يؤهل لفقه هذا الدين، ولم يكن مؤهلاً له في يوم من الأيام! وأخيراً فإن الظروف التي نزل فيها قول الله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
تشير إلى أن أول المقصودين به كانوا هم الروم.. وهم أهل كتاب.. ولكن لقد سبق في السورة تقرير كفرهم الاعتقادي والعملي، بما في عقيدتهم من انحراف، وبما في واقعهم من تحكيم شرائع العبيد..
وهذه لفتة لا بد من الوقوف عندها لفقه منهج هذا الدين في الحركة تجاه أهل الكتاب، المنحرفين عن كتابهم، المحتكمين إلى شرائع من صنع رجال فيهم! .. وهي قاعدة تشمل كل أهل كتاب يتحاكمون- راضين- إلى شرائع من صنع الرجال وفيهم شريعة الله وكتابه، في أي زمان وفي أي مكان! ثم لقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار وليجدوا فيهم غلظة، وعقب على هذا الأمر بقوله:
«أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
ولهذا التعقيب دلالته.. فالتقوى هنا.. التقوى التي يحب الله أهلها.. هي التقوى التي تنطلق في الأرض تقاتل من يلون المسلمين من الكفار وتقاتلهم في «غلظة» أي بلا هوادة ولا تميع ولا تراجع.. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولكنه ينبغي أن نعرف وأن يعرف الناس جميعاً أنها الغلظة على الذين من شأنهم أن يحاربوا وحدهم- وفي حدود الآداب العامة لهذا الدين- وليست هي الغلظة المطلقة من كل قيد وأدب!(3/1739)
إنه قتال يسبقه إعلان، وتخيير بين: قبول الإسلام، أو أداء الجزية، أو القتال.. ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد- في حالة الخوف من الخيانة- (والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية ولا عهد في غير هذه الحالة إلا أن يكون بالمسلمين ضعف يجعل الحكم المتعين في حالتهم هذه هو الحكم المرحلي الذي كان في حالة تشبه الحالة التي هم فيها) .
وهذه آداب المعركة كلها، من وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«عن بريدة- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً. فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم من الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. وإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم ... » ... (أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي) .
وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان» .. (أخرجه الشيخان) .
وأرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل- رضي الله عنه- إلى أهل اليمن معلماً فكانت وصيته له:
«إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم بأن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .
وأخرج أبو داود- بإسناده- عن رجل من جهينة. أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم» .
وعن العرباض بن سارية قال: «نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر، ومعه من معه من المسلمين. وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا. فأقبل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! لكم أن تذبحوا حمرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟ فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: يا ابن عوف اركب فرسك، ثم ناد: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة. فاجتمعوا، ثم صلى بهم، ثم قام فقال: أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن! ألا وإني قد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر. وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم» .(3/1740)
ورفع إليه- صلى الله عليه وسلم- بعد إحدى المواقع أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين فغضب النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال- ما معناه- إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، أو لستم أبناء المشركين. فإياكم وقتل الأولاد. إياكم وقتل الأولاد.
وهذه التعليمات النبوية هي التي سار عليها الخلفاء بعده:
روى مالك عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه قال: «ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً» وقال زيد بن وهب: أتانا كتاب عمر- رضي الله عنه- وفيه: «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، واتقوا الله في الفلاحين» .
ومن وصاياه! «ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات» .
وهكذا تتواتر الأخبار بالخط العام الواضح لمستوى المنهج الإسلامي في قتاله لأعدائه، وفي آدابه الرفيعة، وفي الرعاية لكرامة الإنسان. وفي قصر القتال على القوى المادية التي تحول بين الناس وبين أن يخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وفي اليسر الذي يعامل به حتى أعداءه. أما الغلظة فهي الخشونة في القتال والشدة وليست هي الوحشية مع الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، غير المحاربين أصلاً وليست تمثيلاً بالجثث والأشلاء على طريقة المتبربرين الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذا الزمان. وقد تضمن الإسلام ما فيه الكفاية من الأوامر لحماية غير المحاربين، ولاحترام بشرية المحاربين. إنما المقصود هو الخشونة التي لا تميع المعركة وهذا الأمر ضروري لقوم أمروا بالرحمة والرأفة في توكيد وتكرار فوجب استثناء حالة الحرب، بقدر ما تقتضي حالة الحرب، دون رغبة في التعذيب والتمثيل والتنكيل.
وقبيل ختام السورة التي تكلمت طويلاً عن المنافقين، تجيء آيات تصور طريقة المنافقين في تلقي آيات الله وفي استقبال تكاليف هذه العقيدة التي يتظاهرون بها كاذبين وإلى جانبها صورة الذين آمنوا وتلقيهم لهذا القرآن الكريم:
«وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ. أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ؟ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
والسؤال في الآية الأولى:
«أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟» ..
سؤال مريب، لا يقوله إلا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه. وإلا لتحدث عن آثارها في نفسه، بدل التساؤل عن غيره. وهو في الوقت ذاته يحمل رائحة التهوين من شأن السورة النازلة والتشكيك في أثرها في القلوب! لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لا راد لما يقول:(3/1741)
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» .
فأما الذين آمنوا فقد أضيفت إلى دلائل الإيمان عندهم دلالة فزادتهم إيماناً وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم خفقة فزادتهم إيماناً وقد استشعروا عناية ربهم بهم في إنزال آياته عليهم فزادتهم إيماناً.. وأما الذين في قلوبهم مرض، الذين في قلوبهم رجس من النفاق، فزادتهم رجساً إلى رجسهم، وماتوا وهم كافرون..
وهو نبأ من الله صادق، وقضاء منه سبحانه محقق.
وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكراً حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء، ولا يردهم الامتحان:
«أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ؟» .
