فأما انحرافات التصورات المسيحية فقد حكى القرآن منها قولهم: إن الله ثالث ثلاثة. وقولهم: إن الله هو المسيح بن مريم. واتخاذهم المسيح وأمه إلهين من دون الله. واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله..
وقد جاء في كتاب «الدعوة إلى الإسلام» تأليف أرنولد. شيء عن هذه التصورات..
«ولقد أفلح جستنيان قبل الفتح الإسلامي بمائة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هر قل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس أن يقف ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.. وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة 451 ميلادية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ. ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي خلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد. لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد هو ذلك الابن والله والكلمة.. وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع، وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقانيم. له كل الصفات الإلهية والبشرية.
ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية. بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم.. وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطية. في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة. ففي الوقت الذي الوقت الذي نجد فيه هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد.
فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني والجانب الإلهي بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى هذا أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.. لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداً ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام. ذلك بأن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون فحسب، بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين على السواء» «1» كذلك يقول باحث مسيحي آخر هو «كانون تايلور» عن الحالة بين نصارى الشرق عند البعثة المحمدية:
«وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة» «2» .
أما انحرافات عقائد المشركين فقد حكى القرآن عنها: عبادتهم للجن والملائكة والشمس والقمر والأصنام.
وكان أقل عقائدهم انحرافاً عقيدة من يقولون عن هذه الآلهة: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» !
__________
(1) ترجمة حسن إبراهيم وزميله ص 52- 53.
(2) المصدر نفسه ص 67.(1/366)
فأمام هذا الركام من التصورات الفاسدة والمنحرفة التي أشرنا إليها هذه الإشارات الخاطفة جاء الإسلام في هذه السورة- ليعلنها ناصعة واضحة صريحة حاسمة:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .
فكانت مفرق الطريق في التصور والاعتقاد.. كذلك كانت مفرق الطريق في الحياة والسلوك..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي لا إله إلا هو. الحي الواحد الذي لا حي غيره. القيوم الواحد الذي به تقوم كل حياة أخرى وكل وجود، كما أنه هو الذي يقوم على كل حي وكل موجود..
إن الذي يمتلئ شعوره بوجود الله الواحد الذي هذه صفته، لا بد أن يختلف منهج حياته ونظامها من الأساس عن الذي تغيم في حسه تلك التصورات التائهة المهوشة. فلا يجد في ضميره أثراً لحقيقة الألوهية الفاعلة المتصرفة في حياته! إنه مع التوحيد الواضح الخالص لا مكان لعبودية إلا لله. ولا مكان للاستمداد والتلقي إلا من الله. لا في شريعة أو نظام، ولا في أدب أو خلق. ولا في اقتصاد أو اجتماع. ولا مكان كذلك للتوجه لغير الله في شأن من شؤون الحياة، وما بعد الحياة.. أما في تلك التصورات الزائغة المنحرفة المهزوزة الغامضة فلا متجه ولا قرار، ولا حدود لحرام أو حلال، ولا لخطإ أو صواب: في شرع أو نظام، في أدب أو خلق، وفي معاملة أو سلوك.. فكلها.. كلها.. إنما تتحدد وتتضح عند ما تتحدد الجهة التي منها التلقي، وإليها التوجه، ولها الطاعة والعبودية والاستسلام.
ومن ثم كانت هذه المواجهة بذلك الحسم في مفرق الطريق:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ..
ومن ثم كان التميز والتفرد لطبيعة الحياة الإسلامية- لا لطبيعة الاعتقاد وحده- فالحياة الإسلامية بكل مقوماتها إنما تنبثق انبثاقاً من حقيقة هذا التصور الإسلامي عن التوحيد الخالص الجازم. التوحيد الذي لا يستقيم عقيدة في الضمير ما لم تتبعه آثاره العملية في الحياة. من تلقي الشريعة والتوحيد من الله في كل شأن من شؤون الحياة. والتوجه كذلك إلى الله في كل نشاط وكل اتجاه.
3- وعقب هذا الإيضاح الحاسم في مفرق الطريق، بإعلان الوحدانية المطلقة لذات الله وصفاته، يجيء الحديث عن وحدانية الجهة التي تتنزل منها الأديان والكتب والرسالات. أي التي يتنزل منها المنهج الذي يصرف حياة البشر في جميع الأجيال:
«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ- مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ- وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ- هُدىً لِلنَّاسِ- وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» .
وتتضمن هذه الآية في شطرها الأول جملة حقائق أساسية في التصور الاعتقادي، وفي الرد كذلك على أهل الكتاب وغيرهم من المنكرين لرسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- وصحة ما جاء به من عند الله.
فهي تقرر وحدة الجهة التي تتنزل منها الكتب على الرسل. فالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، هو الذي(1/367)
نزل هذا القرآن- عليك- كما أنه أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل. وإذن فلا اختلاط ولا امتزاج بين الألوهية والعبودية. إنما هناك إله واحد ينزل الكتب على المختارين من عباده. وهناك عبيد يتلقون. وهم عبيد لله ولو كانوا أنبياء مرسلين.
4- وهي تقرر وحدة الدين ووحدة الحق الذي تتضمنه الكتب المنزلة من عند الله. فهذا الكتاب نزله- عليك- «بِالْحَقِّ» .. «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» .. من التوراة والإنجيل.. وكلها تستهدف غاية واحدة: «هُدىً لِلنَّاسِ» ..
وهذا الكتاب الجديد «فرقان» بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية (التي رأينا نموذجاً منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت.
و. آرنولد في كتاب «الدعوة إلى الإسلام» ) .
وهي تقرر- ضمناً- أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة. فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها. وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة. ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر.
وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله، يضم جناحيه على «الحق» الذي تضم جوانحها عليه. وقد نزله من يملك تنزيل الكتب.. فهو منزل من الجهة التي لها «الحق» في وضع منهاج الحياة للبشر، وبناء تصوراتهم الاعتقادية، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله.
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه.. والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه.. وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد- وهو فرقان واضح مبين- هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد..
5- وفي صدد التهديد بالعذاب والانتقام يؤكد لهم علم الله الذي لا يند عنه شيء. فلا خفاء عليه ولا إفلات منه:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ..
وتوكيد العلم المطلق الذي لا يخفى عليه شيء، وإثبات هذه الصفة لله- سبحانه- في هذا المقام.. هذا التوكيد يتفق أولاً مع وحدانية الألوهية والقوامة التي افتتح بها السياق. كما يتفق مع التهديد الرعيب في الآية السابقة.. فلن يفلت «شيء» من علم الله «فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» بهذا الشمول والإطلاق. ولن يمكن إذن ستر النوايا عليه، ولا إخفاء الكيد عنه. ولن يمكن كذلك التفلت من الجزاء الدقيق، ولا التهرب من العلم اللطيف العميق.
6- وفي ظلال العلم اللطيف الشامل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يلمس المشاعر الإنسانية لمسة رفيقة عميقة، تتعلق بالنشأة الإنسانية. النشأة المجهولة في ظلام الغيب وظلام الأرحام، حيث لا علم للإنسان ولا قدرة ولا إدراك:
«هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ....
هكذا «يُصَوِّرُكُمْ» .. يمنحكم الصورة التي يشاء ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة. وهو وحده(1/368)
الذي يتولى التصوير، بمحض إرادته، ومطلق مشيئته: «كَيْفَ يَشاءُ» .. «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. «الْعَزِيزُ» ..
ذو القدرة والقوة على الصنع والتصوير «الْحَكِيمُ» .. الذي يدبر الأمر بحكمته فيما يصور ويخلق بلا معقب ولا شريك.
وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده. فالله هو الذي صور عيسى..
«كَيْفَ يَشاءُ» .. لا أن عيسى هو الرب. أو هو الله. أو هو الابن. أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي. إلى آخر ما انتهت إليه التصورات المنحرفة الغامضة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة الواضحة اليسيرة التصور القريبة الإدراك! 7- بعدئذ يكشف الذين في قلوبهم زيغ، الذين يتركون الحقائق القاطعة في آيات القرآن المحكمة، ويتبعون النصوص التي تحتمل التأويل، ليصوغوا حولها الشبهات ويصور سمات المؤمنين حقاً وإيمانهم الخالص وتسليمهم لله في كل ما يأتيهم من عنده بلا جدال:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا- وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ..
وقد روى أن نصارى نجران قالوا للرسول- صلى الله عليه وسلم- ألست تقول عن المسيح: إنه كلمة الله وروحه؟ يريدون أن يتخذوا من هذا التعبير أداة لتثبيت معتقداتهم عن عيسى- عليه السلام- وأنه ليس من البشر، إنما هو روح الله- على ما يفهمون هم من هذا التعبير- بينما هم يتركون الآيات القاطعة المحكمة التي تقرر وحدانية الله المطلقة، وتنفي عنه الشريك والولد في كل صورة من الصور.. فنزلت فيهم هذه الآية، تكشف محاولتهم هذه في استغلال النصوص المجازية المصورة، وترك النصوص التجريدية القاطعة.
على أن نص الآية أعم من هذه المناسبة فهي تصور موقف الناس على اختلافهم من هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- متضمناً حقائق التصور الإيماني، ومنهاج الحياة الإسلامية ومتضمناً كذلك أموراً غيبية لا سبيل للعقل البشري أن يدركها بوسائله الخاصة، ولا مجال له لأن يدرك منها أكثر مما تعطيه النصوص بذاتها.
فأما الأصول الدقيقة للعقيدة والشريعة فهي مفهومة المدلولات قاطعة الدلالة، مدركة المقاصد- وهي أصل هذا الكتاب- وأما السمعيات والغيبيات- ومنها نشأة عيسى عليه السلام ومولده- فقد جاءت للوقوف عند مدلولاتها القريبة والتصديق بها لأنها صادرة من هذا المصدر «الحق» ويصعب إدراك ماهياتها وكيفياتها، لأنها بطبيعتها فوق وسائل الإدراك الإنساني المحدود.
وهنا يختلف الناس- حسب استقامة فطرتهم أو زيغها- في استقبال هذه الآيات وتلك. فأما الذين في قلوبهم زيغ وانحراف وضلال عن سواء الفطرة، فيتركون الأصول الواضحة الدقيقة التي تقوم عليها العقيدة والشريعة والمنهاج العملي للحياة، ويجرون وراء المتشابه الذي يعوّل في تصديقه على الإيمان بصدق مصدره، والتسليم بأنه هو الذي يعلم «الحق» كله، بينما الإدراك البشري نسبي محدود المجال. كما يعول فيه على استقامة الفطرة التي تدرك بالإلهام المباشر صدق هذا الكتاب كله، وأنه نزل بالحق لا يأتيه الباطل من بين(1/369)
يديه ولا من خلفه.. يجرون وراء المتشابه لأنهم يجدون فيه مجالاً لإيقاع الفتنة بالتأويلات المزلزلة للعقيدة، والاختلافات التي تنشأ عن بلبلة الفكر، نتيجة إقحامه فيما لا مجال للفكر في تأويله.. «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ..
وأما الراسخون في العلم، الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له.. أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة:
«آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» ..
يدفعهم إلى هذه الطمأنينة، أنه من عند ربهم. فهو إذن حق وصدق. وما يقرره الله صادق بذاته. وليس من وظيفة العقل البشري ولا في طوقه أن يبحث عن أسبابه وعلله، كما أنه ليس في طوقه أن يدرك ماهيته وطبيعة العلل الكامنة وراءه.
والراسخون في العلم يطمئنون ابتداء إلى صدق ما يأتيهم من عند الله. يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة..
ثم لا يجدون من عقولهم شكاً فيه كذلك لأنهم يدركون أن من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه..
وهذا تصوير صحيح للراسخين في العلم.. فما يتبجح وينكر إلا السطحيون الذين تخدعهم قشور العلم، فيتوهمون أنهم أدركوا كل شيء، وأن ما لم يدركوه لا وجود له أو يفرضون إدراكهم على الحقائق، فلا يسمحون لها بالوجود إلا على الصورة التي أدركوها. ومن ثم يقابلون كلام الله المطلق بمقررات عقلية لهم! صاغتها عقولهم المحدودة! أما العلماء حقاً فهم أكثر تواضعاً، وأقرب إلى التسليم بعجز العقل البشري عن إدراك حقائق كثيرة تكبر طاقته وترتفع عليها. كما أنهم أصدق فطرة فما تلبث فطرتهم الصادقة أن تتصل بالحق وتطمئن إليه.
«وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
وكأنه ليس بين أولي الألباب وإدراك الحق إلا أن يتذكروا.. فإذا الحق المستقر في فطرتهم الموصولة بالله، ينبض ويبرز ويتقرر في الألباب.
8- 9- عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب: أن يثبتهم على الحق، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله.. ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه، والميعاد الذي لا خلف له:
«رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ..
هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم وهو الحال اللائق بالإيمان المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده والثقة بكلمته وعهده والمعرفة برحمته وفضله والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار..
والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال. قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش. قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة. قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة. قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده.(1/370)
قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة.. ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد.. ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة. وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة. وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال! ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع:
«رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا» ..
وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء:
«وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» ..
وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته. وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله.. فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة.
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء. فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن. إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» ..
ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة.
وأن يتشبث بحماه في إصرار، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله، لاستبقاء الكنز الذي وهبه، والعطاء الذي أولاه! 10- بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب، ويقفون لهذا الدين، ويلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن ينذرهم، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا. سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» ..
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم. وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك.. فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون.. وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل. ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم! كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر- وهم كفار- ليقول لهم: إن سنة الله لا تتخلف. وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش. فالعلة هي الكفر. وليس لأحد على الله دالة، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح!(1/371)
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» ..
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله. وهم فيه: «وَقُودُ النَّارِ» .. بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص «الإنسان» ومميزاته، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر «وَقُودُ النَّارِ» ..
11- لا بل إن الأموال والأولاد، ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شياً في الدنيا:
«كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلاً: وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته، يجريها حيث يشاء. فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله.
12- وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد- صلى الله عليه وسلم- وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء.. ومن ثم يلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد:
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» ..
13- وقوله تعالى: «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير «يرون» راجعاً إلى الكفار، وضمير «هم» راجعاً إلى المسلمين، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين «مِثْلَيْهِمْ» .. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم.
وإما أن يكون العكس، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين «مِثْلَيْهِمْ» هم- في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم- ومع هذا ثبتوا وانتصروا.
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد. كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم.. وكان الموقف- كما ذكرنا في التمهيد للسورة- يقتضي هذا وذاك.. وكان القرآن يعمل هنا وهناك..
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة. وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة.. إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة. ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف.
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة وتثق في ذلك الوعد وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة وتصبر حتى يأذن الله ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة.
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» ..(1/372)
ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر، لتبرز العبرة، وتعيها القلوب. وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!.
14- وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف إذا لم تضبط باليقظة الدائمة وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى.
إن الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع- مع هذا- طبيعية وفطرية، ومكلفة من قبل البارئ- جل وعلا- أن تؤدي للبشرية دوراً أساسياً في حفظ الحياة وامتدادها. فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدتها واندفاعها وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى.
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي.. هذه الرغائب والدافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة.
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار. وأزواج مطهرة. وفوقها رضوان من الله.. وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله. على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان:
«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعامِ، وَالْحَرْثِ.. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ: أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- خالِدِينَ فِيها- وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» ..
«زُيِّنَ لِلنَّاسِ» . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه «الشَّهَواتِ» ، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته. فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد- كما أسلفنا- ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانباً آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها. هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه «الشَّهَواتِ» . الحد الباني للنفس وللحياة مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي(1/373)
تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله.. هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة. على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة.. والاتجاه إلى الله، وتقواه، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ» .. فهي شهوات مستحبة مستلذة وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى. والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك «الشَّهَواتِ» في غير استغراق ولا إغراق! وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها..
والذين يتحدثون في هذه الأيام عن «الكبت» وأضراره، وعن «العقد النفسية» التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو «الكبت» وليس هو «الضبط» .. وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره- الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف- بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلاً، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثاً.. وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون «العقد النفسية» .. فحتى إذا سلمنا جدلاً بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية. بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي.. وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال «1» .
«زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ... » ..
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية.. وقد قرن اليهما «الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» من الذهب والفضة.. ونهم المال هو الذي ترسمه «الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال: والأموال.
أو والذهب والفضة. ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلاً خاصاً هو المقصود. ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة. ذلك أن التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى! ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. الخيل المسومة. والخيل كانت- وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم- زينة محببة مشتهاة. ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة. وفيها ذكاء وألفة ومودة. وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية! وقرن إلى تلك الشهوات الأنعامَ والحرث. وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع.. الأنعام والحقول المخصبة.. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء.. وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(1/374)
إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة.
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان. والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه:
«ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» ..
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة- وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات- متاع الحياة الدنيا. لا الحياة الرفيعة. ولا الآفاق البعيدة.. متاع هذه الأرض القريب.. 15- فأما من أراد الذي هو خير.. خير من ذلك كله. خير لأنه أرفع في ذاته. وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء.. من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير. وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات:
«قُلْ: أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ؟ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- خالِدِينَ فِيها- وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه.. ولكن هنالك فارقاً أساسياً بينه وبين متاع الدنيا.. إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا.
الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم. وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعاً. شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة. فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة! ويرتفعون بالتطلع إليه- وهم في هذه الأرض- قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله..
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا.. وفيه زيادة..
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثاً مُعطياً مخصباً، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار. وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات! وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة. وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة! فأما الخيل المسومة والأنعام. وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع. فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات! ثم.. هنالك ما هو أكبر من كل متاع.. هنالك «رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ» . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما.. ويرجح.. رضوان. بكل ما في لفظه من نداوة. وبكل ما في ظله من حنان.
«وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع. بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات.
بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة.
ثم وصف لهؤلاء العباد، يصور حال المتقين مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان:
«الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ. وَالْقانِتِينَ.»(1/375)
«وَالْمُنْفِقِينَ. وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» ..
وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم. فهو إعلان للإيمان، وشفاعة به عند الله، وطلب للغفران، وتوقٍ من النيران.
17- وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة:
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء..
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة.
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال وانفلات من ربقة الشح وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس! والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة.. ولفظة «بِالْأَسْحارِ» بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر. الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء. وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان.
هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار.. لهم «رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ» ..
وهم أهل لهذا الرضوان: ظله الندي ومعناه الحاني. وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع..
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض.. وشيئاً فشيئاً يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة. وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها.
وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه. ودون ما وقف لجريان الحياة.. فطرة الله. ومنهج الله لهذه الفطرة.. «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
وإلى هنا كان سياق السورة يستهدف تقرير حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية والقوامة، وتوحيد الكتاب والرسالة.. ويصور موقف المؤمنين حقاً والمنحرفين الذين في قلوبهم زيغ، من آيات الله وكتابه.. ويهدد المنحرفين بمصير كمصير الذين كفروا في الماضي وفي الحاضر.. ثم يكشف عن الدوافع الفطرية التي تلهي عن الاعتبار ويصور حال المتقين مع ربهم والتجاءهم إلى الله..
فالآن- وإلى نهاية هذا الدرس- نجدنا أمام حقيقة أخرى.. هي مقتضى الحقيقة الأولى.. فحقيقة التوحيد تستلزم مصداقاً لها في واقع الحياة البشرية، هو الذي يقرره الشطر الثاني من هذا الدرس.
ومن ثم يبدأ بإعادة تقرير الحقيقة الأولى ليرتب عليها آثارها الملازمة لها.. يبدأ بشهادة الله- سبحانه- «وأنه لا إله إلا هو» وشهادة الملائكة وأولي العلم بهذه الحقيقة. ويقرر معها صفة الله المتعلقة بالقوامة، وهي قيامه بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون.(1/376)
19- وما دام الله متفرداً بالألوهية وبالقوامة فإن أول مستلزمات الإقرار بهذه الحقيقة، هو الإقرار بالعبودية لله وحده وتحكيمه في شأن العبيد كله واستسلام العبيد لإلههم، وطاعتهم للقيوم عليهم، واتباعهم لكتابه ولرسوله- صلى الله عليه وسلم-.
ويضمن هذه الحقيقة قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. فهو لا يقبل ديناً سواه من أحد.. الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع.. وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل ولا مجرد تصديق في القلب. إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور.. هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله، وطاعتهم لما يحكم به، واتباعهم لرسوله في منهجه.
وهكذا.. يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم.. إذ يدعون أنهم على دين الله. ثم «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» !!! مما ينقض دعوى التدين من الأساس. فلا دين يقبله الله إلا الإسلام. ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله، واتباع لمنهجه، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة..
ويكشف عن علة هذا الإعراض- الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله- فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية «القسط» في الجزاء يوم الحساب: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» .. معتمدين على أنهم أهل كتاب «وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. وهو غرور خادع. فما هم بأهل كتاب، وما هم بمؤمنين أصلاً. وما هم على دين الله إطلاقاً وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.
وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين.. فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة.. الدين: الإسلام. والإسلام: التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه.. فمن لم يفعل فليس له دين، وليس مسلماً وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله. فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعاً في تعريفه وتحديده لأهواء البشر.. كل يحدده أو يعرّفه كما يشاء! لا. بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء- والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله- «فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» .. ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء.. مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله. ولو ادعوا أنهم على دين الله! ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه. ويضيف السياق إلى التحذير التبصير. تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود. فالله وحده هو السيد المتصرف، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء.. وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفاً من التصريف لأمر الكون كله. فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.. وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد.
ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعاً في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تماماً ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير. كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة الأمر وحقيقة القوى، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة.(1/377)
ويختم الدرس بكلمة حاسمة قاطعة: إن الإسلام هو طاعة الله والرسول. وإن الطريق إلى الله هو طريق الاتباع للرسول. وليس مجرد الاعتقاد بالقلب، ولا الشهادة باللسان: «قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ... » «قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» .. فإما طاعة واتباع يحبه الله، وإما كفر يكرهه الله.. وهذا هو مفرق الطريق الواضح المبين..
فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال..
18- «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ- وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ- قائِماً بِالْقِسْطِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام. حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد القوامة.. القوامة بالقسط.. وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ..
وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة. جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم.
وشهادة الله- سبحانه- أنه لا إله إلا هو.. هي حسب كل من يؤمن بالله.. وقد يقال: إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله. وأن من يؤمن بالله ليس في حاجة إلى هذه الشهادة.. ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابناً وشريكاً. بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات! فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله- سبحانه- شهد أنه لا إله إلا هو، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم.
على أن الأمر- كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم- أعمق من هذا وأدق. فإن شهادة الله 19- سبحانه- بأنه لا إله إلا هو، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له. الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام- لا اعتقاداً وشعوراً فحسب- ولكن كذلك عملاً وطاعة واتباعاً للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب.. ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون: إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره.. فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله. ولا تستقيم مع شهادة الله- سبحانه- بأنه لا إله إلا هو.
وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها. والتلقي عن الله وحده، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال، متى ثبت لهم أنها من عنده. وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» .. فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة: تصديق. وطاعة. واتباع. واستسلام.
وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه- تعالى- قائم بالقسط.
بوصفها حالة ملازمة للألوهية.
«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ- وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ- قائِماً بِالْقِسْطِ» ..
فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة. وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة:(1/378)
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .. فهي قوامة بالقسط.
وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائماً بالقسط- وهو العدل- فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون، التي يؤدي كل كائن معها ذوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر.. لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس، وبينه في كتابه. وإلا فلا قسط ولا عدل، ولا استقامة ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان. وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع! وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك- بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية، والتأرجح بين هذا وذاك والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله، وحُكم في حياة الناس كتاب الله. وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر، لازمه جهل البشر وقصور البشر. كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة. أو ظلم الجماعة للفرد. أو ظلم طبقة لطبقة.
أو ظلم أمة لأمة. أو ظلم جيل لجيل.. وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء. وهو إله جميع العباد. وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة. والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط. فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها.
وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية. فلا سلبية في التصور الإسلامي لله. وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه. وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله، فتصبح العقيدة مؤثراً حياً دافعاً لا مجرد تصور فكري بارد! 19- ويرتب على هذه الحقيقة التي عاد لتوكيدها مرتين في الآية الواحدة، نتيجتها الطبيعية.. ألوهية واحدة.
فلا عبودية إلا لهذه الألوهية الواحدة:
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ. بَغْياً بَيْنَهُمْ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
ألوهية واحدة.. وإذن فدينونة واحدة.. واستسلام لهذه الألوهية لا يبقى معه شيء في نفوس العباد ولا في حياتهم خارجا عن سلطان الله.
ألوهية واحدة.. وإذن فجهة واحدة هي صاحبة الحق في تعبيد الناس لها وفي تطويعهم لأمرها وفي إنفاذ شريعتها فيهم وحكمها وفي وضع القيم والموازين لهم وأمرهم باتباعها وفي إقامة حياتهم كلها وفق التعليمات التي ترضاها..
ألوهية واحدة.. وإذن فعقيدة واحدة هي التي يرضاها الله من عباده. عقيدة التوحيد الخالص الناصع..
ومقتضيات التوحيد هذه التي أسلفنا:(1/379)
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ..
الإسلام الذي هو ليس مجرد دعوى، وليس مجرد راية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان ولا حتى تصوراً يشتمل عليه القلب في سكون ولا شعائر فردية يؤديها الأفراد في الصلاة والحج والصيام.. لا. فهذا ليس بالإسلام الذي لا يرضى الله من الناس ديناً سواه. إنما الإسلام الاستسلام. الإسلام الطاعة والاتباع. الإسلام تحكيم كتاب الله في أمور العباد.. كما سيجيء في السياق القرآني ذاته بعد قليل.
والإسلام توحيد الألوهية والقوامة.. بينما كان أهل الكتاب يخلطون بين ذات الله- سبحانه- وذات المسيح- عليه السلام- كما يخلطون بين إرادة الله وإرادة المسيح أيضاً.. ويختلفون فيما بينهم على هذه التصورات اختلافاً عنيفاً يصل في أحيان كثيرة إلى حد القتل والقتال.. هنا يبين الله لأهل الكتاب وللجماعة المسلمة علة هذا الاختلاف:
«وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ. بَغْياً بَيْنَهُمْ» .
إنه ليس اختلافاً عن جهل بحقيقة الأمر. فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله، وتفرد الألوهية. وبطبيعة البشرية، وحقيقة العبودية.. ولكنهم إنما اختلفوا «بَغْياً بَيْنَهُمْ» واعتداء وظلماً حينما تخلوا عن قسط الله وعدله الذي تتضمنه عقيدته وشريعته وكتبه.
وقد رأينا فيما نقلناه عن المؤلف المسيحي الحديث كيف كانت التيارات السياسية تخلق هذه الاختلافات المذهبية. وليس هذا إلا نموذجاً مما تكرر وقوعه في حياة اليهودية والمسيحية. وقد رأينا كيف كانت كراهية مصر والشام وما إليهما للحكم الروماني سبباً في رفض المذهب الروماني الرسمي والتمذهب بمذهب آخر! كما كان حرص بعض القياصرة على التوفيق بين أجزاء مملكته سبباً في ابتداع مذهب وسط، يظن أنه يوفق بين الأغراض جميعاً!! كأنما العقيدة لعبة تستخدم في المناورات السياسية والوطنية! وهذا هو البغي أشنع البغي.
عن قصد وعن علم! ومن ثم يجيء التهديد القاصم في موضعه المناسب:
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
وقد عد الاختلاف على حقيقة التوحيد كفراً وهدد الكافرين بسرعة الحساب كي لا يكون الإمهال- إلى أجل- مدعاة للجاجة في الكفر والإنكار والاختلاف..
20- ثم لقن نبيه- صلى الله عليه وسلم- فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعاً. ليحسم الأمر معهم عن بينة، ويدع أمرهم بعد ذلك لله، ويمضي في طريقه الواضح متميزاً متفرداً:
«فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم. فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع. وإما مماحكة ومداورة. وإذن فلا توحيد ولا إسلام.
ومن ثم يلقن الله- تعالى- رسوله- صلى الله عليه وسلم- كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته:
«فَإِنْ حَاجُّوكَ» - أي في التوحيد وفي الدين- «فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» أنا «وَمَنِ اتَّبَعَنِ» .. والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا. فليس هو مجرد التصديق. إنما هو الاتباع. كما أن التعبير بإسلام الوجه ذو مغزى(1/380)
كذلك. فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان. إنما هو كذلك الاستسلام. استسلام الطاعة والاتباع..
وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام. والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان. فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب.
هذا اعتقاد محمد- صلى الله عليه وسلم- ومنهج حياته. والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته.. فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه:
«وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟» ..
فهم سواء. هؤلاء وهؤلاء. المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه. مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة. مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه.
وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة.
«فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا» ..
فالهدى يتمثل في صورة واحدة. هي صورة الإسلام. بحقيقته تلك وطبيعته. وليس هنالك صورة أخرى، ولا تصور آخر، ولا وضع آخر، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء.. إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء..
«وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ» ..
فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله. وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا: إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه. وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية.. حيث لا إكراه على الاعتقاد..
«وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ..
يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه. وأمرهم إليه على كل حال.
21- 22- ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبداً في المكذبين والبغاة:
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
فهذا هو المصير المحتوم: عذاب أليم. لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة. فهو متوقع هنا وهناك. وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور. فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً، توطئة لهلاكها..
وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين. ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام! وذكر الكفر بآيات الله مصحوباً بقتل النبيين بغير حق- وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق- وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس- أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط..
ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجهاً لليهود، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت! ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجهاً للنصارى كذلك. فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من(1/381)
أصحاب المذاهب المخالفة الدولة الرومانية المسيحية- بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام- وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط.. كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع.. وكثير ما هم في كل زمان..
ويحسن أن نتذكر دائماً ماذا يعني القرآن بوصف «الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» .. فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر. إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية، وقصر العبودية عليها. وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرّف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين.. فمن جعل لغير الله شيئاً من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته. ولو قالها ألف مرة باللسان! وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام..
23- «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ؟ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ؟ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب. موقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب. وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى. وكل منهما «نصيب» من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته. فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيباً منه، وأوتي النصارى نصيباً منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول الدين كله، ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب.. سؤال التعجيب من هؤلاء «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» .. ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم، وليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم، فلا يستجيبون جميعاً لهذه الدعوة، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته. الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ؟» ..
هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم- لا كلهم- عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة. فكيف بمن يقولون: إنهم مسلمون، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها. ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون! إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضاً كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام ويحذروا أن يكونوا موضعاً لتعجيب الله وتشهيره بهم. فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدعوا الإسلام، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله، فكيف يكون الاستنكار إذا كان «الْمُسْلِمُونَ» هم الذين يعرضون هذا الإعراض.. إنه العجب الذي لا ينقضي، والبلاء الذي لا يقدر، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله! والعياذ بالله! ثم يكشف عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
هذا هو السبب في الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب.. إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل. يتجلى(1/382)
هذا في قولهم:
«لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» ..
وإلا فلماذا لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات؟ لماذا وهم ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله؟ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقاً بعدل الله؟ بل إذا كانوا يحسون أصلاً بجدية لقاء الله؟
إنهم لا يقولون إلا افتراء، ثم يغرهم هذا الافتراء:
«وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله، والشعور بحقيقة هذا اللقاء، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله..
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله، مع الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة..
ومثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون. ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون. وفيهم من يتبجحون ويتوقحون، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين! وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل العائلية، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون! ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيراً من المعاصي، ثم يساقون إلى الجنة! أليسوا مسلمين؟ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين.. وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله: الإسلام.. الاستسلام والطاعة والاتباع. والتلقي من الله وحده في كل شأن من شؤون الحياة:
25- «فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ؟
كيف؟ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله، وجدية عدل الله ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة.. وهو بعد تهديد قائم للجميع.. مشركين وملحدين، وأهل كتاب ومدعي إسلام، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام! «فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ» .. وجرى العدل الإلهي مجراه؟ «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ» ..
بلا ظلم ولا محاباة؟ «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .. كما أنهم لا يحابون في حساب الله؟
سؤال يلقى ويترك بلا جواب.. وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب! 26- بعدئذ يلقن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكل مؤمن، أن يتجه إلى الله، مقرراً حقيقة الألوهية الواحدة، وحقيقة القوامة الواحدة، في حياة البشر، وفي تدبير الكون. فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه:
«قُلِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ. بِيَدِكَ الْخَيْرُ. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..(1/383)
نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء. وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال. وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس. وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف! «قُلِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ» ..
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو «مال الملك» بلا شريك.. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه. يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عند ما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً. وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل..
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه- سبحانه- هو الله.. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله.
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير.. فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل. يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل. ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل. فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال: «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» .. «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه القوامة على شؤون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق:
27- «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة. حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق.
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول.. أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح.. سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء.. شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار. وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام.. شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء. وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف.. وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!(1/384)
كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج. كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل. وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة. وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت.. هذا في كيان الحي الواحد.. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة.. وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.. ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً. ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير! حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك. حركة خفية عميقة لطيفة هائلة. تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال:
«وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى. حقيقة الألوهية الواحدة. حقيقة القوامة الواحدة.
وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد. وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد. ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال.
28- هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر.. وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين.
ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول. والأمر كله بيد الله. وهو ولي المؤمنين دون سواه:
«لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ- إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً- وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» ..
لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله.. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو وإلى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء:
«لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» ..(1/385)
هكذا.. ليس من الله في شيء. لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية.. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماماً في كل شيء تكون فيه الصلات.
ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات.. ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل. قال ابن عباس- رضي الله عنهما- «ليس التقاة بالعمل إنما التقاة باللسان» .. فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر- والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمناً وفي موضع آخر من السورة تصريحاً- كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية. فما يجوز هذا الخداع على الله! ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكاً للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقاً:
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ..
29- ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها:
«قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهو إمعان في التحذير والتهديد، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة! 30- ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب الذي لا يند فيه عمل ولا نية والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله:
«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» ..
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء. وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود- ولكن لات حين مودة! - لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمداً بعيداً.
أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمداً بعيداً. بينما هو في مواجهته، آخذ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار! ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه- سبحانه-:
«وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» ..
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان:
«وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» ..
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير. وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد..
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات، بما كان واقعاً في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود. تحت دوافع القرابة أو التجارة.. على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة.. الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا..(1/386)
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه.
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه، ولو كان على غير دينه.. ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى. الولاء ارتباط وتناصر وتواد. وهذا لا يكون- في قلب يؤمن بالله حقاً- إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله ويخضعون معه لمنهجه في الحياة ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام.
31- وأخيراً يجيء ختام هذا الدرس قوياً حازما، حاسماً في القضية التي يعالجها، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة. يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين. ويفرق تفريقا حاسماً بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات:
«قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..
إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.. وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام.
ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول..
32- يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية. فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ..
ويقول عن الآية الثانية: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا» .. أي تخالفوا عن أمره- «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» .. فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله..
ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه: «زاد المعاد في هدى خير العباد» :
«ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام.. علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط. ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً..»
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها.. حقيقة الطاعة لشريعة الله، والاتباع لرسول الله، والتحاكم إلى كتاب الله.. وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام. توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها، وتطوّعهم لأمرها، وتنفذ فيهم شرعها، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها. ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعاً، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله. وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير.
وهذا الدرس الأول من السورة يقرر هذه الحقيقة- كما رأينا- في صورة ناصعة كاملة شاملة، لا مهرب من مواجهتها والتسليم بها لمن شاء أن يكون مسلماً. إن الدين عند الله الإسلام.. وهذا- وحده- هو الإسلام(1/387)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
كما شرعه الله، لا كما تصوره المفتريات والأوهام..
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 64]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)(1/388)
تقول الروايات التي تصف المناظرة بين النبي- صلى الله عليه وسلم- ووفد نجران اليمن: إن هذا القصص الذي ورد في هذه السورة عن مولد عيسى عليه السلام، ومولد أمه مريم، ومولد يحيى، وبقية القصص جاء رداً على ما أراد الوفد إطلاقه من الشبهات وهو يستند إلى ما جاء في القرآن عن عيسى عليه السلام بأنه كلمة الله إلى مريم وروح منه وأنهم كذلك سألوا عن أمور لم ترد في سورة مريم وطلبوا الجواب عنها..
