إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد طولاً في الزمان، وتمتد عرضاً في الآفاق، وتمتد عمقاً في العوالم، وتمتد تنوعاً في الحقيقة.. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.
إن الحياة- في التصور الإسلامي- تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة- فترة الحياة الدنيا- وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار! وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر داراً أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض وناراً تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين! وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقته كلها إلا الله ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله. وجود يبدأ من لحظة الموت، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله.
وتمتد الحياة في حقيقتها فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى.. في الجنة وفي النار سواء.. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا.. ولا تساوي الدنيا- بالقياس إليها- جناح بعوضة! والشخصية الإنسانية- في التصور الإسلامي- يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان، وفي هذه الآفاق من المكان، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات.. ويتسع تصورها للوجود كله وتصورها للوجود الإنساني ويتعمق تذوقها للحياة وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات.. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا! ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النظم.. ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصوراً واعتقاداً، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة ونظاماً..
إن إنساناً يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق، ويصارع الآخرين عليه، بلا انتظار لعوض عما يفوته، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به..
إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس! إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشئ سعة في النفس وكبراً في الاهتمامات ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم! فإذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه، طبيعة هذا التصور، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله، وأنه مناط العوض والجزاء وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه- متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي- وصلحت الأوضاع والأنظمة، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة، فيخسرون الدنيا والآخرة!(2/1069)
والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا وإلى إهمال هذه الحياة وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة..
الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة- كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة- وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم.. فالدنيا- في التصور الإسلامي- هي مزرعة الآخرة. والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعاً.. كل أولئك هو زاد الآخرة وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى..
فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن، أو تفسد وتختل، أو يشيع فيها الظلم والطغيان، أو تتخلف في الصلاح والعمران.. وهم يرجون الآخرة، وينتظرون فيها الجزاء من الله؟
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا- مع ادعائهم الإسلام- فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة. فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبياً، أو متخلفاً، أو راضياً بالشر والفساد والطغيان.
إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة. ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة.. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى..
وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقة الحياة الآخرة وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم.
من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة. ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الآخرة..
وكان العرب في جاهليتهم- وبسبب من هذه الجاهلية- لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر: ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة.. مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته.. شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة.. «العلمية» كما يصر أهلها على تسميتها! «وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» ..
وكان الله- سبحانه- يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة..
هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور، التي تلصق الإنسان بالأرض، وتلصق تصوره بالمحسوس منها(2/1070)
كالبهيمة.. وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان، التي تطلق السعار في النفس، والتكالب على المتاع المحدود، والعبودية لهذا المتاع الصغير، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح، ولا هدنة، ولا أمل في عوض، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة! .. وهذه الأنظمة والأوضاع، التي تنشأ في الأرض منظوراً فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان بلا عدل ولا رحمة، ولا قسط ولا ميزان.. إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضاً، وتصارع الطبقات بعضها بعضاً، وتصارع الأجناس بعضها بعضاً.. وينطلق الكل في الغابة انطلاقاً لا يرتفع كثيراً على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم «الحضارة» .. في كل مكان..
كان الله- سبحانه- يعلم هذا كله ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية.. أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة..
من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة..
ولهذا كان ذلك التوكيد على حقيقة الآخرة.. أولاً لأنها حقيقة. والله يقص الحق. وثانياً لأن اليقين بها ضرورة لاستكمال إنسانية الإنسان: تصوراً واعتقاداً، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة ونظاماً.
ومن ثم كانت هذه الإيقاعات العنيفة العميقة التي نراها في هذه الموجة من نهر السورة المتدفق.. الإيقاعات التي يعلم الله أن فطرة الإنسان تهتزلها وترجف فتتفتح نوافذها، وتستيقظ أجهزة الاستقبال فيها، وتتحرك وتحيا، وتتأهب للتلقي والاستجابة.. ذلك كله فضلاً على أنها تمثل الحقيقة:
«وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ. قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا. قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ..
هذا مصير الذين قالوا:؟ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» .. وهذا هو مشهدهم البائس المخزي المهين وهم موقوفون في حضرة ربهم الذي كذبوا بلقائه، لا يبرحون الموقف. وكأنما أُخذ بأعناقهم حتى وقفوا في هذا المشهد الجليل الرهيب:
«قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟» ..
وهو سؤال يخزي ويذيب! «قالُوا: بَلى وَرَبِّنا» ..
الآن. وهم موقوفون على ربهم. في الموقف الذي نفوا على سبيل التوكيد أن يكون! وفي اختصار يناسب جلال الموقف، ورهبة المشهد، وهول المصير، يجيء الأمر العلوي بالقضاء الأخير:
«قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ..
وهو مصير يتفق مع الخلائق التي أبت على نفسها سعة التصور الإنساني وآثرت عليه جحر التصور الحسي! والتي أبت أن ترتفع إلى الأفق الإنساني الكريم، وأخلدت إلى الأرض، وأقامت حياتها وعاشت على أساس ذلك التصور الهابط الهزيل! لقد ارتكست هذه الخلائق حتى أهلت نفسها لهذا العذاب الذي يناسب طبائع الكافرين بالآخرة الذين عاشوا ذلك المستوى الهابط من الحياة! بذلك التصور الهابط الهزيل!(2/1071)
ويستكمل السياق المشهد الذي ختمه هناك بهذا القضاء العلوي تنسيقاً له مع الجلال والروعة والهول.. يستكمله بتقرير حقيقته:
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها!» ..
فهي الخسارة المحققة المطلقة.. خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى.. وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا.. والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حساباً:
«حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها!» ..
ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال:
«وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» ..
بل الدواب أحسن حالاً. فهي تحمل أوزاراً من الأثقال. ولكن هؤلاء يحملون أوزاراً من الآثام! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح. وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم. مشيعين بالتأثيم:
«أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ!» ..
وفي ظلال هذا المشهد الناطق بالخسارة والضياع، بعد ذلك المشهد الناطق بالهول والرهبة.. يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع بحقيقة وزن الدنيا ووزن الآخرة في ميزان الله وقيمة هذه الدنيا وقيمة الآخرة في هذا الميزان الصحيح:
«وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
هذه هي القيمة المطلقة الأخيرة في ميزان الله للحياة الدنيا وللدار الآخرة.. وما يمكن أن يكون وزن ساعة من نهار، على هذا الكوكب الصغير، إلا على هذا النحو، حين توازن بذلك الأبد الأبيد في ذلك الملك العريض. وما يمكن أن تكون قيمة نشاط ساعة في هذه العبادة إلا لعباً ولهواً حين تقاس إلى الجد الرزين في ذلك العالم الآخر العظيم..
هذا تقييم مطلق.. ولكنه في التصور الإسلامي لا ينشئ- كما قلنا- إهمالاً للحياة الدنيا ولا سلبية فيها ولا انعزالاً عنها.. وليس ما وقع من هذا الإهمال والسلبية والانعزال وبخاصة في بعض حركات «التصوف» «والزهد» بتابع من التصور الإسلامي أصلاً. إنما هو عدوى من التصورات الكنسية الرهبانية ومن التصورات الفارسية، ومن بعض التصورات الإشراقية الإغريقية المعروفة بعد انتقالها للمجتمع الإسلامي! والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة، لم تكن سلبية ولا انعزالية.. فهذا جيل الصحابة كله الذين قهروا الشيطان في نفوسهم، كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات.. هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله، هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة، وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة، وطاقة فائضة، في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة.
إنما أفادهم هذا التقييم الرباني للحياة الدنيا وللدار الآخرة، أنهم لم يصبحوا عبيداً للدنيا. لقد ركبوها ولم تركبهم! وعبدوها فذللوها لله ولسلطانه ولم تستعبدهم! ولقد قاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة.
فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة!(2/1072)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
والآخرة غيب. فالأيمان بها سعة في التصور. وارتقاء في العقل. والعمل لها خير للمتقين يعرفه الذين يعقلون:
«وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ» ..
والذين ينكرون الآخرة اليوم لأنها «غيب» إنما هم الجهال الذين يدعون العلم.. فالعلم علم الناس- (كما سنذكر فيما بعد) لم يعد لديه اليوم حقيقة واحدة مستيقنة له إلا حقيقة الغيب وحقيقة المجهول!!!
[سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 39]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
في هذه الموجة من موجات السياق المتدفق في السورة، يتجه الحديث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطيب الله- سبحانه- خاطره في أوله، مما يلاقيه من تكذيب قومه له، وهو الصادق الأمين، فإنهم لا يظنون به الكذب، إنما هم مصرون على الجحود بآيات الله وعدم الاعتراف بها وعدم الإيمان، لأمر آخر غير ظنهم به الكذب! كما يواسيه بما وقع لإخوانه الرسل قبله من التكذيب والأذى، وما وقع منهم من الصبر والاحتمال، ثم ما انتهى إليه أمرهم من نصر الله لهم. وفق سنته التي لا تتبدل.. حتى إذا انتهى من المواساة والتسرية والتطمين، التفت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرر له الحقيقة الكبرى في شأن هذه الدعوة.. إنها تجري بقدر الله وفق سنته، وليس للداعية فيها إلا التبليغ والبيان.. إن الله هو الذي يتصرف في الأمر كله، فليس على الداعية إلا أن يمضي وفق هذا الأمر، لا يستعجل خطوة ولا يقترح على الله شيئاً. حتى ولو كان هو(2/1073)
النبي الرسول! ولا يستمع إلى مقترحات المكذبين- ولا الناس عامة- في منهج الدعوة، ولا في اقتراح براهين وآيات معينة عليه.. والأحياء الذين يسمعون سيستجيبون، أما موتى القلوب فهم موتى لا يستجيبون، والأمر إلى الله إن شاء أحياهم وإن شاء أبقاهم موتى حتى يرجعوا إليه يوم القيامة.
وهم يطلبون آية خارقة على نحو ما كان يقع للأقوام من قبلهم، والله قادر على أن ينزل آية. ولكنه سبحانه لا يريد- لحكمة يراها- فإذا كبر على الرسول إعراضهم فليحاول هو إذن بجهده البشري أن يأتيهم بآية! ..
إن الله- سبحانه- هو خالق الخلائق جميعاً، وعنده أسرار خلقهم، وحكمة اختلاف خصائصهم وطباعهم.
وهو يترك المكذبين من البشر صماً وبكماً في الظلمات، ويضل من يشاء ويهدي من يشاء وفق ما يعلمه من حكمة الخلق والتنويع..
«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ. وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
إن مشركي العرب في جاهليتهم- وخاصة تلك الطبقة التي كانت تتصدى للدعوة من قريش- لم يكونوا يشكون في صدق محمد- صلى الله عليه وسلم- فلقد عرفوه صادقاً أميناً، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة، كذلك لم تكن تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة لدعوته تشك في صدق رسالته، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله..
ولكنهم- على الرغم من ذلك- كانوا يرفضون إظهار التصديق، ويرفضون الدخول في الدين الجديد! إنهم لم يرفضوا لأنهم يكذبون النبي- صلى الله عليه وسلم- ولكن لأن في دعوته خطراً على نفوذهم ومكانتهم..
وهذا هو السبب الذي من أجله قرروا الجحود بآيات الله، والبقاء على الشرك الذي كانوا فيه..
والأخبار التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا وحقيقة ظنهم بهذا القرآن كثيرة:
قال ابن اسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: أنه حُدِّث، أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه.
وكل لا يعلم بمكان صاحبة. فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائهم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له. حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض:
لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك.. ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا(2/1074)
نصدقه! قال: فقام عنه الأخنس وتركه..
وروى ابن جرير- من طريق أسباط عن السدي- في قوله: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .. لما كان يوم بدر، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة:
يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته، فإن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته. قفوا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلب محمد رجعتم سالمين، وإن غُلب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً- فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أُبي- فالتقى الأخنس بأبي جهل، فخلا به، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا! فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
ونلاحظ: أن السورة مكية، وهذه الآية مكية لا شك في ذلك بينما الحادثة المذكورة كانت في المدينة يوم بدر.. ولكن إذا عرفنا أنهم كانوا يقولون أحياناً عن آية ما: «فذلك قوله: كذا..» ويقرنون إليها حادثاً ما لا للنص على أنها نزلت بسبب الحادث الذي يذكرونه ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث، بغض النظر عما إذا كان سابقاً أو لاحقاً.. فإننا لا نستغرب هذه الرواية..
وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدِّثت أن عتبة بن ربيعة- وكان سيداً- قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزيدون ويكثرون- فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي. إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب. وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها.
قال: فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قل: يا أبا الوليد أسمع» قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.. أو كما قال.. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمع منه- قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاستمع مني» . قال:
أفعل. قال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ... » ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها فسجد. ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك» .. فقام عتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد(2/1075)
بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا بين الرجل وما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم! وقد روى البغوي في تفسيره حديثاً- بإسناده «1» - عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضى في قراءته إلى قوله: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ.. فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم ...
إلى آخره ... ثم لما حدثوه في هذا قال: فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب..
وقال ابن اسحاق: إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش- وكان ذا سن فيهم- وقد حضر الموسم.
فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم فقولوا: أسمع. قالوا: نقول:
كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه! قالوا: فنقول:
مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته! قالوا:
فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر! قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم! قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته..
فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس- حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره! وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثورة، عن معمر، عن عبادة بن منصور، عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له.
فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام. فأتاه فقال له: أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟
قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله! (يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازاً!) قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له! قال: فماذا أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا. والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعني حتى أفكر فيه.. فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر. يؤثره عن غيره.
__________
(1) في إسناده عبد الله الكندي الكوفي قال عنه ابن كثير (وقد ضعف بعض الشيء)(2/1076)
فنزلت: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً..» حتى بلغ: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» .
وفي رواية أخرى أن قريشاً قالت: لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه.. وأنه قال- بعد التفكير الطويل- إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكذبهم فيما يبلغه لهم. وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات، وما وراءها من السبب الرئيسي، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب، الذي يزاولونه، وهو سلطان الله وحده. كما هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام. وهم كانوا يعرفون جيداً مدلولات لغتهم وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة. وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد.. وصدق الله العظيم:
«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون. كما يغلب في التعبير القرآني الكريم.
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به.. يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله- وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن- ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق، حتى جاءهم نصر الله. ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق:
«وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» ..
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماض في الطريق اللاحب، ماض في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء..
والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق:
«وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» ..
كلمات يقولها الله- سبحانه- لرسوله- صلى الله عليه وسلم-.. كلمات للذكرى، وللتسرية وللمواساة، والتأسية.. وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طريقهم واضحاً، ودورهم محدداً، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق ...
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة. كما أنها كذلك وحدة. وحدة لا تتجزأ.. دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى.. وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى..
وسنة تجري بالنصر في النهاية.. ولكنها تجيء في موعدها. لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين(2/1077)
الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة.. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله. فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه. ولا مبدل لكلماته. سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم، أم تعلقت بالأجل المرسوم.
إنه الجد الصارم، والحسم الجازم، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية..
ثم يبلغ الجد الصارم مداه، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الرغبة البشرية، المشتاقة إلى هداية قومه، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون. وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق. وهي رغبة بشرية طبيعية. ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها، ودور الناس أجمعين، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم:
«وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ، أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ! وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة.. وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر، إلا حين يستحضر في كيانه كله: أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم.. النبي الصابر من أولي العزم من الرسل.. الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً، لم يدع عليهم دعوة نوح- عليه السلام- وقد لقي منهم سنوات طويلة، ما يذهب بحلم الحليم! ... تلك سنتنا- يا محمد- فإن كان قد كبر عليك إعراضهم، وشق عليك تكذيبهم، وكنت ترغب في إتيانهم بآية.. إذن.. فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، فأتهم بآية! ... إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية. فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول..
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى: إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى- كالملائكة- وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه. وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً. وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها.
ولكنه سبحانه- لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله- خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان، لوظيفة معينة، تقتضي- في تدبيره العلوي الشامل- أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة. من بينها التنوع في الاستعدادات، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات. في حدود من القدرة على الاتجاه، بالقدر الذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال..
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف.. فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلونه.
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» .
يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه..
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل:(2/1078)
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان:
فريق حي، أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية، عاملة، مفتوحة.. وهؤلاء يستجيبون للهدى. فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه، فتستجيب له:
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ..
وفريق ميت، معطل الفطرة، لا يسمع ولا يستقبل، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب.. ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله- فدليله كامن فيه، ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه، فاستجابت إليه حتماً- إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول، ولا مجال معهم للبرهان. إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله. إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا، وبقوا أمواتاً بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة.
«وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة! تكشف حقيقة الموقف كله، وتحدد واجب الرسول وعمله، وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد.
ومن خطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهذه الحقيقة، ينتقل السياق إلى حكاية ما يطلبه المشركون من إنزال خارقة، وإلى بيان ما في هذا الطلب من الجهالة بسنة الله، ومن سوء إدراك لرحمته بهم ألا يستجيب لهذا الاقتراح الذي في أعقابه التدمير لهم لو أجيبوا إليه! ويعرض جانباً من دقة التدبير الإلهي وإحاطته بالأحياء جميعاً، يوحي بحكمة السنة الشاملة للأحياء جميعاً. وينتهي بتقرير ما وراء الهدى والضلال من أسرار وسنن تجري بها مشيئة الله طليقة.
«وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
لقد كانوا يطلبون آية خارقة كالخوارق المادية التي صاحبت الرسالات السابقة، ولا يقنعون بآية القرآن الباقية، التي تخاطب الإدراك البشري الراشد، وتعلن عهد الرشد الإنساني، وتحترم هذا الرشد فتخاطبه هذا الخطاب الراقي والتي لا تنتهي بانتهاء الجيل الذي يرى الخارقة المادية بل تظل باقية تواجه الإدراك البشري بإعجازها إلى يوم القيامة..
وكانوا يطلبون خارقة، ولا يفطنون إلى سنة الله في أخذ المكذبين بالدعوة بعد مجيء الخارقة، وإهلاكهم في الدنيا. ولا يدركون حكمة الله في عدم مجيئهم بهذه الخارقة، وهو يعلم أنهم سيجحدون بها بعد وقوعها- كما وقع من الأقوام قبلهم- فيحق عليهم الهلاك، بينما يريد الله أن يمهلهم ليؤمن منهم من يؤمن. فمن لم يؤمن استخرج الله من ظهره ذرية مؤمنة. ولا يشكرون نعمة الله عليهم في إمهالهم، وذلك بعدم الاستجابة لاقتراحهم، الذي لا يعلمون جرائره!(2/1079)
والقرآن يذكر اقتراحهم هذا، ويعقب عليه بأن أكثرهم لا يعلمون ما وراءه ولا يعلمون حكمة الله في عدم الاستجابة، ويقرر قدرة الله على تنزيل الآية، ولكن حكمته هي التي تقتضي، ورحمته التي كتبها على نفسه هي التي تمنع البلاء:
«وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .
ويأخذ السياق القرآني طريقه إلى قلوبهم من مدخل آخر لطيف. ويوقظ فيها قوى الملاحظة والتدبر لما في الوجود حولهم من دلائل الهدى وموحيات الإيمان، لو تدبروه وعقلوه:
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» ..
إن الناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى! إن حولهم أحياء أخرى، كلها ذات أمر منتظم، يوحي بالقصد والتدبير والحكمة، ويوحي كذلك بوحدة الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله..
إنه ما من دابة تدب على الأرض- وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفقاريات- وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء- وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة غير ذلك من الكائنات الطائرة..
ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك.. شأنها في هذا شأن أمة الناس.. ما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه.. وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها.. فيقضي في أمرها بما يشاء..
إن هذه الآية القصيرة- فوق تقريرها الحاسم في حقيقة الحياة والأحياء- لتهز القلب بما ترسم من آفاق الإشراف الشامل، والتدبير الواسع، والعلم المحيط، والقدرة القادرة، لله ذي الجلال.. وكل جانب من هذه الجوانب لا نملك التوسع في الحديث عنه حتى لا نخرج عن منهج الظلال «1» ، فنجاوزه إذن لنتمشى مع السياق.. إذ المقصود الأول هنا هو توجيه القلوب والعقول، إلى أن وجود هذه الخلائق بهذا النظام، وشمولها بهذا التدبير، وإحصاءها في علم الله، ثم حشرها إلى ربها في نهاية المطاف.. توجيه القلوب والعقول إلى ما في هذه الحقيقة الهائلة الدائمة من دلائل وأمارات، أكبر من الآيات والخوارق التي يراها جيل واحد من الناس! وتختم هذه الجولة- أو هذه الموجة- بتقرير ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته، وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال:
«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون، وموت الذين لا يستجيبون.
ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر.. إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة.. إنهم صم لا يسمعون، بكم لا يتكلمون، غارقون في الظلمات لا يبصرون! إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي. فإن
__________
(1) يراجع بتوسع فصول: «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الحياة» و «حقيقة الإنسان» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» :
القسم الثاني من الكتاب «دار الشروق» .(2/1080)
لهم عيوناً وآذاناً وأفواهاً.. ولكن إدراكهم معطل، فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل! .. وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها، لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك! وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته، فلم يعد صالحاً لحياة الهدى، ولم يعد أهلاً لذلك المستوى الراقي من الحياة.
ووراء ذلك كله مشيئة الله.. المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال، عن اختيار وحكمة، لا عن اقتضاء أو إلزام.. وكذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم. بمشيئته تلك، التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند. ولا تظلم أحداً من العباد.
إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى، أو اتجاهه إلى الضلال، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته. فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله. والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك. فالمشيئة فاعلة ومطلقة. والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان. الذي يملكه، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله «1» ..
والآن بعد الانتهاء من استعراض هذه الموجة من السياق، نقف وقفة قصيرة لاستخلاص عبرة التوجيه فيها لكافة أصحاب الدعوة إلى هذا الدين في كل جيل، فإن مدى التوجيه فيها يتجاوز المناسبة التاريخية الخاصة، وينسحب على جميع الأجيال، وجميع الدعاة، ويرسم منهجاً للدعوة إلى هذا الدين، لا يتقيد بالزمان والمكان.
ونحن لا نملك هنا أن نفصل كل جوانب هذا المنهج، فنقف منه إذن عند معالم الطريق:
إن طريق الدعوة إلى الله شاق، محفوف بالمكاره، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه، إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله، وفق علمه وحكمته، وهو غيب لا يعلم موعده أحد- حتى ولا الرسول- والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين: من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة.. ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه، وعرف طعمه، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى. فكلها من دواعي مشقة الطريق! والتوجيه القرآني في هذه الموجة من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها.. ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته، يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق، وأن الرسول الذي جاء به من عند الله صادق. ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون، ويستمرون في جحودهم عناداً وإصراراً، لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه، وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له، متى كانت هذه الفطرة حية، وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» .. فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهم صم وبكم في الظلمات. والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء. والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى. فذلك من شأن الله.. هذا كله من جانب، ومن الجانب الآخر، فإن نصر الله آت لا ريب فيه.. كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله، وكما أن سنة الله لا تستعجل، وكلماته لا تتبدل، من ناحية مجيء النصر في النهاية، فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية
__________
(1) راجع فصل «التوازن» في القسم الأول من «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .(2/1081)
الموعد المرسوم.. والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة- ولو كانوا هم الرسل- فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة، وصبره على الأذى بلا تململ، ويقينه في العاقبة بلا شك.. كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم.
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين- ودور الدعاة بعده في كل جيل- إنه التبليغ، والمضي في الطريق، والصبر على مشاق الطريق.. أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته.. والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب.. إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم، وما استقام كما أمر.. وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» ..
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم. بما فيه الكفاية.
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين، أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة، في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم..
ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق- وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى، منها في هذه السورة «وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ!» .. «وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» .. «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» .. وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات. ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: «وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ- كَما زَعَمْتَ- عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ. وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ!» .. وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!» ..
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجة من السورة نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية- أية آية- مما يطلبون. وقيل للرسول- صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» .. وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عند ما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها! قيل لهم: «قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .. ليعلموا أولاً أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق، ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون، وأنهم موتى، وأن الله لم يقسم لهم الهدى- وفق سنة الله في الهدى والضلال كما أسلفنا- ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل، وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم!(2/1082)
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني.. إنه ليس خاصاً بزمن، ولا محصوراً في حادث، ولا مقيداً باقتراح معين. فالزمن يتغير، وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى. وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر.. إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة «نظرية مذهبية» على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة، التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات! .. وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام- على الورق- أو صورة تشريعات مفصلة- على الورق أيضاً- تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام (لأن أهل هذه الجاهلية يقولون: إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة!) وتنظم لهم هذه الأوضاع بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله.. وكلها محاولات ذليلة، لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة، التي لا تثبت على حال. باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله! «1» وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى، ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات.. كالاشتراكية.. والديمقراطية.. وما إليها.. ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة! .. إن «الاشتراكية» مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر قابل للصواب والخطأ.
وإن «الديمقراطية» نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً.. والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي، والنظام الاجتماعي الاقتصادي، والنظام التنفيذي والتشكيلي.. وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب.. فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله- سبحانه- عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر؟ بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله- سبحانه- عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد؟! ..
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه.. يتخذونهم أولياء:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ... » فهذا هو الشرك! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده، ولكنهم- ويا للنكر والبشاعة! - يستشفعون لله- سبحانه- عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم؟! إن الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية.. ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له، والصفة التي وصفه بها.. وهذه وتلك من مناهج البشر.
ومن تجارب البشر.. وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس.. ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله، أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب. وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله! على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم، ولم يقدروا الله حق قدره.. إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية، وباسم الديمقراطية، لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة.. فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي! كما كان
__________
(1) تراجع مقدمة السورة. كما يراجع فصل «طريق الخلاص» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» . [.....](2/1083)
الحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وما تزيني مثلاً! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد، فكيف يا ترى ستقولون غداً عن الإسلام؟ لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس؟! إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها- وفي غيرها كذلك- يشمل هذا كله.. إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته.. إن الله غني عن العالمين. ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخاً من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به، كما أنه لا حاجة لله- سبحانه- بأحد من الطائعين أو العصاة.
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه، التي يريد الله أن تسود البشرية. فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل، وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية.. إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه، وبمنهجه الحركي وأسلوبه، هو- سبحانه- الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه..
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية.. نموذج من نماذج متنوعة شتى.. فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني، ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية، ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات.. وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ..
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو:
«وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي.. ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب! إنه الأخذ والتدمير! والله قادر على أن ينزل الآية.. ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها، وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها..
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير، إلى الكون الواسع. إلى الآيات الكبرى من حولهم. الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها. الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها:
«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» ..
وهي حقيقة هائلة.. هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك- حيث لم يكن لهم علم منظم- أن تشهد بها.. حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم.. لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك..
وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر، ولكن علمهم لا يزيد شيئاً على أصلها! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها، وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء، وتدبير الله لكل شيء.. وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة..
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون، أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون؟(2/1084)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
إن المنهج القرآني- في هذا النموذج- لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود، وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة، وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني..
إنه لا يقدم للفطرة جدلاً لاهوتياً ذهنياً نظرياً. ولا يقدم لها جدلاً كلامياً (كعلم التوحيد) الغريب على المنهج الإسلامي. ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية، إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي- بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة- ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب، وتتلقى عنه وتستجيب، ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها- وهي تتلقى من الوجود- تضل في المتاهات والدروب.
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى:
«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم.. إنهم صم وبكم في الظلمات.. ويقرر سنة الله في الهدى والضلال..
إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك، وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد.
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله. إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة، وتقرير موقف صاحب الدعوة، وهو يتحرك بهذه العقيدة، ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل..
ولعل هذه اللمسات- إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة- عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق. وبالله التوفيق..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)(2/1085)
هنا- في هذه الموجة- يواجه السياق القرآني فطرة المشركين ببأس الله. بل يواجههم بفطرتهم ذاتها حين تواجه بأس الله.. حين تتعرى من الركام في مواجهة الهول، وحين يهزها الهول فيتساقط عنها ذلك الركام! وتنسى حكاية الآلهة الزائفة وتتجه من فورها إلى ربها الذي تعرفه في قرارتها تسأله وحده الخلاص والنجاة! ثم يأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع الغابرين من أسلافهم، وفي الطريق يريهم كيف تجري سنة الله، وكيف يعمل قدر الله. ويكشف لأبصارهم وبصائرهم عن استدراج الله لهم، بعد تكذيبهم برسل الله، وكيف قدم لهم الابتلاء بعد الابتلاء- الابتلاء بالبأساء والضراء، ثم الابتلاء بالرخاء والنعماء- وأتاح لهم الفرصة بعد الفرصة، لينتبهوا من الغفلة، حتى إذا استنفدوا الفرص كلها، وغرتهم النعمة بعد أن لم توقظهم الشدة، جرى قدر الله، وفق سنته الجارية وجاءهم العذاب بغتة: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
وما يكاد هذا المشهد الذي يهز القلوب هزاً يتوارى، حتى يجيء في أعقابه مشهد آخر وهم يتعرضون لبأس الله أيضاً، فيأخذ سمعهم وأبصارهم، ويختم على قلوبهم، ثم لا يجدون إلهاً غير الله يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وإدراكهم.
وفي مواجهة هذين المشهدين الرائعين الهائلين يتحدث إليهم عن وظيفة الرسل.. إنها البشارة والنذارة..
ليس وراء ذلك شيء.. ليس لهم أن يأتوا بالخوارق، ولا أن يستجيبوا لمقترحات المقترحين! إنما هم يبلغون.
يبشرون وينذرون. ثم يؤمن فريق من الناس ويعمل صالحاً فيأمن الخوف وينجو من الحزن. ويكذب فريق ويعرض فيمسه العذاب بهذا الإعراض والتكذيب. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. فهذا هو المصير..
«قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ، فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ- إِنْ شاءَ- وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» ..
هذا طرف من وسائل المنهج الرباني في خطاب الفطرة الإنسانية بهذه العقيدة يضم إلى ذلك الطرف الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة وفيما قبلها وما بعدها كذلك في سياق السورة.
لقد خاطبها هناك بما في عوالم الأحياء من آثار التدبير الإلهي والتنظيم وبما في علم الله من إحاطة وشمول.
وهو هنا يخاطبها ببأس الله وبموقف الفطرة إزاءه حين يواجهها في صورة من صوره الهائلة، التي تهز القلوب، فيتساقط عنها ركام الشرك وتتعرى فطرتها من هذا الركام الذي يحجب عنها ما هو مستقر في أعماقها من معرفتها بربها، ومن توحيدها له أيضاً:
«قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ.. أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
إنها مواجهة الفطرة بتصور الهول.. عذاب الله في الدنيا عذابَ الهلاك والدمار أو مجيء الساعة على غير انتظار.. والفطرة حين تلمس هذه اللمسة وتتصور هذا الهول تدرك- ويعلم الله سبحانه أنها تدرك-(2/1086)
حقيقة هذا التصور، وتهتز له لأنه يمثل حقيقة كامنة فيها، يعلم بارئها سبحانه أنها كامنة فيها ويخاطبها بها على سبيل التصور فتهتز لها وترتجف وتتعرى! وهو يسألهم ويطلب إليهم الجواب بالصدق من ألسنتهم ليكون تعبيراً عن الصدق في فطرتهم:
«أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ.. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
ثم يبادر فيقرر الجواب الصادق، المطابق لما في فطرتهم بالفعل، ولو لم تنطق به ألسنتهم:
«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ.. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ.. وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» .
بل تدعونه وحده وتنسون شرككم كله! .. إن الهول يعرّي فطرتكم- حينئذ- فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده. وتنسى أنها أشركت به أحداً. بل تنسى هذا الشرك ذاته.. إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها، بفعل عوامل أخرى. قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها. فإذا هزها الهول تساقط هذا الركام، وتطايرت هذه القشرة، وتكشفت الحقيقة الأصيلة، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها، ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به، ولا حيلة لها فيه..
هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول يواجه السياق القرآني به المشركين.. فأما شأن الله- سبحانه- فيقرره في ثنايا المواجهة. فهو يكشف ما يدعونه إليه- إن شاء- فمشيئته طليقة، لا يرد عليها قيد. فإذا شاء استجاب لهم فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه وإن شاء لم يستجب، وفق تقديره وحكمته وعلمه.
هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي تزاوله أحياناً، بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف، نتيجة عوامل شتى، تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها.. حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته.. فما هو موقفها من الإلحاد وإنكار وجود الله أصلاً؟
نحن نشك شكاً عميقاً- كما قلنا من قبل- في أن أولئك الذين يمارسون الإلحاد في صورته هذه صادقون فيما يزعمون أنهم يعتقدونه. نحن نشك في أن هناك خلقاً أنشأته يد الله، ثم يبلغ به الأمر حقيقة أن ينطمس فيه تماماً طابع اليد التي أنشأته وفي صميم كينونته هذا الطابع، مختلطاً بتكوينه متمثلاً في كل خلية وفي كل ذرة! إنما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع، ومن الصراع الوحشي مع الكنيسة، ومن الكبت والقمع، ومن أنكار الكنيسة للدوافع الفطرية للناس مع استغراقها هي في اللذائذ المنحرفة.. إلى آخر هذا التاريخ النكد الذي عاشته أوربا قروناً طويلة.. هو الذي دفع الأوربيين في هذه الموجة من الإلحاد في النهاية.. فراراً في التيه، من الغول الكريه «1» .
ذلك إلى استغلال اليهود لهذا الواقع التاريخي ودفع النصارى بعيداً عن دينهم ليسلس لهم قيادهم، ويسهل عليهم إشاعة الانحلال والشقاء فيهم، وليتيسر لهم استخدامهم- كالحمير- على حد تعبير «التلمود» و «بروتوكولات حكماء صهيون» .. وما كان اليهود ليبلغوا من هذا كله شيئاً إلا باستغلال ذلك التاريخ الأوربي النكد، لدفع الناس إلى الإلحاد هرباً من الكنيسة.
ومع كل هذا الجهد الناصب، المتمثل في محاولة «الشيوعية» - وهي إحدى المنظمات اليهودية- لنشر الإلحاد، خلال أكثر من نصف قرن، بمعرفة كل أجهزة الدولة الساحقة، فإن الشعب الروسي نفسه لم يزل
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين» «دار الشروق» .(2/1087)
في أعماق فطرته الحنين إلى عقيدة في الله.. ولقد اضطر «ستالين» الوحشي- كما يصوره خلفه خروشوف! - أن يهادن الكنيسة، في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن يفرج عن كبير الأساقفة، لأن ضغط الحرب كان يلوي عنقه للاعتراف للعقيدة في الله بأصالتها في فطرة الناس.. مهما يكن رأيه ورأي القليلين من الملحدين من ذوي السلطان حوله.
ولقد حاول اليهود- بمساعدة «الحمير» الذين يستخدمونهم من الصليبيين- أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها وديناً. ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس.. فإن الموجة التي أطلقوها عن طريق «البطل» أتاتورك في تركيا.. انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها- وللبطل- من التمجيد والمساعدة. وعلى كل ما ألفوه من الكتب عن البطل والتجربة الرائدة التي قام بها..
ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك، ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد. إنما يرفعون عليها راية الإسلام. كي لا تصدم الفطرة، كما صدمتها تجربة أتاتورك. ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية.
غير أن العبرة التي تبقى من وراء ذلك كله، هي أن الفطرة تعرف ربها جيداً، وتدين له بالوحدانية، فإذا غشي عليها الركام فترة، فإنها إذا هزها الهول تساقط عنها ذلك الركام كله وتعرت منه جملة، وعادت إلى بارئها كما خلقها أول مرة.. مؤمنة طائعة خاشعة.. أما ذلك الكيد كله فحسبه صيحة حق تزلزل قوائمه، وترد الفطرة إلى بارئها سبحانه. ولن يذهب الباطل ناجياً، وفي الأرض من يطلق هذه الصيحة. ولن يخلو وجه الأرض مهما جهدوا ممن يطلق هذه الصيحة.
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .
إنها المواجهة بنموذج من بأس الله سبحانه. نموذج من الواقع التاريخي. نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء. فحقت عليهم كلمة الله. ونزل بساحتهم الدمار الذي لا تنجو منه ديار..
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم، التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها، قبل أن يولد «التاريخ» الذي صنعه الإنسان! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد، صغير السن، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل-(2/1088)
على قصره- بالأكاذيب والأغاليط وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة والمحركة للتاريخ البشري والتي يكمن بعضها في أغوار النفس، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب، ولا يبدو منها إلا بعضها.
وهذا البعض يخطىء البشر في جمعه، ويخطئون في تفسيره، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفة- إلا قليلاً- ودعوى أي بشر أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً، وأنه يملك تفسيره تفسيراً «علمياً» ، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً.. هي أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها بشر! ومن عجب أن بعضهم يدعيها! والأشد إثارة للعجب أن بعضهم يصدقها! ولو قال ذلك المدعي: إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغاً.. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري؟! والله يقول الحق ويعلم ماذا كان، ولماذا كان. ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلاً- جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذوا حذرهم ويتعظوا وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً. ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون، استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل.. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها..
وفي هذه الآيات تصوير وعرض لنموذج متكرر في أمم شتى.. أمم جاءتهم رسلهم. فكذبوا. فأخذهم الله بالبأساء والضراء. في أموالهم وفي أنفسهم. في أحوالهم وأوضاعهم.. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون «عذاب الله» الذي تحدثت عنه الآية السابقة، وهو عذاب التدمير والاستئصال..
وقد ذكر القرآن نموذجاً محدداً من هذه الأمم، ومن البأساء والضراء التي أخذها بها.. في قصة فرعون وملئه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» ..
وهو نموذج من نماذج كثيرة تشير إليها الآية..
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب الرحمة.. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوا. لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم. وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد:
«وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة. والشدة ابتلاء من الله للعبد فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه.. ومن كان ميتاً حسبت عليه، ولم تفده شيئاً، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب! وهذه الأمم التي يقص الله- سبحانه- من أنبائها على رسوله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من أمته..
لم تفد من الشدة شيئاً. لم تتضرع إلى الله، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد.. وهنا يملي(2/1089)
لها الله- سبحانه- ويستدرجها بالرخاء:
«فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة. وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة. يبتلي الطائعين والعصاة سواء. بهذه وبذاك سواء.. والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر، ويبتلى بالرخاء فيشكر. ويكون أمره كله خيراً.. وفي الحديث: «عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» (رواه مسلم) .
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل، والتي يقص الله من أنبائها هنا. فإنهم لما نسوا ما ذكروا به، وعلم الله- سبحانه- أنهم مهلكون، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا.. فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء..
والتعبير القرآني: «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» .. يصور الأرزاق والخيرات، والمتاع، والسلطان..
متدفقة كالسيول بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة! إنه مشهد عجيب يرسم حالة في حركة على طريقة التصوير القرآني العجيب «1» .
«حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا» ..
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها- بلا شكر ولا ذكر- وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع. وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها.. عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل:
«أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» ..
فكان أخذهم على غرة وهم في سهوة وسكرة. فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه. واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم.
«فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» ..
ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم أي يجيء على أدبارهم فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى! .. و «الذين ظلموا» تعني هنا الذين أشركوا.. كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين..
«وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
تعقيب على استئصال الظالمين (المشركين) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين.. وهل يحمد الله على نعمة، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير؟
لقد أخذ الله قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه
__________
(1) يراجع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(2/1090)
السنة ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها، ذلك السر المغيب من قدر الله وهذا القدر الظاهر من سنته وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف.
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة وكان لها من التمكين في الأرض وكان لها من الرخاء والمتاع ما لا يقل- إن لم يزد في بعض نواحيه- عما تتمتع به اليوم أمم مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع مخدوعة بما هي فيه خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء..
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة. والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه، وهي تتمرد على سلطانه، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته، وهي تعيث في الأرض فساداً، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله..
ولقد كنت- في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية- أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه:
«فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» .. فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية.. مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب! .. لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك! وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه، وشعورهم بأنه وقف على «الرجل الأبيض» وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة، وفي وحشية كذلك بشعة! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علماً على الصلف العنصري. بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين..
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية، وأتوقع سنة الله، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين:
«حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهناك ألوان من العذاب باقية. والبشرية- وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء- تذوق منها الكثير. على الرغم من هذا النتاج الوفير، ومن هذا الرزق الغزير! إن العذاب النفسي، والشقاء الروحي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الخلقي.. الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء «1» ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية، التي تباع فيها أسرار الدولة، وتقع فيها الخيانة للأمة، في مقابل شهوة أو شذوذ.. وهي طلائع لا تخطىء على نهاية المطاف! وليس هذا كله إلا بداية الطريق.. وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه- ما يحب. فإنما هو استدراج» .. ثم تلا: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» .. (رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم) .
غير أنه ينبغي، مع ذلك، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) .. ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. فلا يقعدنّ أهل الحق كسالى يرتقبون
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» .(2/1091)
أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد. فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق، ولا يكونون أهله.. وهم كسالى قاعدون..
والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية.. هذا هو الحق الأول، والحق الأصيل.. «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» ..
بعد ذلك يقف السياق القرآني المشركين بالله، أمام بأس الله، في ذوات أنفسهم، في أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، وهم عاجزون عن رده، وهم لا يجدون كذلك إلهاً غير الله، يرد عليهم أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم إن أخذها الله منهم:
«قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ!» ..
وهو مشهد تصويري يجسم لهم عجزهم أمام بأس الله من جانب، كما يصور لهم حقيقة ما يشركون به من دون الله في موقف الجد من جانب.. ولكن هذا المشهد يهزهم من الأعماق.. إن خالق الفطرة البشرية يعلم أنها تدرك ما في هذا المشهد التصويري من جد، وما وراءه من حق.. أنها تدرك أن الله قادر على أن يفعل بها هذا. قادر على أن يأخذ الأسماع والأبصار، وأن يختم على القلوب، فلا تعود هذه الأجهزة تؤدي وظائفها.
وأنه- إن فعل ذلك- فليس هناك من إله غيره يرد بأسه..
وفي ظلال هذا المشهد، الذي يبعث بالرجفة في القلوب والأوصال، ويقرر في الوقت ذاته تفاهة عقيدة الشرك، وضلال اتخاذ الأولياء من دون الله.. في ظلال هذا المشهد يعجب من أمر هؤلاء الذين يصرف لهم الآيات، وينوعها، ثم هم يميلون عنها كالبعير الذي يصدف أي يميل بخفه إلى الجانب الوحشي الخارجي من مرض يصيبه! «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ، ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ!» ..
وهو تعجيب مصحوب بمشهد الصدوف! المعروف عند العرب، والذي يذكرهم بمشهد البعير المؤوف «1» ! فيثير في النفس السخرية والاستخفاف والعزوف! وقبل أن يفيقوا من تأثير ذلك المشهد المتوقع يتلقاهم بتوقع جديد، ليس على الله ببعيد، يريهم فيه مصارعهم- وهم الظالمون: أي المشركون- وهو يرسم مصارع الظالمين حين يباغتهم عذاب الله أو يواجههم وحين يأتيهم على غرة أو وهم مستيقظون:
«قُلْ: أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً، هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ؟» ..
إن عذاب الله يأتي في أية صورة وفي أية حالة. وسواء جاءهم العذاب بغتة وهم غارون لا يتوقعونه، أو جاءهم جهرة وهم صاحون متأهبون. فإن الهلاك سيحل بالقوم الظالمين- أي المشركين كغالبية التعبير في القرآن الكريم- وسينالهم هم دون سواهم. ولن يدفعوه عن أنفسهم سواء جاءهم بغتة أو جهرة. فهم أضعف من أن يدفعوه ولو واجهوه! ولن يدفعه عنهم أحد ممن يتولونهم من الشركاء. فكلهم من عبيد الله الضعفاء!
__________
(1) يراجع بتوسع: فصل: «التخييل الحسي والتجسيم» وفصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(2/1092)
وهو توقع يعرضه السياق عليهم ليتقوه، ويتقوا أسبابه قبل أن يجيء. والله- سبحانه- يعلم أن عرض هذا التوقع في هذا المشهد يخاطب الكينونة البشرية خطاباً تعرفه في قرارتها، وتعرف ما وراءه من حقيقة ترجف لها القلوب! وحين تبلغ الموجة أقصى مدها، بعرض هذه المشاهد المتوالية، والتعقيبات الموحية، والإيقاعات التي تحمل الإنذار إلى أعماق السرائر.. تختم ببيان وظيفة الرسل، الذين تطالبهم أقوامهم بالخوارق، وإن هم إلا مبلغين، مبشرين ومنذرين، ثم يكون بعد ذلك من أمر الناس ما يكون، وفق ما يتخذونه لأنفسهم من مواقف يترتب عليها الجزاء الأخير:
«وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ..
لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود، وفي أطوار الحياة، وفي أسرار الخلق والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه..
وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله. وهي في ذاتها خوارق معجزة.. ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود، ويتألف منها قوامه. وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر، معجز في تعبيره ومعجز في منهجه، ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال. والذي لم يلحق به من بعده أي مثال! وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة، وتوجيهاً طويلاً، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة، وهذا المدى من الرقي وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري، في ظل التوجيه الرباني، والضبط القرآني، والتربية النبوية.. قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية! وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان- كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة- فالرسول بشر، يرسله الله ليبشر وينذر، وهنا تنتهي وظيفته، وتبدأ استجابة البشر، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة.. فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف. فهناك المغفرة على ما أسلف، والثواب على ما أصلح.. ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود. يمسهم العذاب بسبب كفرهم، الذي يعبر عنه هنا بقوله: «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع..
تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض. وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين..
تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله، ويجعل للإنسان- من(2/1093)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
خلال ذلك- حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله، مما كان سائداً في الجاهليات.. وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية، والجدل اللاهوتي، الذي استنفد طاقة الإدراك البشري أجيالا بعد أجيال!!!
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 55]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة، وطبيعة الرسول بمناسبة طلبهم للخوارق- التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق- وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية- والبشرية بصفة عامة- عن الرسالات والرسل بعد ما عبثت بهذه التصورات جاهليات العرب وغيرهم من الأمم حولهم فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة، وحقيقة الوحي، وحقيقة الرسول ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضاً! وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب وأن يأتي بالخوارق وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر! .. ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل، التي شاعت في الجاهليات كلها. وكان أقربها إلى مشركي العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه!(2/1094)
وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل. يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها.. فالرسول الذي يقدمها للناس بشر، لا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، ولا يقول لهم: إني ملك.. وهو لا يتلقى إلا من ربه، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه. والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله، وعليه أن يلزمهم، وأن يهش لهم، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة.
كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة ليصلوا إلى مرتبة التقوى، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته، كما أنه في «البشرية» وفي «تلقي الوحي» تنحصر حقيقته. فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعاً.. ثم إنه بهذا التصحيح، وبهذا الإنذار، تستبين سبيل المجرمين، عند مفرق الطريق، ويتضح الحق والباطل، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين.
وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية، وعلاقة الرسول بها، وعلاقة الناس جميعاً- الطائعين منهم والعصاة- ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة. فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى. والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تأبوا منها وأصلحوا بعدها. وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين، فيؤمن من يؤمن عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون..
«قُلْ: لا أَقُولُ لَكُمْ: عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ» ..
لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بآية من الخوارق يصدقونه بها- وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه- وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهباً! وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصباً مخضراً بالزروع والثمار! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء.. إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم! ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم، وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة، بعد ما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور..
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من «النبوءات» الزائفة، يدعيها «متنبئون» ويصدقها مخدوعون..
ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب، والاتصال بالجن والأرواح، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ، أو بالدعوات والصلوات، أو بغيرها من الوسائل والأساليب. وتتفق كلها في الوهم والضلالة، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب.
«فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء. ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة «بالأرباب!» لا تطيع الكاهن، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه، وترشده بالعلامات والأحلام، ولا تلبي سائر(2/1095)
الدعوات والصلوات! ولكنهما- نبوءة السحر ونبوءة الكهانة- تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس. لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان، ويريدان قصداً ما يطلبانه بالعزائم والصلوات، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره، ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها، ولعله لا يعيها. ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه، ولحن رموزه وإشاراته. وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب «مانتي» «» ويسمون المفسر: «بروفيت» «» أى المتكلم بالنيابة عن غيره. ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها. وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون، إلا أن يكون الكاهن متولياً للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب، ومضامين رموزه وإشاراته. ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة. فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده. وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد» «1» .
«وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار، ودراويش الطرق الصوفية، لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود، واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب.
«جاء في كتاب صموئيل الأول:
أن شاول أرسل لأخذ داود رسلاً.. «فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون، وشاول واقف بينهم رئيساً عليهم.
فهبط روح الله على رسل شاول، فتنبأواهم أيضاً. وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء ... فخلع هو أيضاً ثيابه، وتنبأ هو أيضاً أمام صموئيل، وانتزع عارياً ذلك النهار كله وكل الليل» ..
«وجاء في كتاب صموئيل كذلك:
« ... أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة، وأمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبأون، فيحل عليهم روح الرب، فتتنبأ معهم، وتتحول إلى رجل آخر.
«وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني: «إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع: هوذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا، فلنذهب إلى الأردن» .
«وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع، كما جاء في سفر الأيام الأول. حيث قيل: إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج» «2» ...
__________
(1) عن كتاب: «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» للأستاذ العقاد ص 60.. ونحن ننقل عن الكتاب ما نستشهد به في هذا الموضع دون إقرار لمنهج المؤلف في تقريره لتطور صورة الألوهية وصورة النبوة في الأديان- بما فيها الأديان السماوية- حتى بلغت كمالها في الإسلام. فهذه الصورة واحدة في جميع الأديان السماوية الصحيحة. ولا عبرة بما دخل عليها من التحريف بعد ارتداد أهلها إلى الجاهلية، وتحريفهم لما جاءهم به الرسل، وإخضاعه لتصوراتهم الجاهلية.. والقرآن الكريم، وهو أصدق سجل، يقرر هذا الذي نقول. ولا عبرة بما يقوله علماء الأديان الغربيون في هذا من الفروض والظنون!
(2) المصدر السابق 66.(2/1096)
وهكذا حفلت الجاهليات- ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية- بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي. وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة.. ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول.. ومنها هذا التقرير:
«قُلْ: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟» ..
إنه- صلى الله عليه وسلم- يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشراً مجرداً من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة. وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء.. لا ثراء. ولا ادعاء..
إنها عقيدة يحملها رسول، لا يملك إلا هداية الله، تنير له الطريق! ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم.. إنه لا يقعد على خزائن الله، ليغدق منها على من يتبعه، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكاً.. إنما هو بشر رسول وإنما هي هذه العقيدة وحدها، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة..
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة، وإلى الله. فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف.. من أرادها لذاتها فهو بها حقيق، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة. ومن أرادها سلعة في سوق المنافع، فهو لا يدرك طبيعتها، ولا يعرف قيمتها، وهي لا تمنحه زاداً، ولا غناء..
لذلك كله يؤمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقدمها للناس هكذا، عاطلة من كل زخرف، لأنها غنية عن كل زخرف وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال، ولا إلى وجاهة دنيا، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى. إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى.
«قُلْ: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» ..
ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة، ويخرجون من الظلام والعماء:
«قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟» ..
ثم.. إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى.. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة.. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط.. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته.. وهذه وظيفته.. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيداً عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير.
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحداً. تجربة بعد تجربة، وحادثة(2/1097)
بعد حادثة، وصورة بعد صورة.. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاماً، ويضع على أساسها نظاماً، ملحوظاً فيه الشمول والتوازن.. ومن ثم يظل- حين ينعزل عن منهج الله وهداه- يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.. وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة.. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله وجعل التجارب والتقلبات في «الأشياء» وفي «المادة» وفي «الأجهزة» وفي «الآلات» .. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح! ويتعرض لهذا كله- بعد طبيعة تركيبه- بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضاً، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم- في مجال الحياة البشرية- ليقّوم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته.
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا.. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه! والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله.. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به.
لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة «1» والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله إنما يقولون قولاً لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك.. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها «الإنسان» مهما فتحت عليه أبواب كل شيء ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق «2» .. وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق شريعة الله- فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك!
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» في الجزء السادس من هذه الطبعة من الظلال: ص 805- 809
(2) يراجع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» .(2/1098)
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى، واقتران الحديث عن تلقي الرسول- صلى الله عليه وسلم- من الوحي وحده، بالإشارة إلى العمى والبصر، بالسؤال التحضيضي على التفكير:
«إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ؟» ..
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني.. فالتفكر مطلوب، والحض عليه منهج قرآني ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي، الذي يمضي معه مبصراً في النور لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير..
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جداً..
يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث، ومجالات الحياة جميعاً.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى..
«وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إنها عزة هذه العقيدة، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة..
لقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء.. كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه وألا يقيم وزناً بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة:
«وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..
أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم.
ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه، وهو لا يشفع يومئذ- بعد الإذن- إلا لمن ارتضى الله أن يشفع عند الله فيهم.. فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه- من دون الله- ولي ولا شفيع، أحق بالإنذار، وأسمعُ له، وأكثر انتفاعاً به.. لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا ما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة. فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موحٍ. بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر فلا يقعون فيما نهوا عنه بعد ما تبين لهم:
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ..
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء يريدون وجهه(2/1099)
سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه.. وهي صورة للتجرد، والحب، والأدب.. فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء. وهو لا يبغي وجه الله، إلا إذا تجرد. وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب. وهو لا يفرد الله- سبحانه- بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب، وصار ربانياً يعيش لله وبالله..
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من «أشراف» العرب، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام لأن محمداً- صلى الله عليه وسلم- يؤوي إليه الفقراء الضعاف، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود.. ومن إليهم.. وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يطردهم عنه.. فأبى.. فاقترحوا أن يخصص لهم مجلساً ويخصص للأشراف مجلساً آخر، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي! فهمّ- صلى الله عليه وسلم- رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه. فجاءه أمر ربه:
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ..
روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال: كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- ستة نفر. فقال المشركون للنبي- صلى الله عليه وسلم-: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما.. فوقع في نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ..
ولقد تقوّل أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف، الذين يخصهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمجلسه وبعنايته وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.. فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضاً:
«ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» ..
فإن حسابهم على أنفسهم، وحسابك على نفسك. وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله، لا شأن لك به. كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به. ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه. فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله، ولا تقوّم بقيمه..
فكنت من الظالمين.. وحاشا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون من الظالمين! وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه. واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله..
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟
إنه لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقونا إليه ولهدانا الله به قبل أن يهديهم! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه! وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية، مشرقة الآفاق، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة(2/1100)
التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها! «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟» ..
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء:
«أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» ؟ هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات:
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة، التي لا كفاء لها من شكر العبد، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعد له جزاء.
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية. إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها. لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء. فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات! وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء. وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد. وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله..
ويمضي السياق يأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف! .. أن يبدأهم بالسلام.. وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة متمثلاً في مغفرته لمن عمل منهم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح:
«وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهو التكريم- بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب، والرحمة في الجزاء، حتى ليجعل الله- سبحانه- الرحمة كتاباً على نفسه للذين آمنوا بآياته ويأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يبلغهم ما كتبه ربهم على نفسه. وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله، متى تابوا من بعده وأصلحوا- إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب فما يذنب الإنسان إلا من جهالة وعلى ذلك يكون النص شاملاً لكل سوء يعمله صاحبه متى تاب من بعده وأصلح. ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب- أياً كان- والإصلاح بعده، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة ...
ونعود- قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة- إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جداً..
قال أبو جعفر الطبري: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو زبيد، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن ابن مسعود، قال: مر الملأ من قريش بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين. فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك! فنزلت هذه الآية:(2/1101)
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» .. «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» إلى آخر الآية.
وقال: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي- وكان قارئ الأزد- عن أبي الكنود، عن خباب في قول الله تعالى ذكره: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» .. إلى قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» .. قال: جاء الأقرع ابن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجد النبي- صلى الله عليه وسلم- قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حقروهم. فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية:
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، فَتَطْرُدَهُمْ، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» .. ثم قال: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟» .. ثم قال: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» .. فألقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» .. فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. (سورة الكهف: 28) قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم «1» ! وكان- صلى الله عليه وسلم- بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأ هم بالسلام» .
وفي صحيح مسلم: عن عائذ بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، ونفر. فقالوا:
والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها! قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟
فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبره. فقال: «يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» . فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي..
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص.. والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك..
إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في «حقوق الإنسان!» .. إنها أكبر من ذلك بكثير..
إنها تمثل شيئاً هائلاً تحقق في حياة البشرية فعلاً.. تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها.. تمثل خطاً وضيئاً على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية.. ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوماً ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشر
__________
(1) عقب ابن كثير في تفسيره على هذا الحديث قال: «وهذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر» .. ولم أجد لهذا التعقيب وجها. فإن قولهما هذا إنما كان قبل إسلامهما قطعا. فهما لا يقولان ما قالا وهما مسلمان! ومن ثم فلا تعارض بين هذه الرواية وبين أن إسلامهما كان بعد الهجرة بدهر. فهما أعرضا عن الإسلام يومها حيث لم يستجب لقولهما..(2/1102)
الواقعية.. إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم. أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه ما دام أنها قد بلغته فهو في طوقها إذن وفي وسعها.. والخط هناك على الأفق، والبشرية هي البشرية وهذا الدين هو هذا الدين.. فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين..
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله.. من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها! فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم- وكانت فيه البشرية كلها- فهو يتمثل واضحاً في قوله: «الملأ» من قريش: «يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا؟
أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك!» .. أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، للسابقين من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، وأمثالهم من الضعفاء وقولهما للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد!» ..
.. هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح! وقيمها الهزيلة، واعتباراتها الصغيرة.. عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة.. وما إلى ذلك من اعتبارات. هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء! .. ذات القيم التي تروج في كل جاهلية! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية! هذا هو سفح الجاهلية.. وعلى القمة السامقة الإسلام! الذي لا يقيم وزناً لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة، ولهذه النعرات السخيفة! .. الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض. فالأرض كانت هي هذا السفح.. هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة.. الإسلام الذي يأتمر به- أول من يأتمر- محمد- صلى الله عليه وسلم- محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش.. والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن «هؤلاء الأعبد» .. نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد وصاروا أعبداً لله وحده فكان من أمرهم ما كان! وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش، وفي مشاعر الأقرع وعيينة.. فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير، لرسوله- صلى الله عليه وسلم-:
«وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ، ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ويتمثل في سلوك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع «هؤلاء الأعبد» .. الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم- وهو بعد ذلك- رسول الله وخير خلق الله، وأعظم من شرفت بهم الحياة! ثم يتمثل في نظرة «هؤلاء الأعبد» لمكانهم عند الله ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها «سيوف الله» ونظرتهم(2/1103)
لأبي سفيان «شيخ قريش وسيدهم» بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام، وهو في شدة الابتلاء.. فلما أن عاتبهم أبو بكر- رضي الله عنه- في أمر أبي سفيان، حذره صاحبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون قد أغضب «هؤلاء الأعبد» ! فيكون قد أغضب الله- يا الله! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه! - ويذهب أبو بكر- رضي الله عنه- يترضى «الأعبد» ليرضى الله: «يا إخوتاه. أغضبتكم» ؟ فيقولون: «لا يا أخي. يغفر الله لك» ! أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبدل في القيم والأوضاع، وفي المشاعر والتصورات، في آن؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة، والناس هم الناس، والاقتصاد هو الاقتصاد.. وكل شيء على ما كان، إلا أن وحياً نزل من السماء، على رجل من البشر، فيه من الله سلطان.. يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحداء- على طول الطريق- إلى القمة السامقة.. فوق.. فوق.. هنالك عند الإسلام! ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم- مرة أخرى- في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو.. وفي جوها نسبرج.. وفي غيرها من أرض «الحضارة!» تلك العصبيات النتنة.
عصبيات الجنس واللون، وتقوم هنا وهناك عصبيات «وطنية» و «قومية» و «طبقية» لا تقل نتناً عن تلك العصبيات..
ويبقى الإسلام هناك على القمة.. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية.. يبقى الإسلام هناك- رحمة من الله بالبشرية- لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة.. وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام..
ونحن لا نملك- في حدود منهجنا في هذه الظلال- أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة.. لا نملك أن نقف هنا تلك «الوقفة الطويلة» التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها. لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط، إلى تلك القمة السامقة البعيدة.. ثم تهبط مرة أخرى على عواء «الحضارة المادية» الخاوية من الروح والعقيدة! .. ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى بعد أن فشلت جميع التجارب، وجميع المذاهب، وجميع الأوضاع، وجميع الأنظمة، وجميع الأفكار وجميع التصورات، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله وهداه.. فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة وأن تفيض على القلوب الطمأنينة- مع هذه النقلة الهائلة- وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح وبلا اضطهادات وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية وبلا رعب، وبلا فزع، وبلا تعذيب، وبلا جوع، وبلا فقر، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر ويتعبد فيها بعضهم بعضاً من دون الله..(2/1104)
فحسبنا هذا القدر هنا.. وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها، وتسكبها في القلوب المستنيرة «1» .
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة. كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها..
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» ..
بمثل هذا المنهج، وبمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا البيان والتفصيل.. نفصل الآيات، التي لا تدع في هذا الحق ريبة ولا تدع في هذا الأمر غموضاً ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق فالحق واضح، والأمر بين، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج..
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع، يعتبر داخلاً في مدلول قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» ..
أما ختام هذه الآية القصيرة:
«وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..
فهو شأن عجيب! .. إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب. إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً.. إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين. وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق! إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله- سبحانه- ليتعامل مع النفوس البشرية.. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص وأن ذلك حق ممحض وخير خالص.. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل..
وأنه يسلك سبيل المجرمين الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ» .. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد
__________
(1) لاستكمال بعض جوانب الرؤية لهذه الحقيقة الكبيرة، يراجع تفسير قوله تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ... » في الجزء الثلاثين من هذه الظلال.(2/1105)
غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان متقابلتان، وطريقان مفترقتان.. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط..
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ووضع العنوان المميز للمؤمنين. والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين..
وهذا التحديد كان قائماً، وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين.. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله- سبحانه- يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة- ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية.. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك.. لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا.. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للاسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته.. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً.
وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله.. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله- وحده- هو خالق هذا الكون المتصرف فيه. وأن الله- وحده- هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله- وحده- هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله.. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد. كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد..
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام.. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول..
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر..
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين واختلاط الشارات والعناوين والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة. فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح(2/1106)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! .. تهمة تكفير «المسلمين» !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى.. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين.. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين.. المجرمين..
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ، وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم «المسلمون» وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم «المجرمون» .. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملة وقومهم على ملة. وأنهم في دين وقومهم في دين:
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» ..
.. وصدق الله العظيم..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 65]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)(2/1107)
هذه الموجة عودة إلى «حقيقة الألوهية» بعد بيان «حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول» في الموجة السابقة لها في السياق المتلاحم وبعد استبانة سبيل المجرمين واستبانة سبيل المؤمنين- كما ذكرنا ذلك في نهاية الفقرة السابقة.
وحقيقة الألوهية في هذه الموجة تتجلى في مجالات شتى نجملها هنا- قبل تفصيلها في استعراض النصوص القرآنية:
تتجلى في قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يجد في نفسه بينة من ربه، هو منها على يقين، لا يزعزعه تكذيب المكذبين. ومن ثم يخلص نفسه لربه، ويفاصل قومه مفاصلة المستيقن من ضلالهم يقينه من هداه «قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قُلْ: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ، قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» ..
وتتجلى في حلم الله على المكذبين، وعدم استجابته لاقتراحاتهم أن ينزل عليهم خارقة مادية حتى لا يعجل لهم بالعذاب عند تكذيبهم بها- كما جرت سنته تعالى- وهو قادر عليه. ولو كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يملك هذا الذي يستعجلون به، ما أمسكه عنهم، ولضاقت بشريته بهم وبتكذيبهم. فإمهالهم هذا الإمهال هو مظهر من مظاهر حلم الله ورحمته، كما أنها مجال تتجلى فيه ألوهيته: «قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» ..
وتتجلى في علم الله بالغيب وإحاطة هذا العلم بكل ما يقع في هذا الوجود في صورة لا تكون إلا لله ولا يصورها هكذا إلا الله: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
وتتجلى في هيمنة الله على الناس وقهره للعباد في كل حالة من حالاتهم، في النوم والصحو، في الموت والحياة، في الدنيا والآخرة: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً،(2/1108)
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا، وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» .
وتتجلى في فطرة المكذبين أنفسهم، حين يواجهون الهول فلا يدعون إلا الله لرفعه عنهم.. ثم هم مع ذلك يشركون، وينسون أن الله، الذي يدعونه لكشف الضر، قادر على أن يذيقهم ألوان العذاب فلا يدفعه عنهم أحد: «قُلْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ؟ قُلِ: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» .
«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.. قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي- وَكَذَّبْتُمْ بِهِ- ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ. قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» ..
تحتشد هذه الموجة بالمؤثرات الموحية، التي تتمثل في شتى الإيقاعات التي تواجه القلب البشري بحقيقة الألوهية في شتى مجاليها.. ومن بين هذه المؤثرات العميقة، ذلك الإيقاع المتكرر: «قل.. قل.. قل..»
خطابا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليبلغ عن ربه، ما يوحيه إليه وما لا يملك غيره ولا يتبع غيره ولا يستوحي غيره:
«قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قُلْ: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» ..
يأمر الله- سبحانه- رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يواجه المشركين بأنه منهي من ربه عن عبادة الذين يدعونهم من دون الله ويتخذونهم أنداداً لله.. ذلك أنه منهي عن اتباع أهوائهم- وهم إنما يدعون الذين يدعون من دون الله عن هوى لا عن علم، ولا عن حق- وأنه إن يتبع أهواءهم هذه يضل ولا يهتدي. فما تقوده أهواؤهم وما تقودهم إلا إلى الضلال.
يأمر الله- سبحانه- نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يواجه المشركين هذه المواجهة، وأن يفاصلهم هذه المفاصلة كما أمره من قبل في السورة بمثل هذا وهو يقول: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ: لا أَشْهَدُ. قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» ..
ولقد كان المشركون يدعون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يوافقهم على دينهم، فيوافقوه على دينه! وأن يسجد لآلهتهم فيسجدوا لإلهه! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأن الشرك والإسلام يجتمعان في قلب! وكأن العبودية لله يمكن أن تقوم مع العبودية لسواه! وهو أمر لا يكون أبداً. فالله أغنى الشركاء عن الشرك.
وهو يطلب من عباده أن يخلصوا له العبودية ولا يقبل منهم عبوديتهم له إذا شابوها بشيء من العبودية لغيره..
في قليل أو كثير..
ومع أن المقصود في الآية أن يواجههم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأنه منهي عن عبادة أيٍّ مما يدعون ويسمون من دون الله، فإن التعبير ب «الذين» في قوله تعالى:
«قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..(2/1109)
يستوقف النظر. فكلمة الذين تطلق على العقلاء. ولو كان المقصود هي الأوثان، والأصنام، وما إليها لعبر ب «ما» بدل «الذين» .. فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعاً آخر- مع الأصنام والأوثان وما إليها- نوعاً من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول: «الذين» فغلب العقلاء، ووصف الجميع بوصف العقلاء..
وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة:
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها. ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس.. وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد.
حيث يسنون لهم السنن، ويضعون لهم التقاليد ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي..
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية.. فالإسلام يعتبر هذا شركاً ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم وجعلهم أنداداً من دون الله.. وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان فكلاهما في عرف الإسلام سواء.. شرك بالله، ودعوة أنداد من دون الله! ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولاً بالإيقاع الأول ومتمماً له:
«قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» ..
وهو أمر من الله- سبحانه- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم- بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ، والدليل الداخلي البين، والإحساس الوجداني العميق، بربه..
ووجوده، ووحدانيته، ووحيه إليه. وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريباً منه:
قالها نوح- عليه السلام-: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ؟ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟» ..
وقالها صالح- عليه السلام-: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
وقالها إبراهيم- عليه السلام-: «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟» ..
وقالها يعقوب- عليه السلام- لبنيه: «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم فيجدونه- سبحانه- حاضراً فيها ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها. وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه:
«قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَكَذَّبْتُمْ بِهِ» ..
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله.. وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول وأن يفرق فرقاناً كاملاً بينها وبين حقيقة الألوهية وأن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه فالذي يملكه هو الله وحده وهو ليس إلهاً، إنما هو رسول:(2/1110)
«ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» ..
إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء ولله وحده الحكم والقضاء. فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به.
وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه.
وبذلك يجرد الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه من أن تكون له قدرة، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده. فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها، وهو بشر يوحى إليه، ليبلغ وينذر لا لينزل قضاء ويفصل. وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه.. وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله- سبحانه- وخصائصه، عن ذوات العبيد..
ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله، ومتروك لمشيئة الله.
فلو أن أمر الخوارق- بما فيها إنزال العذاب- في مقدوره- وهو بشر- ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم، وهم يلحفون هذا الإلحاف. ولكن لأن الأمر بيد الله وحده، فهو يحلم عليهم فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم:
«قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» ..
إن للطاقة البشرية حدوداً في الصبر والحلم والإمهال. وما يحلم على البشر ويمهلهم- على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم- إلا الله الحليم القوي العظيم..
وصدق الله العظيم.. فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر، وتبلغ منه الروح الحلقوم..
ثم ينظر فيجد الله- سبحانه- يسعهم في ملكه، ويطعمهم، ويسقيهم، ويغدق أحياناً عليهم، ويفتح عليهم أبواب كل شيء.. وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة أبي بكر- رضي الله عنه- والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ، حتى ما يعرف له أنف من عين: «رب ما أحلمك! رب ما أحلمك!» .. فإنما هو حلم الله وحده.. وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون! «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» ..
فهو يمهلهم عن علم، ويملي لهم عن حكمة، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون، ثم ينزل بهم العذاب الأليم..
وبمناسبة علم الله- سبحانه- بالظالمين واستطراداً في بيان حقيقة الألوهية يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة.. مجال الغيب المكنون، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ويرسل سهاماً بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد:
«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ..
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان، في الأرض ولا في السماء، في البر ولا في البحر، في جوف الأرض ولا في طباق الجو، من حي وميت ويابس ورطب ...
ولكن أين هذا الذي نقوله نحن- بأسلوبنا البشري المعهود- من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين(2/1111)
هذا التعبير الإحصائي المجرد، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول، وعالم الغيب وعالم الشهود، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح، ووراء حدود هذا الكون المشهود.. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد- أو يحاول أن يرتاد- أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل البعيدة الآماد والآفاق والأغوار.. مفاتحها كلها عند الله لا يعلمها إلا هو..
ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض، لا يحصيها عد، وعين الله على كل ورقة تسقط، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط..
إنها جولة تدير الرؤوس، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان، وآفاق من المكان، وأغوار من المنظور والمحجوب، والمعلوم والمجهول.. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف، يعيا بتصور آمادها الخيال..
وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات..
ألا إنه الإعجاز! وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز، الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر..
إن الفكر البشري- حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع: موضوع شمول العلم وإحاطته- لا يرتاد هذه الآفاق..
إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته.. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر، في كل أنحاء الأرض؟
إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته.. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به، ولا أن يلحظوا وجوده، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! وما اهتمام الفكر بهذا الإطلاق: «وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» .. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم.. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق، ويعبر عنه الخالق! ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة، وكل حبة مخبوءة، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين، وفي سجل محفوظ.. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك، الذي لا يند عنه شيء في ملكه.. الصغير كالكبير والحقير كالجليل والمخبوء كالظاهر والمجهول كالمعلوم والبعيد كالقريب..
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع.. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً، والحب المخبوء(2/1112)
في أطواء الأرض جميعاً، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً.. إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري وكذلك لا تلحظه العين البشرية ولا تلم به النظرة البشرية.. إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده المشرف على كل شيء، المحيط بكل شيء.. الحافظ لكل شيء، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.. الصغير كالكبير، والحقير كالجليل، والمخبوء كالظاهر، والمجهول كالمعلوم، والبعيد كالقريب..
والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيداً حدود التصور البشري، وحدود التعبير البشري أيضاً. ويعلمون- من تجربتهم البشرية- أن مثل هذا المشهد، لا يخطر على القلب البشري كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضاً.. والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلاً! وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم..
كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته، فنرى آفاقاً من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر، على هذا المستوى السامق:
«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» .. آماد وآفاق وأغوار في «المجهول» المطلق. في الزمان والمكان، وفي الماضي والحاضر والمستقبل، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان..
«وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» .. آماد وآفاق وآغوار في «المنظور» ، على استواء وسعة وشمول.. تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب.
«وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» .. حركة الموت والفناء وحركة السقوط والانحدار، من علو إلى سفل، ومن حياة إلى اندثار.
«وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ» .. حركة البزوغ والنماء، المنبثقة من الغور إلى السطح، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق.
«وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .. التعميم الشامل، الذي يشمل الحياة والموت، والأزدهار والذبول في كل حي على الإطلاق..
فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال؟ .. من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله، في مثل هذا النص القصير.. من؟ إلا الله! ثم نقف أمام قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ..
نقف لنقول كلمة عن «الغيب» و «مفاتحه» واختصاص الله- سبحانه- «بالعلم» بها.. ذلك أن حقيقة الغيب من «مقومات التصور الإسلامي» الأساسية لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ومن قواعد «الإيمان» الرئيسية.. وذلك أن كلمات «الغيب» و «الغيبية» تلاك في هذه الأيام كثيراً- بعد ظهور المذهب المادي- وتوضع في مقابل «العلم» و «العلمية» .. والقرآن الكريم يقرر أن هناك «غيباً» لا يعلم «مفاتحه» إلا الله. ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل.. وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو- سبحانه-(2/1113)
من طاقته ومن حاجته. وأن الناس لا يعلمون- فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه- إلا ظناً، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً.. كما يقرر- سبحانه- أن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سنناً لا تتبدل وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ويتعامل معها- في حدود طاقته وحاجته- وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق.. دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها، بحقيقة «الغيب» المجهول للإنسان، والذي سيظل كذلك مجهولاً، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله، ينشىء هذا الحدث ويبرزه للوجود.. في تناسق تام في العقيدة الإسلامية، وفي تصور المسلم الناشئ من حقائق العقيدة..
فهذه الحقائق بجملتها- على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل- تحتاج منا هنا- في الظلال- إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضاً «1» .
إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية:
«ألم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. (البقرة: 1- 5) .