والفتنة كانت تكون بكشف سترهم، أو بنصر المسلمين بدونهم، أو بغيرهما من الصور، وكانت دائمة الوقوع كثيرة التكرار في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون! فأما الصورة الحية أو المشهد المتحرك فترسمه الآية الأخيرة، في شريط متحرك دقيق:
«وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ!» .
وإننا- حين نتلو الآية- لنستحضر مشهد هؤلاء المنافقين وقد نزلت سورة. فإذا بعضهم ينظر إلى بعض ويغمز غمزة المريب:
«هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟» ..
ثم تلوح لهم غرة من المؤمنين وانشغال فإذا هم يتسللون على أطراف الأصابع في حذر:
«ثُمَّ انْصَرَفُوا» ..
تلاحقهم من العين التي لا تغفل ولا تنشغل دعوة قاصمة تناسب فعلتهم المريبة:
«صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ!» ..
صرفها عن الهدى فإنهم يستحقون أن يظلوا في ضلالهم يعمهون:
«بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
عطلوا قلوبهم عن وظيفتها فهم يستحقون! إنه مشهد كامل حافل بالحركة ترسمه بضع كلمات، فإذا هو شاخص للعيون كأنها تراه! وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان، وورد أنهما مدنيتان. ونحن نأخذ بهذا الأخير، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم. آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم. ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق. والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه:(3/1742)
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ..
ولم يقل: جاءكم رسول منكم. ولكن قال: «من أنفسكم» وهي أشد حساسية وأعمق صلة، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به. فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحس.
«عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» ..
يشق عليه عنتكم ومشقتكم.
«حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» ..
لا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي فإذا هو كلفكم الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنما هي الرحمة في صورة من صورها. الرحمة بكم من الذل والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظ رضوان الله، والجنة التي وعد المتقون.
ثم ينتقل الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يعرفه طريقه حين يتولى عنه من يتولى، ويصله بالقوة التي تحميه وتكفيه:
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» .
فإليه تنتهي القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به وحسب من والاه.
إنه ختام سورة القتال والجهاد: الارتكان إلى الله وحده، والاعتماد على الله وحده، واستمداد القوة من الله وحده..
«وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ..
وبعد فإن هذه السورة المحكمة تحتوي بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله- كما بينا في خلال عرضها وتقديمها- ومن ثم ينبغي أن يرجع إلى نصوصها الأخيرة بوصفها الكلمة الأخيرة في تلك العلاقات وأن يرجع إلى أحكامها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة، حسبما تدل عليها نصوص السورة. كما ينبغي ألا تقيد هذه النصوص والأحكام النهائية بنصوص وأحكام وردت من قبل- وهي التي سميناها أحكاماً مرحلية- مستندين في هذه التسمية: أولاً وبالذات إلى ترتيب نزول الآيات.
ومستندين أخيراً إلى سير الأحداث في الحركة الإسلامية، وإدراك طبيعة المنهج الإسلامي في هذه الحركة..
هذه الطبيعة التي بيناها في التقديم للسورة وفي ثناياها كذلك..
وهذا هو المنهج الذي لا يدركه إلا الذين يتحركون بهذا الدين حركة جهادية لتقرير وجوده في واقع الحياة برد الناس إلى ربوبية الله وحده، وإخراجهم من عبادة العباد! إن هنالك مسافة شاسعة بين فقه الحركة، وفقه الأوراق! إن فقه الأوراق يغفل الحركة ومقتضياتها من حسابه، لأنه لا يزاولها ولا يتذوقها! أما فقه الحركة فيرى هذا الدين وهو يواجه الجاهلية، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، وموقفاً وقفا. ويراه وهو يشرع أحكامه في مواجهة الواقع المتحرك، بحيث تجيء مكافئة لهذا الواقع وحاكمة عليه ومتجددة بتجدده كذلك!(3/1743)
وأخيراً فإن تلك الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة إنما جاءت وواقع المجتمع المسلم، وواقع الجاهلية من حوله كذلك، كلاهما يحتم اتخاذ تلك الإجراءات وتنفيذ تلك الأحكام.. فأما حين كان واقع المجتمع المسلم وواقع الجاهلية من حوله يقتضي أحكاماً أخرى.. مرحلية.. فقد جاءت في السور السابقة نصوص وأحكام مرحلية..
وحين يوجد المجتمع المسلم مرة أخرى ويتحرك فإنه يكون في حل من تطبيق الأحكام المرحلية في حينها.
ولكن عليه أن يعلم أنها أحكام مرحلية، وأن عليه أن يجاهد ليصل في النهاية إلى تطبيق الأحكام النهائية التي تحكم العلاقات النهائية بينه وبين سائر المجتمعات..
والله الموفق، والله المعين..(3/1744)
(10) سورة يونس مكيّة وآياتها تسع ومائة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي، بجوه الخاص، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته. بعد ما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني.
والقرآن المكي، ولو أنه قرآن من القرآن، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب، في الموضوع وفي الأداء سواء «1» .. إلا أن له مع ذلك جوه الخاص، ومذاقه المعين، الذي يعينه موضوعه الأساسي (وهو في اختصار: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه، ويتبعوا أمره وشرعه وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته) .. كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع.
وهو أسلوب موح، عميق الإيقاع، بالغ التأثير حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير، من البناء اللفظي، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل، في سورة الأنعام «2» ، والذي سلم به هنا إن شاء الله.
ولقد كان آخر عهدنا- في هذه الظلال- بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف- وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول- ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة- فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهلية بها، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود.. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع،
__________
(1) تراجع المقدمة لهذا التفسير في الجزء الأول بعنوان: «في ظلال القرآن» كما تراجع مقدمة سورة آل عمران في الجزء الثالث.