وقد يكون هذا صحيحاً.. ولكن ورود هذا القصص في هذه السورة على هذا النحو يمضي مع طريقة القرآن العامة في إيراد القصص لتقرير حقائق معينة يريد إيضاحها. وغالباً ما تكون هذه الحقائق هي موضوع السورة التي يرد فيها القصص فيساق القصص بالقدر وبالأسلوب الذي يركز هذه الحقائق ويبرزها ويحييها.. فما من(1/389)
شك أن للقصص طريقته الخاصة في عرض الحقائق، وإدخالها إلى القلوب، في صورة حية، عميقة الإيقاع، بتمثيل هذه الحقائق في صورتها الواقعية وهي تجري في الحياة البشرية. وهذا أوقع في النفس من مجرد عرض الحقائق عرضاً تجريدياً.
وهنا نجد هذا القصص يتناول ذات الحقائق التي يركز عليها سياق السورة، وتظهر فيها ذات الخطوط العريضة فيها. ومن ثم يتجرد هذا القصص من الملابسة الواقعة المحدودة التي ورد فيها ويبقى عنصراً أصيلاً مستقلاً يتضمن الحقائق الأصيلة الباقية في التصور الاعتقادي الإسلامي.
إن القضية الأصيلة التي يركز عليها سياق السورة كما قدمنا هي: قضية التوحيد. توحيد الألوهية وتوحيد القوامة.. وقصة عيسى- وما جاء من القصص مكملاً لها في هذا الدرس- تؤكد هذه الحقيقة، وتنفي فكرة الولد والشريك، وتستبعدهما استبعاداً كاملاً وتظهر زيف هذه الشبهة وسخف تصورها وتبسط مولد مريم وتاريخها، ومولد عيسى وتاريخ بعثته وأحداثها، بطريقة لا تدع مجالاً لإثارة أية شبهة في بشريته الكاملة، وأنه واحد من سلالة الرسل، شأنه شأنهم، وطبيعته طبيعتهم، وتفسر الخوارق التي صاحبت مولده وسيرته تفسيراً لا تعقيد فيه ولا غموض، من شأنه أن يريح القلب والعقل، ويدع الأمر فيهما طبيعياً عادياً لا غرابة فيه.. حتى إذا عقب على القصة بقوله: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ» .. وجد القلب برد اليقين والراحة وعجب كيف ثارت تلك الشبهات حول هذه الحقيقة البسيطة؟
والقضية الثانية التي تنشأ من القضية الأولى في سياق السورة كله هي قضية حقيقة الدين وأنه الإسلام. ومعنى الإسلام وأنه الاتباع والاستسلام.. وهذه ترد كذلك في ثنايا القصص واضحة.. ترد في قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» .. وفي هذا القول تقرير لطبيعة الرسالة، وأنها تأتي لإقرار منهج، وتنفيذ نظام، وبيان الحلال والحرام، ليتبعه المؤمنون بهذه الرسالة ويسلموا به.. ثم يرد معنى الاستسلام والاتباع على لسان الحواريين: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» ..
ومن الموضوعات التي يركز عليها سياق السورة تصوير حال المؤمنين مع ربهم.. وهذا القصص يعرض جملة صالحة من هذه الحال في سير هذه النخبة المختارة من البشر، التي اصطفاها وجعلها ذرية بعضها من بعض. وتتمثل هذه الصور الوضيئة في حديث امرأة عمران مع ربها ومناجاته في شأن وليدتها.. وفي حديث مريم مع زكريا. وفي دعاء زكريا ونجائه لربه. وفي رد الحواريين على نبيهم، ودعائهم لربهم.. وهكذا..
حتى إذا انتهى القصص جاء التعقيب متضمناً وملخصاً هذه الحقائق، معتمداً على وقائع القصص في تقرير الحقائق التي يقررها.. فيتناول حقيقة عيسى- عليه السلام- وطبيعة الخلق والإرادة الإلهية. والوحدانية الخالصة.
ودعوة أهل الكتاب إليها. ودعوتهم إلى المباهلة عليها.. وينتهي الدرس ببيان جامع شامل لأصل هذه الحقيقة ليتوجه به النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل الكتاب عامة.. من حضر منهم المناظرة ومن لم يحضر، ومن كان من ذلك الجيل ومن يجيء بعده إلى آخر الزمان قل: «يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..(1/390)
بهذا ينتهي الجدل ويتبين ماذا يريد الإسلام من الناس، وماذا يضع لحياتهم من أساس. ويحدد معنى الدين ومعنى الإسلام وتنتفي كل صورة مشوهة أو مدخولة يدعي لها أصحابها أنها دين. أو أنها إسلام..
وهذا هو الهدف النهائي للدرس الماضي، وللسورة كلها كذلك، تولاها القصص بالبيان والإيضاح في الصورة القصصية الجميلة الجذابة العميقة الإيحاء.. وهذه وظيفة القصص القرآني وطبيعته التي تحكم أسلوبه وطريقة عرضه في شتى السور على نهج خاص.
وقد عرضت قصة عيسى في سورة مريم، وعرضت هنا. وبمراجعة النصوص هنا وهناك تبدو زيادة بعض الحلقات هنا، مع اختصار في بعض الحلقات.. فقد كان هناك تفصيل مطول في سورة مريم لحلقة مولد عيسى. ولم تكن هناك حلقة مولد مريم. وهنا تفصيل في رسالة عيسى والحواريين واختصار في قصة مولده كما أن التعقيب هنا أطول لأنه جاء بصدد مناظرات حول قضية أشمل، وهي قضية التوحيد والدين والوحي والرسالة، مما لم يكن موجوداً في سورة مريم.. مما يكشف عن طبيعة الأسلوب القرآني في عرض القصص، مساوقاً لجو السورة التي يعرض فيها، ولمناسبته فيها «1» .
والأن نأخذ في استعراض النصوص تفصيلاً.
33- 34- يبدأ هذا القصص ببيان من اصطفاهم الله من عباده واختارهم لحمل الرسالة الواحدة بالدين الواحد منذ بدء الخليقة، ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون. فيقرر أنهم ذرية بعضها من بعض. وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب- وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح- فهي أولاً رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم:
«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً، وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ. عَلَى الْعالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
ولقد ذكر السياق آدم ونوحا فردين وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين. إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحاً بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء. فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك- على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم: قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم، إنما هي وراثة العقيدة: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2» ..
وبعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم. فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام.. كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب (وهو إسرائيل) كما ذكر آل عمران.. ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم- كما سيأتي في الدرس التالي- فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب..
__________
(1) يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .
(2) الجزء الأول ص 112- 113. [.....](1/391)
35- ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم:
«إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ: رَبِّ: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ- وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً، وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. قالَ: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب «امْرَأَتُ عِمْرانَ» - أم مريم- وما يعمره من إيمان، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك. وهو الجنين الذي تحمله في بطنها. خالصاً لربها، محرراً من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه. والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح. فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده.. فهذا هو التحرر إذن.. وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية! ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر. فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في ما جريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة..
لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله. وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان..
وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران، بأن يتقبل ربها منها نذرها- وهو فلذة كبدها- ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله، والتوجه إليه كلية، والتحرر من كل قيد، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه:
«رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
36- ولكنها وضعتها أنثى ولم تضعها ذكراً! «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ- وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ. وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» ..
لقد كانت تنتظر ولداً ذكراً فالنذر للمعابد لم يكن معروفاً إلا للصبيان، ليخدموا الهيكل، وينقطعوا للعبادة والتبتل. ولكن ها هي ذي تجدها أنثى. فتتوجه إلى ربها في نغمة أسيفة:
«رَبِّ. إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» ..
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ..
ولكنها هي تتجه إلى ربها بما وجدت، وكأنها تعتذر إن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة.
«وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» ..
ولا تنهض الأنثى بما ينهض به الذكر في هذا المجال: «وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ» ..
وهذا الحديث على هذا النحو فيه شكل المناجاة القريبة. مناجاة من يشعر أنه منفرد بربه. يحدثه بما في نفسه، وبما بين يديه، ويقدم له ما يملك تقديماً مباشراً لطيفاً. وهي الحال التي يكون فيها هؤلاء العباد المختارون مع ربهم. حال الود والقرب والمباشرة، والمناجاة البسيطة العبارة، التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. مناجاة من(1/392)
يحس أنه يحدث قريباً ودوداً سميعاً مجيباً.
«وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ. وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» ..
وهي الكلمة الأخيرة حيث تودع الأم هديتها بين يدي ربها، وتدعها لحمايته ورعايته، وتعيذها به هي وذريتها من الشيطان الرجيم..
وهذه كذلك كلمة القلب الخالص، ورغبة القلب الخالص. فما تود لوليدتها أمراً خيراً من أن تكون في حياطة الله من الشيطان الرجيم! 37- «فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً» ..
جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم، وهذا التجرد الكامل في النذر.. وإعداداً لها أن تستقبل نفخة الروح، وكلمة الله، وأن تلد عيسى- عليه السلام- على غير مثال من ولادة البشر.
«وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» ..
أي جعل كفالتها له، وجعله أميناً عليها.. وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي. من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل.
ونشأت مباركة مجدودة. يهيئ لها الله من رزقه فيضاً من فيوضاته:
«كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً. قالَ: يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة. فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً. حتى ليعجب كافلها- وهو نبي- من فيض الرزق. فيسألها: كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله، وتفويض الأمر إليه كله:
«هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه. والتواضع في الحديث عن هذا السر، لا التنفج به والمباهاة! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا. هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى..
38- عندئذ تحركت في نفس زكريا، الشيخ الذي لم يوهب ذرية، تحركت تلك الرغبة الفطرية القوية في النفس البشرية. الرغبة في الذرية. في الامتداد. في الخلف.. الرغبة التي لا تموت في نفوس العباد الزهاد، الذين وهبوا أنفسهم للعبادة ونذروها للهيكل. إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لحكمة عليا في امتداد الحياة وارتقائها:
«هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ. قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ.. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ- وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ- أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَسَيِّداً وَحَصُوراً، وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.. قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ. قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ. قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً. قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً، وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» ..(1/393)
وكذلك.. نجدنا أمام حادث غير عادي. يحمل مظهراً من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانوناً لا سبيل إلى إخلافه ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير! فها هو ذا «زَكَرِيَّا» الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها.. ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف- وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة- فيتوجه إلى ربه يناجيه، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة:
«هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ. قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟
39- كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد:
«فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ- وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ- أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده «يحيى» وصفته معروفة كذلك: سيداً كريماً، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله «1» . ونبياً صالحاً في موكب الصالحين.
لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً. ثم يحسبون أن مشيئة الله- سبحانه- مقيدة بهذا القانون! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً- لا مطلقاً ولا نهائياً- فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة.. فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله.
وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل! 40- ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه- وهل زكريا إلا إنسان على كل حال- واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟
«قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ؟» ..
وجاءه الجواب.. جاءه في بساطة ويسر. يرد الأمر إلى نصابه. ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها، ولا غرابة في كونها:
«قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ..
كذلك! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة!
__________
(1) تذكر بعض التفاسير أن المقصود بتصديقه بكلمة من الله تصديقه بعيسى- عليه السلام- وليس هناك ما يحتم هذا الفهم.(1/394)
كذلك. بهذا اليسر. وبهذه الطلاقة. يفعل الله ما يشاء.. فماذا في أن يهب لزكريا غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟ إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها، ويتخذون منها قانوناً! فأما بالقياس إلى الله، فلا مألوف ولا غريب.. كل شيء مرده إلى توجه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود! 41- ولكن زكريا لشدة لهفته على تحقق البشرى، ولدهشة المفاجأة في نفسه، راح يطلب إلى ربه أن يجعل له علامة يسكن إليها:
«قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ... » ..
هنا يوجهه الله سبحانه إلى طريق الاطمئنان الحقيقي فيخرجه من مألوفه في ذات نفسه.. إن آيته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده يذكره ويسبحه:
«قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً. وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» ..
ويسكت السياق هنا. ونعرف أن هذا قد كان فعلاً. فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره.. لسانه هذا هو لسانه.. ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه.. أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية.. فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة.. كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر!!! 42- وكأنما كانت هذه الخارقة تمهيداً- في السياق- لحادث عيسى الذي انبثقت منه كل الأساطير والشبهات..
وإن هو إلا حلقة من سلسلة في ظواهر المشيئة الطليقة.. فهنا يبدأ في قصة المسيح عليه السلام. وإعداد مريم لتلقي النفخة العلوية بالطهارة والقنوت والعبادة..
«وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» ..
وأي اصطفاء؟! وهو يختارها لتلقي النفخة المباشرة، كما تلقاها أول هذه الخليقة: «آدم» ؟ وعرض هذه الخارقة على البشرية من خلالها وعن طريقها؟ إنه الاصطفاء للأمر المفرد في تاريخ البشرية.. وهو بلا جدال أمر عظيم..
ولكنها- حتى ذلك الحين- لم تكن تعلم ذلك الأمر العظيم! والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى. وذلك لما لابس مولد عيسى- عليه السلام- من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سراً لا يشرف.. قبحهم الله!! وهنا تظهر عظمة هذا الدين ويتبين مصدره عن يقين. فها هو ذا محمد- صلى الله عليه وسلم- رسول الإسلام الذي يلقى من أهل الكتاب- ومنهم النصارى- ما يلقى من التكذيب والعنت والجدل والشبهات..
ها هو ذا يحدث عن ربه بحقيقة مريم العظيمة وتفضيلها على «نِساءِ الْعالَمِينَ» بهذا الإطلاق الذي يرفعها إلى أعلى الآفاق. وهو في معرض مناظرة مع القوم الذين يعتزون بمريم، ويتخذون من تعظيمها مبرراً لعدم إيمانهم بمحمد وبالدين الجديد! أي صدق؟ وآية عظمة؟ وأية دلالة على مصدر هذا الدين، وصدق صاحبه الأمين!(1/395)
43- إنه يتلقى «الحق» من ربه عن مريم وعن عيسى عليه السلام فيعلن هذا الحق، في هذا المجال..
ولو لم يكن رسولاً من الله الحق ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال! «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» ..
طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيداً للأمر العظيم الخطير..
44- وعند هذا المقطع من القصة، وقبل الكشف عن الحدث الكبير.. يشير السياق إلى شيء من حكمة مساق القصص.. إنه إثبات الوحي، الذي ينبئ النبي- صلى الله عليه وسلم- بما لم يكن حاضره من أنباء الغيب، في هذا الأمر:
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ؟ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» ..
وهي إشارة إلى ما كان من تسابق سدنة الهيكل إلى كفالة مريم، حين جاءت بها أمها وليدة إلى الهيكل، وفاء لنذرها وعهدها مع ربها. والنص يشير إلى حادث لم يذكره «العهد القديم» ولا «العهد الجديد» المتداولان ولكن لا بد أنه كان معروفاً عند الأحبار والرهبان. حادث إلقاء الأقلام.. أقلام سدنة الهيكل.. لمعرفة من تكون مريم من نصيبه. والنص القرآني لا يفصل الحادث- ربما اعتماداً على أنه كان معروفاً لسامعيه. أو لأنه لا يزيد شيئا في أصل الحقيقة التي يريد عرضها على الأجيال القادمة- فلنا أن نفهم أنهم اتفقوا على طريقة خاصة- بواسطة إلقاء الأقلام- لمعرفة من هي من نصيبه، على نحو ما نصنع في «القرعة» مثلاً. وقد ذكرت بعض الروايات أنهم ألقوا بأقلامهم في نهر الأردن. فجرت مع التيار إلا قلم زكريا فثبت. وكانت هذه هي العلامة بينهم. فسلموا بمريم له.
وكل ذلك من الغيب الذي لم يكن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حاضره، ولم يبلغ إلى علمه. فربما كان من أسرار الهيكل التي لا تفشى ولا تباح للإذاعة بها، فاتخذها القرآن- في مواجهة كبار أهل الكتاب وقتها- دليلاً على وحي من الله لرسوله الصادق. ولم يرد أنهم ردوا هذه الحجة. ولو كانت موضع جدال لجادلوه وهم قد جاءوا للجدال! 45- والأن نجيء إلى مولد عيسى: العجيبة الكبرى في عرف الناس، والشأن العادي للمشيئة الطليقة:
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ قالَ: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ.. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..(1/396)
لقد تأهلت مريم- إذن- بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى- لأول مرة- التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير:
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» ..
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله. بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة. وهو الكلمة في الحقيقة. فماذا وراء هذا التعبير؟
إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد.. ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ... » إلخ.
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة:
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب- وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله. سر الحياة التي لا بست أول مخلوق حي، أو لا بست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت! وهذه كتلك في صنع الله. وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة ... «1» .
من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعاً شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض.. شيء زائد. وشيء مغاير. وشيء ينشئ آثاراً وظواهر لا توجد أبداً في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق..
هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم! نحن لا نعلم. وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها- نحن البشر- بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها.
أو لإنشائها بأيدينا من الموات! نحن لا نعلم.. ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم.. وهو يقول لنا: إنها نفخة من روحه. وإن الأمر قد تم بكلمة منه. «كُنْ. فَيَكُونُ» ..
ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟
ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه، لأنه ليس من شأنه. إنه لم يوهب القدرة على إدراكه. إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئاً في وظيفته التي خلقه الله لها- وظيفة الخلافة في الأرض- إنه لن يخلق حياة من موات.. فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟
والله- سبحانه- يقول: إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة- حتى على
__________
(1) نحن نتكلم هنا جدلا ولا نناقش نظرية النشوء والارتقاء، فقد كادت تفقد ركائزها العلمية. وهي مجرد نظرية!(1/397)
الملائكة- فلا بد إذن أن تكون شيئاً آخر غير مجرد الحياة الموهوبة للدود والميكروب! وهذا ما يقودنا إلى اعتبار الإنسان جنساً نشأ نشأة ذاتية، وأن له اعتباراً خاصاً في نظام الكون، ليس لسائر الأحياء! وعلى أية حال فهذا ليس موضوعنا هنا، إنما هي لمحة في سياق العرض للتحرز من شبهة قد تقوم في نفس القارئ لما عرضناه جدلاً حول نشأة الإنسان! المهم هنا أن الله يخبرنا عن نشأة سر الحياة وإن لم ندرك طبيعة هذا السر وكيفية نفخه في الموات..