والإيمان بالله- سبحانه- هو إيمان بالغيب. فذات الله- سبحانه- غيب بالقياس إلى البشر فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب، يجدون آثار فعله، ولا يدركون ذاته، ولا كيفيات أفعاله.
والإيمان بالآخرة كذلك، هو إيمان بالغيب. فالساعة بالقياس إلى البشر غيب، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن، تصديقاً لخبر الله سبحانه.
والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة:
«آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. غُفْرانَكَ رَبَّنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة: 285) .
فنجد في هذا النص أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين كذلك، كلٌّ آمن بالله- وهو غيب- وآمن بما أنزل الله على رسوله- وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله- سبحانه- كما قال في الآية الأخرى: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» .. (الجن: 26- 27) .
وآمن بالملائكة- وهي غيب- لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله، على قدر طاقتهم وحاجتهم «2» .
ويبقى من الغيب الذي لذا لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به: قدر الله- وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع- كما جاء في حديث الإيمان: « ... والقدر خيره وشره» ... (اخرجه الشيخان) ..
على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب.. غيب في الماضي وغيب في الحاضر، وغيب
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» بقسميه. «دار الشروق» .
(2) يراجع ما جاء عن الملائكة في هذا الجزء ص 1039- 1042(2/1114)
في المستقبل.. غيب في نفسه وفي كيانه، وغيب في الكون كله من حوله.. غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره، وغيب في طبيعته وحركته.. غيب في نشأة الحياة وخط سيرها، وغيب في طبيعتها وحركتها..
غيب فيما يجهله الإنسان، وغيب فيما يعرفه كذلك! ويسبح الإنسان في بحر من المجهول.. حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانه هو ذاته فضلاً على ما يجري حوله في كيان الكون كله وفضلاً عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله: ولكل ذرة، وكل كهرب من ذرة وكل خلية وكل جزئي من خلية! إنه الغيب.. إنه المجهول.. والعقل البشري- تلك الذبالة القريبة المدى- إنما يسبح في بحر المجهول.
فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم. ولولا عون الله له، وتسخير هذا الكون، وتعليمه هو بعض نواميسه، ما استطاع شيئاً.. ولكنه لا يشكر.. «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .. بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن، وبما آتاه من العلم القليل.. يتبجح فيزعم أحياناً أن «الإنسان يقوم وحده» «1» ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه! ويتبجح أحياناً فيزعم أن «العلم» يقابل «الغيب» وأن «العلمية» في التفكير والتنظيم تقابل «الغيبية» وأنه لا لقاء بين العلم والغيب كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية! فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب» .. في بحوث وأقوال «العلماء» من بني البشر أنفسهم- بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل- «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ...
(الإسراء: 85) «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» .. (النجم: 29) وأن الغيب كله لله: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ... (الأنعام: 59) وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى؟» .. (النجم: 35) ... وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها..
فلنلق نظرة على وقفة «العلم» أمام «الغيب» في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه- فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر- ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب، والعلمية والغيبية، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا «الثقافة» و «المعرفة» ليعيشوا في زمانهم ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه! وليستيقنوا أن «الغيب» هو الحقيقة «العلمية» الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته! وأن «العلمية» في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماماً «للغيبية» .. أما الذي يقابل الغيبية حقاً فهو «الجهلية» !!! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر- ربما- ولكنها لا تعيش في القرن العشرين!!! عالم معاصر- من أمريكا- يقول عن «الحقائق» التي يصل إليها «العلم» بجملتها:
«إن العلوم حقائق مختبرة ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته. ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود. فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ. وهي تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات كذلك.. وليس باليقين.. ونتائج العلوم بذلك تقريبية، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ونتائجها اجتهادية، وقابلة للتعديل بالإضافة
__________
(1) عنوان كتاب للملحد جوليان هاكسلي:(2/1115)
والحذف، وليست نهائية. وإننا لنرى أن العالِم عند ما يصل إلى قانون أو نظرية يقول: إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن، ويترك الباب مفتوحاً لما قد يستجد من التعديلات» «1» .
وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك، فطالما أن «الإنسان» بوسائله المحدودة، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى وقابلة للخطأ والصواب، والتعديل والتبديل..
على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس. فهو يجرب، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس والقياس- باعتراف العلم وأهله- وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ولا يمكن أبداً أن تكون قطعية ولا نهائية. والوسيلة الأخرى- وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف- وسيلة غير مهيأة للإنسان.
وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية. ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس. ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له، علماً ظنياً لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال! على أن «الغيب» ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك ...
هذا الكون من حوله.. إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته، وحول «الزمان» ما هو وحول «المكان» وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان.
والحياة. ومصدرها. ونشأتها. وطبيعتها. وخط سيرها. والمؤثرات فيها. وارتباطها بهذا الوجود «المادي» ! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة «الفكر» وغير طبيعة الطاقة على العموم! «والإنسان» ما هو؟ ما الذي يميزه من المادة؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف؟ وما «العقل» الذي يتميز به ويتصرف؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال؟ ..
بل هذا الكيان الإنساني ذاته، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة؟ وكيف يجري؟ «2» ..
إنها كلها ميادين للغيب، يقف العلم على حافاتها، ولا يكاد يقتحمها، حتى على سبيل الظن والترجيح.
وإن هي إلا فروض واحتمالات! ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه- إلا قليلاً في هذا القرن- من حقيقة الألوهية، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله. ومن حقيقة الموت، وحقيقة الآخرة. وحقيقة الحساب والجزاء..
لندع هذا كله لحظة ففي «الغيب» القريب، الكفاية، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على «العلم» والتبجح على الإخلاص!
__________
(1) من مقال: «درس من شجيرة الورد» لماريت ستانلي كونجدن، العالم الطبيعي الفيلسوف.. عن كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان. [.....]
(2) «الإنسان ذلك المجهول» لأليكسيس كاريل.(2/1116)
ونضرب بعض الأمثال..
1- في قاعدة بناء الكون وسلوكه:
الذرة- فيما يقول العلم الحديث- قاعدة بناء الكون. وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم. فهي مؤلفة من بروتونات (طاقة كهربية موجبة) والكترونات (طاقة كهربية سالبة) ونيوترونات (طاقة محايدة مكونة من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين) وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب (الإلكترونات) ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكاً حتمياً موحداً. فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف. ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدماً. وإنما هي تخضع لقانون آخر- غير الحتمية- هو قانون الاحتمالات. وكذلك تسلك الذرة نفسها، والمجموعة المحدودة من الذرات (في صورة جزئيات) هذا السلوك.
يقول سير جيمس جيننر- الإنجليزي- الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:
«لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً: وهو الطريق الذي رسم من قبل، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وألا مناص من أن الحالة (أ) تتبعها الحالة (ب) أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو: أن الحالة (أ) يحتمل أن تتبعها (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر أحتمالا من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالاً من الحالة (د) .. وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى.
لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار- مهما تكن حقيقة هذه الأقدار!» .
فمإذا يكون «الغيب» وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته؟
ويضرب مثلاً لذلك إشعاع ذرات الراديوم، وتحولها إلى رصاص وهليوم.. وهي خاضعة تماماً لقدر مجهول، وغيب مستور، يقف دونه علم الإنسان:
«ولنضرب لذلك مثلاً مادياً يزيده وضوحاً: من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم. ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار، ويحل مكانها رصاص وهليوم. والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة. ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان، إذا لم تجد عليهم مواليد، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطاً، ومن غير أن يكون أحدهم مقصوداً لذاته. ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة. فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء «1» .
__________
(1) هكذا يقول الرجل.. ونحن نأخذ من قوله النتيجة العلمية التي وصلت إليها التجربة ووصف الظاهرة الطبيعية. أما تعبيره بأنها خبط عشواء فلا يهمنا! فنحن نعلم أنها قد استوفت حظها، وأن المنية أصابتها بقدر من الله يعلم هو حكمته. وأنه «لكل أجل كتاب» لا فرق بين ذرة الراديوم وأي شيء وأي حي من الأحياء. والناس هكذا يموتون عند استيفاء الأجل المغيب عن العيون!(2/1117)
«ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول: إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم. فإن العلم لا يستطيع أن يقول: كم منها يبقى حياً بعد عام. بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998، وهكذا. وأكثر الأمور احتمالاً في الواقع هو أن يكون العدد 1999، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة، هي التي تتحلل في العام التالي.
«ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة. وقد نشعر في بادىء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي. ولكن هذا كله غير صحيح، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة، فإن في استطاعتها أيضاً أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم، ويضطرها إلى أن تتفكك. وهذه هي نظرية «التفكك التلقائي» التي وضعها «رذرفورد» و «سدي» في عام 1903.
فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد.
وعلى غير علم منها ولا من أحد؟! إن الرجل الذي يقول هذا الكلام، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس. بل إنه ليحاول جاهداً أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته. ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضاً على النحو الذي نراه! 2- وكما تفرض حقيقة «الغيب» نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري.
يقول عالم الأحياء والنبات «رسل تشارلز إرنست» الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا:
«لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البر وتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
«إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني(2/1118)
أؤمن بوجود الله إيماناً راسخاً» «1» .
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله، كنشأة الكون وحركته وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات. وصدق الله العظيم: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» ...
3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان.. إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحوستين مليوناً من الحيوانات المنوية.. كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة.. ولا يعلم أحد من الذي يسبق! فهو غيب، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به- بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر! - ثم يصل السابق من بين ستين مليوناً! ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معاً خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين.
ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة، هو الذي يقرر مصير الجنين- ذكراً أو أنثى- وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر- بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» ... (الرعد: 8- 9) «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» ... (الشورى: 49- 50) «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» ... (الزمر: 6) .
هذا هو «الغيب» الذي يقف أمامه «العلم» البشري ويواجهه في القرن العشرين.. بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن «الغيبية» تنافي «العلمية» . وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية! ذلك بينما العلم البشري ذاته.. علم القرن العشرين.. يقول:
إن كل ما يصل إليه من النتائج هو «الاحتمالات» ! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك «غيباً» لا شك فيه! على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة «الغيب» في العقيدة الإسلامية، وفي التصور الإسلامي، وفي العقلية الإسلامية.
إن القرآن الكريم- وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشئ التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالماً للغيب وعالماً للشهادة. فليس كل ما يحيط بالإنسان غيباً، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولاً..
إن هنالك سنناً ثابتة لهذا الكون يملك «الإنسان» أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها..
__________
(1) من مقال: «الخلايا الحية تؤدي رسالتها» في كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» .. ونحب أن ننبه أننا إذ نقتطف ما نقتطف إنما نخاطب الماديين «العلميين» بلغتهم.. وليس هذا إقرارا منا بصحة كل ما نستشهد به وسلامة منهجه التفكيري والتعبيري في القضية التي نعرضها..(2/1119)
وإلى جانب هذه السنن الثابتة- في عمومها- مشيئة الله الطليقة لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها.
وهناك قدر الله الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها. وهذا القدَر الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها «غيب» لا يعلمه أحد علم يقين وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و «الاحتمالات» .. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضاً..
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة وكلها «غيب» بالقياس إليه، وهي تجري في كيانه! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله وهو لا يعلمها! وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون.. وذلك مع وجود السنن الثابتة، التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعاً علمياً منظماً في النهوض بعبء الخلافة.
وإن «الإنسان» ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله! .. وكذلك كل شيء حي.. ومهما تعلم ومهما عرف، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئاً! إن العقلية الإسلامية عقلية «غيبية علمية» لأن «الغيبية» هي «العلمية» بشهادة «العلم» والواقع.. أما التنكر للغيب فهو «الجهلية» التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة! وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته.. فلا يفوت المسلم «العلم» البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة وهي أن هنالك غيباً لا يُطلع الله عليه أحداً، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء..
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها «الفرد» فيتجاوز مرتبة «الحيوان» الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة «الإنسان» الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس- أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود وأن وراء الكون.. ظاهره وخافيه.. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول.
... «لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية» ! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» ... والحمد لله على نعمائه والنكسة للمنتكسين والمرتكسين» «1» .
__________
(1) عن الجزء الأول من ظلال القرآن من 39- 40.(2/1120)
والذين يتحدثون عن «الغيبية» و «العلمية» يتحدثون كذلك عن «الحتمية التاريخية» كأن كل المستقبل مستيقن! و «العلم» في هذا الزمان يقول: إن هناك «احتمالات» وليست هنالك «حتميات» ! ولقد كان ماركس من المتنبئين «بالحتميات» ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر.. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفاً صناعياً.. في روسيا والصين وما إليها.. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية! ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي. وها هو ذا خليفتهما «خروشوف» يحمل راية «التعايش السلمي» ! ولا نمضي طويلاً مع هذه «الحتميات» التنبؤية! فهي لا تستحق جدية المناقشة! إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك- مع هذا وذلك- سنناً للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحاً لقدر الله النافذ وغيب الله المجهول.. وهذا قوام الأمر كله.. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .
ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب، وبما يجري في جنبات الكون، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل، في ذوات البشر، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية، بعد العلم المحيط:
«وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
بضع كلمات أخرى، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره، وأشارت إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة.. بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله- سبحانه- وفي علمه وقدره وتدبيره.. صحوهم ومنامهم.. موتهم وبعثهم. حشرهم وحسابهم.. ولكن على «طريقة القرآن» «1» المعجزة في الإحياء والتشخيص، وفي لمس المشاعر واستجاشتها، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب.
«وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» ..
فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحواس من غفلة، وما يعتري الحس من سهوة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات- أي انقطاع- وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث وإن عرفوا ظواهره وآثاره وهو «الغيب» في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان.. وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول- حتى من الوعي- ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة. ها هم أولاء في قبضة الله- كما هم دائماً في الحقيقة- لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله.. فما أضعف البشر في قبضة الله! «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» ..
__________
(1) يراجع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(2/1121)
فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر.. وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات لا يند عن علم الله منهم شيء، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار! «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» ..
أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم لتتم آجالكم التي قضاها الله.. وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله. لا مهرب لهم منه، ولا منتهى لهم سواه! «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» ..
فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح! «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
فهو عرض السجل الذي وعى ما كان، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء.
وهكذا تشمل الأية الواحدة، ذات الكلمات المعدودة، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد، والمقررات والحقائق، والإيحاءات والظلال.. فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك؟ وكيف تكون الآيات الخوارق، إن لم تكن هي هذه؟ التي يغفل عنها المكذبون، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم! ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية.. لمسة القوة القاهرة فوق العباد. والرقابة الدائمة التي لا تغفل. والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب. والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل.. وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس:
«وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» ..
«وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» ..
فهو صاحب السلطان القاهر وهم تحت سيطرته وقهره. هم ضعاف في قبضة هذا السلطان لا قوة لهم ولا ناصر. هم عباد. والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون..
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة.. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس- مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا، ومن العلم ليعرفوا، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة- إن كل نفس من أنفاسهم بقدر وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه. وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة! «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» ..
لا يذكر النص هنا ما نوعهم.. وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه..
أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس. ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة. فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء.. وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة..(2/1122)
«حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» ..
الظل نفسه، في صورة أخرى.. فكل نفس معدودة الأنفاس، متروكة لأجل لا تعلمه- فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه- بينما هو مرسوم محدد في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر. وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر، ولا يغفو ولا يغفل ولا يهمل- فهو حفيظ من الحفظة- وهو رسول من الملائكة- فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة- والنفس غافلة مشغولة- أدى الحفيظ مهمته، وقام الرسول برسالته.. وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ويعرف أنه في كل لحظة قد يُقبض، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم.
«ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» ..
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة.. مولاهم الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء.. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط.. ثم ردهم إليه عند ما شاء ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب:
«أَلا لَهُ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» ..
فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطىء في الحكم، ولا يمهل في الجزاء.. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري. فهو ليس متروكاً ولو إلى مهلة في الحساب! وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم- في هذه الأرض- في أمر العباد..
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس..
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم- كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم- وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله- سبحانه- إلهاً في الأرض ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله- أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي المعاملات والارتباطات- والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء..
ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء.. في مشهد قصير سريع، ولكنه واضح حاسم، وموح مؤثر.
إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم الحشر والحساب. فهم يصادفون(2/1123)
الهول في ظلمات البر والبحر. فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله ولا ينجيهم من الكرب إلا الله.. ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء:
«قُلْ: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» ..
إن تصور الخطر، وتذكر الهول، قد يردان النفوس الجامحة، ويرققان القلوب الغليظة، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة:
«قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق.. وظلمات البر والبحر كثيرة.
وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات. فالمتاهة ظلام، والخطر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب.. وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين.. إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها..
حقيقة الألوهية الواحدة.. وتتجه إلى الله الحق بلا شريك لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك! ويبذل المكروبون الوعود:
«لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
والله- سبحانه- يقول لرسوله- صلى الله عليه وسلم- ليذكرهم بحقيقة الأمر:
«قُلِ: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ» . فليس هنالك غيره يستجيب، ويقدر على دفع الكروب..
ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب:
«ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» ..
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة! فما هي مرة وتنتهي، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون:
«قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» ..
وتصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت، أشد وقعاً في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال. فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق، أو يأخذه من تحت، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء.
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء لوناً آخر بطيئاً طويلاً لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار:
«أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» ..
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد الذي يذوقونه بأيديهم، ويجرعونه لأنفسهم إذ يجعلهم(2/1124)
شيعاً وأحزاباً، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض، ولا يفاصل بعضها بعضاً، فهي أبداً في جدال وصراع، وفي خصومة ونزاع، وفي بلاء يصبه هذا الفريق. على ذاك..
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب، كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم.. تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور. وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعاً وشرائع وقوانين وقيماً وموازين من عند أنفسهم يتعبد بها الناس بعضهم بعضاً ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر، والبعض الآخر يأبى ويعارض، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض. وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم. فيذوق بعضهم بأس بعض، ويحقد بعضهم على بعض، وينكر بعضهم بعضاً، لأنهم لا يفيئون جميعاً إلى ميزان واحد يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكباراً عن الخضوع له، ولا يحس في نفسه صغاراً حين يخضع له.
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم، ثم يزاول هذا الحق فعلاً! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعاً ملتبسة لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعاً واحداً، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيداً لبعض ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها- لأنها غير مقيدة بشريعة من الله- ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص.. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصِلة! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد! وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض. وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها- والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية- وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذين يؤثرون البقاء في الجاهلية، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها.
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» .. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها- حتى يأذن الله لها بقيام «دار إسلام» تعتصم بها- وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي «الأمة المسلمة» وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهل جاهلية. وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين.
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة، ولم تتميز هذا التميز، حق عليها وعيد الله هذا. وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبين نفسها، ولا يتبينها الناس مما حولها. وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد دون أن يدركها فتح الله الموعود! إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات.. غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها..
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم.. لم يقع في مرة واحدة، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها(2/1125)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة- أي الدين- وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها- أي نظام حياتها- وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعاً.
وطريق هذه الدعوة واحد. ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعاً، صلوات الله عليهم وسلامه:
«انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» ..
والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 70]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
إنها جولة لتقرير المفاصلة التي انتهت بها الموجة السابقة فقوم النبي- صلى الله عليه وسلم- هم الذين كذبوا بما جاءهم به- وهو الحق- ومن ثم انفصل ما بينه وبين قومه وانبتَّ وأُمر أن يفاصلهم فيعلن إليهم أنه ليس عليهم بوكيل، وأنه يتركهم لمصيرهم الذي لا بد آتٍ، وأمر أن يعرض عنهم فلا يجالسهم متى رآهم يخوضون في الدين، ويتخذونه لعباً ولهواً، ولا يوقرونه التوقير الواجب للدين، وأمر- مع ذلك- أن يذكرهم ويحذرهم ويبلغهم وينذرهم، ولكن على أنه وإياهم- وهم قومه- فريقان مختلفان، وأمتان متميزتان.. فلا قوم ولا جنس ولا عشيرة ولا أهل في الإسلام.. إنما هو الدين الذي يربط ما بين الناس أو يفصم.. وإنما هي العقيدة التي تجمع بين الناس أو تفرق. وحين يوجد أساس الدين توجد تلك الروابط الأخرى. وحين تنفصم هذه العروة تفصم الروابط والصلات.
وهذه هي الخلاصة المجملة لهذه الموجة من السياق.(2/1126)
«وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ- وَهُوَ الْحَقُّ- قُلْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ..
والخطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطيه، ويعطي المؤمنين من ورائه، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة. الثقة بالحق- ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب- فما هم بالحكم في هذا الأمر، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه. وهو يقرر أنه الحق. وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم! ثم يأمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يبرأ من قومه، وينفض منهم يده، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئاً وأنه ليس حارساً عليهم ولا موكلاً بهم بعد البلاغ، ولا مكلفاً أن يهدي قلوبهم- فليس هذا من شأن الرسول- ومتى أبلغهم ما معه من الحق، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم. فإن لكل نبأ مستقراً ينتهي إليه ويستقر عنده. وعندئذ يعلمون ما سيكون! «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ..
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب..
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر وكل حاضر إلى مصير.
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله- في مواجهة التكذيب من قومهم، والجفوة من عشيرتهم، والغربة في أهلهم، والأذى والشدة والتعب واللأواء.. ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب! فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة.. فإنه- صلى الله عليه وسلم- مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم- حتى للبلاغ والتذكير- إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ويجعلون الدين موضعاً للعب واللهو بالقول أو بالفعل حتى لا تكون مجالسته لهم- وهم على مثل هذه الحال- موافقة ضمنية على ما هم فيه أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه. فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم، ثم تذكر، قام من فوره وفارق مجلسهم:
«وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
ولقد كان هذا الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- ويمكن في حدود النص أن يكون أمراً لمن وراءه من المسلمين.. كان هذا الأمر في مكة. حيث كان عمل الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقف عند حدود الدعوة.
وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة. وحيث كان الاتجاه واضحاً لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن.. فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي- صلى الله عليه وسلم- في مجالس المشركين متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس- لو أنساه الشيطان- بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه. وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات.. والقوم الظالمون، المقصود بهم هنا القوم المشركون. كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم..(2/1127)
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، فكان للنبي- صلى الله عليه وسلم- شأن آخر مع المشركين.
وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. حيث لا يجترىء أحد على الخوض في آيات الله! ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين، كما قررها من قبل بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين. ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير:
«وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين. فهما أمتان مختلفتان- وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله، ولا في اعتبار الإسلام.. إنما المتقون أمة، والظالمون (أي المشركون) أمة، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم. ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم، وينضموا إليهم.. وإلا فلا مشاركة في شيء، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة! هذا دين الله وقوله.. ولمن شاء أن يقول غيره. ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول! ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة:
«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا، لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
ونقف من الآية أمام عدة أمور:
أولها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم- وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً.. وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل.. فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقاداً وعبادة، وخلقاً وسلوكاً، وشريعة وقانوناً، إنما يتخذ دينه لعباً ولهواً.. والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافاً تدعو إلى اللعب واللهو. كالذين يتحدثون عن «الغيب» - وهو أصل من أصول العقيدة- حديث الاستهزاء. والذين يتحدثون عن «الزكاة» وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار. والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة- وهي من مبادئ هذا الدين- بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية، أو الإقطاعية، أو «البرجوازية» الزائلة! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار. والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها «أغلال!» .. وقبل كل شيء وبعد كل شيء.. الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية.. ويقولون: إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله ... أولئك جميعاً من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعباً ولهواً. وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى. وبأنهم الظالمون- أي المشركون- والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون..
وثانيها: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا- أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع لهم كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت.
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول:(2/1128)
«وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» ..
فكل نفس على حدة تبسل (أي ترتهن وتؤخذ) بما كسبت، حالة أن ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يقبل منها عدل تفتدى به وتفك الربقة! فأما أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا فهؤلاء قد ارتهنوا بما كسبوا وحق عليهم ما سبق في الآية وكتب عليهم هذا المصير:
«أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا، لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» ..
لقد أخذوا بما فعلوا وهذا جزاؤهم: شراب ساخن يشوي الحلوق والبطون وعذاب أليم بسبب كفرهم، الذي دل عليه استهزاؤهم بدينهم..
وثالثها: قول الله تعالى في المشركين: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» ..
فهل هو دينهم؟ ..
إن النص ينطبق على من دخل في الإسلام، ثم اتخذ دينه هذا لعباً ولهواً.. وقد وجد هذا الصنف من الناس وعرف باسم المنافقين.. ولكن هذا كان في المدينة..
فهل هو ينطبق على المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام؟ إن الإسلام هو الدين.. هو دين البشرية جميعاً..
سواء من آمن به ومن لم يؤمن.. فالذي رفضه إنما رفض دينه.. باعتبار أنه الدين الوحيد الذي يعده الله ديناً ويقبله من الناس بعد بعثة خاتم النبيين.
ولهذه الإضافة دلالتها في قوله:
«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً» ..
فهي- والله أعلم- إشارة إلى هذا المعنى الذي أسلفناه، من اعتبار الإسلام ديناً للبشرية كافة. فمن اتخذه لعباً ولهواً، فإنما يتخذ دينه كذلك.. ولو كان من المشركين..
ولا نزال نجدنا في حاجة إلى تقرير من هم المشركون؟ إنهم الذين يشركون بالله أحداً في خصائص الألوهية.
سواء في الاعتقاد بألوهية أحد مع الله. أو بتقديم الشعائر التعبدية لأحد مع الله. أو بقبول الحاكمية والشريعة من أحد مع الله. ومن باب أولى من يدعون لأنفسهم واحدة من هذه، مهما تسمَّوا بأسماء المسلمين! فلنكن من أمر ديننا على يقين! ورابعها: حدود مجالسة الظالمين- أي المشركين- والذين يتخذون دينهم لعباً ولهواً.. وقد سبق القول بأنها لمجرد التذكير والتحذير. فليست لشيء وراء ذلك- متى سمع الخوض في آيات الله أو ظهر اتخاذها لعباً ولهواً بالعمل بأية صورة مما ذكرنا أو مثلها..
وقد جاء في قول القرطبي في كتابه: الجامع لأحكام القرآن بصدد هذه الآية:
«في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله عزّ وجل، على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم، لهم أن يخالطوا الفاسقين، ويصوّبوا آراءهم تقاة..»
ونحن نقول: إن المخالطة بقصد الموعظة والتذكير وتصحيح الفاسد والمنحرف من آراء الفاسقين تبيحها الآية في الحدود التي بينتها. أما مخالطة الفاسقين والسكوت عما يبدونه من فاسد القول والفعل من باب التقية(2/1129)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
فهو المحظور. لأنه- في ظاهره- إقرار للباطل، وشهادة ضد الحق. وفيه تلبيس على الناس، ومهانة لدين الله وللقائمين على دين الله. وفي هذه الحالة يكون النهي والمفارقة.
كذلك روى القرطبي في كتابه هذه الأقوال:
«قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر- مؤمناً كان أو كافراً- قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، ودخول كنائسهم والبيع «1» ، ومجالسة الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة.
فأعرض عنه، وقال: ولا نصف كلمة «2» !. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» ..
فهذا كله في صاحب البدعة وهو على دين الله.. وكله لا يبلغ مدى من يدعي خصائص الألوهية بمزاولته للحاكمية ومن يقره على هذا الادعاء.. فليس هذا بدعة مبتدع ولكنه كفر كافر، أو شرك مشرك.
مما لم يتعرض له السلف لأنه لم يكن في زمانهم. فمنذ أن قام الإسلام في الأرض لم يبلغ من أحد أن يدعي هذه الدعوى، وهو يزعم الإسلام. ولم يقع شيء من ذلك إلا بعد الحملة الفرنسية التي خرج بعدها الناس من إطار الإسلام- إلا من عصم الله- وكذلك لم يعد في قول هؤلاء السلف ما ينطبق على هذا الذي كان! فقد تجاوز كل ما تحدثوا عنه بمثل هذه الأحكام..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
__________
(1) صلى عمر رضي الله عنه في كنيسة بيت المقدس. ولكنه لم يكن في دار عدو. إنما كان في دار عهد وذمة. لأن النصارى يومئذ في هذه البقعة كانوا معاهدين ذميين.
(2) في القرآن: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا، وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» ..(2/1130)
هذا الإيقاع القوي بحقيقة الألوهية وخصائصها وباستنكار الشرك والعودة إليه بعد الهدى وبمشهد الذي يرجع القهقرى مرتداً عن دين الله وحيرته في التيه بلا اتجاه وبتقرير أن هدى الله وحده هو الهدى.. هذا الإيقاع يختم برنة عالية عميقة مدوية. عن سلطان الله المطلق، في الأمر والخلق وعن انكشاف هذا السلطان وتفرده بالظهور- حتى للمنكرين المطموسين- «يوم ينفخ في الصور» ويبعث من في القبور ويستيقن من لم يكن يستيقن أن الملك لله وحده، وأن إليه المصير:
«قُلْ: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ، حَيْرانَ، لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى. ائْتِنا. قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» ..
«قُلْ» .. الإيقاع القوي المتكرر في السورة الذي يوحي بأن هذا الأمر لله وحده، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- إنما هو منذر ومبلغ والذي يوحي بجلال هذا الأمر وعلويته ورهبته وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- إنما هو مأمور به من ربه.
«قُلْ: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا؟» ..
قل لهم يا محمد ما هم عليه من دعوة غير الله والاستعانة به وإسلام مقادهم لهؤلاء الذين يدعونهم من دونه، وهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً. سواء كان ما يدعونه وثناً أو صنماً، حجراً أو شجراً، روحاً أم ملكاً، شيطاناً أم إنساناً.. فكلهم سواء في أنهم لا ينفعون شيئاً ولا يضرون. فهم أعجز من النفع والضر. وكل حركة إنما تجري بقدر من الله. فما لم يأذن به الله لا يكون، ولا يكون إلا قدره وما جرى به قضاؤه من الأمور..
قل لهم مستنكراً دعوة غير الله، وعبادة غير الله، والاستعانة بغير الله، والخضوع لغير الله. وسخف هذا التصرف وهذا الاتجاه.. وسواء كان ذلك رداً على ما كان يقترحه المشركون على النبي- صلى الله عليه وسلم- من مشاركتهم عبادة آلهتهم ليشاركوه عبادة ربه! أو كان ذلك استنكاراً مبتدأ لما عليه المشركون، وإعلاناً للمفارقة والمفاصلة فيه من جانب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.. فإن المؤدى في النهاية واحد وهو استنكار هذا السخف الذي يرفضه العقل البشري ذاته متى عرض له في النور بعيداً عن الموروثات الراسبة، وبعيداً كذلك عن العرف السائد في البيئة! ولتجسيم السخف وتضخيم الاستنكار يعرض هذه المعتقدات في ضوء ما هدى الله المسلمين إليه من عبادته وحده، واتخاذه وحده إلهاً، والدينونة له وحده بلا شريك:
«قُلْ: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا؟» ..
فهو ارتداد على الأعقاب ورجوع إلى الوراء بعد التقدم والارتقاء..
ثم هذا المشهد الشاخص المتحرك الموحي المثير:
«كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ.. حَيْرانَ.. لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى: ائْتِنا» ..
إنه مشهد حي شاخص متحرك للضلالة والحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد، ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد، والآلهة المتعددة من العبيد! ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال، فيذهب في التيه.. إنه مشهد ذلك المخلوق التعيس: «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ» - ولفظ الاستهواء لفظ مصور بذاته لمدلوله- ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه، فيكون له اتجاه صاحب القصد الموحد- ولو في طريق الضلال! -(2/1131)
ولكن هناك، من الجانب الآخر، أصحاب له مهتدون، يدعونه إلى الهدى، وينادونه «ائتنا» - وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء «حيران» لا يدري أين يتجه، ولا أي الفريقين يجيب! إنه العذاب النفسي يرتسم ويتحرك، حتى ليكاد يحس ويلمس من خلال التعبير! ولقد كنت أتصور هذا المشهد وما يفيض به من عذاب الحيرة والتأرجح والقلقلة كلما قرآت هذا النص..
ولكن مجرد تصور.. حتى رأيت حالات حقيقية، يتمثل فيها هذا الموقف، ويفيض منها هذا العذاب..
حالات ناس عرفوا دين الله وذاقوه- أياً كانت درجة هذه المعرفة وهذا التذوق- ثم ارتدوا عنه إلى عبادة الآلهة الزائفة، تحت قهر الخوف والطمع.. ثم إذا هم في مثل هذا البؤس المرير.. وعندئذ عرفت ماذا تعني هذه الحالة، وماذا يعني هذا التعبير! وبينما ظل المشهد الحي الشاخص المتحرك الموحي، يغمر النفس بالوجل من هذا المصير التعيس.. يأتي التقرير الحاسم بالاتجاه الثابت المستقيم:
«قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» ..
إنه التقرير الحاسم في الظرف النفسي المناسب، فالنفس التي ترتسم لها صورة الحيرة الطاغية، والعذاب المرير من هذه الحيرة التي لا تستقر على قرار، تكون أقرب ما تكون إلى استقبال القرار الحاسم بالراحة والتسليم..
ثم إنه الحق في ذلك التقرير الحاسم:
«قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» ..
هو وحده الهدى- كما يفيد التركيب البياني للجملة- وإنه لكذلك عن يقين..
وإن البشرية لتخبط في التيه، كلما تركت هذا الهدى، أو انحرفت عن شيء منه واستبدلت به شيئاً من تصوراتها هي ومقولاتها، وأنظمتها وأوضاعها، وشرائعها وقوانينها، وقيمها وموازينها، بغير «علم» ولا «هدى» ولا «كتاب منير» ..
إن «الإنسان» موهوب من الله القدرة على تعرف بعض نواميس الكون وبعض طاقاته وقواه، للانتفاع بها في الخلافة في الأرض، وترقية هذه الحياة.. ولكن هذا الإنسان ذاته غير موهوب من الله القدرة على استكناه الحقائق المطلقة في هذا الكون، ولا على الإحاطة بأسرار الغيوب التي تلفه من كل جانب، ومنها غيب عقله هو وروحه، بل غيب وظائف جسمه والأسباب الكامنة وراء هذه الوظائف، والتي تدفعها للعمل هكذا، وبهذا الانتظام، وفي هذا الاتجاه.
ومن ثم يحتاج هذا «الإنسان» إلى هدى الله في كل ما يختص بكينونته وحياته من عقيدة وخلق، وموازين وقيم، وأنظمة وأوضاع، وشرائع وقوانين تحكم هذه الكينونة وتنظم لها واقع الحياة..
وكلما فاء هذا «الإنسان» إلى هدى الله اهتدى. لأن هدى الله هو الهدى. وكلما بعد كلية عنه، أو انحرف بعض الانحراف واستبدل به شيئاً من عنده ضل. لأن ما ليس من هدى الله فهو ضلال.. إذ ليس هنالك نوع ثالث «فماذا بعد الحق إلا الضلال؟» .
ولقد ذاقت البشرية من ويلات هذا الضلال- وما تزال كلها تذوق- ما هو «حتمي» في تاريخ البشرية حين تنحرف عن هدى الله.. فهذه هي «الحتمية التاريخية» الوحيدة المستيقنة لأنها من أمر الله، ومن خبر الله،(2/1132)
لا تلك الحتميات المدعاة! والذي يريد أن يتملى شقاء البشرية في انحرافها عن هدى الله، لا يحتاج أن ينقب فهو حوله في كل أرض تراه الأعين وتلمسه الأيدي، ويصرخ منه العقلاء في كل مكان «1» .
ومن ثم يستطرد السياق في الآية ليقرر ضرورة الاستسلام لله وحده، وعبادته وحده، ومخافته وتقواه:
«وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» ..
قل يا محمد وأعلن أن هدى الله هو الهدى وأننا- من ثم- أمرنا أن نسلم لرب العالمين. فهو وحده الذي يستسلم له العالمون. فالعوالم كلها مستسلمة له، فماذا الذي يجعل الإنسان وحده- من بين العالمين- يشذ عن الاستسلام لهذه الربوبية الشاملة التي تستسلم لها العوالم في السماوات والأرضين؟
إن ذكر الربوبية للعالمين هنا له موضعه.. إنه يقرر الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها وهي استسلام الوجود كله، وما فيه من عوالم مشهودة ومغيبة، للنواميس التي وضعها الله لها وهي لا تملك الخروج عليها، والإنسان- من ناحية تركيبه العضوي- يستسلم كذلك لهذه النواميس كرهاً، ولا يملك الخروج عليها..
فلا يبقى إلا أن يستسلم في الجانب الذي ترك له الخيار فيه ليبتلى فيه، وهو جانب الاختيار.. اختيار الهدى أو الضلال.. ولو استسلم فيه استسلام كيانه العضوي، لاستقام أمره، وتناسق تكوينه وسلوكه، وجسمه وروحه، ودنياه وآخرته «2» ..
وفي إعلان الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، أنهم أمروا بالاستسلام فاستسلموا، إيحاء مؤثر لمن يفتح الله قلبه للتلقي والاستجابة على مدى الزمان.
وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية:
«وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» .
فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين، وسلطانه وتربيته وتقويمه. ثم تجيء العبادات الشعائرية وتجيء الرياضيات النفسية.. لتقوم على قاعدة الاستسلام.. فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء.
وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة: حقيقة الحشر..
وحقيقة الخلق. وحقيقة السلطان. وحقيقة العلم بالغيب والشهادة. وحقيقة الحكمة والخبرة.. من خصائص الألوهية، التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة:
«وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ. قَوْلُهُ الْحَقُّ، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» ..
«وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب.. فهو الذي إليه تحشر الخلائق.. فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر- الحتمي- ما ينجيهم وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين قبل أن يقفوا أمامه
__________
(1) يراجع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب «الإسلام ومشكلات الحضارة» وفصل «شهادة القرن العشرين» في كتاب «التطور والثبات في حياة البشرية» . «دار الشروق» .
(2) يراجع بتوسع فصل «الإسلام» في كتاب «مبادئ الإسلام» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(2/1133)
مسؤولين.. وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة- حقيقة الحشر- موحياً بالاستسلام في المبدأ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير! «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» ..
وهذه حقيقة أخرى تحشد كمؤثر آخر.. فالله الذي يؤمرون بالاستسلام له هو الذي خلق السماوات والأرض- والذي يخلق يملك ويحكم ويقضي ويتصرف- ولقد خلق السماوات والأرض «بالحق» . فالحق قوام هذا الخلق.. وفضلاً عما يقرره هذا النص من نفي الأوهام التي عرفتها الفلسفة عن هذا الكون- وبخاصة الأفلاطونية والمثالية- من أن هذا العالم المحسوس وهم لا وجود له على الحقيقة! - فضلاً على تصحيح مثل هذه التصورات، فإن النص يوحي بأن الحق أصيل في بنية هذا الكون، وفي مآلاته كذلك. فالحق الذي يلوذ به الناس يستند إلى الحق الكامن في فطرة الوجود وطبيعته، فيؤلف قوة هائلة، لا يقف لها الباطل، الذي لا جذور له في بنية الكون، وإنما هو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. وكالزبد يذهب جفاء، إذ لا أصالة له في بناء الكون.. كالحق ... وهذه حقيقة ضخمة، ومؤثر كذلك عميق..
إن المؤمن الذي يشعر أن الحق الذي معه- هو شخصياً وفي حدود ذاته- إنما يتصل بالحق الكبير في كيان هذا الوجود. (وفي الآية الأخرى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» ) فيتصل الحق الكبير الذي في الوجود بالحق المطلق في الله سبحانه.. إن المؤمن الذي يشعر بهذه الحقيقة على هذا النحو الهائل، لا يرى في الباطل- مهما تضخم وانتفخ وطغى وتجبر وقدر على الأذى المقدر- إلا فقاعة طارئة على هذا الوجود لا جذور لها ولا مدد تنفثئ من قريب، وتذهب كأن لم تكن في هذا الوجود.
كما أن غير المؤمن يرتجف حسه أمام تصور هذه الحقيقة. وقد يستسلم ويثوب! «وَيَوْمَ يَقُولُ: كُنْ فَيَكُونُ» ..
فهو السلطان القادر، وهي المشيئة الطليقة، في الخلق والإبداع والتغيير والتبديل.. وعرض هذه الحقيقة- فضلاً على أنه من عمليات البناء للعقيدة في قلوب المؤمنين- هو كذلك مؤثر موح في نفوس الذين يُدعون إلى الاستسلام لله رب العالمين الخالق بالحق.. الذي يقول: كن فيكون.
«قَوْلُهُ الْحَقُّ» ..
سواء في القول الذي يكون به الخلق: «كن فيكون» . أو في القول الذي يأمر به بالاستسلام له وحده.
أو في القول الذي يشرع به للناس حين يستسلمون. أو في القول الذي يخبر به عن الماضي والحاضر والمستقبل.
وعن الخلق والنشأة والحشر والجزاء.
قوله الحق في هذا كله.. فأولى أن يستسلم له وحده من يشركون به ما لا ينفع ولا يضر من خلقه. ومن يتبعون قول غيره كذلك وتفسيره للوجود وتشريعه للحياة. في أي اتجاه.
«وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» ..
ففي هذا اليوم يوم الحشر.. يوم ينفخ في الصور (هو القرن المجوف كالبوق) وهو اليوم الذي يكون فيه البعث والنشر بكيفية غيبية لا يعلمها البشر، فهي من غيب الله الذي احتفظ به. والصور كذلك غيب من ناحية ماهيته وحقيقته، ومن ناحية كيفية استجابة الموتى له، والروايات المأثورة تقول: هو بوق من نور ينفخ فيه ملك، فيسمع من في القبور، حيث يهبون للنشور- وهذه هي النفخة الثانية- أما الأولى فيصعق لها(2/1134)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله كما جاء في آية الزمر: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ- إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ- ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» .. وهذه الأوصاف للصور ولآثار النفخة فيه تعطينا- عن يقين- أنه على غير ما يمكن أن يكون البشر قد عهدوه في هذه الأرض أو تصوروه.. وهو من ثم غيب من غيب الله.. نعلمه بقدر ما أعطانا الله من وصفه وأثره، ولا نتجاوز هذا القدر الذي لا أمان في تجاوزه، ولا يقين. إنما هي الظنون! في هذا اليوم الذي ينفخ فيه في الصور يبرز- حتى للمنكرين- ويظهر- حتى للمطموسين- أن الملك لله وحده، وأنه لا سلطان إلا سلطانه، ولا إرادة إلا إرادته.. فأولى لمن يأبون الاستسلام له في الدنيا طائعين أن يستسلموا قبل أن يستسلموا لسلطانه المطلق يوم ينفخ في الصور.
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» ..
الذي يعلم ذلك الغيب المحجوب، كما يعلم هذا الكون المشهود. والذي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، ولا يند عنه شأن من شؤونهم.. فأولى لهم أن يسلموا له ويعبدوه ويتقوه. وهكذا تذكر هذه الحقيقة لذاتها، وتتخذ مؤثراً موحياً في مواجهة المكذبين والمعارضين.
«وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» ..
يصرف أمور الكون الذي خلقه، وأمور العباد الذين يملكهم في الدنيا والآخرة بالحكمة والخبرة.. فأولى أن يستسلموا لتوجيهه وشرعه، ويسعدوا بآثار حكمته وخبرته. ويفيئوا إلى هداه وحده. ويخرجوا من التيه، ومن الحيرة، إلى ظلال الحكمة والخبرة، وإلى كنف الهدى والبصيرة..
وهكذا تتخذ هذه الحقيقة مؤثراً موحياً للعقول والقلوب..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 94]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)(2/1135)
هذا الدرس بطوله لحمة واحدة يتناول موضوعاً متصل الفقرات.. إنه يعالج الموضوع الأساسي في السورة- وهو بناء العقيدة على قاعدة من التعريف الشامل بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، وما بينهما من ارتباطات- ولكنه يعالجه في أسلوب آخر غير ما جرى به السياق منذ أول السورة.. يعالجه في أسلوب القصص والتعقيب عليه.. مع استصحاب المؤثرات الموحية التي تزخر بها السورة ومنها مشهد الاحتضار الكامل السمات وذلك كله في نفس طويل رتيب يتوسط الموجات المتلاحقة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة..
والدرس- في جملته- يعرض موكب الإيمان الموصول منذ نوح- عليه السلام، إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- وفي مطلع هذا الموكب يستعرض حقيقة الألوهية- كما تتجلى في فطرة عبد من عباد الله الصالحين- إبراهيم عليه السلام- ويرسم مشهداً رائعاً حقاً للفطرة السليمة، وهي تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في أعماقها، بينما هي تصطدم في الخارج بانحرافات الجاهلية وتصوراتها. إلى أن يخلص لها تصور حق، يطابق ما ارتسم في أعماقها عن إلهها الحق. ويقوم على ما تجده في أطوائها من برهان داخلي هو أقوى وأثبت من المشهود المحسوس! ذلك حين يحكي السياق عن إبراهيم عليه السلام بعد اهتدائه إلى ربه الحق، واطمئنانه إلى ما وجده في قلبه منه: «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» .
ثم يمضي السياق مع موكب الإيمان الموصول يقوده الرهط الكريم من رسل الله على توالي العصور حيث يبدو شرك المشركين وتكذيب المكذبين لغواً لا وزن له، يتناثر على جانبي الموكب الجليل، الماضي في طريقه الموصول. وحيث يلتحم آخره مع أوله فيؤلف الأمة الواحدة، يقتدي آخرها بالهدى الذي اهتدى به أولها، دون اعتبار لزمان أو مكان ودون اعتبار لجنس أو قوم، ودون اعتبار لنسب أو لون.. فالحبل الموصول بين الجميع هو هذا الدين الواحد الذي يحمله ذلك الرهط الكريم.
إنه مشهد رائع كذلك يبدو من خلال قول الله تعالى لرسوله الكريم بعد استعراض الموكب العظيم: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ»
..
وبعد استعراض هذا الموكب الجليل يجيء التنديد بمن يزعمون أن الله لم يرسل رسلاً، ولم ينزل على بشر كتاباً.. إنهم لم يقدروا الله حق قدره. فما قدر الله حق قدره من يقول: إنه- سبحانه- تارك الناس لأنفسهم وعقولهم وما يتعاورها من الأهواء والشهوات والضعف والقصور. فما يليق هذا بألوهية الله وربوبيته، وعلمه وحكمته وعدله ورحمته.. إنما اقتضت رحمة الله وعلمه ورحمته وعدله أن يرسل إلى عباده رسلاً، وأن ينزل على بعض الرسل كتباً، ليحاولوا جميعاً هداية البشرية إلى بارئها، واستنقاذ فطرتها من الركام الذي يرين عليها، ويغلق منافذها، ويعطل أجهزة الالتقاط والاستجابة فيها.. ويضرب مثلاً الكتاب الذي أنزل على موسى. وهذا الكتاب الذي يصدق ما بين يديه من الكتب جميعاً..
وينتهي الدرس الطويل المتلاحم الفقرات باستنكار الافتراء ممن يفتري على الله، وادعاء من يزعم أنه يوحى إليه من الله، وادعاء القدرة على تنزيل مثل ما أنزل الله.. وهي الدعاوى التي كان يدعيها بعض من يواجهون الدعوة الإسلامية، وفيهم من ادعى الوحي وفيهم من ادعى النبوة.(2/1137)
وفي الختام يجيء مشهد الاحتضار المكروب للمشركين:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ! لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ!» ..
وهو مشهد كئيب مكروب رعيب يجلله الهوان ويصاحبه التنديد والتأنيب. جزاء الاستكبار والإعراض والافتراء والتكذيب..
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات.. مشهد الفطرة وهي- للوهلة الأولى- تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها. وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في ضميرها، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها. وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله! حتى إذا اختبرته وجدته زائفاً، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته.. ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها. وهي تنطلق بالفرحة الكبرى، والامتلاء الجياش، بهذه الحقيقة، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها! .. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم- عليه السلام- والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار.. إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل. وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ولا يجامل على حسابها أباً ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوماً.. كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفة الصلبة الحاسمة الصريحة:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم. إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه- إلى إلهه- ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة- وقوم إبراهيم من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم- فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء.. هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنماً من حجر، أو وثناً من خشب.. وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب- وهذا ظاهر من حالها للعيان- فما هي بالتي تستحق أن تعبد وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد! وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم- عليه السلام- للوهلة الأولى. وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر الله الناس عليها.. ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين، فتنكره وتستنكره،(2/1138)
وتجهر بكلمة الحق وتصدع، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة:
«أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
كلمة يقولها إبراهيم- عليه السلام- لأبيه. وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم. ولكنها العقيدة هنا. والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة.
وإبراهيم هو القدوة التي أمر الله المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها. والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالاً..
وكذلك استحق إبراهيم- عليه السلام- بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود:
«وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» ..
بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة.. نري إبراهيم حقيقة هذا الملك.. ملك السماوات والأرض.. ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب. لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق..
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق.. وعي لا يطمسه الركام. وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله. وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون.. وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه..
وكذلك سار إبراهيم- عليه السلام- وفي هذا الطريق وجد الله.. وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره.. ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير.
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة.. إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع والذي لا يكل الله- سبحانه- جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة- لا الفطرة ولا العقل البشري- هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلاً منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلماً..
فأما إبراهيم- عليه السلام- فهو إبراهيم! خليل الرحمن وأبو المسلمين..
«فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..
إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك- بل الإنكار الجازم- لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام.
وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه.. صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» .. كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره:
«فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً، قالَ: هذا رَبِّي» ..
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم- كما أسلفنا- فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق- الذي يجده(2/1139)
في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية- صنماً من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة! وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم. وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكباً.. ولكن الكوكب- الليلة- ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه:
«قالَ: هذا رَبِّي» ..
فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب- من الأصنام- إلى أن يكون رباً! .. ولكن لا! إنه يكذب ظنه:
«فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..
إنه يغيب.. يغيب عن هذه الخلائق. فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها.. إذا كان الرب يغيب؟! لا، إنه ليس رباً، فالرب لا يغيب! إنه منطق الفطرة البديهي القريب.. لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم. لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق..
«لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..
فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب والآصرة هي آصرة القلب.. وفطرة إبراهيم «لا تحب» الآفلين، ولا تتخذ منهم إلهاً. إن الإله الذي تحبه الفطرة.. لا يغيب..!
«فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
إن التجربة تتكرر. وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه! فهو الليلة في نظره جديد:
«قالَ: هذا رَبِّي» ..
بنوره الذي ينسكب في الوجود وتفرده في السماء بنوره الحبيب.. ولكنه يغيب! .. والرب- كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه- لا يغيب! هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته. ربه الذي يحبه، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه.. ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته. إن لم يمد إليه يده.
ويكشف له عن طريقه:
«قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
«فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءاً وحرارة.. الشمس.. والشمس تطلع كل يوم وتغيب. ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد. إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
«قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ» .
ولكنها كذلك تغيب..(2/1140)
هنا يقع التماس، وتنطلق الشرارة، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة والله الحق، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي.. هنا يجد إبراهيم إلهه.. يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره.. هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح..
وهنا يجد إبراهيم إلهه. ولكنه لا يجده في كوكب يلمح، ولا في قمر يطلع، ولا في شمس تسطع..
ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس.. إنه يجده في قلبه وفطرته، وفي عقله ووعيه، وفي الوجود كله من حوله.. إنه يجده خالقاً لكل ما تراه العين، ويحسه الحس، وتدركه العقول.
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك- وهم لم يكونوا يجحدون الله البتة، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة- وإبراهيم يتجه إلى الله وحده بلا شريك:
«قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض. الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك. وهي الكلمة الفاصلة، واليقين الجازم، والاتجاه الأخير.. فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير..
ومرة أخرى نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر.. مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس، واستولت على القلب، بعد ما وضحت وضوحها الكامل وانجلى عنها الغبش.. نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني، فلم يعد وراءها شيء. وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربه الذي وجده في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله.. وهو مشهد يتجلى بكل روعته وبهائه في الفقرة التالية في السياق.
لقد انتهى إبراهيم إلى رؤية الله- سبحانه- في ضميره وعقله وفي الوجود من حوله. وقد اطمأن قلبه واستراح باله. وقد أحس بيد الله تأخذ بيده وتقود خطاه في الطريق.. والآن يجيء قومه ليجادلوه فيما انتهى إليه من يقين وفيما انشرح له صدره من توحيد وليخوفوه آلهتهم التي تنكر لها أن تنزل به سوءاً.. وهو يواجههم في يقينه الجازم وفي إيمانه الراسخ وفي رؤيته الباطنة والظاهرة لربه الحق الذي هداه:
«وَحاجَّهُ قَوْمُهُ، قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
إن الفطرة حين تنحرف تضل ثم تتمادى في ضلالها، وتتسع الزاوية ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب.. وهؤلاء قوم إبراهيم- عليه السلام- يعبدون أصناماً وكواكب ونجوماً. فلا يتفكرون ولا يتدبرون هذه الرحلة الهائلة التي تمت في نفس إبراهيم. ولم يكن هذا داعياً لهم لمجرد التفكر والتدبر.
بل جاءوا يجادلونه ويحاجونه. وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوراتهم وفي ضلال مبين.
ولكن إبراهيم المؤمن الذي وجد الله في قلبه وعقله وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكراً في طمأنينة(2/1141)
«قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟» ..
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به.. لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود- وهذا هو في نفسي دليل الوجود- لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي. فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل. فهدايته لي إليه هي الدليل؟! «وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» ..
وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟ وكل قوة- غير قوة الله- هزيلة وكل سلطان- غير سلطان الله- لا يُخاف؟! ولكن إبراهيم في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكبا إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل:
«إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» .
فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئاً، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته. ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاءه الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء..
«وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» .
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود. إنه إن كان أحد قميناً بالخوف فليس هو إبراهيم- وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق- وكيف يخاف آلهة عاجزة- كائنة ما كانت هذه الآلهة، والتي تتبدى أحياناً في صورة جبارين في الأرض بطاشين وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون! - كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطاناً ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟! هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى ويقضي الله بحكمه في هذه القضية:
«الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» ..
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه. هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون..
«وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ..»
ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه. ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه.. وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة. فلما واجههم إبراهيم، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة..
لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها، سقطت حجتهم، وعلت حجته، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة.. وهكذا يرفع الله من يشاء درجات. متصرفاً في هذا بحكمته وعلمه:
«إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله- صلى الله(2/1142)
عليه وسلم- وهذا القرآن يتنزل عليهم غضاً وتشربه نفوسهم وتعيش به وله وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق، في ربع قرن من الزمان:
روى ابن جرير- بإسناده- عن عبد الله بن إدريس، قال: «لما نزلت هذه الآية: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» ، شق ذلك على أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ قال:
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ليس كما تظنون. وإنما هو ما قال لقمان لابنه: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ..
وروى كذلك- بإسناده- عن ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب قرأ: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» فلما قرأها فزع. فأتى أبيّ بن كعب. فقال: يا أبا المنذر، قرأت آية من كتاب الله. من يَسلم؟
فقال: ما هي؟ .. فقرأها عليه.. فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول:
«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
وروى- بإسناده- عن أبي الأشعر العبدي عن أبيه، أن زيد بن صوحان سأل سلمان، فقال: يا أبا عبد الله، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» ! فقال سلمان:
هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرني بها أني لم أسمعها منك، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه.
فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم. كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم. كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة، وأحكام نهائية للنفاذ. وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب.
وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف. حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير.
إنه مشهد كذلك رائع باهر.. مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين.. وكانت ستاراً لقدر الله ومنفذاً لمشيئته في واقع الحياة..
بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل: من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يعرض السياق هذا الموكب ممتداً موصولاً- وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين- ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض- كما يلاحظ في مواضع أخرى- لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته، لا تسلسله التاريخي:
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ- كُلًّا هَدَيْنا- وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ- وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ.. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ.. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً.. وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ.. وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.. ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» ..(2/1143)
وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبياً رسولاً- غير نوح وإبراهيم- وإشارة إلى آخرين «مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ» .. والتعقيبات على هذا الموكب: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .. «وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» ..
«وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله، وهدايته إلى الطريق المستقيم.
وذكر هذا الرهط على هذا النحو، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة، كله تمهيد للتقريرات التي تليه:
«ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض. فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل. وينحصر المستيقن منه، والذي يجب اتباعه، في هذا المصدر الواحد، الذي يقرر الله- سبحانه- أنه هو هدى الله وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده.. ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم:
أي ان يذهب ضياعاً، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً فتنتفخ ثم تموت.. وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط! «أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» ..
وهذا هو التقرير الثاني.. فقرر في الأول مصدر الهدى، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل. وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة- «والحكم» يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك- وكلا المعنيين محتمل في الآية. فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى، والزبور مع داود، والإنجيل مع عيسى. وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان- وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور. فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط، كما جاء في الآيات الأخرى. وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة.. وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه، يحملونه إلى الناس، ويقومون عليه، ويومنون به ويحفظونه.. فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب: «هؤلاء» فإن دين الله غني عنهم وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين! .. إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها، وموكب موصول تماسكت حلقاته ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية بما يعلمه من استحقاقه للهداية! .. وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، وفي قلوب العصبة المسلمة- أياً كان عددها- إن هذه العصبة ليست وحدها.
ليست مقطوعة من شجرة! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وحلقة في موكب جليل موصول، موصولة أسبابه بالله وهداه.. إن المؤمن الفرد، في أي أرض وفي أي جيل، قوي قوي، وكبير كبير، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور.
«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» ..
وهو التقرير الثالث.. فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان، هم الذين هداهم الله. وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن آمن به. فهذا الهدى وحده هو الذي(2/1144)
يسير عليه. وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به.. قائلاً لمن يدعوهم:
«لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» .. «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» .. للعالمين.. لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد.. إنه هدى الله لتذكير البشر كافة. ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه. وإنما أجره على الله! ثم يمضي السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله. ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب.. مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق:
«وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ- تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً- وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ؟ قُلِ: اللَّهُ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» ..
لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون: إن الله لم يرسل رسولاً من البشر ولم ينزل كتاباً يوحي به إلى بشر. بينما كان إلى جوارهم في الجزيرة أهل الكتاب من اليهود ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب، ولا أن الله أنزل التوراة على موسى- عليه السلام- إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج، ليكذبوا برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم:
ما أنزل الله على بشر من شيء كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به موسى من قبل:
«وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ..
وهذا القول الذي كان يقوله مشركو مكة في جاهليتهم، يقوله أمثالهم في كل زمان ومنهم الذين يقولونه الآن ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم. لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم، كالوثنيات كلها قديماً وحديثاً، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم، ولكنها تظل خارج دين الله كله. وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله، وهي ثابتة على أصولها الأولى جاء بها كل رسول فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد، بذات الدين الواحد الموصول.
وهذا القول يقوله- قديماً أو حديثاً- من لا يقدر الله حق قدره ومن لا يعرف كرم الله وفضله، ورحمته وعدله.. إنهم يقولون: إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة! كما كان العرب يقولون.
أو يقولون: إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان «الضئيل» في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض! بحيث يرسل له الرسل وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير! وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث! أو يقولون: إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل.. إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين! كما يقول الماديون الملحدون! وكله جهل بقدر الله- سبحانه- فالله الكريم العظيم العادل الرحيم، العليم الحكيم ... لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده، وهو خلقه، وهو يعلم سره وجهره، وطاقاته وقواه، ونقصه وضعفه، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره، وأقواله وأعماله، وأوضاعه ونظامه، ليرى إن كانت صواباً وصلاحاً، أو كانت خطأ وفساداً.. ويعلم- سبحانه- أن العقل الذي أعطاه له، يتعرض لضغوط كثيرة(2/1145)
من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته، فضلاً على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله، وليس موكلاً بتصور الوجود تصوراً مطلقاً، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة. فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله فتنشىء له تصوراً سليماً للوجود والحياة.. ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق، وشوق إليه، ولياذ به في الشدائد..
فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير.. إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها.. وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه.. فما كان ليخلق البشر، ثم يتركهم سدى.. ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولاً:
«وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «1» .. فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق. وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله، وأنزل على بعضهم كتباً تبقى بعدهم في قومهم إلى حين- ككتب موسى وداود وعيسى- أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن.
ولما كانت رسالة موسى معروفة بين العرب في الجزيرة، وكان أهل الكتاب معروفين هناك، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي بتلك الحقيقة:
«قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ- تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً- وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» ..
وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية، وأن المخاطبين بها هم اليهود. ثم ذكرنا هناك ما اختاره ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً» .. وأن المخاطبين بها هم المشركون، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعاً منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها، فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع، والتلاعب بالأحكام والفرائض ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة! مما كان العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود.. فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطاباً لهم.. والآية على هذا مكية لا مدنية..
ونحن نختار ما اختاره ابن جرير.
فقل لهم يا محمد: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه! كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعلمون فكان حقاً عليهم أن يشكروا فضل الله ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه.
ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال. إنما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يحسم القول معهم في هذا الشأن وألا يجعله مجالاً لجدل لا يثيره إلا اللجاج:
__________
(1) يراجع بتوسع تفسير قوله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. في سورة النساء. الجزء السادس من الظلال ص 805- 812 وفصل «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» .(2/1146)
«قُلِ: اللَّهُ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» ..
قل: الله أنزله.. ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين. وفي هذا من التهديد، قدر ما فيه من الاستهانة، قدر ما فيه من الحق والجد فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام! ويمضي السياق يحكي شيئاً عن الكتاب الجديد، الذي ينكر الجاحدون أن يكون الله نزله. فإذا هو حلقة مسبوقة جاءت قبلها حلقات، فليس بدعاً من الكتب التي ينزلها الله على من يشاء من رسله الكرام:
«وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» ..
إنها سنة من سنن الله أن يرسل الرسل، وأن ينزل الله عليهم الكتب. وهذا الكتاب الجديد، الذي ينكرون تنزيله، هو كتاب مبارك.. وصدق الله.. فإنه والله لمبارك..
مبارك بكل معاني البركة.. إنه مبارك في أصله. باركه الله وهو ينزله من عنده. ومبارك في محله الذي علم الله أنه له أهل.. قلب محمد الطاهر الكريم الكبير.. ومبارك في حجمه ومحتواه. فإن هو إلا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات من هذه الكتب الضخام، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذي مارس فن القول عند نفسه وعند غيره من بني البشر وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول ولا يعالجون قضايا التعبير، أن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية. وأن هنالك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز- ولا في أضعاف أضعافه- عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وأن الآية الواحدة تؤدي من المعاني وتقرر من الحقائق ما يجعل الاستشهاد بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئاً متفرداً لا نظير له في كلام البشر.. وإنه لمبارك في أثره. وهو يخاطب الفطرة والكينونة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل ويواجهها من كل منفذ وكل درب وكل ركن فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل. ذلك أن به من الله سلطاناً. وليس في قول القائلين من سلطان! ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في تصوير بركة هذا الكتاب. وما نحن ببالغين لو مضينا شيئاً أكثر من شهادة الله له بأنه «مبارك» ففيها فصل الخطاب! «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» ..
فهو يصدّق ما بين يديه من الكتب التي نزلت من عند الله- في صورتها التي لم تحرف لا فيما حرفته المجامع وقالت: إنه من عند الله- هو يصدقها لأنها جاءت بالحق الذي جاء به في أصول العقيدة. أما الشرائع فقد جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، في حدود العقيدة الكبرى في الله.
والذين يكتبون عن الإسلام فيقولون: إنه أول دين جاء بالعقيدة الكاملة في توحيد الله أو جاء بالعقيدة الكاملة في حقيقة الرسالة والرسول أو جاء بالعقيدة الكاملة في الآخرة والحساب والجزاء.. وهم يقصدون الثناء على الإسلام! .. هؤلاء لا يقرآون القرآن! ولو قرأوه لسمعوا الله تعالى يقرر أن جميع رسله- صلوات الله عليهم وسلامه- جاءوا بالتوحيد المطلق الخالص الذي لا ظل فيه للشرك في صورة من صوره.. وأنهم جميعاً أخبروا الناس بحقيقة الرسول، وبشريته وأنه لا يملك لهم ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يعلم غيباً،(2/1147)
ولا يبسط أو يقبض رزقاً.. وأنهم جميعاً أنذروا قومهم بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء.. وأن سائر حقائق العقيدة الإسلامية الأساسية جاء بها كل رسول.. وصدق الكتاب الأخير ما جاءت به الكتب قبله.. إنما تلك الأقوال أثر من آثار الثقافة الأوربية. التي تزعم أن أصول العقيدة- بما فيها العقائد السماوية- قد تطورت وترقت، بتطور الأقوام وترقيها! وما يمكن أن يدافع عن الإسلام بهدم أصوله التي يقررها القرآن! فليحذر الكتاب والقارئون هذا المزلق الخطير!!! فأما حكمة إنزال هذا الكتاب، فلكي ينذر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- أهل مكة- أم القرى- وما حولها:
«وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» ..
وسميت مكة أم القرى، لأنها تضم بيت الله الذي هو أول بيت وضع للناس ليعبدوا الله فيه وحده بلا شريك وجعله مثابة أمن للناس وللأحياء جميعاً ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض ولم تكن دعوة عامة من قبل وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة، ليعودوا إلى البيت الذي خرجت منه الدعوة! وليس المقصود، كما يتصيد أعداء الإسلام من المستشرقين، أن تقصر الدعوة على أهل مكة ومن حولها.
فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله، ليزعموا أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها. وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه فتوسع في الجزيرة كلها، ثم همَّ أن يتخطاها.. لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها! وذلك بعد هجرته إلى المدينة، وقيام دولته بها! .. وكذبوا.. ففي القرآن المكي، وفي أوائل الدعوة، قال الله سبحانه لرسوله- صلى الله عليه وسلم- «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ...
(الأنبياء: 107) .. «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» ... (سبأ: 28) ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء! «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» ..
فالذين يؤمنون بأن هناك آخرة وحساباً وجزاء، يؤمنون بأن الله لا بد مرسل للناس رسولاً يوحي إليه ولا يجدون في نفوسهم مشقة في التصديق به بل إنهم ليجدون داعياً يدعوهم إلى هذا التصديق. كما أنهم لإيمانهم بالآخرة وبهذا الكتاب يحافظون على صلاتهم، ليكونوا على صلة دائمة وثيقة بالله وليقوموا بطاعته ممثلة في الصلاة.. فهي طبيعة نفس.. متى صدقت بالآخرة واستيقنتها، صدقت بهذا الكتاب وتنزيله، وحرصت على الصلة بالله وطاعته.. وملاحظة نماذج النفوس البشرية تصدق في الواقع هذا الكلام الصادق بذاته.
ويختم هذه الجولة المتلاحقة الأشواط بمشهد حي شاخص متحرك مكروب رعيب.. مشهد الظالمين..
(أي المشركين) الذين يفترون على الله الكذب، أو يدعون أنهم أوحي إليهم ادعاء لا حقيقة له. أو يزعمون أنهم مستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن.. مشهد هؤلاء الظالمين- الذين لا يقاس إلى ظلمهم هذا ظلم- وهم في غمرات الموت، والملائكة باسطو أيديهم إليهم بالعذاب، ويطلبون أرواحهم. والتأنيب يجبه وجوههم، وقد تركوا كل شيء وراءهم وضل عنهم شركاؤهم.
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، أَوْ قالَ: أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ(2/1148)
ما أَنْزَلَ اللَّهُ؟ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ، وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ، بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ! لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»
..
وقد ورد عن قتادة وابن عباس- رضي الله عنهم- أن الآية نزلت في مسيلمة الكذاب وسجاح بنت الحارث زوجته والأسود العنسي وهم الذين تنبأوا في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وادعوا أن الله أوحى إليهم.
أما الذي قال سأنزل مثلما أنزل الله- أو قال أوحي إلي كذلك- ففي رواية عن ابن عباس أنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنه لما نزلت الآية التي في «المؤمنون» : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» دعاه النبي- صلى الله عليه وسلم- فأملاها عليه.
فلما انتهى إلى قوله: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هكذا أنزلت عليّ» .. فشك عبد الله حينئذ وقال:
لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلي كما أوحى إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال! فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين. فذلك قوله: «وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» .. (رواه الكلبي عن ابن عباس) ..
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين (أي المشركين) مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب.
الظالمون في غمرات الموت وسكراته- ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب- والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب، وهم يطلبون أرواحهم للخروج! وهم يتابعونهم بالتأنيب:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» ..
وجزاء الاستكبار العذاب المهين، وجزاء الكذب على الله هذا التأنيب الفاضح.. وكله مما يضفي على المشهد ظلالاً مكروبة، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق! ثم في النهاية، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى، الذي كذبوا عليه، وها هم أولاء بين يديه، يواجههم في موقف الكربة والضيق:
«وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» ! فما معكم إلا ذواتكم مجردة ومفردة كذلك. تلقون ربكم أفراداً لا جماعة. كما خلقكم أول مرة أفراداً، ينزل أحدكم من بطن أمه فرداً عريان أجرد غلبان! ولقد ند عنكم كل شيء، وتفرق عنكم كل أحد وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه «وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» ..
تركتم كل شيء من مال وزينة، وأولاد ومتاع، وجاه وسلطان.. كله هناك متروك وراءكم، ليس معكم شيء منه، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير! «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ» ..
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم، وتقولون:
إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم (كالذي كانوا يقولون: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى!» ) سواء(2/1149)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
كانوا ناساً من البشر كهاناً أو ذوي سلطان أو كانوا تماثيل من الحجر، أو أوثاناً، أو جناً أو ملائكة، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة، ويجعلون له شركاً في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة.
فأين؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء؟
«لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» ..
تقطع كل شيء. كل ما كان موصولاً. كل سبب وكل حبل! «وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ..
وغاب عنكم كل ما كنتم تدّعونه من شتى الدعاوى. ومنها أولئك الشركاء، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب! إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزاً عنيفاً. وهو يشخص ويتحرك ويلقي ظلاله على النفس، ويسكب إيحاءاته في القلب، ظلاله الرعيبة المكروبة، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة..
إنه القرآن.. إنه القرآن..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 111]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)(2/1150)
نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها.. في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق وعن الروعة الباهرة، التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها:
«وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة.. إنها في كل لمحة منها، وفي كل موقف، وفي كل مشهد، تمثل «الروعة الباهرة» .. الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضاً، وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهوراً! ... «وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال، مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها، حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق.
«وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة، تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا..
مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد.. وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة، وبالحيوية الدافقة، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي، وبالتجمع والاحتشاد، ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة» ..
... إلخ ... إلخ ... «1»
__________
(1) نهاية الجزء السابع. (1) ص 1015- 1017 في هذا الجزء.(2/1151)
إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس، على أتمها وأوفاها.. إن القارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقاً هي ومدلولاتها في التماع ولألاء. وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها. والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها، ويهدفان إليها! إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ..
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول. يتناسق معه في قوة الانبثاق، وفي شدة اللألاء.
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة، يتابعها الحس في بهر! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعاً مرة أخرى مع موجة جديدة.. كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل! وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة. والمشاهد تتوالى- وكدت أقول: تتواثب- من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء..
والجمال هو السمة البارزة هنا.. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة.. المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية. والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي، وفي دلالتها. والمدلولات أيضاً- على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة- تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية.. فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء! ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها:
«انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» .. فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر.. للنظر والتملي والاستمتاع الواعي «1» .
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع.. إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع..
فيتحدث عنه- سبحانه- حديثاً لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ..
وبعد، فنحن- في هذا الدرس- أمام كتاب الكون المفتوح، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة.
فلا يقفون أمام خوارقه وآياته، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه.. وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود، كأنما نهبط إليه اللحظة، فيقفنا أمام معالمه العجيبة، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين! ها هو ذا يفقنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار.. خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد.. لا ندري كيف انبثقت، ولا ندري من أين جاءت- إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله. لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها! وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة.. الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة.. وهي خارقة لا يعدلها شيء
__________
(1) يراجع بتوسع فصل «الجمال في التصور الإسلامي» وفصل: «مشاهد الطبيعة في القرآن» في كتاب: «منهج الفن الإسلامي لمحمد قطب» . «دار الشروق» .(2/1152)
مما يطلبه الناس من الخوارق.. وهي تتم في كل يوم وليلة. بل تتم في كل ثانية ولحظة..
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية.. من نفس واحدة.. وأمام تكاثرها بتلك الطريقة.
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات.. وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة، والزروع النامية، والثمار اليانعة. وهي حشد من الحيوات والمشاهد، ومجال للتأمل والزيادة. لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح.
وها هو ذا الوجود كله، جديداً كأنما نراه أول مرة. حياً يعاطفنا ونعاطفه، متحركاً تدب الحركة في أوصاله، عجيباً يشده الحواس والمشاعر. ناطقاً بذاته عن خالقه. دالاً بآياته على تفرده وقدرته..
وعندئذ يبدو الشرك بالله- والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض- غريباً غريباً على فطرة هذا الوجود وطبيعته. وشائهاً شائهاً في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله. وتسقط حجة الشرك والمشركين، في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب..
والمنهج القرآني- في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية وفي بيانه لموقف العبودية منها يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون، وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة، وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه، وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك.. يجعل من هذه الحقائق مؤثراً موحياً. وبرهاناً قوياً على ضرورة ما يدعو إليه البشر: من العبودية لله وحده، وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده.. وكذلك يجيء في السياق- بعد استعراض صفحة الوجود وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان- الدعوة إلى عبادة الله وحده، أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها، في حياة العباد كلها وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة، واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها.
وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .. نموذجاً للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة، بإفراد الألوهية لله وحده، مع تقرير أنه- سبحانه- «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» .. «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ..
وفي نهاية الدرس- وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله- يكشف عن تفاهة طلب الخوارق، كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة، التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل ولكن لطبع فيها مطموس! وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود.
«إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟» ..
إنها المعجزة التي لا يدري سرها أحد فضلاً على أن يملك صنعها أحد! «1» معجزة الحياة نشأة وحركة..
وفي كل لحظة تنفلق الحبة الساكنة عن نبتة نامية، وتنفلق النواة الهامدة عن شجرة صاعدة. والحياة الكامنة في الحبة والنواة، النامية في النبتة والشجرة، سر مكنون، لا يعلم حقيقته إلا الله ولا يعلم مصدره إلا الله..
وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الحياة وأشكالها، وبعد كل ما درست من خصائصها وأطوارها..
__________
(1) يطنطن الماديون بأنه أمكن تحضير بعض المواد التي لم يكن يمكن تحضيرها إلا في تفاعلات كائن حي.. والفرق بين المادة العضوية والمادة الحية كبير.. كما أن هذه المادة المحضرة إنما صنعت من مواد مخلوقة ولم يخلقها البشر، ولا يستطيعون!(2/1153)
تقف أمام السر المغيب كما وقف الإنسان الأول، تدرك الوظيفة والمظهر، وتجهل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها. والمعجزة تقع في كل لحظة!!! ومنذ البدء أخرج الله الحي من الميت. فقد كان هذا الكون- أو على الأقل كانت هذه الأرض- ولم يكن هناك حياة.. ثم كانت الحياة.. أخرجها الله من الموات.. كيف؟ لا ندري! وهي منذ ذلك الحين تخرج من الميت فتتحول الذرات الميتة في كل لحظة- عن طريق الأحياء- إلى مواد عضوية حية تدخل في كيان الأجسام الحية وتتحول- وأصلها ذرات ميتة- إلى خلايا حية.. والعكس كذلك.. ففي كل لحظة تتحول خلايا حية إلى ذرات ميتة إلى أن يتحول الكائن الحي كله ذات يوم إلى ذرات ميتة! «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» ..