(2) يراجع تقديم سورة الأنعام في الجزء السابع. وتقديم سورة الأعراف في الثامن. [.....](3/1745)
وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة! .. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا..
ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف! والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة..
والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة، التي تحدد شخصيتها وملامحها.. ونحن لا نملك- في هذا التقديم- إلا تلخيص هذه المحتويات واحدا واحدا في إجمال، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .. «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وتواجه طلبهم خارقة مادية- غير القرآن- واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وأن الآيات في يد الله ومشيئته وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره الله، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله. - وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية-: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً؟ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» .. «وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» .
وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية- الأمر الذي يحدثهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ويطلبون قرآنا غيره، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته- بينما هم سادرون في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة.. فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم، وفي وجودهم هم أنفسهم، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون، وما يتقلب بهم هم من أحوال(3/1746)
وهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله.. وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. «قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ. فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ! فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» .. «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ قُلِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟ قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
«قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً- سُبْحانَهُ- هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا؟ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» .. «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
وتصور لهم حضور الله- سبحانه- وشهوده لكل ما يهم به البشر، وكل ما يزاولون من نية وعمل مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة، كما يملؤه بالحذر واليقظة.. وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .
كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس الله في كل لحظة، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس الله الذي يأتي بغتة: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.(3/1747)
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»
.. «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً! ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» .
وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة، وتكذيبهم بلقاء الله، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء، وفي الآخرة الجزاء.. ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم، وتبرئهم منهم إلى الله، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ. أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً. مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ! فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون..
وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها: «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا؟ قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» .
والسورة تحتشد- في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها- بشتى المؤثرات الموحية، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء. وهي مؤثرات- على عمقها وحيويتها وحركتها- تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها..
وهذه نماذج منها، نلم بها هنا إجمالا، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا:
تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية، الدالة على التدبير الحكيم، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياة(3/1748)
والأحياء، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته.. وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم- سبحانه- أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة! وتجاوبا أعمق من منطق الذهن البارد الجاف وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب.. ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية- في القرآن- بهذه اللغة المفهومة.. وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» ..
«قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» .
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..
«قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير، والتصريف والتسيير.. ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:
«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ! كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ!» ..
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا! قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً، إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين. آنا في صورة الخبر، وآنا في صورة قصص بعض الرسل.
وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم. فلا تغرنهم الحياة الدنيا، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء. أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم!(3/1749)
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا «1» وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ. أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» .. إلى قوله تعالى في نهاية القصة: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ- بَغْياً وَعَدْواً- حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ؟! فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
«فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قُلْ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
وتحتشد بمشاهد القيامة، تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين، عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب. فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين، صفحتي الحياة في الدارين، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت:
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ! فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
«وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ! وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن..
ثم توجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد دعوتهم وتحديهم، إلى تركهم ومصيرهم- وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم- والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم.. والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه، واثق من ربه الذي يتولاه. وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد:
__________
(1) «ظلموا» أي أشركوا كما أشركتم. والشرك أقبح الظلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لقوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .(3/1750)
«وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» ..
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» ..
وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول.
هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء. وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي، وحول هذا القرآن، وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم، ومن تنديد بجاهليتهم، ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح. تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله- سبحانه- هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر المتصرف في كل شيء، القادر على كل شيء- وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد، حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله، ويتخذونهم شفعاء عند الله، ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار! ثم ما ينشأ عن هذا الاضطراب العقيدي من آثار في حياتهم وفي أوله ما كان يزاوله الكهان والرؤساء فيهم من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام وجعل نصيب منها لله ونصيب لآلهتهم المدعاة! وعندئذ كانوا يواجهون حملة القرآن على عقائدهم المهلهلة وجاهليتهم المتناقضة بأن يكذبوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في نبوته والوحي إليه من ربه ويزعمون أنه ساحر! وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل على أن الله أوحى إليه ويفتتنون في طلب هذه الخوارق على ما ورد من ذلك في سورة الإسراء مما حكاه القرآن الكريم عنهم. في مثل قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ! قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي! هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا؟ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟» .. وكما قال تعالى في هذه السورة: «وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ!! فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» ..
كذلك كانوا يطلبون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم بقرآن غير هذا، لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم كي يستجيبوا له ويؤمنوا به! كما قال الله عنهم في هذه السورة: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ(3/1751)
آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» .. وكان الرد على مثل هذا التعسف الساذج: «قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .
نزلت السورة في هذا الجو. وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة، تواجه واقعا متصلا حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة. وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40، 94، 95، 96 مدنية.. فهذه الآيات متشابكة مع السياق، وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا! والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها. فيجيء في المطلع قوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ! إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. ويجيء في الختام: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام. كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام.
كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة. نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد، وتهديدهم بأنه يقع بغتة، حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة.. ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة، مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين.
في الرد عليهم يقول: «وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟! ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» ..
وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد، وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» ..
ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ الله للمكذبين من حيث لا يتوقعون ولا يدرون فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء.
كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول السورة: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى- عليه السلام-: «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» ..
وقد سميت السورة سورة يونس. بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها! إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» .. ولكن قصة يونس- مع هذا- هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم، كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين.(3/1752)
وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها، مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا.
وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة- في هذا التقديم- أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية، وتجلية حقيقتهما، وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس. أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي، وقضية الآخرة، وقضية الرسالات السابقة.. فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم.
والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة. فتعريف الألوهية الحقة وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده..
هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله.. وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها.
وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق- عند التأمل العميق- كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن..
تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا، وأن ينزل بها كتبه جميعا: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ..
إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم، واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم.