وقد شاء الله- بعد نشأة آدم نشأة ذاتية مباشرة- أن يجعل لإعادة النشأة الإنسانية طريقاً معيناً. طريق التقاء ذكر وأنثى. واجتماع بويضة وخلية تذكير. فيتم الإخصاب، ويتم الإنسال. والبويضة حية غير ميتة والخلية حية كذلك متحركة.
ومضى مألوف الناس على هذه القاعدة.. حتى شاء الله أن يخرق هذه القاعدة المختارة في فرد من بني الإنسان.
فينشئه نشأة قريبة وشبيهة بالنشأة الأولى. وإن لم تكن مثلها تماماً. أنثى فقط. تتلقى النفخة التي تنشئ الحياة ابتداء.
فتنشأ فيها الحياة! أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة: «كُنْ» التي قد تكون حقيقة وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ والكلمة هي عيسى، أو هي التي منها كينونته؟
كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات.. وخلاصتها هي تلك: أن الله شاء أن ينشئ حياة على غير مثال. فأنشأها وفق إرادته الطليقة التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله. ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها. ويجب أن نجهلها. لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلاً في تكليف الاستخلاف! والأمر هكذا سهل الإدراك. ووقوعه لا يثير الشبهات! وهكذا بشرت الملائكة مريم بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فتضمنت البشارة نوعه، وتضمنت اسمه ونسبه. وظهر من هذا النسب أن مرجعه إلى أمه.. ثم تضمنت البشارة كذلك صفته ومكانه من ربه:
«وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» .. 46- كما تضمنت ظاهرة معجزة تصاحب مولده «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» .. ولمحة من مستقبله: «وَكَهْلًا» .. وسمته والموكب الذي ينتسب إليه: «وَمِنَ الصَّالِحِينَ» ..
47- فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة. واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان:
«قالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟» ..
وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود:
«قالَ: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» ..
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب!! وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب. وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء..(1/398)
48- ثم يتابع الملك البشارة لمريم عن هذا الخلق الذي اختارها الله لإنجابه على غير مثال وكيف ستمضي سيرته في بني إسرائيل.. وهنا تمتزج البشارة لمريم بمقبل تاريخ المسيح، ويلتقيان في سياق واحد، كأنما يقعان اللحظة، على طريقة القرآن:
«وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» ..
والكتاب قد يكون المراد به الكتابة وقد يكون هو التوراة والإنجيل، ويكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان. والحكمة حالة في النفس يتأتي معها وضع الأمور في مواضعها، وإدراك الصواب واتباعه. وهي خير كثير. والتوراة كانت كتاب عيسى كالإنجيل. فهي أساس الدين الذي جاء به. والإنجيل تكملة وإحياء لروح التوراة، ولروح الدين التي طمست في قلوب بني إسرائيل. وهذا ما يخطئ الكثيرون من المتحدثين عن المسيحية فيه فيغفلون التوراة، وهي قاعدة دين المسيح- عليه السلام- وفيها الشريعة التي يقوم عليها نظام المجتمع ولم يعدل فيها الإنجيل إلا القليل. أما الإنجيل فهو نفخة إحياء وتجديد لروح الدين، وتهذيب لضمير الإنسان بوصله مباشرة بالله من وراء النصوص. هذا الإحياء وهذا التهذيب اللذان جاء المسيح وجاهد لهما حتى مكروا به كما سيجيء.
49- «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى- عليه السلام- كانت لبني إسرائيل، فهو أحد أنبيائهم. ومن ثم كانت التوراة التي نزلت على موسى- عليه السلام- وفيها الشريعة المنظمة لحياة الجماعة الإسرائيلية، والمتضمنة لقوانين التعامل والتنظيم، هي كتاب عيسى كذلك، مضافاً إليها الإنجيل الذي يتضمن إحياء الروح وتهذيب القلب وإيقاظ الضمير.
والآية التي بشر الله أمه مريم أنها ستكون معه، والتي واجه بها بالفعل بني إسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة، وإحياء الموتى من الناس، وإبراء المولود أعمى، وشفاء الأبرص، والإخبار بالغيب- بالنسبة له- وهو المدخر من الطعام وغيره في بيوت بني إسرائيل، وهو بعيد عن رؤيته بعينه..
وحرص النص على أن يذكر على لسان المسيح- عليه السلام- كما هو مقدر في غيب الله عند البشارة لمريم، وكما تحقق بعد ذلك على لسان عيسى- أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها، إنما جاءهم بها من عند الله. وذكر إذن الله بعد كل واحدة منها تفصيلاً وتحديدا ولم يدع القول يتم ليذكر في نهايته إذن الله زيادة في الاحتياط! وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردها، أو رد العافية وهي فرع عن الحياة. ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية.. وهي في صميمها تتسق مع مولد عيسى ومنحه الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم- عليه السلام- وإذا كان الله قادراً أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال.. ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى رُد الأمر إلى مشيئة الله الطليقة ولم يقيد الإنسانُ اللهَ- سبحانه- بمألوف الإنسان! 50- «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..(1/399)
وهذا الختام في دعوة عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعاً- عليهم الصلاة والسلام- وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى- عليه السلام- بالذات، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول.
فهو إذ يقول: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» ..
يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة. فالتوراة التي تنزلت على موسى- عليه السلام- وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، وملابسات حياة بني إسرائيل (بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان) - هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام وجاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالاً لهم. ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.
ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين- أي دين- أن يتضمن تنظيماً لحياة الناس بالتشريع وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك. فهذا لا يكون ديناً. فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله.
ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية، عن الشعائر التعبدية، عن القيم الخلقية، عن الشرائع التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرّف حياة الناس وفق المنهج الإلهي. وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله.
وهذا ما حدث للمسيحية. فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية ولكونها جاءت موقوته لزمن- حتى يجيء الدين الأخير- ثم عاشت بعد زمنها من ناحية.. قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي.. فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد فأنشأ هذا انفصالاً بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي.. كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة. وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجيء في موعدها المقدور.
وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة. وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها. فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصوراً اعتقادياً يفسر الوجود كله، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود وتقتضي نظاماً تعبدياً وقيماً أخلاقية. ثم تقتضي- حتماً- تشريعات منظمة لحياة الجماعة، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي، ومن هذا النظام التعبدي، ومن هذه القيم الأخلاقية. وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي، له بواعثه المفهومة، وله ضماناته المكينة.. فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاماً شاملاً للحياة البشرية، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة.
وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة. فقامت معلقة في الهواء. أو قامت عرجاء! ولم يكن هذا أمراً عادياً في الحياة البشرية، ولا حادثاً صغيراً في التاريخ البشري.. إنما كان كارثة:
كارثة ضخمة، تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم.(1/400)
سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية- وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع- أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيراً عن الذين يدعون أنهم مسيحيون.. فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين، هي الشريعة المنظمة للحياة، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور.. وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية. ولا يكون دين على الإطلاق! وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية، ويلبي واقع الحياة البشرية، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله.
وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام:
«وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» .. إلخ..
51- وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى: حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه:
«وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» ..
فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله: المعجزات التي جاءهم بها لم يجىء بها من عند نفسه. فما له قدرة عليها وهو بشر. إنما جاءهم بها من عند الله. ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله.. ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء- فما هو برب وإنما هو عبد- وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، فلا عبودية إلا لله.. ويختم قوله بالحقيقة الشاملة.. فتوحيد الرب وعبادته، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به: «هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» .. وما عداه عوج وانحراف. وما هو قطعاً بالدين..
52- ومن بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة.. ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه- عليه السلام- بالكفر من بني إسرائيل، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله:
«فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .
وهنا فجوة كبيرة في السياق. فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد ولا أنه دعا قومه وهو كهل ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه (كما جاء في سورة مريم) .. وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني، لعدم التكرار في العرض من جهة، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى..
والأن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل- بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها، وتؤيد من جاءت على يده. ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف..
عندئذ دعا دعوته:
«قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» ؟» ..
من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه، وأودي عنه؟
ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويلغونها(1/401)
إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها..
«قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .
فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين، وأشهدوا عيسى- عليه السلام- على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله.. أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة.
53- ثم اتجهوا إلى ربهم يتصلون مباشرة به في هذا الأمر الذي يقومون عليه:
«رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .
وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة.. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول.. وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول. فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير ولكنة اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول. وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة- كما رأينا- ويكرره بشتى الأساليب.
ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين: «فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» ..
فأي شهادة وأي شاهدين؟
إن المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين. شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعاً، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات.
وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه، وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم.. وجهاده لقيام هذا المجتمع، وتحقيق هذا المنهج وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية.. هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدعى «شهيداً» ..
فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه.. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج. ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من «الشهداء» على حق هذا الدين.
وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام.. فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون. وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثاراً للعافية، وإيثاراً لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه. وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له! وويل لمن يصد الناس عن دين الله(1/402)
عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين، وما هو من المؤمنين! «1» 54- ويمضي السياق إلى خاتمة القصة بين عيسى- عليه السلام- وبني إسرائيل:
«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. إِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ..
والمكر الذي مكره اليهود الذين لم يؤمنوا برسولهم- عيسى عليه السلام- مكر طويل عريض. فقد قذفوه عليه السلام وقذفوا الطاهرة أمه مع يوسف النجار خطيبها الذي لم يدخل بها كما تذكر الأناجيل.. وقد اتهموه بالكذب والشعوذة ووشوا به إلى الحاكم الروماني «بيلاطس» وادعوا أنه «مهيج» يدعو الجماهير للانتقاض على الحكومة! وأنه مشعوذ يجدف ويفسد عقيدة الجماهير! حتى سلم لهم بيلاطس بأن يتولوا عقابه بأيديهم، لأنه لم يجرؤ- وهو وثني- على احتمال تبعة هذا الإثم مع رجل لم يجد عليه ريبة.. وهذا قليل من كثير..
«وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ..
والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله.. والمكر التدبير.. ليسخر من مكرهم وكيدهم إذا كان الذي يواجهه هو تدبير الله. فأين هم من الله؟ وأين مكرهم من تدبير الله؟
55- لقد أرادوا صلب عيسى- عليه السلام- وقتله. وأراد الله أن يتوفاه، وأن يرفعه إليه، وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.. وكان ما أراده الله. وأبطل الله مكر الماكرين:
«إِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» .
فأما كيف كانت وفاته، وكيف كان رفعه.. فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله. ولا طائل وراء البحث فيها. لا في عقيدة ولا في شريعة. والذين يجرون وراءها، ويجعلونها مادة للجدل، ينتهي بهم الحال إلى المراء، وإلى التخليط، وإلى التعقيد. دون ما جزم بحقيقة، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله.
وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.. فلا يصعب القول فيه. فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح.. الإسلام.. الذي عرف حقيقته كل نبي، وجاء به كل رسول، وآمن به كل من آمن حقاً بدين الله.. وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله.. كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان، وحقيقة الاتباع.. ودين الله واحد. وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول. والذين يتبعون محمدا- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) يراجع البحث القيم للأستاذ المودودي بعنوان: «شهادة الحق» .(1/403)
هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم. من لدن آدم- عليه السلام- إلى آخر الزمان.
وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق.
فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام:
«ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ..
56- وفي هذا النص تقرير لجدية الجزاء، وللقسط الذي لا يميل شعرة، ولا تتعلق به الأماني ولا الافتراء..
رجعة إلى الله لا محيد عنها. وحكم من الله فيما اختلفوا فيه لا مرد له. وعذاب شديد في الدنيا والآخرة للكافرين لا ناصر لهم منه. 57- وتوفية للأجر للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا محاباة فيه ولا بخس.. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» .. فحاشا أن يظلم وهو لا يحب الظالمين..
وكل ما يقوله أهل الكتاب إذن من إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات. وكل ما رتبوه على هذا التميع في تصور عدل الله في جزائه من أماني خادعة.. باطل باطل لا يقوم على أساس.
58- وعند ما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص، وينتهي إلى تلقين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل وتستقر على حقيقة ما جاء به، وما يدعو إليه، في وضوح كامل وفي يقين:
«ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ. ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد- صلى الله عليه وسلم-:
«ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» ..
ذلك القصص. وذلك التوجيه القرآني كله. فهو وحي من الله. يتلوه الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود.. فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه؟ تلاوة الآيات والذكر الحكيم.. وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد.
59- ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشئ كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام:
«إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ. ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» ..
إن ولادة عيسى عجيبة حقاً بالقياس إلى مألوف البشر. ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي(1/404)
البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى- بسبب مولده- ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب.. أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب. وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني.. دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى. ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية. على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب: عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك! وإن هي إلا الكلمة:
«كُنْ» تنشئ ما تراد له النشأة «فَيَكُونُ» ! وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة.. حقيقة عيسى، وحقيقة آدم، وحقيقة الخلق كله. وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح، حتى ليعجب الإنسان: كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، وهو جار وفق السنة الكبرى. سنة الخلق والنشأة جميعاً! وهذه هي طريقة «الذِّكْرِ الْحَكِيمِ» في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور! 60- وعند ما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يثبته على الحق الذي معه، والذي يتلى عليه، ويؤكده في حسه كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث:
«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ..
وما كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عليه ربه، في لحظة من لحظات حياته..
وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين. كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد.
61- وهنا- وقد وضحت القضية وظهر الحق جلياً- يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية:
«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ- مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ- فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ..
وقد دعا الرسول- صلى الله عليه وسلم- من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين. فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة. وتبين الحق واضحاً.
ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظاً بمكانتهم من قومهم، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم!!! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه.
62- ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة- وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها- يقرر حقيقة الوحي، وحقيقة القصص، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي:
«إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» .
والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها. 63- وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها..(1/405)
إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين..
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم. وما ينشأ في الأرض الفساد- في الواقع- إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة. لا اعتراف اللسان. فاعتراف اللسان لا قيمة له. ولا اعتراف القلب السلبي. فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس.. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية.. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية.. لا عبودية إلا لله. ولا طاعة إلا لله. ولا تلقي إلا عن الله. فليس إلا لله تكون العبودية.
وليس إلا لله تكون الطاعة. وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر.
مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» .. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية وأقام نفسه للناس إلها من دون الله.
وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عند ما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عند ما يتعبد الناس الناس. عند ما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته وأن له فيهم حق التشريع لذاته وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ..
والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.
64- ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء: إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.. وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة:
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» ..
وإنها لدعوة منصفة من غير شك. دعوة لا يريد بها النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد. لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضاً. دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم.
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئاً. لا بشراً ولا حجراً. ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً. لا نبياً ولا رسولاً. فكلهم لله عبيد. إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية.
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .
فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك. والعبودية لله وحده دون شريك. وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية.. إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون..
وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون.(1/406)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده ويتعبدون لله وحده ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله..
هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا.
وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون، وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسلمون! إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد. والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر..
إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء.. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس. حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين.. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس- في صورة من الصور- ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس- على أي وضع من الأوضاع- وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا. فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله.
وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة.. ويصبح حرا. حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله. فهو وكل إنسان آخر على سواء. كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله.
والإسلام- بهذا المعنى- هو الدين عند الله. وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله.. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. ومن جور العباد إلى عدل الله.. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله. مهما أول المؤولون، وضلل المضللون.. «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ..
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 92]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)(1/407)
هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها.. خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة.. معركة العقيدة، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع، ومن كذب، ومن تدبير، للبس الحق بالباطل، وبث الريب والشكوك، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع.. ثم.. مواجهة القرآن لهذا كله، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء.. وأخيراً بتشريح هؤلاء الأعداء.. طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم.. على مشهد من الجماعة المسلمة، لتعريفها حقيقة أعدائها، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم، وتنفيرهم من حالهم، وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء، لا تخدع أحداً ولا تنطلي على أحد! ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم- عليه السلام- فيزعم اليهود أنه كان يهودياً، ويزعم النصارى أنه كان نصرانياً. على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية، سابق للتوراة والإنجيل. والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل.. ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم.. لقد كان على الإسلام.. دين الله القويم. وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه.
والله ولي المؤمنين أجمعين.. ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..
يلي ذلك في السياق كشف الهدف الأصيل الكامن وراء مماراة أهل الكتاب في إبراهيم وغير إبراهيم- مما سبق في السورة ومما سيجيء- فهو الرغبة الملحة في إضلال المسلمين عن دينهم، وتشكيكهم في عقيدتهم..
ومن ثم يتجه بالتقريع إلى المضللين: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
ثم يطلع الجماعة المسلمة على لون من تبييت أعدائهم وتدبيرهم، لزعزعة ثقتهم في عقيدتهم ودينهم، بطريقة خبيثة ما كرة لئيمة. ذلك أن يعلنوا إيمانهم بالإسلام أول النهار، ثم يكفروا بالإسلام آخره.. كي يلقوا في(1/409)
روع غير المتثبتين في الصف المسلم- ومثلهم موجود دائماً في كل صف- أنه لأمر ارتد أهل الكتاب، الخبيرون بالكتب والرسل والديانات: «وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. وهو كيد خبيث لئيم! ثم يكشف عن طبيعة أهل الكتاب وأخلاقهم ونظرتهم للعهود والمواثيق- على أمانة في بعضهم لا ينكرها عليهم- فأما البعض الآخر فلا أمانة له ولا عهد ولا ذمة وهم يفلسفون جشعهم وخيانتهم ويدعون لها سنداً من دينهم، ودينهم من هذا الخلق بريء: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
وفي هذا الموضع يبين طبيعة نظرة الإسلام الأخلاقية ومبعثها وارتباطها بتقوى الله: «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ويمضي يعرض نموذجاً آخر من التواء أهل الكتاب وكذبهم الرخيص في أمر الدين، ابتغاء مكاسب الأرض وهي كلها ثمن قليل: «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ، وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ. وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
ومن هذا الذي يلوون ألسنتهم فيه ما يدعونه من ألوهية للمسيح وللروح القدس.. وينفي الله- سبحانه- أن يكون المسيح- عليه السلام- قد جاءهم بهذا في الكتاب أو أمرهم به: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ..