ولا يقدر إلا الله أن يصنع ذلك.. لا يقدر إلا الله أن ينشىء الحياة منذ البدء من الموات. ولا يقدر إلا الله أن يجهز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية. ولا يقدر إلا الله على تحويل الخلايا الحية مرة أخرى إلى ذرات ميتة.. في دورة لم يعلم أحد يقيناً بعد متى بدأت، ولا كيف تتم.. وإن هي إلا فروض ونظريات واحتمالات!!! لقد عجزت كل محاولة لمتفسير ظاهرة الحياة، على غير أساس أنها من خلق الله.. ومنذ أن شرد الناس من الكنيسة في أوربا.. «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ!» .. وهم يحاولون تفسير نشأة الكون وتفسير نشأة الحياة، بدون التجاء إلى الاعتراف بوجود الله.. ولكن هذه المحاولات كلها فشلت جميعاً.. ولم تبق منها في القرن العشرين إلا مماحكات تدل على العناد، ولا تدل على الإخلاص! وأقوال بعض «علمائهم» الذين عجزوا عن تفسير وجود الحياة إلا بالاعتراف بالله، تصور حقيقة موقف «علمهم» نفسه من هذه القضية. ونحن نسوقها لمن لا يزالون عندنا يقتاتون على فتات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من موائد الأوربيين، عازفين عن هذا الدين، لأنه يثبت «الغيب» وهم «علميون!» لا «غيبيون» ! ..
ونختار لهم هؤلاء العلماء من «أمريكا» !!! يقول «فرانك أللن» . (ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل وأستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتوبا بكندا) في مقال: نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد؟ من كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» .. ترجمة الدكتور: الدمرداش عبد المجيد سرحان.
.. «فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة فما هي تلك المصادفة إذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟
«إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق. وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب- مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم- ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدماً كبيراً، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر، التي نقول: إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد) . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات(2/1154)
قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة «1» ، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان.. ولننظر الآن إلى الدور الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
«إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي:
الكربون، والأدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت.. ويبلغ عدد الذرات في الجزء الواحد 000، 40 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيموية في الطبيعة 92 عنصراً، موزعة كلها توزيعاً عشوائياً «2» ، فإن احتمال اجتماع هذه الناصر الخمسة، لكي تكون جزيئا من جزيئات البروتين، يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطاً مستمراً لكي تؤلف هذا الجزء ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزء الواحد.
«وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعاً، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد، إلا بنسبة 1 إلى 10 160، أي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروباً في نفسه 160 مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات.. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات.. ويتطلب تكوين هذا الجزء على سطح الأرض وحدها- عن طريق المصادفة- بلايين لا تحصى من السنوات، قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين (10 243 سنة) .
«إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية. فكيف تتألف ذرات هذه الجزئيات؟
إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى، غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة. بل تصير في بعض الأحيان سموماً. وقد حسب العالم الانجليزي: ج. ب. سيثر.. الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزئيات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ الملايين (10) . وعلى ذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئاً بروتينياً واحداً.
«ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عند ما يحل فيها ذلك السر العجيب، الذي لا ندري من كنهه شيئاً، إنه العقل اللانهائي «3» . وهو الله وحده، الذي استطاع أن يدرك «4» ببالغ حكمته، أن مثل هذا الجزء البروتيني يصلح لأن يكون مستقراً للحياة، فبناه وصوره، وأغدق عليه سر الحياة» ..
__________
(1) نحن بتصورنا الإسلامي لا نعرف أن هناك «مصادفة» واحدة في هذا الوجود. وإنما هو قدر الله يخلق به كل شيء: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وهناك سنن مطردة للوجود هي النواميس. وفي كل مرة تنفذ فيها السنة فإنها تنفذ بقدر- بدون جبرية آلية، وكذلك يقع أن يجري قدر الله بالخارقة لتلك النواميس- في ظروف معينة لحكمة خاصة- فالقانون العام والخارقة كلاهما يمر بقدر خاص في كل مرة يجري فيها.. ونحن حين نقتطف من حديث «العلماء» فإن هذا لا يعني الموافقة على كل ما يقولونه. [.....]
(2) وهذه- كذلك- واحدة من خبط «العلماء» فليس هنالك توزيع عشوائي.. إنما هنالك توزيع مرسوم بقدر معلوم!
(3) هذا التعبير «العقل اللانهائي» راسب من رواسب الفلسفة. يستخدمه الرجل لأنه من رواسب ثقافته! والمسلم لا يعبر عن الله- سبحانه- إلا بما سمى به نفسه من أسمائه الحسنى..
(4) وهذه كذلك!!!(2/1155)
ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة إيوى وأخصائي في وراثة النباتات وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان) في مقال: «المادية وحدها لا تكفي» من الكتاب نفسه:
«إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا- بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة. ولا شك أن النظرية التي تدعي أن جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن.. نقول: إن هذه النظرية لا يمكن الأخذ بها إلا عن طريق التسليم. فهي لا تقوم على أساس المنطق والإقناع! «1» » .
ويقول: «ألبرت ما كومب ونشستر» (متخصص في علم الأحياء دكتوراه من جامعة تكساس. أستاذ علم الأحياء بجامعة بايلور ... ) في مقال: «العلوم تدعم إيماني بالله» من الكتاب نفسه:
« ... وقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء. وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة. وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون.
«انظر إلى نبات برسيم ضئيل. وقد نما على أحد جوانب الطريق. فهل تستطيع أن تجد له نظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ إنه آله حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار، بآلاف من التفاعلات الكيموية والطبيعية ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم- وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية.
«فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل. مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بين نبات وآخر.. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء، وأكثرها إظهاراً لقدرة الله.. إن الخلية التناسلية التي ينتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها إلا باستخدام المجهر المكبر. ومن العجيب أن كل صفة من صفات النبات: كل عرق، وكل شعيرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة، يتم تكوينها تحت إشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغاً كبيراً، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي ينشأ منها النبات.. تلك الفئة من المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة «2» ) .
وفي هذا القدر كفاية لنعود إلى الجمال المشرق في سياق القرآن: «ذلِكُمُ اللَّهُ» ..
مبدع هذه المعجزة المتكررة المغيبة السر.. هو الله.. وهو ربكم الذي يستحق أن تدينوا له وحده.. بالعبودية والخضوع والاتباع «3» .
«فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟» ..
فكيف تصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والقلوب والعيون!
__________
(1) وقد أشار في مقاله من قبل إلى قول برتراند رسل بنشأة الحياة مصادفة وزوالها كذلك بجبرية آلية!
(2) بإذن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وبقدر الله الذي تتم به كل حركة في الوجود كله..
(3) يراجع كلمة «الرب» في كتاب: «المصطلحات الأربعة في القرآن» للسيد أبي الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(2/1156)
إن معجزة انبثاق الحياة من الموات يجيء ذكرها كثيراً في القرآن الكريم- كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداء- في معرض التوجيه إلى حقيقة الألوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق، لينتهي منها إلى ضرورة وحدة المعبود، الذي يدين له العباد بالاعتقاد في ألوهيته وحده، والطاعة لربوبيته وحده، والتقدم إليه وحده بالشعائر التعبدية، والتلقي منه وحده في منهج الحياة كله، والدينونة لشريعته كذلك وحدها..
وهذه الدلائل لا تذكر في القرآن الكريم في صورة قضايا لاهوتية أو نظريات فلسفية! إن هذا الدين أكثر جدية من أن ينفق طاقة البشر في قضايا لاهوتية ونظريات فلسفية. إنما يهدف إلى تقويم تصور البشر- بإعطائهم العقيدة الصحيحة- لينتهي إلى تقويم حياة البشر الباطنة والظاهرة.
وذلك لا يكون أبداً إلا بردهم إلى عبادة الله وحده وإخراجهم من عبادة العباد. وإلا أن تكون الدينونة في الحياة الدنيا، وفي شئون الحياة اليومية لله وحده، وإلا أن يخرج الناس من سلطان المتسلطين، الذين يدعون حق الألوهية، فيزاولون الحاكمية في حياة البشر، ويصبحون آلهة زائفة وأرباباً كثيرة فتفسد الحياة، حين يستعبد الناس فيها لغير الله! ومن هنا نرى التعقيب على معجزة الحياة:
«ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» ..
ذلكم الله الذي يستحق الربوبية فيكم.. والرب هو المربي والموجه والسيد والحاكم..
ومن ثم يجب ألا يكون الرب إلا الله..
«فالِقُ الْإِصْباحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» ..
إن فالق الحب والنوى هو فالق الإصباح أيضاً، وهو الذي جعل الليل للسكون، وجعل الشمس والقمر محسوبة حركاتهما مقدرة دوراتهما.. مقدراً ذلك كله بقدرته التي تهيمن على كل شيء، وبعلمه الذي يحيط بكل شيء.
وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبة والنواة. وانبثاق النور في تلك الحركة، كانبثاق البرعم في هذه الحركة.. وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركة، ملحوظة في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك..
وبين انفلاق الحب والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلة أخرى.. إن الإصباح والإمساء، والحركة والسكون، في هذا الكون- أو في هذه الأرض- ذات علاقة مباشرة بالنبات والحياة.
إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة.. هي تقديرات من «العزيز» ذي السلطان القادر «العليم» ذي العلم الشامل.. ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة في الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر، من الحب والنوى..
إنه كون مقدر بحساب دقيق. ومقدر فيه حساب الحياة، ودرجة هذه الحياة، ونوع هذه الحياة.. كون لا مجال للمصادفة العابرة فيه- وحتى ما يسمونه المصادفة خاضع لقانون ومقدر بحساب..
والذين يقولون: إن هذه الحياة فلتة عابرة في الكون. وأن الكون لا يحفلها. بل يبدو أنه يعاديها. وأن ضآلة الكوكب الذي قام عليه هذا النوع من الحياة توحي بهذا كله. بل يقول بعضهم: إن هذه الضآلة توحي(2/1157)
بأنه لو كان للكون إله ما عنى نفسه بهذه الحياة! ... إلى آخر ذلك اللغو، الذي يسمونه أحياناً «علماً» ! ويسمونه أحيانا «فلسفة» ! وهو لا يستأهل حتى مناقشته! إن هؤلاء إنما يحكمون أهواء مستقرة في نفوسهم ولا يحكمون حتى نتائج علمهم التي تفرض نفسها عليهم! ويقرأ لهم الإنسان فيجد كأنما هم هاربون من مواجهة حقيقة قرروا سلفاً ألا يواجهوها! .. إنهم هاربون من الله الذي تواجههم دلائل وجوده ووحدانيته وقدرته المطلقة في كل اتجاه! وكلما سلكوا طريقاً يهربون بها من مواجهة هذه الحقيقة وجدوا الله في نهايتها، فعادوا في ذعر إلى سكة أخرى. ليواجهوا الله- سبحانه- في نهايتها كذلك! إنهم مساكين! بائسون! لقد فروا ذات يوم من الكنيسة وإلهها الذي تستذل به الرقاب.. فروا «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .. ثم ما زالوا في فرارهم التقليدي حتى أوائل هذا القرن.. دون أن يتلفتوا وراءهم ليروا إن كانت الكنيسة ما تزال تتابعهم. أم انقطعت منها «1» - كما انقطعت منهم- الأنفاس.
إنهم مساكين بائسون لأن نتائج علومهم ذاتها تواجههم اليوم أيضاً.. فإلى أين الفرار؟ ..
يقول «فرانك أللن» العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقاله في الفقرة السابقة عن نشأة الحياة:
«إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صوراً عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل) .
«ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً إلينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية. والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن أن يتكاثف مطر يحيي الأرض بعد موتها. والمطر مصدر الماء العذب، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة» ..
إن الأدلة «العلمية» تتكاثر في وجوههم وتتجمع لتعلن عجز المصادفة عجزاً كاملاً عن تعليل نشأة الحياة، بما يلزم لهذه النشأة- وللنمو والبقاء والتنوع بعدها- من موافقات لا تحصى في تصميم الكون.. منها هذه الموافقات التي ذكرها العالم الطبيعي السابق، ووراءها من نوعها كثير. فلا يبقى إلا تقدير العزيز العليم.
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والذي خلق كل شيء فقدره تقديراً..
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
تتمة لمشهد الفلك الدائر بشمسه وقمره ونجومه. تتمة لعرض المشهد الكوني الهائل الرائع مرتبطاً بحياة البشر ومصالحهم واهتماماتهم:
«لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ..
__________
(1) يراجع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين» . «دار الشروق» .(2/1158)
ومتاهات البر والبحر ظلمات يهتدي فيها البشر بالنجوم.. كانوا كذلك وما يزالون.. تختلف وسائل الاهتداء بالنجوم ويتسع مداها بالكشوف العلمية والتجارب المنوعة.. وتبقى القاعدة ثابتة: قاعدة الاهتداء بهذه الأجرام في ظلمات البر والبحر.. سواء في ذلك الظلمات الحسية أو ظلمات التصور والفكر. ويبقى النص القرآني الجامع يخاطب البشرية في مدارجها الأولى بهذه الحقيقة، فتجد مصداقها في واقع حياتها الذي تزاوله. ويخاطبها بها وقد فتح عليها ما أراد أن يفتح من الأسرار في الأنفس والآفاق. فتجدها كذلك مصداق قوله في واقع حياتها الذي تزاوله..
وتبقى مزية المنهج القرآني في مخاطبة الفطرة بالحقائق الكونية، لا في صورة «نظرية» ولكن في صورة «واقعية» .. صورة تتجلى من ورائها يد المبدع، وتقديره، ورحمته، وتدبيره. صورة مؤثرة في العقل والقلب، موحية للبصيرة والوعي، دافعة إلى التدبر والتذكر، وإلى استخدام العلم والمعرفة للوصول إلى الحقيقة الكبرى المتناسقة.. لذلك يعقب على آية النجوم التي جعلها الله للناس ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر هذا التعقيب الموحي:
«قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها.. كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم.. فالاهتداء- كما قلنا- هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية، وفي ظلمات العقل والضمير.. والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم..
«وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» ..
إنها اللمسة المباشرة في هذه المرة.. اللمسة في ذات النفس البشرية. النفس البشرية الواحدة الموحدة الكنه والحقيقة في الذكر والأنثى «1» . تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة. فنفسٌ هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفس هي مستقر لها في رحم الأنثى.. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار.
فإذا أجناس وألوان وإذا شيات ولغات وإذا شعوب وقبائل وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة.
«قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» ..
فالفقه هنا ضروري لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة، التي تنبثق منها النماذج والأنماط. ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث- في عالم الإنسان- لتتم عملية التزاوج التي قدر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار. ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروف تحفظ «إنسانيتهم» وتجعلهم أكفاء للحياة «الإنسانية» ! ولا نملك هنا في الظلال أن نبعد في عرض هذه المسألة بكل تفصيلاتها لجلاء هذه الموافقات- فهي في حاجة
__________
(1) لم أجد- فيما قرأت- أثرا إسلاميا معتمدا لقصة خلق حواء من آدم وهو الذي يفسر به أحيانا قوله تعالى «من نفس واحدة» .. والظاهر لي أنها نفس واحدة لاتحاد الذكر والأنثى في الكنه والحقيقة.(2/1159)
إلى بحث متخصص «1» - ولكننا نذكر فقط كيفية نشأة النطفة ذكراً أو أنثى وكيف يتم عن طريق التوزيع الغيبي الرباني إنتاج القدر الكافي من الذكور ومن الإناث دائماً لكي تتوافر الأعداد المناسبة لبقاء الحياة وامتدادها..
ولقد ذكرنا من قبل عند تفسير قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» .. أن الذي يقرر صيرورة البويضة الملقحة ذكراً أو أنثى، هو أن يجري قدر الله بأن يكون عدد كروموسومات الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة يرجح كروموسومات التذكير على كروموسومات التأنيث أو العكس، وأن جريان القدر بهذا أو ذاك غيب من غيب الله. لا سلطان لأحد عليه إلا الله..
هذا القدَر الذي يجريه الله في كل مرة، فيهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثاً، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكوراً. فلا يقع اختلال- على مستوى البشرية كلها- في هذا التوازن. الذي عن طريقه يتم الإخصاب والإكثار، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته.. ذلك أن الإخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور..
ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى إنما الغاية- التي تميز الإنسان من الحيوان- هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى.. لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به. وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها «الإنساني» الخاص- فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان- والدور «الإنساني» الخاص يحتاج إلى الاستقرار بين أبوين في أسرة فترة أطول جداً مما تحتاج إليه طفولة الحيوان «2» ! وهذه الموازنة الدائمة تكفي وحدها لتكون آية على تدبير الخالق وحكمته وتقديره.. ولكن لقوم يفقهون:
«قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» ..
أما المطموسون المحجوبون.. وفي أولهم أصحاب «العلمية» الذين يسخرون من «الغيبية» . فإنهم يمرون على هذه الآيات كلها مطموسين محجوبين: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» .
ثم يمضي السياق إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض. تراها الأعين، وتستجليها الحواس، وتتدبرها القلوب. وترى فيها بدائع صنع الله.. والسياق يعرضها- كما هي في صفحة الكون- ويلفت إليها النظر في شتى أطوارها، وشتى أشكالها، وشتى أنواعها ويلمس الوجدان بما فيها من حياة نامية، ودلالة على القدرة التي تبدع الحياة كما يوجه القلب إلى استجلاء جمالها والاستمتاع بهذا الجمال:
«وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء، فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ، مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
والماء كثيراً ما يذكر في القرآن في صدد ذكر الحياة والإنبات.
«وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» ..
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الحياة» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .
(2) يراجع بتوسع كتاب «الحجاب» للأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان. كما تراجع الظلال: الجزء الخامس:
ص 620- 622.(2/1160)
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شيء دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر، ويعرفه الجاهل والعالم.. ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة. فقد شارك الماء ابتداء- بتقدير الله- في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات (إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهباً، ثم صلباً لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع. ثم تم ذلك بتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة) ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة، وذلك بإسقاط (النتروجين- الأزوت) من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية، التي تقع في الجو، النتروجين الصالح للذوبان في الماء ويسقط مع المطر، ليعيد الخصوبة إلى الأرض.. وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه، فأصبح يصنعه الآن بنفس الطريقة! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة! «فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» ..
وكل نبت يبدأ أخضر. واللفظ «خضر» أرق ظلاً، وأعمق ألفة من لفظ «أخضر» .. هذا النبت الخضر «نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً» .. كالسنابل وأمثالها. «وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ» .. وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير. وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر. ولفظة «قنوان» ووصفها «دانية» يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب.. «وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ» .. «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» .
هذا النبات كله بفصائله وسلالاته- «مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» - «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» .. انظروا بالحس البصير، والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه، عند كمال نضجه. انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا، كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجالي الحياة «1» .
«إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
فالإيمان هو الذي يفتح القلب، وينير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة، ويصل الكائن الإنساني بالوجود، ويدعو الوجدان إلى الإيمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوباً مغلقة، وبصائر مطموسة، وفطراً منتكسة، تمر بهذا الإبداع كله، وبهذه الآيات كلها، فلا تحس بها ولا تستجيب..
«إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» ، وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون! وعند ما يبلغ السياق إلى هذا المقطع وقد عرض على القلب البشري صفحة الوجود الحافلة بدلائل وجود الله، ووحدانيته، وقدرته، وتدبيره، وقد غمر الوجدان بتلك الظلال الكونية الموحية، وقد وصل الضمير بقلب الوجود النابض في كل حي، الناطق ببديع صنع الخلاق.. عند ما يبلغ إلى هذا المقطع يعرض شرك المشركين، فإذا هو غريب غريب في هذا الجو المؤمن الموصول بمبدع الوجود. ويعرض أوهام المشركين فإذا هي سخف تشمئز منه القلوب والعقول. وسرعان ما يعقب عليها بالاستنكار. والجو كله مهيأ للاستنكار:
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ- وَخَلَقَهُمْ- وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ! بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؟ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
__________
(1) يراجع فصل «الطبيعة في القرآن» في كتاب: «منهج الفن الإسلامي» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(2/1161)
وقد كان بعض مشركي العرب يعبدون الجن.. وهم لا يعرفون من هم الجن! ولكنها أوهام الوثنية! والنفس متى انحرفت عن التوحيد المطلق قيد شبر انساقت في انحرافها إلى أي مدى وانفرجت المسافة بينها وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة لا تكاد تلحظ! وهؤلاء المشركون كانوا على دين إسماعيل.. دين التوحيد الذي جاء به إبراهيم عليه السلام في هذه المنطقة.. ولكنهم انحرفوا عن هذا التوحيد.. ولا بد أن يكون الانحراف قد بدأ يسيراً.. ثم انتهى إلى مثل هذا الانحراف الشنيع.. الذي يبلغ أن يجعل الجن شركاء لله..
وهم من خلقه سبحانه:
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ- وَخَلَقَهُمْ-» ! ولقد عرفت الوثنيات المتعددة في الجاهليات المتنوعة أن هناك كائنات شريرة- تشبه فكرة الشياطين- وخافوا هذه الكائنات- سواء كانت أرواحاً شريرة أو ذوات شريرة- وقدموا لها القرابين اتقاء لشرها ثم عبدوها! والوثنية العربية واحدة من هذه الوثنيات التي وجدت فيها هذه التصورات الفاسدة، في صورة عبادة للجن، واتخاذهم شركاء لله «1» .. سبحانه..
والسياق القرآني يواجههم بسخف هذا الاعتقاد.. يواجههم بكلمة واحدة:
«وَخَلَقَهُمْ» ..
وهي لفظة واحدة، ولكنها تكفي للسخرية من هذا التصور! فإذا كان الله سبحانه هو الذي «خلقهم» فكيف يكونون شركاء له في الألوهية والربوبية؟! ولم تكن تلك وحدها دعواهم. فأوهام الوثنية متى انطلقت لا تقف عند حد من الانحراف. بل كانوا يزعمون له سبحانه بنين وبنات:
«وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .
و «خرقوا» أي: اختلقوا.. وفي لفظها جرس خاص وظل خاص يرسم مشهد الطلوع بالفرية التي تخرق وتشق! خرقوا له بنين: عند اليهود: عزير. وعند النصارى: المسيح: وخرقوا له بنات. عند المشركين:
الملائكة. وقد زعموا أنهم إناث.. ولا يدري أحد طبعاً لماذا هم إناث! فالادعاءات كلها لا تقوم على أساس من علم.. فكلها «بِغَيْرِ عِلْمٍ» ..
«سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ!» ..
ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة:
«بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
إن الذي يبدع هذا الوجود إبداعاً من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف!؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين، وعون الضعفاء، ولذة من لا يبدعون!
__________
(1) قال الكلبي في كتاب الأصنام: «كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن» .(2/1162)
ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر.. أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه.. فكيف يكون لله ولد- وليست له صاحبة- وهو- سبحانه- مفرد أحد، ليس كمثله شيء. فأنى يكون النسل بلا تزاوج؟! وهي حقيقة، ولكنها تواجه مستواهم التصوري وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم! ويتكىء السياق- في مواجهتهم- على حقيقة «الخلق» لنفي كل ظل للشرك. فالمخلوق لا يكون أبداً شريكاً للخالق. وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق: كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلاّ أوهام وظنون:
«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ..
«وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وكما واجههم السياق القرآني بحقيقة أن الله «خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ، ليرتب عليها تهافت تصوراتهم بأن لله- سبحانه- بنين وبنات، أو أن له شركاء الجن- وهو خلقهم- فإنه يتكىء على هذه الحقيقة مرة أخرى. لتقرير أن الذي يعبد ويخضع له ويطاع، ويعترف له بالدينونة وحده هو خالق كل شيء، فلا إله إذن غيره، ولا رب إذن سواه:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ..
إن تفرد الله سبحانه بالخلق، يفرده سبحانه بالملك. والمتفرد بالخلق والملك يتفرد كذلك بالرزق. فهو خالق خلقه ومالكهم، فهو كذلك يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شرك فيه. فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يستمتعون به فإنما هو من هذا الملك الخالص لله.. فإذا تقررت هذه الحقائق.. الخلق والملك والرزق..
تقرر معها- ضرورةً وحتماً- أن تكون الربوبية له سبحانه. فتكون له وحده خصائص الربوبية- وهي القوامة والتوجيه والسلطان الذي يُخضع له ويطاع، والنظام الذي يتجمع عليه العباد «1» - وتكون له وحده العبادة بكل مدلولاتها. ومنها الطاعة والخضوع والاستسلام.
ولم يكن العرب- في جاهليتهم- ينكرون أن الله هو خالق هذا الكون، وخالق الناس، ورازقهم كذلك من ملكه، الذي ليس وراءه ملك تقتات منه العباد! .. وكذلك لم تكن الجاهليات الأخرى تنكر هذه الحقائق- على قلة من الفلاسفة الماديين من الإغريق! - ولم تكن هنالك هذه المذاهب المادية التي تنتشر اليوم بشكل أوسع مما عرف أيام الإغريق.. لذلك لم يكن الإسلام يواجه في الجاهلية العربية إلا الانحراف في التوجه بالشعائر التعبدية لآلهة- مع الله- على سبيل الزلفى والقربى من الله! - وإلا الانحراف في تلقي الشرائع والتقاليد التي تحكم حياة الناس.. أي أنه لم يكن يواجه الإلحاد في وجود الله- سبحانه- كما يقول اليوم «ناس» ! أو كما يتبجحون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير! والحق أن هؤلاء الذين يجادلون في وجود الله اليوم قلة. وسيظلون قلة. إنما الانحراف الأساسي هو ذاته الذي كان في الجاهلية. وهو تلقي الشرائع في شؤون الحياة من غير الله.. وهذا هو الشرك التقليدي الأساسي الذي قامت عليه الجاهلية العربية، وكل الجاهليات أيضا!
__________
(1) يراجع كتاب: «المصطلحات الأربعة في القرآن» للأستاذ أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان: فصول: الألوهية والربوبية والعبادة.(2/1163)
والقلة الشاذة التي تجادل في وجود الله اليوم لا تعتمد على «العلم» وإن كانت هذه دعواها. فالعلم البشري ذاته لا يملك أن يقرر هذا الإلحاد ولا يجد عليه دليلاً لا من هذا العلم ولا من طبيعة الكون.. إنما هي لوثة سببها الأول الشرود من الكنيسة وإلهها الذي كانت تستذل به الرقاب من غير أصل من الدين.. ثم نقص في التكوين الفطري لهؤلاء المجادلين، ينشأ عنه تعطل في الوظائف الأساسية للكينونة البشرية.. كما يقع للأمساخ من المخلوقات «1» ..!
ومع أن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً- لم تكن تساق في القرآن لإثبات وجود الله- إذ كان الجدال في وجوده تعالى سخفاً لا يستحق من جدية القرآن العناية به- إنما كانت تساق لرد الناس إلى الرشاد، كي ينفذوا في حياتهم ما تقتضيه تلك الحقيقة من ضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياتهم كلها وعبادته وحده بلا شريك..
مع هذا فإن حقيقة الخلق والتقدير فيه- كحقيقة انبثاق الحياة أيضاً- تقذف في وجوه الذين يجادلون في الله- سبحانه- بالحجة الدامغة التي لا يملكون بإزائها إلا المراء. وإلا التبجح الذي يصل إلى حد الاستهتار في كثير من الأحيان! «جوليان هاكسلي» مؤلف كتاب: «الإنسان يقوم وحده» وكتاب «الإنسان في العالم الحديث» «2» من هؤلاء المتبجحين المستهترين وهو يقذف بالمقررات التي لا سند لها إلا هواه وهو يقول في كتاب «الإنسان في العالم الحديث» في فصل: «الدين كمسألة موضوعية» ذلك الكلام! «ولقد أوصلنا تقدم العلوم والمنطق وعلم النفس إلى طور أصبح فيه الإله فرضاً عديم الفائدة، وطردته العلوم الطبيعية من عقولنا، حتى اختفى كحاكم مدبر للكون، وأصبح مجرد «أول سبب» أو أساساً عاماً غامضاً» .
و «ول ديورانت» مؤلف كتاب «مباهج الفلسفة» «3» يقول: إن الفلسفة تبحث عن الله، ولكنه ليس «إله اللاهوتيين الذين يتصورونه خارج عالم الطبيعة. بل إله الفلاسفة وهو قانون العالم وهيكله، وحياته ومشيئته» .. وهو كلام لا تستطيع إمساكه! ولكنه كلام يقال! ونحن لا نحاكم هؤلاء الخاطبين في الظلام إلى قرآننا، ولا نحاكمهم كذلك إلى عقولنا المنضبطة بهدى هذا القرآن. إنما نكلهم إلى أندادهم من «العلماء» وإلى العلم البشري الذي يواجه هذه القضية بشيء من الجد والتعقل..
يقول جون كليفلاند كوتران: (من علماء الكيمياء والرياضة. دكتوراه من جامعة كورنيل. رئيس قسم العلوم الطبيعية بجامعة دولث) . من مقال: «النتيجة الحتمية» من كتاب: «الله يتجلى في عصر العلم» :
«فهل يتصور عاقل، أو يفكر، أو يعتقد، أن المادة المجردة من العقل والحكمة قد أوجدت نفسها بنفسها بمحض المصادفة؟ أو أنها هي التي أوجدت هذا النظام وتلك القوانين، ثم فرضته على نفسها؟ لا شك أن الجواب سوف يكون سلبياً. بل إن المادة عند ما تتحول إلى طاقة أو تتحول الطاقة إلى مادة، فإن كل ذلك يتم طبقاً لقوانين معينة. والمادة الناتجة تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها المادة التي وجدت قبلها.
«وتدلنا الكيميا على أن بعض المواد في سبيل الزوال أو الفناء ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة. وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية. ومعنى ذلك أيضاً أنها ليست أزلية. إذ أن لها بداية.
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «ألوهية وعبودية» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني «دار الشروق» . [.....]
(2) عالم أحياء انجليزي معاصر من المشتغلين بالداروينية الحديثة.
(3) متفلسف أمريكي معاصر.(2/1164)
وتدل الشواهد من الكيميا وغيرها من العلوم على أن بداية المادة لم تكن بطيئة أو تدريجية، بل وجدت بصورة فجائية. وتستطيع العلوم أن تحدد لنا الوقت الذي نشأت فيه هذه المواد. وعلى ذلك فإن هذا العالم المادي لا بد أن يكون مخلوقاً. وهو منذ أن خلق يخضع لقوانين وسنن كونية محددة، ليس لعنصر المصادفة بينها مكان «1» .
«فإذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلق نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها، فلا بد أن يكون الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي. وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفاً بالعقل والحكمة. إلا أن العقل لا يستطيع أن يعمل في العالم المادي- كما في ممارسة الطب والعلاج السيكلوجي- دون أن يكون هنالك إرادة. ولا بد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً.. وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقاً فحسب، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيماً عليماً قادراً على كل شيء، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره ولا بد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود، تتجلى آياته في كل مكان. وعلى ذلك فإنه لا مفر من التسليم بوجود الله، خالق هذا الكون وموجهه- كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال.
«إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل، ما قاله من قبل، من أننا إذا فكرنا تفكيراً عميقاً، فإن العلوم سوف تضطرنا إلى الإيمان بالله» ..
ويقول فرانك أللن عالم الطبيعة البيولوجية في مقال «نشأة العالم هل هو مصادفة أو قصد» من الكتاب نفسه:
«كثيرا ما يقال: إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق. ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود، فكيف نفسر وجوده؟ .. هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال- وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده- وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم. وإما أن يكون أزلياً ليس لنشأته بداية. وإما أن يكون له خالق.
أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والإحساس، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام، ليس له ظل من الحقيقة. ولقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جينز «2» ، الذي يرى أن هذا الكون ليس له وجود فعلي، وأنه مجرد صورة في أذهاننا. وتبعاً لهذا الرأي نستطيع أن نقول: إننا نعيش في عالم من الأوهام! فمثلاً هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات وبها ركاب وهميون، وتعبر أنهاراً لا وجود لها، وتسير فوق جسور غير مادية.. الخ. وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال! «أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم، بما فيه من مادة وطاقة، قد نشأ هكذا وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفاً وحماقة ولا يستحق هو أيضاً أن يكون موضعا للنظر أو المناقشة.
__________
(1) سبق أن قررنا أن نتائج العلوم كلها ظنية. ونحن لا نتخذ من هذا القول حجة على صدق الإسلام إنما نحن نواجه به من يرتكنون للعلم ويحتجون به!
(2) عالم طبيعي رياضي انجليزي معاصر، وهو مؤلف كتاب: «الكون الغامض» المترجم إلى اللغة العربية.. ورأيه هذا ليس هو أول من قال به. فقد سبق في فلسفة أفلاطون ثم استغرق حوالي 150 سنة من الجدل بين المدارس الفلسفية! وخاصة بين «المثالية» و «الوضعية» .. وما يزالون مختلفين!(2/1165)
«والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية «1» ، إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون- وذلك في عنصر واحد هو الأزلية- وإذن فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق، وليس هنالك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الآخر. ولكن قوانين «الديناميكا الحرارية» تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً، وأنها سائرة حتماً «2» إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض، هي الصفر المطلق ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة «3» من انعدام الطاقات عند ما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق، بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة، والنجوم المتوهجة، والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذن حدث من الأحداث.. ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي، ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه» .
الله- سبحانه- خالق كل شيء. لا إله إلا هو..
هذه هي القاعدة التي يقيم عليها السياق القرآني هنا وجوب عبادة الله وحده. ووجوب ربوبيته وحده- بكل مدلولات الربوبية من الحكم والتربية والتوجيه والقوامة:
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَاعْبُدُوهُ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ..
فهي القوامة لا على البشر وحدهم، ولكن على كل شيء كذلك. بما أنه هو خالق كل شيء ... وهذا هو المقصود من تقرير تلك القاعدة، التي لم يكن المشركون- في جاهليتهم- يجحدونها. ولكنهم ما كانوا يسلمون بمقتضاها. وهو: الخضوع والطاعة لحاكمية الله وحده والدينونة لسلطانه بلا شريك..
ثم تعبير عن صفة الله سبحانه، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفاً، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله، بما يطمئن ويروح، ويشف شفافية النور:
«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ..
إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله، كالذين يطلبون في سماجة دليلاً مادياً على الله! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون! إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك.. كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون، والقيام بالخلافة في الأرض.. وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق..
فأما ذات الله- سبحانه- فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها. لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي
__________
(1) وهو رأي الوضعيين والمذاهب المادية جملة من قديم. وكذلك الهندوكية والبوذية!
(2- 3) هذه التوكيدات الحتمية لم يعد منطق العلم البشري ذاته يحتملها. وقوانين الديناميكا الحرارية ليست يقينا. إنما هي نظرية في تفسير الكون. وقد تدخل عليها تعديلات غدا. وقد يظهر بطلانها من أساسها. ونحن كما قلنا لا نتخذ من العلم برهانا على صحة الإسلام، ولا مصدقا لمقرراته. إنما نحن نواجه بهذه النتائج «العلمية» من يحسبون العلم إلها.. فهذا قول إلههم الذي يثقون به ثقة جوليان هاكسلي!(2/1166)
الأبدي. فضلاً على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض. وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها..
وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين. ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين! إن هؤلاء يتحدثون عن «الذرة» وعن «الكهرب» وعن «البروتون» وعن «النيوترون» .. وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهرباً ولا بروتوناً ولا نيوترونا في حياته قط. فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات.. ولكنها مسلمة من هؤلاء، كفرض، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثاراً معينة تقع لوجود هذه الكائنات. فإذا وقعت هذه الآثار (جزموا) بوجود الكائنات التي أحدثتها! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو «احتمال» وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها! .. ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله- سبحانه- عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضاً على العقول! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويطلبون دليلاً مادياً تراه الأعين..
كأن هذا الوجود بجملته، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل! وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس. وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه:
«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .
يعقب السياق على هذا الوصف الذي لا تملك لغة البشر أن تشرحه أو تصفه.. بقوله:
«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
فهذا الذي جاء من عند الله.. بصائر.. والبصائر تهتدي وتهدي.. وهذا بذاته.. بصائر.. تهدي.
فمن أبصر فلنفسه فإنما يجد الهدى والنور. وليس وراء ذلك إلا العمى. فما يبقى على الضلال بعد هذه الآيات والبصائر إلا أعمى.. معطل الحواس. مغلق المشاعر. مطموس الضمير..
ويوجه النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن براءته من أمرهم ومغبته:
«وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
ولا يفوتنا أن نلمح التناسق في الجو والظلال والعبارة بين قوله في الآية السابقة: في صفة الله سبحانه:
«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .. وبين قوله في الآية اللاحقة: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» .. واستخدام الأبصار والبصائر، والبصر والعمى، في السياق المتناسق المتناغم..
بعد ذلك يلتفت السياق إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيتحدث عن تصريف الآيات على هذا المستوى، الذي لا يتناسب مع أمية النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيئته والذي يدل بذاته على مصدره الرباني- لمن تتفتح بصيرته- ولكن المشركين ما كانوا يريدون الاقتناع بالآيات. ومن ثم كانوا يقولون: إن محمداً درس هذه القضايا العقيدية والكونية مع أحد أهل الكتاب! وما دروا أن أهل الكتاب ما كانوا يعلمون شيئاً على هذا المستوى الذي يحدثهم محمد فيه وما كان أهل الأرض جميعاً- وما يزالون- يبلغون شيئاً من هذا المستوى السامق على كل ما عرف البشر وما يعرفون. ومن ثم يوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى اتباع ما أوحي إليه والإعراض عن المشركين:(2/1167)
«وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ، وَلِيَقُولُوا: دَرَسْتَ، وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
إن الله يصرف آياته على هذا المستوى الذي لا عهد للعرب به لأنه ليس نابعاً من بيئتهم- كما أنه ليس نابعاً من البيئة البشرية على العموم- فينتهي هذا التصريف إلى نتيجتين متقابلتين في البيئة:
فأما الذين لا يريدون الهدى، ولا يرغبون في العلم، ولا يجاهدون ليبلغوا الحقيقة.. فهؤلاء سيحاولون أن يجدوا تعليلاً لهذا المستوى الذي يخاطبهم به محمد- وهو منهم- وسيختلقون ما يعلمون أنه لم يقع. فما كان شيء من حياة محمد خافياً عليهم قبل الرسالة ولا بعدها.. ولكنهم يقولون: درست هذا يا محمد مع أهل الكتاب وتعلمته منهم! وما كان أحد من أهل الكتاب يعلم شيئاً على هذا المستوى.. وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك ما تزال بين أيدينا. والمسافة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وهذا القرآن الكريم.. إن ما بين أيديهم إن هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين- هذا فيما يختص بالعهد القديم- فأما العهد الجديد- وهو الأناجيل- فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح- عليه السلام- بعد عشرات السنين وتداولتها المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على ممر السنين. وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان.. وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك، وما يزال.. فأين هذا كله من القرآن الكريم؟! ولكن المشركين- في جاهليتهم- كانوا يقولون هذا وأعجب العجب أن جاهليين في هذا العصر من «المستشرقين» و «المتمسلمين» ! يقولون هذا القول فيسمى الآن «علماً» و «بحثاً» و «تحقيقاً» لا يبلغه إلا المستشرقون! فأما الذين «يعلمون» حقاً، فإن تصريف الآيات على هذا النحو يؤدي إلى بيان الحق لهم فيعرفونه:
«وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
ثم تقع المفاصلة بين قوم مبصرين يعلمون، وقوم عمي لا يعلمون! ويصدر الأمر العلوي للنبي الكريم، وقد صرف الله الآيات، فافترق الناس في مواجهتها فريقين.. يصدر الأمر العلوي للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتبع ما أوحي إليه، وأن يعرض عن المشركين، فلا يحفلهم ولا يحفل ما يقولون من قول متهافت، ولا يشغل باله بتكذيبهم وعنادهم ولجاجهم. فإنما سبيله أن يتبع ما أوحي إليه من ربه فيصوغ حياته كلها على أساسه ويصوغ نفوس أتباعه كذلك. ولا عليه من المشركين فإنما هو يتبع وحي الله، الذي لا إله إلا هو، فماذا عليه من العبيد؟! «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» ..
ولو شاء الله أن يلزمهم الهدى لألزمهم، ولو شاء أن يخلقهم ابتداء لا يعرفون إلا الهدى كالملائكة لخلقهم.
ولكنه سبحانه خلق الإنسان بهذا الاستعداد للهدى وللضلال، وتركه يختار طريقه ويلقى جزاء الاختيار- في حدود المشيئة المطلقة التي لا يقع في الكون إلا ما تجري به، ولكنها لا ترغم إنساناً على الهدى أو الضلال- وخلقه على هذا النحو لحكمة يعلمها وليؤدي دوره في هذا الوجود كما قدره الله له. باستعداداته هذه وتصرفاته:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» ..(2/1168)
وليس الرسول- صلى الله عليه وسلم- مسؤولاً عن عملهم، وهو لم يوكل بقلوبهم فالوكيل عليها هو الله:
«وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
وهذا التوجيه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحدد المجال الذي يتناوله اهتمام الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعمله. كما يحدد هذا المجال لخلفائه وأصحاب الدعوة إلى دينه في كل أرض وفي كل جيل..
إن صاحب الدعوة لا يجوز أن يعلق قلبه وأمله وعمله بالمعرضين عن الدعوة، المعاندين، الذين لا تتفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.. إنما يجب أن يفرغ قلبه، وأن يوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا.
فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها.. قاعدة العقيدة.. وفي حاجة لإنشاء تصور لهم كامل عميق عن الوجود والحياة على أساس هذه العقيدة. وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم وبناء مجتمعهم الصغير على هذا الأساس نفسه. وهذا كله يحتاج إلى الجهد. ويستحق الجهد. فأما الواقفون على الشق الآخر، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ.. وحين ينمو الحق في ذاته فإن الله يجري سنته، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة، فإن شأن الباطل هين، وعمره كذلك قريب! ومع أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن المشركين، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب، وفي وقار، وفي ترفع، يليق بالمؤمنين.. لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه- وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه- فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم:
«وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .
إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها، أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه، ويدافع عنه! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها. وإن كان على الهدى رآه حسناً، وإن كان على الضلال رآه حسناً كذلك! فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء.. مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعاً عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم! ..
فليدعهم المؤمنون لما هم فيه:
«ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهو أدب يليق بالمؤمن، المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور. فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عناداً. فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟! وأخيراً يختم هذا الدرس، الذي استعرض فيه صفحة الوجود الحافلة بالآيات والخوارق، في كل لحظة من ليل أو نهار.. يختمه بأن هؤلاء المشركين يقسمون بالله جهد أيمانهم أن لو جاءتهم آية- أي خارقة مادية كخوارق الرسل السابقة- ليؤمنن بها! الأمر الذي جعل بعض المسلمين حين سمعوا أيمانهم يقترحون على رسول(2/1169)
الله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل ربه هذه الآية التي يطلبون! .. ويجيء الرد الحاسم على المؤمنين، ببيان طبيعة التكذيب في هؤلاء المكذبين:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها. قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ. وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ؟ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» ..
إن القلب الذي لا يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود- بعد توجيهه إليها على هذا النحو العجيب الذي تكفل به هذا الكتاب العجيب- ولا توحي آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق إليه أن يبادر إلى ربه، ويثوب إلى كنفه.. إن هذا القلب هو قلب مقلوب.. والذي عاق هؤلاء عن الإيمان في أول الأمر، ما الذي يُدري المسلمين الذين يقترحون إجابة طلبهم، أن يعوقهم عن الإيمان بعد ظهور الخارقة؟ إن الله هو الذي يعلم حقيقة هذه القلوب.. وهو يذر المكذبين في طغيانهم يعمهون، لأنه يعلم منهم أنهم يستحقون جزاء التكذيب كما يعلم عنهم أنهم لا يستجيبون.. لا يستجيبون ولو نزل إليهم الملائكة كما يقترحون! ولو بعث لهم الموتى يكلمونهم- كما اقترحوا كذلك! - ولو حشر الله عليهم كل شيء في هذا الوجود يواجههم ويدعوهم إلى الإيمان! .. إنهم لا يؤمنون- إلا أن يشاء الله- والله سبحانه لا يشاء، لأنهم هم لا يجاهدون في الله ليهديهم الله إليه.. وهذه هي الحقيقة التي يجهلها أكثر الناس عن طبائع القلوب..
إنه ليس الذي ينقص الذين يلجون في الضلال أنه لا توجد أمامهم دلائل وبراهين.. إنما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، وانطماس في الضمير..
وإن الهدى جزاء لا يستحقه إلا الذين يتجهون إليه، والذين يجاهدون فيه..(2/1170)
فهرس المجلد الثاني
الجزء الخامس (سورة النساء من آية 24- 147) مقدمة الجزء الخامس 615 الآيات من 24- 35 (والمحصنات من النساء 617 الآيات من 36- 43 (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا 657 الآيات من 44- 57 (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب 671 الآيات من 58- 70 (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات 684 الآيات من 71- 86 (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم 700 الآيات من 87- 94 (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم 726 الآيات من 95- 104 (لا يستوي القاعدون 737 الآيات من 105- 113 (إنا أنزلنا إليك الكتاب 750 الآيات من 114- 126 (لا خير في كثير من نجواهم 757 الآيات من 127- 134 (ويستفتونك في النساء 764 الآيات من 135- 147 (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط 772 الجزء السادس (بقية سورة النساء من آية 148- 176. وسورة المائدة من آية 1- 81) مقدمة الجزء السادس 791 الآيات من 148- 170 (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول 794 الآيات من 171- 175 (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم 814 الآية 176 (يستفتونك قل الله يفتيكم 823 5- سورة المائدة مدنية وآياتها 120 مقدمة 825 الآيات من 1- 11 (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود 834 الآيات من 12- 26 (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل 855 الآيات من 27- 40 (واتل عليهم نبأ ابني آدم 872 الآيات من 41- 50 (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر 886 الآيات من 51- 66 (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود 906 الآيات من 67- 81 (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك 936(2/1171)
الجزء السابع (سورة المائدة من آية 82- 120 وسورة الأنعام من آية 1- 111) مقدمة 957 الآيات من 82- 86 (لتجدن أشد الناس عداوة 959 الآيات من 87- 108 (يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات 967 الآيات من 109- 120 (يوم يجمع الله الرسل 995 6- سورة الأنعام مكية وآياتها 165 مقدمة 1004 الآيات من 1- 3 (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض 1030 الآيات من 4- 11 (وما تأتيهم من آية 1035 الآيات من 12- 19 (قل لمن ما في السموات والأرض 1046 الآيات من 20- 32 (الذين آتيناهم الكتاب 1059 الآيات من 33- 39 (قد نعلم إنه ليحزنك 1073 الآيات من 40- 49 (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله 1085 الآيات من 50- 55 (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله 1094 الآيات من 56- 65 (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون 1107 الآيات من 66- 70 (وكذب به قومك وهو الحق 1126 الآيات من 71- 73 (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا 1130 الآيات من 74- 94 (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر 1135 الآيات من 95- 111 (إن الله فالق الحب والنوى 1150(2/1172)
[المجلد الثالث]
في ظلال القرآن بقلم سيّد قطب المجلد الثالث الأجزاء: 8- 11 طبعة جديدة مشروعة تتضمّن إضافات وتنقيحات تركها المؤلّف وتنشر للمرّة الأولى مع المراجعة الشّاملة والتصويب الدقيق لما كان في الطبعة الأصليّة- التي صوّرت عنها الطبعات غير المشروعة- من أخطاء في الآيات القرآنيّة والتفسير دار الشروق(3/1176)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بقيّة سورة الأنعام
وأول سورة الأعراف الجزء الثّامن(3/1177)
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا الجزء الثامن مؤلف من شطرين: الشطر الأول هو بقية سورة الأنعام- التي سبق شطرها الأول في الجزء السابع- والشطر الثاني هو من سورة الأعراف..
ولقد سبق التعريف بسورة الأنعام في الجزء السابع وسنحاول هنا أن نصل قارئ هذا الجزء بالتعريف الذي تضمنه ذلك الجزء. أما الكلام عن سورة الأعراف فسيجيء في موضعه- إن شاء الله- عند ما نواجه السورة.
تمضي بقية سورة الأنعام على منهج السورة الذي أوضحناه في التعريف بها في الجزء السابع. والذي يحسن أن نشير إليه ملخصا في فقرات مجملة:
جاء في التعريف بالسورة هذه الفقرات:
«إنها- في جملتها- تعرض «حقيقة الألوهية» . تعرضها في مجالي الكون والحياة. كما تعرضها في مجالي النفس والضمير.. وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون..
وتعرضها في النشأة الكونية، والنشأة الحيوية، والنشأة الإنسانية كما تعرضها في مصارع الغابرين، واستخلاف المستخلفين.. وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون، وتواجه الأحداث، وتواجه النعماء والضراء كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة..
وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة، ومواقف الخلائق، وهي موقوفة على ربها الخالق ...
«هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق، وفي هذه الأغوار والأعماق.. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي- الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة «1» - وعلى منهج القرآن كله.. إنها لا تهدف إلى تصوير «نظرية» في العقيدة، ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار..
إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق.. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم، وتعبيد سعيهم وحركتهم، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد..
سلطان الله الذي لا سلطان غيره في الأرض ولا في السماء.
«ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد.. من أولها إلى آخرها.. فالله هو الخالق. والله هو الرازق، والله هو المالك. والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان. والله هو العليم بالغيوب والأسرار. والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار.. وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة
__________
(1) إشارة إلى ما سبق في التعريف بالقرآن المكي جملة في الجزء السابع: ص 1004- 1015(3/1179)
العباد وألا يكون لغيره أمر ولا نهي، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم.. فهذا كله من خصائص الألوهية، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله، لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، ولا يضر ولا ينفع، ولا يمنح ولا يمنع، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.. وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة، والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية، من كل درب ومن كل باب! «والقضية الكبرى التي تعالجها السورة هي قضية «الألوهية والعبودية» في السماوات والأرض في محيطها الواسع، وفي مجالها الشامل.. ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك.. المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة.. هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحريم والتحليل في الذبائح والمطاعم ومن حق تقرير الشعائر في النذور من الذبائح والثمار.. والأولاد.. وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة:
«فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم- إلا ما اضطررتم إليه- وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم. إن ربك هو أعلم بالمعتدين.
وذروا ظاهر الإثم وباطنه. إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ...
(118- 121) «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله- بزعمهم- وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها- افتراء عليه- سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم. إنه حكيم عليم.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله- افتراء على الله- قد ضلوا وما كانوا مهتدين» ... (136- 140) .
«هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة- والجاهلية من حولها- التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة..
قضية التشريع والحاكمية.. ومن ورائها القضية الكبرى.. قضية الالوهية والعبودية التي تواجهها السورة كلها، ويعالجها القرآن المكي كله، كما يعالجها القرآن المدني أيضا، كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.
«والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور- وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق الحاكمية والتشريع- وربطها بقضية العقيدة كلها.. قضية الألوهية والعبودية.. وجعلها مسألة إيمان أو كفر، ومسألة إسلام أو جاهلية.. هذا الحشد- على هذا النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك- يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين.
وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته. وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة، من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.(3/1180)
«كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر- جل أم حقر، كبر أم صغر- وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين.. وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك «1» ..
هذه المناسبة التي كانت حاضرة في حياة الأمة المسلمة- والجاهلية من حولها- والتي عالجها سياق السورة على هذا النحو الذي سبقت الاشارة إليه في هذه المقتطفات.. هي هي موضوع بقية السورة التي سنعالجها في هذا الجزء. بعد ما مضى الشطر الأول من السورة في عرض قضية الألوهية والعبودية في محيطها الشامل وانتهى السياق إلى مواجهة هذه المناسبة الواقعية، فربط بينها وبين القضية الكبرى، ذلك الربط القوي المباشر.
إن السياق القرآني يحشد- لمواجهة تلك التقاليد الجاهلية في تحريم بعض المطاعم وتحليل بعضها وفي النذور من الثمار والأنعام والأولاد- حشدا ضخما من المؤثرات والتقريرات ويربطها بجملة من الحقائق والقواعد، هي حقائق هذا الدين وقواعده الأساسية ويقدم لها ويعقب عليها تقدمات ضخمة وتعقيبات هائلة مما يدل على الأهمية البالغة التي ينوطها هذا الدين، بتخليص الحياة كلها من قبضة الجاهلية وردها بجملتها إلى الإسلام.. أي إلى سلطان الله وحده..
وهكذا يبدأ السياق بتقدمة لهذه القضية عن إحاطة مشيئة الله بالعباد جميعا: جنهم وإنسهم. وجريان الأحداث في هذه العوالم بمشيئته وقدره واستدراجه لأعداء الرسل من شياطين الإنس والجن وإمهاله لهم، ليقترفوا ما هم مقترفون ولو شاء الله لقهرهم على الهدى ولكفهم عن الضلال قهرا أو لهداهم إلى الحق وشرح صدورهم له. أو لكفهم عن أذى الرسل والمؤمنين فلم يصلوا إليهم. فهم لا يعادون الرسل، ولا يقترفون ما يقترفون، خروجا على سلطان الله ومشيئته فهم أعجز من أن يخرجوا على سلطان الله ومشيئته. إنما هي مشيئة الله اقتضت أن يترك لهم الخيار والقدرة على الهدى وعلى الضلال وهم في قبضته على كل حال: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه، وليقترفوا ما هم مقترفون» ..
فإذا تقرر أن عداء شياطين الإنس والجن للرسل سنة يجري بها قدر الله. وأن هؤلاء الشياطين، على كل ما يرتكبونه، هم في قبضة الله. استنكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبتغي «حكما» غير الله.. هكذا على الإطلاق، في أي شأن وفي أي أمر.. ذلك أن تحكيم غير الله في شأن هذه المطاعم هو كالتحكيم لغير الله في كل شأن. وهو إقامة ربوبية غير ربوبية الله ينكرها رسول الله.. وأعقب ذلك تقرير أن كلمة ربه قد تمت بهذا الكتاب وبهذه الشريعة فلم يعد هناك قول لقائل، ولا حكم لبشر. وحذر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يطيع البشر في دين الله فإن أكثرهم لا يتبعون إلا الظن ولا علم عندهم يستيقن ومن يطعهم يضلوه.
والله وحده هو الذي يعلم الضالين والمهتدين من عباده.. وكان ذلك كله تمهيدا للأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ان كان المسلمون مؤمنين، والنهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وتحذيرهم أن يطيعوا أولياء الشياطين في شيء من التحليل والتحريم. وإلا فهم مثلهم مشركون: وأنهيت الفقرة ببيان عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، والدوافع التي تدفع بالكافرين إلى هذا الذي يقترفون: «أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم
__________
(1) ص 1017- 1018 من الجزء السابع.(3/1181)
الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين..
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم- إلا ما اضطررتم إليه- وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين.
وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون.. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه- وإنه لفسق- وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.. أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته.
سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون» ..
ثم يعود السياق فيقرر أن هدى المهتدين وضلال الضالين.. كلاهما إنما يتم بقدر من الله. وأن هؤلاء كهؤلاء في قبضة الله وسلطانه، وفي اطار مشيئته وقدره: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» .
وينهي هذه الفقرة بتقرير أن ما مر من الأمر والنهي، ومن الاعتقاد والتصور، هو صراط الله المستقيم. فيربط بين ذلك الأمر والنهي وبين أصول الاعتقاد في مشيئة الله وقدره، ويجعلهما حزمة واحدة. كما يجعلهما صراط الله المستقيم الذي يأمر الله العباد أن يسلكوه إليه، لينتهوا إلى دار السلام والأمن عند ربهم وهو وليهم وناصرهم:
«وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم، وهو وليهم بما كانوا يعملون» .
ولا تنتهي التعقيبات على مسألة الأمر والنهي في تناول الذبائح، حتى يعرض السياق مصير شياطين الإنس والجن الذين يجادلون المؤمنين في هذه القضية وهم في قبضة الله- صاحب السلطان وصاحب الحكم في المصائر- وحتى يعرض سلطان الله كذلك في استخلاف من يستخلف في هذه الأرض، والذهاب بمن يريد له أن يذهب. وتهديد من يركب رأسه منهم في الدنيا- بسبب ما منحه الله من حرية في اختيار طريقه، ابتلاء من الله واختبارا- بانتهاء المهلة والأخذ بما كسب في فترة الابتلاء والاختبار: «ويوم يحشرهم جميعا: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس! وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. قال: النار مثواكم خالدين فيها- إلا ما شاء الله- إن ربك حكيم عليم. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون. ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون.
وربك الغني ذو الرحمة، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين.
إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين. قل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون» ..
بهذا الحشد العجيب من حقائق العقيدة الأساسية، ومن المشاهد والمواقف والمؤثرات الموحية ومن تسليط(3/1182)
الأضواء على حقائق المشيئة وحقائق الوجود الكوني وحقائق النفس البشرية والدوافع الظاهرة والخفية في حياة البشر. ومن التقريرات الشاملة عن سلطان الله في السماوات والأرض وفي الدنيا والآخرة وفي حياة البشر المستترة والظاهرة ... بهذا الحشد كله يواجه المنهج القرآني ظاهرة واحدة من ظواهر الجاهلية في الأكل أو عدم الأكل من ذبيحة.. فماذا؟ .. إنها القضية الأساسية في هذا الدين.. قضية الحاكمية ولمن تكون ... وبالتعبير المرادف.. قضية الألوهية والربوبية ولمن تكون.. ومن ثم تنال هذه الملابسة الجزئية كل هذا الاحتشاد والتجمع والاحتفال..
وبمثل هذا الاحتشاد وهذا الاحتفال وهذا التجمع يواجه كذلك مسألة النذور في الجاهلية من الثمار والأنعام.. والأولاد..
إن جاهلية العرب لم تكن تجحد الله البتة. ولم تكن تجعل معه إلها آخر يساويه! ولكنها إنما كانت تجعل معه آلهة- من دونه- أقل منه منزلة ورتبة! وكانوا يقولون: إنهم إنما يتخذون من هذه الآلهة شفعاء يقربونهم إلى الله.. وفي هذا كان شركهم. وبهذا كانوا مشركين! وكان من شركهم كذلك أن يبتدعوا هم من عند أنفسهم- يقوم بذلك كهانهم ومشايخهم- شرائع وتقاليد في حياتهم ثم يزعمون أن الله شرعها لهم، وأمرهم بها! .. إنهم لم يكونوا من التبجح في الشرك بحيث ينسبون هذه الشرائع إلى أنفسهم ويدعون أن لهم هم سلطة الحاكمية العليا التي يصدرون بها الشرائع مستقلين عن سلطان الله! لم يكونوا قد عرفوا بعد هذا التبجح الذي عرفه مشركو هذا الزمان ممن يدعون- من دون الله- السلطان.. وفي هذا كذلك كان شركهم وبهذا كانوا مشركين! من هذه الشرائع والتقاليد التي ابتدعوها وزعموا أنها شريعة الله ما كانوا ينذرونه من الثمار والأنعام لله سبحانه ولآلهتهم المدعاة! ثم يتصرفون بعد ذلك على هواهم أو على هوى السدنة والكهنة «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله، فهو يصل إلى شركائهم» ! ومنها ما كانوا ينذرونه من أولادهم للآلهة المزعومة وما كانوا يقتلونه من البنات اتباعا لعرف القبيلة! ومنها ما كانوا يحجرونه من الأنعام ومن الزروع لا يطعمه إلا من شاء الله- وهم الذين يزعمون تحريمها، وهم كذلك الذين يعينون من هم الذين شاء الله أن يطعموها! ومنها ما كانوا يحرمون ركوبه من الأنعام. كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي «1» ! ومنها ما كانوا يمنعون أن يذكر اسم الله عليه من الذبائح. زاعمين أن هذا من أمر الله! ومنها ما كانوا يخصصونه- من الحمل الذي في بطون الأنعام- للذكور منهم دون الإناث. إلا إذا نزل ميتا فيشارك فيه الإناث.. وكانوا يجعلون هذا حراما وذلك حلالا! ومنه الميتة التي كانوا يحلونها ويقولون: ذبحها الله. فهي حلال بذبح الله! والقرآن يواجه هذا كله بحملة كاشفة يحشد فيها من المقررات الأساسية في العقيدة والمشاهد والحقائق المؤثرة ما يحشده في مواجهة قضية الشرك والإيمان في سياق السورة كله.. لأنها هي هي بعينها قضية الشرك والإيمان، في صورة تطبيقية واقعة..
ومن خلال هذه الحملة يتبين أن القضية هي قضية هذا الدين كما هي قضية هذه العقيدة. فهذه التشريعات
__________
(1) يراجع تعريفها في سورة المائدة في الجزء السابع: ص 989- 990.(3/1183)
والتقاليد، إنما زينها للمشركين شركاؤهم الذين يشرعونها لهم ليدمروا حياتهم ويلبسوا عليهم دينهم. وتلبيس الدين وتدمير الحياة كلاهما مرتبطان. فإما شرع الله فهو الدين الواضح والحياة السليمة وإما شرع غير الله فهو الدين الغامض والحياة المهددة بالردى: «وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم» ..
ويتبين أن الشياطين وراء هذا العدول عن شرع الله ودينه، إلى شرع الشركاء ودينهم. وأن الشيطان وهو العدو المبين يقود خطى المشركين إلى الخسران والتدمير: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ويتبين أن التحريم والتحليل- بغير شرع الله- هو والشرك سواء. فهو شرك مثله، وأن إحالة شيء من هذا كله إلى مشيئة الله القاهرة هو دعوى يدعيها المشركون في جميع العصور. فقد شاءت إرادة الله أن تعطي الناس قدرا من الاختيار تبتليهم به ومن ثم فلا قهر على الشرك في كل صوره إنما هو الابتلاء، وهم غير مفلتين من قبضة الله على كل حال. «سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا. قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون. قل: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين» .
ثم نجد موقفا للإشهاد على أن الله حرم هذا الذي يحرمونه يذكرنا بموقف الإشهاد على قضية الألوهية في أول السورة.. ذلك أنها قضية واحدة في الحقيقة. فمزاولة التشريع مزاولة لخصائص الألوهية.. وهي هي بذاتها القضية: «قل: هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا. فإن شهدوا فلا تشهد معهم. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون» .. ويذكرنا التعبير «يعدلون» هنا بأنه هو بذاته اللفظ الذي استخدم في قضية الألوهية في أول السورة. كما ذكرنا في التعريف بالسورة «1» .
ثم تختم هذه الحملة ببيان أن هذا الذي قرره الله في قضية التشريع والتقاليد في الثمار والأنعام والأولاد هو صراط الله المستقيم.. ذات التعبير الذي استخدم من قبل في قضية تحريم الذبائح وتحليلها.. كما استخدم بذاته في قضية الألوهية في أول السورة كما ذكرنا في التعريف بالسورة: «وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون» .
ولا ينتهي السياق بهذا الحشد الذي اقتطفنا منه هذه الإشارات.. بل يمضي في طريقه يتحدث عن كتاب موسى الذي جاء لقوم موسى: «تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» وعن هذا الكتاب المبارك الذي نزله الله ليتبعه المسلمون ويتقوا لعلهم يرحمون. ولتنقطع حجتهم بأن الكتاب قد نزل على اليهود والنصارى من قبل. وأنهم هم لم يجئهم كتاب يفصل لهم كل شيء فيعرفوا ما شرعه الله حقا وما يقال لهم إنه من شرع الله افتراء! يتبع هذا تهديد الذين لا يتبعون ما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويبقون على ما هم عليه من شرائع جاهلية ينسبونها إلى الله افتراء عليه، ويتعللون بطلب الخوارق التي تحملهم على التصديق والاتباع..
تهديدهم بأن هذه الخوارق التي يطلبونها ستكون يوم تجيء هي فصل الخطاب حيث يتبعها الدمار والهلاك:
«هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. قل: انتظروا إنا منتظرون» ..
__________
(1) الجزء السابع: ص 1004- 1015(3/1184)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
ثم مفاصلة بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والدين الذي جاء به والأمة المسلمة وبين أولئك الذين يحلون ويحرمون بغير شرع الله ويشترعون لأنفسهم ثم يزعمون أنها شريعة الله: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» .. هكذا واضحة صريحة:
«لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ..
وفي ختام السياق كله- السياق الذي واجه قضية الشرع والحكم هذه المواجهة بمناسبة تبدو في ظاهرها جزئية- يجيء الإيقاع الشامل لقضية العقيدة بجملتها ولقضية الدين برمتها.. العقيدة المستكنة في القلب والضمير.
والدين الذي يترجم هذه العقيدة إلى نظام ومنهج للحياة: «قل: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين- لا شريك له- وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين. قل: أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء؟ ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم. إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم» .
إنها جملة قضايا العقيدة والدين: في الدنيا والآخرة. في المحيا والممات. في العمل والجزاء. في العبادة والسلوك.. كلها يجمعها المنهج الرباني ليعقب بها في ذلك الإيقاع الجليل الرهيب الحبيب، على قضية الحاكمية والتشريع، ممثلة في أبسط مظاهرها في الحياة اليومية ومطاعمها ومشاربها! ذلك أنها هي قضية الألوهية والربوبية في أضخم مجالاتها وأخطر مواقفها..
.. وهذا هو الإسلام. كما يعرضه مصدره الرباني الكريم..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
الآية الأولى تكملة لفقرة سابقة في السياق- في نهاية الجزء السابع- ومتعلقة بما كان يقترحه مشركو العرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الخوارق التي يريدون أن يأتي لهم بها فيصدقوه وما كان من حلفهم بالله حلفا مكررا مؤكدا أن لو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبون إنهم ليؤمنون! مما جعل بعض المسلمين أنفسهم(3/1185)
يشتهون أن لو يجيبهم الله إلى ما يطلبون! ويقترحون على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل ربه هذه الآيات التي يقترحها المقترحون! والفقرة كلها جاءت هكذا:
«وأقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها. قل: إنما الآيات عند الله. وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ ونقلب افئدتهم وأبصارهم- كما لم يؤمنوا به أول مرة- ونذرهم في طغيانهم يعمهون..
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قبلا، ما كانوا ليؤمنوا- إلا أن يشاء الله- ولكن أكثرهم يجهلون» ..
ولقد سبق الحديث عن هذه الآيات في نهاية الجزء السابع «1» . فالآن نتحدث عن الحقائق العامة التي تتناولها هذه النصوص والتي لم نتعرض لها هناك في تفسيرها:
والحقيقة الأولى: هي أن الإيمان أو الكفر. والهدى أو الضلال ... لا تتعلق بالبراهين والأدلة على الحق.
فالحق هو برهان ذاته. وله من السلطان على القلب البشري ما يجعله يقبله ويطمئن إليه ويرضخ له.. ولكنها المعوقات الأخرى هي التي تحول بين القلب والحق، وهذه المعوقات يقول الله- سبحانه- للمؤمنين بشأنها:
«وما يشعركم أنها إذا جاءت (أي الآيات والخوارق) لا يؤمنون؟ ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون» ..
فما وقع لهم في أول مرة ومنعهم من الهدى، يمكن أن يتكرر وقوعه كذلك- بعد نزول الآية- فيمنعهم من الهدى كرة أخرى..
إن موحيات الإيمان كامنة في القلب ذاته وفي الحق كذلك بذاته وليست متعلقة بعوامل خارجية..
فيجب أن تتجه المحاولة إذن إلى ذلك القلب لعلاجه من آفاته ومن معوقاته..
والحقيقة الثانية: هي أن مشيئة الله هي المرجع الأخير في أمر الهدى والضلال. فقد اقتضت هذه المشيئة أن تبتلي البشر بقدر من حرية الاختيار والتوجه في الابتداء وجعل هذا القدر موضع ابتلاء للبشر وامتحان. فمن استخدمه في الاتجاه القلبي إلى الهدى والتطلع إليه والرغبة فيه- وإن كان لا يعلم حينئذ أين هو- فقد اقتضت مشيئة الله أن يأخذه بيده ويعينه ويهديه إلى سبيله. ومن استخدمه في الرغبة عن الهدى والصدود عن دلائله وموحياته، فقد اقتضت مشيئة الله أن يضله وأن يبعده عن الطريق وأن يدعه يتخبط في الظلمات.. وإرادة الله وقدره محيطان بالبشر في كل حالة، ومرد الأمر كله إليه في النهاية.
وهذه الحقيقة يشير إليها السياق في قوله تعالى:
«وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ- كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ- وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .
وفي قوله: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» ..
كما يشير إليها في آية سابقة على هذه الفقرة في سياق السورة قوله تعالى:
«اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا. وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» ..
__________
(1) ص 1169- 1170 من هذه الطبعة المنقحة(3/1186)
كما تتكرر الإشارة إليها في الآية التالية لهذه الفقرة.
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً- وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ- فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ ... » ..
فالأمر كله مرهون بمشيئة الله، هو الذي شاء ألا يهديهم لأنهم لم يأخذوا بأسلوب الهدى، وهو الذي شاء أن يدع لهم هذا القدر من الاختيار على سبيل الابتلاء وهو الذي يهديهم إذا جاهدوا للهدى وهو الذي يضلهم إذا اختاروا الضلال.. بلا تعارض- في التصور الإسلامي- بين طلاقة المشيئة الإلهية وهذا المجال الذي ترك للبشر لابتلائهم فيه بهذا القدر من الاختيار «1» .
والحقيقة الثالثة: هي أن الطائعين والعصاة في قبضة الله سواء، وتحت قهره وسلطانه سواء. فهم لا يملكون جميعاً أن يحدثوا شيئاً إلا بقدر الله وفق مشيئته التي جرت بتلك السنن في تصريف أمر العباد.. ولكن المؤمنين يطابقون- في القدر المتروك لهم للاختيار- بين الخضوع القهري المفروض عليهم لسلطان الله في ذوات أنفسهم وفي حركة خلاياهم وفي طبائع تكوينهم العضوي النفسي وبين الخضوع الاختياري الذي يلتزمونه بأنفسهم بناء على المعرفة والهدى والاختيار. وبذلك يعيشون في سلام مع أنفسهم ذاتها، لأن الجانب القهري فيها والجانب الاختياري يتبعان ناموسا واحدا وسلطانا واحدا وحكومة واحدة! فأما الآخرون فهم مقهورون على اتباع ناموس الله الفطري الذي يقهرهم ولا يملكون أن يخرجوا منه في تكوينهم الجسمي وحاجاتهم الفطرية، بينما في الجانب الذي ترك لهم الاختيار فيه هم ناشزون على سلطان الله الممثل في منهجه وشرعه. أشقياء بهذا الفصام في شخصيتهم! وهم بعد هذا كله في قبضة الله لا يعجزونه في شيء، ولا يحدثون شيئاً إلا بقدره! وهذه الحقيقة الثالثة ذات أهمية خاصة في القضايا التي يعرضها الشطر الباقي من السورة. فهي تتكرر في مواضع متعددة في صور متنوعة، ذلك أن هذا الشطر كله- كما بينا من قبل- يواجه قضية الألوهية وسلطانها في حياة البشر وشريعتهم التي يعيشون بها.. ومن ثم يتكئ السياق على تقرير أن السلطان كله لله. حتى في كيان العصاة الناشزين عن منهج الله وشرعه، وأنهم لا يؤذون أولياء الله إلا بما شاء الله. فهم أعجز من أن يكون لهم في ذواتهم سلطان، فكيف يكون لهم على المؤمنين سلطان! إنما هي مشيئة الله يكون بها ما يشاء في الطائعين والعصاة سواء.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» ..
(يقول- تعالى ذكره- لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- يا محمد آيس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين لك: «لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك» فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانا وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حجة لك، ودلالة على نبوتك، وأخبروهم أنك محق فيما تقول، وأن ما جئتهم به حق من عند الله وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهم لك قبلا «2» . ما آمنوا ولا صدقوك ولا اتبعوك- إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم- «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» .. يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون
__________
(1) يراجع فصل: «التوازن» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الأول. «دار الشروق»
(2) يعنى مواجهة.(3/1187)
أن ذلك كذلك. يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفر بأيديهم، متى شاءوا آمنوا، ومتى شاءوا كفروا.
وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي. لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته) .
وهذا الأصل الذي يقرره ابن جرير هنا هو الصحيح. ولكنه يحتاج إلى زيادة الإيضاح- التي أسلفناها- باستلهام مجموعة النصوص القرآنية عن الهدى والضلالة ومشيئة الله وجهد الإنسان.. إن الإيمان حدثٌ والضلال حدث. وما يقع في هذا الوجود حدث إلا بقدر من الله ينشئه:
«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» . فأما السنة التي يجري على أساسها ذلك القدر بوقوع إيمان فلان وضلال فلان، فهي التي تبينها مجموعة النصوص. وهي أن الإنسان مبتلى بقدر من الاختيار في الاتجاه. فإذا اتجه إلى الهدى وجاهد فيه هداه الله ووقع هداه وتحقق بقدر من الله. وإذا اتجه إلى الضلال وكره الهدى أضله الله. ووقع ضلاله وتحقق بقدر من الله.. وهو على الحالين في قبضة الله وسلطانه. وحياته تجري بقدر الله وفق مشيئته الطليقة، وسنته التي وضعتها مشيئته الطليقة.
بعد ذلك تجيء آيتان في سياق السورة هما من ناحية تكملة للمعاني والحقائق التي تستهدفها الفقرة السابقة التي انتهينا من الحديث عنها. ومن ناحية هما تمهيد للقضايا العقيدية المتعلقة بالسلطان والشريعة والحاكمية.
وهي القضايا التي تستغرق ما تبقى من السورة..
الآيتان:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً- وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ- فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَلِيَرْضَوْهُ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» .
.. كذلك.. كالذي قدرناه من أن أولئك المشركين الذين يعلقون إيمانهم بمجيء الخوارق، ويعرضون عن دلائل الهدى وموحياته في الكون والنفس، لا يقع منهم الإيمان ولو جاءتهم كل آية..
كذلك الذي قدرناه في شأن هؤلاء، قدرنا أن يكون لكل نبي عدوهم شياطين الإنس والجن. وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى. وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ومن الضلال والفساد في الأرض..
كل ذلك إنما جرى بقدر الله وفق مشيئته. ولو شاء ربك ما فعلوه. ولمضت مشيئته بغير هذا كله ولجرى قدره بغير هذا الذي كان. فليس شيء من هذا كله بالمصادفة. وليس شيء من هذا كله بسلطان من البشر كذلك أو قدرة! فإذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وبين شياطين الإنس والجن وباطلهم وزخرفهم وغرورهم.. إذا تقرر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتجه إذن إلى تدبر حمكة الله من وراء ما يجري في الأرض بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه..
«وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا، شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً» ..(3/1188)
بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوا.. هذا العدو هو شياطين الإنس والجن.. والشيطنة وهي التمرد والغواية والتمحض للشر صفة تلحق الإنس كما تلحق الجن. وكما أن الذي يتمرد من الجن ويتمحض للشر والغواية يسمى شيطاناً فكذلك الذي يتمرد من الإنس ويتمحض للشر والغواية.. وقد يوصف بهذه الصفة الحيوان أيضا إذا شرس وتمرد واستشرى أذاه! وقد ورد: «الكلب الأسود شيطان» .