لا تستقيم أولا إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه، ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه.. وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء- بل يؤلهون الأشباح والأوهام! - ويعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة، ولكنها بائسة!، ويقدمون لها- بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان- خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم الله. بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان.. وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا.. وتضطرب حياتهم كلها، وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم، عبوديتها لله كعبوديتهم.. وذلك كما قال الله تعالى عنهم: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ- بِزَعْمِهِمْ- وَهذا لِشُرَكائِنا! فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ! ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ- وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ- بِزَعْمِهِمْ- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ! - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ- وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ! سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ- قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ، قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «1» » .
__________
(1) يراجع تفسير هذه الآيات من سورة الأنعام ص 1213- 1228 من الجزء الثامن.(3/1753)
فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد التي تقدم لمخلوقات من خلق الله. أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان! كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم، وفي حياتهم وواقعهم.. إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة، في السر والعلانية ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية..
والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها. فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده- اعتقادا ونظاما- ودانوا لغير الله من العباد- سواء كانت هذه الدينونة، بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع- إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم! والتفسير الإسلامي للتاريخ يرد ذل المحكومين للطواغيت، وسيطرة الطواغيت عليهم، إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين الله، الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية، ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية. فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه: «وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ: يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ! فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ..
فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون. فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية! ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية، التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة! لقد هربت أوربا من الله- في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف! «1» - وثارت على الله- سبحانه- في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم- ومصالحهم كذلك- في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتخبة..
إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان «الرأسمالية» ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبوديه ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم، في معزل عن الله سبحانه!!! ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها «رأس المال» و «الطبقة!» إلى الأنظمة
__________
(1) يراجع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين» . «دار الشروق» .(3/1754)
الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة «الرأسماليين» الدينونة لطبقة «الصعاليك» ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين! وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة! إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده، تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحراراً كراماً شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم.. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية! من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله- سبحانه- وفي كتبه..
وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ. وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد «1» ! ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله- سبحانه- وربوبيته وحده للعباد:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» .
وكان ختام هذه السورة التي نواجهها:
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» ..
وحسبنا هذا في التعريف بالسورة لنأخذ في استعراض نصوصها بالتفصيل:
__________
(1) يراجع كتاب: «الإسلام والجاهلية» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان. وكتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1755)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)(3/1756)
السورة كلها- كما أسلفنا في تقديمها- لحمة واحدة، يصعب تقسيمها إلى مقاطع: شأنها في هذه الخاصية شأن سورة الأنعام التي سبق الحديث عنها في الجزء السابع- مع تميز كل سورة بشخصيتها وطابعها الخاص- فهي تتدفق في هيئة موجات متوالية تنصب بمؤثراتها الموحية على القلب البشري، وتخاطبه بإيقاعات منوعة..
من التعجيب من أمر المشركين في استقبالهم للوحي والقرآن. إلى عرض المشاهد الكونية التي تتجلى فيها ألوهية الله سبحانه.. إلى عرض مشاهد القيامة. إلى عرض أحوال البشر في مواجهة الأحداث التي تمر بهم. إلى عرض مصارع الغابرين.. إلى آخر ما سبقت الإشارة إليه من الموضوعات والمؤثرات التي تحتويها السورة.
وإذا جاز تقسيم السورة إلى مقاطع مميزة. فإن أكثر من نصفها الأول يعد مقطعاً واحداً يتدفق بهذه الموجات المتتابعة. ثم تجيء قصة نوح- ومن بعده في اختصار- وقصة موسى والإشارة إلى قصة يونس فتؤلف مقطعاً آخر. ثم تجيء الإيقاعات الأخيرة في السورة فتؤلف المقطع الأخير.
ونظراً لطبيعة السورة هذه فسنحاول عرضها موجة موجة- أو مجموعة من الموجات المتناسقة- كما هي طبيعتها المتميزة..
أما هذا الدرس الأول منها فيبدأ بحروف ثلاثة. «ألف. لام. را» كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف بحروف ذكرنا الرأي الذي اخترناه في تفسيرها هناك. يبدأ بهذه الأحرف مبتدأ خبره: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» ..
ثم يأخذ السياق في عرض عدة أمور تبدو فيها الحكمة التي أشير إليها في وصف الكتاب. من الوحي إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- لينذر الناس ويبشر المؤمنين، والرد على المعترضين أن يوحي الله إلى بشر..
إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما.. إلى جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وتقدير منازل القمر ليعلموا عدد السنين والحساب.. إلى اختلاف الليل والنهار وما فيه من حكمة وتدبير..
ويتطرق من عرض هذه الآيات الكونية إلى الغافلين عنها، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء، وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم. ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود، وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال.
ومن ثم وصف لطبيعة البشر في تلقيهم للشر والخير. وضراعتهم إلى الله عند مس الأذى، ونسيانهم له عند كشف الضر. ولجاجهم فيما كانوا من قبل فيه، دون اعتبار بالقرون الخالية التي سارت في الطريق ذاته، ولقيت مصارعها في ذلك الطريق! ومع أن مصارع الغابرين كانت واضحة للعرب الذين يدعوهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- فإن المكذبين كانوا يطلبون إلى الرسول أن يأتي لهم بقرآن غير هذا القرآن أو يبدل بعضه. غير متدبرين ولا مدركين أن القرآن من عند الله، وأن له حكمة ثابتة فهو لا يقبل التبديل. وهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم دون استناد إلى شيء، ويتركون عبادة الله وحده وهي تستند إلى وحي من الله. ثم يطلبون خارقة من الخوارق غير ناظرين إلى آية الله الواضحة في القرآن، غافلين عن آياته المعجزة في تضاعيف الكون.