وبهذه المناسبة يذكر حقيقة الصلة بين موكب الرسل المتتابعة.. وهي عهد الله عليهم أن يسلم السابق منهم للاحق وينصره: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا: أَقْرَرْنا. قالَ: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .. ومن ثم يتعين على أهل الكتاب أن يؤمنوا بالرسول الأخير وينصروه. ولكنهم لا يوفون بعهد الله معهم ومع رسلهم الأولين.
وفي ظل هذا العهد الساري يقرر أن الذي يبتغي ديناً غير دين الله.. الإسلام.. يخرج في الحقيقة على نظام الكون كله كما أراده الله: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً؟ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» .. فيبدو هؤلاء الذين يخرجون عن إسلام أمرهم لله كله، والطاعة والاتباع لمنهج الله في خضوع واستسلام.. يبدو هؤلاء شذاذاً خارجين على نظام الوجود الكبير! هنا يوجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه إلى إعلان الإيمان بدين الله الواحد، ممثلاً في كل ما جاء به الرسل أجمعين. وأن الله لا يقبل من البشر جميعاً إلا هذا الدين: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
فأما الذين لا يؤمنون بهذا الدين فلا مطمع لهم في هداية الله. ولا في النجاة من عقابه. إلا أن يتوبوا. وأما الذين يموتون وهم كفار فلن ينفعهم أن يكونوا قد بذلوا ما بذلوا، ولن ينجيهم أن يفتدوا بملء الأرض ذهبا!(1/410)
وبمناسبة البذل والفداء يحبب للمسلمين أن ينفقوا مما يحبون من مال في هذه الدنيا، ليجدوه عند الله مدخراً يوم القيامة: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
وهكذا يستعرض هذا الشوط الواحد هذا الحشد من الحقائق والتوجيهات. وهو شوط في المعركة الضخمة التي تعرضها السورة، دائرة بين الجماعة المسلمة وأعداء هذا الدين. من وراء القرون. وهي ذاتها المعركة الدائرة اليوم، لا تختلف فيها الأهداف والغايات، وإن اختلفت أشكال الوسائل والأدوات.. وهي هي في خطها الطويل المديد..
فلننظر في النصوص- بعد هذا الإجمال- نظرة استيعاب وتفصيل:
65- «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» .
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي- مولى زيد بن ثابت- حدثني سعيد بن جبير- أو عكرمة- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا عنده. فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً. فأنزل الله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ ... » الآية.
وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن، فظاهر من نصها أنها نزلت رداً على ادعاءات لأهل الكتاب، وحجاج مع النبي- صلى الله عليه وسلم- أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول-- صلى الله عليه وسلم- والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم- عليه السلام- أن يجعل في بيته النبوة واحتكار الهداية والفضل كذلك. ثم- وهذا هو الأهم- تكذيب دعوى النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه على دين إبراهيم، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة. أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل..
ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل. فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل. فكيف إذن يكون يهودياً؟ أو كيف إذن يكون نصرانياً؟ إنها دعوى مخالفة للعقل، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ:
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .
66- ثم يمضي في التنديد بهم وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج، وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار:
«ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؟» .
وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم تولوا وهم معرضون.. وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم، ووجود كتبهم ودياناتهم.. فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سنداً(1/411)
شكلياً.. فهو الجدل إذن لذات الجدل. وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى..
ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول. بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول! حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله. فهو- سبحانه- الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم. وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل:
67- «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
فيؤكد ما قرره من قبل ضمناً من أن إبراهيم- عليه السلام- ما كان يهودياً ولا نصرانياً. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده. ويقرر أنه كان مائلاً عن كل ملة إلا الإسلام. فقد كان مسلماً.. مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه..
«وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .. ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير:
يشير أولاً إلى أن اليهود والنصارى- الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة- مشركون.. ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً. ولكن حنيفاً مسلماً! ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر. فلا يلتقيان. الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه، وكل مقتضياته. ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلاً.
ويشير ثالثاً إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم، وسدنة بيته في مكة..
فهو حنيف مسلم، وهم مشركون. «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ! 68- وما دام أن إبراهيم- عليه السلام- كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، فليس لأي من اليهود أو النصارى- أو المشركين أيضاً- أن يدعي وراثته، ولا الولاية على دينه، وهم بعيدون عن عقيدته.. والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام. حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض، إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان. فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه. بالنفخة التي جعلت منه إنساناً. ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه. ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج! والولاية بين فرد وفرد، وبين مجموعة ومجموعة، وبين جيل من الناس وجيل، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة. يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن.
والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة. والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان، ومن وراء فواصل الدم والنسب، والقوم والجنس ويتجمعون أولياء- بالعقيدة وحدها- والله من ورائهم ولي الجميع:
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..
فالذين اتبعوا إبراهيم- في حياته- وساروا على منهجه، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه. ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين. ثم الذين آمنوا بهذا النبي- صلى الله عليه وسلم- فالتقوا(1/412)
مع إبراهيم- عليه السلام- في المنهج والطريق.
«وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..
فهم حزبه الذين ينتمون إليه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحداً غيره. وهم أسرة واحدة.
وأمة واحدة. من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان ومن وراء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت! وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني. وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود. لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية. فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر.. على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه- إن كانت رابطة التجمع هي الجنس- ولا يملك أن يغير قومه- إن كانت رابطة التجمع هي القوم- ولا يملك أن يغير لونه- إن كانت رابطة التجمع هي اللون- ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة- ولا يملك بيسر أن يغير طبقته- إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة- بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلاً. ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبداً دون التجمع الإنساني، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور.. الأمر المتروك للاقتناع الفردي، والذي يملك الفرد بذاته، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره، وأن ينضم إلى الصف على أساسه.
وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره، المميزة له من القطيع! والبشرية إما أن تعيش- كما يريدها الإسلام- أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور..
وإما أن تعيش قطعاناً خلف سياج الحدود الأرضية، أو حدود الجنس واللون.. وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع!!! 69- ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء. ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضاً. وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين:
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ- قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ- أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ- قُلْ: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة. إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي. يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين. ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج، والإلواء بها عن هذا الطريق:(1/413)
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» ..
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد، وكل دس، وكل مراء، وكل جدال، وكل تلبيس.
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر، ضلال لا شك فيه. فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى. فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين.
فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم:
«وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. وَما يَشْعُرُونَ» ..
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل. والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين.
70- هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب:
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
ولقد كان أهل الكتاب وقتها- وما يزالون حتى اليوم- يشهدون الحق واضحاً في هذا الدين. سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات- وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققاً أمامه- وسواء كذلك غير المطلعين، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان.. غير أنهم يكفرون.. لا لنقص في الدليل. ولكن للهوى والمصلحة والتضليل.. والقرآن يناديهم: «يا أَهْلَ الْكِتابِ» .. لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد.
71- كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد.. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد الله به- سبحانه- من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة.. فهذا طريقهم على مدار التاريخ.. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون! وفي خلال القرون المتطاولة دسوا- مع الأسف- في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله- اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين- والحمد لله على فضله العظيم.
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود. ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً. فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي- وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها: إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!(1/414)
وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون.
72- كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها، وردها عن الهدى، من ذلك الطريق الماكر اللئيم:
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ... » ..
وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا. فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته.. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال.
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل..
ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين- وأحياناً كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من «علماء» المسلمين! هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على «رجعيتها» ! والدعوة للتلفت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار.
وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره.. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض: تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم. 73- وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم:
«وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ..
وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة. أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين!(1/415)
وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك.. إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر.. هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود.. وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة. ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض.. ثم يتظاهرون- بعضهم على الأقل- بغير ما يريدون وما يبيتون.. والجو من حولهم مهيأ، والأجهزة من حولهم معبأة.. والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون! «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ..
وهنا يوجه الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبداً في أي منهج ولا في أي طريق:
«قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» ..
ويجيء هذا التقرير رداً على مقالتهم: «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» تحذيراً للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم. فهو الخروج من هدى الله كله. فلا هدى إلا هداه وحده.
وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون.
يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها.. ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض:
«أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» ..
بهذا يعللون قولهم: «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» .. فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحداً من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب. وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب، ثم ينكرونها، عن هذا الدين، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله! - كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع! - وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات، وتكاليف الإيمان والاعتقاد! ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم- ويعلم الجماعة المسلمة- حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول:
«قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم. وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين.. عندئذ سلم القيادة، وناط الأمانة، بالأمة المسلمة. فضلا منه ومنة. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
74- «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» .. عن سعة في فضله وعلم بمواضع رحمته.. «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .. وليس أعظم من فضله على أمة بالهدى ممثلاً في كتاب. وبالخير ممثلاً في رسالة.. وبالرحمة ممثلة في رسول.
فإذا سمع المسلمون هذا احسوا مدى النعمة وقيمة المنة في اختيار الله لهم، واختصاصه إياهم بهذا الفضل.
واستمسكوا به في إعزاز وحرص، وأخذوه بقوة وعزم، ودافعوا عنه في صرامة ويقين، وتيقظوا لكيد(1/416)
الكائدين وحقد الحاقدين. وهذا ما كان يربيهم به القرآن الكريم والذكر الحكيم. وهو ذاته مادة التربية والتوجيه للأمة المسلمة في كل جيل.
75- ثم يمضي السياق يصف حال أهل الكتاب ويبين ما في هذه الحال من نقائص ويقرر القيم الصحيحة التي يقوم عليها الإسلام دين المسلمين. ويبدأ فيعرض نموذجين من نماذج أهل الكتاب في التعامل والتعاقد:
«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
إنها خطة الإنصاف والحق وعدم البخس والغبن يجري عليها القرآن الكريم في وصف حال أهل الكتاب الذين كانوا يواجهون الجماعة المسلمة حينذاك والتي لعلها حال أهل الكتاب في جميع الأجيال. ذلك أن خصومة أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، ودسهم وكيدهم وتدبيرهم الماكر اللئيم، وإرادتهم الشر بالجماعة المسلمة وبهذا الدين.. كل ذلك لا يجعل القرآن يبخس المحسنين منهم حقهم، حتى في معرض الجدل والمواجهة.
فهو هنا يقرر أن من أهل الكتاب ناساً أمناء، لا يأكلون الحقوق مهما كانت ضخمة مغرية:
«وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» ..
ولكن منهم كذلك الخونة الطامعين المماطلين، الذين لا يردون حقاً- وإن صغر- إلا بالمطالبة والإلحاح والملازمة. ثم هم يفلسفون هذا الخلق الذميم، بالكذب على الله عن علم وقصد:
«وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
وهذه بالذات صفة يهود. فهم الذين يقولون هذا القول ويجعلون للأخلاق مقاييس متعددة. فالأمانة بين اليهودي واليهودي. أما غير اليهود ويسمونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب (وهم في الحقيقة يعنون كل من سوى اليهود) فلا حرج على اليهودي في أكل أموالهم، وغشهم وخداعهم، والتدليس عليهم، واستغلالهم بلا تحرج من وسيلة خسيسة ولا فعل ذميم! ومن العجب أن يزعموا أن إلههم ودينهم يأمرهم بهذا. وهم يعلمون أن هذا كذب. وأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا يبيح لجماعة من الناس أن يأكلوا أموال جماعة من الناس سحتاً وبهتاناً، وألا يرعوا معهم عهداً ولا ذمة، وأن ينالوا منهم بلا تحرج ولا تذمم. ولكنها يهود! يهود التي اتخذت من عداوة البشرية والحقد عليها ديدناً وديناً:
«وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
76- هنا نجد القرآن الكريم يقرر قاعدته الخلقية الواحدة، وميزانه الخلقي الواحد. ويربط نظرته هذه بالله وتقواه:
«بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِمْ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..(1/417)
فهي قاعدة واحدة من راعاها وفاء بعهد الله وشعوراً بتقواه أحبه الله وأكرمه. ومن اشترى بعهد الله وبأيمانه ثمناً قليلاً- من عرض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها وهي متاع قليل- فلا نصيب له في الآخرة. ولا رعاية له عند الله ولا قبول، ولا زكاة له ولا طهارة. وإنما هو العذاب الأليم.
ونلمح هنا أن الوفاء بالعهد مرتبط بالتقوى. ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق. فليس هو مسألة مصلحة. إنما هو مسألة تعامل مع الله أبداً. دونما نظر إلى من يتعامل معهم.
وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة. في الوفاء بالعهد وفي سواه من الأخلاق: التعامل هو أولاً تعامل مع الله، يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه ويطلب به رضاه. فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة وليس هو عرف الجماعة، ولا مقتضيات ظروفها القائمة. فإن الجماعة قد تضل وتنحرف، وتروج فيها المقاييس الباطلة. فلا بد من مقياس ثابت ترجع إليه الجماعة كما يرجع إليه الفرد على السواء. ولا بد أن يكون لهذا المقياس فوق ثباته قوة يستمدها من جهة أعلى.. أعلى من اصطلاح الناس ومن مقتضيات حياتهم المتغيرة.. ومن ثم ينبغي أن تستمد القيم والمقاييس من الله بمعرفة ما يرضيه من الأخلاق والتطلع إلى رضاه والشعور بتقواه.. بهذا يضمن الإسلام تطلع البشرية الدائم إلى أفق أعلى من الأرض واستمدادها القيم والموازين من ذلك الأفق الثابت السامق الوضيء.
77- ومن ثم يجعل الذين يخيسون بالعهد ويغدرون بالأمانة.. «يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» .. فالعلاقة في هذا بينهم وبين الله قبل أن تكون بينهم وبين الناس.. ومن هنا فلا نصيب لهم في الآخرة عنده، أن كانوا يبغون بالغدر والنكث بالعهد ثمناً قليلا هو هذه المصالح الدنيوية الزهيدة! ولا رعاية لهم من الله في الآخرة جزاء استهانتهم بعهده- وهو عهدهم مع الناس- في الدنيا.
ونجد هنا أن القرآن قد سلك طريقة التصوير في التعبير. وهو يعبر عن إهمال الله لهم وعدم رعايتهم، بأنه لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يطهرهم.. وهي أعراض الإهمال التي يعرفها الناس.. ومن ثم يتخذها القرآن وسيلة لتصوير الموقف صورة حية تؤثر في الوجدان البشري أعمق مما يؤثر التعبير التجريدي. على طريقة القرآن في ظلاله وإيحاءاته الجميلة «1» .
78- ثم يمضي في عرض نماذج من أهل الكتاب فيعرض نموذج المضللين، الذي يتخذون من كتاب الله مادة للتضليل، يلوون ألسنتهم به عن مواضعه، ويؤولون نصوصه لتوافق أهواء معينة، ويشترون بهذا كله ثمناً قليلاً.. عرضاً من عرض هذه الحياة الدنيا: ومن بين ما يلوون السنتهم به ويحرفونه ويؤولونه ما يختص بمعتقداتهم التي ابتدعوها عن المسيح عيسى بن مريم، مما اقتضته أهواء الكنيسة وأهواء الحكام سواء:
«وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ. كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» ..
وآفة رجال الدين حين يفسدون، أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين. وهذه
__________
(1) يراجع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(1/418)
الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب، نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا. فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها ليا، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها. بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها. معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء.
ونحن اليوم نعرف هذا النموذج جيداً في بعض الرجال الذين ينسبون إلى الدين ظلماً! الذين يحترفون الدين، ويسخرونه في تلبية الأهواء كلها ويحملون النصوص ويجرون بها وراء هذه الأهواء حيثما لاح لهم أن هناك مصلحة تتحقق، وأن هناك عرضاً من أعراض هذه الحياة الدنيا يحصل! يحملون هذه النصوص ويلهثون بها وراء تلك الأهواء، ويلوون أعناق هذه النصوص ليا لتوافق هذه الأهواء السائدة ويحرفون الكلم عن مواضعه ليوافقوا بينه وبين اتجاهات تصادم هذا الدين وحقائقه الأساسية. ويبذلون جهداً لاهثاً في التمحل وتصيد أدنى ملابسة لفظية ليوافقوا بين مدلول آية قرآنية وهوى من الأهواء السائدة التي يهمهم تمليقها..
«وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. كما يحكي القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب سواء. فهي آفة لا يختص بها أهل الكتاب وحدهم. إنما تبتلى بها كل أمة يرخص دين الله فيها على من ينتسبون إليه حتى ما يساوي إرضاء هوى من الأهواء التي يعود تمليقها بعرض من أعراض هذه الأرض! وتفسد الذمة حتى ما يتحرج القلب من الكذب على الله، وتحريف كلماته عن مواضعها لتمليق عبيد الله، ومجاراة أهوائهم المنحرفة، التي تصادم دين الله.. وكأنما كان الله- سبحانه- يحذر الجماعة المسلمة من هذا المزلق الوبيء، الذي انتهى بنزع أمانة القيادة من بني إسرائيل.
79- هذا النموذج من بني إسرائيل- فيما يبدو من مجموع هذه الآيات- كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي فيلوون السنتهم بها- أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها- ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله ويقولون بالفعل: هذا ما قاله الله، وهو ما لم يقله- سبحانه- وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات الوهية عيسى عليه السلام ومعه «روح القدس» .. وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم: الأب والابن والروح القدس. باعتبارها كائناً واحداً هو الله- تعالى الله عما يصفون- ويروون عن عيسى- عليه السلام- كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلهاً هو والملائكة. فهذا مستحيل:
«ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟» ..
إن النبي يوقن أنه عبد، وأن الله وحده هو الرب، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم. فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية. فلن يقول نبي للناس: «كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. ولكن قوله لهم: «كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» .. منتسبين إلى الرب، عباداً له وعبيداً، توجهوا إليه وحده بالعبادة، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا «رَبَّانِيِّينَ» .. كونوا «رَبَّانِيِّينَ» بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له. فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته.(1/419)
80- والنبي لا يأمر الناس أبداً أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، فالنبي لا يأمر الناس بالكفر بعد أن يسلموا لله ويستسلموا لألوهيته، وقد جاء ليهديهم إلى الله لا ليضلهم، وليقودهم إلى الإسلام لا ليكفرهم! ومن ثم تتجلى استحالة هذا الذي ينسبه ذلك الفريق إلى عيسى- عليه السلام- كما يتجلى الكذب على الله في ادعائهم أن هذا من عند الله.. وتسقط في الوقت ذاته قيمة كل ما يقوله هذا الفريق وما يعيده لإلقاء الريب والشكوك في الصف المسلم. وقد عراهم القرآن هذه التعرية على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة! ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام، ويدعون العلم بالدين كما أسلفنا. وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم. وهم يلوون النصوص القرآنية ليا، لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور. وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ! 81- بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات، على عهد من الله وميثاق، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق:
«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا: أَقْرَرْنا. قالَ: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» ..