هؤلاء الشياطين- من الإنس والجن- الذين قدر الله أن يكونوا عدوا لكل نبي، يخدع بعضهم بعضا بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض- ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر- ويغر بعضهم بعضا، ويحرض بعضهم بعضاً على التمرد والغواية والشر والمعصية..
وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبي، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به، معروفة يملك أن يراها الناس في كل زمان.
فأما شياطين الجن- والجن كله- فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء.. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي قررها. فأما أولئك الذين يتترسون «بالعلم» لينكروا ما يقرره الله في هذا الشأن، فلا ندري علام يرتكنون؟ إن علمهم البشري لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء، في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا «يعلم» ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن «يفترضه» أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أولا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم.. وهذا لا يمكن أن ينفي- حتى لو تأكدت الفروض- أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون لا يعلم هذا «العلم» عنها شيئاً! فمن التحكم والتبجح أن ينفي أحد باسم «العلم» وجود هذه العوالم الحية الأخرى.
وأما من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن والذي يتشيطن بعضه ويتمحض للشر والغواية- كإبليس وذريته- كما يتشيطن بعض الإنس.. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمى بالجن، نحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله- سبحانه- وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار. وأنه مزود بالقدرة على الحياة في الأرض وفي باطن الأرض وفي خارج الأرض أيضاً. وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر. وأن منه الصالحين المؤمنين، ومنه الشياطين المتمردين. وأنه يرى بني آدم وبنو آدم لا يرونه- في هيئته الأصلية- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلطون على بني الإنسان يغوونهم ويضلونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم والإيحاء بطريقة لا نعلمها. وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين.
وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر من كيد الشيطان الضعيف. وأن عالم الجن يحشر مع عالم الإنس ويحاسب ويجازى بالجنة وبالنار كالجنس الإنساني. وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة! وفي هذه الآية نعرف أن الله سبحانه قد جعل لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن..
ولقد كان الله- سبحانه- قادراً- لو شاء- ألا يفعلوا شيئاً من هذا.. ألا يتمردوا وألا يتمحضوا للشر وألا يعادوا الأنبياء وألا يؤذوا المؤمنين وألا يضلوا الناس عن سبيل الله.. كان الله سبحانه قادرا أن يقهرهم(3/1189)
قهراً على الهدى أو أن يهديهم لو توجهوا للهدى أو أن يعجزهم عن التصدي للأنبياء والحق والمؤمنين به..
ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار. وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله- بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إياه. فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدره الله:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» ..
فما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟
يخلص لنا ابتداء: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبي ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء.. هم «شياطين» !.
شياطين من الإنس ومن الجن.. وأنهم يؤدون جميعاً- شياطين الإنس والجن- وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضله كذلك مع قيامهم جميعاً بوظيفة التمرد والغواية وعداء أولياء الله..
ويخلص لنا ثانياً: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتية فيهم. إنما هم في قبضة الله. وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده. من تمحيص هؤلاء الأولياء، وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء. فإذا اجتازوا الامتحان بقوة كف الله عنهم الابتلاء. وكف عنهم هؤلاء الأعداء. وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدر الله. وآب أعداء الله بالضعف والخذلان وبأوزارهم كاملة يحملونها على ظهورهم:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» ..
ويخلص لنا ثالثا: أن حكمة الله الخالصة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا- فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترة من الزمان- فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضراء سواء.
وفي المنشط والمكره سواء؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان! ويخلص لنا رابعا: هو ان الشياطين من الإنس والجن، وهو ان كيدهم وأذاهم. فما يستطيلون بقوة ذاتية لهم وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم.. والمؤمن الذي يعلم أن ربه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانهم المدَّعى. ومن هنا هذا التوجيه العلوي لرسول الله الكريم:
«فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ..
دعهم وافتراءهم. فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدخر لهم جزاءهم..
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين.. لقد قدر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء، وأن يكون هذا الغرور بالقول والخداع.. لحكمة أخرى:
«وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَلِيَرْضَوْهُ، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة.. فهؤلاء يحصرون همهم كله في الدنيا. وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون بالمرصاد لكل نبي، وينالون بالأذى أتباع كل نبي، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل.
فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع. ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشر والمعصية والفساد. في ظل ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء..(3/1190)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
وهذا أمر أراده الله كذلك وجرى به قدره. لما وراءه من التمحيص والتجربة. ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته ليعمل لما هو ميسر له ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس.
ثم لتصلح الحياة بالدفع ويتميز الحق بالمفاصلة ويتمحض الخير بالصبر ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة.. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله.. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء.. إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء..
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة.. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة.. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه.. خطة مقررة فيها وسائلها.. «يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً» .. يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضا! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه والمضي في المعركة معه طويلاً! ولكن هذا الكيد كله ليس طليقا.. إنه محاط به بمشيئة الله وقدره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد- على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه- مقيداً مغلولاً! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط. ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع- كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم.. كلا! إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله. وقدرتهم محدودة بقَدر الله. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله- في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله.
ومشهد التجمع على خطة مقررة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها.. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطة الشياطين وتدبيرهم جدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من التعلق بما يريده أولا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم. أما عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة والقدر النافذ.
«وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 127]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)(3/1191)
الآن نجيء إلى القضية التي تعالجها بقية السورة والتي كان التمهيد لها مطرداً في سياق السورة كله وآخر هذا التمهيد ما ساقه من قضايا العقيدة الكبيرة ومن واقع المعركة العقيدية الطويلة في الآيتين السابقتين. ومن تقرير سلطان الله المطلق فيما يقع من المعركة بين شياطين الإنس والجن وكل نبي. ومن قواعد الهدى والضلال وسنة الله التي يجري وفقها الضلال والهدى ... إلى آخر ما استعرضناه في الصفحات السابقة.
الآن نجيء إلى القضية التي جعلت هذه المقدمات كلها قاعدة لها.. قضية الحل والحرمة فيما ذكر اسم الله(3/1192)
عليه وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح.. وهي تأخذ أهميتها من ناحية تقرير المبدأ الإسلامي الأول: مبدأ حق الحاكمية المطلقة لله وحده وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور.. وحين تكون القضية هي قضية هذا المبدأ فإن الصغيرة تكون كالكبيرة في تحقيق هذا المبدأ أو نقضه.. ولا يهم أن يكون الأمر أمر ذبيحة يؤكل منها أولا يؤكل أو أن يكون أمر دولة تقام أو نظام مجتمع يوضع. فهذه كتلك من ناحية المبدأ. وهذه كتلك تعني الاعتراف بألوهية الله وحده أو تعني رفض هذه الألوهية.
والمنهج القرآني يتكئ كثيرا جدا على هذا المبدأ لتقريره في كل مناسبة. ولا يمل تكراره حيثما جاءت مناسبته أمام كل تشريع للصغير وللكبير من الأمور.. ذلك أن هذا المبدأ هو العقيدة، وهو الدين، وهو الإسلام وليس وراءه من هذا الدين كله إلا التطبيقات والتفريعات.
وسنجد في هذا المقطع من السورة- كما سنجد في بقيتها إلى ختامها- أن تقرير هذا المبدأ يكرر في صور شتى بمناسبة عرض شرائع الجاهلية وتقاليدها ويتضح ارتباط هذه الشرائع والتقاليد بالشرك والاستكبار عن الإسلام وانبثاقها من نقطة إقامة ألوهية أخرى غير ألوهية الله، ومن ثم يسلط عليها القرآن هذه الحملات العنيفة، المنوعة الأساليب، ويربطها هذا الربط بأصل الاعتقاد وأصل الإيمان والإسلام.
إن السياق يبدأ بتقرير جهة الحاكمية في أمر العباد كله- تمهيدا لتقرير جهة الحاكمية في التحليل والتحريم في الذبائح، الأمر الذي يزاول فيه المشركون حق الحاكمية افتراء على الله واعتداء على سلطانه- ويمهد لهذا الأمر تمهيداً طويلا كما نلحظ من سياق الآيات في هذا الموضع:
«أفغير الله أبتغي حكما، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين» .
هذا التمهيد كله يجيء قبل أن يدخل في الموضوع الواقع الحاضر الذي يمهد له هذا التمهيد، ثم يربطه ربطاً مباشرا بقضية الإيمان أو الكفر:
«فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ.. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ- إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» .
وقبل أن ينتهي من عرض قضية التحليل والتحريم- بعد ذلك التمهيد كله- يفصل بين فقرتين بتوجيهات وتعقيبات أخرى، تحوي مؤثرات قوية من الأمر والنهي والبيان والوعيد:
«وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» ..
ثم يستأنف الحديث في قضية التحليل والتحريم فيربطها مباشرة بقضية الإسلام والشرك:
«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ- وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ.. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» ..
ثم يمضي بعد ذلك شوطاً آخر في الحديث عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان.. شوطاً كأنه تعقيب على أمر التحليل والتحريم.(3/1193)
ومن هذا التتابع، وهذا الربط، وهذا التوكيد، تتمثل طبيعة نظرة الإسلام لقضية التشريع والحاكمية، في شؤون الحياة اليومية..
«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا، وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ..
إنه سؤال على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للاستنكار. استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الإطلاق. وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه.
ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالبا حكمه في أمر الحياة كله:
«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً؟» ..
ثم.. تفصيل لهذا الإنكار، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً.. إن الله لم يترك شيئاً غامضاً ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة:
«وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا» ..
لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته. ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلا، محتويا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة. كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة.. وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة.. هذا ما يقرره الله- سبحانه- عن كتابه. فمن شاء أن يقول: إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل.. ولكن ليقل معه.. إنه- والعياذ بالله- كافر بهذا الدين، مكذب بقول رب العالمين! ثم إن هناك مِن حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكما في شأن من الشؤون أمراً مستنكرا غريبا..
إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب:
«وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» ..
ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة، يخاطب الله بها المشركين.. سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا- كما وقع من بعضهم مّمن شرح الله صدره للإسلام- أو كتموها وجحدوها- كما وقع من بعضهم- فالأمر في الحالين واحد وهو إخبار الله سبحانه- وخبره هو الصدق- أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق.. فالحق محتواه كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله..
وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق. وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به، ومن هذا الحق الذي يحتويه. وما يزالون- من أجل علمهم بهذا كله- يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب، حرباً لا تهدأ.. وأشد هذه الحرب وأنكاها، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر. وجعل غير الله حكما، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة، ولا يصبح لدين الله وجود. وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى، تستمد منها أوضاع المجتمع، وأصول التشريعات، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها(3/1194)
كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته! وأهل الكتاب- من صليبيين وصهيونيين- من وراء هذا كله ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة! وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصلا وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، يلتفت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من المؤمنين به يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب:
«فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ..
وما شك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا امترى. ولقد ورد أنه- صلى الله عليه وسلم- عند ما نزل الله عليه: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» .. قال: «لا أشك، ولا أسأل» .
ولكن هذا التوجيه وأمثاله وهذا التثبيت على الحق ونظائره تدل على ضخامة ما كان يلقاه- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود ورحمة الله- سبحانه- به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت..
ويمضي السياق في هذا الاتجاه يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق، بالغاً ما بلغ كيدهم:
«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
لقد تمت كلمة الله- سبحانه- صدقا- فيما قال وقرر- وعدلا- فيما شرع وحكم- فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان. ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم، أو عادة أو تقليد.. ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه..
«وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
الذي يسمع ما يقوله عباده، ويعلم ما وراءه، كما يعلم ما يصلح لهم، وما يصلحهم.
وإلى جانب تقرير أن «الحق» هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله الله، يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه واتباعه لا ينتهي إلا إلى الضلال. وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن ويحذر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم مهما بلغت كثرتهم فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون:
«وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» ..
ولقد كان أكثر من في الأرض- كما هو الحال اليوم بالضبط- من أهل الجاهلية.. لم يكونوا يجعلون الله هو الحكم في أمرهم كله، ولم يكونوا يجعلون شريعة الله التي في كتابه هي قانونهم كله. ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى الله وتوجيهه.. ومن ثم كانوا- كما هو الحال اليوم- في ضلالة الجاهلية لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال.. كانوا- كما هم اليوم- يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس.. والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال.. وكذلك حذر الله رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل الله.. هكذا على وجه الإجمال. وإن كانت المناسبة الحاضرة حينذاك كانت هي مناسبة(3/1195)
تحريم بعض الذبائح وتحليل بعضها كما سيجيء في السياق..
ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو الله وحده. لأن الله وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال:
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» ..
فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم. لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله- كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن.. ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء.
والله- سبحانه- يقرر هنا أنه هو- وحده- صاحب الحق في وضع هذا الميزان. وصاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال.
إنه ليس «المجتمع» هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة.. ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية، فتتغير قيمه وأحكامه.. حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي. وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البر جوازي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي.. ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات! الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره.. الإسلام يعين قيماً ذاتية له يقررها الله- سبحانه- وهذه القيم تثبت مع تغير «أشكال» المجتمعات.. والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي.. إنه مجتمع غير إسلامي.. مجتمع جاهلي.. مجتمع مشرك بالله، لأنه يدع لغير الله- من البشر- أن يصطلح على غير ما قرره الله من القيم والموازين والتصورات والأخلاق، والأنظمة والأوضاع.. وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق.. إسلامي وغير إسلامي.. إسلامي وجاهلي.. بغض النظر عن الصور والأشكال!! بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل:
«فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ.. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ- إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ- وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ- وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» ..
وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها.
إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه. والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه. ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله:
«فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» ..(3/1196)
ثم يسألهم: وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وقد جعله الله لهم حلالا؟ وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطراراً؟ فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته وفي الأكل منه أو تركه؟
«وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ؟» ..
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة، حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها الله ويحلون ذبائح حرمها الله- ويزعمون أن هذا هو شرع الله! - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على الله، فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع، ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم، ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد:
«وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» ..
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله- ظاهره وخافيه- ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم وحملهم على شرائع ليست من عند الله، وافتراء أنها شريعة الله! ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه:
«وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» ..
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، يزعمون أن الله ذبحها! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح الله؟! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات! وهذا ما كانت الشياطين- من الإنس والجن- توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات:
«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ- وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ.. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ..» ..
وأمام هذا التقرير الأخير نقف، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين..
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية.. أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله، إلى الشرك بالله.
وفي هذا يقول ابن كثير:
«وقوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) .. أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه، إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره.. فهذا هو الشرك.. كقوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» ..
الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: «بلى! إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... »
الآية قوله: (استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا(3/1197)
إِلهاً واحِداً»
أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام. وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ) ..
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير.. وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح- مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك- أن من أطاع بشراً في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضاً.. مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه. بينما هو يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله.
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم- في ضوء هذه التقريرات الحاسمة- فإننا نرى الجاهلية والشرك- ولا شيء غير الجاهلية والشرك- إلا من عصم الله، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ولم يقبل منها شرعا ولا حكما ... إلا في حدود الإكراه..
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ..» فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال:
«استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً» ..
«وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
«فمنهم من قال: لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة. وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا. وهو مروي عن ابن عمر، ونافع مولاه، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين. وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين. وهو اختيار أبي ثور، وداود الظاهري.
واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» .. ثم قد أكد ذلك بقوله: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» والضمير قيل: عائد على الأكل، وقيل: عائد على الذبح لغير الله. وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» . وهما في الصحيحين. وحديث رافع بن خديج: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه» . وهو في الصحيحين أيضاً ...
«والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر.
وهذا مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله، وجميع أصحابه. ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل. وهو رواية عن الإمام مالك، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه. وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح. والله أعلم. وحمل الشافعي الآية الكريمة: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى: «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» . وقال ابن جريج عن عطاء:
«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» .. قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن ذبائح المجوس.. وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي ...
«وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، أنبأنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» قال: هي الميتة. وقد استدل لهذا المذهب بما رواه(3/1198)
أبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسيّ مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أولم يذكر. إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» .. وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: «إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل. فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله» .
«المذهب الثالث: إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر، وإن تركها عمدا لم تحل.. هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه. وإسحاق بن راهويه. وهو محكي عن علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ... »
«قال ابن جرير: وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم:
لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عينت به. وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم. وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا: قال الله: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» وقال: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» وقال ابن أبي حاتم: قرأ عليَّ العباس بن الوليد بن يزيد، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان- يعني ابن المنذر- عن مكحول قال: أنزل الله في القرآن: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» . ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ» فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب. ثم قال ابن جرير: والصواب: أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.. وهذا الذي قاله صحيح. ومن أطلق من السلف النسخ هنا، فإنما أراد التخصيص، والله سبحانه وتعالى أعلم» ... انتهى.
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان. وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها. وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر. ويمنعهم من الإسلام.
ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجا مكروب الأنفاس! .. فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير:
«أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟
كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته. سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيرا حقيقيا واقعيا عن حقيقة واقعية كذلك.(3/1199)
إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ولكن العبارة في ذاتها حقيقية.
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الإيقاعات التصويرية. فهي حقيقة، نعم.
ولكنها حقيقة روحية وفكرية. حقيقة تذاق بالتجربة. ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا! إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نّوره الإيمان.
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ. يعرفها فقط من ذاقها.. والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة. لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها.
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب. فهو موت..
وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله.. فهو موت.. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية.. فهو موت..
والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة.. فهو حياة..
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع.. فهو ظلمة.. وختم على الجوارح والمشاعر.. فهو ظلمة..
وتيه في التيه وضلال.. فهو ظلمة..
وإن الإيمان تفتح ورؤية، وإدراك واستقامة.. فهو نور بكل مقومات النور..
إن الكفر انكماش وتحجر.. فهو ضيق.. وشرود عن الطريق الفطري الميسر.. فهو عسر.. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن.. فهو قلق..
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود..
وما الكافر؟ إن هو إلا نبته ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور.. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود. لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة. حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود! إن الصلة بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد. ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة.. ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان. الموصولة على مدار الزمان.. فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الروابط. وفي ثراء من «الوجود» الزاخر الممتد اللاحب، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود.
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ومنهجه في العمل والحركة، تكشفا عجيبا.. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور.. مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه. ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته. إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات.. إنما يبدو «تصميما» واحدا متداخلا متراكبا متناسقا..
متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود!(3/1200)
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس.. تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر.. مشهد السُّنَّة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر.. ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة.. ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً.
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث.. يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركِته. ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين! وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين. قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف.. كانت قلوبهم مواتا. وكانت أرواحهم ظلاما.. ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد. الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟
إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض؟
«كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
هذا هو السر.. إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور. فإذا اختار الظلمة زينت له ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويزينون للكافرين ما يعملون.. والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور، يسمع في الظلمة للوسوسة ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق! .. وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون..
وبنفس الطريقة، ولنفس الأسباب، وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها.. ليتم الابتلاء وينفذ القدر وتتحقق الحكمة ويمضي كل فيما هو ميسر له، وينال كل جزاءه في نهاية المطاف:
«وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ» .(3/1201)
إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية- وهي المدينة الكبيرة والعاصمة- نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله. ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس، ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب، ويرد هذا كله إلى الله وحده.. بِرَبِّ النَّاسِ.. مَلِكِ النَّاسِ.. إِلهِ النَّاسِ..
إنها سنة من أصل الفطرة.. أن يرسل الله رسله بالحق.. بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية. فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله. ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي..
إنها سنة جارية. ومعركة محتومة. لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله- وهي رد الحاكمية كلها لله- وبين أطماع المجرمين في القرى. بل بين وجودهم أصلا..
معركة لا مفر للنبي أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتقيها، ولا مفر للمؤمنين بالنبي أن يخوضوها وأن يمضوا إلى النهاية فيها.. والله سبحانه يطمئن أولياءه.. إن كيد أكابر المجرمين- مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليهم فيها، وهو حسبهم، وهو يرد على الكائدين كيدهم:
«وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ» .
فليطمئن المؤمنون! ثم يكشف السياق القرآني عن طبيعة الكبر في نفوس أعداء رسل الله ودينه.. الكبر الذي يمنعهم من الإسلام خيفة أن يرجعوا عباداً لله كسائر العباد، فهم يطلبون امتيازاً ذاتيا يحفظ لهم خصوصيتهم بين الأتباع. ويكبر عليهم أن يؤمنوا للنبي فيسلموا له، وقد تعودوا أن يكونوا في مقام الربوبية للأتباع، وأن يشرعوا لهم فيقبلوا منهم التشريع، وأن يأمروهم فيجدوا منهم الطاعة والخضوع.. من أجل ذلك يقولون قولتهم المنكرة الغبية كذلك: لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله:
«وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» .
وقد قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك مالا! وقال أبو جهل: والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه! وواضح أن الكبر النفسي، وما اعتاده الأكابر من الخصوصية بين الأتباع، ومظهر هذه الخصوصية الأول هو الأمر منهم والطاعة والاتباع من الأتباع! .. واضح أن هذا من أسباب تزيين الكفر في نفوسهم، ووقوفهم من الرسل والدين موقف العداء.
ويرد الله على قولتهم المنكرة الغبية.. أولا بتقرير أن أمر اختيار الرسل للرسالة موكول إلى علمه المحيط بمن يليق بهذا الأمر الكوني الخطير.. ويرد عليهم ثانيا بالتهديد والتحقير وسوء المصير:
«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ. سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» ..
إن الرسالة أمر هائل خطير. أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأَزلية الأبديه بحركة عبد من العبيد. ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود. وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي،(3/1202)
في قلب بشر، وفي واقع ناس، وفي حركة تاريخ. وتتجرد فيها كينونة بشرية من حظ ذاتها لتخلص لله كاملة، لا خلوص النية والعمل وحده، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير. فذات الرسول- صلى الله عليه وسلم- تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة. وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود..
والله وحده- سبحانه- هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين، ويقال لصاحبها: أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير.
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول.. هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر. فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني! والرسل من طبيعة أخرى، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلما، ويهب لها نفسه، وينسى فيها ذاته، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب: «وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» .. ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح..
لذلك يجبههم الرد الحاسم:
«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» ..
وقد جعلها سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين.
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله، وبالعذاب الشديد المهين:
«سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» ..
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع، والاستكبار عن الحق، والتطاول إلى مقام رسل الله! ..
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد، والعداء للرسل، والأذى للمؤمنين.
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس:
«فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.. كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
من يقدر الله له الهداية- وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء- «يشرح صدره للإسلام» فيتسع له ويستقبله في يسر ورغبة، ويتفاعل معه، ويطمئن إليه ويستروح به ويستريح له.
ومن يقدر له الضلال- وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه- «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» .. فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله، «كأنما يصعد في السماء» .. وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية، من ضيق النفس، وكربة الصدر، والرهق المضني في التصعد إلى السماء! وبناء اللفظ ذاته «يصعد» - كما هو في قراءة حفص- فيه هذا العسر والقبض والجهد.
وجرسه يخيل هذا كله، فيتناسق المشهد الشاخص، مع الحالة الواقعة، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد «1» .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب:
__________
(1) يراجع فصل «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» . [.....](3/1203)
«كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
.. كذلك.. بمثل هذا الذي يجري به قدر الله من شرح صدر الذي يريد الله به الهدى، ومن العسر والجهد والمشقة لمن يريد به الضلال.. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
ومن معاني الرجس: العذاب. ومن معانية كذلك: الارتكاس- وكلاهما يلون هذا العذاب بمشهد الذي يرتكس في العذاب ويعود إليه ولا يفارقه! وهو الظل المقصود! على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله- سبحانه- واتجاهات البشر وما يصيبهم من الهدى والضلال، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب.. إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة- أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة- وكل القضايا والتعبيرات عنها، موسومة بطابع المنطق الذهني.
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني. وكذلك يقتضي التعامل مع «الواقع الفعلي» لا مع «القضايا الذهنية» . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين مشيئة الله وقدره وبين إرادة الإنسان وعمله. في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله.
فإذا قيل: إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال.. لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية. وإذا قيل: إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله.. لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة- وغيبية كذلك- بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي. بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم..
ولكن تصور الحقيقة «الفعلية» كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني. وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها.. إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها..
وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية.
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية.. إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحا له.. هو من صنع الله قطعاً.. فالانشراح حدثٌ لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه. والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسرا.. هو من صنع الله قطعا.. لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك.. وكلاهما من إرادة الله بالعبد.. ولكنها ليست إرادة القهر. إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة. وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال.(3/1204)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية. وحين يتم التعامل مع هذه القضايا، بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة والتجربة الواقعية في التعامل معها، فإنه لا يمكن أبداً أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة.. وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي.. وفي غيره كذلك! إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة..
ثم نعود إلى السياق القرآني:
إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها فترتبط هذه بتلك، حزمة واحدة في السياق، وحزمة واحدة في الشعور، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين. فقضية الذبائح هي قضية التشريع. وقضية التشريع هي قضية الحاكمية. وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان.. ومن هنا يكون الحديث عن الإيمان على هذا النحو في موضعه المطلوب.
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير.. فهذه وتلك صراط الله المستقيم.
والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم. والاستقامة عليهما معاً.. العقيدة والشريعة..
هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام، وولاية الله لعباده الذاكرين:
«وهذا صراط ربك مستقيما. قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون» ..
هذا هو الصراط.. صراط ربك.. بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة المبشرة بالنهاية.. هذه هي سنته في الهدى والضلال وتلك هي شريعته في الحل والحرمة. كلاهما سواء في ميزان الله، وكلاهما لحمة في سياق قرآنه.
وقد فصل الله آياته وبينها. ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل. فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل. وقلب منشرح مبسوط مفتوح. وقلب حي يستقبل ويستجيب.
والذين يتذكرون، لهم دار السلام عند ربهم.. دار الطمأنينة والأمان.. مضمونة عند ربهم لا تضيع.. وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم.. ذلك بما كانوا يعملون.. فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء.
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة. حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة. ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة.. إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 135]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)(3/1205)
هذا المقطع بجملته ليس منفصلا عن الدرس السابق. إنما هو امتداد له. من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها.. فهو من ناحية استطرداد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن- بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله- وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع. وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا- بعد النذارة والبشارة- وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم، وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله. وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح- قبلها- ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعاً وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين. وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء. لا فرق بينها في ميزان الله، كما يقيمه في كتابه الكريم.
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام فتبقى قلوبهم ذاكرة لا تغفل وأنهم ماضون إلى دار السلام، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته.. فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد- على طريقة القرآن الغالبة في عرض «مشاهد القيامة» «1» - يعرض شياطين الإنس والجن، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالا ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام.. يعرضهم في مشهد شاخص حي، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن.
«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ! وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا! قالَ: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ- إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
__________
(1) يراجع كتاب: «مشاهد القيامة في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1206)
عَلِيمٌ.. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا! وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل، يوم يحشرهم جميعا.. ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة.
وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة. فتقدير الكلام، «ويوم يحشرهم جميعا» - فيقول-امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... »
ولكن حذف كلمة- يقول- ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ويحيل السياق من مستقبل ينتظر، إلى واقع ينظر! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب «1» ...
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ!» ..
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس، المستمعين لإيحائكم، المطيعين لوسوستكم، المتبعين لخطواتكم..
وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس! إنما يقصد به تسجيل الجريمة- جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء.. ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون:
«وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا!» ..
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع.. لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار، ومن المكابرة والاستهتار، ومن الإثم ظاهره وباطنه! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال.. كانت تستهويهم وتعبث بهم وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون! ومن ثم يقولون:
«رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ!» ..
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة، حتى حان الأجل، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع:
«وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» ! عند ذلك يجيء الحكم الفاصل، بالجزاء العادل:
«قالَ: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ-» فالنار مثابة ومأوى. والمثوى للإقامة. وهي إقامة الدوام.. «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي. فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور. والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد. ولا في مقرراتها هي.
«إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» .
__________
(1) يراجع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» فصل: «التصوير الفني» وفصل: «طريقة القرآن» . «دار الشروق» .(3/1207)
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم ينفرد بهما الحكيم العليم..
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد، يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي:
«وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير.. بمثل ذلك، وعلى قاعدته، نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. نجعل بعضهم أولياء بعض بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف، وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير..
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة، إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة. فإن الظالمين- وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور- يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به. إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة- مهما اختلفت الأشكال- هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله..
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا- على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح- إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله.. فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء.. وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض! وإننا لنشهد في هذه الفترة- ومنذ قرون كثيرة- تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبيين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين- على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها- ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها.
وهو تجمع رهيب فعلا، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام، مع القوى المادية والثقافية، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة.. وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم: «ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون» .. ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين، وعلى المؤمنين..
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير:
امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»
..
وهو سؤال للتقرير والتسجيل. فالله- سبحانه- يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا. والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة..
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس.. فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر. ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون(3/1208)
ما أنزل على الرسل، وينطلقون إلى قومهم منذرين به. كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا. فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ. يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة.. والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه! وعلى أية حال فقد أدرك المسئولون من الجن والإنس، أن السؤال ليس على وجهه. إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل كما أنه للتأنيب والتوبيخ فأخذوا في الاعتراف الكامل وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه:
الُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا»
:
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول:
َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا. فقد غرتهم هذه الحياة وقادهم الغرور إلى الكفر. ثم هاهم أولاء يشهدون على أنفسهم به حيث لا تجدي المكابرة والإنكار.. فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه، ولا بكلمة الإنكار! ولا بكلمة الدفاع! ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً! إن هذا القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة وفي هذه الأرض المعهودة. ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد! َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ- كانُوا- كافِرِينَ»
..
وذلك من عجائب التخييل! وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن وراءه من المؤمنين وإلى الناس أجمعين ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم، تقص عليهم آيات الله، وتنذرهم لقاء يومهم هذا.. ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه، بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم (أي بشركهم) إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم وتقص عليهم الآيات، وينذرهم المنذرون:
«ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى - بِظُلْمٍ- وَأَهْلُها غافِلُونَ» ..
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها- فقد تضل هذه الفطر- وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك-(3/1209)
فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات- وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات- فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري.
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام، واستنقاذ العقل من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس. وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار.
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل وتقرر أنها- وحدها- لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات..
ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين «1» ..
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء.. للمؤمنين وللشياطين سواء:
«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» ..
فللمؤمنين درجات: درجة فوق درجة. وللشياطين درجات: درجة تحت درجة! وفق الأعمال. والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء:
«وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» .
على أن الله- سبحانه- إنما يرسل رسله رحمة بالعباد فهو غني عنهم وعن إيمانهم به وعبادتهم له.
وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة. كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك، وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلا آخر يستخلفه:
«وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ. كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» .
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه. فليس هو سلطاناً أصيلا ولا وجودا مختارا. فما لأحد في نشأته ووجوده من يد وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة. وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله. كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غير. واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله.
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون، ويحرمون ويحللون، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون.. وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء، ويذهب بهم أنى شاء، ويستخلف من بعدهم ما يشاء.. كما أنها إيقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم ومن أذى المجرمين وعدائهم.. فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون! ثم إيقاع تهديدي آخر:
«إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره. فلستم بمفلتين أو مستعصين.. ويوم الحشر الذي شاهدتم
__________
(1) يراجع بتوسع تفسير قوله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» في الجزء السادس من الظلال:
ص 806- 812.(3/1210)
منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم وأنه لآت لا ريب فيه، ولن تفلتوا يومها، ولن تعجزوا الله القوي المتين.
وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب:
«قُلْ: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .
إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه، والحق الذي وراءه ومن القوة التي في الحق، والقوة التي وراء الحق..
التهديد من الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه نافض يديه من أمرهم، واثق مما هو عليه من الحق، واثق من منهجه وطريقه، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون:
«إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ..
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف.. إنه لا يفلح المشركون، الذين يتخذون من دون الله أولياء. وليس من دون الله ولي ولا نصير. والذين لا يتبعون هدى الله. وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين..
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح- ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه- وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد..
هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض. حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل..
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية، وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه وهو حاكمية الله.. أو بتعبير آخر ربوبية الله..
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية؟
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية «العقيدة» في الإسلام كما تلخص قضية «الدين» . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة: إن لا إله إلا الله. وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله. ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله.. والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة. فهو من ثَمَّ مزاولة لحق الألوهية، يأباه المسلم إلا الله.. والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم- العملي- كما هو الأمر في العقيدة القلبية- لألوهية واحدة هي ألوهية الله، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين! والتشريع هو مزاولة للألوهية، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية.. ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين! من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية.. والقرآن المكي- كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع «1» - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ولكنه كان يواجه قضية العقيدة
__________
(1) ص 1004- 1015.(3/1211)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
والتصور. ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية..
ولهذا دلالته العميقة الكبيرة «1» ..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 153]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
__________
(1) يراجع فصل: «ألوهية وعبودية» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .(3/1212)
هذا الشوط الطويل كله- بالإضافة إلى الشوط الذي سبقه والتعقيبات عليه- في سياق سورة مكية، من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة- إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي- حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته فصان الله هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن، وموضوعات دراسة قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه لله جملة، ويعبد الله بالطاعة لشريعته وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه، كما هي طبيعة هذا الدين، وكما هو منهجه، الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار..
نقول: هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية يتناول قضية التشريع والحاكمية. فيدل على طبيعة هذه(3/1213)
القضية- إنها قضية عقيدية.. ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين.. إنها قضيته الرئيسية «1» ..
وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا، نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته.. لنرى محتوياته على وجه الإجمال. ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك..
إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد- أي في شأن المال والاجتماع- في جاهليتهم. فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في:
1- تقسيمهم ما رزقهم الله من رزق، وأنشأ لهم من زروع وأنعام، إلى قسمين: قسم يجعلونه لله- زاعمين أن هذا مما شرعه الله- وقسم يجعلونه لشركائهم- وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون الله: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ- بِزَعْمِهِمْ- وَهذا لِشُرَكائِنا» ! 2- أنهم بعد ذلك، يجورون على النصيب الذي قسموه لله. فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائهم، ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء!: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» ! 3- أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء- وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم- ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع، بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية، وحكم التأثر بالأساطير الدينية من ناحية- وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار. كما قد يتناول الذكور في النذور، كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه الله عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة! «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ، لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» ! 4- أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من الله- هكذا يزعمون! - كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب. ويمنعون أن يذكر اسم الله على بعضها عند الذبح أو الركوب أو لا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر الله. مع الزعم بأن هذا كله قد أمر الله به: «وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ- بِزَعْمِهِمْ- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا- افْتِراءً عَلَيْهِ-!» .
5- وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم، ويجعلونه محرما على إناثهم.
إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث! مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى الله: «وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية، والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل- في سورة مكية- للقضاء عليها، وتطهير النفوس والقلوب منها، وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي.
ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة:
لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله- افتراء على الله-
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «عبودية وألوهية» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» «دار الشروق» .(3/1214)
وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى الله بغير علم.
ثم لفت أنظارهم إلى أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات.. هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات. وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام.. والذي يرزق هو وحده الذي يملك، وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال.. وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات، ومن نعمة الله عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشاً، يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره.. كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان. فكيف يتبعون خطوات الشيطان، وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين؟! بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام، وخلوها من كل منطق، وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة.. وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل:
علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق: «أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟» فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم! ويشنع بجريمة الافتراء على الله، وإضلال الناس بغير علم.
ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها..
وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع. ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم. سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله الله للمسلمين.
ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية- الممثلة في الشرك بالله وتحريم ما أحل الله وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند الله- على إرادة الله وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» .. فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل، وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس الله: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» فالشرك كالتحريم بدون شرع الله، كلاهما سمة المكذبين بآيات الله. ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها: «قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» ! ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة- تماماً كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد- مع استخدام نفس العبارات والأوصاف، بل نفس الألفاظ، للدلالة على أن القضية واحدة: قضية الشرك بالله، وقضية التشريع بغير إذن من الله: «قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ونرى من الآية إلى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ، أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم. وهم الذين كذبوا بآيات الله. وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة. فلو أنهم صدقوا بآيات الله وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى الله ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون الله. وما حرموا وحللوا بغير إذن من الله.
وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه الله حقاً.. وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية، في مقدمتها توحيد الله. وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب، فجعلها عنواناً للكل:
لقد نهى الله عن الشرك. وأمر بالإحسان للوالدين. ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق.(3/1215)
ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. وأمر بالعدل في القول- في الشهادة والحكم- ولو كان ذا قربى. وأمر بالوفاء بعهد الله كله. وجعل هذا جميعه وصية من الله كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي.
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادئ الشريعة اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق، وتمتزجان هذا الامتزاج وتعرضان جملة واحدة، وكتلة واحدة، بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه.. هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل:
«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة.. بل إن شريعته هي عقيدته.. إذ هي الترجمة الواقعية لها.. كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني..
وهذه هي الحقيقة التي زُحزح مفهوم «الدين» في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة.. حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين- ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه- أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة! ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة. إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة، قروناً طويلة، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية- موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة، إنما موضوعها هو العقيدة- وتحشد لها كل هذه المؤثرات، وكل هذه التقريرات بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية. ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير.. أصل الحاكمية.. وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي..
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك.. إن هؤلاء لا يقرأون القرآن. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين.. فليقرأوا القرآن كما أنزله الله وليأخذوا قول الله بجد: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» ..
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون، أو هذا الإجراء، أو هذا القول، منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق.. وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك.. كأن الإسلام كله قائم، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات! هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون. بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة.. إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة.. إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية. شهادة بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات. بينما الدين كله متوقف عن «الوجود» أصلا، ما دام(3/1216)
لا يتمثل في نظام وأوضاع، الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد.
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين.. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد.. وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام.
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي- فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين! .. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإٍسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون.. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده لا يدعيها لنفسه مسلم ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم.. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، بسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة.. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين! وحسبنا هذا القدر لنواجه النصوص بالتفصيل.
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ- بِزَعْمِهِمْ- وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» ..
يقرر السياق- وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام- أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء.. ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم. إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا (وطبيعى أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير!) . ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله. على النحو الذي تقرره الآية! عن ابن عباس قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما، جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتهم. وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقروه ولم يردوه. فذلك قوله: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
وعن مجاهد قال: يسمون لله جزءا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءا. فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه. وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه. وقالوا: «الله عن هذا غني» ! والأنعام: السائبة والبحيرة التي سموا.
وعن قتادة قال: عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه. فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السنة (يعني الجدب) استعانوا بما جزأوا لله، وأقروا ما جزأوا لشركائهم. قال الله، «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .(3/1217)
وعن السدي قال: كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله. ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك.. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها، وما خرج لله تصدقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله، قالوا: «ليس بد لآلهتنا من نفقة» ! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم، قالوا: «لو شاء أزكى الذي له» ! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة. قال الله.. لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني! فذلك حين يقول: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
وعن ابن جرير: وأما قوله: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جل ثناؤه: وقد أساءوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك- تعالى ذكره- الخبر عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه! هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع. وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم. فأما مصلحة شياطين الإنس- من الكهنة والسدنة والرؤساء- فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة! .. وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم، ويفسدوا عليهم دينهم، ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى: للإغريق والفرس والرومان، والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا ... هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله.
وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة. تلتقي في الأصل والقاعدة. فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله. ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف..
فإن هي إلا أشكال.. «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» .
يقول: وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم.. وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق- أو خشية السبي والعار- ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده، إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه! وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية. العرف الذي وضعه الناس للناس. والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن.. من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس، ومن القرناء الموسوسين من الجن، بالتعاون والموالاة فيما بينهم! والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين:
«لِيُرْدُوهُمْ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» .(3/1218)
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبسا غامضا لا يقفون منه على تصور واضح.. فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا، وفق أهوائهم ومصالحهم! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع. لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة- وما هي منها- بكل ثقلها وعمقها، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها، وتنشئ ثقلا ساحقا لا تقف له جماهير الناس. ما لم تعتصم منه بدين واضح وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت.
وهذه التصورات المبهمة الغامضة وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق.. لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة. فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة.. هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا.. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها.. أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء.. الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف ... إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ.. من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟
تقف وراءه بيوت الأزياء. وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها! .. ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها، ويؤصلونها بنظريات وثقافات «1» ويطلقونها تضغط على الناس في صورة (عرف اجتماعي) .
فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم، وأوضاع مجتمع، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه! إنه فعل الشياطين.. شياطين الإنس والجن.. وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها، وتتحد جذورها ومنابعها، وتتماثل قوائمها وقواعدها..
وإننا لنبخس القرآن قدره، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة. ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم..
ومع ضخامة الكيد، وثقل الواقع، فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر.. إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه. وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم. ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلا بمشيئة الله وقدره، تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده. ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه. ولكنه شاء للابتلاء. فلا على النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا على المؤمنين. فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ..
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا: إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم.
إنما يفترون على الله، فيزعمون أنه هو شرعها لهم.. ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل- بزعمهم! كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة.. إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين
__________
(1) يراجع فصل: «اليهود الثلاثة» في كتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1219)
فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية. إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب! يقولون: إنهم يحترمون الدين! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين! .. إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس- وإن لم تكن هي الإسلام، فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة- ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية. وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب! ثم يجيء «المتحمسون» لهذا الدين فيفرغون جهدهم في استنكار جزئيات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة، المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة. وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام. ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقا، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة! ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها. وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة، التي تلبس مسوح الدين! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن! «وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ- بِزَعْمِهِمْ- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا- افْتِراءً عَلَيْهِ- سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
قال ابو جعفر بن جرير الطبري: «وهذا خبر من الله- تعالى ذكره- عن هؤلاء الجهلة من المشركين. إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك» .
والحجر: الحرام.. فهؤلاء المعتدون على سلطان الله، الذين يدعون- مع ذلك- أن ما يشرعونه هو شريعة الله، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام، فعزلوها لآلهتهم- كما تقدم- وقالوا: هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها. لا يطعمها إلا من شاء الله! - بزعمهم! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء! وعمدوا إلى أنعام قيل: إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة:
«ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ «1» » فجعلوا ظهورها حراما على الركوب. كما عمدوا إلى أنعام فقالوا: هذه لا يذكر اسم الله عليها عند ركوبها ولا عند حلبها، ولا عند ذبحها.. إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها! كل ذلك «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» ! قال أبو جعفر بن جرير: «وأما قوله «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ «2» » فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبا على الله، وتخرصاً بالباطل عليه، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أن الله هو الذي حرمه، فنفى الله ذلك عن نفسه، وأكذبهم. وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون» .
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية، التي تتكرر في معظم الجاهليات، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله ألبتة، أن يجهروا بأن «الدين» مجرد «عقيدة» وليس نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا، يهيمن على الحياة! وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً، الحاكمية فيه للبشر لا لله، ثم
__________
(1) سبق بيان أوصافها في الجزء السابع ص 989- 990
(2) «افتراء على الله» وردت في آية سابقة. فأما في هذه الآية فالذي ورد (افتراء عليه) .(3/1220)
تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية.. أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله. بعد ما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك! .. لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة. لقد انخلعت من الدين، فأصبحت أجنبية عن الجميع، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم.. ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية، التي تستهدف نفس الهدف، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية. فتضع على هذه التجارب ستاراً من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة، سواء بالدعاية المباشرة أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين..
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة، وبكل تضامنها وتجمعها، وبكل تجاربها وخبرتها، تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً! ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً.. ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا.. وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض.. ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر- الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة- من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية! ومن تبديل الدين باسم الدين! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا. ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية.. الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام، من الكيد للإسلام! .. «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
«وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله. استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام- ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة- إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور.. هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام.
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله:
«سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» ..
«إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..(3/1221)
يعلم حقائق الأحوال، ويتصرف فيها بحكمة، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال.
وإن الإنسان ليعجب، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات.. يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم. ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون. ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير.. نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها، والسير فيها بلا ضابط، سوى الوهم والهوى والتقليد. وأمامهم التوحيد البسيط الواضح يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ويطلق «الإنسان» من العبودية للعبيد- سواء فيما يشترعونه من قوانين، وما يصنعونه من قيم وموازين- ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة، وتصورا واضحا ميسرا مريحا، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة، وانطلاقا من العبودية للعبيد، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده.. المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء! ألا إنها الخسارة الفادحة- هنا في الدنيا قبل الآخرة- حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم وتتردى في حمأة الجاهلية وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد:
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ- سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ- وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ- افْتِراءً عَلَى اللَّهِ- قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
خسروا الخسارة المطلقة. خسروا في الدنيا والآخرة. خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم. خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم. خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد حين أسلموها لحاكمية العبيد! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة، خسروا الخسارة المؤكدة، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه:
«قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» .. يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها..
إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام، متاعا للناس ونعمة ذرأها لهم ليشكروا له ويعبدوه- وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم، فهو الغني ذو الرحمة إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم- فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا، ولأولئك نصيبا، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون- تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين- في النصيب الذي جعلوه لله؟! إن الخالق الرازق هو الرب المالك. الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه. وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله! «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ، وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ، مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَمِنَ(3/1222)
الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» .
إن الله- سبحانه- هو الذى خلق هذه الجنات ابتداء- فهو الذى أخرج الحياة من الموات- وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التى يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ومنها البريات التي تنبت بذاتها- بقدر الله- وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم. وإن الله هو الذى أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال. وإن الله هو الذى خلق الزيتون والرمان، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه، وإنه- سبحانه- هو الذى خلق هذه الأنعام وجعل منها «حمولة» عالية القوائم بعيدة عن الأرض حمالة للأثقال. وجعل منها «فرشاً» صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش..
إنه هو- سبحانه- الذي بث الحياة فى هذه الأرض ونّوعها هذا التنويع وجعلها مناسبة للوظائف التى تتطلبها حياة الناس في الأرض.. فكيف يذهب الناس- فى مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق- إلى تحكيم غير الله فى شأن الزروع والأنعام والأموال؟
إن المنهج القرآنى يكثر من عرض حقيقة الرزق الذى يختص الله بمنحه للناس، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية فى حياة الناس. فإن الخالق الرازق الكافل وحده هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده.. بلا جدال:
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله.. يحشد هذه المؤثرات فى صدد قضية الحاكمية، كما حشدها من قبل فى صدد قضية الألوهية.. فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية.
وعند ما يذكر الزروع والثمار يقول:
«كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية. وقد قلنا فى التقديم للسورة: إن الآية مكية، لأن السياق فى الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية. فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت فى المدينة. وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة. وهناك روايات فى الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة.. أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة..
وقوله تعالى:
«وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
ينصرف إلى العطاء، كما ينصرف إلى الأكل. فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا، فقال الله سبحانه: «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
وعند ما يذكر الأنعام يقول:
«كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه، والشيطان لم يخلق شيئا. فما بالهم يتبعونه في رزق الله؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين. فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين؟!(3/1223)
ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية، ليلقي عليها الضوء، ويستعرضها واحدا واحدا، وجزئية جزئية فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه، حين يكشف له في النور وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير:
«ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ! وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم، هي ثمانية أزواج- وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عند ما يكون مع رفيقه- زوج من الضأن وزوج من المعز. فأي منها حرمه الله على أي من الناس؟ أم إنه حرم أجنتها في البطون؟
«نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
فهذه الشئون لا يفتى فيها بالظن، ولا يقضى فيها بالحدس، ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم.
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل وذكر وأنثى من البقر. فأيها كذلك حرم؟ أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس؟ ومن أين هذا التحريم:
«أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟» ..
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم. فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن، لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون.
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد.. وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه.
لذلك يعاجلهم بالتحذير والتهديد:
«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها، ثم يقول: شريعة الله! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم، إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن.. أولئك لن يهديهم الله فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى.
وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ..
والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال. وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس. وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم، أو بوحي شياطينهم وشركائهم، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم، إنما الذي خلقها لهم هو الله، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق، وفيما أعطى من الأموال للعباد..
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله. ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي، لا عن ظن ووهم. والله هو صاحب الحاكمية الشرعية، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام، وإذا أحله فهو حلال بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع.. وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة، وأحله للمسلمين، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله!(3/1224)
«قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ- فَإِنَّهُ رِجْسٌ- أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ- غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ- فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما- إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:
«يقول- جل ثناؤه- لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله. والقائلين: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- والمحرمين من أنعام أخر ظهورها، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها.
والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومُحليه لذكورهم. المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم.
فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها- بزعمكم- إلا أن يكون «ميتة» ، قد ماتت بغير تذكية، أو «دماً مسفوحاً» ، وهو المنصبّ، أو إلا أن يكون لحم خنزير «فإنه رجس» .. «أو فسقا» يقول: أو إلا أن يكون فسقاً، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه. فإن ذلك الذبح فسق، نهى الله عنه وحرمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة.
«وهذا إعلام من الله- جل ثناؤه- للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله» ..
وقال في تأويل قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» :
... «أن معناه: فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو ما أهل لغير الله به، غير باغ في أكله إياه تلذذاً، لا لضرورة حالة من الجوع ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك.. لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه.. فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك. «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ» فيما فعل من ذلك، فساتر عليه، بتركه عقوبته عليه. ولو شاء عاقبه عليه. «رحيم» بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه. ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه» .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية..
فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقط عند خوف الهلاك لو امتنع.. ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع..
ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام.. ولا ندخل في تفصيلات الفروع.. فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع.(3/1225)
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان- أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط. وحرم كذلك شحم البقر والغنم- إلا شحم الظهر، أو الدهن الملتف بالأمعاء، أو ما اختلط منه بالعظم.. وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه:
«وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما- إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .
والنص يبين سبب هذا التحريم، وهو سبب خاص باليهود، ويؤكد أن هذا هو الصدق، لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل، وهو يعقوب جدهم، هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه..
لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب. ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا، فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات.
«فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» ..
فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا، وبمن كان مؤمنا من عباده، وبغيرهم من خلقه. فرحمته- سبحانه- تسع المحسن والمسيء وهو لا يعجل على من استحق العقاب حلما منه ورحمة. فإن بعضهم قد يثوب إلى الله.. ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه، وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم.
وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس. والله الذي خلق قلوب البشر يخاطبها بهذا وذاك لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب.
وعند ما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم، وسد الذرائع في وجوههم، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليه شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم.. إنهم يقولون: إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال. فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء:
«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» :
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة ...
وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل، فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية.. ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد، ما اشتد هذا الجدل، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه.
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه، فنجد قضية واضحة بسيطة محددة:
«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» .. فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل..
يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم. فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا..
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة؟
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله. وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد:(3/1226)
«كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» ..
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر، وتوقظ من الغفلة، وتوجه إلى العبرة..
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر.. إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات.. وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً.. فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه، فكيف يعلمونه؟ وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه:
«قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» ..
إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟
هذا هو فصل القول في هذه القضية.. إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه. إنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه، ليكيفوا أنفسهم على حسبها.. وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام.. وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ- في واقعها العملي- يسيرة واضحة، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته! إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يقهرهم على الهدى. أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر ... ولكنه- سبحانه- شاء غير هذا! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته.. وجرت سنته بما شاء..
«قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» .
قضية واضحة، مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري. فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي.. ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة. لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها..
إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها، وأسلوب التعبير عنها كذلك. الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل. والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن. والحقيقة التي وراء هذا المدى، لا بد أن تتناول بمنهج آخر.. هو كما قلنا من قبل: منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي. ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً.
وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً تحدده أوامر ونواه واضحة. فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة، يرتادها العقل بغير دليل، ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود.
وأخيرا يوجه الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة:
في أوائل السورة قال له:
«قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ اللَّهُ. شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ(3/1227)
بَلَغَ. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ: لا أَشْهَدُ. قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»
..
وهنا قال له:
«قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..
إنها مواجهة هائلة، ومواجهة كذلك فاصلة. ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية.. إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس بما لم يأذن به الله- دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله! - كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله، ولا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون..
أي يجعلون له أنداداً تعدله.. وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..
هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس- دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله! - وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة.
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله- سبحانه- بهذا الحكم؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته غير مؤمنين بالآخرة، مشركين يعدلون بربهم غيره.. فإن لنا أن نحاول الفهم. فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم..
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم- مهما قالوا إنه من شرع الله- بأنهم يكذبون بآياته.
لأن آياته- إن كان المراد بها آياته الكونية- كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد.. والخالق الرازق هو المالك. فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم.. فمن لم يفرده- سبحانه- بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه.. وإن كان المقصود آياته القرآنية، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده- سبحانه- بالحاكمية في حياة البشر الواقعية، واتخاذ شريعته وحدها قانونا، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر..
كذلك حكم عليهم- سبحانه- بأنهم لا يؤمنون بالآخرة.. فالذي يؤمن بالآخرة، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به. وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر. ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره، وفي شريعته وحكمه..
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون.. أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين..
ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله- سبحانه- في حق الحاكمية الذي تفرد به. أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون! هذه- فيما يبدولنا- هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به، بالتكذيب بآياته، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر.. أما الحكم ذاته فلا يملك «مسلم» أن يجادل فيه. فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها. فلينظر كل «مسلم» كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم..(3/1228)
وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات، يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً.. وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم. وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول.. وهو الشرك بالله.. لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر، لتقوم عليها المحرمات والنواهي، لمن استسلم لها وأسلم:
«قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا- وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى - وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ..» .
وننظر في هذه الوصايا- التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها- فإذا هي قوام هذا الدين كله.. إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات، مرتبطة بعهد الله، كما أنها بدئت بتوحيد الله..
وننظر في ختام هذه الوصايا، فإذا الله- سبحانه وتعالى- يقرر أن هذا صراطه المستقيم وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل.. الوحيد..
إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث.. أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية..
«قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» ..
قل: تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم- لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم-! لقد حرمه عليكم «ربكم» الذي له وحده حق الربوبية- وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية- وإذن فهو اختصاصه، وموضع سلطانه. فالذي يحرم هو «الرب» والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا..
«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة وترجع إليها التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات..
القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي وقبل الدخول في التكاليف والفرائض، وقبل الدخول في النظام والأوضاع وقبل الدخول في الشرائع والأحكام.. يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم لا يشركون معه أحداً في ألوهيته، ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك. يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء..
إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة، وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية، وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد..
إن الشرك- في كل صوره- هو المحرم الأول لانه يجر إلى كل محرم. وهو المنكر الأول الذي يجب حشد(3/1229)
الإنكار كله له حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله، ولا رب لهم إلا الله، ولا حاكم لهم إلا الله، ولا مشرع لهم إلا الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله..
وإن التوحيد- على إطلاقه- لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر، من عبادة أو خلق أو عمل..
من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة:
«أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا، لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا- لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة- قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره- وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه:
«قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..
يجب أن نذكر هذه الآية، وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً.. إنه الشرك في الاعتقاد، كما أنه الشرك في الحاكمية. فالسياق حاضر، والمناسبة فيه حاضرة..
ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر، لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية، قد آتت ثمارها- مع الأسف- فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام، يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية أو لاستنكار انحلال أخلاقي أو لمخالفة من المخالفات القانونية. ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية، وموقعها من العقيدة الإسلامية! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية، ولا يستنكرون المنكر الأكبر وهو قيام الحياة في غير التوحيد أي على غير إفراد الله- سبحانه- بالحاكمية..
إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية، أوصاهم ألا يشركوا به شيئاً. في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا! إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية.. فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات، واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات..
«وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» ..
إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة- تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه- ولقد علم الله- سبحانه- أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء. فأوصى الأبناء بالآباء، وأوصى الآباء بالأبناء وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة، والارتباط بربوبيته المتفردة. وقال لهم: إنه هو الذي يكفل لهم الرزق، فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما ولا تجاه الأولاد في ضعفهم، ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً..
«وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» ..
ولما وصاهم الله بالأسرة، وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها- كما يقوم عليها المجتمع كله- وهي قاعدة(3/1230)
النظافة والطهارة والعفة. فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها.. فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها.. وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا.
إنه لا يمكن قيام أسرة، ولا استقامة مجتمع، في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع. والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع.
والفواحش: كل ما أفحش- أي تجاوز الحد- وإن كانت أحياناً تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا.
ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع. لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها، فتكون هذه واحدة منها بعينها. وإلا فقتل النفس فاحشة، وأكل مال اليتيم فاحشة، والشرك بالله فاحشة الفواحش. فتخصيص «الفواحش» هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق. وصيغة الجمع، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها. فالتبرج، والتهتك، والاختلاط المثير، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة، والإغراء والتزيين والاستثارة ... كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة. وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن. منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح.
منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف! وكلها مما يحطم قوام الأسرة، وينخر في جسم الجماعة، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد، ويحقر من اهتماماتهم، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد.
ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية، كان التعبير: «وَلا تَقْرَبُوا» .. للنهي عن مجرد الاقتراب، سداً للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة.. لذلك حرمت النظرة الثانية- بعد الأولى غير المتعمدة- ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج- حتى بالتعطر في الطريق- حراماً، وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة.. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود، ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير..
وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة، من يزينون للناس الشهوات، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام! «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» ..
ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة: الشرك، والزنا، وقتل النفس..
ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة والثانية جريمة قتل للجماعة، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة.. إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة «1» . والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة، منتهية حتماً إلى الدمار. والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية. شواهد من التاريخ. ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبئ بالمصير المرتقب لأمم ينخر
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» ..
ص 1199- 1201 في هذا الجزء(3/1231)
فيها كل هذا الفساد «1» . والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات، مجتمع مهدد بالدمار.. ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم هي أقسى العقوبات، لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار.
ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق. فالآن ينهى عن قتل «النفس» عامة. فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس «النفس» في عمومه. تؤيد هذا الفهم آية: « ... أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» .. فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها، وعلى النفس البشرية في عمومها. وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء. وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها، وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته، لا يُؤذى فيها إلا بالحق. والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته، ولم يتركه للتقدير والتأويل. ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة، وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة! وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة. فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع، لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية.
وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف، يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه:
«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله. تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس، وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس! كذلك تجيء فيه الإشارة إلى التعقل. فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها.
وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس! وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس. وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس. فجعل هذه في آية، وتلك في آية، وبينهما هذا الإيقاع.
«وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»
..
واليتيم ضعيف في الجماعة، بفقده الوالد الحامي والمربي. ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة- على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي «2» - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية. وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشياً في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود. حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه:
«وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» .
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم. فيصونه وينميه، حتى يسلمه له كاملاً نامياً عند بلوغه أشده. أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية. ليحمي ماله، ويحسن القيام عليه. وبذلك
__________
(1) راجع كتاب «التطور والثبات» لمحمد قطب. «دار الشروق» .
(2) يراجع بتوسع فصل: «مجتمع متكافل» في كتاب: «نحو مجتمع إسلامي» .(3/1232)
تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً وسلمته حقه كاملا.
وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد.. عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك، بلوغ الحلم. وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما. وعند السدي ثلاثون، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد.
«وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها-» .
وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف. والسياق يربطها بالعقيدة لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة. والذي يوصي بها ويأمر هو الله. ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة، وعلاقتها بكل جوانب الحياة..
ولقد كانت الجاهليات- كما هي اليوم- تفصل بين العقيدة والعبادات، وبين الشرائع والمعاملات.. من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: «قالُوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ؟! ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة، للدلالة على طبيعة هذا الدين، وتسويته بين العقيدة والشريعة، وبين العبادة والمعاملة، في أنها كلها من مقومات هذا الدين، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل.
«وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى»
..
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري- وقد ربطه بالله ابتداء- إلى مستوى سامق رفيع، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري. الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل وفي قوة القرابة سند لضعفه وفي سعة رقعتها كمال لوجوده، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء بينهم وبين الناس.. وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه وهو- سبحانه- أقرب إلى المرء من حبل الوريد..
لذلك يعقب على هذا الأمر- وعلى الوصايا التي قبله- مذكراً بعهد الله:
«وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا»
..
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى. ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط. ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق.. وقبل ذلك كله..
من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً. فهذا هو العهد الأكبر، المأخوذ على فطرة البشر، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها.
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف:
«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
..(3/1233)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
والذكر ضد الغفلة. والقلب الذاكر غير الغافل، وهو يذكر عهد الله كله، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها.
... هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع ... هذه هي صراط الله المستقيم..
صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل:
«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ.. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى:
«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا» ..
وانتهى هذه النهاية، بهذا الإيقاع العريض العميق..
وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام، والذبائح والنذور، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية، ليدل على أنها من هذه القضايا. التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد.
إنه صراط واحد- صراط الله- وسبيل واحدة تؤدي إلى الله.. أن يفرد الناس الله- سبحانه- بالربوبية، ويدينوا له وحده بالعبودية وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية..
هذا هو صراط الله وهذا هو سبيله.. وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله.
«ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل. والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل..
[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 165]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(3/1234)
لم ينقطع تدفق السياق في الموضوع الأساسي الذي يعالجه شطر السورة الأخير- وهو موضوع الحاكمية والتشريع وعلاقتهما بالدين والعقيدة- وهذا الشوط الجديد هو امتداد في العرض، وامتداد في الحشد، لتقرير هذه الحقيقة.
وهو يتحدث عن المبادئ الأساسية في العقيدة- بصدد التشريع والحاكمية- كما كان الشطر الأول من السورة يتحدث عن هذه المبادئ في صدد قضية الدين والعقيدة. ذلك ليقرر أن قضية التشريع والحاكمية هي كذلك قضية الدين والعقيدة. وعلى ذات المستوى الذي يعرض به المنهج القرآني هذه الحقيقة. ومما يلاحظ أن السياق يستخدم في شطر السورة الثاني ذات المؤثرات والموحيات والمشاهد والتعبيرات التي حشدها في الشطر الأول منها:
يتحدث عن الكتب والرسل والوحي والآيات التي يطلبونها.
ويتحدث عن الدمار والهلاك الذي يعقب وقوع الآيات والتكذيب بها.
ويتحدث عن الآخرة وقواعد الدينونة والجزاء فيها.
ويتحدث عن المفاصلة بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقومه الذين يعدلون بربهم ويتخذون من دونه أربابا يشرعون لهم. ويوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى إعلان حقيقة دينه جلية واضحة حاسمة.
ويتحدث عن الربوبية الواحدة للعالمين جميعاً، والتي لا يجوز أن يتخذ المؤمن من دونها ربوبية أخرى.(3/1235)
ويتحدث عن ملكية رب العالمين لكل شيء، وتصريفها لكل شيء، وعن استخلاف الله للناس كيف شاء، وقدرته على الذهاب بمن يشاء منهم عند ما يشاء.
وهذه هي ذاتها القضايا والحقائق، والمؤثرات والموحيات التي حشدها في أول السورة عند عرض حقيقة العقيدة في محيطها الشامل. محيط الألوهية والعبودية وما بينهما من علائق.. ولا ريب أن لهذا دلالته التي لا تخفى على من يتعامل مع القرآن الكريم ومع المنهج القرآني.
يبدأ هذا المقطع الأخير في هذا الشطر من السورة بالحديث عن كتاب موسى.. وذلك تكملة للحديث السابق عن صراط الله المستقيم: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» للإيحاء بأن هذا الصراط ممتد من قبل في رسالات الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وشرائعهم. وأقرب شريعة كانت هي شريعة موسى عليه السلام وقد أعطاه الله كتابا فصل فيه كل شيء، وجعله هدى ورحمة لعل قومه يؤمنون بلقاء الله في الآخرة: «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» .
ويستمر فيذكر الكتاب الجديد المبارك، الملتحم بالكتاب الذي أنزل على موسى، المتضمن للعقيدة وللشريعة المطلوب اتباعها والتقوى فيها، رجاء أن ينال الناس- حين يتبعونها- رحمة الله في الدنيا والآخرة: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
ولقد نزل هذا الكتاب قطعاً لحجة العرب، كي لا يقولوا: إنه لم يتنزل علينا كتاب كالذي تنزل على اليهود والنصارى ولو قد أوتينا الكتاب مثلما أوتوا لكنا أهدى منهم، فها هو ذا كتاب يتنزل عليهم، ويقطع هذه الحجة عليهم، فيستحق الذين يكذبون العذاب الأليم: «أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا. وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ... فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها؟ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ»
..
لقد انقطعت المحجة بنزول هذا الكتاب ولكنهم ما يزالون يشركون بالله ويشرعون من عند أنفسهم ويزعمونه شريعة الله، بينما كتاب الله قائم وليس فيه هذا الذي يفترونه. وما يزالون يطلبون الآيات والخوارق ليصدقوا بهذا الكتاب ويتبعوه. ولو جاءتهم الآيات التي يطلبون أو بعضها لكان فيها القضاء الأخير: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً. قُلِ: انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» .
وعند هذا الحد يفصل الله- سبحانه- بين نبيه- صلى الله عليه وسلم- وسائر الملل المتفرقة التي لا تقوم على توحيد الله عقيدة وشريعة. ويقرر أن أمرهم إليه- سبحانه وتعالى- وأنه هو محاسبهم ومجازيهم وفق عدله ورحمته: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .
وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا القطاع- وهو الإيقاع الأخير في السورة- في تسبيحة ندية رخية، حازمة كذلك حاسمة، تلخص أعمق أعماق الحقائق العقيدية في هذا الدين: التوحيد المطلق، والعبودية الخالصة،(3/1236)
وجدية الآخرة، وفردية التبعة والابتلاء في دار الدنيا. وسلطان الله المتمثل في ربوبيته لكل شيء وفي استخلافه للعباد في ملكه كيف شاء بلا شريك ولا معقب.. كما ترسم تلك التسبيحة المديدة صورة باهرة لحقيقة الألوهية، وهي تتجلى في أخلص قلب، وأصفى قلب، وأطهر قلب.. قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-..
وذلك في مستوى من التجلي لا يصوره إلا التعبير القرآني ذاته: «قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ونكتفي هنا بهذا القدر من الحديث المجمل، لنأخذ في مواجهة النصوص بالتفصيل:
«ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ، وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» ..
هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله.. وتأويله: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً..» «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً» .. معطوفة على جملة: ألا تشركوا.. «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ..»
معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم- صلى الله عليه وسلم- فالسياق مطرد كما أسلفنا.
وقوله «تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» .. تأويله- كما اختار ابن جرير-: «ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده، وأيادينا قبله، تتم به كرامتنا عليه، على إحسانه وطاعته ربه، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه، وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم» ..
وقوله: وتفصيلا لكل شيء. كما قال قتادة: فيه حلاله وحرامه.
وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه..
.. هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى الكتاب، جاء من أجله كتابكم، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة:
«وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
وإنه لكتاب مبارك حقاً- كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ «1» » .. (الآية: 92) .. وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب! ويؤمرون باتباعه وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع. والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة.
__________
(1) الجزء السابع ص 1147.(3/1237)
وقد بطلت حجتكم، وسقطت معذرتكم، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم، تفصيلاً لكل شيء. بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم:
«أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا. وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها؟ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ» ..
لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم.. حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمداً خاتم النبيين للناس كافة. فهو آخر رسول من الله للبشر، فناسب أن يكون رسولاً إليهم أجمعين.
والله- سبحانه- يقطع الحجة على العرب أن يقولوا: إن كلا من موسى وعيسى إنما أرسلا إلى قومهما.
ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم، لا علم لنا به ولا اهتمام. ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب.. فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم- وإن كان رسولاً للناس أجمعين- وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه. وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض. وهو هدى لما هم فيه من ضلالة، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة..
فإذا كان ذلك كذلك، فمن أشد ظلماً ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلماً لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها.. إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف- أي يميل- بجسمه ولا يستقيم! إنهم «يصدفون» عن الحق والاستقامة، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة! وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم:
«سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ» ..
إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى.. فيستخدم هنا لفظ «يصدف» وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه! كذلك يستخدم لفظ «يصعرخده» وهو مأخوذ من داء الصَّعَر الذي يصيب الإبل- كما يصيب الناس- فتعرض صفحة خدها، اضطراراً، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر، ومثله استخدام لفظ «حبطت أعمالهم» ..
من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسموماً فانتفخ بطنها ثم ماتت! ومثلها كثير..
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب.. وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد. وهو يتكرر هنا، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله:
فقد جاء في أول السورة: «وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ! وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» ..
وجاء هنا في آخرها:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً: قُلِ: انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» ..
إنه التهديد الواضح الحاسم. فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتماً إذا جاءت الخارقة(3/1238)
ثم لم يؤمن بها المكذبون.. والله سبحانه يقول لهم: إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده.. وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل.. لنفس لم نؤمن من قبل، ولم تكسب عملاً صالحاً في إيمانها. فالعمل الصالح هو دائماً قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام.
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» هو أشراط الساعة وعلاماتها، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل. وعدوا من ذلك أشراطاً بعينها.. ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة أولى. فقد سبق مثله في أول السورة، وهو قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» .. والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة، وأن هذا ملحوظ ومقصود، لتقرير حقيقة بعينها. فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية. وهو كاف في التأويل، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول..
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض- بما فيها ملة المشركين العرب-:
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» ..
إنه مفرق الطريق بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل..
سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا. أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلاً ومعسكرات ودولاً.
أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين.
إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس من هؤلاء كلهم في شيء.. إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز.. وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات.. وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام.. إسلامي.. وشيء آخر..!!! إن الإسلام إسلام فحسب. والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب. والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب.. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان! إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى.
وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده- وبالتعبير الآخر: ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده- إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى.. قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام! إن الدين عند الله الإسلام.. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام.(3/1239)
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع.. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً، وغير شريعة الله شرعا..
الأمر هكذا جملة. وللنظرة الأولى. بدون دخول في التفصيلات! وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعاً، وبرئ منهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحكم من الله تعالى.. أمرهم بعد ذلك إلى الله وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون:
«إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» ..
وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده. فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن- فليس مع الكفر من حسنة! - فله عشر أمثالها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه:
«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
وفي ختام السورة- وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية- تجيء التسبيحة الندية الرخية، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب وفي تقرير كذلك حاسم فاصل.. ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية:
«قل» .. «قل» .. «قل» .. ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد.. توحيد الصراط والملة. توحيد المتجه والحركة. توحيد الإله والرب. توحيد العبودية والعبادة..
مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته.
«قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين. قل: أغير الله أبغي ربا، وهو رب كل شيء، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم. إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم» ..
هذا التعقيب كله، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحناً رائعاً باهراً متناسقاً، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله.. فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد..
«قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر، ويشي بالثقة، ويفيض باليقين.. اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية، والثقة بالصلة الهادية.. صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية.. والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي لا التواء فيه ولا عوج: «ديناً قيماً» .. وهو دين الله القديم منذ إبراهيم. أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب: «ملة إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين» .
«قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ. وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» ..
إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة. بالصلاة والاعتكاف. وبالمحيا والممات. بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.(3/1240)
إنها تسبيحة «التوحيد» المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده. لله «رب العالمين» .. القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين.. في «إسلام» كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضمير ولا في الواقع..
«وبذلك أمرت» .. فسمعت وأطعت: «وأنا أول المسلمين» .
«قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ؟» ..
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية.. ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة.
ثم تعجب في استنكار:
«أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ» ؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن عليَّ ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية؟
أغير الله أبغي ربا. وهذا الكون كله في قبضته وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ «ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى؟» ..
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعاً فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا، وهو الذي استخلف الناس في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا، وهو سريع العقاب، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا، فأجعل شرعه شرعاً، وأمره أمراً، وحكمه حكماً. وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة وكلها شاهدة وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟؟؟
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع. مشهد الحقيقة الإيمانية، كما هي في قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد..
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة يجيء متناسقاً مع الإيقاعات الأولى في السورة، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان من ذلك قوله تعالى: «قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» ..
وغيرها في السورة كثير..
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مراراً من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام. فهي صور متنوعة(3/1241)
للحقيقة الواحدة.. الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير. وتبدو مرة في صورة منهج للحياة..
وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين..
ولكننا نتلفت الآن- وقد انتهى سياق السورة- على المدى المتطاول، والمساحة الشاسعة، والأغوار البعيدة.. تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة- ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء- فإذا هو شيء هائل هائل.. وننظر إلى حجم السورة، فإذا هي كذا صفحة، وكذا آية، وكذا عبارة.. ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات في مثل هذه المساحة المحدودة! .. وذلك فضلاً على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك..
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد، عميقة الأغوار، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة.. رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة.. رحلة تكفي وحدها لتحصيل «مقومات التصور الإسلامي» ! حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها..
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون، ومن قدر مجهول، ومن مشيئة تمحو وتثبت، وتنشئ وتعدم، وتحيي وتميت، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء.
وحقيقة النفس الإنسانية، بأغوارها وأعماقها، ودروبها ومنحنياتها، وظاهرها وخافيها، وأهوائها وشهواتها، وهداها وضلالها، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن. وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال..
ومشاهد قيامة، ومواقف حشر، ولحظات كربة وضيق، ولحظات أمل واستبشار. ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض ولقطات من تاريخ الكون والحياة.
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة. والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها، في سياقها الفريد، وفي أدائها العجيب.
إنه الكتاب «المبارك» .. وهذه- بلا شك- واحدة من بركاته الكثيرة.. والحمد لله رب العالمين..(3/1242)
(7) سورة الأعراف مكيّة وآياتها ستّ ومائتان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه سورة مكية- كسورة الأنعام- موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي.. العقيدة.. ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة! إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة، وذات ملامح متميزة، وذات منهج خاص، وذات أسلوب معين، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد، وهذه القضية الكبيرة.
إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع، وتحقيق هذه الغاية.