ثم عودة إلى طبيعة البشر في تلقي الرحمة والضر. وعرض نموذج حي من هذه الطبيعة، في مشهد من المشاهد(3/1758)
النابضة المتحركة المؤثرة. في ركوب البحر عند ما تسير الفلك في أول الأمر رخاء، ثم تعصف بها الريح ويأتيها الموج من كل مكان.
ومشهد آخر يمثل غرور هذه الحياة الدنيا، وبريقها ولألاءها الذي ينطفئ في لحظة، وأهلها مأخوذون بزخرفها غافلون عن المصير الخاطف المرهوب.. ذلك والله يدعو إلى دار السلام. دار الأمن والاطمئنان.
الدار التي لا خوف من أخذها على حين غرة.. «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. ويدركون حكمة الله في الخلق والتدبير.
«ألر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» ..
من هذه الحروف وأمثالها، تتألف آيات الكتاب الحكيم، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به إلى الرسول. وهذه الحروف في متناول أيديهم، ثم لا يبلغون أن يؤلفوا منها آية واحدة من مثل آيات الكتاب- كما يتحداهم في هذه السورة- ولا يقودهم هذا إلى التدبر، وإدراك أن الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول، وأنه لولا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزاً عن تأليف آية واحدة، من هذه الحروف المبذولة للجميع.
«تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» ..
الحكيم الذي يخاطب البشر بما يناسب طبائع البشر، ويعرض في هذه السورة جوانب منها صادقة باقية، نجد مصداقها في كل جيل.
والحكيم الذي ينبه الغافلين إلى تدبر آيات الله في صفحة الكون وتضاعيفه. في السماء والأرض. وفي الشمس والقمر. وفي الليل والنهار.. وفي مصارع القرون الأولى. وفي قصص الرسل فيهم.. وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود..
«أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قالَ الْكافِرُونَ. إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» :
سؤال استنكاري. يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل.
لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول: أبعث الله بشراً رسولاً؟ ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة «الإنسان» . عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة «الإنسان» الذي يتمثل فيهم. فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله، وأن يتصل الله به- عن طريق الوحي- فيكلفه هداية الناس. إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكاً أو خلقاً آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله. غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق ومن تكريمه أن يكون أهلاً لحمل رسالته وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص.
هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشبهة أمثالهم في القرون الأولى.
فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتاً عن تلك! إنهم يسألون: كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق.
والذي ليس كمثله شيء؟(3/1759)
وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علماً بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية، كما أحاط علماً بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه. وهو مالا يدعيه أحد يحترم عقله، ويعرف حدود هذا العقل. بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد، ولم يقف العلم بعد حتى يقال: إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك. فضلاً على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائماً آفاق من المجهول بعد آفاق! ففي الإنسان إذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله. والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة. وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة. ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية، وكل بنية، وكل مخلوق وقادر على أن يطوع لإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها.
ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب. ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه. فللعلم ميدان. هو الميدان الذي يملك أدواته. وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها. والعلم لم يدع أنه يعرف شيئاً حقيقياً عن الروح. فهي ليست داخلة في نطاق عمله، لأنها ليست شيئاً قابلاً للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله. لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح. أما ما يسمى «بالعلوم الروحانية» فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك «1» ! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاءنا من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس. إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية.
والعقل هنا في غير ميدانه، وليس معه أدواته. لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان.
«أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟» .
فهذه خلاصة الوحي: إنذار الناس بعاقبة المخالفة، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة. وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب. فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال.
والإنذار للناس جميعاً. فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير: والبشرى للذين آمنوا وحدهم.
وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار.. تلك المعاني التي توحي بها كلمة (صدق) مضافة إلى القدم.
في جو الإنذار والتخويف.. «قدم صدق» .. قدم ثابتة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف، وفي ساعات الحرج.. «قدم صدق عند ربهم» .. في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة. حينما تتزلزل القلوب والأقدام.
وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم. رجل يعرفهم ويعرفونه، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج. أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائماً كلما غم عليه الأمر، وأحاطت به الشبهات، وجذبته التيارات والشهوات، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحياناً من النقيض إلى النقيض. هو في حاجة
__________
(1) راجع الكراسة التي كتبها الدكتور محمد محمد حسين بعنوان: «الروحية الحديثة: حقيقتها وأهدافها» ..(3/1760)
إلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه، وينزل على إرشاده، ويرجع إلى الصواب على هداه.
وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله.
وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها فيعرضها على هذا الميزان الثابت، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها.. والقول بأن دين الله هو دائماً «مفهوم البشر لدين الله» وأنه من ثم «متطور في أصوله» يعرّض هذه القاعدة الأساسية في دين الله- وهي ثبات حقيقته وميزانه- لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية. بحيث لا يبقى هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية..
والمسافة قصيرة بين هذا القول، والقول بأن الدين من صنع البشر.. فالنتيجة النهائية واحدة، والمزلق خطر وخطير للغاية، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد.. منه ومن نتائجة القريبة والبعيدة..
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمراً عجيباً:
«قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» ..
ساحر لأن ما ينطق به معجز. وأولى لهم- لو كانوا يتدبرون- أن يقولوا: نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز. فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راقٍ، وما يرتكز عليه نظام متفرد..
ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها.
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .
وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة. قضية الربوبية.. فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين. فهم كانوا يعتقدون بوجود الله- لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف- ولكنهم كانوا يشركون مع الله أرباباً يتوجهون إليهم بالعبادة. إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله.
والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية- كالذي جدَّ فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية- إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر:
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وجعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل.
وقدر اختلاف الليل والنهار.. هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها(3/1761)
تدبر الواعي المدرك.. إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه.. أليست قضية منطقية حية واقعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟! إن هذا الكون الهائل. سماواته وأرضه. شمسه وقمره. ليله ونهاره. وما في السماوات والأرض من خلق، ومن أمم ومن سنن، ومن نبات ومن طير ومن حيوان، كلها تجري على تلك السنن..