لقد أخذ الله- سبحانه- موثقاً رهيباً جليلاً كان هو شاهده وأشهد عليه رسله. موثقاً على كل رسول. أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة، ثم جاء رسول بعده مصدقاً لما معه، أن يؤمن به وينصره، ويتبع دينه. وجعل هذا عهداً بينه وبين كل رسول.
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل ويجمعهم كلهم في مشهد. والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة: هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل:
«قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟» ..
وهم يجيبون:
«قالُوا أَقْرَرْنا» ..
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه:
«قالَ: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» :
هذا المشهد الهائل الجليل، يرسمه التعبير، فيجف له القلب ويجب وهو يتمثل المشهد بحضرة البارئ الجليل، والرسل مجتمعين..
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلاً متسانداً مستسلماً للتوجيه العلوي، ممثلاً للحقيقة الواحدة التي شاء الله- سبحانه- أن تقوم عليها الحياة البشرية، ولا تنحرف، ولا تتعدد، ولا تتعارض، ولا تتصادم.. إنما ينتدب لها المختار من عباد الله ثم يسلمها إلى المختار بعده، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به.
فما للنبي في نفسه من شيء وما له في هذه المهمة من أرب شخصي، ولا مجد ذاتي. إنما هو عبد مصطفى،(1/420)
ومبلغ مختار. والله- سبحانه- هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء.
ويخلص دين الله- بهذا العهد وبهذا التصور- من العصبية الذاتية. عصبية الرسول لشخصه. وعصبيته لقومه. وعصبية أتباعه لنحلتهم. وعصبيتهم لأنفسهم. وعصبيتهم لقوميتهم.. ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد، الذي تتابع به وتوالى ذلك الموكب السني الكريم.
82- وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير- صلى الله عليه وسلم- ومناصرته وتأييده، تمسكاً بدياناتهم- لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته، ولكن باسمها تعصباً لأنفسهم في صورة التعصب لها! - مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهداً ثقيلاً غليظاً مع ربهم في مشهد مرهوب جليل.. في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذين يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم. فسقة عن عهد الله معهم. فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه، الخاضع لناموسه، المدبر بأمره ومشيئته:
«فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» ..
إنه لا يتولى عن اتباع هذا الرسول إلا فاسق. ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ. شاذ في هذا الوجود الكبير.
ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب.
83- إن دين الله واحد، جاءت به الرسل جميعاً، وتعاقدت عليه الرسل جميعاً. وعهد الله واحد أخذه على كل رسول. والإيمان بالدين الجديد واتباع رسوله، ونصرة منهجه على كل منهج، هو الوفاء بهذا العهد. فمن تولى عن الإسلام فقد تولى عن دين الله كله، وقد خاس بعهد الله كله.
والإسلام- الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له- هو ناموس هذا الوجود.
وهو دين كل حي في هذا الوجود.
إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام. صورة كونية تأخذ بالمشاعر، وترتجف لها الضمائر..
صورة الناموس القاهر الحاكم، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد وشرعة واحدة، ومصير واحد.
«وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» ..
فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبر الجليل..
ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله. فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه، في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني.. والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلا من التصادم معها. وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق أو لا يؤدي- على كل حال- وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له. وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه، يملك معرفة أسرارها، وتسخيرها، والانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه(1/421)
من الخوف والقلق والتناحر.. الانتفاع بها لا ليحترق بنار الكون، ولكن ليطبخ بها ويستدفئ ويستضيء! والفطرة البشرية في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي. فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولا بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزق، ويحتار ويقلق. ويحيا كما تحيا البشرية الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب- على الرغم من جميع الانتصارات العلمية، وجميع التسهيلات الحضارية المادية! إن البشرية اليوم تعاني من الخواء المرير. خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها..
حقيقة الإيمان.. وخواء حياتها من المنهج الإلهي. هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه.
إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيداً عن ذلك الظل الوارف الندي. ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيدا عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق! ومن ثم تجد الشقاء والقلق والحيرة والاضطراب وتحس الخواء والجوع والحرمان وتهرب من واقعها هذا بالأفيون والحشيش والمسكرات وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء، والشذوذ في الحركة واللبس والطعام! وذلك على الرغم من الرخاء المادي والإنتاج الوفير والحياة الميسورة والفراغ الكثير.. لا بل إن الخواء والقلق والحيرة لتتزايد كلما تزايد الرخاء المادي والإنتاج الحضاري واليسر في وسائل الحياة ومرافقها.
إن هذا الخواء المرير ليطارد البشرية كالشبح المخيف. يطاردها فتهرب منه. ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير! وما من أحد يزور البلاد الغنية الثرية في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون! هاربون من أشباح تطاردهم. هاربون من ذوات أنفسهم.. وسرعان ما يتكشف الرخاء المادي والمتاع الحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل، عن الأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والقلق والمرض والجنون والمسكرات والمخدرات والجريمة. وفراغ الحياة من كل تصور كريم! إنهم لا يجدون أنفسهم لأنهم لا يجدون غاية وجودهم الحقيقية.. إنهم لا يجدون سعادتهم لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون، وبين نظامهم وناموس الوجود.. إنهم لا يجدون طمأنينتهم لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون..
84- ولما كانت الأمة المسلمة- المسلمة حقاً لا جغرافية ولا تاريخاً! - هي الأمة المدركة لحقيقة العهد بين الله ورسله. وحقيقة دين الله الواحد ومنهجه، وحقيقة الموكب السني الكريم الذي حمل هذا المنهج وبلغه، فإن الله يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن هذه الحقيقة كلها ويعلن إيمان أمته بجميع الرسالات، واحترامها لجميع الرسل، ومعرفتها بطبيعة دين الله، الذي لا يقبل الله من الناس سواه:
«قُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ «1» ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
__________
(1) الأسباط هم أحفاد يعقوب عليه السلام وهم آباء الاثني عشر سبطا التي يتألف منها شعب إسرائيل.(1/422)
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وفي ولائه لكافة الرسل حملته. وفي توحيده لدين الله كله، ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده.
ومما هو جدير بالالتفات في الآية القرآنية الأولى هنا هو ذكرها الإيمان بالله وما أنزل على المسلمين- وهو القرآن- وما أنزل على سائر الرسل من قبل، ثم التعقيب على هذا الإيمان بقوله:
«وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
فهذا الإقرار بالإسلام له مغزاه. بعد بيان أن الإسلام هو الاستسلام والخضوع والطاعة واتباع الأمر والنظام والمنهج والناموس. كما يتجلى في الآية قبلها «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ، وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» .. 85- فظاهر أن إسلام الكائنات الكونية هو إسلام الخضوع للأمر، واتباع النظام، وطاعة الناموس.. ومن ثم تتجلى عناية الله- سبحانه- ببيان معنى الإسلام وحقيقته في كل مناسبة. كي لا يتسرب إلى ذهن أحد أنه كلمة تقال باللسان، أو تصديق يستقر في القلب، ثم لا تتبعه آثاره العملية من الاستسلام لمنهج الله، وتحقيق هذا المنهج في واقع الحياة.
وهي لفتة ذات قيمة قبل التقرير الشامل الدقيق الأكيد:
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
إنه لا سبيل- مع هذه النصوص المتلاحقة- لتأويل حقيقة الإسلام، ولا للي النصوص وتحريفها عن مواضعها لتعريف الإسلام بغير ما عرفه به الله، الإسلام الذي يدين به الكون كله. في صورة خضوع للنظام الذي قرره الله له ودبره به.
ولن يكون الإسلام إذن هو النطق بالشهادتين، دون أن يتبع شهادة أن لا إله إلا الله معناها وحقيقتها. وهي توحيد الألوهية وتوحيد القوامة. ثم توحيد العبودية وتوحيد الاتجاه. ودون أن يتبع شهادة أن محمداً رسول الله معناها وحقيقتها. وهي التقيد بالمنهج الذي جاء به من عند ربه للحياة، واتباع الشريعة التي أرسله بها، والتحاكم إلى الكتاب الذي حمله إلى العباد.
ولن يكون الإسلام إذن تصديقاً بالقلب بحقيقة الألوهية والغيب والقيامة وكتب الله ورسله.. دون أن يتبع هذا التصديق مدلوله العملي، وحقيقته الواقعية التي أسلفنا..
ولن يكون الإسلام شعائر وعبادات، أو إشراقات وسبحات، أو تهذيباً خلقياً وإرشاداً روحياً.. دون أن يتبع هذا كله آثاره العملية ممثلة في منهج للحياة موصول بالله الذي تتوجه إليه القلوب بالعبادات والشعائر، والإشراقات والسبحات، والذي تستشعر القلوب تقواه فتتهذب وترشد.. فإن هذا كله يبقى معطلاً لا أثر له في حياة البشر ما لم تنصب آثاره في نظام اجتماعي يعيش الناس في إطاره النظيف الوضيء.
86- 87- 88- هذا هو الإسلام كما يريده الله ولا عبرة بالإسلام كما تريده أهواء البشر في جيل منكود من أجيال الناس! ولا كما تصوره رغائب أعدائه المتربصين به، وعملائهم هنا أو هناك! فأما الذين لا يقبلون الإسلام على النحو الذي أراده الله، بعد ما عرفوا حقيقته، ثم لم تقبلها أهواؤهم، فهم(1/423)
في الآخرة من الخاسرين. ولن يهديهم الله، ولن يعفيهم من العذاب:
«كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ..
وهي حملة رعيبة يرجف لها كل قلب فيه ذرة من إيمان ومن جدية الأمر في الدنيا وفي الآخرة سواء.
وهو جزاء حق لمن تتاح له فرصة النجاة، ثم يعرض عنها هذا الإعراض.
89- ولكن الإسلام- مع هذا- يفتح باب التوبة، فلا يغلقه في وجه ضال يريد أن يتوب ولا يكلفه إلا أن يطرق الباب. بل أن يدلف إليه فليس دونه حجاب. وإلا أن يفيء إلى الحمى الآمن، ويعمل صالحاً.
فيدل على أن التوبة صادرة من قلب تاب:
«إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
90- فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون. الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفراً. والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة، وينتهي أمد الاختبار، ويأتي دور الجزاء. هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة.
91- ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهباً فيما يظنون هم أنه خير وبر، مادام مقطوعاً عن الصلة بالله.
ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال. ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة. فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ..
وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب.
92- وبمناسبة الإنفاق على غير درب الله، وفي غير سبيله، وبمناسبة الافتداء يوم لا ينفع الفداء، يبين البذل الذي يرضاه:
«لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
وقد فقه المسلمون وقتها معنى هذا التوجيه الإلهي، وحرصوا على أن ينالوا البر- وهو جماع الخير- بالنزول عما يحبون، ويبذل الطيب من المال، سخية به نفوسهم في انتظار ما هو أكبر وأفضل.
روى الإمام أحمد- بإسناده- عن أبي إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: سمع أنس بن مالك يقول:
كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بير «حاء» . وكانت مستقبلة المسجد. وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» .. قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن الله يقول: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» وإن أحب أموالي إليّ بير «حاء» وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «بخ بخ. ذاك مال رابح. ذاك مال رابح. وقد سمعت. وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه(1/424)
وبني عمه» .. (أخرجه الشيخان) .
وفي الصحيحين أن عمر- رضي الله عنه- قال: «يا رسول الله لم أصب مالاً قط، هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر. فما تأمرني به؟ قال: «احبس الأصل، وسبل الثمرة» ..
وعلى هذا الدرب سار الكثيرون منهم يلبون توجيه ربهم الذي هداهم إلى البر كله، يوم هداهم إلى الإسلام.
ويتحررون بهذه التلبية من استرقاق المال، ومن شح النفس، ومن حب الذات ويصعدون في هذا المرتقى السامق الوضيء أحراراً خفافاً طلقاء..(1/425)
انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع مبدوءا بقوله تعالى:
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ...(1/426)
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقيّة سورة آل عمران وأوائل سورة النساء الجزء الرّابع(1/427)
بسم الله الرّحمن الرّحيم يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران، ومن أوائل سورة النساء، إلى قوله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ... » .
وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية، تكمل خط سير السورة، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها- في الجزء الثالث- بما لا مجال لإعادته هنا، فيرجع إليه هناك..
فأما المقطع الأول فيمثل طرفا من المعركة الجدلية بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة في المدينة، في تلك الفترة التي رجحنا أن السورة تناولت أحداثها في حياة الجماعة المسلمة- من بعد غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة إلى ما بعد غزوة أحد في شوال من العام الثالث.. هذه المعركة التي شغلت ما مر من السورة كله.
والتي كانت مجالا لتجلية حقيقة التصور الإيماني وحقيقة «الدين» ، وحقيقة «الإسلام» ، وحقيقة منهج الله الذي جاء به الإسلام، وجاء به من قبل كل رسول. كما كانت مجالا لكشف حقيقة «أهل الكتاب» الذين يجادلون النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن معه ويحاورونهم وكشف مدى انحرافهم عن دين الله وفضح تدبيرهم للجماعة المسلمة في المدينة، والدوافع الكامنة وراء هذا التدبير ثم تحذير الجماعة المسلمة من هذا كله، بعد تسليط الأنوار عليه، وتجسيم خطره على الجماعة المسلمة لو غفلت عنه، واستجابت لأعدائها فيه.
وأما المقطع الثاني- وهو يشغل مساحة كبيرة من السورة كذلك- فهو نقلة إلى معركة أخرى ليست باللسان والكيد والتدبير فقط ولكنها كذلك بالسيف والرمح والسنان. نقلة إلى «غزوة أحد» وأحداثها والتعقيبات عليها. في أسلوب هو أسلوب القرآن وحده! وقد نزلت الآيات بعد المعركة فكانت مجالا لتجلية نواح متعددة من التصور الإيماني كما كانت مجالا لتربية الجماعة المسلمة على ضوء المعركة، وعلى ضوء ما كشفته من أخطاء في التصور، واضطراب في التصرف، وخلل في الصف.. وفرصة لتوجيه الجماعة المسلمة إلى المضي في طريقها، واحتمال تبعاتها، والارتفاع إلى مستوى الأمانة الضخمة التي ناطها الله بها، والوفاء بشكر نعمة الله عليها في اصطفائها لهذا الأمر العظيم.
والمقطع الثالث عودة إلى أهل الكتاب، ونكولهم عن مواثيقهم مع النبي- صلى الله عليه وسلم- تلك المواثيق التي كان قد عقدها معهم أول مقدمه إلى المدينة والتنديد بانحراف تصوراتهم، وما اجترحوه من الآثام مع أنبيائهم كذلك. ثم تحذير الجماعة المسلمة من متابعتهم، وتثبيت القلوب المؤمنة على ما ينالها من الابتلاء في النفس والمال، وإيذاء أهل الكتاب والمشركين وتهوين شأن أعدائها على كل حال.(1/429)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
والمقطع الأخير يرسم صورة لحال المؤمنين مع ربهم، تمثل دبيب الإيمان في قلوبهم حين يواجهون آيات الله في الكون، ويتجهون إلى ربهم ورب هذا الكون بدعاء خاشع واجف. واستجابة ربهم لهم بالمغفرة وحسن الثواب. مع التهوين من شأن الكفار وما ينالونه من متاع قليل في هذه الأرض، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد..
وتختم السورة بدعوة من الله للذين آمنوا.. دعوة إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى لعلهم يفلحون..
هذه المقاطع الأربعة المتلاحمة في السياق تكمل ما سبق عرضه من السورة (في الجزء الثالث) وتسير مع خطوطها الرئيسية العريضة التي فصلنا الحديث عنها هناك.. وسنتناولها بتفصيل خاص عند مواجهتها في السياق.
أما الشطر الثاني من هذا الجزء- وهو أوائل سورة النساء- فسنتحدث عنه- إن شاء الله- في موضعه.
وبالله التوفيق..
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 120]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)(1/430)
في هذا الدرس تبلغ المعركة ذروتها. معركة الجدل والمناظرة مع أهل الكتاب. وهذه الآيات غير داخلة في نطاق مناظرة وفد نجران- كما ذكرت الروايات- ولكنها متساوقة معها، ومكملة لها، والموضوع واحد.
وإن كانت آيات هذا الدرس تتمحض للحديث عن اليهود خاصة، وتواجه كيدهم ودسهم للجماعة المسلمة في المدينة. وتنتهي إلى الحسم القاطع، والمفاصلة الكاملة. حيث يتجه السياق بعد جولة قصيرة في هذا الدرس إلى الجماعة المسلمة يخاطبها وحدها فيبين لها حقيقتها، ومنهجها، وتكاليفها. على نحو ما سار السياق في سورة البقرة بعد استيفاء الحديث عن بني إسرائيل.. وفي هذه الظاهرة تتشابه السورتان.
ويبدأ الدرس بتقرير أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل- إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة- ويبدو أن هذا التقرير كان رداً على اعتراض بني إسرائيل على إباحة القرآن لبعض المحرمات اليهودية من الطعام. مع أن هذه المحرمات إنما حرمت عليهم وحدهم، في صورة عقوبة على بعض مخالفاتهم.
ثم يرد كذلك على اعتراضهم على تحويل القبلة- ذلك الموضوع الذي استغرق مساحة واسعة في سورة البقرة من قبل- فيبين لهم أن الكعبة هي بيت إبراهيم وهي أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة، فالاعتراض عليه مستنكر ممن يدعون وراثة إبراهيم! وعقب هذا البيان يندد بأهل الكتاب لكفرهم بآيات الله، وصدهم عن سبيل الله ورفضهم الاستقامة، وميلهم إلى الخطة العوجاء، ورغبتهم في سيطرتها على الحياة، وهم يعرفون الحق ولا يجهلونه.