إن الشأن في سور القرآن- من هذه الوجهة- كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة.. كلهم إنسان، وكلهم له خصائص الإنسانية، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني.. ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع. نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة! هكذا عدت أتصور سور القرآن. وهكذا عدت أحسها، وهكذا عدت أتعامل معها. بعد طول الصحبة، وطول الألفة، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته، وملامحه وسماته! وأنا أجد في سور القرآن- تبعا لهذا- وفرة بسبب تنوع النماذج، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع، والاتجاهات والمطالع! إنها أصدقاء.. كلها صديق.. وكلها أليف.. وكلها حبيب.. وكلها ممتع.. وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة، وألوانا من المتاع جديدة، وألوانا من الإيقاعات، وألوانا من المؤثرات، تجعل لها مذاقا خاصا، وجوا متفردا.
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة.. رحلة في عوالم ومشاهد، ورؤى وحقائق، وتقريرات وموحيات، وغوص في أعماق النفوس، واستجلاء لمشاهد الوجود.. ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة.(3/1243)
إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة.. ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها وتواجه الجاهلية العربية في حينها- وكل جاهلية أخرى كذلك- مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها- في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضا- ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف.. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج، وتسلك ذلك الطريق.. نجد سورة الأعراف- وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك- تأخذ طريقا آخر، وتعرض موضوعها في مجال آخر.. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري.. في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها.. وفي هذا المدى المتطاول تعرض «موكب الإيمان» من لدن آدم- عليه السلام- إلى محمد- عليه الصلاة والسلام- تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل..
ويرسم سياق السورة في تتابعه: كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة..
إنها رحلة طويلة طويلة.. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة، ومعالمه قائمة، ومبدؤه معلوم، ونهايته مرسومة.. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة.. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى..
لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء، ممثلة في شخصين اثنين.. آدم وزوجه.. أبوي البشر.. وانطلق معهما الشيطان. مأذونا من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذا عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك.
ومبتلي كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ليأخذوا عهد الله بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم! انطلقت البشرية من هناك.. من عند ربها سبحانه.. انطلقت إلى الأرض. تعمل وتسعى، وتكد وتشقى، وتصلح وتفسد، وتعمر وتخرب، وتتنافس وتتقاتل، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد.. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال.. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة.. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص، ومن ثمين وزهيد، ومن خير وشر، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم.. فقد انطلقت في مطلعه! ..
وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال- أيا كانت هذه الأحمال- ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها.. تظلع في الطريق، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير. حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان، ووقف يرتقب في خشية ووجل.. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا.. وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه، ويلقى جزاءه.. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية، فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين: «كما(3/1244)
بدأكم تعودون. فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون» ..
وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال. معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها. وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير.. وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة! كلمة تعقيب. للإنذار والتذكير.. ثم يمضي.
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول.. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى.. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام- وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود- وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام، واضح التميز، مختلف الحدود.
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو، سهل الإيقاع، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد، خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحيانا في مواقف التعقيب ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب! .. وهما- بعد- سورتان مكيتان من القرآن..!!!
ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري..
إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة.. مجرد عرض في أسلوب قصصي.. إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية..
ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناسا أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن فيواجههم هذا القرآن بتلك القصة الطويلة ويخاطبهم بما فيها من عبر مذكرا ومنذرا ويخوض معهم معركة حقيقية حية.. ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ.
إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة. ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا.. إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي. إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني!(3/1245)
ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب. كما يركز على نقطة الانطلاق، وعلى نقطة المآب.
وبينهما يمر بقصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب. ثم يركز تركيزا شديدا على قصة قوم موسى.
وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة:
تبدأ السورة على هذا النحو:
«المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن.. وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة، وعودتها من الرحلة المرسومة، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة.. إنما هو خطاب غير مباشر، - وأحيانا مباشر- للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه للإنذار والتذكير، كما يشير هذا المطلع القصير.
وقول الله- سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ..
يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا، دونه صعاب جسام.. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور، وقيم وموازين، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس، ومن تصورات الجاهلية في العقول، ومن قيم الجاهلية في الحياة، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها، غريبة على البيئة، ثقيلة على النفوس مستنكرة في القلوب..
كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات.. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل، الحرج الذي يدعو الله- سبحانه- نبيه- صلى الله عليه وسلم- ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه وأن يمضي به ينذر ويذكر ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء..
ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم، ويذكرهم بمصائر المكذبين، ويعرض عليهم مصارع الغابرين.. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق:
«وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» ..
وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة.. تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض.. وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض. وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها(3/1246)
والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته:
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة. والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة ويعرض قصة النشأة، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية، ومؤثرات عميقة:
«ولقد خلقناكم ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال: ما منعك أَلا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال:
فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون.
قال: إنك من المنظرين. قال: فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذؤوماً مدحوراً، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.. ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وقال:
ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون» ..
وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها، ومصائر المرتحلين جميعا.. وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة، وبني آدم جميعا. كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة، ومنافذ الشيطان إليه منها.
ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل، بالإنذار والتحذير.. تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد.. وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر. وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم، يذكرهم وينذرهم، ويحذرهم مصيرا كهذا المصير:
«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.. يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
«يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور، والخصف من ورق الجنة ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم.. لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك حيث كانوا(3/1247)
تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا، ويحرمون أنواعا من الثياب، وأنواعا من الطعام في فترة الحج. ويزعمون أن هذا من شرع الله، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم..
ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية.. وفي كل جاهلية في الحقيقة.. أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى؟
وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل.. إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل. ولأنه يواجه- في كل مرة- حالة معينة، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها..
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام- في الجزء السابع «1» - يكون قاعدة هامة.. هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئا لا تستدعيه حالة واقعة.. إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام- ولا حتى القصص- إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها..
والآن- وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى.. الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية، نهاية المرحلة الكبرى، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة.
وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة، وأكثرها تفصيلا، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع..
وموقعه في السورة تعقيباً على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلا يقصون عليهم آياته..
موقعه كذلك يجعله مصداقا لما ينبئ به أولئك الرسل. فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة، ونودوا: «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فعاد المغتربون إلى دار النعيم!!! والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل.
والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب، ويطلبون الخوارق لتصديقه، من سوء المصير:
«وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يقف السياق ليعقب عليها، مقررا «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الربوبية» في مشاهد كونية تشهد بهذه الحقيقة على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالا تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحس
__________
(1) ص 1004- 1029. [.....](3/1248)
المفتوح والبصيرة المستنيرة. وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية: وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده، فالله هو ربه وحاكمه. فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازا في لحن الوجود المؤمن وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر..
وهو رب العالمين..
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» .
والآن تمضي الرحلة، وتجري القصة، ويبرز الموكب الإيماني الجليل، يهتف بالبشرية الضالة، يذكرها وينذرها، ويحذرها سوء المصير. والبشرية الضالة تلوي وتعاند، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ثم بالطغيان والبطش.. ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض، ثم بالبطش والإيذاء. وبعد ان يفاصلوا قومهم على العقيدة، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله.
ويعرض السياق قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة لوط، وقصة شعيب.. مع أقوامهم، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية. كما يجادلونهم في إرسال الله بشرا من الناس بالرسالة! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية! - وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحررا «وتقدمية» ! - ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة.
ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» . ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون. ولكنهم لا يقدورن نصح رسولهم لهم ولا يتدبرون عاقبة أمرهم، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول، وعمق التجرد من كل مصلحة، وعمق الإحساس بضخامة التبعة..
ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح- أول القصص- وما ورد عن قصة شعيب، آخر هذه الجملة من القصص، التي يقف السياق بعدها للتعقيب:
«لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ(3/1249)
مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟ فَكَذَّبُوهُ، فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ»
...
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ، قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً- عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟» ..
ويمثل هذان النموذجان بقية القصص بينهما. سواء في تصوير حقيقة العقيدة الواحدة التي أرسل الله بها رسله جميعا لأبناء آدم- كل في قومه- أو في تلقي الملأ المستكبرين والأتباع المستضعفين لهذه الحقيقة. أو في وضوح هذه العقيدة وحسمها في نفوس الرسل وأتباعهم. أو في روح النصح والرغبة في هداية قومهم..
ثم في مفاصلتهم لأقوامهم عند ما يتبين لهم عنادهم وإصرارهم الأخير ثم في إدارة الله- سبحانه- للمعركة، وأخذ المكذبين بعد مفاصلة رسلهم لهم، والانتهاء من إنذارهم وتذكيرهم. وعتو المكذبين وإصرارهم على ما هم فيه.
وهنا يقف السياق وقفة للتعقيب. يبين فيها سنة الله في تعامل قدر الله مع الناس حين تجيئهم الرسالة فيكذبون.
إذ يأخذهم أولا بالضراء والبأساء، لعل هذا يهز قلوبهم الغافية فتستيقظ وتستجيب. فإذا لم تهزهم يد البأس وكلهم إلى الرخاء- وهو أشد فتنة من البأس- حتى تلتبس عليهم سنة الله، ولا ينتبهوا لها. ثم يأخذهم بعد ذلك بغتة وهم لا يشعرون! ..
وبعد بيان هذه السنة يهز قلوبهم بالخطر الذي يتهددهم في غفلاتهم. فمن يدريهم أن قدر الله يتربص بهم، ليجري فيهم سنته تلك؟ أفلا تهديهم مصارع الغابرين، وهم في ديارهم يسكنون؟
«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ! فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ.. تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..(3/1250)
بعد ذلك يعرض السياق قصة موسى مع فرعون وملئه، ومع قومه بني إسرائيل: وتستغرق القصة أكبر مساحة استغرقتها في سورة قرآنية وتعرض منها حلقات شتى ويقف السياق عند بعض الحلقات للتعقيب كما يقف في نهايتها لتعقيب طويل حتى نهاية السورة.
ولقد وردت حلقات من قصة موسى- عليه السلام- قبل ذلك- حسب ترتيب النزول- في سور:
المزمل، والفجر، وق، والقمر.. وكلها إشارات قصيرة. وهذه أول سورة بعد تلك السور تجيء فيها هذه الحلقات الطويلة، في هذه المساحة العريضة..
وقد شملت حلقة مواجهة فرعون بحقيقة العقيدة. وحلقة التحدي والسحرة- وهما كثيرتا الورود في السور الأخرى- وحلقة أخذ آل فرعون بالسنين والآفات وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم- التي لم تفصل إلا في هذه السورة- وحلقة إغراق فرعون والملأ من قومه.. ثم استمر السياق مع بني إسرائيل.
وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها- صنما- كالقوم الذين مروا عليهم بعد نجاتهم من فرعون وتجاوزهم للبحر! وحلقة ميقاته مع ربه وطلبه رؤيته ودك الجبل وصعقه وتنزيل الألواح عليه. وحلقة اتخاذ قومه للعجل في غيبته. وحلقة الميقات الثاني مع السبعين من قوم موسى وأخذ الصاعقة لهم حين قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وحلقة عصيانهم في دخول القرية وفي صيد السمك يوم السبت! وحلقة نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة.. وكلها معروضة بتفصيل واسع، مما جعل القصة تستغرق حزبا كاملا من السورة.
وفي موقف من مواقف القصة يدخل السياق الرسالة النبوية الأخيرة ويصف طبيعتها وحقيقتها. وذلك عند ما دعا موسى- عليه السلام- ربه في شأن من صعقوا من قومه واستنزل رحمته- سبحانه- على هذا النحو الذي يتداخل فيه القصص لتأدية غرض المعركة التي يخوضها القرآن فعلا:
«وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، قالَ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. قالَ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ، وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
وفي ظل هذا النبأ الصادق من الله، والوعد السابق برسالة النبي الأمي، يأمر الله النبي أن يعلن طبيعة رسالته، وحقيقة دعوته، وحقيقة ربه الذي أرسله، والأصل الاعتقادي الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من قبله:
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
ثم تواصل القصة سيرها بعد هذه الوقفة، إلى موقف العهد ونتق الجبل وأخذ الميثاق. وفي ظل مشهد الميثاق والعهد على بني إسرائيل يذكر العهد المأخوذ على فطرة البشر أجمعين:(3/1251)
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟» ..
ويمضي السياق بعد ذلك في تعقيبات منوعة، يعرض في أحدها بعد مشهد العهد الفطري مباشرة، مشهد الذي آتاه الله آياته ثم انسلخ منها- كبني إسرائيل وككل من يؤتيه الله آياته ثم ينسلخ منها! - وهو مشهد يذكرنا بصوره وحركته وإيقاعه والتعقيب عليه بمشاهد سورة الأنعام وجوها كذلك:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ! ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ..
ثم يمضي السياق يتحدث عن مسائل العقيدة حديثا مباشرا. ويعرض مع الحديث بعض المؤثرات من المشاهد الكونية ومن التحذير من بأس الله وأخذه ومن لمس قلوبهم ليتفكروا ويتدبروا في شأن الرسول ورسالته ...
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
ثم يأمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يعلمهم طبيعة الرسالة وحدود الرسول فيها. وذلك بمناسبة سؤالهم له عن تحديد موعد القيامة التي يخوفهم بها! «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟! قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها! قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ- وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
ثم يصور لهم كيف تنحرف النفس- التي أخذ الله عليها العهد الذي أسلفنا- عن التوحيد الذي أقرت به فطرتها ويستنكر تصورات الشرك ومعبوداته ويوجه رسوله صلى الله عليه وسلم في نهاية هذه الفقرة إلى تحديهم وتحدي آلهتهم العاجزة:
«قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.(3/1252)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا، وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ»
..
ومن هنا إلى ختام السورة يتجه السياق إلى خطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما كان افتتاحها خطابا له- كيف يعامل الناس؟ كيف يمضي بهذه الدعوة؟ كيف يستعين على متاعب الطريق؟ كيف يكظم غضبه وهو يعاني من نفوس الناس وكيدهم؟ كيف يستمع هو والمؤمنون معه لهذا القرآن؟ كيف يذكر ربه ويبقى موصولا به؟ كما يذكره من عنده في الملأ الأعلى- سبحانه-:
«خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها! قُلْ: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ.. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ، وَيُسَبِّحُونَهُ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
ولعل هذا التلخيص، وهذه المقتطفات الكثيرة من السورة، أن تصور ملامحها الخاصة وتميزها عن أختها سورة الأنعام في هذه الملامح. وفي منهج العرض. مع معالجة موضوع واحد.. موضوع العقيدة..
وقد أرجأنا كل تفسير للنصوص، وكل تفصيل للموضوع الذي تحمله، إلى المواجهة التفصيلية.
.. فعلى بركة الله نمضي(3/1253)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
«المص» .. ألف. لام ميم. صاد..
هذا المطلع من الحروف المقطعة سبق الكلام عن نظائره في أول سورة البقرة «1» وفي أول سورة آل عمران «2» .
وقد اخترنا في تفسيرها الرأي القائل، بأنها حروف مقطعة يشير بها إلى أن هذا القرآن مؤلف من جنس هذه الأحرف العربية التي يستخدمها البشر، ثم يعجزهم أن يؤلفوا منها كلاماً كهذا القرآن. وأن هذا بذاته برهان أن هذا القرآن ليس من صنع البشر، فقد كانت أمامهم الأحرف والكلمات التي صيغ منها، فلم يستطيعوا أن يصوغوا منها قرآنا مثله. فلا بد من سر آخر وراء الأحرف والكلمات.. وهو رأي نختاره على وجه الترجيح لا الجزم. والله أعلم بمراده.
وعلى ذلك يصح القول بأن «المص» مبتدأ خبره: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» .. بمعنى أن هذه الأحرف وما تألف منها هي الكتاب.. كما يصح القول بأن «المص» مجرد إشارة للتنبيه على ذلك المعنى الذي رجحناه. و «كتاب» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو كتاب: أو هذا كتاب..
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير.. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة.. لا يدرك ذلك- كما قلنا في التعريف بالسورة- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف
__________
(1) ص 38 من الجزء الأول
(2) ص 364 من الجزء الثالث(3/1254)
وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة- صلى الله عليه وسلم- ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها..
وهذا الموقف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك، وما كان في الأرض من حولها..
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه! .. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة.. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة! .. إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها- وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة- وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول- صلى الله عليه وسلم- وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضاً! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
ويعلم- من طبيعة الواقع- من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار.
ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً..
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر وألا يكون في صدره حرج منه، وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق! انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء- حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين، المسلمين لله المخلصين له الدين- فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالماً آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت.
عالماً يعبد فيه الله وحده- بمعنى «العبادة» الشامل «1» - ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالماً يخرج الله فيه- من شاء- من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. عالماً يولد فيه «الإنسان» الحر الكريم النظيف.. المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير الله.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: «أشهد أن لا إله إلا الله» التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري- كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم- وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول
__________
(1) يراجع فصل «العبادة» في كتاب: «المصطلحات الأربعة في القرآن» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(3/1255)
إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته.. وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده.
ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله.
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد.. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية.
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلاً وهم الملحدون.. فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان! وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابا كثيرة. كما في الهند، وفي أواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.
وشيعة «أهل كتاب» من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله- لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع.
وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً! .. ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها «الرأسمالية» و «الاشتراكية» .. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها «الديمقراطية» و «الديكتاتورية» ... وما إليها. ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.
وشيعة تسمي نفسها «مسلمة» ! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه- حذوك النعل بالنعل! - خارجة من دين الله إلى دين العباد. فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية.. شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً.. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المسسلمة لاستهواء الشيطان في التيه! .. وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه! إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه.. إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد ... التي واجهها أول مرة.
إن الجاهلية حالة ووضع وليست فترة تاريخية زمنية.. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع.. إنها تقوم ابتداء على قاعدة: «حاكمية العباد للعباد» ، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد.. تقوم على أساس أن يكون «هوى الإنسان» في أية(3/1256)
صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون «شريعة الله» هي القانون المحكم.. ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها.. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وأن الإسلام اليوم متوقف عن «الوجود» مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تماما ويواجهون ما كان يواجهه- صلى الله عليه وسلم- تماماً، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله- سبحانه- له:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم- بجملتها- مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات «متخلفة» أو «رجعية» ! بمعنى أنها «رجعت» إلى الجاهلية، بعد أَن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية، وقيادتها في طريق التقدم و «الحضارة» بقيمها وموازينها الربانية.
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع- متمثلة في سيادة شريعته الربانية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد.
وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة- كما هي في ميزان الله- لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد..
لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد..
كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين! .. ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف..
أو بالاصطلاح الإسلامي: «مجتمع جاهلي مشرك» ! وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادراً من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً. أَو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً ربانياً مسلماً.. لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في «الإنسان» من خصائص- خصائص الروح والفكر- فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط.. فإنه يكون مجتمعا رجعيا متخلفا.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهلياً مشركاً..
ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في «الإنسان» .
فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر! ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة- وهي أسمى ما أكرمه الله به- أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض.. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها! وحين تكون «إنسانية الإنسان» هي القيمة العليا في مجتمع وتكون «الخصائص الإنسانية» فيه موضع(3/1257)
التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضراً متقدما.. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانياً مسلماً.. فأما حين تكون «المادة» - في أية صورة من صورها- هي القيمة العليا.. سواء في صورة «النظرية» كما في الماركسية، أو في صورة «الإنتاج المادي» كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية- وفي أولها القيم الأخلاقية- فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً جاهلياً مشركاً..
.. إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة لا في صورة «النظرية» باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ولا في صورة «الإنتاج المادي» والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه- كما سنرى في سياق هذه السورة- ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص «الإنسان» ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية.. الملحدة أو المشركة..
وحين تكون القيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» - كما هي في ميزان الله- هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً.. أو بالاصطلاح الإسلامي.. ربانياً مسلماً.. والقيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» ليست مسألة غامضة ولا مائعة وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال- كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنا لك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم.. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان «خصائص الإنسان» التي ينفرد بها دون الحيوان. وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً. وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان.. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها «التطوريون» ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية. ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية. ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها.. إنما تكون هناك فقط «قيم وأخلاق إنسانية» يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر. «وقيم وأخلاق حيوانية» - إذا صح هذا التعبير- يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية وقيم وأخلاق رجعية جاهلية! إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية- ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة- رذيلة أخلاقية! إن المفهوم «الأخلاقي» ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية- أحيانا في حدود مصلحة الدولة! - والكتّاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية! مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة- من وجهة النظر «الإنسانية» . وبمقياس خط التقدم الإنساني.. وهي كذلك غير إسلامية.. لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية(3/1258)
خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية..
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة، وإغراقها في الجاهلية.. من العقيدة إلى الخلق. ومن التصور إلى أوضاع الحياة.. ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة. ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله.. إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقاً ونظاماً.. إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة. وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه وربه- سبحانه- يخاطبه:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وفي الوقت الذي وجه الله- سبحانه- هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة- وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية- الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله. ذلك أن القضية في صميمها هي قضية «الاتباع» .. من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان:
«اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» .
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية.. إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه.. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة.. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟! وفي الخطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم- كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ..
وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .. فأما الرسول- صلى الله عليه وسلم- فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره.. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتاباً، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر..
ولأن المحاولة ضخمة.. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها بالله، وبالكون، وبالناس..
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو يمضي السياق فيهز الضمائر هزاً عنيفاً ويوقظ الأعصاب إيقاظاً شديداً ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجاً ويدفعها دفعاً.. وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا، ومصائرهم كذلك في الآخرة:(3/1259)
«وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.. فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَما كُنَّا غائِبِينَ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» ..
إن مصارع الغابرين خير مذكر، وخير منذر.. والقرآن يستصحب هذه الحقائق، فيجعلها مؤثرات موحية، ومطارق موقظة، للقلوب البشرية الغافلة.
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها. أهلكت وهي غارة غافلة. في الليل وفي ساعة القيلولة، حيث يسترخي الناس للنوم، ويستسلمون للأمن:
«وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» .
وكلتاهما.. البيات والقيلولة.. ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا.
وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط! ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار! «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ..
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! «إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» .. فياله من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك! إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟! وبينما المشهد معروض في الدنيا، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين وتكشف لهم الحق فعرفوه، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة. فإن الندم قد فات موعده، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب..
بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة.
بلا توقف ولا فاصل. فالشريط المعروض موصول المشاهد، والنقلة تتخطى الزمان والمكان، وتصل الدنيا بالآخرة، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة:
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَما كُنَّا غائِبِينَ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» ..
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي، خاصية من خواص القرآن.. إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة. وفي سطر من كتاب. لتلتحم الدنيا بالآخرة ويتصل البدء بالختام! فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون: «إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ..(3/1260)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
ولكنه السؤال الجديد، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود:
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ- وَما كُنَّا غائِبِينَ» .
فهو السؤال الدقيق الوافي، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين.. وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد وتفصل فيه الخفايا والدقائق! .. يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون. ويسأل الرسل فيجيبون. ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه! يقصه عليهم- سبحانه- بعلم فقد كان حاضراً كل شيء. وما كان- سبحانه- غائباً عن شيء.. وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير! «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» ..
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن ولا التلبيس في الحكم ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين..
«فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق. وجزاؤها إذن هو الفلاح.. وأي فلاح بعد النجاة من النار، والعودة إلى الجنة، في نهاية الرحلة المديدة، وفي ختام المطاف الطويل؟
«وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» ..
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ. وقد خسروا أنفسهم. فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه. فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله: «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» والظلم- كما أسلفنا- يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .
ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان- كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر «الإسلامي» ! .. فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل. مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء.. وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق.. من أن الحساب يومئذ بالحق، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة، وأن عملاً لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 25]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)(3/1261)
من هنا تبدأ الرحلة الكبرى.. تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض، كحقيقة مطلقة، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً.
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» :
إن خالق الأرض وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض. هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش..
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر، ودورتها حول الشمس، وميلها على محورها، وسرعة دورتها.. إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها.
وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً.. وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض، قادراً على تطويعها واستخدامها بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته..
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن «يقهر الطبيعة» كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة! إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة.. هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته وتصور الإنسان في معركة مع هذه(3/1262)
القوى- بجهده وحده- وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها «قهراً للطبيعة» في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني! إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة! لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة- كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلاً! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي- بزعمهم- التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق.. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعريف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته.. وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه.
ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة! وفي ظل هذا التصور يعيش «الإنسان» في كون مأنوس صديق وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة.. يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعريف إلى نواميسه.. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة.. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه.. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله! إن مأساة «الوجودية» الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث.. تصور الوجود الكوني- بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها- معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم.. وهما سواء..
وهي ليست مأساة «الوجودية» وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله- بكل مذاهبه واتجاهاته- بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها. المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة. التي تنشئ في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة.
إن «الإنسان» هو ابن هذه الأرض وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه الله من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده- حين يتعرف إليها على بصيرة- وتيسر حياته..
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون.. ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون.. وحتى الذين يعلمون لا يملكون(3/1263)
أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون: وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى:
«قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .
بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة.. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب، في رحاب الملأ الأعلى.. يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم زيادة في الحفاوة والتكريم. وتحتشد له الملائكة- وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس- وتشهده السماوات والأرض وما خلق الله من شيء.. إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود:
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. قالَ: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قالَ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. قالَ: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً، لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
هذا هو المشهد الأول.. وهو مشهد مثير.. ومشهد خطير.. ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء ونرجئ التعليق عليها، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها..
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» إن الخلق قد يكون معناه: الإنشاء. والتصوير قد يكون معناه: إعطاء الصورة والخصائص.. وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان.. فإن «ثم» قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للترقي المعنوي. والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود. فالوجود يكون للمادة الخامة ولكن التصوير- بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص- يكون درجة أرقى من درجات الوجود. فكأنه قال: إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجوداً ذا خصائص راقية. وذلك كقوله تعالى: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .
فإن كل شيء أعطي خصائصه ووظائفه وهُدِي إلى أدائها عند خلقه. ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها. والمعنى لا يختلف إذا كان معنى «هَدى» : هداه إلى ربه.
فإنه هُدي إلى ربه عند خلقه. وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه.. «وثم» .. للترقي في الرتبة، لا للتراخي في الزمن. كما نرجح.
وعلى أية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقياً في «وجود» الإنسان. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان. كما تقول الداروينية.
ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً- بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء- هو مجرد نظرية «ظنية» وليست «يقينية» لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس(3/1264)
إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها! على أنه- على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور- ليس هناك ما يمنع من وجود «أنواع» من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض بفعل الظروف السائدة في الأرض، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة. ولكن هذا لا «يحتم» أن يكون بعضها «متطورا» من بعض.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا.. لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به- أن هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية- وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها- ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا.. وهذا يمكن تعليله كما قلنا.. بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى فانقرض.
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع، وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية وتفرد «الإنسان» من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون- وفيهم الملحدون بالله كلية- للاعتراف به، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي «1» ! على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني في حفل حافل من الملأ الأعلى:
«ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا. إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» ..
والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم- وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال «2» - وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة. لقوله تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» .. والجن خلق غير الملائكة، لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره- وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضاً «3» - وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار. فهو من غير الملائكة قطعاً. وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة.
في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل، ميلاد هذا الكائن الفريد..
فأما الملائكة- وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون- فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله، لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير.. هذه طبيعتهم، وهذه خصائصهم: وهذه وظيفتهم.. وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله، كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله.
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله- سبحانه- وعصاه. وسنعلم: ما الذي حاك في صدره، وما التصور
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «حقيقة الحياة» وفصل «حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .
(2) ص 1041- 1044 الجزء السابع
(3) ص 1208- 1209: الجزء الثامن(3/1265)
الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه. وهو يعرف أنه ربه وخالقه، ومالك أمره وأمر الوجود كله لا يشك في شيء من هذا كله! وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله: نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق. ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت.. وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية. وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء.
فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق. وأما الطبيعتان الأخريان، فسنعرف كيف تتجهان.
«قالَ: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» .
لقد جعل إبليس له رأياً مع النص. وجعل لنفسه حقاً في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر.. وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر، ويبطل التفكر وتتعين الطاعة، ويتحتم التنفيذ.. وهذا إبليس- لعنه الله- لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره.. ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه.. بمنطق من عند نفسه:
«قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ..
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه:
«قالَ: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» ..
إن علمه بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه.. وكذلك كل من يتلقى أمر الله ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل يرد بها قضاء الله في هذه القضية.. إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد. فإبليس لم يكن ينقصه العلم، ولم يكن ينقصه الاعتقاد! لقد طرد من الجنة، وطرد من رحمة الله، وحقت عليه اللعنة، وكتب عليه الصغار.
ولكن الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم.
ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تمحضت فيه:
«قالَ: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» ..
فهو الإصرار المطلق على الشر، والتصميم المطلق على الغواية.. وبذلك تتكشف هذه الطبيعة عن خصائصها الأولى.. شر ليس عارضاً ولا وقتياً. إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد..
ثم هو التصوير المشخص للمعاني العقلية والحركات النفسية، في مشاهد شاخصة حية:
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث. وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلاّ بإرادة الله وقدره.
ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار، ولكن إلى «يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» كما جاء في السورة الأخرى. وقد وردت الروايات: أنه يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض- إلا من شاء الله- لا يوم يبعثون..
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث- وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل- أنه سيرد على تقدير الله له الغواية(3/1266)
وإنزالها به، بسبب معصيته وتبجحه بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه:
« ... لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» ..
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه- والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً، فالله سبحانه جل عن التحيز، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله- وإنه سيأتي البشر من كل جهة: «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» .. للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة.. وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب:
«وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» ..
ويجيء ذكر الشكر، تنسيقاً مع ما سبق في مطلع السورة: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .. لبيان السبب في قلة الشكر وكشف الدافع الحقيقي الخفي، من حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليه! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين! لقد أجيب إبليس إلى ملتمسه. لأن مشيئة الله- سبحانه- اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر وبما وهبه من عقل مرجح وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل ومن الضبط والتقويم بهذا الدين. كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية وأن يصطرع في كيانه الخير والشر وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين، فتحق عليه سنة الله وتتحقق مشيئته بالابتلاء. سواء اهتدى أو ضل، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة، تحقق الهدى أو الضلال.
ولكن السياق هنا لا يصرح بترخيص الله- سبحانه- لإبليس- عليه اللعنة- في إيعاده هذا الأخير، كما صرح بإجابته في إنظاره. إنما يسكت عنه، ويعلن طرد إبليس طرداً لا معقب عليه. طرده مذموماً مقهوراً، وإبعاده بملء جهنم منه وممن يتبعه من البشر ويضل معه:
«قالَ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
ومن يتبعه من البشر قد يتبعه في معرفته بالله واعتقاده بألوهيته، ثم في رفض حاكمية الله وقضائه، وادعاء أن له الحق في إعادة النظر في أوامر الله، وفي تحكيم منطقه هو في تنفيذها أو عدم تنفيذها.. كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً.. وهذا وذلك كلاهما اتباع للشيطان جزاؤه جهنم مع الشيطان! لقد جعل الله- سبحانه- لإبليس وقبيله فرصة الإغواء. وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقاً للابتلاء، الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن وتجعله به خلقاً متفرداً في خصائصه، لا هو ملك ولا هو شيطان.
لأن له دوراً آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان.
وينتهي هذا المشهد، ليتلوه مشهد آخر في السياق:
ينظر الله- سبحانه- بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة- إلى آدم وزوجه.. وهنا فقط نعرف أن له زوجاً من جنسه، لا ندري كيف جاءت. فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا(3/1267)
الغيب بشيء. وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه، فصارا زوجين اثنين والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .. فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة. وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلاً بعد خلق آدم، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم..
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن. وهو دور الخلافة في الأرض- كما صرح بذلك في آية البقرة: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ..
«وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ..
ويسكت القرآن عن تحديد «هذه الشجرة» . لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها. مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود.. لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور. ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان، فهذه هي خاصية «الإنسان» التي يفترق بها عن الحيوان، ويتحقق بها فيه معنى «الإنسان» .
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له..
إن هذا الكائن المتفرد الذي كرمه الله كل هذا التكريم والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب والذي أسجد له الملائكة فسجدوا والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى.. إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة مستعد للاتجاهين على السواء. وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها- ما لم يلتزم بأمر الله فيها- ومن هذه النقط تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه.. إن له شهوات معينة.. ومن شهواته يمكن أن يقاد «1» ! وراح إبليس يداعب هذه الشهوات:
«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ، أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» ..
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه. ولكننا نعلم- بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب- أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات. وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان. وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير..
وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.. فهذا كان هدفه.. لقد كانت لهما سوآت، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها- وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية، فكأنها عوراتهما- ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة:
__________
(1) راجع «قصة آدم» في كتاب: «منهج الفن الإسلامي» تأليف محمد قطب. «دار الشروق» .(3/1268)
«وَقالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» ..
بذلك داعب رغائب «الإنسان» الكامنة.. إنه يجب أن يكون خالداً لا يموت أو معمراً أجلا طويلا كالخلود! ويجب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد..
وفي قراءة: «ملكين» بكسر اللام. وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» .. وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال: إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل- وعلى قراءة «ملكين» بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.. ولكن القراءة الأولى- وإن لم تكن هي المشهورة- أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة.
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته فقد استعان على زعزعته- إلى جانب مداعبة شهواتهما- بتأمينهما من هذه الناحية فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق:
«وَقاسَمَهُما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» ..!
ونسي آدم وزوجه- تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر- أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير! وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه! نسيا هذا كله، واندفعا يستجيبان للإغراء! «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ، وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟» ..
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة. لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا:
«فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» ! ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما. فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض «يخصفان» ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما- مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية! «وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ، وَأَقُلْ لَكُما: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟» ..
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة.. أما كيف كان النداء وكيف سمعاه، فهو كما خاطبهما أول مرة. وكما خاطب الملائكة. وكما خاطب إبليس. كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع. وأن الله يفعل ما يشاء.
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد.. إنه ينسى ويخطئ. إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان. إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً.. ولكنه يدرك خطأه ويعرف زلته ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة.. إنه يثوب ويتوب ولا يلح كالشيطان في المعصية، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية!(3/1269)
«قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
إنها خصيصة «الإنسان» التي تصله بربه، وتفتح له الأبواب إليه.. الاعتراف، والندم، والاستغفار، والشعور بالضعف، والاستعانة به، وطلب رحمته. مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته..
وإلا كان من الخاسرين..
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد- بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة- لمزاولة اختصاصه في الخلافة وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه..
«قالَ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ: فِيها تَحْيَوْنَ، وَفِيها تَمُوتُونَ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ» ..
وهبطوا جميعاً.. هبطوا إلى هذه الأرض.. ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟ .. هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده.. وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة. وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم و «علمهم» الظني هو تبجح. فهذا «العلم» يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة. ويتبجح حين ينفي الغيب كله، والغيب محيط به في كل جانب، والمجهول في «المادة» التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات «1» ! لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض.. آدم وزوجه، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً، وليعادي بعضهم بعضاً ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين: إحداهما ممحضة للشر، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء.
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا ثم يخرجوا منها فيبعثوا.. ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره، في نهاية الرحلة الكبرى..
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه. وينهزم فيها ما تولى عدوه.
وبعد فإنها ليست قصة! إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته، والعوالم المحيطة به، والقدر الذي يصرف حياته، والمنهج الذي يرضاه الله له، والابتلاء الذي يصادفه، والمصير الذي ينتظره..
وكلها حقائق تشارك في تقرير «مقومات التصور الإسلامي» ..
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال، ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» ..
إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية، هي- كما قلنا من قبل- التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني. والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان والذي يجعل هذه النشأة قدراً مرسوماً لا فلتة عارضة، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة.
__________
(1) يراجع في الجزء السابع تفسير قوله تعالى: «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» .. ص 1111- 1121(3/1270)
والذين لا يعرفون الله سبحانه، ولا يقدرونه حق قدره، يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة.
فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقاً من مخلوقات هذه الأرض. ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون. قالوا: إنه ليس من «المعقول» ! أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون! وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة، وأن الكون من حوله معادٍ لنشأته ونشأة الحياة جملة! .. وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة! وحقاً لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض، ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها! لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره، والتنسيق بين جميع الأشياء فيه.. غير أن الله- سبحانه- هو الله! هو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. هو صاحب هذا الملك الكبير الذي لا يقوم شيء منه إلا برعايته كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته.. إنما آفة هذا الإنسان، حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه- ولو كان يسميه علماً! - أن ينسى أنه الله. ويتصوره- سبحانه- على هواه! ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة! ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة! يقول سير جيمس جينز- كمثل على التصورات البشرية الضالة الكثيرة- في كتاب: «الكون الغامض» :
«ونحن إذ نقف على أرضنا- تلك الحبيبة الرملية المتناهية في الصغر- نحاول أن نكشف عن طبيعة الكون الذي يحيط بموطننا في الفضاء والزمن، وعن الغرض من وجوده، نحس في أول الأمر بما يشبه الذعر والهلع. وكيف لا يكون الكون مخيفاً مرعباً، وهذه أبعاده هائلة لا تستطيع عقولنا إدراك مداها؟ وقد مرت عليه أحقاب طويلة لا يمكن تصورها؟ ويتضاءل إلى جانبها تاريخ الإنسان حتى يبدو وكأنه لمح البصر؟ ..
وهو مخيف مرعب لما نشعر به من وحدة مرهوبة، وما نعلمه من ضآلة موطننا في الفضاء. ذلك الموطن الذي لا يزيد على جزء من مليون جزء من إحدى حبيبات الرمال التي في بحار العالم! .. ولكن أخوف ما يُخاف العالم من أجله: أنه لا يُعنى- كما يلوح- بحياة مثل حياتنا. وكأن عواطفنا ومطامعنا وأعمالنا وفنوننا وأدياننا كلها غريبة عن نظامه وخطته. وقد يكون من الحق أن نقول: إن بينه وبين حياة كحياتنا عداء قوياً. ذلك بأن الفضاء في أكثر أجزائه بارد إلى حد تتجمد فيه كل أنواع الحياة.. كما أن أكثر المادة التي في الفضاء تبلغ من الحرارة حداً يجعل الحياة فيه مستحيلة وأن الفضاء تذرعه إشعاعات مختلفة الأنواع، لا تنفك تصدم ما فيه من أجرام فلكية وقد يكون كثير من هذه الإشعاعات معادياً للحياة أو مبيداً لها.
«هذا هو الكون الذي ألقت بنا فيه الظروف. وإذا لم يكن حقاً أن ظهورنا حدث بسبب غلطة وقعت فيه، فلا أقل من أن يكون نتيجة لما يصح أن يوصف بحق أنه مصادفة!» .
وقد بينا من قبل أن افتراض عداء الكون لنشأة الحياة مع افتراض عدم وجود تقدير وتدبير من قوة مهيمنة..
ثم وجود الحياة بعد ذلك فعلاً.. أمور لا يتصورها عقل عاقل! فضلاً على أن يكون عقل عالم! وإلا فكيف أمكن ظهور الحياة في الكون المعادي لها مع افتراض عدم وجود قوة مهيمنة مقدِّرة! هل الحياة أقوى من الكون بحيث تظهر رغم أنفه؟! ورغم عدائه لها بطبيعة تكوينه؟! هل هذا الكائن الإنساني مثلاً- قبل أن ينشأ- أقوى من هذا الكون الموجود فعلاً، ومن ثم طلع هكذا في الكون، وأنف الكون راغم؟! إنها تصورات لا تستحق عناء النظر! ولو أن هؤلاء «العلماء» يكتفون بأن يقولوا لنا فقط ما تصل إليه وسائلهم من وصف الموجودات، دون أن يدخلوا في أمثال هذه التخرصات «الميتافيزيقية» التي لا تستند على(3/1271)
أساس، لأدوا دورهم- ولو ناقصاً- في تعريف الناس بالكون من حولهم! ولكنهم يتجاوزون دائرة المعرفة المأمونة إلى تيه الفروض والظنون، بلا دليل إلا الهوى الإنساني الصغير! ونحن- بحمد الله وبهداه- ننظر إلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه سير جيمس جينز! إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارئ هذا الكون ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه ونشعر بالطمأنينة والأنس، لهذا الكون الصديق، الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق.. وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته ولكننا لا نفزع ولا نجزع، ولا نشعر بالضياع، ولا نتوقع الهلاك.. فإن ربنا وربه الله..
ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا.. ونرجو أن نكون من الشاكرين:
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ..
والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية: هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية وضخامة دوره المنوط به وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها وتنوع العوالم التي يتعامل معها- في حدود عبوديته لله وحده- مما يتناقض تماماً مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدر قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية. ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل خصائصه الإنسانية المتميزة أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقاً في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه! .. إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد، لا تجعل من الإنسان «إلهاً» كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول «1» . إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم.
لقد أُعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد، الذي نرجح من مجموعة النصوص القرآنية- ولا نجزم- أن نشأته كانت مستقلة- أعلن هذا الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى. وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله.. وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيداً وإعداداً لهذه الخلافة. كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة، أن الله جعل هذا الكون- لا الأرض وحدها- عوناً له في هذه الخلافة. وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه..
وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له. فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه- أياً كان حجم هذا الكوكب- إنها لأمر عظيم! والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها، ولكن في الكون كله. فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لا يعلمه إلا الله من الخلق لها وظائف أخرى، كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف. وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه. يدل على ذلك قول الله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» .. وإذن فهو متفرد في الكون كله بخصائص.. ومنها الظلم والجهل! إلى جانب الاختيار النسبي والاستعداد للمعرفة المترقية، والإرادة الذاتية. والمقدرة على العدل والعلم، بقدر
__________
(1) يراجع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الأول. «دار الشروق» .(3/1272)
المقدرة على الظلم والجهل! .. فهذا الازدواج ذاته هو ميزته التي تفرده.
كل أولئك يلغي تلك النظرة للإنسان القائمة على صغر حجم الكوكب الذي يعيش عليه بالقياس إلى أحجام الكون الهائلة. فالحجم ليس هو كل شيء. وخصيصة العقل القابل للمعرفة، والإرادة القابلة للاستقلال- في حدود العبودية لله- والاختيار والترجيح الذاتي.. كل أولئك يفوق في قيمته، الحجم الذي يقيم عليه سير جيمس جينز وأمثاله نظرتهم إلى قيمة الإنسان ودوره.
هذه الأهمية التي تخلعها القصة ومجموع النصوص القرآنية على هذا الكائن الإنساني لا تقتصر على دوره في خلافة الأرض، بهذه الخصائص المتفردة ولكن صورتها تكمل بتأمل الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها، والعوالم التي يتعامل معها.
إنه يتعامل تعاملاً مباشراً مع ربه الجليل سبحانه! هو الذي أنشأه بيده، وأعلن ميلاده في الملأ الأعلى وفي الوجود كله بنطقه، وخوله الجنة يأكل منها حيث يشاء- إلا الشجرة المحظورة- ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره وعلمه أساس المعرفة- كما في آية البقرة «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» - وهو ما نرجح أنه القدرة على الرمز باللفظ والاسم للمدلول والمسمى، وهو القاعدة التي يقوم عليها إمكان تبادل المعرفة وتعميمها في الجنس كله- كما قلنا في سورة البقرة «1» - وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها، وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تفرد جنسه بخصائصه، وأرسل له الرسل- منه- بهداه وكتب على نفسه الرحمة أن يقيل عثرته ويقبل توبته.. إلى آخر نعمة الله على هذا الكائن المتفرد في الكون كله.
ثم هو يتعامل مع الملأ الأعلى.. أسجد الله له الملائكة، وجعل منهم حفظة عليه، كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه، وأنزلهم على الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا يثبتونهم ويبشرونهم، وعلى المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك، وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم منهم في تأنيب وتعذيب.. إلى آخر ما بين الملائكة والإنسان من تعامل. في الدنيا وفي الآخرة كذلك.
ويتعامل مع الجن: صالحيهم وشياطينهم.. وقد شهدنا منذ لحظات تشخيص المعركة الأولى بينه وبين الشيطان. وهي معركة ممتدة إلى يوم الوقت المعلوم. كما أن تعامله مع صالحي الجن مذكور في نصوص قرآنية أخرى. وتسخير الجن أحياناً له ثابت كما في قصة سليمان عليه السلام.
كذلك هو يتعامل مع هذا الكون المادي- وبخاصة الأرض والكواكب والنجوم القريبة منها- وهو الخليفة في هذه الأرض عن الله المسخرة له قواها وطاقاتها وأرزاقها ومدخراتها، وعنده الاستعداد اللدني لفتح بعض مغاليق أسرارها، والتعرف إلى بعض نواميسها التي تعينه معرفتها على أداء دوره العظيم.. ومن ثم يتعامل كذلك مع جميع الأحياء فيها.. وأخيراً فإنه بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك في مجال بعيد الآماد من نفسه ذاتها! إنه يعرج إلى السماوات العلى ويتجاوز مراتب الملائكة، حين يخلص عبوديته لله ويترقى فيها إلى منتهاها. كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة حين يتخذ إلهه هواه ويتخلى عن خصائص «إنسانيته» ويتمرغ في الوحل الحيواني.. وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السماوات والأرض في عالم الحس وأبعد مدى! وليس هذا كله لغير الإنسان كما تلهمه هذه القصة وبقية النصوص الأخرى..
__________
(1) الجزء الأول ص 57.(3/1273)
والحقيقة الثالثة: أن هذا الكائن- على كل تفرده هذا أو بسبب تفرده هذا- ضعيف في بعض جوانب تكوينه، حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل، من خطام شهواته.. وفي أولها ضعفه تجاه حبِّ البقاء، وضعفه تجاه حب الملك.. وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه، في جهد ناصب، لا يكل ولا يدع وسيلة من الوسائل! وقد اقتضت رحمة الله به- من ثم- ألا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده، وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير- كما سيجيء في آية تالية في معرض التعقيب على القصة- وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له ... النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله. والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه..
وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته.. وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض «المحظور» عليه لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف. وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى، فقد كانت هذه التجربة رصيداً له فيما سيأتي! ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة. فإذا نسي ثم تذكر وإذا عثر ثم نهض وإذا غوى ثم تاب.. وجد الباب مفتوحاً له، وقبل الله توبته، وأقال عثرته. فإذا استقام على طريقه بدل الله سيئاته حسنات، وضاعف له ما شاء. ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته.
فليست هنالك خطيئة أبدية. وليست هنا لك خطيئة موروثة- ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية والتي يقوم عليها ركام هائل من الطقوس والتشكيلات فوق ما يقوم فوقها من الأساطير والخرافات.. خطيئة آدم التي تلازم البشرية كاللعنة المصلتة على الرقاب! حتى يتمثل الإله في صورة ابن الإنسان (المسيح) ويصلب ويحتمل العذاب للتكفير عن هذه الخطيئة الموروثة ومن ثم يكتب (الغفران) لمن يتحد بالمسيح الذي كفر بدمه عن خطيئة آدم التي ورثتها البشرية! إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير.. لقد نسي آدم وأخطأ.. ولقد تاب واستغفر. ولقد قبل الله توبته وغفر له.. وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى. ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى..
أية بساطة! وأي وضوح! وأي يسر في هذه العقيدة! والحقيقة الرابعة: هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها، واستمرارها وضراوتها..
لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، وعلى اتباعه في كل ساعة ولحظة:
«قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» ..
لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد، وأن يُنظر لمزاولته على المدى الطويل.. اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة! ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله لا يمكنهم من سلوكه وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه.(3/1274)
وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة. ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوِّي بالإيمان والذكر والتقوِّي على إغوائه ووسوسته، والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله.
والمعركة مع الشيطان هي المعركة الرئيسية. إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى. والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة. والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض.. والمعركة في الضمير والمعركة في الحياة الواقعية متصلتان لا منفصلتان. فالشيطان وراءهما جميعاً! والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها وقيمها وموازينها، وتستبعد حاكمية الله وشرعه والقيم والموازين المنبثقة من دينه.. إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن. والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه. وليست بعيدة عنها.
وهكذا تتركز المعركة الكبرى الطويلة الضارية في المعركة مع الشيطان ذاته. ومع أوليائه. ويشعر المسلم وهو يخوض المعركة مع هواه وشهواته وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم.. يشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك كلها، أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية، لأن عدوه فيها مصرٌّ ماض في طريقه.. وأن الجهاد- من ثم- ماض إلى يوم القيامة. في كل صوره ومجالاته.
وأخيراً فإن القصة والتعقيبات عليها- كما سيجيء- تشير إلى شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته.
وهو الحياء من التعري وانكشاف سوأته:
«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ، لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما» ..
«فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» ..
«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ، وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» ..
«يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» ..
وكلها توحي بأهمية هذه المسألة، وعمقها في الفطرة البشرية. فاللباس، وستر العورة، زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية. كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية.
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها.. والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله ومن الناس والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة- في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة- هم الذين يريدون سلب «الإنسان» خصائص فطرته، وخصائص «إنسانيته» التي بها صار إنساناً. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته! وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة. وقد فقدت مقوماتها الإنسانية! إن العري فطرة حيوانية. ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان. وإن رؤية العري جمالاً هو انتكاس في الذوق البشري قطعاً. والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة. والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة! فأما في الجاهلية الحديثة «التقدمية» فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى «الحضارة»(3/1275)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها.
والعري النفسي من الحياء والتقوى- وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية. وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس «1» ! وقصة النشأة الإنسانية في القرآن توحي بهذه القيم والموازين الأصيلة وتبينها خير بيان.
والحمد لله الذي هدانا إليه وأنقذنا من وسوسة الشيطان ووحل الجاهلية!!!
[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 34]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
هذه وقفة من وقفات التعقيب في سياق السورة. وهي وقفة طويلة بعد المشهد الأول في قصة البشرية الكبرى. وفي سياق السورة وقفات كهذه عند كل مرحلة. كأنما ليقال: قفوا هنا نتدبر ما في هذه المرحلة من عبرة قبل أن نمضي قدماً في الرحلة الكبرى!
__________
(1) يراجع ما سبق في هذا الجزء عن معنى الحضارة في تفسير قوله تعالى: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ص 1259(3/1276)
وهي وقفة في مواجهة المعركة التي بانت طلائعها بين الشيطان والبشرية. وقفة للتحذير من أساليب الشيطان ومداخله ولكشف خطته ما كان منها وما يكون متمثلاً في صور وأشكال شتى..
ولكن المنهج القرآني لا يعرض توجيهاً إلا لمواجهة حالة قائمة ولا يقص قصصاً إلا لأن له موقعاً في واقع الحركة الإسلامية.. إنه كما قلنا لا يعرض قصصاً لمجرد المتاع الفني! ولا يقرر حقيقة لمجرد عرضها النظري..
إن واقعية الإسلام وجديته تجعلان توجيهاته وتقريراته، لمواجهة حالات واقعة بالفعل في مواجهة الحركة الإسلامية.
وقد كان واقع الجاهلية العربية هو الذي يواجهه التعقيب هنا عقب المرحلة الأولى من قصة البشرية الكبرى..
كانت قريش قد ابتدعت لنفسها حقوقاً على بقية مشركي العرب الذين يفدون لحج بيت الله- الذي جعلوه بيتاً للأصنام وسدنتها! - وأقامت هذه الحقوق على تصورات اعتقادية زعمت أنها من دين الله وصاغتها في شرائع، زعمت أنها من شرع الله! وذلك لتخضع لها أعناق المشركين كما يصنع السدنة والكهنة والرؤساء في كل جاهلية على وجه التقريب.. وكانت قريش سمت نفسها اسماً خاصاً وهو «الحُمس» وجعلوا لأنفسهم حقوقاً ليست لسائر العرب. ومن هذه الحقوق- فيما يختص بالطواف بالبيت- أنهم هم وحدهم لهم حق الطواف في ثيابهم. فأما بقية العرب فلا تطوف في ثياب لبستها من قبل. فلا بد أن تستعير من ثياب الحمس للطواف أو تستجد ثياباً لم تلبسها من قبل وإلا طافوا عرايا وفيهم النساء! قال ابن كثير في التفسير: (كانت العرب- ما عدا قريشاً- لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها! وكانت قريش- وهم الحمس- يطوفون في ثيابهم.
ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ومن معه ثوب جديد طاف فيه. ثم يلقيه فلا يتملكه أحد! ومن لم يجد ثوباً جديداً، ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً! وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر.. وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل. وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» .. فقال تعالى رداً عليهم: «قل» .
أي يا محمد لمن ادعى ذلك. «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك. «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.
وقوله تعالى: «قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» .. أي بالعدل. والاستقامة: «وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» .. أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاءوا به من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته. فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: (أي أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك) .
ففي مواجهة هذا الواقع الجاهلي في شؤون التشريع للعبادة والطواف واللباس- مضافاً إليه ما يختص بتقاليد كهذه في الطعام يزعمون أنها من شرع الله وليست من شرع الله- في مواجهة هذا الواقع جاءت تلك التعقيبات على قصة البشرية الأولى. وجاء ذكر الأكل من ثمر الجنة- إلا ما حرم الله- وجاء ذكر اللباس خاصة، ونزع الشيطان له عن آدم وزوجه بإغوائه لهما بتناول المحظور وجاء ذكر حيائهما الفطري من كشف السوآت، وخصفهما على سوآتهما من ورق الجنة..
فما ذكر من أحداث القصة، وما جاء في التعقيب الأول عليها، هو مواجهة واقعية لواقع معين في الجاهلية..(3/1277)
والقصة تذكر في مواضع أخرى من القرآن، في سور أخرى، لمواجهة حالات أخرى، فتذكر منها مواقف ومشاهد، وتذكر بعدها تقريرات وتعقيبات تواجه هذه الحالات الأخرى.. وكله حق.. ولكن تفصيل القرآن لمواجهة الواقع البشري هو الذي يقتضي هذا الاختيار والتناسق. بين حلقات القصص المعروض في كل معرض، وطبيعة الجو والموضوع في كل معرض «1» .
«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً. وَلِباسُ التَّقْوى، ذلِكَ خَيْرٌ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» ..
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة.. مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة.. لقد كان هذا ثمرة للخطيئة.. والخطيئة كانت في معصية أمر الله، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله.. وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير (الكتاب المقدس!) والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات «فرويد» المسمومة.. لم تكن هي الأكل من «شجرة المعرفة» - كما تقول أساطير العهد القديم. وغيرة الله- سبحانه وتعالى- من «الإنسان» وخوفه- تعالى عن وصفهم علواً كبيراً- من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة! كما تزعم تلك الأساطير «2» .
ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي! ..
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم، وشرع لهم كذلك، اللباس الذي يستر العورات المكشوفة، ثم يكون زينة- بهذا الستر- وجمالاً، بدل قبح العري وشناعته- ولذلك يقول:
«أنزلنا» أي: شرعنا لكم في التنزيل. واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي. والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به، وهو ظاهر الثياب. كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال.. وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة:
«يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» ..
كذلك يذكر هنا «لباس التقوى» ويصفه بأنه «خير» :
«وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ.» ..
قال عبد الرحمن بن أسلم: (يتقي الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى) ..
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة، وبين التقوى.. كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه. وذاك يستر عورات الجسم ويزينه. وهما متلازمان. فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.. العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة! إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي- كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم
__________
(1) يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق» .
(2) يراجع فصل: «تيه وركام» في القسم الأول من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .(3/1278)
لتدمير إنسانيتهم، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون- إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق.
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل:
«لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» ..
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي- باسم الزينة والحضارة والمودة! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم، والتعجيل بانحلالهم، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس! فحتى هذه توجه لها معاول السحق، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان! والزينة «الإنسانية» هي زينة الستر، بينما الزينة «الحيوانية» هي زينة العري.. ولكن «الآدميين» في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة. فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها!!! «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما، إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها. قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قُلْ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ، وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» ..
إنه النداء الثاني لبني آدم، في وقفة التعقيب على قصة أبويهم، وما جرى لهما مع الشيطان وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما، بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما.
وهذا النداء يصبح مفهوماً بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف بالبيت وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه! لقد كان النداء الأول تذكيراً لبني آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة والرياش الذي يتجمل به.. أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة. أن يستسلموا للشيطان، فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد فيسلمهم إلى الفتنة- كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما- فالعري والتكشف الذي يزاولونه- والذي هو طابع كل جاهلية قديماً وحديثاً- هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية، وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه. فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم وأن ينتصر في هذه المعركة، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف! «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» .
وزيادة في التحذير، واستثارة للحذر، ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم.(3/1279)
وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط، وإلى مضاعفة اليقظة، وإلى دوام الحذر، كي لا يأخذهم على غرة:
«إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» ..
ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي.. إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.. ويا ويل من كان عدوه وليه! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء، بلا عون ولا نصير، ولا ولاية من الله:
«إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وإنها لحقيقة.. أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون كما أن الله هو ولي المؤمنين.. وهي حقيقة رهيبة، ولها نتائجها الخطيرة.. وهي تذكر هكذا مطلقة ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة فنرى كيف تكون ولاية الشيطان وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم.. وهذا نموذج منها:
«وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» ..
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام- وفيهم النساء! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها. فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها! وهم- على شركهم- لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول: ما للدين وشؤون الحياة؟
وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله! إنما كانوا يفترون الفرية، ويشرعون الشريعة، ثم يقولون: الله أمرنا بها! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله.. ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله! والله- سبحانه- يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها:
«قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» :
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً- والفاحشة: كل ما يفحش أي يتجاوز الحد- والعري من هذه الفاحشة، فالله لا يأمر به. وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء. إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله.
وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه. وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله. فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله..
وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه، وهو يزعم أنه دين الله!! إن الجاهلية هي الجاهلية. وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة. وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً وتسود فيهم تصورات متشابهة، على تباعد الزمان والمكان.. وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول: شريعة الله! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أو امر الدين ونواهيه المنصوص عليها، وهو يقول: إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك،.. وحجته هي هواه!!! «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..(3/1280)
وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد..
لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز. وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله- صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل المسألة فوضى، يقول فيها كل إنسان بهواه، ثم يزعم أنه من الله. وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له، والعبودية كاملة فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته:
«قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ، وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» ..
هذا ما أمر الله به، وهو يضاد ما هم عليه.. يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم، مع دعواهم أن الله أمرهم بها.. ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك.. ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم..
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء وبمشهدهم في العودة وهم فريقان: الفريق الذي اتبع أمر الله، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان:
«كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» ..
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية. نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء:
«كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» ..
وقد بدأوا الرحلة فريقين: آدم وزوجه. والشيطان وقبيله.. وكذلك سيعودون.. الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله.. والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ الله منهم جهنم، بولائهم لإبليس وولايته لهم. وهم يحسبون أنهم مهتدون.
لقد هدى الله من جعل ولايته لله. وأضل من جعل ولايته للشيطان.. وهاهم أولاء عائدين فريقين:
«فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» .
هاهم أولاء عائدين. في لمحة تضم طرفي الرحلة! على طريقة القرآن، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن! ثم يتكرر النداء إلى «بني آدم» في هذه الوقفة كذلك قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة في الطريق المرسوم:
«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..(3/1281)
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى..
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على الله ما لا يعلم، ويزعم من ذلك ما يزعم.
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله، بل أنعم به على العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم، لا نجلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه:
«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» ..
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف:
«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» .
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب. وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك! في صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال: «كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت. كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس يبلغون عرفات. ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا.
فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عرياناً وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى» ..
وجاء في تفسير القرطبي المسمى «أحكام القرآن» : «وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَلا تُسْرِفُوا» أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم» .. والإسراف يكون بتجاوز الحد، كما قد يكون بتحريم الحلال. كلاهما تجاوز للحد. هذا باعتبار، وذاك باعتبار.
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب.
بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده، وتحريم الطيبات من الرزق. فمن المستنكر أن يحرم أحد- برأيه- ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات. فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله:
«قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» ؟
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس، وهذه الطيبات من الرزق، هي حق للذين آمنوا- بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم- ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا:
«قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..(3/1282)
ولن يكون الشأن كذلك، ثم تكون محرمة عليهم فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام! «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .
والذين «يعلمون» حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان.
فأما الذي حرمه الله حقاً، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس، وليس هو الطيب من الطعام والشراب- في غير سرف ولا مخيلة- إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً! «قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ- ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ- وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
هذا هو الذي حرمه الله. الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله. ظاهرة للناس أو خافية. والإثم.
وهو كل معصية لله على وجه الإجمال. والبغي بغير الحق. وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل- كما بينهما الله أيضاً- وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله- سبحانه- في خصائصه. ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية، وهو الواقع في كل جاهلية. من إشراك غير الله ليشرع للناس ويزاول خصائص الألوهية.
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم. ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين..
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ..» ما رواه الكلبي قال:
«لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها.. فنزلت الآية..»
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون ببيت الله عرايا فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» .. فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة الله التي أنعم بها على البشر لإرادته بهم الكرامة والستر ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني.. الجسمي والنفسي.. إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله «عيروهم» ! إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس.. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟! ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن «رجعيات» .
«تقليديات» . «ريفيات» ! المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح.. «أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!» .
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله؟(3/1283)
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم، لضمان السيادة لها في الجزيرة.. ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء.. فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك.. ولا يملكون لأمرهم رداً..
إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة.. تطيع تلك الأرباب. وإلا «عيرت» من بقية البهائم المغلوبة على أمرها! ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة.. وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة؟! من الذي يقبع وراء هذا كله؟
الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها، في العالم كله.. يهود..
يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان.. أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه! إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة.. ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق.
إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى:
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة.
كذلك تتعلق بإبراز خصائص «الإنسان» في الجنس البشري، وتغليب الطابع «الإنساني» في هذا الجنس على الطابع الحيواني.
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق. وتجعل العري- الحيواني- تقدماً ورقياً. والستر- الإنساني- تأخراً ورجعية! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان.
وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ ما للدين والتجميل؟ ..
إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان!!! ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية، لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولاً بقضية التوحيد والشرك ولارتباطها ثانياً بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله..
فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة.. إنه يعقب بتنبيه بني آدم،(3/1284)
إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون:
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» .
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة- غير الذاكرة ولا الشاكرة- لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة! والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها.. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون.
وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لا حظناه من التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم- في سورة الأنعام- «1» ومواجهته للجاهلية- هنا في شأن اللباس والطعام..
ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار، بدأ أولاً بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلاً من هذه التقاليد وعما تزعمه- افتراء على الله- من أن هذا الذي تزاوله هو من شرع الله. ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن الله حرم هذا الذي يحرمونه، وأحل هذا الذي يحلونه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر الله وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهية: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ! كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ: قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه، قال لهم: تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم الله عليكم وحقيقة ما أمركم به: عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن والذي لا يجوز الأخذ عن غيره: «قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.. الخ» ..
وهنا كذلك سار على نفس النسق، وعلى ذات الخطوات.. ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام. وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك، وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل الشيطان وكيده ونعمة الله عليهم في إنزال اللباس والرياش.. ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع الله وأمره: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» . مشيراً هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم.. حتى إذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلاً:
«قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ- ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ- وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ
__________
(1) ص 1196- 1229 في هذا الجزء الثامن [.....](3/1285)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر الله به في شأن اللباس والطعام- لا ما يدعونه هم وينسبونه إلى الله-: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» ...
«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك. لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية، ومن الذي يزاولها في حياة البشر. وقضية عبودية الناس ولمن تكون! ذات القضية، وذات المنهج في مواجهتها. وذات الخطوات.. وصدق الله العظيم: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة.. فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية.. وسبحان منزل هذا القرآن! ..
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 53]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)(3/1286)
الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى ومواجهة واقع الجاهلية العربية- وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها- في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى..
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم.. نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة..
قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه، وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها. وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها.. إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم. وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء، في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة:(3/1287)
«يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
هذا هو عهد الله لآدم وبنيه، وهذا هو شرطه في الخلافة عنه- سبحانه- في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها، واستخلف فيها هذا الجنس، ومكنه فيها، ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد وإلا فإن عمله ردٌّ في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً.
«فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .
لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش- وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته- وتقودهم إلى الطيبات والطاعات وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير.
«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. لأن التكذيب والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار حيث يحق وعد الله:
«لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
ومن هنا يأخذ السياق في عرض مشهد الاحتضار- عند نهاية الأجل المشار إليه في نهاية الجولة الماضية:
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» .. ثم مشهد الحشر والحساب. ومشهد الفصل والجزاء.. كأنها تفصيل لذلك الإجمال عن شأن المتقين والمستكبرين وتصوير لحال المتقين وحال المستكبرين بعد الأجل المعلوم. تصوير على طريقة القرآن الفريدة التي تستحضر المشهد حياً متحركاً يراه قارئ القرآن وسامعه ويشهده، بكل كينونته.
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة.. البعث والحساب، والنعيم والعذاب.. عناية واضحة. فلم يعد ذلك العالم الذي وعده الله الناس، بعد هذا العالم الحاضر، موصوفاً فحسب، بل عاد مصوراً محسوساً، وحياً متحركاً، وبارزاً شاخصاً.. وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة. رأوا مشاهده وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولاح لهم من بعيد لفح النار، ورفت إليهم من الجنة أنسام! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود.. والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار، ومن أرض إلى أرض، في هذه الحياة المشهودة المحسوسة.. ولم يكن ذلك العالم مستقبلاً موعوداً في حسهم، وإنما كان واقعاً مشهوداً..
وربما كانت هذه المشاهد- المعروضة هنا- أطول مشاهد القيامة في القرآن، وأحفلها بالحركة، وبالمناظر المتتابعة، وبالحوار المتنوع، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة! وهي تجيء في السورة- كما أسلفنا- تعقيباً على قصة آدم، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما، وتحذير الله لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وتحذيرهم من اتباع عدوهم(3/1288)
القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة.. ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار، ومشاهد القيامة- وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان! - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها. وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا الله، قد ردوا إلى الجنة، ونودوا من الملأ الأعلى: «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فكأنما هي أوبة المهاجرين، وعودة المغتربين، إلى دار النعيم! وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى، على مشهد من الملائكة- يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة، وأخرجهما من الجنة- وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة.. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق.
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة:
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على الله الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به الله، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل- وهي شرع الله المستيقن- وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب:
«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ، حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ، قالُوا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار:
«قالُوا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» ..
أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه:
«قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا» ! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقراً، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً! .. فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان! «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..(3/1289)
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس الله في الدنيا: «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» ! فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار! «قالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ. قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» .
«ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» .
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس.. هنا في النار.. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟
وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟ .. فادخلوا إذن جميعاً.. ادخلوا سابقين ولاحقين.. فكلكم أولياء..
وكلكم سواء! ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ويملي متبوعها لتابعها.. فلتنظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها:
«كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها» ! فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ويتنكر فيها الولي لمولاه! «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً» ..
وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال:
«قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» ..
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء يتهم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويطلب له من «ربنا» شر الجزاء.. من «ربنا» الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء.
ولكن أية استجابة؟! «قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ» .
لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب! وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة..
كلنا سواء.. في هذا الجزاء:
«وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» ! وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل- وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم-:(3/1290)
«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ..
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب.. مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة. فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ- وحينئذ فقط- أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم- وقد فات الأوان- وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء! «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» ..
ثم إليك هيئتهم في النار:
«لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» ..
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه- للسخرية- مهاداً، وما هو مهد ولا لين ولا مريح! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم! «وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» ..
والظالمون هم المجرمون. والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله.. كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.
والآن فلننظر إلى المشهد المقابل:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ، وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا- وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ- لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. وَنُودُوا: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم.. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها- بإذن الله وفضله- ورثها لهم- برحمته- بعملهم الصالح مع الإيمان.. جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان. وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم- في حدود طاقتهم- وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» «1» . وليس هنا لك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهو لا ينطق عن الهوى.. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة. ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا. فكتب على نفسه الرحمة وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف وكتب لهم به الجنة، فضلاً منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة..
وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار
__________
(1) أخرجه مسلم.(3/1291)
ويتخاصمون. وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء:
«وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» ..
فهم بشر. وهم عاشوا بشراً. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه..
ولكن تبقى في القلب منه آثار.
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين» .. وروي عن علي- رضي الله عنه- أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» ..
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار فترف على الجو كله أنسام:
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» ..
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف:
«وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ، لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» ..
وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب: «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ» .. فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم:
«وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
ثم يستمر العرض، فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق.. لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم واستيقن أصحاب النار من مصيرهم. وإذا الأولون ينادون الآخرين، يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم:
«وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا: نَعَمْ! فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ» ..
وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه.. إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده.
ولكنهم يسألون! ويجيء الجواب في كلمة واحدة.. نعم..!
وعندئذ ينتهي الجواب، ويقطع الحوار:
«فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ» ..
فيتحدد معنى «الظالمين» المقصود. وهو مرادف لمعنى «الكافرين» فهم الذين يصدون عن سبيل الله، ويريدون الطريق عوجاً لا استقامة فيه، وهم بالآخرة كافرون.
وفي هذا الوصف: «ويبغونها عوجاً» .. إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله. إنهم يريدون(3/1292)
الطريق العوجاء ولا يريدون الطريق المستقيم. يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة. فالاستقامة لها صورة واحدة: صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه. وكل ما عداه فهو أعوج وهو إرادة للعوج. وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة. فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه.. وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله. التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح.
ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره. فإذا هنا لك حاجز يفصل بين الجنة والنار عليه رجال يعرفون أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم.. فلننظر من هؤلاء، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
«وَبَيْنَهُما حِجابٌ، وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ، قالُوا: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» ..
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف- الحجاب الحاجز بين الجنة والنار- جماعة من البشر، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار.. وهم بين بين، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته.. وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم- ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم- ويعرفون أهل النار بسيماهم- ربما بسواد الوجوه وقترتها، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا، كالذي جاء في سورة القلم:
«سنسمه على الخرطوم» ! وهما هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام.. يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم! .. فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار- وكأنما يصرفون إليهم صرفاً لا عن إرادة منهم- استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم! «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ.. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم. فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيب:
«وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ، قالُوا: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ» ! فها أنتم هؤلاء في النار، لا جمعكم نفعكم، ولا استكباركم أغنى عنكم! ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون، لا ينالهم الله برحمة:
«أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة!» ! انظروا الآن أين هم؟ وماذا قيل لهم:
«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» ..
وأخيراً. ها نحن أولاء نسمع صوتاً آتياً من قبل النار، ملؤه الرجاء والاستجداء:
«وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» !(3/1293)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير:
«قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» ..
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى، لينطق رب العزة والجلالة، وصاحب الملك والحكم:
«فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا. وما كانوا بآياتنا يجحدون. ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم، هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل. قد خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون» ..
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً.. لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا. لمحة مع المعذبين في النار، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين. فصله الله- سبحانه- على علم- فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون.. ولمحة معهم- وهم بعد في الدنيا- ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل. فالمآل هو ما يرون في هذا المشهد من واقع الحال! إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب! وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء. تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله، حيث لا فسحة لتوبة، ولا شفاعة في الشدة، ولا رجعة للعمل مرة أخرى.
نعم.. هكذا ينتهي الاستعراض العجيب. فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه.
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء! إنها رحلة الحياة كلها، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها.. ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها! وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان. يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون.. كله في لمحات.. لعلها تتذكر، ولعلها تسمع للنذير:
«كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)(3/1294)
بعد تلك الرحلة الواسعة الآماد، من المنشأ إلى المعاد، يأخذ السياق بأيدي البشر إلى رحلة أخرى في ضمير الكون، وفي صفحته المعروضة للأنظار. فيعرض قصة خلق السماوات والأرض بعد قصة خلق الإنسان.
ويوجه الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره، وإلى ظواهره وأحواله- إلى الليل الذي يطلب النهار في ذلك الفلك الدوار. وإلى الشمس والقمر والنجوم وهن مسخرات بأمر الله. وإلى الرياح الدائرة في الجواء، تقل السحاب إلى البلد الميت- بإذن الله- فإذا هو حي، وإذا الموات يؤتي من كل الثمرات.
هذه السبحات في ملكوت الله، يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية وبعد تصوير طرفي الرحلة وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله وبعد عرض التصورات الجاهلية والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع.. يرتاد السياق هذه السبحات ليرد البشر إلى ربهم، الذي خلق هذا الوجود وسخره، والذي يحكمه بنواميسه ويصرفه بقدره، والذي له الخلق والأمر وحده..
إنه الإيقاع القوي العميق بعبودية الوجود كلها لبارئه، والذي يبدو استكبار الإنسان فيه عن هذه العبودية نشازاً في الوجود، يجعل الناشز غريباً شائهاً في الوجود.
وفي ظل تلك المشاهد وفي مواجهة هذا الإيقاع يدعوهم:
«ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ..
إن إخلاص الدين لله، وتقرير عبودية البشر له، إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله، وعبودية الوجود كله لسلطانه.. وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري.. وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة، وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة..
لا بد يستشعر تأثيراً لا يرد سلطانه ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر.. وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه.
ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية وتعبيد البشر لربهم وحده، وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية، وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله، يتجاوب وإياه! إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله، وتسخيره بأمره، واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه.. إنما هو مذاق آخر- وراء(3/1295)
البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي- مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب. ومذاق الطمأنينة واليسر والانسياق مع موكب الإيمان الشامل.
إنه مذاق العبودية الراضية، التي لا يسوقها القسر، ولا يحركها القهر.. إنما تحركها- قبل الأمر والتكليف- عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله.. فلا تفكر في التهرب من الأمر، ولا التفلت من القهر لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح.. الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه. الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين..
هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان، ويعطيه طعمه ومذاقه.. وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام، وتعطيه حيويته وروحه.. وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر، قبل التكليف والأمر وقبل الشعائر والشرائع.. ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم..
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
إن عقيدة التوحيد الإسلامية، لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ولا عن كيفيات أفعاله.. فالله سبحانه ليس كمثله شيء.. ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشئ صورة عن ذات الله. فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء. فإذا كان الله- سبحانه- ليس كمثله شيء، توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى. ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً. ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله.. وهذا هو مجاله..
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه: كيف خلق الله السماوات والأرض؟ كيف استوى على العرش؟ كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه؟! ... تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي. أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء! ولقد خاضت الطوائف- مع الأسف- في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي، بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية! فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» .. وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن.
إنها قد تكون ست مراحل. وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام- إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان! ..
وقد تكون شيئاً آخر.. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد.. وكل حمل لهذا النص ومثله على «تخمينات» البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن- باسم «العلم!» - هو محاولة تحكمية، منشؤها الهزيمة الروحية أمام «العلم» الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض!(3/1296)
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته. لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور، وفي أسراره المكنونة:
«إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته. والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره. يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً.. في هذه الدورة الدائبة: دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار. والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره.. إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر، هو «ربكم» .. هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم. يربيكم بمنهجه، ويجمعكم بنظامه، ويشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه.. إنه هو صاحب الخلق والأمر.. وكما أنه لا خالق معه. فكذلك لا آمر معه..
هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض.. قضية الألوهية والربوبية والحاكمية، وإفراد الله سبحانه بها.. وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم. فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام. كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور.
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة. فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه..
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار، والليل يطلب النهار حثيثاً، ويريده مجتهداً! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها وألا يدور معها! وألا يرقب هذا السياق الجبار بين الليل والنهار، بقلب مرتعش ونفس لاهث! وكله حركة وتوفز، وكله تطلع وانتظار! إن جمال الحركة وحيويتها و «تشخيص» الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد..
إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق! إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة.. إن هذه الألفة لتتوارى، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة! .. إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين. وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه. يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة! كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم.. إنها كائنات حية ذات روح! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه، وتخضع له وتسير وفقه. إنها مسخرة، تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله! ومن هنا يهتز الضمير البشري وينساق للاستجابة، في موكب الأحياء المستجيبة. ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر.. إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله- سبحانه- الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر..
وعند ما يصل السياق إلى هذا المقطع، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية. التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة. وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره.. عندئذ(3/1297)
يوجه البشرَ إلى ربهم- الذي لا رب غيره- ليدعوه في إنابة وخشوع وليلتزموا بربوبيته لهم، فيلتزموا حدود عبوديتهم له لا يعتدون على سلطانه ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم، بعد أن أصلحها الله بمنهجه:
«ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة، إلى الدعاء والإنابة.. تضرعاَ وتذللاً وخفية لا صياحاً وتصدية! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه.
أخرج مسلم- بإسناده عن أبي موسى- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر- وفي رواية غزاة- فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس أربعوا (أي ارفقوا وهونوا) على أنفسكم. إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً. إنكم تدعون سميعاً قريباً. وهو معكم» ..
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء. ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح! وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله، فيما يدعونه لأنفسهم- في الجاهلية- من الحاكمية التي لا تكون إلا لله. كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى، وقد أصلحها الله بالشريعة.. والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها.. فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر. والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس. وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
«وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً» ..
خوفاً من غضبه وعقابه. وطمعاً في رضوانه وثوابه.
«إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ..
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم.. كما جاء في الوصف النبوي للإحسان.
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها.. إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود:
«وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
إنها آثار الربوبية في الكون. آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير. وكلها من صنع الله الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه. وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد.
وفي كل لحظة تهب ريح. وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً. وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء.(3/1298)
ولكن ربط هذا كله بفعل الله- كما هو في الحقيقة- هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة، كأن العين تراه.
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته. والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون- فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون- ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله- إنما يقع ويتحقق- وفق الناموس- بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع. وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة. فإرسال الرياح- وفق النواميس الإلهية في الكون- حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص «1» .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً. ولكنه يقع بقدر خاص. ثم يسوق الله السحاب- بقدر خاص منه- إلى «بلد ميت» .. صحراء أو جدباء.. فينزل منه الماء- بقدر كذلك خاص- فيخرج من كل الثمرات- بقدر منه خاص- يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة.
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون. ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل. كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء! إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر. ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية. ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة. القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة.
إنه تصور حي. ينفي عن القلب البلادة. بلادة الآلية والجبرية. ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة.. كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله. وكلما تمت حركة وفق ناموس الله. انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه! هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار.
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض. وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة:
«كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها.. هذا ما يوحي به هذا التعقيب.. وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف.. إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة
__________
(1) يراجع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» في مواضع متعددة في فصول: «حقيقة الألوهية» . «حقيقة الكون» .
«حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من البحث. «دار الشروق» .(3/1299)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
في الأموات. وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى..
«لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ويغرقون في الضلالات والأوهام! ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب.
ينتزعه من جو المشهد المعروض، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد، وفي الطبائع والحقائق:
«والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون» .
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة. والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة. فكلاهما.. القلب والتربة.. منبت زرع، ومأتى ثمر. القلب ينبت نوايا ومشاعر، وانفعالات واستجابات، واتجاهات وعزائم، وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة. والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه..
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ» ..
طيباً خيراً، سهلاً ميسراً.
«وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» ..
في إيذاء وجفوة، وفي عسر ومشقة..
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة. فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب، تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير. وإن كان فاسداً شريراً- كالذي خبث من البلاد والأماكن- استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر. وأخرج الشوك والأذى، كما تخرج الأرض النكدة! «كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» .
والشكر ينبع من القلب الطيب، ويدل على الاستقبال الطيب، والانفعال الطيب. ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات. فهم الذين ينتفعون بها، ويصلحون لها، ويصلحون بها..
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها.. كالإنذار والتذكير. وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق، وسنصادفه فيما هو آت.. فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير، كالإنذار والتذكير..
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 93]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88)
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)(3/1300)
«1» نحن مع موكب الإيمان.. هذه أعلامه.. وهذه علائمه.. وهذه هي معالم طريقه.. وهو يواجه البشرية في رحلتها الطويلة على هذا الكوكب الأرضي.. يواجهها كلما التوت بها الطريق وكلما انحرفت عن صراط
__________
(1) إلى هنا ينتهي الجزء الثامن. ولكننا تابعنا السياق لإتمام قصة شعيب إلى نهايتها في الجزء التاسع.(3/1302)
الله المستقيم وكلما تفرقت بها السبل. تحت ضغط الشهوات، التي يقودها الشيطان من خطامها، محاولاً أن يرضي حقده وأن ينفذ وعيده، وأن يمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم فإذا الموكب الكريم يواجه البشرية بالهدى، ويلوّح لها بالنور، ويستروح بها ريح الجنة، ويحذرها لفحات السموم، ونزغات الشيطان الرجيم، عدوها القديم..
.. إنه مشهد رائع.. مشهد الصراع العميق، في خضم الحياة، على طول الطريق..
إن التاريخ البشري يمضي في تشابك معقد كل التعقيد.. إن هذا الكائن المزدوج الطبيعة، المعقد التركيب..
الذي يتألف كيانه من أبعد عنصرين تؤلف بينهما قدرة الله وقدره.. عنصر الطين الذي نشأ منه، وعنصر النفخة من روح الله، التي جعلت من هذا الطين إنساناً.. إن هذا الكائن ليمضي في تاريخه مع عوامل متشابكة كل التشابك، معقدة كل التعقيد.. يمضي بطبيعته هذه يتعامل مع تلك الآفاق والعوالم التي أسلفنا في قصة آدم الحديث عنها «1» .. يتعامل مع الحقيقة الإلهية: مشيئتها وقدرها، وقدرتها وجبروتها، ورحمتها وفضلها..
الخ ... ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكته.. ويتعامل مع إبليس وقبيله.. ويتعامل مع هذا الكون المشهود ونواميسه وسنن الله فيه.. ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض.. ويتعامل مع بعضه البعض.. يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك، وباستعداداته المتوافقة والمتعارضة مع هذه الآفاق والعوالم..
وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط، يجري تاريخه.. ومن القوة في كيانه والضعف. ومن التقوى والهدى. ومن الالتقاء بعالم الغيب وعالم الشهود. ومن التعامل مع العناصر المادية في الكون والقوى الروحية، ومن التعامل مع قدر الله في النهاية.. من هذا كله يتكون تاريخه.. وفي ضوء هذا التعقيد الشديد يفسر تاريخه.
والذين يفسرون التاريخ الإنساني تفسيراً «اقتصادياً» أو «سياسياً» . والذين يفسرونه تفسيراً «بيولوجياً» .
والذين يفسرونه تفسيراً «روحياً» أو «نفسياً» . والذين يفسرونه تفسيراً «عقلياً» ... كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة، والعوالم المتباعدة، التي يتعامل معها الإنسان ويتألف من تعامله معها تاريخه.. والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع، ويحيط به وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله. «2»
ونحن هنا أمام مشاهد صادقة من هذا الخضم.. لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر- الظاهرة والخفية- التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى.. ولقد شهدنا هذا الكائن باستعداداته الأساسية.. شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له والبارئ العظيم يعلن ميلاده.. وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه.. وشهدنا مهبطه إلى الأرض.. وانطلاقه في التعامل مع عناصرها ونواميسها الكونية..
ولقد شهدناه يهبط إلى هذه الأرض مؤمناً بربه مستغفراً لذنبه مأخوذاً عليه عهد الخلافة: أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى، مزوداً بتلك التجربة الأولى في حياته..
ثم مضى به الزمن وتقاذفته الأمواج في الخضم وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته
__________
(1) ص 1263- 1265 من هذا الجزء
(2) يراجع فصل: «حقيقة الإنسان» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق» .(3/1303)
وفي الوجود من حوله. تفاعلت في واقعه وفي ضميره. ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية!!! إنه ينسى.. وقد نسي.. إنه يضعف.. وقد ضعف.. إن الشيطان يغلبه.. وقد غلبه.. ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى!!! لقد هبط إلى هذه الأرض مهتدياً تائباً موحداً.. ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً!!! لقد تقاذفته الأمواج في الخضم.. ولكن هنا لك معلما في طريقه.. هنا لك الرسالة ترده إلى ربه. فمن رحمة ربه به أن لا يتركه وحده! وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان، يرفع أعلامه رسل الله الكرام: نوح. وهود.
وصالح. ولوط. وشعيب. وموسى. ومحمد- صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.. ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم- بتوجيه الله وتعليمه- إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان، وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان. كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال.
وبين الحق والباطل، وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس.. ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة، ونجاة المؤمنين، بعد الإنذار والتذكير..
والقصص في القرآن لا يتبع دائماً ذلك الخط التاريخي. ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط. ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى، ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماماً عن معالم الطريق، وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم! وفي وقفتنا أمام المشهد الكلي الرائع نلمح جملة معالم نلخصها هنا قبل مواجهة النصوص:
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة.. ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة- بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته، وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها.. وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك. فيهلك من يهلك، ويحيا من يحيا. والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة. هم الذين علموا أن لهم إلهاً واحداً، واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد. هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» .. فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين الله كله، ويتعاقب بها الرسل جميعاً على مدار التاريخ.. فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها، فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع الله آلهة أخرى- على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة- وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل.. وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين.. والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل- صلوات الله عليهم- مع اختلاف لغاتهم.. يوحد حكاية ما قالوه، ويوحد ترجمته في نص واحد: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية- على مدار التاريخ- حتى في صورتها اللفظية! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة، ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويراً حسياً.. ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة..
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج «الأديان المقارنة» مع المنهج القرآني.. يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا «تطور» في مفهوم العقيدة الأساسي، الذي جاءت به الرسل كلها من عند الله، وأن الذين يتحدثون عن «تطور» المعتقدات وتدرجها ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج «والتطور» يقولون(3/1304)
غير ما يقوله الله سبحانه! فهذه العقيدة- كما نرى في القرآن الكريم- جاءت دائماً بحقيقة واحدة. وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو «رب العالمين» .. الذي يحاسب الناس في يوم عظيم.. فلم يكن هنا لك رسول من عند الله دعا إلى رب قبيلة، أو رب أمة، أو رب جنس.. كما أنه لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة.. وكذلك لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى عبادة طوطمية، أو نجمية، أو «أرواحية!» أو صنمية! ولم يكن هناك دين من عند الله ليس فيه عالم آخر.. كما يزعم من يسمونهم «علماء الأديان» وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة، ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان، دون غيرها! لقد جاءت الرسل- رسولاً بعد رسول- بالتوحيد الخالص، وبربوبية رب العالمين! وبالحساب في يوم الدين.. ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد، مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة، بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها.. هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية.. هي هذه التي يدرسها «علماء الأديان!» ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها! وعلى أية حال فهذا هو قول الله- سبحانه- وهو أحق أن يتبع، وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية، أو صدد الدفاع عنها! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فهم وما هم فيه..
والله يقص الحق وهو خير الفاصلين..
إن كل رسول من الرسل- صلوات الله عليهم جميعاً- قد جاء إلى قومه، بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه.. فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين- كما كانت عقيدة آدم وزوجه- ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا- حتى إذا جاء نوح- عليه السلام- دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى. ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون. وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين- كما علمهم نوح- وبذراريهم. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم.. حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم.. ثم تكررت القصة.. وهكذا..
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وقال كل رسول لقومه: «إني لكم ناصح أمين» ، معبرا عن ثقل التبعة وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ورغبته في هداية قومه، وهو منهم وهم منه.. وفي كل مرة وقف «الملأ» من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده- وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله- وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت.. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتُّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا «القوم» الواحد، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة! .. وعندئذ يجيء الفتح.. ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المكذبين المستكبرين، وينجي الطائعين المستسلمين.. وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم.. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ.(3/1305)
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد: هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده- رب العالمين- ذلك أن هذه العبودية لله الواحد، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلاً من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعاً. ذلك أن كل تفصيل- بعد قاعدة العقيدة- في الدين، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان بل في القرآن كله.. ولنذكر- كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام «1» أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
إن لهذا الدين «حقيقة» و «منهجاً» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه.. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة.. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية.. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة..
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ويعرض نموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للكفر أيضاً.. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام لله والطاعة لرسوله ولم يعجبوا أن يختار الله واحداً منهم ليبلغهم وينذرهم.
فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم.. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم.. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان.. فالملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسولهم لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ...
«وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني- أول ما تعني- نزع السلطان المغتصب من أيديهم ورده إلى صاحبه الشرعي.. إلى الله رب العالمين.. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! .. إن مصارع المكذبين- كما يعرضها هذا القصص- تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه. إنذار من الله للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة.. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ! وأخيراً فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق.. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل- تاركاً مصيرهما لفتح الله وقضائه- فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده.. ولقد قال شعيب لقومه: «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ
__________
(1) الجزء السابع: ص 1004- 1015(3/1306)
يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. وهنا صدع شعيب بالحق رافضاً هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: «قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها..»
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً، وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها. وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده..
فلا مفر من خوض المعركة، والصبر عليها، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها وأن يقولوا مع شعيب:
«عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ..
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر.
إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط الله فأضلها عنه وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية.
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله والذي يتحرك مسخراً بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزاً وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة فلا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله! إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود.. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيداً عن حقيقتها الأصيلة..
وهذه هي اللمسة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به.
«لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ(3/1307)
رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ»
..
تعرض القصة هنا باختصار، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح.. إن الهدف هنا هو تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً.. طبيعة العقيدة. طريقة التبليغ. طبيعة استقبال القوم لها. حقيقة مشاعر الرسول. تحقق النذير.. لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم، على منهج القصص القرآني.
«لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ..
على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى، مهما جاءهم من أي طريق! لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول:
«فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .
فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد.
إن دين الله منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره.. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره.
وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده.. كلها حزمة واحدة.. غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير الله معه، أو من دونه! ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله:
«إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
وهنا نرى أن ديانة نوح.. أقدم الديانات.. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب.. وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة، ومناهج الخابطين في الظلام من «علماء الأديان» وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن.
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟
«قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! كما قال مشركو العرب لمحمد- صلى الله عليه وسلم- إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم! وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح(3/1308)
بعد ما يبلغ المسخ في الفطر! .. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل.
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين يهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول! .. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه! وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟
إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما «رجعية» وتخلفاً وجموداً وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما وتطهرهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه! وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه «جامد» . ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته..
إن الجاهلية هي الجاهلية.. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف! وينفي نوح عن نفسه الضلال، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه.
إنما هو رسول من رب العالمين. يحمل لهم الرسالة. ومعها النصح والأمانة. ويعلم من الله ما لا يعلمون.
فهو يجده في نفسه، وهو موصول به، وهم عنه محجوبون:
«قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنْصَحُ لَكُمْ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
ونلمح هنا فجوة في السياق.. فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم، يحمله رسالة إلى قومه، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون، الذين لم يختاروا هذا الاختيار..
هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها:
«أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟» ..
وما من عجب في هذا الاختيار. فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب.. إنه يتعامل مع العوالم كلها، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه.. فإذا اختار الله من بينه رسوله- والله أعلم حيث يجعل رسالته- فإنما يتلقى هذا المختار عنه، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين.
ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة:
«لِيُنْذِرَكُمْ، وَلِتَتَّقُوا، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى، ليظفروا في النهاية برحمة الله.. ولا شيء وراء ذلك لنوح، ولا مصلحة، ولا هدف، إلا هذا الهدف السامي النبيل.
ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد، لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير:
«فَكَذَّبُوهُ، فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ» ..(3/1309)
ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير.. فبعماهم هذا كذبوا.. وبعماهم لاقوا هذا المصير! وتمضي عجلة التاريخ، ويمضي معها السياق، فإذا نحن أمام عاد قوم هود:
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ؟ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ. قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. قالُوا: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟ فَانْتَظِرُوا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ» .
إنها نفس الرسالة، ونفس الحوار، ونفس العاقبة.. إنها السنة الماضية، والناموس الجاري، والقانون الواحد..
إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة، وقيل: كان عددهم ثلاثة عشر.. وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام- وهو الإسلام- كانوا يعبدون الله وحده، ما لهم من إله غيره، وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين، فهكذا قال لهم نوح: «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم- وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع- وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد:
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. أَفَلا تَتَّقُونَ؟» ..
القولة التي قالها نوح من قبله، والتي كذب بها قومه، فأصابهم ما أصابهم، واستخلف الله عادا من بعدهم- ولا يذكر هنا أين كان موطنهم، وفي سورة أخرى نعلم أنهم كانوا بالأحقاف، وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضر موت- وقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح، فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حل بمن ساروا في هذا الطريق، لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله: «أَفَلا تَتَّقُونَ؟» استنكاراً لقلة خوفهم من الله ومن ذلك المصير المرهوب.
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء:
«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ» ..
هكذا جزافا بلا تزوّ ولا تدبر ولا دليل! «قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» ..(3/1310)
لقد نفى عن نفسه السفاهة في بساطة وصدق- كما نفى عن نفسه الضلالة- وقد كشف لهم- كما كشف نوح من قبل- عن مصدر رسالته وهدفها وعن نصحه لهم فيها وأمانته في تبليغها. وقال لهم ذلك كله في مودة الناصح وفي صدق الأمين.
ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا- كما عجب قوم نوح من قبل- من هذا الاختيار، ومن تلك الرسالة، فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل، كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين:
«أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ؟» ..
ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم.. واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح، وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية، وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة:
«وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
فلقد كان من حق هذا الاستخلاف، وهذه القوة والبسطة، أن تستوجب شكر النعمة، والحذر من البطر، واتقاء مصير الغابرين. وهم لم يأخذوا على الله عهداً: أن تتوقف سنته التي لا تتبدل، والتي تجري وفق الناموس المرسوم، بقدر معلوم. وذكر النعم يوحي بشكرها وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة.
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر.. وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم، واختصروا الجدل، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح، ويهزأ بالإنذار:
«قالُوا: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه، ولا يصبرون على النظر فيه:
«أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا؟» إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد. ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور..
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد وقالوا لنبيهم الناصح الأمين:
«فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ! ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول:
«قالَ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟ فَانْتَظِرُوا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» .
لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص.. إنه العذاب الذي لا دافع له، وغضب الله المصاحب له.. ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم:
«أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟» ..(3/1311)
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم من عند أنفسكم، لم يشرعها الله ولم يأذن بها، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان.
والتعبير المتكرر في القرآن: «ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» .. هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة.. إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله، خفيف الوزن، قليل الأثر، سريع الزوال.. إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه.
وكم من كلمات براقة، وكم من مذاهب ونظريات، وكم من تصورات مزوقة، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين.. ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله، فيها من سلطانه- سبحانه- سلطان! وفي ثقة المطمئن، وقوة المتمكن، يواجه هود قومه بالتحدي:
«فَانْتَظِرُوا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» ..
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله.. إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال. كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله.
ولا يطول الانتظار في السياق:
«فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ» ..
فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد. وهو ما عبر عنه بقطع الدابر. والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم! وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين. وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير..
ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى. فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الاستعراض السريع ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص.
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا- لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ-: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقالُوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» ..
وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية وهي تمضي في خضم التاريخ. وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل، ومصرع جديد من مصارع المكذبين.
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..(3/1312)
ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود. وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ..
ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح، حين طلبها قومه للتصديق:
«قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً» ..
والسياق هنا، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة. وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بيِّنة من ربهم. وأنها ناقة الله وفيها آية منه. ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي. مما يجعلها بينة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.. ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن- وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر- فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها:
«فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
إنها ناقة الله، فذروها تأكل في أرض الله، وإلا فهو النذير بسوء المصير..
وبعد عرض الآية والإنذار بالعاقبة، يأخذ صالح في النصح لقومه بالتدبر والتذكر، والنظر في مصائر الغابرين، والشكر على نعمة الاستخلاف بعد هؤلاء الغابرين:
«وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ، تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» .
ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر- وهي بين الحجاز والشام.. ونلمح من تذكير صالح لهم، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه. فهو سهل وجبل، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت. فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير.. وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضاً. وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض، محكمين فيها. وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد، اغتراراً بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين! وهنا كذلك نلمح فجوة في السياق على سبيل الإيجاز والاختصار. فقد آمنت طائفة من قوم صالح، واستكبرت طائفة. والملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين! ولا بد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد! وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد:
«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا- لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ-: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟» ..
وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف، ولاستنكار إيمانهم به، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه.(3/1313)
ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافاً! لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، والثقة في نفوسهم، والاطمئنان في منطقهم.. إنهم على يقين من أمرهم، فماذا يجدي التهديد والتخويف؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار..
من الملأ المستكبرين؟:
«قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ» .
ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد:
«إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» ..
على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح. والتي لا تدع ريبة لمستريب.. إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق.. إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام! وأتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه في دعواه والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم:
«فَعَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ..
إنه التبجح الذي يصاحب المعصية. ويعبر عن عصيانهم بقوله: «عتوا» لإبراز سمة التبجح فيها، وليصور الشعور النفسي المصاحب لها. والذي يعبر عنه كذلك ذلك التحدي باستعجال العذاب والاستهتار بالنذير:
ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة، ولا يفصل كذلك:
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
والرجفة والجثوم، جزاء مقابل للعتو والتبجح. فالرجفة يصاحبها الفزع، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك. وما أجدر العاتي أن يرتجف، وما أجدر المعتدي أن يعجز. جزاء وفاقاً في المصير. وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير.
ويدعهم السياق على هيئتهم.. «جاثمين» .. ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه:
«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» .
إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب.
.. وهكذا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين. ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين..
وتمضي عجلة التاريخ، فيظلنا عهد إبراهيم- عليه السلام- ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم.
ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين متناسقاً مع ما جاء في أول السورة: «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» .. وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير.. وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم- عليه السلام- لم يطلب من ربه هلاكهم. بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله.. إنما تجيء هنا قصة قوم لوط- ابن أخي إبراهيم- ومعاصره، بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك. يتمشى مع ظلال السياق، على طريقة القرآن:
«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ؟ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ- شَهْوَةً- مِنْ دُونِ النِّساءِ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ. وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ(3/1314)
أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ. فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ»
..
وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق. ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد..
إن الاعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه. وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكراً وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى.. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضوياً ونفسياً لهذا الالتقاء.. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعاً في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية. من حمل ووضع ورضاعة.
ومن نفقة وتربية وكفالة.. ثم لتكون كذلك ضماناً لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره.
ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلاً بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج الله للحياة.
ويبدو انحراف الفطرة واضحاً في قصة قوم لوط، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين:
«وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ؟ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ- شَهْوَةً- مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» ..
والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية. والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب. فهي مجرد «شهوة» شاذة. لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية.
فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد الأخلاق.. ولا فرق في الحقيقة. فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد.
إن التكوين العضوي للأنثى- كالتكوين النفسي- هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد «الشهوة» . إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوباً بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر- بالنسبة للذكر- فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة.
وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن..
فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً.
بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن(3/1315)
احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى- كما في عالم البهائم! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء.. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: «السلوك الجنسي عند الرجال» و «السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي.. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمرات المبشرين! «1» ونعود إلى قوم لوط! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم:
«وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» ! يا عجباً! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية- وتسميه تقديمة وتحطيماً للأغلال عن المرأة وغير المرأة- أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ولا تطيق أن تراهم يتطهرون لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!! وتعرض الخاتمة سريعاً بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى:
«فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ- إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ- وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» ..
إنها النجاة لمن تهددهم العصاة. كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج. فامرأته- وهي ألصق الناس به- لم تنج من الهلاك. لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد.
وقد أمطروا مطراً مهلكاً مع ما صاحبه من عواصف.. ترى كان هذا المطر المغرق، والماء الدافق، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟! على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين! ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ.. صفحة مدين وأخيهم شعيب:
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ «2» ..
__________
(1) يراجع كتاب: «هل نحن مسلمون» وكتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» لمحمد قطب. «دار الشروق» .
(2) إلى هنا ينتهي الجزء الثامن.(3/1316)
«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً- عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟» ..
إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق.
«وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل.. ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد:
«قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» ..
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة- كما ذكرها في قصة صالح- ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى. ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها، تثبت دعواه أنه مرسل من عند الله. ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان، والنهي عن الإفساد في الأرض، والكف عن قطع الطريق على الناس، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه:
«فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ، وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً، وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون الله وحده، إنما يشركون معه عباده في سلطانه وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل- ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة- وأنهم- لذلك- كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء كما كانوا مفسدين في الأرض، يقطعون الطريق على سواهم. ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم، ويصدونهم عن سبيل الله المستقيم ويكرهون الاستقامة التي في سبيل الله ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج الله.
ويبدأ شعيب- عليه السلام- بدعوتهم إلى عبادة الله وحده وإفراده سبحانه بالألوهية، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله.
يبدأ شعيب- عليه السلام- في دعوتهم من هذه القاعدة التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل. ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة.
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة لله وحده، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعد ما أصلحها الله بالشريعة.. يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية.. يذكرهم نعمة الله عليهم:
«وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» .(3/1317)
ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم:
«وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
كذلك يريد منهم أن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر فلا يفتنوا المؤمنين الذين هداهم الله إليه عن دينهم، ولا يقعدوا لهم بكل صراط، ولا يأخذوا عليهم كل سبيل، مهددين لهم موعدين. وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين. إن كانوا هم لا يريدون أن يكونوا مؤمنين:
«وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» ..
لقد دعاهم إلى أعدل خطة. ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة.. نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى، وترك كلٍّ وما اعتنق من دين، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت..
إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا الله، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعاً إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجاً إلا منهجه.. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت- حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده.
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة- حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة- إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل.. إنها سنة الله لا بد أن تجري..
«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .
هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش! إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد.. لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة.. نقطة المسالمة والتعايش- على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء وأن يدين للسلطان الذي يشاء: في انتظار فتح الله وحكمه بين الفريقين- وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت.. وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه.. فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكاً بملته، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله:
«قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها- إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً- عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» ..
وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع.. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه.
«قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟»(3/1318)
يستنكر تلك القولة الفاجرة: «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ..
يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا الله منها؟! «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» ..
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله.. إن الذي يعود إلى هذه الملة- بعد إذ قسم الله له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه. شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت! أو مؤداها- على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود، وشرعية في السلطان وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله.. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام. شهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة! وكذلك يستنكر شعيب- عليه السلام- ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم الله منها:
«وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها» ..
وما من شأننا أصلاً وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها.. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، التي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونته لله وحده بلا شريك معه أو من دونه.
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده- مهما عظمت وشقت- أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة- مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه «الإنسانية» لا توجد، والإنسان عبد للإنسان- وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! .. وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! .. وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟! على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة.. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس- في حكم الطواغيت- أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج. كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات. فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها، فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية.. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر- كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ- أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار.. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله. إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع! إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال.. ومهما تكن تكاليف العبودية لله، فهي(3/1319)
أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلاً على وزنها في ميزان الله..
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية:
« ... وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية، لا يخفى عليه أن المسألة- التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها- إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها. وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا- طوعاً أو كرهاً- إلى تلك الجهة نفسها. فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية. ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية، وإنشاء النظام الجماعي، وتحديد القيم الخلقية. فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه.. فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم. وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو. إن لم تمحق وتنقرض آثارها. وأما إذا كانت هذه السلطة- سلطة الزعامة والقيادة والإمامة- بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها ... »
... «والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى. ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به الرسول الأمي الكريم- صلى الله عليه وسلم- ثم إن الإسلام يطالبهم أن يتعدم من الأرض الفساد، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه.
وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه. والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضى الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها.. ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة- ولو قيد شعره- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض. وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد.. ثم انظروا إلى ما كسب «الجهاد» من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين، حتى إن(3/1320)
القرآن ليحكم «بالنفاق» على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض. ذلك أن «الجهاد» هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق، ليس غير. وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين. وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق.. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب، فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك؟» ...
... «إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام. فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند الله الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها» «1» ..
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله لله، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم.. إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت- تحت رايته- بكل ما فيها من تضحيات ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول، كما أنها أذل وأحقر! .. إنه يدعوهم للكرامة، وللسلامة، في آن..
لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة:
«قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها..» ..
ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه.. بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل، الذي وسع كل شيء علماً. فهو في مواجهة ربه، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره، ويدع له قياده وزمامه، ويعلن خضوعه واستسلامه:
«إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» ..
إنه يفوض الأمر لله ربه، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه.. إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت، من العودة في ملتهم ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته.. ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة الله به وبهم.. فالأمر موكول إلى هذه المشيئة، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون، وربهم وسع كل شيء علماً. فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم.
إنه أدب ولي الله مع الله. الأدب الذي يلتزم به أمره، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره. ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه.
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق:
__________
(1) مقتطفات من مقدمات كتاب «الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(3/1321)
«عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» ..
وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر: مشهد تجلي حقيقة «الألوهية» في نفس ولي الله ونبيه..
إنه يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان. ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مفر. إلا بفتح من ربه ونصر.
عندئذ يتوجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم. ليفتنوهم عن دينهم: «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» ..
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير.. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة.
فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل.. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم- وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل- ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان.
ولكنه من سنة الله الجارية أنه عند ما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة الله التي لا تتخلف.. وهكذا كان..
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
الرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة..
ويرد السياق على قولتهم: «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» .. وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة! فيقرر- في تهكم واضح- أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً، إنما كان من نصيب قوم آخرين:
«الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ» ..
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين. لا حياة ولا حراك. كأن لم يعمروا هذه الدار، وكأن لم يكن لهم فيها آثار! ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال، والمفارقة والانفصال، من رسولهم الذي كان أخاهم، ثم افترق طريقه عن طريقهم، فافترق مصيره عن مصيرهم، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم، وعلى ضيعتهم في الغابرين:
«فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ؟» ..
إنه من ملة وهم من ملة. فهو أمة وهم أمة. أما صلة الأنساب والأقوام، فلا اعتبار لها في هذا الدين، ولا وزن لها في ميزان الله.. فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل الله المتين..(3/1322)
انتهى الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع مبدوءا بقوله تعالى:
«قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا»(3/1323)
بسم الله الرّحمن الرّحيم من بقيّة سورة الأعراف وأول سورة الأنفال الجزء التّاسع(3/1325)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا الجزء- التاسع- يتألف من شطرين: الشطر الأول هو بقية «سورة الأعراف» - من القرآن المكي- وهو يؤلف ثلاثة أرباع هذا الجزء.. والشطر الثاني هو نصف الحزب الأول من سورة الأنفال- من القرآن المدني- وهو يؤلف الربع الباقي من الجزء..
وسنكتفي هنا بالعرض الإجمالي للشطر الأول. ونرجئ الشطر الثاني إلى موضعه. حيث نقدم- إن شاء الله- سورة الأنفال وفق المنهج الذي اتبعناه في التعريف بسور القرآن..
مضى في الجزء الثامن- في الشطر الذي استعرضناه هناك من سورة الأعراف- قصص الرسل والرسالات والأقوام بعد آدم عليه السلام. وعرضنا من موكب الإيمان هناك قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب- عليهم السلام-- ومصارع المكذبين من أقوامهم ونجاة المؤمنين.
فالآن يبدأ هذا الجزء بتكملة لقصة شعيب- عليه السلام- وقد اخترنا أن نضمها إلى نهاية الجزء الثامن تكملة للقصة هناك..
ثم يقف سياق السورة وقفة للتعقيب على ذلك القصص- وفق منهج السورة- فيكشف في هذا التعقيب عن خطوات قدر الله بالمكذبين.. كيف يأخذهم بالبأساء والضراء لعل قلوبهم تصحو وترق، وتلجأ إلى الله وتتضرع إليه، فإذا لم تستيقظ هذه القلوب ولم تنفتح ولم تنتفع بالابتلاء، أخذهم الله بالسراء- وهي أشد في الابتلاء- حتى يزدادوا عن قدر الله غفلة، ويظنوا الحياة لهوا ولعبا. وعندئذ يأخذهم الله بغتة على حين غفلة: «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ! فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
وهنا يكشف السياق كذلك عن العلاقة بين القيم الإيمانية وسنن الله في أخذ الناس، حيث لا انفصال في خطوات قدر الله بين هذه السنن وتلك القيم. هذه العلاقة التي تخفى على الغافلين، لأن آثارها قد لا تبدو في المدى القريب ولكنها لا بد واقعة في المدى الطويل: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
ويعقب الكشف عن خطوات قدر الله بالمكذبين وسنته وعلاقتها بالقيم الإيمانية في حياة البشر لمسات من التهديد تهز القلوب ولفتات إلى مصارع المكذبين توقظ الغافلين: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ(3/1327)
مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ»
«أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
وينتهي هذا التعقيب بلفتة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذا القصص وتلخيص لأمر الأقوام التي كذبت من قبل ووصف لحقيقة حالهم ونسيانهم لعهد الله معهم على الاعتراف بألوهيته ووحدانيته وعدم جدوى الآيات والبينات والخوارق التي جاءهم بها رسلهم، بسبب تعطل فطرتهم وغفلة قلوبهم:
«تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..
وبعد هذه الوقفة للتعقيب على مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب..
تجيء قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه أولا ثم مع قومه بني إسرائيل أخيرا.. وتشغل قصة موسى في هذه السورة أوسع مساحة وأكبر قدر شغلته في سورة واحدة من سور القرآن كلها.. وقد وردت حلقات من قصة بني إسرائيل في مواضع كثيرة وذلك عدا الإشارات القصيرة إليها في مواضع من القرآن أخرى.. وكانت أكثر القصص ورودا في القرآن كله.. ولعل ذلك التفصيل في قصة هذه الأمة كان للحكمة التي أشرنا إليها من قبل- في هذه الظلال- في الجزء السادس في صفحتي 868- 869 على النحو التالي:
«من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها. فقد كانوا حرباً على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول. هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معاً. وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة. وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة. وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة.. فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة، لتعرف من هم أعداؤها: ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم؟
«ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله. فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفاً ووسائلهم كلها مكشوفة.
«ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير. وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة طويلة ووقعت الانحرافات في عقيدتهم، ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم.. فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة- وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم، وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها، ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم، لتضم هذه التجربة- في حقل العقيدة والحياة- إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. ولتتقي- بصفة خاصة- مزالق الطريق، ومداخل الشيطان، وبوادر الانحراف، على هدى التجارب الأولى.
«ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل. وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها، وتنحرف أجيال منها وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة، ستصادفها فترات تمثل فترات من حياة بني إسرائيل فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها(3/1328)
ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها، وينفض عنها الركام، لجدته عليها، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة. فأما القلوب التي نوديت من قبل، فالنداء الثاني لا تكون له جدته. ولا تكون له هزته ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف، وإلى الصبر الطويل!» ..
« ... إلخ وقد وردت حلقات من قصة موسى- عليه السلام- وبني إسرائيل من قبل في هذه الظلال- المرتبة وفق ترتيب السور في المصحف لا وفق ترتيب النزول- في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام.. ولكن إذا اعتبرنا ترتيب النزول، فإن هذه الحلقات الواردة منها هنا في سورة الأعراف المكية تكون سابقة على ما ورد منها في السور المدنية. وذلك ظاهر من طبيعة عرضها هنا وطبيعة عرضها هناك. فهي هنا تعرض على طريقة الحكاية والقصص. وهناك تعرض على سبيل مواجهة بني إسرائيل بها، وتذكيرهم بأحداثها ووقائعها ومواقفهم فيها.
ولقد وردت القصة في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن كله- مكيه ومدنيه- ولكن ورودها مفصلة اقتصر على عشرة مواضع في عشر سور منها ستة مواضع هي أكثرها تفصيلا. والذي ورد منها في سورة الأعراف كان أول تفصيل.. كما أنه هو أوسع مساحة. وإن تكن الحلقات التي وردت في هذه المساحة أقل مما ورد منها في سورة طه «1» .
وهي تبدأ هنا من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة. بينما تبدأ في سورة طه من حلقة النداء لموسى- عليه السلام- في جانب الطور. وتبدأ في سورة القصص من حلقة مولد موسى في فترة اضطهاد بني إسرائيل..
ويبدأ عرضها- متناسقا مع جو السورة وأهدافها على طريقة القرآن في سياقة القصص كله «2» - بالتوجيه إلى عاقبة تكذيب فرعون وملئه. وذلك منذ اللحظة الأولى في عرضها: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، فَظَلَمُوا بِها. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .
ثم تمضي حلقات القصة ومشاهدها.. أولا.. في مواجهة فرعون وملئه.. وأخيرا في مواجهة بني إسرائيل، والتوائهم وزيغهم وانحرافهم! ولما كان سنستعرض القصة- فيما بعد- بالتفصيل. فإننا نكتفي هنا بالوقوف أمام معالمها البارزة وموحياتها الكلية:
إن موسى- عليه السلام- يواجه فرعون وملأه بأنه رسول من رب العالمين: «وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. كذلك حين تقع المباراة بينه وبين سحرة فرعون فيغلبون ويؤمنون، فإنهم يؤمنون برب العالمين:
«وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» .. وحين يهددهم فرعون بالعذاب الرعيب: فإنهم يتجهون إلى ربهم، ويعلنون أنهم عائدون اليه في حياتهم ومماتهم وبعثهم وفي أمرهم كله:
__________
(1) يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .
(2) يراجع المصدر السابق.(3/1329)
«قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا، رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..
ثم إن موسى- عليه السلام- وهو يعلم قومه في مواضع كثيرة يعرفهم بربهم الحق.. فعندما أعلن فرعون أنه سيعيد اضطهاد بني إسرائيل بقتل ذكورهم واستحياء إناثهم «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .. «قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا. قالَ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. وعند ما جاوز بهم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم وطلبوا إلى موسى أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة! «قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قالَ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؟» ..
فهذه النصوص القرآنية في القصة تثبت حقيقة الدين الذي جاء به موسى عليه السلام وحقيقة التصور الاعتقادي الذي تنشئه هذه الحقيقة.. وهو التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام وتضمنه دين الله في جميع الرسالات. كما أنها تثبت زيف النظريات والتكهنات التي يدلي بها الباحثون في تاريخ الأديان من الغربيين ومن يأخذ بمنهجهم وتقريراتهم ممن يكتبون عن تطور العقيدة! كذلك تثبت هذه النصوص ألوان الانحراف التي صاحبت تاريخ بني إسرائيل وجبلتهم الملتوية- حتى بعد بعثة موسى عليه السلام. ذلك من مثل قولهم: «يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» .. ومثل اتخاذهم العجل في غيبة موسى على الجبل لميقاته مع ربه! ومثل طلبهم رؤية الله جهرة وإلا فإنهم لا يؤمنون! ولكن هذه الانحرافات لا تمثل حقيقة العقيدة التي جاء بها موسى من ربه. إنما هي انحرافات عن هذه العقيدة. فكيف تحسب الانحرافات إذن على العقيدة ذاتها؟ ويقال: إنها «تطورت» إلى التوحيد؟! كذلك تكشف مواجهة موسى لفرعون وملئه عن حقيقة المعركة بين دين الله كله وبين الجاهلية كلها.
وتبين كيف ينظر الطاغوت إلى هذا الدين وكيف يحس فيه الخطر على وجوده كما تبين كيف يدرك المؤمنون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت! إنه بمجرد أن قال موسى عليه السلام لفرعون: «يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. تبين مدلول هذه الدعوة إلى «رَبِّ الْعالَمِينَ» .. إنه رد السلطان كله إلى الله برد عبودية العالمين كلها إلى رب العالمين! وبناء على هذا المدلول طلب موسى إطلاق سراح بني إسرائيل. فإنه إذ كان الله رب العالمين، فما يكون لعبد من عبيده- وهو فرعون المتجبر الطاغي- أن يعبدهم لنفسه، فهم ليسوا عبيدا إلا لرب العالمين.. إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له. فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس- وهم من العالمين- وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده. فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده والا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية..
أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية.. وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره. لا يحكمهم بشرعه.
ولقد أدرك فرعون وملؤه خطر الدعوة إلى «رَبِّ الْعالَمِينَ» . وأحسوا أن توحيد الربوبية معناه سلب سلطان فرعون- وسلطانهم المستمد منه- فعبروا عن هذا الخطر بأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم: «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. فَماذا تَأْمُرُونَ؟» .. «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟» .. وما أرادوا إلا أن هذه الدعوة إلى رب(3/1330)
العالمين لا تحمل إلا مدلولا واحدا هو انتزاع السلطان من يد العبيد- الطواغيت- ورده إلى صاحبه- سبحانه- وهذا معناه- من وجهة نظرهم- الإفساد في الأرض! أو كما يقال اليوم في قوانين الجاهلية لمثل هذه الدعوة بذاتها: إنها محاولة لقلب نظام الحكم! ومن وجهة نظر الطواغيت الجاهلية التي تغتصب سلطان الله- أي تغتصب ربوبيته وتزاول اختصاصاتها ولو لم تقل هذا باللسان- يكون هذا «قلبا» لنظام الحكم. لأن نظام الحكم في الجاهليات يقوم على ربوبية عبد من العبيد لبقية العبيد. بينما الدعوة إلى رب العالمين تعني أن تكون الربوبية على العبيد لخالق العبيد! وكذلك قال فرعون للسحرة الذين بهرهم الحق فآمنوا برب العالمين وخلعوا ربقة العبودية له بهذا الإعلان: إنهم يمكرون لإخراج أهل المدينة من مدينتهم. وهددهم بأبشع العذاب والنكال:
«قالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
ومن الجانب الآخر كان هؤلاء السحرة الذين آمنوا برب العالمين وأسلموا لله وحده وأعلنوا الخروج من العبودية الزائفة للطاغوت المغتصب للربوبية واختصاصاتها.. كانوا يعلمون حقيقة المعركة بينهم وبين الطاغوت. إنها المعركة على العقيدة. لأن هذه العقيدة تهدد سلطان الطواغيت بمجرد إعلان أصحابها أن عبوديتهم خالصة لرب العالمين. بل بمجرد إعلان أن الله رب العالمين! ومن ثم قالوا لفرعون ردا على اتهامه لهم بأن هذا مكر مكروه في المدينة ليخرجوا منها أهلها- وهو مرادف للاتهام في الجاهليات الحديثة لكل من يعلن ربوبية الله للعالمين بمعناها الجاد بأنه يعمل على قلب نظام الحكم! -: «وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» ..
ثم لجأوا إلى ربهم الذي آمنوا به فتمردوا على العبودية لغيره قائلين: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..
فكان هذا فرقانا جعله الله في قلوبهم حين استقرت حقيقة الإسلام لله فيها.
ومن خلال عرض الآيات التي جاء بها موسى لفرعون وملئه وما أخذهم الله به من السنين ونقص الثمرات، وما أرسله عليهم من الآفات. ومواجهتهم لهذا كله بالعناد والمراوغة والإصرار في النهاية على ما هم فيه حتى أهلكهم الله كما يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ- أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ- وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ. لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ- إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ- إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» .. من خلال عرض هذا كله يتبين مدى إصرار الطاغوت على الباطل في وجه الحق. ومدى مقاومته للدعوة إلى «رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ذلك أنه يعلم علم اليقين أن هذه الدعوة بذاتها هي حرب عليه، بإنكار شرعية قيامه من أساسه! وما يمكن أن يسمح الطاغوت بإعلان أن لا إله إلا الله. أو أن الله هو رب العالمين. إلا حين تفقد هذه الكلمات مدلولها الحقيقي، وتصبح مجرد كلمات لا مدلول لها.. وهي في مثل هذه الحالة لا تؤذيه! لأنها لا تعنيه! فأما حين تأخذ عصبة من الناس هذه الكلمات جدا بمدلولها الحقيقي، فإن الطاغوت الذي يزاول الربوبية- بمزاولته للحاكمية بغير شرع الله، وتعبيد الناس له بهذه الحاكمية وعدم إرسالهم لله- لا يطيق هذه العصبة. كما لم يطق فرعون دعوة موسى إلى رب العالمين، وإعلان السحرة المؤمنين أنهم آمنوا برب العالمين. وكما ظل هو والملأ من قومه مصرين على رد هذه الدعوة، والآيات تتوالى عليهم،(3/1331)
والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء.. ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين. لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب، الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين! كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين.. من أخذهم بالبأساء والضراء.
ثم أخذهم بالرخاء والسراء. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف! والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» ..
ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة. ففسقوا عن أمر الله- كما يجلو السياق القرآني ذلك- وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم مرة بعد مرة، إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ولقد صدق وعيد الله.. ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام.. وإنما هي دورات لهم في التاريخ. حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة! وأخيرا فإن هذه السورة مكية. وقد ورد فيها عن التواء بني إسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير..
بينما يزعم المستشرقون- اليهود والصليبيون سواء- أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- لم يهاجم اليهود- بزعمهم- بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له. وأنه كان يحاسنهم في مكة، وفي أول عهده بالمدينة.
فيقول- بزعمهم- قرآنا لا يهاجمهم فيه إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم! طمعا في إسلامهم له! فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم.. وكذبوا. فهذه سورة مكية تصف الحق في شأنهم، لا فرق بين ما جاء فيها وما جاء في سورة البقرة المدنية في هذا الحق الذي لا يتبدل.. وإذا نحن تجاوزنا عن الآيات من 163 إلى 170 في هذه السورة بوصفها مدنية، وهي التي ورد فيها تأذن الله- سبحانه- بأن يرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، فإن الآيات التي قبلها والتي بعدها والتي لا شك في أنها مكية تضمنت الحق في جبلة بني إسرائيل. وفيها ذكر عبادتهم للعجل.. وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها صنما بينما هم خارجون من مصر باسم الله الواحد! وأخذ الرجفة لهم لأنهم أبوا الإيمان إلا أن يروا الله جهرة. وتبديلهم قول الله لهم وهم يدخلون القرية.. إلخ مما يدمغ أولئك الزاعمين من المستشرقين بالافتراء على التاريخ بعد الافتراء على الله ورسوله.. وهؤلاء هم الذين يتخذهم بعض من يكتبون عن الإسلام أساتذة لهم فيما يكتبون! وحسبنا هذه المعالم في القصة حتى نواجه نصوصها بالتفصيل.
وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة- في استعراض موكب الإيمان- لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها. وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ.(3/1332)
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
..
لذلك أعقب هذا المشهد مشهد أخذ الميثاق على فطرة البشر كافة: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى! شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟» ..
وأعقب هذا المشهد مشهد الذي ينسلخ من هذا العهد، كما ينسلخ من العلم بآيات الله بعد إذ أراه إياها..
وهو مشهد مثير.. وفيه لمسات قوية للتنفير من هذا الانسلاخ، والتحذير من مآله المنظور: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتَّبَعَ هَواهُ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» ..
ثم بيان لطبيعة الهدى وطبيعة الكفر. يكشف عن أن الكفر تعطل في أجهزة الفطرة يحول دون تلقي هدى الله، وينتهي بالخسارة المطلقة: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ..
تعقب هذا البيان لفتة إلى المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام في مكة بالتكذيب، ويلحدون في أسماء الله فيشتقون منها أسماء الآلهة المفتراة. وتهديد لهم باستدراج الله. ودعوة لهم كذلك أن يتفكروا تفكرا عميقا بعيدا عن الهوى في أمر صاحبهم الذي يدعوهم إلى الهدى- صلى الله عليه وسلم- فينبزونه بأن به جنة! وإلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما في صفحات الوجود من موحيات الهدى ولمسة لهم بالموت الذي يترقبهم وهم عنه غافلون: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ. سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ.. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
ومواجهة كذلك لهؤلاء المشركين في تكذيبهم بالساعة، وسؤالهم عن موعدها.. مواجهة بضخامة هذا الشأن الذي يسألون عنه مستهينين، وهول هذا الأمر الذي يتناولونه مستخفين. وجلاء كذلك لطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول وتقرير لحقيقة الألوهية وتفرد الله سبحانه بكل خصائصها. ومنها علم الغيب وتجلية الساعة «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها! قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ- وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وفي سياق مواجهة المشركين يجيء بيان عن طبيعة الشرك وقصة الانحراف عن عهد الفطرة بتوحيد الله، وكيف يقع في النفس هذا الانحراف.. وكانما هو تصوير لانحراف جيل المشركين بعد أن كان أسلافهم الأولون على دين إبراهيم الحنيف: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا(3/1333)
آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ؟»
.. إنه تمثيل للأجيال المتلاحقة بصورة الحالات المتتابعة في النفس الواحدة.. وهو تصوير ذو دلالات عجيبة في صدقها وفي جمالها جميعا..
ولأن المقصود هو تمثيل حالة المشركين الذين كان هذا القرآن يواجههم فإن السياق ينتقل مباشرة من المثل إلى مخاطبتهم مواجهة، ويوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تحديهم هم وآلهتهم: «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟ قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا. وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ..
وفي نهاية السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلى الأمة المسلمة. يوجهه إلى اليسر في أخذ الناس في هذه الدعوة ونهنهة النفس عن الغضب مما يبدر منهم من تقاعس واعتراض والاستعاذة من الشيطان الذي يثير الغضب ويحنق الصدر: «خُذِ الْعَفْوَ. وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها! قُلْ: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي، هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وهذا التوجيه يذكرنا بما ورد في مطلع السورة: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .. فهو يشي بثقل هذا العبء- عبء دعوة الناس، ومواجهة ما في نفوسهم من رواسب وركام وعقابيل، والتواءات وأغراض وشهوات، وغفلة وثقلة وتقاعس.. وضرورة الصبر..
وضرورة اليسر.. وضرورة السير أيضا في الطريق! ثم توجيه إلى الزاد المعين على مشاق الطريق.. الاستماع والإنصات إلى القرآن.. وذكر الله في كل آن وفي كل حال. والحذر من الغفلة. والاقتداء بالمقربين من الملائكة في الذكر والعبادة: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..
إنه زاد الطريق. وأدب العبادة. ومنهج المقربين الموصولين..
وحسبنا هذه الإشارات المجملة لنواجه النصوص بالتفصيل..
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ... «1»
__________
(1) سبق تفسير الآيات من 88- 93 من هذا الجزء في نهاية الجزء الثامن تكملة لقصة شعيب.(3/1334)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
هذه وقفة في سياق السورة للتعقيب على ما مضى من قصص قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.. وقفة لبيان سنة الله التي جرت بها مشيئته وحققها قدره بالمكذبين في كل قرية- والقرية هي المدينة الكبيرة أو الحاضرة المركزية- وهي سنة واحدة يأخذ الله بها المكذبين ويتشكل بها تاريخ الإنسان في جانب منه أصيل.. أن يأخذ الله المكذبين بالبأساء والضراء لعل قلوبهم ترق وتلين وتتجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته وحقيقة عبودية البشر لهذه الألوهية القاهرة. فإذا لم يستجيبوا أخذهم بالنعماء والسراء، وفتح عليهم الأبواب، وتركهم ينمون ويكثرون ويستمتعون.. كل ذلك للابتلاء.. حتى إذا انتهى بهم اليسر والعافية إلى الاستهتار والترخص، وإلى الغفلة وقلة المبالاة، وحسبوا أن الأمور تمضي جزافاً بلا قصد ولا غاية، وأن السراء تعقب الضراء من غير حكمة ولا ابتلاء، وأنه إنما أصابهم ما أصاب آباءهم من قبل لأن الأمور تمضي هكذا بلا تدبير: «وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» ! أخذهم الله بغتة، وهم سادرون في هذه الغفلة. لم يدركوا حكمة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، ولم يتدبروا حكمته في تقلب الأمور بالعباد، ولم يتقوا غضبه على المستهترين الغافلين، وعاشوا كالأنعام بل أضل حتى جاءهم بأس الله.. ولو أنهم آمنوا بالله واتقوه لتبدلت الحال، ولحلت عليهم البركات، ولأفاض الله عليهم من رزقه في السماء والأرض، ولأنعم عليهم نعيمه المبارك الذي تطمئن به الحياة، ولا يعقبه النكال والبوار..
ثم يحذر الله الذين يرثون الأرض من بعد أهلها.. يحذرهم الغفلة والغرة، ويدعوهم إلى اليقظة والتقوى،(3/1335)
ويلفتهم إلى العبرة في مصارع الغابرين الذين ورثوا هم الأرض من بعدهم، فإنما تنتظرهم سنة الله التي لا تتبدل، والتي يتكيف بها تاريخ البشر على مدارج القرون.
وتنتهي الوقفة بتوجيه الخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «تلك القرى نقص عليك من أنبائها ... »
لإظهاره على سنة الله فيها، وعلى حقيقة هذه القرى وأهلها: «وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» .. فهذا الرسول الأخير وأمته هم الوارثون لحصيلة رسالة الله كلها، وهم الذين يفيدون من أنبائها وعظاتها..
«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة. ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثم يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور وتتم وفقه الأحداث ويتحرك به تاريخ «الإنسان» في هذه الأرض. وأن الرسالة ذاتها- على عظم قدرها- هي وسيلة من وسائل تحقيق الناموس- وهو أكبر من الرسالة وأشمل- وأن الأمور لا تمضي جزافاً وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض- كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان! - وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية. وأن هنا لك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة التي وضعت السنة، وارتضت الناموس..
ووفقاً لسنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق. ويكون من أمر غيرها ما يكون! إن إرادة الإنسان وحركته- في التصور الإسلامي- عامل مهم في حركة تاريخه وفي تفسير هذا التاريخ أيضاً.
ولكن إرادة الإنسان وحركته إنما يقعان في إطار من مشيئة الله الطليقة وقدره الفاعل.. والله بكل شيء محيط..
وإرادة الإنسان وحركته- في إطار المشيئة الطليقة والقدر الفاعل- يتعاملان مع الوجود كله ويتأثران ويؤثران في هذا الوجود أيضاً.. فهناك زحمة من العوامل والعوالم المحركة للتاريخ الإنساني وهناك سعة وعمق في مجال هذه الحركة مما يبدو إلى جانبه «التفسير الاقتصادي للتاريخ» ، و «التفسير البيولوجي للتاريخ» ، و «التفسير الجغرافي للتاريخ» ... بقعاً صغيرة في الرقعة الكبيرة. وعبثاً صغيراً من عبث الإنسان الصغير! «1» .
«وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» ..
فليس للعبث- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يأخذ الله عباده بالشدة في أنفسهم وأبدانهم وأرزاقهم وأموالهم. وليس لإرواء غلة ولا شفاء إحنة- كما كانت أساطير الوثنيات تقول عن آلهتها العابثة الحاقدة «2» ! إنما يأخذ الله المكذبين برسله بالبأساء والضراء، لأن من طبيعة الابتلاء بالشدة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خير يرجى وأن يرقق القلوب التي طال عليها الأمد متى كانت فيها بقية وأن يتجه بالبشر الضعاف إلى خالقهم القهار يتضرعون إليه ويطلبون رحمته وعفوه ويعلنون بهذا التضرع عن عبوديتهم له-
__________
(1) يراجع ما جاء عن هذا الموضوع في الجزء الثامن ص 1270- 1276
(2) يراجع في القسم الأول من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» فصل: «تيه وركام» وفصل «الإيجابية» . «دار الشروق» . [.....](3/1336)
والعبودية لله غاية الوجود الإنساني- وما بالله سبحانه من حاجة إلى تضرع العباد وإعلان العبودية: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» ..
ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على طاعة الله ما زاد هذا في ملكه شيئاً. ولو اجتمع الإنس والجن- على قلب رجل واحد- على معصيته- سبحانه- ما نقصوا في ملكه شيئاً (كما جاء في الحديث القدسي) ..
ولكن تضرع العباد وإعلان عبوديتهم لله إنما يصلحهم هم ويصلح حياتهم ومعاشهم كذلك.. فمتى أعلن الناس عبوديتهم لله تحرروا من العبودية لسواه.. تحرروا من العبودية للشيطان الذي يريد ليغويهم- كما جاء في أوائل السورة- وتحرروا من شهواتهم وأهوائهم. وتحرروا من العبودية للعبيد من أمثالهم واستحيوا أن يتبعوا خطوات الشيطان واستحيوا أن يغضبوا الله بعمل أو نية وهم يتجهون إليه في الشدة ويتضرعون، واستقاموا على الطريقة التي تحررهم وتطهرهم وتزكيهم، وترفعهم من العبودية للهوى والعبودية للعبيد! لذلك اقتضت مشيئة الله أن يأخذ أهل كل قرية يرسل إليها نبياً فتكذبه، بالبأساء في أنفسهم وأرواحهم، وبالضراء في أبدانهم وأموالهم. استحياء لقلوبهم بالألم. والألم خير مهذب، وخير مفجر لينابيع الخير المستكنة، وخير مرهف للحساسية في الضمائر الحية، وخير موجه إلى ظلال الرحمة التي تنسم على الضعاف المكروبين نسمات الراحة والعافية في ساعات العسرة والضيق.. «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» ..
«ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ» ..
فإذا الرخاء مكان الشدة، واليسر مكان العسر، والنعمة مكان الشظف، والعافية مكان الضر، والذرية مكان العقر، والكثرة مكان القلة، والأمن مكان الخوف. وإذا هو متاع ورخاء، وهينة ونعماء، وكثرة وامتلاء.. وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء..
والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون، ويحتمل مشقاته الكثيرون. فالشدة تستثير عناصر المقاومة وقد تذكر صاحبها بالله- إن كان فيه خير- فيتجه إليه ويتضرع بين يديه، ويجد في ظله طمأنينة، وفي رحابه فسحه، وفي فرَجه أملاً، وفي وعده بشرى.. فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون. فالرخاء ينسي، والمتاع يلهي، والثراء يطغي. فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله.
«ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» ..
أي حتى كثروا وانتشروا، واستسهلوا العيش، واستيسروا الحياة: ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه.. والتعبير: «عفوا» - إلى جانب دلالته على الكثرة- يوحي بحالة نفسية خاصة: حالة قلة المبالاة. حالة الاستخفاف والاستهتار. حالة استسهال كل أمر، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء.. وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء- أفراداً وأمماً- كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً، أو تحسب حساباً لشيء. فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر، ويلهون في يسر، ويبطشون كذلك في استهتار! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان، في يسر واطمئنان! وهم لا يتقون غضب الله، ولا لوم الناس، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة. وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس. ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً، بلا سبب معلوم، وبلا قصد مرسوم:
«وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» ..(3/1337)
وقد أخذنا دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة، فهي تمضي هكذا خبط عشواء! عندئذ.. وفي ساعة الغفلة السادرة، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية:
«فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ..
جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله وأطلقوا لشهواتهم العنان، فما عادوا يتحرجون من فعل، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال! هكذا تمضي سنة الله أبداً. وفق مشيئته في عباده. وهكذا يتحرك التاريخ الإنساني بإرادة الإنسان وعمله- في إطار سنة الله ومشيئته- وها هو ذا القرآن الكريم يكشف للناس عن السنة ويحذرهم الفتنة.. فتنة الاختبار والابتلاء بالضراء والسراء.. وينبه فيهم دواعي الحرص واليقظة، واتقاء العاقبة التي لا تتخلف، جزاء وفاقاً على اتجاههم وكسبهم. فمن لم يتيقظ، ومن لم يتحرج، ومن لم يتق، فهو الذي يظلم نفسه، ويعرضها لبأس الله الذي لا يرد. ولن تظلم نفس شيئاً.
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
فذلك هو الطرف الآخر لسنة الله الجارية. فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض.. هكذا.. «بركات من السماء والأرض» مفتوحة بلا حساب.
من فوقهم ومن تحت أرجلهم. والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات..
وأمام هذا النص- والنص الذي قبله- نقف أمام حقيقة من حقائق العقيدة وحقائق الحياة البشرية والكونية سواء. وأمام عامل من العوامل المؤثرة في تاريخ الإنسان، تغفل عنه المذاهب الوضعية وتغفله كل الإغفال.
بل تنكره كل الإنكار! ..
إن العقيدة الإيمانية في الله، وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان.
إن الإيمان بالله، وتقواه، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض. وعدا من الله. ومن أوفى بعهده من الله؟
ونحن- المؤمنين بالله- نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن، فنصدقه ابتداء، لا نسأل عن علله وأسبابه ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله.. نحن نؤمن بالله- بالغيب- ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان..
ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر- كما يأمرنا إيماننا كذلك- فنجد علته وسببه! إن الإيمان بالله دليل على حيوية في الفطرة وسلامة في أجهزة الاستقبال الفطرية وصدق في الإدراك الإنساني، وحيوية في البنية البشرية، ورحابة في مجال الإحساس بحقائق الوجود.. وهذه كلها من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.
والإيمان بالله قوة دافعة دافقة، تجمع جوانب الكينونة البشرية كلها، وتتجه بها إلى وجهة واحدة، وتطلقها تستمد من قوة الله، وتعمل لتحقيق مشيئته في خلافة الأرض وعمارتها، وفي دفع الفساد والفتنة عنها، وفي ترقية الحياة ونمائها.. وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية.(3/1338)
والإيمان بالله تحرر من العبودية للهوى ومن العبودية للعبيد. وما من شك أن الإنسان المتحرر بالعبودية لله، أقدر على الخلافة في الأرض خلافة راشدة صاعدة. من العبيد للهوى ولبعضهم بعضاً! وتقوى الله يقظة واعية تصون من الاندفاع والتهور والشطط والغرور، في دفعة الحركة ودفعة الحياة..
وتوجه الجهد البشري في حذر وتحرج، فلا يعتدي، ولا يتهور، ولا يتجاوز حدود النشاط الصالح.
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح، عاملة في الأرض، متطلعة إلى السماء، متحررة من الهوى والطغيان البشري، عابدة خاشعة لله.. تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه. فلا جرم تحفها البركة، ويعمها الخير، ويظلها الفلاح.. والمسألة- من هذا الجانب- مسألة واقع منظور- إلى جانب لطف الله المستور- واقع له علله وأسبابه الظاهرة، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود..
والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون، في توكيد ويقين، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها.
وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان. فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، ما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال! والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله- سبحانه- وكفى بالله شهيداً.
ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس:
«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ. وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» ..
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً- يقولون: إنهم مسلمون- مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق! .. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ.. فيتساءل: وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال! إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون.. لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم، يتألهون عليهم، ويشرعون لهم- سواء القوانين أو القيم والتقاليد- وما أولئك بالمؤمنين. فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره.. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق.. فهذه هي السنة: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا، وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» ! فهو الابتلاء بالنعمة الذي مر ذكره. وهو أخطر من الابتلاء بالشدة..
وفرق بينه وبين البركات التي يعدها الله من يؤمنون ويتقون. فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن الانتفاع به، وكان معه الصلاح والأمن والرضى والارتياح.. وكم من أمة غنية قوية ولكنها تعيش في شقوة، مهددة في أمنها، مقطعة الأواصر بينها، يسود الناس فيها القلق وينتظرها الانحلال. فهي قوة بلا أمن. وهو متاع بلا رضى. وهي وفرة بلا صلاح. وهو حاضر زاهٍ يترقبه مستقبل نكد. وهو الابتلاء الذي يعقبه النكال..
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر،(3/1339)
وبركات في طيبات الحياة.. بركات تنمي الحياة وترفعها في آن. وليست مجرد وفرة مع الشقوة والتردي والانحلال «1» .
وبعد أن يقرر السياق القرآني تلك السنة الجارية. التي يشهد بها تاريخ القرى الخالية. وفي اللحظة التي تنتفض فيها المشاعر، ويرتعش فيها الوجدان، على مصارع المكذبين الذين لم يؤمنوا ولم يتقوا وغرهم ما كانوا فيه من رخاء ونعماء، فغفلوا عن حكمة الله في الابتلاء.. في هذه اللحظة يتجه إلى الغافلين السادرين، يوقظ فيهم مشاعر الترقب أن يأتيهم بأس الله في أية لحظة من ليل أو نهار، وهم سادرون في النوم واللهو والمتاع:
«أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
أفأمن أهل القرى- وتلك سنة الله في الابتلاء بالضراء والسراء، والبأساء والنعماء، وتلك مصارع المكذبين السادرين، الذين كانوا قبلهم يعمرون هذه القرى ثم تركوها فخلفوهم فيها- أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله في غفلة من غفلاتهم، وغرة من غراتهم؟ أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله بالهلاك والدمار.. بياتاً وهم نائمون..
والإنسان في نومه مسلوب الإرادة، مسلوب القوة، لا يملك أن يحتاط ولا يملك أن يدفع عادية من حشرة صغيرة.. فكيف ببأس الله الجبار؟ الذي لا يقف له الإنسان في أشد ساعات صحوه واحتياطه وقوته؟
أفأمنوا أن يأتيهم بأس الله.. ضحى وهم يلعبون.. واللعب يستغرق اليقظة والتحفز، ويلهي عن الأهبة والاحتياط. فلا يملك الإنسان، وهو غارٌّ في لعبه، أن يدفع عن نفسه مغيراً. فكيف بغارة الله التي لا يقف لها الإنسان وهو في أشد ساعات جده وتأهبه للدفاع؟
وإن بأس الله لأشد من أن يقفوا له نائمين أم صاحين. لاعبين أم جادين. ولكن السياق القرآني يعرض لحظات الضعف الإنساني، ليلمس الوجدان البشري بقوة، ويثير حذره وانتباهه، حين يترقب الغارة الطامة الغامرة، في لحظة من لحظات الضعف والغرة والفجاءة. وما هو بناج في يقظة أو غرة. فهذه كتلك أمام بأس الله سواء! «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟» .
وتدبيره الخفي المغيب على البشر.. ليتقوه ويحذروه..
«فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» ..
فما وراء الأمن والغفلة والاستهتار إلا الخسار. وما يغفل عن مكر الله هكذا إلا الذين يستحقون هذا الخسار! أفأمنوا مكر الله وهم يرثون الأرض من بعد أهلها الذاهبين، الذين هلكوا بذنوبهم، وجنت عليهم غفلتهم؟ أما كانت مصارع الغابرين تهديهم وتنير لهم طريقهم؟
«أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» ..
إن سنة الله لا تتخلف ومشيئة الله لا تتوقف. فما الذي يؤمنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم؟
__________
(1) يراجع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» للمؤلف. وفصل «شهادة التاريخ» وفصل: «شهادة القرن العشرين» في كتاب: «التطور والثبات» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(3/1340)
وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك، بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى، ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة.. ألا إن مصارع الخالين قبلهم، ووراثتهم لهم، وسنة الله الجارية.. كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب، والاستهتار السادر، والغفلة المردية وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم. عسى ألا يكون فيهم. لو كانوا يسمعون! وما يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار. فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، وتوقع الدمار في كل لحظة.. قد تشل طاقة البشر وتشتتها وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة.
والله يعد الناس الأمن والطمأنينة والرضوان والفلاح في الدنيا والآخرة، إذا هم أرهفوا حساسيتهم به، وإذا هم أخلصوا العبودية له وإذا هم اتقوه فاتقوا كل ما يلوث الحياة. فهو يدعوهم إلى الأمن في جوار الله لا في جوار النعيم المادي المغري. وإلى الثقة بقوة الله لا بقوتهم المادية الزائلة. وإلى الركون إلى ما عند الله لا إلى ما يملكون من عرض الحياة.
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين لله سلف ما كان يأمن مكر الله. وما كان يركن إلى سواه. وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان، مطمئناً بذكر الله، قوياً على الشيطان وعلى هواه، مصلحاً في الأرض بهدى الله، لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك.
لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعو إلى اليقظة، ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الحساسية، ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
والمنهج القرآني- مع ذلك- إنما يعالج أطوار النفوس والقلوب المتقلبة، وأطوار الأمم والجماعات المتنوعة، ويطب لكل منها بالطب المناسب في الوقت الملائم. فيعطيها جرعة من الأمن والثقة والطمأنينة إلى جوار الله، حين تخشى قوى الأرض وملابسات الحياة. ويعطيها جرعة من الخوف والحذر والترقب لبأس الله، حين تركن إلى قوى الأرض ومغريات الحياة. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير «1» ..
والآن- وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام:
«تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها، وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..
فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول- صلى الله عليه وسلم- به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه.
«وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» ..
__________
(1) راجع بتوسع فصل: «خطوط متقابلة في النفس الإنسانية» في كتاب: «منهج التربية الإسلامية» وكتاب: «دراسات في النفس الإنسانية» لمحمد قطب «دار الشروق» .(3/1341)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان. وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا.
إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب:
«كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ» ..
ولقد تكشفت تلك التجارب عن طبيعة غالبة:
«وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..
والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر، الذي ورد ذكره في أواخر السورة:
«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا» ..
وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل. ثم انحرفت الخلائف. كما يقع في كل جاهلية. إذ تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان، وترتد إلى الجاهلية.
وإياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به، ويثبتون عليه. إنما هو الهوى المتقلب، والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم.
«وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..
منحرفين عن دين الله وعهده القديم.. وهذه ثمرة التقلب، ونقض العهد، واتباع الهوى.. ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله، مستقيماً على طريقته، مسترشداً بهداه. فلا بد أن تتفرق به السبل، ولا بد أن ينحرف، ولا بد أن يفسق.. وكذلك كان أهل تلك القرى. وكذلك انتهى بهم المطاف..
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 137]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)(3/1342)
يتضمن هذا الدرس قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه. من حلقة مواجهتهم بربوبية الله للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين. وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة. وغلبة الحق على الباطل. وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل. واستعلان الحق في نفوسهم على هذا التوعد وانتصار العقيدة في قلوبهم على حب الحياة. ثم ماتلا ذلك من التنكيل ببني إسرائيل. وأخذ الله لفرعون وملئه بالسنين ونقص من الثمرات. ثم أخذهم بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وهم يستغيثون بموسى في كل مرة أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب. حتى إذا رفع عنهم عادوا لما كانوا فيه وأعلنوا أنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات. حتى حقت عليهم كلمة الله في النهاية فأغرقوا في اليم بتكذيبهم بآيات الله وغفلتهم عن حكمة ابتلائه- وفق السنة الجارية في أخذ المكذبين بالضراء والسراء قبل أخذهم بالدمار والهلاك- ثم إعطاء الخلافة في الأرض لقوم موسى جزاء على صبرهم واجتيازهم ابتلاء الشدة.. لتعقبها فتنة الرخاء..
وقد اخترنا أن نجعل هذا القطاع من القصة درساً ونجعل القطاع الآخر الخاص بقصة موسى- عليه السلام- مع قومه بعد ذلك درساً يليه لاختلاف طبيعة القطاعين، واختلاف مجالهما كذلك..
والقصة تبدأ هنا بمجمل عن بدئها ونهايتها، يوحي بالغرض الذي جاءت من أجله في سياق هذه السورة «1» :
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، فَظَلَمُوا بِها، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
فيصرح النص بالغرض من سياقة القصة في هذا الموضع.. إنه النظر إلى عاقبة المفسدين.. وبعد ذلك الإجمال الموحي بالغاية، تعرض الحلقات التي تفي بهذه الغاية، وتصورها تفصيلاً.
والقصة تقطع إلى مشاهد حية، تموج بالحركة وبالحوار، وتزخر بالانفعالات والسمات، وتتخللها التوجيهات إلى مواضع العبرة في السياق، وتكشف عن طبيعة المعركة بين الدعوة إلى «رَبِّ الْعالَمِينَ» وبين الطواغيت المتسلطة على عباد الله، المدعية للربوبية من دون الله، كما تتجلى روعة العقيدة حين تستعلن، فلا تخشى سلطان الطواغيت، ولا تحفل التهديد والوعيد الشديد..
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، فَظَلَمُوا بِها، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
بعد تلك القرى وما حل بها وبالمكذبين من أهلها، كانت بعثة موسى.. والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها. كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها. لقد ظلموا بهذه الآيات- أي كفروا وجحدوا- والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة «الظلم» وكلمة «الفسق» في موضع كلمة «الكفر» أو كلمة «الشرك» . وهذه من تلك المواضع التي يكثر
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1344)
ورودها في التعبير القرآني. ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق.. والذين يكفرون أو يشركون يظلمون الحقيقة الكبرى- حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد- ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة. ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية لله الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة.. وليس بعد ذلك ظلم.. ومن ثم فالكفر هو الظلم «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» كما يقول التعبير القرآني الكريم.. وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسق ويخرج عن طريق الله وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه- سبحانه- إنما تؤدي إلى الجحيم! ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا.
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
وهذه العاقبة ستجيء في السياق عن قريب.. أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة: «المفسدين» وهي مرادف لكلمة «الكافرين» أو «الظالمين» في هذا الموضع.. إنهم ظلموا بآيات الله: أي كفروا بها وجحدوا.
فانظر كيف كان عاقبة «المفسدين» هؤلاء.
إنهم مفسدون لأنهم «ظلموا» - أي «كفروا وجحدوا» .. ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد. وأشنع الإفساد.. إن الحياة لا تستقيم ولا تصلح إلا على أساس الإيمان بالله الواحد، والعبودية لإله واحد.. وإن الأرض لتفسد حين لا تتمحض العبودية لله في حياة الناس.. إن العبودية لله وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة، وشهوات البشر الصغيرة! .. إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد- من دون الله- وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم لله وحده- عقيدة وعبادة وشريعة- وما تحرر «الإنسان» قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة.. ومن ثم يقول الله سبحانه عن فرعون وملئه:
«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ..
وكل طاغوت يُخضع العباد لشريعة من عنده، وينبذ شريعة الله، هو من «المفسدين» الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون! وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص. وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة، وللمحور الذي تدور حوله. لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى- تحقيقاً للهدف من سياقتها- ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها.