إن هذا الليل الطامي السادل الشامل، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح. وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي. وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء. وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائي ساكنة وهي تدب في لطف. وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال. وهذا النبت النامي المتطلع أبداً إلى النمو والحياة. وهذه الخلائق الذاهبة الآئبة في تدافع وانطلاق.
وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله ...
إن هذا الحشد من الصور والظلال، والأنماط والأشكال، والحركات والأحوال، والرواح والذهاب، والبلى والتجدد، والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار..
إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر، حين يستيقظ القلب، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه.. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات.
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ..
إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق، الذي خلق السماوات والأرض. خلقها في تقدير وحكمة وتدبير:
«فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» .
حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله.
ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة. فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها. إنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية..
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر. فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه. والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام، الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ..
والاستواء على العرش. كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني، على طريقة القرآن في التصوير (كما فصلنا هذا في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن) .
و «ثم» هنا ليست للتراخي الزماني، إنما هي للبعد المعنوي. فالزمان في هذا المقام لا ظل له. وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله- سبحانه- ثم كانت. فهو- سبحانه- منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان(3/1762)
والمكان. لذلك نجزم بأن «ثم» هنا للبعد المعنوي، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم. لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات، وعن مقتضيات الزمان والمكان.
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ..
ويقدر أوائله وأواخره، وينسق أحواله ومقتضياته، ويرتب مقدماته ونتائجه، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره.
«ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» ..
فالأمر كله له، والحكم كله إليه. وما من شفعاء يقربون إلى الله زلفى. وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة، وفقاً لتدبيره وتقديره، واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح، لا بمجرد التوسل بالشفعاء.. وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله! ذلكم الله الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» .. الخليق بالربوبية «فَاعْبُدُوهُ» فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه.. «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟ .. فالأمز من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة..
ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» ..
وقد قلنا: إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين، فقد كانوا يعترفون بأن الله- سبحانه- هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء.. ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته. فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم.. والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.. وهذا معنى قوله تعالى:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ» ..
فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية.
وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية.. أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه..
كذلك ينحسر معنى «العبادة» في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده، فقد عبدوا الله وحده.. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. و «عبد» تفيد ابتداء «دان وخضع» . وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها.
والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، ومعنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله! كما هو الحال(3/1763)
اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر لله، بينما أربابهم غير الله، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- « ... فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» . في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي.
ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى: «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا. قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟» ..
وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. أَفَلا تَذَكَّرُونَ!» ..
اعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. فإن مرجعكم إليه، وحسابكم عنده، وهو يجزي المؤمنين والكافرين:
«إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» ..
إليه وحده لا للشركاء والشفعاء.
وقد وعد فلا خلف ولا تخلف، فالبعث هو تتمة الخلق:
«إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة:
«لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ ... » .
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة. إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية. والبشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة، أو من عقابيل تعقبها- إلا لذائذ الروح الخالصة وهذه قلما تخلص لبشر- ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصاً منها وحائلاً دون كمالها. فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء.. وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل. فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم، إلى أعلى مراتب البشرية.
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه. وهذا يقتضي- حسب السنة التي لا تتخلف- ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال، لأنهم جانبوا قانون الكمال وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية. هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ- في مقابل اللذائذ بلا غصص «1» .
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده، الذي إليه المرجع وعنده
__________
(1) هذه اللفتة في تفسير المنار للسيد رشيد رضا رحمه الله..(3/1764)
الجزاء.. يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ. يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون، ننساهما لطول الألفة، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار.
وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي، والتأمل الذي لم يبلده التكرار، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم:
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً» ..
فيها اشتعال.
«وَالْقَمَرَ نُوراً» ..
فيه إنارة.
«وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» ..
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون.
«لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» ..
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس.
هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟
كلا ما يكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة. ما يكون هذا كله عبثاً ولا باطلاً ولا مصادفة عابرة:
«ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» ..
الحق قوامه. والحق أداته. والحق غايته. والحق ثابت راجح راسخ. وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة:
«يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.
ومن خلق السماوات والأرض، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب:
«إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» ..
واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. ويشمل كذلك اختلافهما طولاً وقصراً. وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس. إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس، وينتفض فيها الوجدان(3/1765)
للمطالع والمغارب، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب. وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الأستقبال والاستجابة..
«وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ..
ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب «ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال. لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.. ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة، ثم يتركه ليتملاه..
إن في ذلك كله:
«لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» ..
تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص. وجدان التقوى. الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع.
هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة! ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة ولا تؤدي إلى بناء حياة وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء! ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني- بأسلوبه هذا- هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً- وهذه ميزتها- فإن وجود هذا الكون ذاته أولاً. ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر- حتى قبل أن يعرفها البشر- ثانياً.. إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة..
والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلاً معقولاً. ولا يزيدون على أن يقولوا: إن الكون وجد هكذا بقوانينه وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل ووجوده يتضمن قوانينه! فإن كان هذا كلاماً مفهوماً- أو معقولاً- فذاك! ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله! ثم أصبح يقال هنا وهناك، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله. ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله. ثم يماري في ربوبيته، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة. فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته. ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع.. فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء!(3/1766)
ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى «إسلامية» يروَّج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم «العلم» و «العلمية» ! فيقال: إن «الغيبية» لا مكان لها في الأنظمة «العلمية» .. ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية..! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب. لا يخشون الله إنما يخشون الناس، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال! وما تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة. تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك.