ومن ثم يدعو أهل الكتاب جملة ويتجه إلى الجماعة المسلمة، يحذرها طاعة أهل الكتاب.. فإنها الكفر..
ولا يليق بالمسلمين الكفر وكتاب الله يتلى عليهم، وفيهم رسوله يعلمهم. ويدعوهم إلى تقوى الله، والحرص على الإسلام حتى الوفاة ولقاء الله. ويذكرهم نعمة الله عليهم بتأليف قلوبهم، وتوحيد صفوفهم تحت لواء الإسلام، بعد ما كانوا فيه من فرقة وخصام، وهم يومئذ على شفا حفرة من النار أنقذهم منها الله بالإسلام.
ويأمرهم بأن يكونوا الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، محافظة على تحقيق منهج الله، مع تحذيرهم الاستماع لدسائس أهل الكتاب فيهم، فيهلكوا بالفرقة كما تفرق هؤلاء فهلكوا في الدنيا والآخرة.. وتذكر الروايات أن هذا التحذير نزل بمناسبة فتنة معينة بين الأوس والخزرج قام بها اليهود.
ثم يعرّف الله المسلمين حقيقة مكانهم في هذه الأرض، وحقيقة دورهم في حياة البشر: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» .. فيدلهم بهذا على أصالة دورهم، وعلى سمة مجتمعهم..(1/432)
يلي ذلك التهوين من شأن عدوهم فهم لن يضروهم في دينهم، ولن يظهروا عليهم ظهوراً تاماً مستقراً. إنما هو الأذى في جهادهم وكفاحهم، ثم النصر ما استقاموا على منهجهم. وهؤلاء الأعداء قد ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، بسبب ما اقترفوه من الآثام والمعصية وقتل الأنبياء بغير حق.. ويستثني من أهل الكتاب طائفة جنحت للحق، فآمنت، واتخذت منهج المسلمين منهجاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في الخيرات.. «وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. ويقرر مصير الذين كفروا فلم يجنحوا للإسلام فهم مأخوذون بكفرهم، لا تنفعهم أموال ينفقونها، ولا تغني عنهم أولاد، وعاقبتهم البوار.
وينتهي الدرس بتحذير الذين آمنوا من اتخاذ بطانة من دونهم، يودون لهم العنت، وتنفث أفواههم البغضاء، وما تخفي صدورهم أكبر، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ، ويفرحون لما ينزل بساحتهم من السوء ويسوؤهم الخير ينال المؤمنين.. ويعدهم الله بالكلاءة والحفظ من كيد هؤلاء الأعداء ما صبروا واتقوا «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
ويدل هذا التوجيه الطويل، المنوّع الإيحاءات، على ما كانت تعانيه الجماعة المسلمة حينذاك من كيد أهل الكتاب ودسهم في الصف المسلم وما كان يحدثه هذا الدس من بلبلة. كما أنه يشي بحاجة الجماعة إلى التوجيه القوي، كي يتم لها التميز الكامل، والمفاصلة الحاسمة، من كافة العلاقات التي كانت تربطها بالجاهلية وبأصدقاء الجاهلية! ثم يبقى هذا التوجيه يعمل في أجيال هذه الأمة، ويبقى كل جيل مطالباً بالحذر من أعداء الإسلام التقليديين.
وهم هم تختلف وسائلهم، ولكنهم لا يختلفون! 93- «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ- إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ- قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة، وكل شبهة، وكل حيلة، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب.. فلما قال القرآن: إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون: فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها.. وهي محرمة على بني إسرائيل. وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين.
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرماً على بني إسرائيل.. هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل- إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة- وإسرائيل هو يعقوب- عليه السلام- وتقول الروايات إنه مرض مرضاً شديداً، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن- تطوعاً- عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه. فقبل الله منه نذره. وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم.. كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها. وأشير إلى هذه المحرمات في آية «الأنعام» : «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ(1/433)
شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ»
..
وكانت قبل هذا التحريم حلالاً لبني إسرائيل.
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم. فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض، ولا الشك في صحة هذا القرآن، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة.
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة، وأن يأتوا بها ليقرأوها، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم، وليست عامة.
«قُلْ: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
94- ثم يهدد من يفتري الكذب منهم على الله بأنه إذن ظالم، لا ينصف الحقيقة، ولا ينصف نفسه، ولا ينصف الناس. وعقاب الظالم معروف، فيكفي أن يوصموا بهذه الوصمة، ليتقرر نوع العذاب الذي ينتظرهم. وهم يفترون الكذب على الله. وهم إليه راجعون..
95- كذلك كان اليهود يبدئون ويعيدون في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة، بعد أن صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس حتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة.. ومع أن هذا الموضوع قد نوقش مناقشة كاملة وافية في سورة البقرة من قبل، وتبين أن اتخاذ الكعبة قبلة للمسلمين هو الأصل وهو الأوْلى، وأن اتخاذ بيت المقدس هذه الفترة كان لحكمة معينة بينها الله في حينها.. مع هذا فقد ظل اليهود يبدئون في هذا الموضوع ويعيدون، ابتغاء البلبلة والتشكيك واللبس للحق الواضح الصريح- على مثال ما يصنع اليوم أعداء هذا الدين بكل موضوع من موضوعات هذا الدين! وهنا يرد الله عليهم كيدهم ببيان جديد.
«قُلْ: صَدَقَ اللَّهُ، فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» ..
ولعل الإشارة هنا في قوله: «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ..» تعني ما سبق تقريره في هذا الأمر، من أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون مثابة للناس وأمناً، وليكون للمؤمنين بدينه قبلة ومصلى: ومن ثم يجيء الأمر باتباع إبراهيم في ملته. وهي التوحيد الخالص المبرأ من الشرك في كل صورة:
«فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
واليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة إبراهيم. فها هو ذا القرآن يدلهم على حقيقة دين إبراهيم وأنه الميل عن كل شرك. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بأنه كان حنيفاً. ومرة بأنه ما كان من المشركين. فما بالهم هم مشركين!! 96- ثم يقرر أن الاتجاه للكعبة هو الأصل. فهي أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصص لها، مذ أمر الله إبراهيم أن يرفع قواعده، وأن يخصصه للطائفين والعاكفين والركع السجود. وجعله مباركاً وجعله هدى(1/434)
للعالمين. يجدون عنده الهدى بدين الله ملة إبراهيم. وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم.. (ويقال: إن المقصود هو الحجر الأثري الذي كان إبراهيم- عليه السلام- يقف عليه في أثناء البناء. وكان ملصقاً بالكعبة فأخره عنها الخليفة الراشد عمر- رضي الله عنه- حتى لا يشوش الذين يطوفون به على المصلين عنده. وقد أمر المسلمون أن يتخذوه مصلى بقوله تعالى: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» ..)
ويذكر من فضائل هذا البيت أن من دخله كان آمناً. فهو مثابة الأمن لكل خائف. وليس هذا لمكان آخر في الأرض. وقد بقي هكذا مذ بناه إبراهيم وإسماعيل. وحتى في جاهلية العرب وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم، وعن التوحيد الخالص الذي يمثله هذا الدين.. حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية، كما قال الحسن البصري وغيره: «كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج» .. وكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته هذا، حتى والناس من حوله في جاهلية! وقال- سبحانه- يمتن على العرب به: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟» وحتى إنه من جملة تحريم الكعبة حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها..
وفي الصحيحين- واللفظ لمسلم- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه ... إلخ» فهذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة.. هو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة. وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة. وهو بيت أبيهم إبراهيم. 97- وفيه شواهد على بناء إبراهيم له. والإسلام هو ملة إبراهيم.
فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون. وهو مثابة الأمان في الأرض. وفيه هدى للناس، بما أنه مثابة هذا الدين.
ثم يقرر أن الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك. وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئاً:
«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» .
ويلفت النظر- في التعبير- هذا التعميم الشامل في فرضية الحج: «عَلَى النَّاسِ» .. ففيه أولاً إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة. على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة. فهم- اليهود- المنحرفون المقصرون العاصون! وفيه ثانياً إيحاء بأن الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به..
هذا وإلا فهو الكفر. مهما ادعى المدعون أنهم على دين! والله غني عن العالمين. فما به من حاجة- سبحانه- إلى إيمانهم وحجهم. إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة..
والحج فريضة في العمر مرة، عند أول ما تتوافر الاستطاعة. من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق..
ووقت فرضها مختلف فيه. فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود- في السنة التاسعة- يرون أن الحج فرض في هذه السنة. ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت(1/435)
فقط بعد هذا التاريخ.. وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة في الجزء الثاني من الظلال: إن حجة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج. فقد تكون لملابسات معينة. منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة. فكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يخالطهم، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع، وحرم على المشركين الطواف بالبيت.. ثم حج- صلى الله عليه وسلم- حجته في العام الذي يليه.. ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة أحد أو حواليها.
وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع، الذي يجعل لله- سبحانه- حق حج البيت على «النَّاسِ» من استطاع إليه سبيلا.
والحج مؤتمر المسلمين السنوي العام. يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه. والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم. والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصاً. فهو تجمع له مغزاه، وله ذكرياته هذه، التي تطوف كلها حول المعنى الكريم، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم.. معنى العقيدة.
استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنساناً. وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم..
98- بعد هذا البيان يلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يتجه إلى أهل الكتاب بالتنديد والتهديد، على موقفهم من الحق الذي يعلمونه، ثم يصدون عنه، ويكفرون بآيات الله. وهم شهداء على صحتها، وهم من صدقها على يقين:
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ؟ قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وقد تكرر مثل هذا التنديد في هذه السورة، وفي سور غيرها كثيرة. وأول ما يتركه هذا التنديد من أثر هو مجابهته أهل الكتاب بحقيقة موقفهم، ووصفهم بصفتهم، التي يدارونها بمظهر الإيمان والتدين، بينما هم في حقيقتهم كفار. فهم يكفرون بآيات الله القرآنية. ومن يكفر بشيء من كتاب الله فقد كفر بالكتاب كله.
ولو أنهم آمنوا بالنصيب الذي معهم لآمنوا بكل رسول جاء من عند الله بعد رسولهم. فحقيقة الدين واحدة.
من عرفها عرف أن كل ما يجيء به الرسل من بعد حق، وأوجب على نفسه الإسلام لله على أيديهم.. وهي حقيقة من شأنها أن تهزهم وأن تخوفهم عاقبة ما هم فيه.
ثم إن المخدوعين من الجماعة المسلمة بكون هؤلاء الناس أهل كتاب، يسقط هذا الخداع عنهم، وهم يرون الله- سبحانه- يعلن حقيقة أهل الكتاب هؤلاء، ويدمغهم بالكفر الكامل الصريح. فلا تبقى بعد هذا ريبة لمستريب.
وهو- سبحانه- يهددهم بما يخلع القلوب:
«وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ» .. «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..(1/436)
وهو تهديد رعيب، حين يحس إنسان أن الله يشهد عمله. وأنه ليس بغافل عنه. بينما عمله هو الكفر والخداع والإفساد والتضليل! 99- ويسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به، ويصدون الناس عنه:
«وَأَنْتُمْ شُهَداءُ» ..
مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذبون به، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه. وهو أمر بشع مستنكر، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد! 100- ولا بد من وقفة أمام وصفة تعالى لهؤلاء القوم بقوله:
«لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً ... ؟»
إنها لفتة ذات مغزى كبير.. إن سبيل الله هو الطريق المستقيم. وما عداه عوج غير مستقيم. وحين يصد الناس عن سبيل الله وحين يصد المؤمنون عن منهج الله، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها، والموازين كلها تفقد سلامتها، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم.
إنه الفساد. فساد الفطرة بانحرافها. وفساد الحياة باعوجاجها.. وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله، وصد المؤمنين عن منهج الله.. وهو فساد في التصور. وفساد في الضمير. وفساد في الخلق. وفساد في السلوك. وفساد في الروابط. وفساد في المعاملات. وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات.
وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر.. وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير، وإما أن ينحرفوا عنه إلى أية وجهة فهو العوج والفساد والشر. وليس هنالك إلا هاتان الحالتان، تتعاوران حياة بني الإنسان: استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد! 101- وحين يصل السياق إلى هذا الحد ينهي الجدل مع أهل الكتاب، ويغفل شأنهم كله. ويتجه إلى الجماعة المسلمة بالخطاب، والتحذير، والتنبيه والتوجيه. وبيان خصائص الجماعة المسلمة وقواعد منهجها وتصورها وحياتها وطبيعة وسائلها لتحقيق المنهج الذي ناطه الله بها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهج الله وحده، متميزة متفردة ظاهرة. لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله لتؤدي في حياة البشر دوراً خاصاً لا ينهض به سواها. لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض، وتحقيقه في صورة عملية، ذات معالم منظورة، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات.
وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة(1/437)
من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة، إلا إذا تلقت من الله وحده، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده. قيادة البشرية.. لا التلقي من أحد من البشر، ولا اتباع أحد من البشر، ولا طاعة أحد من البشر..
إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف..
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات. وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة.. وهنا موضع من هذه المواضع، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة.. ولكنه ليس محدوداً بحدود هذه المناسبة، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة، في كل جيل من أجيالها. لأنه هو قاعدة حياتها، بل قاعدة وجودها.
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية. فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن، وليس لوجودها- في هذه الحال- من غاية؟! لقد وجدت للقيادة: قيادة التصور الصحيح. والاعتقاد الصحيح. والشعور الصحيح. والخلق الصحيح.
والنظام الصحيح. والتنظيم الصحيح.. وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول، وأن تتفتح، وأن تتعرف إلى هذا الكون، وأن تعرف أسراره، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته.. ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله وتسيطر على هذا كله، وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات.. ينبغي أن تكون للإيمان، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة، مهتدية فيها بتوجيه الله.
لا بتوجيه أحد من عبيد الله.
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها. ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة. كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.
هذا من جانب المسلمين. فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي صخرة النجاة وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة.
وأعداؤه يعرفون هذا جيداً. يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة، ومن قوة كذلك وعُدة. وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين. وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام، أو ممن ينتسبون- زوراً- للإسلام، جنوداً مجندة، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار، ولتصد الناس عنها، ولتزين لهم مناهج غير منهجها، وأوضاعاً غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها..(1/438)
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعاً واتباعاً، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال.
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» ..
وما كان يفزع المسلم- حينذاك- ما يفزعه أن يرى نفسه منتكساً إلى الكفر بعد الإيمان. وراجعاً إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة. وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطاً يلهب الضمير، ويوقظه بشدة لصوت النذير.. ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير.. 102- فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم، وآيات الله تتلى عليهم، ورسوله فيهم. ودواعي الإيمان حاضرة، والدعوة إلى الإيمان قائمة، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور:
«وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟» أجل. إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان.. وإذا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد استوفى أجله، واختار الرفيق الأعلى، فإن آيات الله باقية، وهدى رسوله- صلى الله عليه وسلم- باق.. ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون، وطريق العصمة بين، ولواء العصمة مرفوع:
«وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
أجل. إنه الاعتصام بالله يعتصم. والله سبحانه باق. وهو- سبحانه- الحي القيوم.
ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتشدد مع أصحابه- رضوان الله عليهم- في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة، كشؤون الزرع، وخطط القتال، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي، ولا بالنظام الاجتماعي، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان.. وفرق بين هذا وذلك بين. فمنهج الحياة شيء، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر. والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة..
قال الإمام أحمد: «حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت.
قال: جاء عمر إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله. إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة. ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال عمر: رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى- عليه السلام- ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم. إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين» .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لا تسئلوا أهل الكتاب عن شيء. فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن(1/439)
تكذبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» .. وفي بعض الأحاديث:
«لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» ..
هؤلاء هم أهل الكتاب. وهذا هو هدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور، أو بالشريعة والمنهج.. ولا ضير- وفق روح الإسلام وتوجيهه- من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة، علماً وتطبيقاً.. مع ربطها بالمنهج الإيماني: من ناحية الشعور بها، وكونها من تسخير الله للإنسان. ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية، وتوفير الأمن لها والرخاء.
وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية. شكره بالعبادة، وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية..
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني، وفي تفسير الوجود، وغاية الوجود الإنساني. وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضاً.. أما التلقي في شيء من هذا كله، فهو الذي تغير وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأيسر شيء منه. وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته. وهي الكفر الصراح..
هذا هو توجيه الله- سبحانه- وهذا هو هدى رسوله- صلى الله عليه وسلم- فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا- صلى الله عليه وسلم- عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء، ومن الفلاسفة والمفكرين:
الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين.. أي دين.. ثم نزعم- والله- أننا مسلمون! وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح. فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ. حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون- مثلنا- أنهم مسلمون! إن الإسلام منهج. وهو منهج ذو خصائص متميزة: من ناحية التصور الاعتقادي، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها. ومن ناحية القواعد الأخلاقية، التي تقوم عليها هذه الارتباطات، ولا تفارقها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها. فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية. ومما يتناقض مع طبيعة القيادة- كما أسلفنا- أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي..
ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء. ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغداً. بل الأمر اليوم ألزم، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني. وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى.
لقد أجرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية. وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق- بالنسبة للماضي- وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة.. ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف.. والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق! ..
إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية.. وحين تقاس غاية الوجود(1/440)
الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة! بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود، وتسفل به، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه! .. والخواء يأكل قلب البشرية المكدود، والحيرة تهد روحها المتعبة..
إنها لا تجد الله.. لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة. والعلم الذي كان من شأنه، لو سار تحت منهج الله، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها.. إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له. ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون، وفطرتها وفطرة الكون، وقانونها وناموس الكون. ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها، وآخرتها ودنياها، وأفرادها وجماعاتها، وواجباتها وحقوقها.. تنسيقاً طبيعياً شاملاً مريحاً..
وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي. وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج «رجعية!» ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ.. وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي.. ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو. إننا نرى واقع البشرية النكد، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه. ونرى. نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق، والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان، ولكل معنى من معاني الإنسان! وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم.. كما يظل المنهج نظيفاً سليماً. إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى. والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك! .. وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم وما حرص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يعلمها إياه في تعليمه القويم..