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه؟
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما:
«وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ. قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ..(3/1345)
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.. مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى «رب العالمين» وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين! «وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ، إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
«يا فرعون» .. لم يقل له: يا مولاي! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز. ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود:
«إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
لقد جاء موسى- عليه السلام- بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله. حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً.. ألوهية واحدة وعبودية شاملة.. لا كما يقول الخابطون في الظلام من «علماء الأديان» ومن يتبعهم في زعمهم عن «تطور العقيدة» إطلاقاً، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين! .. إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعاً عقيدة واحدة ثابتة تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها. ولا تتطور من الآلهة المتعددة، إلى التثنية، إلى الوحدانية في نهاية المطاف.. فأما جاهليات البشر- حين ينحرفون عن العقيدة الربانية- فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية.. وسائر أنواع العقائد الجاهلية.. ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح.
ولقد واجه موسى- عليه السلام- فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي- قبله أو بعده- عقائد الجاهلية الفاسدة.. واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه..
إن ربوبية الله للعالمين تعني- أول ما تعني- إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له- من دون الله- بإخضاعهم لشرعه هو وأمره.. واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين.. ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله.
«حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» ..
فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة الله، ليقول عليه إلا الحق، وهو يعلم قدره ويجد حقيقته- سبحانه- في نفسه..
«قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» ..
تدلكم على صدق قولي: إني رسول من رب العالمين.
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة.. حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين.. طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل..
إن بني إسرائيل عبيد لله وحده فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه! إن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين. فمن كان عبداً لله، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه. وإذ كان فرعون إنما يعبد بني إسرائيل لهواه فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله. وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل! إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان. تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله. تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر.(3/1346)
وإعلان ربوبية الله للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس.. والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر- أي لربوبية غير ربوبية الله- واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون! إنهم لا يكونون في دين الله لحظة واحدة وحاكمهم غير الله، وقانونهم غير شريعة الله. إنما هم في دين حاكمهم ذاك. في دين الملك لا في دين الله! وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى- عليه السلام- أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل:
«يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ... «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ...
مقدمة ونتيجة.. تتلازمان ولا تفترقان..
ولم تغب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان. إعلان ربوبية الله للعالمين.. لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هدم ملك فرعون. وقلب نظام حكمه، وإنكار شرعيته، وكشف عدوانه وطغيانه.. ولكن كان أمام فرعون وملئه فرصة أن يظهروا موسى بمظهر الكاذب الذي يزعم أنه رسول من رب العالمين بلا بينة ولا دليل:
«قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
ذلك أنه إذا اتضح أن هذا الداعية إلى ربوبية رب العالمين كاذب في دعواه سقطت دعوته، وهان أمره ولم يعد لهذه الدعوة الخطيرة من خطر- وصاحبها دعيّ لا بينة عنده ولا دليل! ولكن موسى يجيب:
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» ..
إنها المفاجأة! إن العصا تنقلب ثعباناً لا شك في ثعبانيته.. «مبين» .. وكما قيل في سورة أخرى: «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» «1» .. ثم إن يده السمراء- وقد كان موسى عليه السلام «آدم» أي مائلاً إلى السمرة- يخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء، بيضاء ليست عن مرض، ولكنها المعجزة، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء! هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى.. إني رسول من رب العالمين.
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين؟ وعلام إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه؟ وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه؟
علام يقوم هذا كله إن كان الله هو «رب العالمين» ؟
إنه إن كان الله هو «رب العالمين» فلا حكم إلا لشريعة الله، ولا طاعة إلا لأمر الله.. فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن، وهو لا يقوم على شريعة الله ولا يرتكن إلى أمره؟ .. إن الناس لا يكون لهم «رب» آخر يعبدهم لحكمه وشرعه وأمره، إن كان الله هو ربهم.. إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون. فالحاكم- بأمره وشرعه- هو رب الناس. وهم في دينه أياً كان! كلا! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب. ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة!
__________
(1) علماء الحيوان يفرقون بين «الثعابين» و «الحيات» ولكنهما من فصيلة واحدة..(3/1347)
وفرعون وملؤه لا يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى. بل إنهم ليعلنونها صريحة.
ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة، باتهام موسى بأنه ساحر عليم:
«قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. فَماذا تَأْمُرُونَ؟» ..
إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة. إنها الخروج من الأرض.. إنها ذهاب السلطان.. إنها إبطال شرعية الحكم.. أو.. محاولة قلب نظام الحكم! .. بالتعبير العصري الحديث! إن الأرض لله. والعباد لله. فإذا ردت الحاكمية في أرض لله، فقد خرج منها الطغاة، الحاكمون بغير شرع الله! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم.
وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب! هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة.. وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة.. لقد قال الرجل العربي- بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: «هذا أمر تكرهه الملوك!» . وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته: «إذن تحاربك العرب والعجم» .. لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حس هؤلاء العرب، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيداً. فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله، مع الحكم بغير شرع الله! فيكون هناك آلهة مع الله! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم «مسلمين» ..
ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل! وهكذا قال الملأ من قوم فرعون، يتشاورون مع فرعون:
«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. فَماذا تَأْمُرُونَ؟» .
واستقر رأيهم على أمر:
«قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ، وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ..
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد. وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر. ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها «علماء الأديان!» فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة! ويقول الملحدون منهم: إن الدين سيبطل كما بطل السحر! وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر! ..
إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه: «العلم» ! وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون، على أن يرجىء فرعون موسى إلى موعد. وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة. ذلك ليواجهوا «سحر موسى» - بزعمهم- بسحر مثله.
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين! وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة! ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن ويسدل الستار على المشهد الأول،(3/1348)
ليرفعه على المشهد التالي.. وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص، كأنه واقع منظور، لا حكاية تروى «1» ! «وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ، قالُوا: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ..
إنهم محترفون ... يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وإفراده- سبحانه- بالحاكمية وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة: هم يقرون سلطانه باسم الدين! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين! ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم، ووعدهم مع الأجر القربى منه، زيادة في الإغراء، وتشجيعاً على بذل غاية الجهد.. وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون! ولقد اطمأن السحرة على الأجر، واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون، واستعدوا للحلبة.. ثم هاهم أولاء يتوجهون إلى موسى- عليه السلام- بالتحدي.. ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون، ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون:
«قالُوا: يا مُوسى، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ.. قالَ: أَلْقُوا» ..
ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى. وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة.. وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى- عليه السلام- واستهانته بالتحدي: «قالَ أَلْقُوا» .. فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى. على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال، بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين «2» .
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجىء به موسى- عليه السلام «3» - وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة، إذا بنا أمام مظهر السحر البارع، الذي يرهب ويخيف:
«فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» .
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم، لندرك أي سحر كان. وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا «أعين الناس» وأثاروا الرهبة في قلوبهم: «واسترهبوهم» لنتصور أي سحر كان. ولفظ «استرهب» ذاته لفظ مصور.
فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً. ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه، أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان! ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه، وتطالع السحرة الكهنة، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم:
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .
(2) يراجع فصل: «التناسق الفني» في المصدر السابق.
(3) هذه المفاجأة لموسى لم ينص عليها هنا وإنما جاءت في سورة طه: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» .(3/1349)
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ، وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ» ..
إنه الباطل ينتفش، ويسحر العيون، ويسترهب القلوب، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه مُحيق! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفىء كشعلة الهشيم! وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور.. والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال، وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل: «فوقع الحق» .. وثبت، واستقر.. وذهب ما عداه فلم يعد له وجود: «وبطل ما كانوا يعملون» .. وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون:
«فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ» ..
ولكن المفاجأة لم تختم بعد. والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى.. مفاجأة كبرى..
«وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» ..
إنها صولة الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين..
إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر. والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له، لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور.. ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين..
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان ولا كيف تلمسها حرارة اليقين. فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء-.. ومن ثم فوجىء فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر.. ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته: مفاجأة استسلام السحرة- وهم من كهنة المعابد- لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين! .. والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت.. وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت:
«قالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ! إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
هكذا.. «آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ!» .. كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق- وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها- أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم- وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً- أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم- وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها. أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق. أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار. أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين! ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!(3/1350)
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:
«إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» ..
وفي نص آخر: «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» ! والمسألة واضحة المعالم.. إنها دعوة موسى إلى «رب العالمين» .. هي التي تزعج وتخيف.. إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين. وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون، ويعبدون الناس لما يشرعون! .. إنهما منهجان لا يجتمعان ... أو هما دينان لا يجتمعان.. أو هما ربان لا يجتمعان.. وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون.. ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون! والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين! وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع:
«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ..
إنه التعذيب والتشويه والتنكيل.. وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق، الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان.. وعدة الباطل في وجه الحق الصريح..
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم. إنها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟ ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟ ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟ وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟ .. لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك، فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق..
«قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ.. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين» ..
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع. كما أنه لا يخضع أو يخنع. الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها، ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره:
«قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» ..
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت.. وأنها معركة العقيدة في الصميم.. لا يداهن ولا يناور..
ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة:
«وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» ..
والذي يعرف أين يتجه في المعركة، وإلى من يتجه لا يطلب من خصمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام:
«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» ..
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان.. يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام. فإذا هي مستعصية عليه، لأنها من أمر الله، لا يملك أمرها إلا الله.. وماذا يملك الطغيان إذا(3/1351)
رغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان! إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية. هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة..
السابقين..
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار «الإنسان» على «الشيطان» ! إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية. فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة. والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح. ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب.
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز، وتمنى بالقرب من السلطان.. هي ذاتها التي تستعلي على فرعون وتستهين بالتهديد والوعيد، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب. وما تغير في حياتها شيء، ولا تغير من حولها شيء- في عالم المادة- إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى. وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد.. وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة، ويتسمع الضمير أصداء الهداية، وتتلقى البصيرة إشراقات النور.. وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ولكنها هي تغير الواقع المادي وترفع «الإنسان» في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال! ويذهب التهديد.. ويتلاشى الوعيد.. ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد.. إن روعة الموقف تبلغ ذروتها وتنتهي إلى غايتها. وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض مع الهدف النفسي للقصة، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن. «1»
ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ ...
نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين، رب موسى وهارون، يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان، مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان.. وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل.. ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها.. إنه لا يجتمع في قلب واحد، ولا في بلد واحد، ولا في نظام حكم واحد، أن يكون الله رب العالمين، وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد، يباشره بتشريع من عنده وقوانين.. فهذا دين وذلك دين..
ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة- بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقاناً في تصورهم- أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين.
__________
(1) راجع كتاب «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1352)
فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون ... أو بتعبير آخر مرادف: من ربوبية فرعون، ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله.. وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده. فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله.. إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين وأن عدوهم على دين غير دينهم لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين.. فهو إذن من الكافرين.. وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين- على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل- إلا بمثل هذا اليقين بشقيه: أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين.
ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار «الإنسان» على الشيطان. وهو مشهد بالغ الروعة.. نعترف أننا نعجز عن القول فيه. فندعه كما صوره النص القرآني الكريم! ثم نعود إلى سياق القصة القرآني.. حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد.. إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض. بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان. مشهد الملأ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجياً والذين آمنوا معه- وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. كما جاء في موضع آخر من القرآن- فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم، وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم من ضياع الهيبة والسلطان باستشراء العقيدة الجديدة، في ربوبية الله للعالمين. فإذا هو هائج مائج، مهدد متوعد، مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه! «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» ..
إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره أو أن له سلطاناً في عالم الأسباب الكونية. إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور. وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره- وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي- كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له- فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر من قول الملأ له: «ويذرك وآلهتك» وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية. إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم، لا يعصون له أمراً، ولا ينقضون له شرعاً.. وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة.. فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه، وذلك هو تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية» عند ما سمعها منه عدي بن حاتم- وكان نصرانياً جاء ليسلم- فقال:
يا رسول الله ما عبدوهم. فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم» ... (أخرجه الترمذي) .(3/1353)
أما قول فرعون لقومه: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» .. فيفسره قوله الذي حكاه القرآن عنه: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. وَلا يَكادُ يُبِينُ؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ؟» .. وظاهر أنه كان يوازن بين ما هو فيه من ملك ومن أسورة الذهب التي يحلى بها الملوك، وبين ما فيه موسى من تجرد من السلطان والزينة!.
وما قصد بقوله: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» إلا أنه هو الحاكم المسيطر الذي يسيرهم كما يشاء والذي يتبعون كلمته بلا معارض! والحاكمية على هذا النحو ألوهية كما يفيد المدلول اللغوي! وهي في الواقع ألوهية. فالإله هو الذي يشرع للناس وينفذ حكمه فيهم! سواء قالها أم لم يقلها «1» ! وعلى ضوء هذا البيان نملك أن نفهم مدلول قول ملأ فرعون:
«أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟» ..
فالإفساد في الأرض- من وجهة نظرهم- هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره- أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه- وإذن فهو- بزعمهم- الإفساد في الأرض، بقلب نظام الحكم، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تماماً لهذه الأوضاع، الربوبية فيه لله لا للبشر. ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه..
ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة.. بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة! وهي بنوة ليست حسية! فلقد كان الناس يعرفون جيداً أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين.
إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته. فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح.. وذلك كما يقول الله سبحانه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ.. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ.. وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله.. فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله.. ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى- عليه السلام- إلى «رب العالمين» وإيمان السحرة بهذا الدين، وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين.. ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده.. أو من شهادة أن لا إله إلا الله.. حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام. لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام! ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع:
«قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» :
وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل- في إبان مولد موسى- مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «المصطلحات الأربعة» للمسلم الصادق السيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(3/1354)
مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ..
إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان. لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام..!
ويدع السياق فرعون وملأه يتآمرون، ويسدل الستار على مشهد التآمر والوعيد، ليرفعه على مشهد خامس من مشاهد القصة ندرك منه أن فرعون قد مضى ينفذ الوعيد.. إنه مشهد النبي موسى- عليه السلام- مع قومه، يحدثهم بقلب النبي ولغته، ومعرفته بحقيقة ربه وبسنته وقدره، فيوصيهم باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها. ويعرفهم بحقيقة الواقع الكوني. فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة لمن يتقون الله ولا يخشون أحداً سواه.. فإذا شكوا إليه أن هذا العذاب الذي يحل بهم قد حل بهم من قبل أن يأتيهم، وهو يحل بهم كذلك بعد ما جاءهم، حيث لا تبدو له نهاية، ولا يلوح له آخر! أعلن لهم رجاءه في ربه أن يهلك عدوهم، ويستخلفهم في الأرض ليبتليهم في أمانة الخلافة:
«قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا. قالَ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .
إنها رؤية «النبي» لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه. ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه.
ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون..
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين. وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه.
وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير..
وإن الأرض لله. وما فرعون وقومه إلا نزلاء فيها. والله يورثها من يشاء من عباده- وفق سنته وحكمته- فلا ينظر الداعون إلى رب العالمين، إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها.. فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها! وإن العاقبة للمتقين.. طال الزمن أم قصر.. فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير.
ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين..
إنها رؤية «النبي» لحقائق الوجود الكبير..
ولكن إسرائيل هي إسرائيل! «قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» :
إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية! ويمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم.
واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف.
«قالَ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .
إنه ينظر بقلب النبي فيرى سنة الله، تجري وفق وعده، للصابرين، وللجاحدين! ويرى من خلال سنة الله(3/1355)
هلاك الطاغوت وأهله، واستخلاف الصابرين المستعينين بالله وحده. فيدفع قومه دفعاً إلى الطريق لتجري بهم سنة الله إلى ما يريد.. وهو يعلمهم- منذ البدء- أن استخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم. ليس أنهم أبناء الله وأحباؤه- كما زعموا- فلا يعذبهم بذنوبهم! وليس جزافاً بلا غاية. وليس خلوداً بلا توقيت. إنه استخلاف للامتحان: «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. وهو سبحانه يعلم ماذا سيكون قبل أن يكون. ولكنها سنة الله وعدله ألا يحاسب البشر حتى يقع منهم في العيان، ما هو مكشوف من الغيب لعلمه القديم.
ويدع السياق موسى وقومه ويسدل عليهم الستار، ليرفعه من الجانب الآخر على مشهد سادس: مشهد فرعون وآله، يأخذهم الله بعاقبة الظلم والطغيان ويحقق وعد موسى لقومه، ورجاءه في ربه ويصدق النذير الذي يظلل جو السورة، وتساق القصة كلها لتصديقه.
ويبدأ المشهد هوناً ولكن العاصفة تتمشى فيه شيئاً فشيئاً، فإذا كان قبيل إسدال الستار دمدمت العاصفة، فدمرت كل شيء، وعصفت بكل شيء، وخلا وجه الأرض من الطاغية وذيول الطاغية، وعلمنا أن بني إسرائيل قد صبروا فلقوا جزاء صبرهم الحسنى، وأن فرعون وآله فجروا فلقوا جزاء فجورهم الدمار وصدق وعد الله ووعيده وجرت سنة الله في أخذ المكذبين بالهلاك بعد أخذهم بالضراء والسراء:
«وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ! وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ.. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ.. بِما صَبَرُوا.. وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» ..
لقد مضى فرعون وملؤه إذن في جبروتهم ونفذ فرعون وعيده وتهديده، فقتل الرجال واستحيا النساء.
ولقد مضى موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء.. وعندئذ..
عند ما نمحص الموقف: إيمان يقابله الكفر. وطغيان يقابله الصبر. وقوة أرضية تتحدى الله.. عندئذ أخذت القوة الكبرى تتدخل سافرة بين المتجبرين والصابرين:
«وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» ..
إنها إشارة التحذير الأولى.. الجدب ونقص الثمرات.. و «السنين» تطلق في اللغة على سني الجدب والشدة والقحط. وهي في أرض مصر، المخصبة المثمرة المعطاء، تبدو ظاهرة تلفت النظر، وتهز القلب، وتثير القلق، وتدعو إلى اليقظة والتفكر لولا أن الطاغوت والذين يستخفهم الطاغوت- بفسقهم عن دين الله- فيطيعونه، لا يريدون أن يتدبروا ولا أن يتفكروا ولا يريدون أن يروا يد الله في جدب الأرض ونقص الثمرات ولا يريدون أن يتذكروا سنن الله ووعده ووعيده ولا يريدون أن يعترفوا بأن هناك علاقة وثيقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية.. لأن هذه العلاقة من عالم الغيب.. وهم أغلظ حساً وأجهل قلباً من أن يروا وراء الواقع المحسوس- الذي تراه البهائم وتحسه ولا ترى غيره ولا تحسه- شيئاً! وإذا رأوا شيئا من(3/1356)
عالم الغيب لم يتفطنوا إلى سنة الله الجارية وفق المشيئة الطليقة وإنما نسبوه إلى المصادفات العابرة، التي لا علاقة لها بنواميس الوجود الدائرة «1» .
وكذلك لم ينتبه آل فرعون إلى اللمسة الموقظة الدالة على رحمة الله بعباده- حتى وهم يكفرون ويفجرون.
كانت الوثنية وخرافاتها قد أفسدت فطرتهم وقطعت ما بينهم وبين إدراك النواميس الدقيقة الصحيحة التي تصرف هذا الكون، كما تصرف حياة الناس والتي لا يراها ولا يدركها على حقيقتها إلا المؤمنون بالله إيماناً صحيحاً.. الذين يدركون أن هذا الوجود لم يخلق سدى، ولا يمضي عبثاً، إنما تحكمه قوانين صارمة صادقة..
وهذه هي «العقلية العلمية» الحقيقية. وهي عقلية لا تنكر «غيب الله» لأنه لا تعارض بين «العلمية» الحقيقية و «الغيبية» ولا تنكر العلاقة بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة، لأن وراءها الله الفعال لما يريد الذي يريد من عباده الإيمان وهو يريد منهم الخلافة في الأرض، والذي يسن لهم من شريعته ما يتناسق مع القوانين الكونية ليقع التناسق بين حركة قلوبهم وحركتهم في الأرض..
لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله، وبغيهم وظلمهم لعباد الله.. وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات.. في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون! لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم. ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقاً طبيعياً لهم! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى ومن معه عليهم.
«فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ! وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» ..
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى يده- سبحانه- في تصريف هذا الوجود ولا ترى قدره الذي تنشأ به الأشياء والأحداث. وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة.
فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة. لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام- وذلك كالذي قاله خروشوف صاحب الاشتراكية «العلمية!» عن معاكسة «الطبيعة!» لهم في تعليل نقص الثمرات والغلات! وكما يقول الذين يمضون مع هذه «العلمية» المدعاة في تعليل مثل هذه الأحداث.. وهم ينكرون قدر الله.. وفيهم من يدعي بعد استنكار غيب الله وقدر الله أنه «مسلم» وهو ينكر أصول الإيمان بالله! وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث. الحسنة التي تصيبهم هي من حسن حظهم وهم يستحقونها.
والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومن معه عليهم، ومن تحت رأسهم! وأصل «التطير» في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه.. فقد كان الرجل منهم إذا اراد أمراً، جاء إلى عش طائر فهيجه عنه، فإذا طار عن يمينه- وهو السانح- استبشر بذلك ومضى في الأمر الذي يريده. وإذا طار الطائر عن شماله- وهو البارح- تشاءم به ورجع عما عزم عليه! فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي وأحل محله التفكير «العلمي» - العلمي الصحيح- وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود وإلى قدر الله الذي يحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها
__________
(1) عند ما نقصت الغلات في روسيا الشيوعية وفي المعسكر الشيوعي كله.. لم يجد خروشوف إلا أن يقول: إن «الطبيعة» تعاكسنا! وهو الرجل الذي يدعي «الاشتراكية العلمية!» وينكر «الغيبية» ! إنه العمى عن رؤية يد الله القاهرة.. وإلا فما هي هذه «الطبيعة» التي لها إرادة «تعاكس» بها البشر؟(3/1357)
وأقام الأمور على أسس «علمية» يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده وتوضع في موضعها الصحيح، في إطار المشيئة الإلهية الطليقة، وقدره النافذ المحيط:
«أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد.. إنه من أمر الله.. ومن هذا المصدر تصيبهم الحسنة للابتلاء.. وتصيبهم السيئة للابتلاء: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» .. ويصيبهم النكال للجزاء.. ولكن أكثرهم لا يعلمون.. كالذين ينكرون غيب الله وقدره في هذه الأيام باسم «العقلية العلمية» ! وكالذين ينسبون إلى الطبيعة المعاكسة باسم «الاشتراكية العلمية» كذلك!!! وكلهم جهال.. وكلهم لا يعلمون! ويمضى آل فرعون في عتوهم، تأخذهم العزة بالإثم ويزيدهم الابتلاء شماساً وعناداً:
«وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» ..
فهو الجموح الذي لا تروضه تذكرة ولا يرده برهان ولا يريد أن ينظر ولا أن يتدبر، لأنه يعلن الإصرار على التكذيب قبل أن يواجه البرهان- قطعاً للطريق على البرهان! - وهي حالة نفسية تصيب المتجبرين حين يدمغهم الحق وتجبههم البينة، ويطاردهم الدليل.. بينما هواهم ومصلحتهم وملكهم وسلطانهم.. كله في جانب آخر غير جانب الحق والبينة والدليل! عندئذ تتدخل القوة الكبرى سافرة بوسائلها الجبارة:
«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ..»
للإنذار والابتلاء.. آيات مفصلات.. واضحة الدلالة، منسقة الخطوات، تتبع الواحدة منها الأخرى، وتصدق اللاحقة منها السابقة.
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة، التي جاءتهم مفرقة. واحدة واحدة. وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها، وإذا رفع عنهم هذا «الرجز» ، أي العذاب، الذي لا قبل لهم بدفعه:
«وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ- بِما عَهِدَ عِنْدَكَ- لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ، وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ..
وفي كل مرة ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم:
«فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ- إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ- إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» ..
جمع السياق الآيات كلها، كأنما جاءتهم مرة واحدة. وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة. ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة، وكانت نهايتها واحدة كذلك. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك.. ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة لا يفيد منها شيئاً، ولا يجد فيها عبرة..
فأما كيف وقعت هذه الآيات، فليس لنا وراء النص القرآني شيء. ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها شيئاً. ونحن على طريقتنا في هذه «الظلال» نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع. لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة. وذلك تحرزاً(3/1358)
من الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها والتي تسربت- مع الأسف- إلى التفاسير القديمة كلها، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري- على نفاسة قيمته- وتفسير ابن كثير كذلك- على عظيم قدره- لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة..
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، وعن قتادة، وعن ابن إسحاق.. رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره. وهذه واحدة منها:
«حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال:
لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان- وهو المطر- فصب عليهم منه شيئاً، فخافوا أن يكون عذاباً، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنى! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع. فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فداسوا «1» وأحرزوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزنا! فأرسل الله عليهم القمل- وهو السوس الذي يخرج منه- فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة «2» . فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيد هذا؟! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف عنهم فلم يؤمنوا. فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم، وجدوه دماً عبيطاً «3» . فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوه فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل» .
والله أعلم أي ذلك كان.. والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات.
فالله- سبحانه- أرسلها بقدره، في وقت معين، ابتلاء لقوم معينين وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون.
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم، يلجأون إلى موسى- عليه السلام- ليدعو ربه بما عهد عنده، ليكشف عنهم البلاء.. وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب. لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر وتفزع من ربوبية الله لهم. إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله! .. أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلط
__________
(1) داسوا: درسوا.
(2) الجريب والقفيز مكيالان للحبوب، والجريب أربعة أقفزة.
(3) عبيطا: طريا.(3/1359)
الآفات على زروعهم، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله أَلبتة! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات، - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء، قال لهم أصحاب «العلمية!» الكاذبة: هذا الاتجاه خرافة «غيبية!» وتندروا عليهم وسخروا منهم! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين! ثم تجيء الخاتمة- وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء- وتقع الواقعة. ويدمر الله على فرعون وملئه- بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه- ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين، بعد إهلاك الطغاة المتجبرين:
«فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ، بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» ... «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» ..
والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق، ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور.
ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل فلا يعرض لشيء من التفصيل.. إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس! «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» ..
ضربة واحدة، فإذا هم هالكون. ومن التعالي والتطاول والاستكبار، إلى الهويّ في الأعماق والأغوار، جزاء وفاقاً:
«بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» ..
فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها، وبين هذا المصير المقدور. ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة، ولا تمضي فلتات عابرة، كما يظن الغافلون! وتنسيقاً للجو الحاسم يعجل السياق كذلك بعرض الصفحة الأخرى- صفحة استخلاف المستضعفين- ذلك أن استخلاف بني إسرائيل- في الفترة التي كانوا أقرب ما يكونون فيها إلى الصلاح وقبل أن يزيغوا فيكتب عليهم الذل والتشرد- لم يكن في مصر، ولم يكن في مكان فرعون وآله. إنما كان في أرض الشام، وبعد عشرات السنوات من حادث إغراق فرعون- بعد وفاة موسى عليه السلام وبعد التيه أربعين سنة كما جاء في السورة الأخرى- ولكن السياق يطوي الزمان والأحداث، ويعجل بعرض الاستخلاف هنا تنسيقاً لصفحتي المشهد المتقابلتين:
«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» ... «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ «1» » ..
على أننا نحن البشر- الفانين المقيدين بالزمان- إنما نقول «قبل» و «بعد» لأننا نؤرخ للأحداث بوقت مرورها بنا وإدراكنا لها! لذلك نقول: إن استخلاف القوم الذين كانوا يستضعفون، كان متأخراً عن حادث الإغراق.. ذلك إدراكنا البشري.. فأما الوجود المطلق والعلم المطلق فما «قبل» عنده وما «بعد» ؟!
__________
(1) أي يبنون.. وقد يراد بها ما كانوا يعرشون من الحدائق، وأكثر ما يكون في إقامة كروم العنب على عرائش. [.....](3/1360)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
والصفحة كلها معروضة له سواء، مكشوفة لا يحجبها زمان ولا مكان.. ولله المثل الأعلى. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً..
وهكذا يسدل الستار على مشهد الهلاك والدمار في جانب وعلى مشهد الاستخلاف والعمار في الجانب الآخر.. وإذا فرعون الطاغية المتجبر وقومه مغرقون، وإذا كل ما كانوا يصنعون للحياة، وما كانوا يقيمون من عمائر فخمة قائمة على عمد وأركان، وما كانوا يعرشون من كروم وثمار.. إذا هذا كله حطام، في ومضة عين، أو في بضع كلمات قصار! مثل يضربه الله للقلة المؤمنة في مكة، المطاردة من الشرك وأهله ورؤيا في الأفق لكل عصبة مسلمة تلقى من مثل فرعون وطاغوته، ما لقيه الذين كانوا يستضعفون في الأرض، فأورثهم الله مشارق الأرض ومغاربها المباركة- بما صبروا- لينظر كيف يعملون!
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 171]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)(3/1361)
في هذا الدرس تمضي قصة موسى- عليه السلام- في حلقة أخرى.. مع قومه بني إسرائيل بعد إذ أنجاهم الله من عدوهم وأغرق فرعون وملأه ودمر ما كانوا يصنعون وما كانوا يعرشون.. إن موسى- عليه السلام- لا يواجه اليوم طاغوت فرعون وملئه فقد انتهت المعركة مع الطاغوت.. ولكنه يواجه معركة أخرى- لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً- إنه يواجه المعركة مع «النفس البشرية!» يواجهها مع رواسب الجاهلية في هذه النفس ويواجهها مع رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل وملأها بالالتواء من ناحية وبالقسوة من ناحية وبالجبن من ناحية وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية. وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء! ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً عاشوا في ظل الإرهاب وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك.
عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.
وفسدت نفوسهم وفسدت طبيعتهم والتوت فطرتهم وانحرفت تصوراتهم وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر.. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان..
لقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس: «ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم» .. كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام..
إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله..
ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا. بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني..
ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر..
فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص- فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظهر ابن قبطي من أهل مصر- لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال- غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه- من ابن فاتح مصر وحاكمها- وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب- الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان- وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي(3/1364)
لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان- حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام- كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح.
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة- بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر- وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس، وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية وتواجه موسى- عليه السلام- بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل! وسنرى متاعب موسى- عليه السلام- في المحاولة الضخمة التي يحاولها وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلاً، حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلاً، وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره! وسنرى من خلال متاعب موسى- عليه السلام- متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت- وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلاً لا روح فيه! إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة! ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل.
«وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ. قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قالَ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؟ وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..
إنه المشهد السابع في القصة- مشهد بني إسرائيل بعد تجاوز البحر- ونحن فيه وجهاً لوجه أمام طبيعة القوم المنحرفة المستعصية على التقويم بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم.. إن العهد لم يطل بهم منذ أن كانوا يسامون الخسف في ظل الوثنية الجاهلية عند فرعون وملئه ومنذ أن أنقذهم نبيهم وزعيمهم موسى- عليه السلام- باسم الله الواحد- رب العالمين- الذي أهلك عدوهم وشق لهم البحر وأنجاهم من العذاب الوحشي الفظيع الذي كانوا يسامون.. إنهم خارجون للتو واللحظة من مصر ووثنيتها ولكن هاهم أولاء ما إن يجاوزوا البحر حتى تقع أبصارهم على قوم وثنيين، عاكفين على أصنام لهم، مستغرقين في طقوسهم الوثنية وإذا هم يطلبون إلى موسى- رسول رب العالمين- الذي أخرجهم من مصر باسم الإسلام والتوحيد، أن يتخذ لهم وثناً يعبدونه من جديد! «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ. قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» !(3/1365)
إنها العدوى تصيب الأرواح كما تصيب الأجسام! ولكنها لا تصيبها حتى يكون لديها الاستعداد والتهيؤ والقابلية. وطبيعة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم عرضاً صادقاً دقيقاً أميناً في شتى المناسبات- طبيعة مخلخلة العزيمة، ضعيفة الروح، ما تكاد تهتدي حتى تضل، وما تكاد ترتفع حتى تنحط، وما تكاد تمضي في الطريق المستقيم حتى ترتكس وتنتكس.. ذلك إلى غلظ في الكبد، وتصلب عن الحق، وقساوة في الحس والشعور! وهاهم أولاء على طبيعتهم تلك، هاهم أولاء ما يكادون يمرون بقوم يعكفون على أصنام لهم حتى ينسوا تعليم أكثر من عشرين عاماً منذ أن جاءهم موسى- عليه السلام- بالتوحيد- فقد ذكرت بعض الروايات أنه أمضى في مصر ثلاثة وعشرين عاماً منذ أن واجه فرعون وملأه برسالته إلى يوم الخروج من مصر مجتازاً ببني إسرائيل البحر- بل حتى ينسوا معجزة اللحظة التي أنقذتهم من فرعون وملئه وأهلكت هؤلاء أجمعين! وهؤلاء كانوا وثنيين، وباسم هذه الوثنية استذلوهم- حتى إن الملأ من قوم فرعون ليهيجونه على موسى ومن معه بقولهم: «أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟» .. ينسون هذا كله ليطلبوا إلى نبيهم:
رسول رب العالمين أن يتخذ لهم بنفسه.. آلهة! ولو أنهم هم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة.. ولكنما هي إسرائيل! ..
ويغضب موسى- عليه السلام- غضبة رسول رب العالمين، لرب العالمين- يغضب لربه- سبحانه- ويغار على ألوهيته أن يشرك بها قومه! فيقول قولته التي تليق بهذا الطلب العجيب:
«قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» ..
ولم يقل تجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل.. الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل! فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود! ثم ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق..
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر وبوحدانية هذا الخالق المدبر. فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، وطابع الوحدة ظاهر كذلك فيها وفي آثارها التي يكشفها النظر والتدبر- وفق المنهج الصحيح- وما يغفل عن ذلك كله، أو يعرض عن ذلك كله، إلا الحمقى والجهال. ولو ادعوا «العلم» كما يدعيه الكثيرون! ويمضي موسى- عليه السلام- يكشف لقومه عن سوء المغبة فيما يطلبون، بالكشف عن سوء عقبى القوم الذين رأوهم يعكفون على أصنام لهم، فأرادوا أن يقلدوهم:
«إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ، وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
إن ما هم فيه من شرك، وعكوف على الآلهة، وحياة تقوم على هذا الشرك، وتتعدد فيها الأرباب، ومن يقوم وراء الأرباب من السدنة والكهنة، ومن حكام يستمدون سلطانهم من هذا الخليط.. إلى آخر ما يتبع الانحراف عن الألوهية الواحدة من فساد في التصورات وفساد في الحياة.. إن هذا كله هالك باطل ينتظره ما ينتظر كل باطل من الهلاك والدمار في نهاية المطاف! ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى- عليه السلام- على ربه والغضب له- سبحانه- والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم- وهي حاضرة ظاهرة-:
«قالَ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؟» ..(3/1366)
والتفضيل على العالمين- في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين. وليس وراء ذلك فضل ولا منة. فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة. كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة- التي كانت إذ ذاك في أيد مشركة- فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله وهم في نعمته وفضله يتقلبون؟! وعلى طريقة القرآن الكريم في وصل ما يحكيه عن أولياء الله بما يحكيه عن الله- سبحانه- يستطرد السياق بخطاب من الله تعالى موصول بكلام موسى- عليه السلام- موجه كذلك لقومه:
«وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..
وفي مثل هذا الوصل في القرآن الكريم، بين كلام الله- سبحانه- وما يحكيه من كلام أوليائه، تكريم أي تكريم لهؤلاء الأولياء لا ريب فيه! وهذه المنة التي يمتنها الله على بني إسرائيل- في هذا الموضع- كانت حاضرة في أذهانهم وأعصابهم.
ولقد كانت هذه المنة وحدها كفيلة بأن تذكر وتشكر.. والله سبحانه وتعالى يوجه قلوبهم لما في ذلك الابتلاء من عبرة.. ابتلاء العذاب وابتلاء النجاة. الابتلاء بالشدة والابتلاء بالرخاء..
«وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..
فما كان شيء من ذلك كله جزافاً بلا تقدير. ولكنه الابتلاء للموعظة وللتذكير. وللتمحيص والتدريب.
وللإعذار قبل الأخذ الشديد. إن لم يفلح الابتلاء في استصلاح القلوب! وينتهي هذا المشهد بين موسى وقومه، ليبدأ المشهد الثامن الذي يليه.. مشهد تهيؤ موسى- عليه السلام- للقاء ربه العظيم واستعداده للموقف الهائل بين يديه في هذه الحياة الدنيا ووصيته لأخيه هارون- عليه السلام- قبل ذهابه لهذا اللقاء العظيم:
«وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» ..
لقد انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى التي أرسل لها. انتهت مرحلة تخليص بني إسرائيل من حياة الذل والهوان والنكال والتعذيب بين فرعون وملئه وإنقاذهم من أرض الذل والقهر إلى الصحراء الطليقة، في طريقهم إلى الأرض المقدسة.. ولكن القوم لم يكونوا بعد على استعداد لهذه المهمة الكبرى.. مهمة الخلافة في الأرض بدين الله.. ولقد رأينا كيف اشرأبت نفوسهم إلى الوثنية والشرك بمجرد أن رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم وتخلخلت عقيدة التوحيد التي جاءهم بها موسى- عليه السلام- ولم يمض إلا القليل! فلم يكن بد من رسالة مفصلة لتربية هؤلاء القوم وإعدادهم لما هم مقبلون عليه من الأمر العظيم.. ومن أجل هذه الرسالة المفصلة كانت مواعدة الله لعبده موسى ليلقاه ويتلقى عنه. وكانت هذه المواعدة إعداداً لموسى لنفسه، كي يتهيأ في هذه الليالي للموقف الهائل العظيم، ويستعد لتلقيه.
وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل وتصفو روحه وتشف وتستضيء وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة..(3/1367)
وألقى موسى إلى أخيه هارون- قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك:
«وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» ..
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه. ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم.. ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل! .. وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصيحة إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصاً لأقدارهم! .. إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده ليظهر أنه كبير!!! فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير: «فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون: فصامها موسى- عليه السلام- وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين» ..
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع. المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى- عليه السلام- مشهد الخطاب المباشر بين الجليل- سبحانه- وعبد من عباده. المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي، وهو بعد على هذه الأرض..
ولا ندري نحن كيف.. لا ندري كيف كان كلام الله- سبحانه- لعبده موسى. ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله. فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة وبر صيدنا المحدود من التجارب الواقعة. ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء. ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية، نريد أَن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود! «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ. قالَ: لَنْ تَرانِي، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ: سُبْحانَكَ! تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قالَ: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي. فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟» .
إننا لفي حاجة إلى استحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله.. في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه..
«وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» ..
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق! فينسى من هو، وينسى ما هو، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض.. يطلب(3/1368)
الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود.. حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة:
«قالَ: لَنْ تَرانِي» ..
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل، فيعلمه لماذا لن يراه.. إنه لا يطيق..
«وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» ..
والجبل أمكن وأثبت. والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثراً واستجابة من الكيان البشري.. ومع ذلك فماذا؟
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» ..
فكيف كان هذا التجلي؟ نحن لا نملك أن نصفه، ولا نملك أن ندركه. ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله، حين تشف أرواحنا وتصفو، وتتجه بكليتها إلى مصدرها. فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئاً.. لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي.. ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره وليس منها رواية عن المعصوم- صلى الله عليه وسلم- والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئاً.
«فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا» ..
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوًّى بالأرض مدكوكاً.. وأدركت موسى رهبة الموقف، وسرت في كيانه البشري الضعيف:
«وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» .
مغشياً عليه، غائباً عن وعيه.
«فَلَمَّا أَفاقَ» ..
وثاب إلى نفسه، وأدرك مدى طاقته، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله:
«قالَ: سُبْحانَكَ!» ..
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك.
«تُبْتُ إِلَيْكَ» ..
عن تجاوزي للمدى في سؤالك! «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» ..
والرسل دائماً هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله، وبما ينزله عليهم من كلماته.. وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى.
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى فإذا هو يتلقى منه البشرى.. بشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص.. وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص:
«قالَ: يا مُوسى، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى- عليه السلام- «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي» .. أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه- فالرسل كانوا قبل موسى وبعده- فهو الاصطفاء على جيل من(3/1369)
الناس بحكم هذه القرينة. أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى- عليه السلام- أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه، والشكر على الاصطفاء والعطاء، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله. والرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- قدوة للناس وللناس فيهم أسوة وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة وإصلاحاً للقلب وتحرزاً من البطر واتصالاً بالله..
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة، وكيف أوتيها موسى:
«وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» ..
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة- نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير- ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه. وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح. أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء.
والمهم هو ما في هذه الألواح. إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء! «فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» ..
والأمر الإلهي الجليل لموسى- عليه السلام- أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم.. هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية، التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه- كذلك- يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها..
إن العقيدة أمر هائل عند الله- سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ «الإنسان» وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك.. والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله- سبحانه- وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة..
وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ «الإنسان» .. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه. ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر..
وليس معنى هذا- بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! فهذا ليس من طبيعة دين الله..
ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة.. وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعد ما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر، تحتاج إلى هذا التوجيه. لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة..
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع(3/1370)
للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة..
كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً! وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه:
«سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» ..
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت- في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين، وأنها بشارة لهم بدخولها.. وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى- عليه السلام- لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ!» .. ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله، في الدخول والاقتحام! أجابوا موسى بتوقح الجبان- كالدابة التي ترفس سائقها! -:
قالوا «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ!» .. مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة..
وفي نهاية المشهد والتكليم يجيء بيان لعاقبة الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، ويعرضون عن آيات الله وتوجيهاته، يتضمن تصويراً دقيقاً لطبيعة هذا الصنف من الناس، في نصاعة وجمال التصوير القرآني الفريد لأنماط الطبائع ونماذج النفوس:
«سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟» ..
إن الله تعالى يعلن عن مشيئته في شأن أولئك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً.. إنه سيصرفهم عن آياته فلا ينتفعون بها ولا يستجيبون لها.. آياته في كتاب الكون المنظور، وآياته في كتبه المنزلة على رسله..
ذلك بسبب أنهم كذبوا بآياته سبحانه وكانوا عنها غافلين.
وإن هذا النموذج من الناس ليرتسم من خلال الكلمات القرآنية، كأنما نراه بسماته وحركاته! «الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» ..
وما يتكبر عبد من عبيد الله في أرضه بالحق أبداً. فالكبرياء صفة الله وحده. لا يقبل فيها شريكاً. وحيثما تكبر إنسان في الأرض كان ذلك تكبراً بغير الحق! وشر التكبر ادعاء حق الربوبية في الأرض على عباد الله، ومزاولة هذا الحق بالتشريع لهم من دون الله وتعبيدهم لهذا التشريع الباطل، ومن هذا التكبر تنشأ سائر ألوان التكبر. فهو أساس الشر كله ومنه ينبعث. ومن ثم تجيء بقية الملامح:
«وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» ..
فهي جبلة تجنح عن سبيل الرشد حيثما رأته، وتجنح إلى سبيل الغي حيثما لاح لها كأَنما بآلية في تركيبها(3/1371)
لا تتخلف! وهذه هي السمة التي يرسمها التعبير، ويطبع بها هذا النموذج المتكبر، الذي قضت مشيئة الله أن يجازيه على التكذيب بآيات الله والغفلة عنها بصرفه عن هذه الآيات أبداً! وإن الإنسان ليصادف هذا الصنف من الخلق بوصفه هذا وسمته وملامحه، فيرى كأنما يتجنب الرشد ويتبع الغي دون جهد منه. ودون تفكير ولا تدبير! فهو يعمى عن طريق الرشد ويتجنبه، وينشرح لطريق الغي ويتبعه! وهو في الوقت ذاته مصروف عن آيات الله لا يراها ولا يتدبرها ولا تلتقط أجهزته إيحاءاتها وإيقاعاتها! وسبحان الله! فمن خلال اللمسات السريعة في العبارة القرآنية العجيبة ينتفض هذا النموذج من الخلق شاخصاً بارزاً حتى ليكاد القارئ يصيح لتوه: نعم. نعم. أعرف هذا الصنف من الخلق.. إنه فلان!!! وإنه للمعنيّ الموصوف بهذه الكلمات!!! وما يظلم الله هذا الصنف من الخلق بهذا الجزاء المردي المؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة.. إنما هو الجزاء الحق لمن يكذب بآيات الله ويغفل عنها، ويتكبر في الأرض بغير الحق، ويتجنب سبيل الرشد حيثما رآه، ويهرع إلى سبيل الغي حيثما لاح له! فإنما بعمله جوزي وبسلوكه أورد موارد الهلاك.
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» ..
«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وحبوط الأعمال مأخوذ من قولهم: حبطت الناقة.. إذا رعت نباتاً ساماً، فانتفخ بطنها ثم نفقت.. وهو وصف ملحوظ فيه طبيعة الباطل الذي يصدر من المكذبين بآيات الله ولقاء الآخرة. فهو ينتفخ حتى يظنه الناس من عظمة وقوةَ! ثم ينفق كما تنفق الناقة التي رعت ذلك النبات السام! وإنه لجزاء كذلك حق أن تحبط وتهلك أعمال الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة.. ولكن كيف تحبط هذه الأعمال؟
من ناحية الاعتقاد.. نحن نؤمن بصدق وعيد الله لا محالة أياً كانت الظواهر التي تخالف هذه العاقبة المحتومة. فحيثما كذب أحد بآيات الله ولقائه في الآخرة حبط عمله وبطل، وهلك في النهاية وذهب كأن لم يكن..
ومن ناحية النظر.. نحن نجد السبب واضحاً في حياة البشر.. إن الذي يكذب بآيات الله المبثوثة في صفحات هذا الكون المنشور، أو آياته المصاحبة للرسالات، أو التي يحملها الرسل ويكذب تبعاً لهذا بلقاء الله في اليوم الآخر.. إن هذا الكائن المسيخ روح ضالة شاردة عن طبيعة هذا الكون المؤمن المسلم ونواميسه.. لا تربطه بهذا الكون رابطة. وهو منقطع عن دوافع الحركة الصادقة الموصولة بغاية الوجود واتجاهه. وكل عمل يصدر عن مثل هذا المسخ المقطوع هو عمل حابط ضائع، ولو بدا أنه قائم وناجح. لأنه لا ينبعث عن البواعث الأصيلة العميقة في بنية هذا الوجود ولا يتجه إلى الغاية الكبيرة التي يتجه إليها الكون كله. شأنه شأن الجدول الذي ينقطع عن النبع الأول، فمآله إلى الجفاف والضياع في يوم قريب أو بعيد! والذين لا يرون العلاقة الوثيقة بين تلك القيم الإيمانية وحركة التاريخ الإنساني والذين يغفلون عن قدر الله الذي يجري بعاقبة الذين يتنكرون لهذه القيم.. هؤلاء إنما هم الغافلون الذين أعلن الله- سبحانه- عن مشيئته في أمرهم، بصرفهم عن رؤية آياته، وتدبر سننه.. وقدر الله يتربص بهم وهم عنه غافلون..
والذين يخدعهم ما يرونه في الأمد القصير المحدود، من فلاح بعض الذين يغفلون عن تلك القيم الإيمانية ونجاحهم إنما يخدعهم الانتفاخ الذي يصيب الدابة وقد رعت النبت السام فيحسبونه شحماً وسمنة وعافية(3/1372)
وصحة.. والهلاك يترصدها بعد الانتفاخ والحبوط! والأمم التي خلت شاهد واقع. ولكن الذين سكنوا مساكنهم من بعدهم، لا يأخذون منهم عبرة، ولا يرون سنة الله التي تعمل ولا تتخلف وقدر الله الذي يجري ولا يتوقف.. والله من ورائهم محيط..
وبينما كان موسى- عليه السلام- في حضرة ربه، في ذلك الموقف الفريد، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار.. كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار- لا حياة فيه- يعبدونه من دون الله! ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع إلى المشهد العاشر. نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته إلى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته:
«وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد..
لقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً. فلما خلوا إلى أنفسهم، ورأوا عجلاً جسدا من الذهب- لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد- صنعه لهم السامري- رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه- واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران.. لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» الذي خرج موسى لميقاته معه فنسي موسى موعده معه- ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري: لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه! - ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار- رب العالمين- ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم! .. وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم. صورة يعجب منها القرآن الكريم وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام! «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ!» ..
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر. والله خلقهم وما يصنعون؟! وكان فيهم هارون- عليه السلام- فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف. وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد- وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل! وأخيراً هدأت الهيجة، وانكشفت الحقيقة، وتبين السخف، ووضح الضلال، وجاءت نوبة الندم والإقرار:
«وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا، قالُوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
يقال: سقط في يده إذا عدم الحيلة في دفع ما هو بصدده من أمر.. ولما رأى بنو إسرائيل أنهم صاروا-(3/1373)
بهذه النكسة- إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهىّ! قالوا قولتهم هذه:
«لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم- إلى ذلك الحين- بقية من استعداد صالح. فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد- فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم! - فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته.. وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح..
كل ذلك وموسى- عليه السلام- بين يدي ربه، في مناجاة وكلام، لا يدري ما أحدث القوم بعده..
إلا أن ينبئه ربه.. وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر:
«وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي! أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. قالَ: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي. فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ..
لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب. يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله.. يبدو في قوله لقومه:
«بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي! أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟» ..
ويبدو في فعله إذ يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه.
«وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ!» ..
وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية. والنقلة بعيدة:
«بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» ..
تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار! «أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟» ..
أي استعجلتم قضاءه وعقابه! أو ربما كان يعني: استعجلتم موعده وميقاته! «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» ..
وهي حركة تدل على شدة الانفعال.. فهذه الألواح هي التي كانت تحمل كلمات ربه. وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه. وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه. وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب! فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة، ليسكن من غضبه، ويكشف له عن طبيعة موقفه، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم:
«قالَ: ابْنَ أُمَّ، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي!» ..
وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس:
«ابن أم» .. بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة.(3/1374)
«إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» .. بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه.
«فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» .. وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون! «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ..
القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق فأنا لم أضل ولم أكفر معهم، وأنا بريء منهم! عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان. وعندئذ يتوجه إلى ربه، يطلب المغفرة له ولأخيه، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين:
«قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ..
وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانه! ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى، على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني:
«إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»
..
إنه حكم ووعد.. إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا.. ذلك مع قيام القاعدة الدائمة: إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته.. وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة.. وهكذا كان.
فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة ويسامحهم الله المرة بعد المرة. حتى انتهوا إلى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة:
«وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ» ..
كل المفترين إلى يوم الدين.. فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، من بني إسرائيل، ومن غير بني إسرائيل..
ووعد الله صادق لا محالة. وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة. وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب. فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض ويستعلون بنفوذهم على الأمميين- أو كما يقولون عنهم في التلمود: «الجوييم» ! - وأنهم يملكون سلطان المال، وسلطان أجهزة الإعلام وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم ...
إلى آخر ما نراه في هذا الزمان.. فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم، ولا لما كتبه عليهم.. فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب.. إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلاً لأن الناس لم يعد لهم دين! ولم يعودوا مسلمين! .. إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الإسلامية! وهم من ثم يخيبون ويفشلون وتأكلهم إسرائيل! غير أن هذه حال لن تدوم! إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد، والمنهج الوحيد، والراية الوحيدة، التي غلبوا بها ألف عام، والتي بها يَغلبون، وبغيرها يُغلبون! إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة «الإسلامية» ! والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض «الإسلامية» .. ولكن هذا كله لن يدوم.. ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة.. وسيفيء أخلاف المسلمين(3/1375)
إلى سلاح أسلافهم المسلمين.. ومن يدري فقد تصحو البشرية كلها يوماً على طغيان اليهود! لتحقق وعيد الله لهم، وتردهم إلى الذلة التي كتبها الله عليهم.. فإن لم تصح البشرية فسيصحوا أخلاف المسلمين.. هذا عندنا يقين..
وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله، تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد:
«وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ، وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» ..
والتعبير القرآني يشخص الغضب، فكأنما هو حي، وكأنما هو مسلط على موسى، يدفعه ويحركه.. حتى إذا «سكت» عنه، وتركه لشأنه! عاد موسى إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه.. ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى، وأن فيها رحمة، لمن يخشون ربهم ويرهبونه فتتفتح قلوبهم للهدى، وينالون به الرحمة.. والهدى ذاته رحمة. فليس أشقى من القلب الضال، الذي لا يجد النور. وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين.. ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى وتوقظها من الغفلة، وتهيئها للاستجابة والاستقامة.. إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة. ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب؟
ويمضي السياق بالقصة، فإذا نحن أمام مشهد جديد. المشهد الثاني عشر. مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه:
«وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا. فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ. أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ. قالَ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات. وربما كان لإعلان التوبة، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة- وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو: أن يقتلوا أنفسهم، فيقتل المطيع منهم من عصى وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك، وقبل كفارتهم- وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم. أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم، فصيغة العبارة: «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا.. لِمِيقاتِنا» . تجعلهم بدلاً من القوم جميعاً في الاختيار..
ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا. ذلك أنهم- كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح «1» .. وهي شاهدة
__________
(1) لم ينص هنا على سبب الرجفة: ولكن جاء في مثل هذا الموضع من القصة في سورة البقرة: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ... والظاهر من السياق أنها هي هي. وليست حادثة أخرى في تاريخ بني إسرائيل مع موسى.(3/1376)
بطبيعة بني إسرائيل، التي تشمل خيارهم وشرارهم، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار. وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار! فأما موسى- عليه السلام- فقد توجه إلى ربه، يتوسل إليه، ويطلب المغفرة والرحمة، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة:
«فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» ..
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه وأن يرد عنهم فتنته، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم:
«أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟» ..
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام. زيادة في طلب استبعاد الهلاك.. أي: رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
«إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» ..
يعلن موسى- عليه السلام- إدراكه لطبيعة ما يقع ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين!. وهذا هو الشأن في كل فتنة: أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين. وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين، ويخرجون منها ضالين.. وموسى- عليه السلام- يقرر هذا الأصل تمهيداً لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء:
«أَنْتَ وَلِيُّنا» ..
فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك، ونيل مغفرتك ورحمتك:
«فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ» ..
«وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» .
رجعنا إليك، والتجأنا إلى حماك، وطلبنا نصرتك.
وهكذا قدم موسى- عليه السلام- لطلب المغفرة والرحمة، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه. فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام.
ثم يجيئه الجواب:
«قالَ: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» ..
تقريراً لطلاقة المشيئة، التي تضع الناموس اختياراً، وتجريه اختياراً: وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته، لأنه هكذا أراد.. فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب.. وبذلك تجري مشيئته.. أما رحمته فقد وسعت كل شيء وهي تنال من يستحقها عنده كذلك.. وبذلك تجري مشيئته، ولا تجري مشيئته- سبحانه- بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل، إذ يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي(3/1377)
سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء.. بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه.. فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله! «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .
وإنه لنبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى- عليهما السلام- منذ أمد بعيد. جاءهم الخبر اليقين ببعثه، وبصفاته، وبمنهج رسالته، وبخصائص ملته. فهو «النبي الأمي» ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به. وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم، ويؤمنون بآيات الله.. وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ويعظمونه ويوقرونه، وينصرونه ويؤيدونه، ويتبعون النور الهادي الذي معه «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل- على يد نبيهم موسى عليه السلام- كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه، وعن حامل رايته، وعن طريق أتباعه، وعن مستقر رحمته.. فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين.
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام- وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه- يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به. وفيه التخفيف عنهم والتيسير، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين! إنها الجريمة عن علم وعن بينة! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً.. فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به.. اليهود أولاً والصليبيون أخيراً.. وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حربا خبيثة ما كرة لئيمة قاسية وأنهم أصروا عليها ودأبوا وما يزالون يصرون ويدأبون! والذي يراجع- فقط- ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين- وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق- يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم! والذي يراجع التاريخ بعد ذلك- منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة، وقامت له دولة- إلى اللحظة الحاضرة، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود! ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية.. وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة.. لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها- بالإضافة إلى ما استحدثته منها- جملة واحدة! ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل(3/1378)
الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس- سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد (المستقلة!) لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية! تنكر «الغيبية» لأنها «علمية» ! و «تطوّر» الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في «حرية!» ، و «تطوّر» كذلك الفقه الإسلامي، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره. كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية!! إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد. ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد! وقبل أن يمضى السياق إلى مشهد جديد من مشاهد القصة، يقف عند هذا البلاغ المبكر، يوجه الخطاب إلى النبي الأمي- صلى الله عليه وسلم- يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً، تصديقاً لوعد الله القديم:
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل.. ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية قومية محدودة بفترة من الزمان- ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً لها للرسالة الأخيرة. وكانت كل رسالة تتضمن تعديلاً وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية. حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً، لأنه ليست هنا لك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان.
وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً. ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية- كما خرجت من يد الله- إلا تعليم الله. فلم تشب هذه الفطرة شائبة من تعليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً:
«قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» ..
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يواجه برسالته الناس جميعاً، هي آية مكية في سورة مكية.. وهي تجبه المزورين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدور في خلده وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكر في أن يتجاوز بها قريشاً، ثم يجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب، ثم يجاوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها..
كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنوها قديماً على هذا الدين وأهله. وما يزالون ماضين فيها! وليست البلية في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم كله لهذا الدين وأهله. وأن يكون «المستشرقون» الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدين وأهله.. إنما البلية الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار ممن يسمون أنفسهم بالمسلمين يتخذون من هؤلاء المزوّرين على نبيهم ودينهم، المحاربين لهم ولعقيدتهم،(3/1379)
أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذج الأغرار لأنفسهم أنهم «مثقفون!» ..
ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن رسالته للناس جميعاً. فنجد بقية التكليف هي تعريف الناس جميعاً بربهم الحق سبحانه:
«الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. يُحيِي وَيُمِيتُ» ..
إنه- صلى الله عليه وسلم- رسول للناس جميعاً من ربهم الذي يملك هذا الوجود كله- وهم من هذا الوجود- والذي يتفرد بالألوهية وحده، فالكل له عبيد. والذي تتجلى قدرته وألوهيته في أنه الذي يحيي ويميت..
والذي يملك الوجود كله، والذي له الألوهية على الخلائق وحده، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً. هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه، الذي يبلغه إليهم رسوله.. فهو تعريف للناس بحقيقة ربهم، لتقوم على هذا التعريف عبوديتهم له، وطاعتهم لرسوله:
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغي أن نقف أمامها لحظات:
إنه يتضمن ابتداء ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله.. وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام.. ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، يُحيِي وَيُمِيتُ» .. فالأمر بالإيمان هو أمر بالإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة. كما سبقه التعريف برسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الناس جميعاً.
ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته.. ومع أن هذه بديهية، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها. فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه. لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه «الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» ..
وهو نفس ما يدعو الناس إليه ونصه..
ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه. وهو اتباعه فيما يأمر به ويشرعه، واتباعه كذلك في سنته وعمله. وهو ما يقرره قول الله سبحانه: «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .. فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا باتباعه فيه. ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ما لم يتبع الإيمان الاتباع العملي.. وهو الإسلام..
إن هذا الدين يعلن عن طبيعته وعن حقيقته في كل مناسبة.. إنه ليس مجرد عقيدة تستكن في الضمير..
كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس.. إنما هو الاتباع الكامل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما يبلغه عن ربه، وفيما يشرعه ويسنه.. والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب. ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب. ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله. ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله.. فهذا هو دين الله.. وليس لهذا الدين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة: «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» بعد الأمر بالإيمان بالله ورسوله.. ولو كان الأمر في هذا الدين أمر اعتقاد وكفى، لكان في قوله: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» الكفاية!(3/1380)
ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل.. ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى- عليه السلام- وابتهالاته. ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة، فعادوا إلى قومهم مؤمنين.
وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة، يقرر حقيقة عن قوم موسى.. أنهم لم يكونوا جميعاً ضالين:
«وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» ..
هكذا كانوا على عهد موسى، وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى..
ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام، لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي أولهم الصحابي الجليل: عبد الله بن سلام رضي الله عنه. الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي، وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام.
وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة:
«وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه- بعد أن كفروا فعبدوا العجل، ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله، فتاب عليهم. وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة، فأَخذتهم الرجفة، ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم.. تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة- أي جماعة كبيرة- ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب- وهو إسرائيل- وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية:
«وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» ..
وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم، فلا يعتدي بعضهم على بعض.
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ..»
وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة وإنزال المن- وهو نوع من العسل البري- والسلوى، وهو طائر السماني وتيسيره لهم ضماناً لطعامهم بعد ضمان شرابهم:
«وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» ..
وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم، حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم:
«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» ..
والرعاية واضحة في هذا كله ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والاستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق: من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى. ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة. ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى:
«وَما ظَلَمُونا، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..(3/1381)
وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم بالمعصية عن أمر الله والالتواء عن طريقه.. وما يبلغون بهذا الالتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله- سبحانه- فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين. وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته. إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والالتواء، في الدنيا وفي الآخرة سواء.
والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق:
«وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا: حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ، سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» ..
لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل. ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم.. ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق! ها هم أولاء يعصون الأمر، ويبدلون القول! ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها- أي مدينة كبيرة- لا يعين القرآن اسمها- لأنه لا يزيد في مغزى القصة شيئاً- وتباح لهم خيراتها جميعاً، على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها وعلى أن يدخلوا بابها سجداً، إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء- وذلك كما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة في عام الفتح ساجداً على ظهر دابته- وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم.. فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها، ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها..لماذا؟ تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة:
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» ..
عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذاباً.. السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام! ..
«فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» ..
وهكذا كان ظلم فريق منهم- أي كفرهم- ظلماً لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله..
ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة. لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه. فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله، وتحقيق النذر، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة.
ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة.. وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها! ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه، لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع:
«وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟ قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ، وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..(3/1382)
يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المدينة.. والآيات من هنا إلى قوله تعالى: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» آيات مدنية. نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى..
يأمر الله سبحانه رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم.
وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا وما جره عليهم جميعاً من كتابة الذل عليهم والغضب أبداً.. اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر فهي معروفة للمخاطبين! فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية.. وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت.. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.. وكان ذلك ضرورياً لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات. فضلاً على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء.. فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى! ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض.. إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه! ولم يصمد فريق من بني إسرائيل- في هذه المرة- للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم.. لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل. لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة، كما كانوا يجدونها يوم الحرم! .. وهذا ما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يذكرهم به ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا:
«وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» .
فأما كيف وقع لهم هذا، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة، وتداورهم هذه المداورة..
فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عند ما يشاء الله.. والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم «قوانين الطبيعة» ! والأمر في التصور الإسلامي- وفي الواقع- ليس على هذا النحو.. إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون، وأودعه القوانين التي يسير عليها بمشيئته الطليقة. ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها.. لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة.. وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون.. وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين.. فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفاً لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر.. ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري(3/1383)
فيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة. فهي لا تجري جرياناً آلياً لا تدخل لقدر الله فيه.. وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشأ الله أن تجري بغير ذلك.. وعلى أساس أن كل ما يقع- سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها- إنما يقع بقدر من الله خاص، فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر..
ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة- كما يظن الذين لا يعلمون! - ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير «1» ! على أية حال، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل.. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل- على طريقة اليهود- للصيد في يوم السبت! وما أكثر الحيل عند ما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص! .. إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه. إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه. وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه! ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية! ولن تستطيع الدولة- كائناً ما كان الإرهاب فيها- أن تضع على رأس كل فرد حارساً يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس، ومراقبتهم له في السر والعلن..
من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية. وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله.. ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها. وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها! وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت، الذي حرم عليهم الصيد فيه.. وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوّطون عليه في يوم السبت حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه وقالوا: إنهم لم يصطادوه في السبت، فقد كان في الماء- وراء الحواجيز- غير مصيد! وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله! فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله! وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال! بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب؟
«وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟» .
فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم. بعد ما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله.
«قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..
فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ
__________
(1) يراجع ما جاء في الجزء السابع من هذه الطبعة المنقحة في هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ص 1113- 1121(3/1384)
إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا. ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى.
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق.. أو ثلاث أمم.. فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة! فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة! «1» وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم: أمة عاصية محتالة. وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة. وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي.. وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أمماً ثلاثاً! فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره.
فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء. وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه. فأما الفرقة الثالثة- أو الأمة الثالثة- فقد سكت النص عنها.. ربما تهوينا لشأنها- وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب:
«فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ، وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» ..
لقد كان العذاب البئيس- أي الشديد- الذي حل بالعصاة المحتالين، جزاء إمعانهم في المعصية- التي يعتبرها النص هي الكفر، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر- كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها- وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة- وانتكسوا إلى عالم «الحيوان» حين تخلوا عن خصائص «الإنسان» . فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان! أما كيف صاروا قردة؟ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟ ... إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير ... فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم وليس وراءه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيء.. فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه.
لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء كما يجري بها التحوير والتغيير.. كلمة «كن» .
«قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» ..
فكانوا قردة مهينين. كما جرى القول الذي لا راد له ولا يعجز قائله عن شيء سبحانه!
__________
(1) ترد كلمة «أمة» بمعنى الجماعة من الناس إطلاقا كقوله تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ» ، وترد بمعنى القيادة والإمامة كقوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً» ، وهي هنا تتضمن معنى أنه كان فريقا وحده.. وإن كان هذا لا يؤثر في المدلول الاصطلاحي الإسلامي للفظ أمة وهو الجماعة من الناس ذات العقيدة الواحدة والتصور الواحد.(3/1385)
ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع- إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه- بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه:
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
فهو إذْنُ الأبد الذي تحقق منذ صدوره فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب. والذي سيظل نافذاً في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب.
وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف..
ولقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توقفت، وأن يهود قد عزت واستطالت! وإن هي إلا هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ.. ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها إلى يوم القيامة.
لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة- كما أخبر الله نبيه في قرآنه- معقباً على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة:
«إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب- كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر- وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، في التوراة والإنجيل.. فليس عذابه- سبحانه- عن نقمة ولا إحنة. إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه، ووراءه المغفرة والرحمة..
ثم تمضي خطوات القصة مع خطوات التاريخ، من بعد موسى وخلفائه، مع الأجيال التالية في بني إسرائيل إلى الجيل الذي كان يواجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة في المدينة:
«وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً.. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ.. وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وَدَرَسُوا ما فِيهِ، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ! وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» ..
وهذه بقية الآيات المدنية الواردة في هذا السياق تكملة لقصة بني إسرائيل من بعد موسى.. ذلك حين تفرق اليهود في الأرض جماعات مختلفة المذاهب والتصورات، مختلفة المشارب والمسالك. فكان منهم الصالحون وكان منهم من هم دون الصلاح. وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات. تارة بالنعماء وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويستقيمون على طريقهم:
«وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ..
والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار..(3/1386)
«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» ..
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى: أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه.. ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم.. شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ..
وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا: «سيغفر لنا» .. وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد! ويسأل سؤال استنكار:
«أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ؟ وَدَرَسُوا ما فِيهِ؟» .
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق..
فما بالهم يقولون: «سيغفر لنا» ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً ويقلعون عن المعصية فعلاً وليس هذا حالهم، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا! وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه! بلى! ولكن الدراسة لا تجدي ما لم تخالط القلوب. وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد. إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا.. وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة ولا يأخذونه عقيدة ولا يتقون الله ولا يرهبونه؟! «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
نعم! إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها.. وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي؟ وما الذي يهدئ فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى؟ والشر يتبجح والباطل يطغى؟
لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى إلا اليقين في الآخرة، وأنها خير للذين يتقون، ويعفون، ويترفعون، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن، ويمضون في الطريق لا يتلفتون.. مطمئنين واثقين، ملء قلوبهم اليقين «1» ..
وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة «الاشتراكية العلمية» أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه: «العلمية» ..
ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة، وتفسد النفوس وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين.. ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان. وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال..
__________
(1) يراجع ما جاء عن عقيدة الآخرة في الجزء السابع من الظلال ص 1068- 1073.(3/1387)
إن «العلمية» التي تناقض «الغيبية» جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. جهالة يرجع عنها «العلم البشري» ذاته، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال «1» ! جهالة تناقض فطرة «الإنسان» ومن ثم تفسد «الحياة» ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار! ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف! والذي تردده الببغاوات هنا وهناك، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك! ولأن قضية الآخرة، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى.. عرض الحياة الدنيا.. إلى العقل:
«وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى.. ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هو الذي يقضي..
لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى. ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً:
«وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» .
وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ولا في سلوكهم وحياتهم.. غير أن الآية تبقى- من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملاً، لكل جيل ولكل حالة.
إن الصيغة اللفظية: «يمسكون» .. تصور مدلولاً يكاد يحس ويرى.. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة.. الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه.. في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت..
فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر.. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون «الواقع» هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله! والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة- أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية:
«إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» ..
يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني.. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله..
__________
(1) يراجع ما جاء في الجزء السابع عن «العلم» و «الغيب» عند تفسير قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ص 1113- 1121(3/1388)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة.
إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب! وفي ختام حلقات القصة في هذه السورة يذكر كيف كان الله قد أخذ على بني إسرائيل الميثاق:
«وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ. خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» .
إنه ميثاق لا ينسى.. فقد أخذ في ظرف لا ينسى! أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم! ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق فأعطوه في ظل خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس. ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة، وألا يتخاذلوا ولا يتهاونوا ولا يتراجعوا في ميثاقهم الوثيق. وأن يظلوا ذاكرين لما فيه، لعل قلوبهم تخشع وتتقي. وتظل موصولة بالله لا تنساه! ولكن إسرائيل هي إسرائيل! نقضت الميثاق، ونسيت الله، ولجت في المعصية، حتى استحقت غضب الله ولعنته. وحق عليها القول، بعد ما اختارها الله على العالمين في زمانها، وأفاء عليها من عطاياه. فلم تشكر النعمة، ولم ترع العهد، ولم تذكر الميثاق.. وما ربك بظلام للعبيد..
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 198]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)(3/1389)
هذا الدرس كله يدور حول قضية التوحيد والشرك.. بعد ما دار قصص السورة كله حول هذه القضية، متخذاً صورة التذكير من الرسل جميعاً بحقيقة التوحيد، والتحذير من عاقبة الشرك ثم تحقق النذر بعد التذكير والتحذير.
فالآن في هذا الدرس تعرض قضية التوحيد من زاوية جديدة، وزاوية عميقة.. تعرض من زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم، وذات تكوينهم وهم بعد في عالم الذر! ..
إن الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري. فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة. أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير.. إن التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق- حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم- ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل وأن يبعث إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل! ومن هذه الزاوية، التي تعرض منها قضية التوحيد في هذا الدرس، يتخذ السياق خطوطاً شتى حول هذه القضية الكبرى.
منها خط قصصي عن حالة ترد بعض الروايات بأنها وقعت في تاريخ بني إسرائيل.. ولكن الأرجح أنها نموذج غير مقيد بزمان ولا مكان، إنما هو تصوير لحالة مكرورة في النفوس والتاريخ. كلما أوتي بعض الناس نصيباً من العلم كان خليقاً أن يقوده إلى الحق والهدى، فإذا هو ينسلخ مما أوتي من العلم، فلا ينتفع به شيئاً، ويسير في طريق الضلالة كمن لم يؤتوا من العلم شيئاً. بل يصير أنكد وأضل وأشقى بهذا العلم الذي لم تخالطه بشاشة الإيمان، الذي يحول هذا العلم إلى مشكاة هادية في ظلام الطريق! ومنها خط قصصي آخر عن حالة تصويرية لخطوات انحراف الفطرة من التوحيد إلى الشرك.. ممثلة في زوجين من البشر، يرجوان الخير في الجنين القادم لهما؟ وتتجه فطرتهما إلى الله ربهما، ويقطعان لله العهود لئن آتاهما خلفاً صالحاً ليكونن من الشاكرين.. ثم تزيغ قلوبهما بعد أن يستجيب الله لهما، فإذا هما يجعلان لله شركاء فيما آتاهما! ومنها خط تصويري لتعطل أجهزة الاستقبال الفطرية في الكينونة البشرية، حتى تنتهي إلى الضلال الذي يهبط بالبشر عن مرتبة الأنعام، ويجعلهم وقوداً لجهنم عن جدارة واستحقاق.. فتكون لهم قلوب لا يفقهون بها، وتكون لهم أعين لا يبصرون بها، وتكون لهم آذان لا يسمعون بها.. ويكون وراء ذلك الضلال الذي لا رجعة منه ولا مآب! ومنها خط إيحائي لاستجاشة هذه الأجهزة المعطلة، وإيقاظها للتدبر والتفكر، وتوجيهها إلى ملكوت(3/1391)
السماوات والأرض وما خلق الله من شي، ولمسها بالأجل المغيب الذي يمكن وراءه الموت، ودعوتها إلى النظر في حال هذا الرسول الكريم الذي يدعو إلى الهدى، فيرميه الضالون بالجنون! ومنها خط جدلي حول آلهتهم المدعاة، وهي مجردة من خصائص الألوهية، بل من خصائص الحياة! وينتهي هذا كله بتوجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تحديهم وتحدي آلهتهم، وإعلان مفاصلته ومفارقته لهم ولمعبوداتهم وعبادتهم، والالتجاء إلى الولي الذي لا ولي غيره: «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..
ولقد كانت نهاية الدرس السابق في قصة بني إسرائيل هي مشهد الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظل الجبل المرفوع. فهذا الدرس الجديد يتابعه فيبدأ بقضية الميثاق الأكبر الذي أخذه الله على فطرة البشر. في مشهد لا يدانيه في الجلال والروعة مشهد الجبل المرفوع! «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ- مِنْ ظُهُورِهِمْ- ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ. وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟ .. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ..
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد- على طريقة القرآن الغالبة «1» - وإنه لمشهد فريد.. مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟» .. فتعترف له- سبحانه- بالربوبية وتقر له- سبحانه- بالعبودية وتشهد له- سبحانه- بالوحدانية وهي منثورة كالذر مجموعة في قبضة الخالق العظيم! إنه مشهد كوني رائع باهر، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى، وهي تجمع وتقبض. وهي تخاطب خطاب العقلاء- بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع- وهي تستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب! وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد. وهو يتمثل الذر السابح.
وفي كل خلية حياة. وفي كل خلية استعداد كامن. وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول، ويقطع على نفسه العهد والميثاق، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم! لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود.. عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة. فإذا «العلم» يقرر أن الناسلات، وهي خلايا الوراثة التي تخفظ سجل «الإنسان» وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب.. أن هذه الناسلات
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1392)
التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر، وتكمن فيها خصائصهم كلها، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة! .. كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال! وصدق الله العظيم: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» ..