والفطرة البشرية بجملتها- قلباً وعقلاً وحساً ووجداناً- تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها. يخاطبها من أقصر طريق، ومن أوسع طريق وأعمق طريق!!! والذين يرون كل هذا، ثم لا يتوقعون لقاء الله ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلباً يتدبر، ولا عقلاً يتفكر.. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون. إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم:
«إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا، وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام، يتم فيها تحقيق القسط والعدل كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا.
ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا، بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصاً، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم. والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق. إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائماً إلى هذه الأرض وما عليها! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب، وترفع الحس، وتحفز إلى التطلع والكمال..
«أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
وبئس المأوى وبئس المصير! وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان، تحقيقاً لأمر الله بعمل الصالحات، وانتظاراً للآخرة الطيبة.. وطريقها هو الصالحات.. هؤلاء.
«يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ» ..
يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله، ويفتح بصائرهم على استقامة(3/1767)
الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه.. هؤلاء يدخلون الجنة.
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» ..
وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة..
فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالاً ولا جاهاً، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة. لقد كفوا شر ذلك كله، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات، ولقد استغنوا بما وهبهم الله، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم.
إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه «دعواهم» هو تسبيح الله أولاً وحمده أخيراً، يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن:
«دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام. تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من الله ورحمة. ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلاً، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها. فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة.
ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم ويلوح لهم بمثل هذا المصير ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء..
«وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يعجل لهم العذاب.. ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . وورد في غيرها: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» كما حكى القرآن الكريم قولهم: «وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ..
وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله.. وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعه بالمكذبين قبلهم. فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين، فيقوم عليها، وينطلق في الأرض بها. وكان ذلك بعد فتح مكة، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة! غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي. لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر! والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى: إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه.. لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم، وعجل بأجلهم! ولكنه يستبقيهم(3/1768)
لما أجلهم له.. ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه. فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون، حتى يأتيهم الأجل المرسوم.
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عند ما يمسه الضر، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه:
«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ. كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور.. وإن الإنسان ليظل مدفوعاً مع تيار الحياة، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف، والصحة موفورة، والظروف مواتية. وليس- إلا من عصم الله ورحم- من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفاً وأن هناك عجزاً. وساعات الرخاء تُنسي، والإحساس بالغنى يُطغي.. ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو كثير الدعاء، عريض الرجاء، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء.
فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر. انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار.
والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها، والنموذج البشري الذي يعرضه.
فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل:
«دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» ..
يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد، فيقف أو يرتد. حتى إذا رفع الحاجز «مر» كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق. «مر» لا يتوقف.
ليشكر، ولا يلتفت ليتدبر، ولا يتأمل ليعتبر:
«مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» ..
واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة! وبمثل هذه الطبيعة. طبيعة التذكر فقط عند الضر، حتى إذا ارتفع انطلق ومر. بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود:
«كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى؟
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» ..
لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم- وهو الشرك- إلى الهلاك. وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط..
وتلك القرون. جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم:
«وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» ..(3/1769)
لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها، فلم يعودوا مهيئين للإيمان. فلقوا جزاء المجرمين..
«كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» ..
وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا، فحق عليهم العذاب، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه:
«ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..
وهي لمسة قوية للقلب البشري إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، وإنما هي أيام يقضيها فيه، ممتحناً بما يكون منه، مبتلى بهذا الملك، محاسباً على ما يكسب، بعد بقاء فيه قليل! إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري.. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع..
يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى، هي صمام الأمن له، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه.
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به، والتي يصورها قول الله سبحانه:
«لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ..
ليجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، وفي النجاة أيضاً من هذا الامتحان! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها! .. فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة.. لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة، ولا في خلق، ولا في حركة كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان! والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان. ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة. وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضاً! والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية، والنظام الإسلامي، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان! وهنا يتحول السياق من خطابهم إلى عرض نماذج من أعمالهم بعد استخلافهم.
لقد استخلفوا بعد القوم المجرمين. فماذا فعلوا؟
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ(3/1770)
أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ»
..
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» .
هكذا كان عملهم بعد الاستخلاف، وهكذا كان سلوكهم مع الرسول!!! «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» ..
وهو طلب عجيب لا يصدر عن جد، إنما يصدر عن عبث وهزل وعن جهل كذلك بوظيفة هذا القرآن وجدية تنزيله. وهو طلب لا يطلبه إلا الذين لا يظنون أنهم سيلقون الله! إن هذا القرآن دستور حياة شامل، منسق بحيث يفي بمطالب هذه البشرية في حياتها الفردية والجماعية، ويهديها إلى طريق الكمال في حياة الأرض بقدر ما تطيق، ثم إلى الحياة الأخرى في نهاية المطاف. ومن يدرك القرآن على حقيقته لا يخطر له أن يطلب سواه، أو يطلب تبديل بعض أجزائه.
وأغلب الظن أن أولئك الذين لا يتوقعون لقاء الله كانوا يحسبون المسألة مسألة مهارة، ويأخذونها مأخذ المباريات في أسواق العرب في الجاهلية. فما على محمد أن يقبل التحدي ويؤلف قرآناً آخر، أو يؤلف جزءاً مكان جزء؟! «قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
إنها ليست لعبة لاعب ولا مهارة شاعر. إنما هو الدستور الشامل الصادر من مدبر الكون كله، وخالق الإنسان وهو أعلم بما يصلحه. فما يكون للرسول أن يبدله من تلقاء نفسه. وإن هو إلا مبلغ متبع للوحي الذي يأتيه. وكل تبديل فيه معصية وراءها عذاب يوم عظيم.
«قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
إنه وحي من الله، وتبليغه لكم أمر من الله كذلك. ولو شاء الله ألا أتلوه عليكم ما تلوته، ولو شاء الله ألا يعلمكم به ما أعلمكم. فالأمر كله لله في نزول هذا القرآن وفي تبليغه للناس. قل لهم هذا. وقل لهم: إنك لبثت فيهم عمراً كاملاً من قبل الرسالة. أربعين سنة. فلم تحدثهم بشيء من هذا القرآن. لأنك لم تكن تملكه.
لم يكن قد أوحي إليك. ولو كان في استطاعتك عمل مثله أو أجزاء منه فما الذي أقعدك عمراً كاملاً؟
ألا إنه الوحي الذي لا تملك من أمره شيئاً إلا البلاغ..
وقل لهم: ما كان لي أن أفتري على الله الكذب، وأن أقول: إنه أوحي إلي إلا بالحق. فليس هنالك ما هو أشد ظلماً ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله:
«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟» ..(3/1771)
وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين، وهي التكذيب بآيات الله، فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله:
«إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» ..
ويستمر السياق يعرض ما فعلوه وما قالوه بعد استخلافهم في الأرض. غير هذا الهزل في طلب قرآن جديد..
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
والنفس حين تنحرف لا تقف عند حد من السخف. وهذه الأرباب المتعددة التي يعبدونها لا تملك لهم ضرراً ولا نفعاً، ولكنهم يظنونها تشفع لهم عند الله:
«وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» ..
«قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟» ..
فالله سبحانه لا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون! فهل تعلمون أنتم مالا يعلمه الله وتنبئونه بما لا يعلم له وجوداً في السماوات ولا في الأرض؟! إنه أسلوب ساخر يليق بهذا السخف الذي يلجون فيه. يعقبه التنزيه لله عما لا يليق بجلاله مما يدعون:
«سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
وقبل أن يمضي في عرض ما قالوه وما فعلوه، يعقب على هذا الشرك، بأنه عارض. والفطرة في أصلها كانت على التوحيد، ثم جد الخلاف بعد حين:
«وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» ..
وقد اقتضت مشيئة الله أن يمهلهم جميعاً إلى أجل يستوفونه، وسبقت كلمته بذلك فنفذت لحكمة يريدها:
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون:
«وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» ..
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم. وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم. وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم. غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية.
وطبيعة معجزتها. فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل، إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل.
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه، ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز:
«فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ. فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» ..
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد.. وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية.
فإن محمدا- صلى الله عليه وسلم- وهو أعظم الأنبياء المرسلين، لا يملك من أمر الغيب شيئاً، فالغيب كله لله.
ولا يملك من أمر الناس شيئاً، فأمرهم موكول إلى الله.. وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة..(3/1772)
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر، حين يذوقون الرحمة بعد الضر. كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه. ويضرب لهم مثلاً مما يقع في الحياة يصدق ذلك، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية:
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا. قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً، إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ. هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة. فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان.. ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة دائماً بجلاء الإيمان..
«وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا» ..
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى. فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه.
فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها، وقالوا: إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا.. وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك، فجاءت محمداً تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان.
«قُلِ: اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» ..
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون. ومكرهم مكشوف لديه ومعروف، والمكر المكشوف إبطاله مضمون:
«إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» ..
فلا شيء منه يخفى، ولا شيء منه ينسى. أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئاً إلا من مثل هذا النص، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح.
ثم ذلك المشهد الحي، الذي يعرض كأنه يقع، وتشهده العيون، وتتابعه المشاعر، وتخفق معه القلوب.
يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون:
«هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ..
ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك.
ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب:
«حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ» ..
وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء..
«وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ..(3/1773)
وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها:
«وَفَرِحُوا بِها» ..
وفي هذا الرخاء الآمن، وفي هذا السرور الشامل، تقع المفاجأة، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين:
«جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ» .
يا للهول! «وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ» ..
وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها، ولاطمها الموج وشالها وحطها، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم.. وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص:
«وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» ..
فلا مجال للنجاة..
عندئذ فقط، وفي وسط هذا الهول المتلاطم، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه:
«دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ! وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج، وتهدأ الأنفاس اللاهثة، وتسكن القلوب الطائرة، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ، ويوقن الناس بالحياة، وأرجلهم مستقرة على اليابسة. فماذا؟
«فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ!» ..
هكذا بغتة ومفاجأة! إنه مشهد كامل، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة.. مشهد حادث. ولكنه مشهد نفس، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل. ومن ثم يجيء التعقيب تحذيراً للناس أجمعين:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» ..
سواء كان بغياً على النفس خاصة، بإيرادها موارد التهلكة، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية أو كان بغياً على الناس فالناس نفس واحدة. على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة.
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده.
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة.
يذوقون هذه العاقبة فساداً في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضارّ به.
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله. وإما أن يتعبدهم الطغاة. والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض، وربوبية الله وحدها في حياة البشر، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد، ودنس المستنقع، وامتهان الكرامة، وفساد المجتمع، ودناءة الحياة!(3/1774)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ.. مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» ..
لا تزيدون عليه! «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء.
وما قيمة «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» هذا وما حقيقته؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة، وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم، ويمر عليها الأحياء دون انتباه:
«إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها.. أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ..
ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى..
هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر. وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج. وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع.
وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق..
«أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» ..
في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.. وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان.
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع.
هذه هي. لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئاً إلا بمقدار.
هذه هي..
«وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة، وقد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فإذا هي حصيد كأن لم تغن بالأمس.. ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي من يشاء إلى الصراط المؤدي لها. حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام.(3/1775)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 70]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(3/1776)