أخرج ابن جرير وغيره- بإسناده- عن ابن عباس قال: «مسح ربك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ... فأخذ مواثيقهم، وأشهدهم على أنفسهم: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى» ..
وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس. وقال ابن كثير: إن الموقوف أكثر وأثبت..
فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» وكيف أجابوا: «بلى شهدنا» ؟ .. فالجواب عليه: أن كيفيات فعل الله- سبحانه- غيب كذاته. ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله.
إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية. وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ... » .. «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» .. «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ» ..
«وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» .. «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» .. «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ» ... إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله. سبحانه، لا مناص من التسليم بوقوعه، دون محاولة إدراك كيفيته.. إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا.. والله ليس كمثله شيء.
فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله. إذ أنه. لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء، ما دام أن ليس كمثله شيء.. وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه، هي محاولة مضللة، لاختلاف ماهيته- سبحانه- عن ماهيات خلقه. وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه.. وكذلك جهل وضل كل من حاولوا- من الفلاسفة والمتكلمين- وصف كيفيات أفعال الله، وخلطوا خلطاً شديداً! «1» على أن هناك تفسيراً لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة.. فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده. أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها، ويميل بها عن فطرتها.
قال ابن كثير في التفسير: قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد- كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع- وقد فسر الحسن الآية بذلك. قالوا: ولهذا قال: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» ولم يقل:
من آدم.. «مِنْ ظُهُورِهِمْ» .. ولم يقل من ظهره.. «ذُرِّيَّتَهُمْ» أي جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» .. وقال: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» .. وقال:
«كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» .. ثم قال: «وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى!» أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له.. حالاً.. وقالوا: والشهادة تارة تكون بالقول كقوله: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ»
.. وتارة تكون حالاً كقوله تعالى:
«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» .. أي حالهم شاهد عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك.. وكذلك قوله تعالى: «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» .. كما أن السؤال تارة يكون بالمقال
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الألوهية» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق» .(3/1393)
وتارة يكون بالحال. كقوله: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» .. قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان قد وقع هذا، كما قال من قال، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول- صلى الله عليه وسلم- به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد. ولهذا قال: «أَنْ تَقُولُوا» .. أي لئلا تقولوا «يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» . أي التوحيد.. «غافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا» ... الآية) .
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي:
في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. «كل مولود يولد على الفطرة- وفي رواية. «على هذه الملة» - فأَبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير- رحمه الله- حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السري بن يحيى، أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاشتد عليه، ثم قال: «ما بال أقوام يتناولون الذرية؟» . فقال رجل:
يا رسول الله. أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: «إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها وينصرانها» .. قال الحسن: لقد قال في كتابه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» ... الآية.
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ.. الآيات) على وجهه لا على سبيل الحال. لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه. وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه.. ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية.. والله أعلم أي ذلك كان..
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهداً من الله على فطرة البشر أن توحده. وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة يخرج بها كل مولود إلى الوجود فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال. وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف «1» .
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة «الإنسان» وحده ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله- وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله. موصولة به غير منقطعة عنه، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه- بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة..
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الإنسان» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق» .(3/1394)
إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود، واضح الأثر في شكل الكون، وتنسيقه، وتناسق أجزائه، وانتظام حركته، واطراد قوانينه، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين.. وأخيراً- حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر- وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعاً عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها..
ويوماً بعد يوم يكشف البشر أطرافاً من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون، وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته- في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة- ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني- الذي لا يمكن أن يكون يقينياً بحكم وسائله البشرية- في تقرير هذا الناموس. إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس. واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة، على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق. والقرآن الكريم لا يدع مجالاً للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة، الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه. كما أنه لا يدع مجالاً للشك في عبودية هذا الكون لربه، واعترافه بوحدانيته، وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده «1» .
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله- بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة- سارٍ كذلك في كيان الإنسان- بوصفه من كائنات هذا الكون- مستقر في فطرته، لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به فهو مدرك بالفطرة، مستقر في صميمها، تستشعره بذاتها، وتتصرف وفقه، ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد، فتنحرف عن إدراكها الذاتي له، وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها، بدلاً من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم.
هذا الناموس- بذاته- هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها. ميثاق مودع في كيانها. مودع في كل خلية حية منذ نشأتها. وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات. وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد، ذي المشيئة الواحدة، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها. فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها- سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار- لا سبيل إلى أن يقول أحد: إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد أو يقول: إنني خرجت إلى هذا الوجود، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسئولون وحدهم ولست بالمسئول! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة:
«أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟» .
ولكن الله- سبحانه- رحمة منه بعباده، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أُضلوا، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف- كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفعل شياطين الجن والإنس الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف! ..
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف،
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الكون» في المصدر السابق.(3/1395)
واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات «1» . ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها. ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة:
«وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ..
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك. فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد. ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير «2» .
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها.. ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره ولكنه انسلخ منها، وتعرى عنها ولصق بالأرض، واتبع الهوى فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية فاستولى عليه الشيطان وأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار..
ولكن البيان القرآني المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة! إنما يصوره في مشهد حي متحرك، عنيف الحركة، شاخص السمات، بارز الملامح، واضح الانفعالات يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة، إلى جانب إيقاعات العبارة الموحية «3» :
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ.. إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ.. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ!»
..
إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات..
إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع.. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحي من أديمه اللاصق بكيانه.. أو ليست الكينونة البشرية متلبسة بالإيمان بالله تلبس الجلد بالكيان؟ .. ها هو ذا ينسلخ من آيات الله ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه.. ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد.. إذا نحن بهذا المخلوق، لاصقاً بالأرض، ملوثاً بالطين. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد.. كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى والخيال شاخص يتبعها
__________
(1) يراجع تفسير قوله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» في الجزء السادس من هذه الظلال ص 806- 812
(2) يراجع فصل: «ألوهية وعبودية» وفصل: «حقيقة الإنسان» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» .. «دار الشروق» .
(3) يراجع بتوسع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق» .(3/1396)
في انفعال وانبهار وتأثر.. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها.. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع.. سمع التعليق المرهوب الموحي، على المشهد كله:
«ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» ..
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم.
ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان «الإنسان» إلى مكان الحيوان.. مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين.. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليين وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين! «ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ!» ..
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟ وهل أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟ وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق، اللاهث لهاث الكلب أبداً!!! وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد إلا هذا القرآن العجيب الفريد!! وبعد.. فهل هو نبأ يتلى؟ أم أنه مثل يضرب في صورة النبأ لأنه يقع كثيراً. فهو من هذا الجانب خبر يروى؟
تذكر بعض الروايات أنه نبأ رجل كان صالحاً في فلسطين- قبل دخول بني إسرائيل- وتروي بالتفصيل الطويل قصة انحرافه وانهياره على نحو لا يأمن الذي تمرس بالإسرائيليات الكثيرة المدسوسة في كتب التفاسير، أن يكون واحدة منها ولا يطمئن على الأقل لكل تفصيلاته التي ورد فيها ثم إن في هذه الروايات من الاختلاف والاضطراب ما يدعو إلى زيادة الحذر.. فقد روي أن الرجل من بني إسرائيل (بلعام بن باعوراء) ، وروي أنه كان من أهل فلسطين الجبابرة. وروي أنه كان من العرب (أمية بن الصلت) .
وروي أنه كان من المعاصرين لبعثة الرسول- صلى الله عليه وسلم- (أبو عامر الفاسق) وروي أنه كان معاصراً لموسى عليه السلام. وروي أنه كان بعده على عهد يوشع بن نون الذي حارب الجبارين ببني إسرائيل بعد تيه الأربعين سنة على إثر رفض بني إسرائيل الدخول، وقولهم لموسى- عليه السلام- ما حكاه القرآن الكريم:
«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .. كذلك روي في تفسير الآيات التي أعطيها أنه كان (اسم الله العظيم) الذي يدعو به فيجاب كما روي أنه كتاب منزل وأنه كان نبياً.. ثم اختلفت تفصيلات النبأ بعد ذلك اختلافات شتى..
لذلك رأينا- على منهجنا في ظلال القرآن- ألا ندخل في شيء من هذا كله. بما أنه ليس في النص القرآني منه شيء. ولم يرد من المرفوع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه شيء. وأن نأخذ من النبأ ما وراءه.
فهو يمثل حال الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبين لهم فيعرفوها ثم لا يستقيموا عليها.. وما أكثر ما يتكرر هذا النبأ في حياة البشر ما أكثر الذين يعطون علم دين الله، ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة(3/1397)
لتحريف الكلم عن مواضعه. واتباع الهوى به.. هواهم وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم- في وهمهم- عرض الحياة الدنيا.
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها. ويعلن غيرها. ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبت بها هذا السلطان المعتدي على سلطان الله وحرماته في الأرض جميعاً! لقد رأينا من هؤلاء من يعلم ويقول: إن التشريع حق من حقوق الله- سبحانه- من ادعاه فقد ادعى الألوهية.
ومن ادعى الألوهية فقد كفر. ومن أقر له بهذا الحق وتابعه عليه فقد كفر أيضاً! .. ومع ذلك.. مع علمه بهذه الحقيقة، التي يعلمها من الدين بالضرورة، فإنه يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع، ويدّعون الألوهية بادعاء هذا الحق.. ممن حكم عليهم هو بالكفر! ويسميهم «المسلمين» ! ويسمي ما يزاولونه إسلاماً لإ إسلام بعده! .. ولقد رأينا من هؤلاء من يكتب في تحريم الربا كله عاماً ثم يكتب في حله كذلك عاماً آخر.. ورأينا منهم من يبارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس، ويخلع على هذا الوحل رداء الدين وشاراته وعناوينه..
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟
وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يحكيه الله سبحانه عن صاحب النبأ: «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ!» .. ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته. ولكنه- سبحانه- لم يشأ، لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع الآيات..
إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله فلم ينتفع بهذا العلم ولم يستقم على طريق الإيمان. وانسلخ من نعمة الله. ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان. ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان! ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟
إنه- في حسنا كما توحيه إيقاعات النبأ وتصوير مشاهده في القرآن- ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها. ذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً. والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه فهو منطلق فيه أبداً! والحياة البشرية ما تني تطلع علينا بهذا المثل في كل مكان وفي كل زمان وفي كل بيئة.. حتى إنه لتمر فترات كثيرة، وما تكاد العين تقع على عالم إلا وهذا مثله. فيما عدا الندرة النادرة ممن عصم الله، ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض ولا يتبعون الهوى ولا يستذلهم الشيطان ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان! .. فهو مثل لا ينقطع وروده ووجوده وما هو بمحصور في قصة وقعت، في جيل من الزمان! وقد أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يتلوه على قومه الذين كانت تتنزل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها. ثم ليبقى من بعده ومن بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدو لعدو. فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة! ولقد رأينا من هؤلاء- والعياذ بالله- في زماننا هذا من كان كأنما يحرص على ظلم نفسه أو كمن يعض(3/1398)
بالنواجذ على مكان له في قعر جهنم يخشى أن ينازعه إياه أحد من المتسابقين معه في الحلبة! فهو ما يني يقدم كل صباح ما يثبت به مكانه هذا في جهنم! وما يني يلهث وراء هذا المطمع لهاثاً لا ينقطع حتى يفارق هذه الحياة الدنيا! اللهم اعصمنا، وثبت أقدامنا، وأفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين..
ثم نقف أمام هذا النبأ والتعبير القرآني عنه وقفة أخرى..
إنه مثل للعلم الذي لا يعصم صاحبه أن تثقل به شهواته ورغباته فيخلد إلى الأرض لا ينطلق من ثقلتها وجاذبيتها وأن يتبع هواه فيتبعه الشيطان ويلزمه ويقوده من خطام هذا الهوى..
ومن أجل أن العلم لا يعصم يجعل المنهج القرآني طريقه لتكوين النفوس المسلمة والحياة الإسلامية، ليس العلم وحده لمجرد المعرفة ولكن يجعل العلم عقيدة حارة دافعة متحركة لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وفي عالم الحياة أيضاً..
إن المنهج القرآني لا يقدم العقيدة في صورة «نظرية» للدراسة.. فهذا مجرد علم لا ينشىء في عالم الضمير ولا في عالم الحياة شيئاً.. إنه علم بارد لا يعصم من الهوى، ولا يرفع من ثقلة الشهوات شيئاً. ولا يدفع الشيطان بل ربما ذلل له الطريق وعبدها! كذلك هولا يقدم هذا الدين دراسات في «النظام الإسلامي» ولا في «الفقه الإسلامي» ولا في «الاقتصاد الإسلامي» ولا في «العلوم الكونية» ولا في «العلوم النفسية» ولا في أية صورة من صور الدراسة المعرفية! إنما يقدم هذا الدين عقيدة دافعة دافقة محيية موقظة رافعة مستعلية تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل وتحيي موات القلب فينبض ويتحرك ويتطلع وتوقظ أَجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة فترجع إلى عهد الله الأول وترفع الاهتمامات والغايات فلا تثقلها جاذبية الطين ولا تخلد إلى الأرض أبداً.
ويقدمه منهجاً للنظر والتدبر يتميز ويتفرد دون مناهج البشر في النظر، لأنه إنما جاء لينقذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها وانحرافها تحت لعب الأهواء، وثقلة الأبدان، وإغواء الشيطان! ويقدمه ميزاناً للحق تنضبط به عقول الناس ومداركهم، وتقاس به وتوزن اتجاهاتهم وحركاتهم وتصوراتهم فما قبله منها هذا الميزان كان صحيحاً لتمضي فيه وما رفضه هذا الميزان كان خاطئاً يجب الإقلاع عنه.
ويقدمه منهجاً للحركة يقود البشرية خطوة خطوة في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة. وفق خطاه هو ووفق تقديراته.. وفي أثناء الحركة الواقعية يصوغ للناس نظام حياتهم، وأصول شريعتهم، وقواعد اقتصادهم واجتماعهم وسياستهم. ثم يصوغ الناس بعقولهم المنضبطة به تشريعاتهم القانونية الفقهية، وعلومهم الكونية والنفسية، وسائر ما تتطلبه حياتهم العملية الواقعية.. يصوغونها وفي نفوسهم حرارة العقيدة ودفعتها، وجدية الشريعة وواقعيتها واحتياجات الحياة الواقعية وتوجيهاتها.
هذا هو المنهج القرآني في صياغة النفوس المسلمة والحياة الإسلامية.. أما الدراسة النظرية لمجرد الدراسة، فهذا هو العلم الذي لا يعصم من ثقلة الأرض ودفعة الهوى وإغواء الشيطان ولا يقدم للحياة البشرية خيراً «1» !
__________
(1) يراجع التعريف بسورة الانعام في الجزء السابع [ص 1004- 1029] .(3/1399)
ويقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب على ذلك المثل الشاخص في ذلك المشهد، للذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، بأن الهدى هدى الله. فمن هداه الله فهو المهتدي حقاً ومن أضله الله فهو الخاسر الذي لا يربح شيئاً:
«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
والله سبحانه يهدي من يجاهد ليهتدي، كما قال تعالى في السورة الأخرى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» .. وكما قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. وكما قال: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» ..
كذلك يضل الله من يبغي الضلال لنفسه ويعرض عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان، ويغلق قلبه وسمعه وبصره دونها. وذلك كما جاء في الآية التالية في السياق: «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» .. وكما قال تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» .. وكما قال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ، وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً، إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ... »
ومن مراجعة مجموعة النصوص التي تذكر الهدى والضلال، والتنسيق بين مدلولاتها جميعاً يخلص لنا طريق واحد بعيد عن ذلك الجدل الذي أثاره المتكلمون من الفرق الإسلامية، والذي أثاره اللاهوت المسيحي والفلسفات المتعددة حول قضية القضاء والقدر عموماً..
إن مشيئة الله سبحانه التي يجري بها قدره في الكائن الإنساني، هي أن يخلق هذا الكائن باستعداد مزدوج للهدى والضلال.. وذلك مع إيداع فطرته إدراك حقيقة الربوبية الواحدة والاتجاه إليها. ومع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى. ومع إرسال الرسل بالبينات لإيقاظ الفطرة إذا تعطلت وهداية العقل إذا ضل.. ولكن يبقى بعد ذلك كله ذلك الاستعداد المزدوج للهدى والضلال الذي خلق الإنسان به، وفق مشيئة الله التي جرى بها قدره.
كذلك اقتضت هذه المشيئة أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى. وأن يجري قدر الله كذلك بإضلال من لا يستخدم ما أودعه الله من عقل وما أعطاه من أجهزة الرؤية والسمع في إدراك الآيات المبثوثة في صفحات الكون، وفي رسالات الرسل، الموحية بالهدى.
وفي كل الحالات تتحقق مشيئة الله ولا يتحقق سواها، ويقع ما يقع بقدر الله لا بقوة سواه. وما كان الأمر ليكون هكذا إلا أن الله شاءه هكذا. وما كان شيء ليقع إلا أن يوقعه قدر الله. فليس في هذا الوجود مشيئة أخرى تجري وفقها الأمور، كما أنه ليس هناك قوة إلا قدر الله ينشئ الأحداث.. وفي إطار هذه الحقيقة الكبيرة يتحرك الإنسان بنفسه، ويقع له ما يقع من الهدى والضلال أيضاً..
وهذا هو التصور الإسلامي الذي تنشئه مجموعة النصوص القرآنية مقارنة متناسقة، حين لا تؤخذ فرادى وفق أهواء الفرق والنحل، وحين لا يوضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، على سبيل الاحتجاج والجدل «1» ! وفي هذا النص الذي يواجهنا هنا:
«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .
__________
(1) يراجع فصل. «التوازن» وفصل الشمول» في القسم الأول من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وفصل: «حقيقة الألوهية» وفصل «حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من الكتاب ذاته. «دار الشروق» . [.....](3/1400)
يقرر أن من يهديه الله- وفق سنته التي صورناها في الفقرة السابقة- فهو المهتدي حقاً، الواصل يقيناً، الذي يعرف الطريق، ويسير على الصراط، ويصل إلى الفلاح في الآخرة.. وأن الذي يضله الله- وفق سنته تلك- فهو الخاسر الذي خسر كل شيء ولم يربح شيئاً.. مهما ملك، ومهما أخذ فكل ذلك هباء أو هواء! وإنه لذلك إذا نظرنا إليه من زاوية أن هذا الضال قد خسر نفسه. وماذا يأخذ وماذا يكسب من خسر نفسه؟! ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية:
«وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها.. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ.. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ..
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم! وهم مهيأون لها! فما بالهم كذلك؟
هنالك اعتباران:
الاعتبار الأول: أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم.. وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم. فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث.
والاعتبار الثاني: أن هذا العلم الأزلي- الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث- ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم. إنما هم كما تنص الآية:
«لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» ..
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا- ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة- وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية. ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة.. لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها.. لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون:
«أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ..
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله.. أولئك كالأنعام بل هم أضل.. فللأنعام استعدادات فطرية تهديها. أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة. فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا. إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها.. فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية..
ثم هم يكونون من ذرء جهنم! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك، وجعل قانون جزائهم هذا. فكانوا- كما هم في علم الله القديم- حصب جهنم منذ كانوا! وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها.. يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين- الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا(3/1401)
يواجهون دعوة الإسلام بالشرك- الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها، فيسمون بها الشركاء المزعومين:
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
والإلحاد هو الانحراف أو التحريف.. وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى، فسموا بها آلهتهم المدعاة.. حرفوا اسم «الله» فسموا به «اللات» . واسم «العزيز» فسموا به «العزى» .. فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده. وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها، دون تحريف ولا ميل وأن يدعوا المحرفين المنحرفين فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد. فأمرهم موكول إلى الله وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه.. ويا له من وعيد! ..
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية، ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة.. إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره..
ينسحب على الذين يلحدون- أي يحرفون أو ينحرفون- في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق. كالذين يدّعون له الولد. وكالذين يدّعون أن مشيئته- سبحانه- مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر- وهو سبحانه ليس كمثله شيء- وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء، وفي تصريف نظام الكون، وفي حساب الناس في الآخرة. ولكنه ليس إلهاً في الأرض، ولا في حياة الناس، فليس له- في زعمهم- أن يشرع لحياة الناس إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم- كما يرونها هم- فالناس- في هذا- هم آلهة أنفسهم. أو بعضهم آلهة بعض! ..
وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته.. والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون! ثم يمضي السياق يفصل صنوف الخلق.. بعد ما ذكر منهم من قبل أولئك الذين ذرأهم الله لجهنم «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ... » ومنهم هؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها.. ثم إن منهم أمة يستمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به ولا ينحرفون عنه.. وأمة- على الضد- ينكرون الحق، ويكذبون بآيات الله! فأما الأولون فيقرر وجودهم في الأرض وجوداً ثابتاً لا شك فيه وهم حراس على الحق حين ينحرف عنه المنحرفون، ويزيغ عنه الزائغون وحين يكذب الناس بالحق وينبذونه يبقون هم عليه صامدين. وأما الآخرون فيكشف عن مصير لهم مخيف، وكيد لله إزاءهم متين:
«وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» ..
وما كانت البشرية لتستحق التكريم لو لم تكن فيها دائماً- وفي أحلك الظروف- تلك الجماعة- التي يسميها الله «أمة» بالمصطلح الإسلامي للأمة وهي: الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة وتتجمع على آصرتها، وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة- فهذه الأمة الثابتة على الحق العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، الشاهدة بعهده على الناس، التي تقوم بها حجة الله على الضالين المتنكرين لعهده في كل جيل.
ونقف لحظة أمام صفة هذه الأمة:(3/1402)
«يَهْدُونَ بِالْحَقِّ. وَبِهِ يَعْدِلُونَ» ..
إن صفة هذه الأمة- التي لا ينقطع وجودها من الأرض أياً كان عددها- أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» .. فهم دعاة إلى الحق، لا يسكتون عن الدعوة به، وإليه، ولا يتقوقعون على أنفسهم ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه. ولكنهم يهدون به غيرهم. فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين عن هذا الحق، المتنكرين لذلك العهد ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق إنما يتجاوزه إلى الهداية به والدعوة إليه والقيادة باسمه.
«وبه يعدلون» .. فيتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس والحكم به بينهم، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق.. فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس.
ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرَّف! إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله. يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه. ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه. ويحكم حياتهم الواقعية فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة.
ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه. ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافاتهم كلها ويضبطها بموازينه ... وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق.. وهذا ما تزاوله تلك الأمة بعد التعريف بالحق والهداية به..
إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس! صلبة لا تقبل التمييع! والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة.. وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهوداً لا تكل، وحملات لا تنقطع، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته، كل الوسائل وكل الأجهزة، وكل التجارب.. هم يسحقون سحقاً وحشياً كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرضَ! وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه! وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها! وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا تمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين، ثم ليقولوا لهم- في ظل هذا التخدير-: إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة، لا شريعة ونظاماً، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم! هذا وإلا فإن على هذا الدين أن «يتطور» فيصبح محكوماً بواقع البشر، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين. وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم- الذي كان إسلامياً- نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين، لتحل محل ذلك الدين القديم! وينزّلون لها قرآناً يتلى ويدرس، ليحل محل ذلك القرآن القديم! وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات- كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين- كوسيلة أخيرة، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين! إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به.. المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج، وجميع الوسائل بلا حساب والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام(3/1403)
العالمية والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يوماً واحداً لولا هذه الكفالة العالمية! ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية. والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق- على قلة العدد وضعف العدة- ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية.. والله غالب على أمره.
«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» ..
وهذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد الأمة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته.. هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون بآيات الله.. إنهم لا يتصورون أبداً أنه استدراج الله لهم من حيث لا يعلمون. ولا يحسبون أنه إملاء الله لهم إلى حين.. فهم لا يؤمنون بأن كيد الله متين! .. إنهم يتولى بعضهم بعضاً ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الأرض فينسون القوة الكبرى! .. إنها سنة الله مع المكذبين.. يرخى لهم العنان، ويملى لهم في العصيان والطغيان، استدراجاً لهم في طريق الهلكة، وإمعاناً في الكيد لهم والتدبير. ومن الذي يكيد؟ إنه الجبار ذو القوة المتين! ولكنهم غافلون! والعاقبة للمتقين.
الذين يهدون بالحق وبه يعدلون..
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة- والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة- وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة- التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي- بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين.. ثم كان يدعوهم- بعد هذا التهديد- إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم. فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين.. كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول، وهم غافلون:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ؟ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟» .
إن القرآن يهزهم من غفوتهم، ويوقظهم من غفلتهم، ويستنقذ- من تحت الركام- فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم.. إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة.. إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنياً بارداً إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا؟ ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
لقد كانوا يقولون عن الرسول- صلّى الله عليه وسلم- في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير: إن محمداً به جنة. وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب، غير المعهود في أساليب البشر العاديين! ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبي سفيان بن حرب، وعمرو بن هشام- أبي جهل- في الاستماع لهذا القرآن خلسة، ليالي ثلاثاً، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة «1» .. وكذلك قصة عتبة بن
__________
(1) يراجع الجزء السادس من الظلال ص 821- 822(3/1404)
ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة «1» .. ومثلها قصة تأمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي- صلّى الله عليه وسلم- وما معه من القرآن وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود: إنه سحر يؤثر «2» .. كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر إنما هم كانوا يستكبرون عنه ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله.. وتهدد كل طاغوت بشري على العموم! من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم، عن الصلة بين التنبؤ والجنون! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور! .. كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد، إنما يقوله عن جنة به وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول، لأنه مجنون «3» ! والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه. فلم يعرفوا عنه من قبل خللاً عن السواء وشهدوا له بالأمانة والصدق، كما شهدوا له بالحكمة وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور. واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه! القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله، المكشوف لهم أمره كله..
أفهذا به جنة؟ .. أفهذا قول مجنون وفعل مجنون؟ .. كلا:
«ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ.. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ..
لا اختلاط في عقله ولا في قوله. إنما هو منذر مفصح مبين. لا يلتبس قوله بقول المجانين، ولا تشتبه حاله بحال المجانين.
ثم..
«أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ؟» ..
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب.. والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه، والإبداع الذي يشهد به، والإعجاز الذي يدل على البارئ الواحد القدير.. والنظر إلى ما خلق الله من شيء- وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء- يدهش القلب ويحير الفكر، ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور.
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة؟ لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى؟
لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها؟ ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد، الصادر عن الإرادة الواحدة، التي يجري بها قدر مطرد مقصود؟
__________
(1) تراجع في الجزء السابع ص 1075- 1076
(2) يراجع تفسير سورة المدثر في الجزء التاسع والعشرين من هذه الظلال.
(3) يراجع ما جاء عن صورة «النبي» وعلاقتها بالجنون في الجاهليات المختلفة في الجزء السابع من الظلال ص 1095- 1099(3/1405)
إن الجسم الحي. لا بل الخلية الحية. لمعجزة لا ينقضي منها العجب.. وجودها. تركيبها. تصرفها.
عمليات التحول الدائمة التي تتم فيها كل لحظة مع محافظتها على وجودها وتضمنها كذلك لوسيلة التجدد في أنسال منها ومعرفتها لوظيفتها ولامتداد هذه الوظيفة في أنسالها! .. فمن ذا الذي ينظر إلى هذه الخلية الواحدة، ثم يطمئن عقله- بل فطرته وضميره- إلى أن هذا الكون بلا إله، أو أن هناك آلهة مع الله؟
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهداً يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر.. وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائماً في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج؟
لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكوراً فقط أو إناثاً فقط.. ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل..
فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائماً في الأجيال جميعاً؟
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعاً- لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها- إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء..
ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائماً لحظة! فمن الذي يمسك بعجله التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعاً؟ «1» وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء.. ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق. ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقياً موحياً هادياً.
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته- وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه- إلى أن له إلهاً. ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة. إنما كان يخطىء في تحديد صفة الإله الحق، حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة «2» ..
فأما الملحدون الجدد- أصحاب «الاشتراكية العلمية» ! - فهم أمساخ شائهو الفطرة. بل إنهم إنما ينكرون الفطرة، ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها.. وعند ما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي، ورأى ذلك المشهد الباهر- مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء- هتفت فطرته: ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء؟
ولكنه حين هبط إلى الأرض، وتذكر إرهاب الدولة، قال: إنه لم يجد الله هناك! وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه، أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض! إن الله الذي يخاطب الإنسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الإنسان، والذي يعلم فطرة هذا الإنسان! وأخيراً يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون مخبأ لهم- من قريب- في عالم المجهول المغيب وهم عنه غافلون:
«وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» ..
فما يدريهم أن أجلهم قريب؟ وما يبقيهم في غفلتهم سادرين وهم عن غيب الله محجوبون؟ وهم في قبضته لا يفلتون؟
إن هذه اللمسة بالأجل المغيب- الذي قد يكون قد اقترب- لتهز القلب البشري هزة عميقة! لعله أن
__________
(1) يراجع فصل: «حقيقة الكون» وفصل: «حقيقة الحياة» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني.
(2) يراجع فصل «ألوهية وعبودية» وفصل: «حقيقة الإنسان» في المصدر السابق. «دار الشروق» .(3/1406)
يستيقظ ويتفتح ويرى.. والله منزل هذا القرآن وخالق هذا الإنسان يعلم أن هذه اللمسة لا تبقي قلباً غافلاً..
ولكن بعض القلوب قد يعاند بعد ذلك ويكابر! «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟» ! وما بعد هذا الحديث من حديث تهتز له القلوب أو تلين..
إن هذه اللمسات التي تعددت في الآية الواحدة لتكشف لنا عن منهج هذا القرآن في خطاب الكينونة البشرية.. إنه لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه، ولا يدع وتراً منها واحداً لا يوقع عليه إنه لا يخاطب الذهن ولكنه لا يهمله ففي الطريق- وهو يهز الكيان البشري كله- يلمسه ويوقظه. إنه لا يسلك إليه طريق الجدل البارد، ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر وحرارة الحياة تسري فيه وتيارها الدافق.. وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة إلى الله دائماً.. فالإنسان هو الإنسان لم يتبدل خلقاً آخر. والقرآن هو القرآن كلام الله الباقي، وخطاب الله لهذا الإنسان الذي لا يتغير.. مهما تعلم ومهما «تطور!» ..
وهنا يقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب.. يقرر فيها سنة الله الجارية بالهدى والضلال وفق ما أرادته مشيئته من هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه وإضلال من يصرف قلبه عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان.
وذلك بمناسبة ما عرضه السياق قبل ذلك من حال أولئك القوم الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن على طريقة القرآن الكريم في عرض القاعدة العامة بمناسبة المثل الفريد ومن بيان السنة الثابتة بمناسبة الحادث العابر:
«مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .
إن الذين يضلون، إنما يضلون لأنهم غافلون عن النظر والتدبر. ومن يغفل عن النظر في آيات الله وتدبرها يضله الله ومن يضله الله لا يهديه أحد من بعده:
«مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» ..
ومن يكتب الله عليه الضلال- وفق سنته تلك- يظل في طغيانه عن الحق وعماه عنه أبداً:
«وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
وما في تركهم في عماهم من ظلم، فهم الذين أغلقوا بصائرهم وأبصارهم، وهم الذين عطلوا قلوبهم وجوارحهم، وهم الذين غفلوا عن بدائع الخلق وأسرار الوجود، وشهادة الأشياء- التي يوجههم إليها في الآية السابقة- وحيثما امتد البصر في هذا الكون وجد عجيبة، وحيثما فتحت العين وقعت على آية، وحيثما التفت الإنسان إلى نفسه أو إلى ما يحيط به، لمس الإعجاز في تكوينه وفيما حوله من شيء. فإذا عمه- أي عمي- عن هذا كله، ترك في عماه، وإذا طغى بعد هذا كله وتجاوز الحق ترك في طغيانه حتى يسلمه إلى البوار:
«وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .
هؤلاء الغافلون عما حولهم، العميُ عما يحيط بهم.. يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الساعة البعيدة المغيبة في المجهول. كالذي لا يرى ما تحت قدميه ويريد أن يرى ما في الأفق البعيد! «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ قل: إنما علمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات(3/1407)
والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها! قل: إنما علمها عند الله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. قل: لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون» ..
لقد كانت عقيدة الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء، تفاجئ المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة..
ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم- عليه السلام- وهو جد هؤلاء المشركين وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماماً من تصوراتهم فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم. حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت وعن البعث والنشور والحساب والجزاء كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ، إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» .. (سبأ: 7- 8) .
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها- كما هي وظيفة الأمة المسلمة- إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها.. فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا، وحدود هذه الأرض الصغيرة، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها! إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور، وسعة في النفس، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة.. كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة، ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة، عن المضي في التبشير بالخير، وفعل الخير والقيادة إلى الخير، على الرغم من النتائج القريبة، والتضحيات الأليمة.. وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة..
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس «الإنسان» ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك «الحيوان» ! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة! لذلك كله كان التوكيد شديداً على عقيدة الآخرة في دين الله كله.. ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح ... حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلاً.. وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني «1» ! ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟» إن الساعة غيب، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه.. ولكن المشركين
__________
(1) يراجع ما جاء في الجزء السابع من هذه الظلال ص 1068- 1073 كما يراجع كتاب: «مشاهد القيامة في القرآن» . «دار الشروق» .(3/1408)
يسألون الرسول عنها.. إما سؤال المختبر الممتحن! وإما سؤال المتعجب المستغرب! وإما سؤال المستهين المستهتر! «أيان مرساها؟» .. أي متى موعدها الذي إليه تستقر وترسو؟! والرسول- صلى الله عليه وسلم- بشر لا يدعي علم الغيب، مأمور أن يكل الغيب إلى صاحبه، وأن يعلمهم أنها من خصائص الألوهية، وأنه هو بشر لا يدعي شيئاً خارج بشريته ولا يتعدى حدودها، إنما يعلمه ربه ويوحي إليه ما يشاء:
«قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» .
فهو- سبحانه- مختص بعلمها، وهو لا يكشف عنها إلا في حينها، ولا يكشف غيره عنها.
ثم يلفتهم عن السؤال هكذا عن موعدها، إلى الاهتمام بطبيعتها وحقيقتها، وإلى الشعور بهولها وضخامتها ...
ألا وإن أمرها لعظيم، ألا وإن عبثها لثقيل. ألا وإنها لتثقل في السماوات والأرضين. وهي- بعد ذلك- لا تأتي إلا بغتة والغافلون عنها غافلون:
«ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» ..
فأولى أن ينصرف الاهتمام للتهيؤ لها والاستعداد قبل أن تأتي بغتة فلا ينفع معها الحذر، ولا تجدي عندها الحيطة، ما لم يأخذوا حذرهم قبلها، وما لم يستعدوا لها، وفي الوقت متسع وفي العمر بقية. وما يدري أحد متى تجيء، فأولى أن يبادر اللحظة ويسارع، وألا يضيع بعد ساعة، قد تفجؤه بعدها الساعة! ثم يعجب من أمر هؤلاء الذين يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الساعة.. إنهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ولا يعرفون حقيقة الألوهية، وأدب الرسول في جانب ربه العظيم.
«يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها!» أي كأنك دائم السؤال عنها! مكلف أن تكشف عن موعدها! ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يسأل ربه علم ما يعلم هو أنه مختص بعلمه:
«قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» ..
قد اختص سبحانه به ولم يطلع عليه أحداً من خلقه.
«وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ..
وليس الأمر أمر الساعة وحده. إنما هو أمر الغيب كله فلله وحده علم هذا الغيب. لا يطلع على شيء منه إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء، في الوقت الذي يشاء.. لذلك لا يملك العباد لأنفسهم نفعاً ولا ضراً..
فقد يفعلون الأمر يريدون به جلب الخير لأنفسهم، ولكن عاقبته تكون هي الضر لهم. وقد يفعلون الأمر يريدون به رفع الضر عنهم، ولكن عاقبته المغيبة تجره عليهم! وقد يفعلون الأمر يكرهونه فإذا عاقبته هي الخير ويفعلون الأمر يحبونه فإذا عاقبته هي الضر: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» ..
والشاعر الذي يقول:
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي! ومن أين والغايات بعد المذاهب «1»
__________
(1) من قصيدة لابن الرومي.(3/1409)
إنما يمثل موقف البشرية أمام الغيب المجهول. ومهما يعلم الإنسان ومهما يتعلم، فإن موقفه أمام باب الغيب الموصد، وأمام ستر الغيب المسدل، سيظل يذكره ببشريته المحجوبة أمام عالم الغيب المحجوب «1» .
والرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو من هو وقربه من ربه هو قربه، مأمور أن يعلن للناس أنه أمام غيب الله بشر من البشر، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، لأنه لا يطلع على الغيب، ولا يعرف الغايات قبل المذاهب، ولا يرى مآل أفعاله ومن ثم لا يملك أن يختار عاقبة فعله بحيث إن رأى العاقبة المغيبة خيراً أقدم، وإن رآها سوءاً أحجم. إنما هو يعمل، والعاقبة تجيء كما قدر الله في غيبه المكنون:
«قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ- وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» ..
وبهذا الإعلان تتم لعقيدة التوحيد الإسلامية كل خصائص التجريد المطلق، من الشرك في أية صورة من صوره. وتتفرد الذات الإلهية بخصائص لا يشاركها البشر في شيء منها. ولو كان هذا البشر محمداً رسول الله وحبيبه ومصطفاه- عليه صلوات الله وسلامه- فعند عتبة الغيب تقف الطاقة البشرية، ويقف العلم البشري.
وعند حدود البشرية يقف شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتتحدد وظيفته «2» :
«إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
والرسول- صلى الله عليه وسلم- نذير وبشير للناس أجمعين. ولكن الذين «يؤمنون» هم الذين ينتفعون بما معه من النذارة والبشارة فهم الذين يفقهون حقيقة ما معه وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به.
ثم هم بعد ذلك خلاصة البشرية كلها، كما أنهم هم الذين يخلص بهم الرسول من الناس أجمعين..
إن الكلمة لا تعطي مدلولها الحقيقي إلا للقلب المفتوح لها، والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها، وإن هذا القرآن لا يفتح كنوزه، ولا يكشف أسراره، ولا يعطي ثماره، إلا لقوم يؤمنون. ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن.. وهذا الإيمان هو الذي كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق، ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الإدراك، ويصنعون به تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من الزمان.
لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن، ومن نوره، ومن فرقانه، ما لا يجده إلا الذين يؤمنون إيمان ذلك الجيل. ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى الإيمان، لقد كان الإيمان هو الذي فتح لهم في القرآن ما لا يفتحه إلا الإيمان! لقد عاشوا بهذا القرآن، وعاشوا له كذلك.. ومن ثم كانوا ذلك الجيل المتفرد الذي لم يتكرر- بهذه الكثرة وبهذا التوافي على ذلك المستوى- في التاريخ كله.. اللهم إلا في صورة أفراد على مدار التاريخ يسيرون على أقدام ذلك الجيل السامق العجيب! لقد خلصوا لهذا القرآن فترة طويلة من الزمان، فلم تشب نبعه الرائق شائبة من قول البشر، اللهم إلا قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهديه.. وقد كان من نبع القرآن ذاته كذلك.. ومن ثم كان ذلك الجيل المتفرد ما كان.
__________
(1) يراجع ما جاء في الجزء السابع عند تفسير قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ص 1113- 1121
(2) يراجع ما جاء في الجزء السابع عن طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ص 1093- 1099(3/1410)
وما أجدر الذين يحاولون أداء ما أداه ذلك الجيل أن ينهجوا نهجه، فيعيشوا بهذا القرآن ولهذا القرآن فترة طويلة من الزمان، لا يخالط عقولهم وقلوبهم غيره من كلام البشر ليكونوا كما كان! «1» ثم جولة جديدة في قضية التوحيد. تأخذ في أولها صورة القصة، لتصوير خطوات الانحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس. وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم.. ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير. وتختم بتوجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده، وليه وناصره:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ! أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ؟ «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟ قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ..
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد! «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها. فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. أن يتوجهوا إلى الله ربهم، معترفين له بالربوبية الخالصة، عند الخوف وعند الطمع.. والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة، وتركيب الزوجية وطبيعتها:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» ..
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى. وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها.. وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان. ووظيفة الزوجية في تكوينه.
وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً. يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني، وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً، ويوم أن كانت الوثنيات- ولا تزال- تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق.
__________
(1) يراجع فصل: «جيل منفرد» في كتاب: «معالم في الطريق» .. «دار الشروق» .(3/1411)
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار. ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب، وينتج فيه المحصول البشري الثمين، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه. ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة. كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء! «1» وبعد ذلك تبدأ القصة.. تبدأ من المرحلة الأولى..
«فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ» ..
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين.. «فَلَمَّا تَغَشَّاها» .. تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين. إيحاء «للإنسان» بالصورة «الإنسانية» في المباشرة. وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة! .. كذلك تصوير الحمل في أول أمره.. «خفيفاً» .. تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه.
ثم تأتي المرحلة الثانية:
«فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
لقد تبين الحمل، وتعلقت به قلوب الزوجين، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً..
إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب..
وعند الطمع تستيقظ الفطرة، فتتوجه إلى الله، تعترف له بالربوبية وحده، وتطمع في فضله وحده، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود. لذلك «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» ..
«فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!» ..
إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء.. إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين. فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها «عبد الحارث» .. والحارث اسم لإبليس. ليولد صحيحاً ويعيش ففعلت وأغرت آدم معها! وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي..
ذلك أن التصور الإسرائيلي المسيحي- كما حرفوا ديانتهم- هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء، وهو مخالف تماماً للتصور الإسلامي الصحيح.
ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني.. فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية.. ولقد كان المشركون على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبله، ينذرون بعض أبنائهم للآلهة، أو لخدمة معابد الآلهة! تقرباً وزلفى إلى الله! ومع توجههم في أول الأمر لله، فإنهم بعد دحرجة من قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون لهذه الآلهة أبناءهم لتعيش وتصح وتوقى المخاطر! كما يجعل الناس اليوم نصيباً في أبدان أبنائهم للأولياء والقديسين. كأن يستبقوا شعر الغلام لا يحلق أول مرة إلا على ضريح ولي أو قديس. أو أن يستبقوه بلا ختان حتى يختن هناك. مع أن هؤلاء الناس اليوم يعترفون بالله الواحد. ثم
__________
(1) تراجع فقرة: «المرأة وعلاقات الجنسين» في فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» ، كذلك يراجع فصل: «حقيقة الإنسان» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق» .(3/1412)
يتبعون هذا الاعتراف بهذه الاتجاهات المشركة. والناس هم الناس! «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ!» .
وتنزه عن الشرك الذي يعتقدون ويزاولون! على أننا نرى في زماننا هذا صنوفاً وألواناً من الشرك ممن يزعمون أنهم يوحدون الله ويسلمون له، ترسم لنا صورة من مدارج الشرك التي ترسمها هذه النصوص.
إن الناس يقيمون لهم اليوم آلهة يسمونها «القوم» ويسمونها «الوطن» ، ويسمونها «الشعب» .. إلى آخر ما يسمون. وهي لا تعدو أن تكون أصناماً غير مجسدة كالأصنام الساذجة التي كان يقيمها الوثنيون. ولا تعدو أن تكون آلهة تشارك الله- سبحانه- في خلقه، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للآلهة القديمة! ويضحون لها كالذبائح التي كانت تقدم في المعابد على نطاق واسع! إن الناس يعترفون بالله ربا. ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً، بينما يجعلون أوامر هذه الآلهة ومطالبها «مقدسة» . تخالف في سبيلها أوامر الله وشرائعه، بل تنبذ نبذاً. فكيف تكون الآلهة؟ وكيف يكون الشرك؟ وكيف يكون نصيب الشركاء في الأبناء.. إن لم يكن هو هذا الذي تزاوله الجاهلية الحديثة!! ولقد كانت الجاهلية القديمة أكثر أدباً مع الله.. لقد كانت تتخذ من دونه آلهة تقدم لها هذه التقدمات من الشرك في الأبناء والثمار والذبائح لتقرب الناس من الله زلفى! فكان الله في حسها هو الأعلى. فأما الجاهلية الحديثة فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله عندها. فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً! إننا نخدع أنفسنا حين نقف بالوثنية عند الشكل الساذج للأصنام والآلهة القديمة، والشعائر التي كان الناس يزاولونها في عبادتها واتخاذها شفعاء عند الله.. إن شكل الأصنام والوثنية فقط هو الذي تغير. كما أن الشعائر هي التي تعقدت، واتخذت لها عنوانات جديدة.. أما طبيعة الشرك وحقيقته فهي القائمة من وراء الأشكال والشعائر المتغيرة..
وهذا ما ينبغي ألا يخدعنا عن الحقيقة! إن الله- سبحانه- يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة. ولكن «الوطن» أو «الإنتاج» يأمر بأن تخرج المرأة وتتبرج وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق في صورة فتيات الجيشا في اليابان الوثنية! فمن الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه؟ أم إنها الآلهة المدعاة؟
إن الله- سبحانه- يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة.. ولكن «القومية» أو «الوطن» يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة! .. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله- سبحانه- أم هي الآلهة المدعاة؟! إن الله- سبحانه- يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة. ولكن عبداً من العبيد- أو مجموعة من «الشعب» - تقول: كلا! إن العبيد هم الذين يشرعون وشريعتهم هي الحاكمة.. فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة؟! إنها أمثلة لما يجري في الأرض كلها اليوم ولما تتعارف عليه البشرية الضالة.. أمثلة تكشف عن حقيقة الوثنية السائدة، وحقيقة الأصنام المعبودة، المقامة اليوم بديلاً من تلك الوثنية الصريحة، ومن تلك الأصنام المنظورة! ويجب ألا تخدعنا الأشكال المتغيرة للوثنية والشرك عن حقيقتها الثابتة!!!(3/1413)
ولقد كان القرآن يحاور أصحاب تلك الوثنية الساذجة وتلك الجاهلية الصريحة ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري- أياً كانت طفولته- فيعقب على ذلك المثل الذي ضربه لهم، وصور فيه مدارج الشرك في النفس:
«أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ؟» ..
إن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد! وآلهتهم المدعاة- كلها- لا تخلق شيئاً بل هي تخلق! فكيف يشركون بها؟ كيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
وإن الذي يملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم هو الذي ينبغي أن يعبد. فالقوة والقهر والسلطان هي خصائص الألوهية وموجبات العبادة والعبودية.. وآلهتهم المدعاة- كلها- لا قوة لها ولا سلطان فهم لا يستطيعون نصرهم، ولا نصر أنفسهم! فكيف يجعلون لها شركاً مع الله في نفوسهم وفي أولادهم؟
ومع أن برهان الخلق والقدرة هذا كان يوجه إلى أصحاب تلك الجاهلية الساذجة، فهو ما يزال هو هو الذي يحاج به أصحاب الجاهلية الحاضرة! إنهم يقيمون لهم أصناماً أخرى يعبدونها ويتبعون ما تأمر به ويجعلون لها شركاً في أنفسهم وأبنائهم وأموالهم.. فمن منها يخلق من السماوات والأرض شيئاً؟ ومن منها يملك لهم أو لنفسه نصراً؟
إن العقل البشري- لو خلي بينه وبين هذا الواقع- لا يقره، ولا يرضاه! ولكنها الشهوات والأهواء والتضليل والخداع.. هي التي تجعل البشرية بعد أربعة عشر قرناً من نزول هذا القرآن ترتد إلى هذه الجاهلية- في صورتها الجديدة- فتشرك ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون! إن هذه البشرية لفي حاجة اليوم- كما كانت في حاجة بالأمس- إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى.
في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام ومن يخرجها من الظلمات إلى النور ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية الجديدة بل من هذا السخف الجديد الذي تلج فيه كما أنقذها هذا الدين أول مرة! إن صيغة التعبير القرآنية توحي بأنه كان يعني كذلك تقريعهم على اتخاذ آلهة من البشر:
«أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ؟» ..
فهذه الواو والنون تشير إلى أن من بين هذه الآلهة على الأقل بشراً من «العقلاء» الذين يعبر عنهم بضمير «العاقل» ! .. وما علمنا أن العرب في وثنيتهم كانوا يشركون بآلهة من البشر- بمعنى أنهم يعتقدون بألوهيتهم أو يقدمون الشعائر التعبدية لهم- إنما هم كانوا يشركون بأمثال هؤلاء من ناحية أنهم يتلقون منهم الشرائع الاجتماعية والأحكام في النزاعات- أي الحاكمية الأرضية- وأن القرآن يعبر عن هذا بالشرك، ويسوي بينه وبين شركهم الآخر بالأوثان والأصنام سواء. وهذا هو الاعتبار الإسلامي لهذا اللون من الشرك. فهو شرك كشرك الاعتقاد والشعائر لا فرق بينه وبينه، كما اعتبر الذين يتقبلون الشرائع والأحكام من الأحبار والرهبان مشركين. مع أنهم لم يكونوا يعتقدون بألوهيتهم ولم يكونوا يقدمون لهم الشعائر كذلك.. فكله شرك وخروج عن التوحيد الذي يقوم عليه دين الله والذي تعبر عنه شهادة أن لا إله إلا الله «1» .. مما يتفق تماماً مع ما قررناه من شرك الجاهلية الحديثة!
__________
(1) يراجع الحديث الذي أخرجه الترمذي عن تفسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمعنى قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» : في فصل «التوحيد» من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» .. «دار الشروق» .(3/1414)
ولما كان الحديث عن قصة الانحراف في النفس- ذلك المتمثل في قصة الزوجين- هو حديث كل شرك! والمقصود به هو تنبيه أولئك الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، إلى سخف ما هم عليه من الشرك، واتخاذ تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً بل هي تخلق، ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصراً، سواء أكانت من البشر أم من غيرهم، فهي كلها لا تخلق ولا تنصر- لما كان هذا هو اتجاه السياق القرآني، فإنه ينتقل من القصة ومن أسلوب الحكاية في الفقرة السابقة، إلى مواجهة مشركي العرب وإلى أسلوب الخطاب انتقالاً مباشراً، كأنه امتداد للحديث السابق عليه عن تلك الآلهة! «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ. فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟» .
لقد كانت وثنية مشركي العرب وثنية ساذجة- كما أسلفنا- سخيفة في ميزان العقل البشري في أية مرحلة من مراحلة! ومن ثم كان القرآن ينبه فيهم هذا العقل وهو يواجههم بسخافة ما يزاولونه من الشرك بمثل هذه الآلهة.
إن أصنامهم هذه الساذجة بهيئتها الظاهرة: ليس لها أرجل تمشي بها، وليس لها أيد تبطش بها. وليس لها أعين تبصر بها، وليس لها آذان تسمع بها.. هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم. فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه الأحجار الهامدة؟
فأما ما يرمزون إليه بهذه الأصنام من الملائكة حيناً، ومن الآباء والأجداد حيناً.. فهم عباد أمثالهم من خلق الله مثلهم. لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون! والازدواج في عقائد مشركي العرب بين الأصنام الظاهرة، والرموز الباطنة هو- فيما نحسب- سبب مخاطبتهم هكذا عن هذه الآلهة: مرة بضمير العاقل ملحوظاً فيها ما وراء الأصنام من الرمز، ومرة بالإشارة المباشرة إلى الأصنام ذاتها، وأنها فاقدة للحياة والحركة! وهي في مجموعها ظاهرة البطلان في منطق العقل البشري ذاته، الذي يوقظه القرآن، ويرفعه عن هذه الغفلة المزرية! وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يتحداهم ويتحدى آلهتهم العاجزة- كلها- وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله- وحده- له:
«قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ.. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا، وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ..
إنها كلمة صاحب الدعوة، في وجه الجاهلية.. ولقد قالها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما أمره ربه وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة:
«قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» ..
لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي.. وقال لهم: ألا يألوا جهداً في جمع كيدهم وكيد آلهتهم بلا إمهال ولا إنظار! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه. ويحتمي به من كيدهم جميعاً:(3/1415)
«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ، الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..
فأعلن بها عمن إليه يرتكن. إنه يرتكن إلى الله.. الذي نزل الكتاب.. فدل بتنزيله على إرادته- سبحانه- في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين.. وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه.
وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله- بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- في كل مكان وفي كل زمان:
«قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» .. «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» .
إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض..
إنها في ذاتها واهية واهنة، مهما بدت قوية قادرة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ!» .. «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ!» ..
وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله. فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن؟ وماذا تساوي في حسه حتى لو قدرت على أذاه؟! إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاه. لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها- سبحانه وتعالى! - ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه.. ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب. واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين! لقد كان أبو بكر- رضي الله عنه- يردد، والمشركون يتناولونه بالأذى ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه، حتى تركوه وما يعرف له فم من عين! .. كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رب ما أحلمك! رب ما أحلمك! رب ما أحلمك! ... » كان يعرف في قرارة نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه! لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه! ولقد كان عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- يقول، وقد تناوله المشركون بالأذى- لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة- حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته! .. كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله: «والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك!» .. كان يعرف أنهم يحادون الله- سبحانه- وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله. فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله.
ولقد كان عبد الله بن مظعون- رضي الله عنه- يقول، وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك، لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فيكف عنه الأذى، وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله.
وقد تجمع عليه المشركون- بعد خروجه من جوار عتبة- فآذوه حتى خسروا عينه.. كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره: «لأنا في جوار من هو أعز منك!» .. وكان يرد على عتبة إذ قال له: «يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها!» .. يقول: «لا والله. وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله!» .. كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد. وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه، ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب: «لا والله. وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله» ..(3/1416)
هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد- صلى الله عليه وسلم- في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم:
«قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين. وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؟
كان ما يعرفه التاريخ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله. وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون. وكانت التبعية ممن بقي منهم- ممن شرح الله صدره للإسلام- لهؤلاء السابقين، الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع، وبعزمة في الله لا تلين! إن صاحب الدعوة إلى الله- في كل زمان وفي كل مكان- لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزمة، وإلا بمثل ذلك اليقين:
«إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..
لقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يتحدى المشركين. فتحداهم. وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم:
«وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» ..
«وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا، وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» ..
وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة.. فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة..
إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرضَ! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم.
وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع، وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر.. الوطن. والقوم. والإنتاج. والآلة. وحتمية التاريخ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة! والذي يبصر منها ويسمع- وهي الآلهة المدعاة من البشر، التي تعطى خصائص الألوهية فتشرعٍ بأمرها وتحكم- هي كذلك لا تسمع ولا تبصر.. هي من الذين يقول الله فيهم: «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها.. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ! إن صاحب الدعوة إلى الله، إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة.. وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:
«قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ. وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» .. فإنما هم هم.. في كل أرض وفي كل حين!!!(3/1417)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة، من الله سبحانه إلى أوليائه.. رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا معه.. وهم بعد في مكة وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة.. هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة، وفي مواجهة هذه البشرية الضالة، تدعو صاحب الدعوة- صلى الله عليه وسلم- إلى السماحة واليسر، والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها، بغير تعقيد ولا تشديد. والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم، ولا يجادلهم، ولا يحفلهم.. فإذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه بالعناد والصد، ونفخ الشيطان في هذا الغضب، فليستعذ بالله ليهدأ ويطمئن ويصبر: «خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ..
ثم يعرفه بطبيعة أولئك الجاهلين والوسوسة التي وراءهم والتي تمدهم في الغي والضلال. ويذكر طرفاً من سلوكهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وطلبهم الخوارق ليوجهه إلى ما يقول لهم، ليعرفهم بطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول، وليصحح لهم تصوراتهم عنها وعنه وعن علاقته بربه الكريم: «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها! قُلْ: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وبمناسبة هذه الإشارة إلى ما أوحاه إليه ربه من القرآن، يجيء توجيه المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن وأدب ذكر الله مع التنبيه إلى مداومة هذا الذكر، وعدم الغفلة عنه. فإن الملائكة الذين لا يخطئون يذكرون ويسبحون ويسجدون، فما أولى البشر الخطائين أن لا يغفلوا عن الذكر والتسبيح والسجود: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» ..(3/1418)
«خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ..
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم.. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح.
ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء.. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم.. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء! .. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله..
«وأمر بالعرف» .. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة.. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين..
«وأعرض عن الجاهلين» .. من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم.. وهما قريب من قريب..
والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال والمرور بها مر الكرام وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد..
وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى.. وإذا قدر عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة..
وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام! .. لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله لينفثئ غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه:
«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهذا التعقيب: «إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم عليم بما تحمله نفسك من أذاهم.. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس.. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟! ثم يتخذ السياق القرآني طريقاً آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول، وذكر الله عند(3/1419)
الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم:
«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ..
وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة، وحقائق عميقة، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل..
إن اختتام الآية بقوله: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك..
إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه..
تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه.. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر الله إبصار.. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى الله نور.. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان..
ذلك شأن المتقين: «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. جاء بيان هذا الشأن معترضاً بين أمر الله سبحانه بالإعراض عن الجاهلين وبيان ماذا ومن ذا وراء هؤلاء الجاهلين، يدفعهم إلى الجهل والحمق والسفه الذي يزاولون.. فلما انتهى التعقيب عاد السياق يحدث عن الجاهلين:
«وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها. قُلْ: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي، هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي هم شياطين الجن.. وقد يكونون هم شياطين الإنس أيضاً.. إنهم يزيدون لهم في الضلال، لا يكلون ولا يسأمون ولا يسكتون! وهم من ثم يحمقون ويجهلون! ويظلون فيما هم فيه سادرين.
ولقد كان المشركون لا يكفون عن طلب الخوارق من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والسياق هنا يحكي بعض أقوالهم الدالة على جهلهم بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:
«وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها!» ..
أي.. لولا ألححت على ربك حتى ينزلها! .. أو هلا فعلتها أنت من نفسك؟ ألست نبياً؟! ..
إنهم لم يكونوا يدركون طبيعة الرسول ووظيفته كذلك لم يكونوا يعرفون أدبه مع ربه وأنه يتلقى منه ما يعطيه ولا يقدم بين يدي ربه ولا يقترح عليه ولا يأتي كذلك الشيء من عند نفسه.. والله يأمره أن يبين لهم:
«قُلْ: إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي» ..
فلا أقترح، ولا أبتدع، ولا أملك إلا ما يوحيه إلي ربي. ولا آتي إلا ما يأمرني به..
لقد كانت الصورة الزائفة للمتنبئين في الجاهليات تتراءى لهم، ولم يكن لهم فقه ولا معرفة بحقيقة الرسالة وطبيعة الرسول:
كذلك يؤمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم ما في هذا القرآن الذي جاءهم به، وحقيقته التي يغفلون عنها، ويطلبون الخوارق المادية، وأمامهم هذا الهدى الذي يغفلون عنه:
«هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..(3/1420)
إنه هذا القرآن.. بصائر تهدي، ورحمة تفيض.. لمن يؤمن به، ويغتنم هذا الخير العميم..
إنه هذا القرآن الذي كان الجاهلون من العرب- في جاهليتهم- يعرضون عنه، ويطلبون خارقة من الخوارق المادية مثل التي جرت على أيدي الرسل من قبل، في طفولة البشرية، وفي الرسالات المحلية غير العالمية، والتي لا تصلح إلا لزمانها ومكانها، ولا تواجه إلا الذين يشاهدونها، فكيف بمن بعدهم من الأجيال، وكيف بمن وراءهم من الأقوام الذين لم يروا هذه الخارقة! إنه هذا القرآن الذي لا تبلغ خارقة مادية من الإعجاز ما يبلغه.. من أي جانب من الجوانب شاء الناس المعجزة في أي زمان وفي أي مكان.. لا يستثنى من ذلك من كان من الناس ومن يكون إلى آخر الزمان! فهذا جانبه التعبيري.. ولعله كان بالقياس إلى العرب في جاهليتهم أظهر جوانبه- بالنسبة لما كانوا يحفلون به من الأداء البياني، ويتفاخرون به في أسواقهم! - ها هو ذا كان وما يزال إلى اليوم معجزاً لا يتطاول إليه أحد من البشر. تحداهم الله به وما يزال هذا التحدي قائماً. والذين يزاولون فن التعبير من البشر، ويدركون مدى الطاقة البشرية فيه، هم أعرف الناس بأن هذا الأداء القرآني معجز معجز.. سواء كانوا يؤمنون بهذا الدين عقيدة أو لا يؤمنون.. فالتحدي في هذا الجانب قائم على أسس موضوعية يستوي أمامها المؤمنون والجاحدون..
وكما كان كبراء قريش يجدون من هذا القرآن- في جاهليتهم- ما لا قبل لهم بدفعه عن أنفسهم- وهم جاحدون كارهون- كذلك يجد اليوم وغداً كل جاهلي جاحد كاره ما وجد الجاهليون الأولون! ويبقى وراء ذلك السر المعجز في هذا الكتاب الفريد.. يبقى ذلك السلطان الذي له على الفطرة- متى خلي بينها وبينه لحظة! - وحتى الذين رانت على قلوبهم الحجب، وثقل فوقها الركام، تنتفض قلوبهم أحياناً وتتململ قلوبهم أحياناً تحت وطأة هذا السلطان وهم يستمعون إلى هذا القرآن! إن الذين يقولون كثيرون.. وقد يقولون كلاماً يحتوي مبادئ ومذاهب وأفكارا واتجاهات.. ولكن هذا القرآن ينفرد في إيقاعاته على فطرة البشر وقلوبهم فيما يقول! إنه قاهر غلاب بذلك السلطان الغلاب! ..
ولقد كان كبراء قريش يقولون لأتباعهم الذين يستخفونهم- ويقولون لأنفسهم في الحقيقة-: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .. لما كانوا يجدونه هم في نفوسهم من مس هذا القرآن وإيقاعه الذي لا يقاوم! وما يزال كبراء اليوم يحاولون أن يصرفوا القلوب عن هذا القرآن بما ينزلونه لهم من مكاتيب! غير أن هذا القرآن يظل- مع ذلك كله- غلاباً.. وما إن تعرض الآية منه أو الآيات في ثنايا قول البشر، حتى تتميز وتنفرد بإيقاعها، وتستولي على الحس الداخلي للسامعين، وتنحي ما عداها من قول البشر المحير الذي تعب فيه القائلون! ثم يبقى وراء ذلك مادة هذا القرآن وموضوعه.. وما تتسع صفحات عابرة- في ظلال القرآن- للحديث عن مادة هذا القرآن وموضوعه.. فالقول لا ينتهي والمجال لا يحد! وماذا الذي يمكن أن يقال في صفحات؟! منهج هذا القرآن العجيب، في مخاطبة الكينونة البشرية بحقائق الوجود.. وهو منهج يواجه هذه الكينونة بجملتها، لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه في السياق الواحد، ولا يدع نافذة واحدة من نوافذها لا يدخل منها إليها ولا يدع خاطراً فيها لا يجاوبه، ولا يدع هاتفاً فيها لا يلبيه! منهج هذا القرآن العجيب، وهو يتناول قضايا هذا الوجود، فيكشف منها ما تتلقاه فطرة الإنسان وقلبه(3/1421)
وعقله بالتسليم المطلق، والتجاوب الحي، والرؤية الواضحة. وما يطابق كذلك حاجات هذه الفطرة، ويوقظ فيها طاقاتها المكنونة، ويوجهها الوجهة الصحيحة.
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يأخذ بيد الفطرة الإنسانية خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة ويصعد بها- في هينة ورفق، وفي حيوية كذلك وحرارة، وفي وضوح وعلى بصيرة- درجات السلم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. في المعرفة والرؤية، وفي الانفعال والاستجابة، وفي التكيف والاستقامة، وفي اليقين والثقة، وفي الراحة والطمأنينة.. إلى حقائق هذا الوجود الصغيرة والكبيرة..
منهج هذا القرآن العجيب، وهو يلمس الفطرة الإنسانية، من حيث لا يحتسب أحد من البشر أن يكون هذا موضع لمسة! أو أن يكون هذا وتر استجابة! فإذا الفطرة تنتفض وتصوت وتستجيب. ذلك أن منزل هذا القرآن هو خالق هذا الإنسان الذي يعلم من خلق، وهو أقرب إليه من حبل الوريد! ذلك المنهج؟ .. أم المادة ذاتها التي يعرضها القرآن في هذا المنهج.. وهنا ذلك الانفساح الذي لا يبلغ منه القول شيئاً.. «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» .. «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» ..
إن الذي يكتب هذه الكلمات، قضى- ولله الحمد والمنة- في الصحبة الواعية الدارسة لهذا الكتاب خمسة وعشرين عاماً. يجول في جنبات الحقائق الموضوعية لهذا الكتاب في شتى حقول المعرفة الإنسانية- ما طرقته معارف البشر وما لم تطرقه- ويقرأ في الوقت ذاته ما يحاوله البشر من بعض هذه الجوانب.. ويرى.. يرى ذلك الفيض الغامر المنفسح الواسع في هذا القرآن وإلى جانبه تلك البحيرات المنعزلة، وتلك النقر الصغيرة.. وتلك المستنقعات الآسنة أيضاً! في النظرة الكلية في هذا الوجود، وطبيعته، وحقيقته، وجوانبه، وأصله، ونشأته، وما وراءه من أسرار وما في كيانه من خبايا ومكنونات وما يضمه من أحياء وأشياء.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها «فلسفة» البشر! .. «1»
في النظرة الكلية إلى «الإنسان» ونفسه، وأصله، ونشأته، ومكنونات طاقاته، ومجالات نشاطه وطبيعة تركيبه، وانفعالاته، واستجاباته، وأحواله وأسراره.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها علوم الحياة والنفس والتربية والاجتماع! والعقائد والأديان.. «2»
في النظرة إلى نظام الحياة الإنسانية وجوانب النشاط الواقعي فيها ومجالات الارتباط والاحتكاك، والحاجات المتجددة وتنظيم هذه الحاجات.. الموضوعات التي تطرق جوانب منها النظريات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. «3»
وفي كل حقل من هذه الحقول يجد الدارس الواعي لهذا القرآن وفرة من النصوص والتوجيهات يحار في كثرتها ووفرتها! فوق ما في هذه الوفرة من أصالة وصدق وعمق وإحاطة ونفاسة!
__________
(1، 2) يراجع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» ، وكتاب «هذا الدين» وكتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» .
وكتاب: «معالم في الطريق» للمؤلف.. وكتب: «الإنسان بين المادية والإسلام» و «دراسات في النفس الإنسانية» و «التطور والثبات في حياة البشرية» و «منهج التربية الإسلامية» و «منهج الفن الإسلامي» لمحمد قطب. «دار الشروق» . [.....]
(3) يراجع كتاب: «نحو مجتمع إسلامي» للمؤلف.(3/1422)
إنني لم أجد نفسي مرة واحدة- في مواجهة هذه الموضوعات الأساسية- في حاجة إلى نص واحد من خارج هذا القرآن- فيما عدا قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو من آثار هذه القرآن- بل إن أي قول آخر ليبدو هزيلاً- حتى لو كان صحيحاً- إلى جانب ما يجده الباحث في هذا الكتاب العجيب..
إنها الممارسة الفعلية التي تنطق بهذه التقريرات والصحبة الطويلة في ظل حاجات الرؤية والبحث والنظر في هذه الموضوعات.. وما بي أن أثني على هذا الكتاب.. ومن أنا ومن هؤلاء البشر جميعاً ليضيفوا إلى كتاب الله شيئاً بما يملكون من هذا الثناء! لقد كان هذا الكتاب هو مصدر المعرفة والتربية والتوجيه والتكوين الوحيد لجيل من البشر فريد.. جيل لم يتكرر بعد في تاريخ البشرية- لا من قبل ولا من بعد- جيل الصحابة الكرام الذين أحدثوا في تاريخ البشرية ذلك الحدث الهائل العميق الممتد، الذي لم يدرس حق دراسته إلى الآن..
لقد كان هذا المصدر هو الذي أنشأ- بمشيئة الله وقدره- هذه المعجزة المجسمة في عالم البشر. وهي المعجزة التي لا تطاولها جميع المعجزات والخوارق التي صحبت الرسالات جميعاً.. وهي معجزة واقعة مشهودة..
أن كان ذلك الجيل الفريد ظاهرة تاريخية فريدة ... «1»
ولقد كان المجتمع الذي تألف من ذلك الجيل أول مرة، والذي ظل امتداده أكثر من ألف عام، تحكمه الشريعة التي جاء بها هذا الكتاب، ويقوم على قاعدة من قيمه وموازينه، وتوجيهاته وإيحاءاته.. كان هذا المجتمع معجزة أخرى في تاريخ البشرية. حين تقارن إليه صور المجتمعات البشرية الأخرى، التي تفوقه في الإمكانيات المادية- بحكم نمو التجربة البشرية في عالم المادة- ولكنها لا تطاوله في «الحضارة الإنسانية» ! «2» إن الناس اليوم- في الجاهلية الحديثة! - يطلبون حاجات نفوسهم ومجتمعاتهم وحياتهم خارج هذا القرآن! كما كان الناس في الجاهلية العربية يطلبون خوارق غير هذا القرآن! .. فأما هؤلاء فقد كانت تحول جاهليتهم الساذجة، وجهالتهم العميقة- كما تحول أهواؤهم ومصالحهم الذاتية كذلك- دون رؤية الخارقة الكونية الهائلة في هذا الكتاب العجيب! .. فأما أهل الجاهلية الحاضرة، فيحول بينهم وبين هذا القرآن غرور «العلم البشري» الذي فتحه الله عليهم في عالم المادة. وغرور التنظيمات والتشكيلات المعقدة بتعقيد الحياة البشرية اليوم ونموها ونضجها من ناحية التنظيم والتشكيل. وهو أمر طبيعي مع امتداد الحياة وتراكم التجارب، وتجدد الحاجات، وتعقدها كذلك! كما يحول بينهم وبين هذا القرآن كيد أربعة عشر قرناً من الحقد اليهودي والصليبي الذي لم يكف لحظة واحدة عن حرب هذا الدين وكتابه القويم وعن محاولة إلهاء أهله عنه وإبعادهم عن توجيهه المباشر. بعد ما علم اليهود والصليبيون من تجاربهم الطويلة: أن لا طاقة لهم بأهل هذا الدين، ما ظلوا عاكفين على هذا الكتاب، عكوف الجيل الأول، لا عكوف التغني بآياته وحياتهم كلها بعيدة عن توجيهاته! .. هو كيد مطرد مصرٌّ لئيم خبيث.. ثمرته النهائية هذه الأوضاع التي يعيش فيها الناس الذين يسمون اليوم بالمسلمين- وما هم بالمسلمين ما لم يحكموا في حياتهم شريعة هذا الدين! - وهذه المحاولات الأخرى في كل مكان للتعفية على آثار هذا الدين ولتدارس قرآن غير قرآنه يرجع إليه في تنظيم الحياة كلها، ويرد إليه كل اختلاف، وكل نزاع في التشريع والتقنين لهذه الحياة كما كان المسلمون يرجعون إلى كتاب الله في هذه الشؤون!!!
__________
(1) يراجع فصل: «جيل متفرد» وفصل: «التصور الإسلامي والثقافة» . في كتاب: «معالم في الطريق» .. «دار الشروق» .
(2) يراجع فصل: «لا إله إلا الله منهج حياة» وفصل: «طبيعة المجتمع الإسلامي» في المصدر السابق..(3/1423)
إنه هذا القرآن الذي يجهله أهله اليوم. لأنهم لا يعرفونه إلا تراتيل وترانيم وتعاويذ وتهاويم! بعد ما صرفتهم عنه قرون من الكيد اللئيم، ومن الجهل المزري، ومن التعاليم المغرورة، ومن الفساد الشامل للفكر والقلب والواقع النكد الخبيث! إنه هذا القرآن الذي كان الجاهليون القدامى يصرفون عنه الجماهير بطلب الخوارق المادية. والذي يصرف عنه الجاهليون المحدثون الجماهير بالقرآن الجديد الذي يفترونه، وبشتى وسائل الإعلام والتوجيه! إنه هذا القرآن الذي يقول عنه العليم الخبير:
«هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
بصائر تكشف وتنير. وهدى يرشد ويهدي. ورحمة تغمر وتفيض.. «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فهم الذين يجدون هذا كله في هذا القرآن الكريم..
ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين:
«وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآن: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرىء القرآن.. بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة. حين يجهر الإمام بالقرآن فيجب أن يستمع المأموم وينصت، ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية. ولا ينازع الإمام القرآن! وذلك كالذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وقال الترمذي عنه: هذا حديث حسن، وصححه أبو حاتم الرازي، من حديث الزهري عن أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم معي آنفاً به» قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: «إني أقول: ما لي أنازع القرآن» فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكالذي رواه ابن جرير في التفسير: حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناساً يقرأون مع الإمام. فلما انصرف قال: «أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا: «إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» كما أمركم الله «1» ! وبعضهم يرى أن هذا كان توجيهاً للمسلمين أن لا يكونوا كالمشركين الذين كانوا يأتون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» . فأنزل الله عز وجل جواباً لهم: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» .. قال القرطبي هذا وقال نزل في الصلاة.
روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب..
وروى ابن جرير سبباً للنزول قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبوبكر بن عياش، عن عاصم عن المسيب..
__________
(1) تختلف المذاهب في قراءة المأموم: لا يقرأ المأموم في صلاة جهرية أو سرية وقراءة الإمام قراءته.. لا يقرأ في الجهرية مع الإمام ويقرأ في السكتة بين الفاتحة والقراءة.. لا يقرأ في الجهرية إطلاقا ويقرأ في السرية.(3/1424)
ابن رافع. قال ابن مسعود: كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن. «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
وقال القرطبي في التفسير: قال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ القرآن في الصلاة أجابه من وراءه. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث فنزل: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» . وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبي كذلك: وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟
كم بقي؟ فأنزل الله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» .. وعن مجاهد أيضاً: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم، فنزل قوله تعالى: « ... لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .
والذين يرون أنها خاصة بقراءة القرآن في الصلاة يستشهدون بما رواه ابن جرير: حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاص يقص (يعني والقارئ يقرأ) فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، (يعني قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ) قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما قال فأعدت، فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما! قال فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» . قال ابن كثير وهو يروي هذا الخبر: وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن مجاهد في قوله: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» قال: في الصلاة، وكذا رواه غير واحد عن مجاهد. وقال عبد الرازق، عن الثوري عن ليث عن مجاهد، قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم..
وبعضهم يرى أنها في الصلاة وفي الخطبة كذلك في الجمع والعيدين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، ويزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب وعبد الله ابن المبارك، ولكن القرطبي قال: «وهذا ضعيف، لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها.
قاله ابن العربي والنقاش: والآية مكية ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة» .
وقال القرطبي في التفسير: قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أَن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء.
ونحن لا نرى في أسباب النزول التي وردت ما يخصص الآية بالصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ذلك أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. والأقرب أن يكون ذلك عاماً لا يخصصه شيء، فالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له- حيثما قرىء- هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه! وإذا قال الله أفلا يستمع الناس وينصتون؟! ثم رجاء الرحمة لهم: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .. ما الذي يخصصه بالصلاة؟ وحيثما قرىء القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب فكان ذلك أرجى أن ترحم في الدنيا والآخرة جميعاً..
إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن.. وإن الآية الواحدة لتصنع أحياناً في النفس- حين تستمع لها وتنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيف والرؤية(3/1425)