103- وبعد هذا التحذير من التلقي عن أهل الكتاب وطاعتهم واتباعهم ينادي الله الجماعة المسلمة ويوجهها إلى القاعدتين الأساسيتين اللتين تقوم عليهما حياتها ومنهجها. واللتين لا بد منهما لكي تستطيع أن تضطلع بالأمانة الضخمة التي ناطها الله بها، وأخرجها للوجود من أجلها.. هاتان القاعدتان المتلازمتان هما: الإيمان. والأخوة..
الإيمان بالله وتقواه ومراقبته في كل لحظة من لحظات الحياة. والأخوة في الله، تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ(1/441)
وُجُوهُهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»
..
إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه:
ركيزة الإيمان والتقوى أولاً.. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل.. التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» ..
اتقوا الله- كما يحق له أن يتقى- وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أو غل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق، وجدّت له أشواق. وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى. وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام! «وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ..
والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه. فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً، وأن يكون في كل لحظة مسلماً. وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع: الاستسلام. الاستسلام لله، طاعة له، واتباعاً لمنهجه، واحتكاماً إلى كتابه. وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها، على نحو ما أسلفنا.
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها. إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً. ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة، إنما تكون هناك مناهج جاهلية. ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية، إنما تكون القيادة للجاهلية.
104- فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله:
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله- أي عهده ونهجه ودينه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا» ..
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى. وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة. يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية «أَعْداءً» .. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد. وهما الحيان العربيان في يثرب. يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً. ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه، ولا تعيش إلا معه. فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة. وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا.(1/442)
وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية، ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال..
«وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً، فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» ..
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله- الركيزة الأولى- وبالتأليف بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً- الركيزة الثانية-:
«وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط: «الْقَلْبِ» .. فلا يقول: فألف بينكم. إنما ينفذ إلى المكمن العميق: «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ» فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه. كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه. بل مشهداً حياً متحركاً تتحرك معه القلوب: «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ» .. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة، إذا بالقلوب ترى يد الله، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم. وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال! وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج. وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه، وأمره أن يجلس بينهم، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم «بُعاث» ! وتلك الحروب. ففعل. فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم. وطلبوا أسلحتهم.
وتوعدوا إلى «الحرّة» .. فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فجعل يسكنهم، ويقول: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم.
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية:
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» .
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه، القائمين على منهجه، لقيادة البشرية في طريقه.. هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله. وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب. كادت ترد المسلمين الأولين كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض. وتقطع بينهم حبل الله المتين، الذي يتآخون فيه مجتمعين. وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق.
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة. فهي تشي- مع ما قبلها في السياق وما بعدها- بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل. والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم، ومن التفرق كما تفرقوا.. هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار.. وهو دأب يهود في كل زمان. وهو عملها اليوم وغداً في الصف المسلم، في كل مكان!(1/443)
105- فأما وظيفة الجماعة المسلمة التي تقوم على هاتين الركيزتين لكي تنهض بها.. هذه الوظيفة الضرورية لإقامة منهج الله في الأرض، ولتغليب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر.. هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه، ووفق منهجه.. فهي التي تقررها الآية التالية:
«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته.
فهناك «دعوة» إلى الخير. ولكن هناك كذلك «أمر» بالمعروف. وهناك «نهي» عن المنكر. وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان، فإن «الأمر والنهي» لا يقوم بهما إلا ذو سلطان..
هذا هو تصور الإسلام للمسألة.. إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى.. سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر.. سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله.. سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر.. وتحقيق هذا المنهج يقتضي «دعوة» إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج. ويقتضي سلطة «تأمر» بالمعروف «وتنهى» عن المنكر.. فتطاع.. والله يقول: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان. فهذا شطر. أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرئ برأيه وبتصوره، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب! والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من ثم- تكليف ليس بالهين ولا باليسير، إذا نظرنا إلى طبيعته، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائهم.
وفيهم الجبار الغاشم. وفيهم الحاكم المتسلط. وفيهم الهابط الذي يكره الصعود. وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد. وفيهم المنحل الذي يكره الجد. وفيهم الظالم الذي يكره العدل. وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة..
وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف، ويعرفون المنكر. ولا تفلح الأمة، ولا تفلح البشرية، إلا أن يسود الخير، وإلا أن يكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً.. وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى..
وتطاع..
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين: الإيمان بالله والأخوة في الله. لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف. وجعل القيام به شريطة الفلاح. فقال عن الذين ينهضون به:
«وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته. فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية. هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير. المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل. والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم.. عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر. والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة. والحق فيه أقوى من الباطل. والعدل فيه أنفع من الظلم..
فاعل الخير فيه يجد على الخير اعواناً. وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلاناً.. ومن هنا قيمة هذا التجمع..(1/444)
إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه. والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه.
والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص.. يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافاً جوهرياً أصيلاً. فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة. لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية.
هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له فيحيا فيه هذا التصور، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه. وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة.
هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة. الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض.. والأخوة في الله. كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار. الإيثار المنطلق في يسر، المندفع في حرارة، المطمئن الواثق المرتاح.
وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى- في المدينة- على هاتين الركيزتين.. على الإيمان بالله: ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله- سبحانه- وتَمَثُّلِ صفاته في الضمائر وتقواه ومراقبته، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال. وعلى الحب. الحب الفياض الرائق، والود. الود العذب الجميل، والتكافل.
التكافل الجاد العميق.. وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً، لولا أنه وقع، لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض. ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان! 106- وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان..
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها- من أهل الكتاب- ثم تفرقوا واختلفوا، فنزع الله الراية منهم، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية.. فوق ما ينتظرهم من العذاب، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه:
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
107- وهنا يرسم السياق مشهداً من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية.. فنحن في مشهد هول. هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف. ولكن يتمثل في آدميين أحياء. في وجوه وسمات.. هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، واغبرت من الغم، واسودت من الكآبة.. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه. ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب:
«أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ!» ..(1/445)
108- «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .
وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار.. على طريقة القرآن.
وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف. ومعنى النعمة الإلهية الكريمة..
بالإيمان والائتلاف.
وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب، الذين تحذر أن تطيعهم. كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم. يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه..
109- ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيباً قرآنياً يتمشى مع خطوط السورة العريضة، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة. وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة. والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة.
110- وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض. ورجعة الأمر إليه في كل حال:
«تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
تلك الصور. تلك الحقائق. تلك المصائر.. تلك آيات الله وبيناته لعباده: نتلوها عليك بالحق. فهي حق فيما تقرره من مبادئ وقيم وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات. وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها وممن له الحق في تقرير القيم، وتقرير المصائر، وتوقيع الجزاءات. وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلماً. فهو الحكم العدل. وهو المالك لأمر السماوات والأرض. ولكل ما في السماوات وما في الأرض. وإليه مصير الأمور. إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق، وأن يجري العدل، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله.. لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودات! 111- بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها ثم يصف لها أهل الكتاب- ولا يبخسهم قدرهم، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره- ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم. فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم، ولن ينصروا عليهم. وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا- إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. لَيْسُوا سَواءً. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ. وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجباً ثقيلاً، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى:(1/446)
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..» .
إن التعبير بكلمة «أُخْرِجَتْ» المبني لغير الفاعل، تعبير يلفت النظر. وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تخرج هذه الأمة إخراجاً وتدفعها إلى الظهور دفعاً من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله.. إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى، لطيفة الدبيب. حركة تخرج على مسرح الوجود أمة. أمة ذات دور خاص. لها مقام خاص، ولها حساب خاص:
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ..
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة. والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض. ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية. إنما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الأمم مما لديها. وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه. ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها.
واجبها أن تكون في الطليعة دائماً، وفي مركز القيادة دائماً. ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاء، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له.. وهي بتصورها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهل له. فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي، وبعمارتها للأرض- قياماً بحق الخلافة- أهلاً له كذلك.. ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ويدفعها إلى السبق في كل مجال.. لو أنها تتبعه وتلتزم به، وتدرك مقتضياته وتكاليفه.
وفي أول مقتضيات هذا المكان، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي خير أمة أخرجت للناس. لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف- تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً- وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» .. كلا! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر:
«تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» ..
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك.. إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد.. وكل هذا متعب شاق، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة..
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر. فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي. فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل. ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر. يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
وهذا ما يحققه الإيمان، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه. وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون.. ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية. ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد. ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.(1/447)
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق، ويحتملوا تكاليفه. وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها، ويواجهون هبوط الأرواح، وكلل العزائم، وثقلة المطامع..
وزادهم هو الإيمان، وعدتهم هي الإيمان. وسندهم هو الله.. وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد. وكل عدة سوى عدة الإيمان تُفلّ، وكل سند غير سند الله ينهار! وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها. ليدلها على أنها لا توجد وجوداً حقيقياً إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني. فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- مع الإيمان بالله- فهي موجودة وهي مسلمة. وإما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام.
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة، ندعها لمواضعها. وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول- صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته نقتطف بعضها:
عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «1» وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم.. ثم جلس- وكان متكئاً- فقال: «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً» «2» أي تعطفوهم وتردوهم.
وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» «3» .
وعن عرس ابن عميرة الكندي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها» «4» .
وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» .. «5»
وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سيد الشهداء حمزة. ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله» «6» ..
وغيرها كثير.. وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم، وضروراتها لهذا المجتمع أيضاً. وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة. وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته «7» ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة..
__________
(1) أخرجه مسلم.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي.
(3) أخرجه الترمذي.
(4) أخرجه أبو داود.
(5) أخرجه أبو داود والترمذي.
(6) رواه الحاكم والضياء عن جابر رضي الله عنه.
(7) يراجع بتوسع كتاب: «قبسات من الرسول» لمحمد قطب فصل: «قبل أن تدعوا فلا أجيب» . دار الشروق.(1/448)
«وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» ..
وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان. فهو خير لهم. خير لهم في هذه الدنيا، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية. إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية- من ثم- على غير أساس، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل، وعلى تفسير كامل للوجود، ولغاية الوجود الإنساني، ومقام الإنسان في هذا الكون.. وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير.
ثم هو بيان كذلك لحالهم، لا يبخس الصالحين منهم حقهم:
«مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» ..
وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم. منهم عبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة، وكعب بن مالك.. وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال- وفي آية تالية بالتفصيل- أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين: أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده، وأن ينصره. وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل، واتباع هذا الرسول وطاعته والاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله، أرادها للناس أجمعين.
112- ولما كان بعض المسلمين ما يزالون على صلات منوعة باليهود في المدينة، ولما كانت لليهود حتى ذلك الحين قوة ظاهرة: عسكرية واقتصادية يحسب حسابها بعض المسلمين، فقد تكفل القرآن بتهوين شأن هؤلاء الفاسقين في نفوس المسلمين، وإبراز حقيقتهم الضعيفة بسبب كفرهم وجرائمهم وعصيانهم، وتفرقهم شيعاً وفرقاً، وما كتب الله عليهم من الذلة والمسكنة.
«لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا- إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» .
بهذا يضمن الله للمؤمنين النصر وسلامة العاقبة، ضمانة صريحة حيثما التقوا بأعدائهم هؤلاء، وهم معتصمون بدينهم وربهم في يقين:
«لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً. وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» ..
112- فلن يكون ضرراً عميقاً ولا أصيلاً يتناول أصل الدعوة، ولن يؤثر في كينونة الجماعة المسلمة، ولن يجليها من الأرض.. إنما هو الأذى العارض في الصدام، والألم الذاهب مع الأيام.. فأما حين يشتبكون مع المسلمين في قتال، فالهزيمة مكتوبة عليهم- في النهاية- والنصر ليس لهم على المؤمنين، ولا ناصر لهم كذلك ولا عاصم من المؤمنين.. ذلك أنه قد «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» وكتبت لهم مصيراً. فهم في كل أرض يذلون، لا تعصمهم إلا ذمة الله وذمة المسلمين- حين يدخلون في ذمتهم فتعصم دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وتنيلهم الأمن والطمأنينة- ولم تعرف يهود منذ ذلك الحين الأمن إلا في ذمة المسلمين. ولكن يهود لم تعاد أحداً في الأرض عداءها للمسلمين! .. «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» .. كأنما رجعوا من رحلتهم يحملون هذا الغضب. «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» تعيش في ضمائرهم وتكمن في مشاعرهم..(1/449)
ولقد وقع ذلك كله بعد نزول هذه الآية. فما كانت معركة بين المسلمين وأهل الكتاب إلا كتب الله فيها للمسلمين النصر- ما حافظوا على دينهم واستمسكوا بعقيدتهم، وأقاموا منهج الله في حياتهم- وكتب لأعدائهم المذلة والهوان إلا أن يعتصموا بذمة المسلمين أو أن يتخلى المسلمون عن دينهم.
ويكشف القرآن عن سبب هذا القدر المكتوب على يهود. فإذا هو سبب عام يمكن أن تنطبق آثاره على كل قوم، مهما تكن دعواهم في الدين: إنه المعصية والاعتداء:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» .
فالكفر بآيات الله- سواء بإنكارها أصلاً، أو عدم الاحتكام إليها وتنفيذها في واقع الحياة- وقتل الأنبياء بغير حق. وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس كما جاء في آية أخرى في السورة- والعصيان والاعتداء..
هذه هي المؤهلات لغضب الله، وللهزيمة والذلة والمسكنة.. وهذه هي المؤهلات التي تتوافر اليوم في البقايا الشاردة في الأرض من ذراري المسلمين. الذين يسمون أنفسهم- بغير حق- مسلمين! هذه هي المؤهلات التي يتقدمون بها إلى ربهم اليوم، فينالون عليها كل ما كتبه الله على اليهود من الهزيمة والذلة والمسكنة. فإذا قال أحد منهم: لماذا نغلب في الأرض ونحن مسلمون؟ فلينظر قبل أن يقولها: ما هو الإسلام، ومن هم المسلمون؟! ثم يقول! 113- وإنصافاً للقلة الخيرة من أهل الكتاب، يعود السياق عليهم بالاستثناء، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء. فهناك المؤمنون. يصور حالهم مع ربهم، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين. ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين.
«لَيْسُوا سَواءً. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ. وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» ..
وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب. فقد آمنوا إيماناً صادقاً عميقاً، وكاملاً شاملاً، وانضموا للصف المسلم، وقاموا على حراسة هذا الدين.. 114- آمنوا بالله واليوم الآخر.. وقد نهضوا بتكاليف الإيمان، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها- خير أمة أخرجت للناس- فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر..
وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه، فسارعوا في الخيرات، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين. 115- وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يُبخسوا حقاً، ولن يُكفروا أجراً.
مع الإشارة إلى أن الله- سبحانه- علم أنهم من المتقين..
وهي صورة تُرفع أمام الراغبين في هذه الشهادة، وفي هذا الوعد، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير.
116- هذا في جانب.. وفي الجانب الآخر، الكافرون. الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا، ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم. الخير المنبثق من الإيمان بالله، على تصور واضح، وهدف ثابت، وطريق موصول. وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها، وجنوح يصرفه الهوى، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم..
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.(1/450)
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ. وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
..
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل..
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله، ولا تصلح فدية لهم من العذاب، ولا تنجيهم من النار..
وهم أصحاب النار 117- وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيراً. فلا خير إلا أن يكون موصولاً بالإيمان، ونابعاً من الإيمان. ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر. إنما يرسم مشهداً حياً نابضاً بالحياة ...
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب. فهو حرث. ثم إذا العاصفة تهب. إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة! تحرق هذا الحرث بما فيها من صِرّ. واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف، فيصور معناه بجرسه النفاذ. وإذا الحرث كله مدمر خراب! إنها لحظة يتم فيها كل شيء. يتم فيها الدمار والهلاك. وإذا الحرث كله يباب! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا- ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر- ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال.. كلها إلى هلاك وفناء.. دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء..
َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر، فيجعلها خطاً مستقيماً ثابتاً وأصلاً. له هدف مرسوم، وله دافع مفهوم، وله طريق معلوم.. فلا يترك للنزوة العارضة، والرغبة الغامضة، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم..
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود. فإذا ذهب عملهم كله هباء- حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير- وإذا أصاب حرثهم كله الدمار، فلم يغن عنهم مال ولا ولد.. فما في هذا ظلم من الله- تعالى- لهم. إنما هو ظلمهم لأنفسهم، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود.
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان..
يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
118- وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بياناً لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف، وكشفاً لما في جدالهم من مغالطة، وفضحاً لما يريدونه بالمسلمين من سوء، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها، دون أن تلقي بالاً إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين.. في نهاية هذا الدرس، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعين بطانة، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها، وهم للذين آمنوا عدو.. يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت، وفي كل أرض. صورة رسمها هذا القرآن الحي، فغفل عنها أهل هذا القرآن. فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا(1/451)
يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ»
..
إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآئبة. وتسجل بذلك كله نموذجاً بشرياً مكروراً في كل زمان وفي كل مكان.
ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء. يتظاهرون للمسلمين- في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم- بالمودة. فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة. وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار.
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين، وللشر المبيت، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعاً في أعداء الله هؤلاء، وما يزال يفضي إليهم بالمودة، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ويتخذ منهم بطانة وأصحاباً وأصدقاء، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار.. فجاء هذا التنوير، وهذا التحذير، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبداً، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة. ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصوراً على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعاً دائماً.. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود..
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم. بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة. وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة.. المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعاً في كل أمر، وكل شأن، وكل وضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طريق! والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادون من حاد الله ورسوله ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم.
والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل:
«وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» ..
119- والله سبحانه يقول:
«ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» ..
120- والله سبحانه يقول:
«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» ..
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة، ولكننا لا نفيق.. ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر. ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله(1/452)
المسلمون، ولا تغسلها سماحة يعلمها لهم الدين.. ومع ذلك نعود، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق! .. وتبلغ بنا المجاملة، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله. ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي. ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا..
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا- كما علم الجماعة المسلمة الأولى- كيف نتقي كيدهم، وندفع أذاهم، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم، ويفلت على السنتهم منه شواظ:
«وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ..
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع. الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول.. ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده. ومراقبته وحده.. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تعتصم بحبل إلا حبله.. وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته وستشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يواد من حاد الله ورسوله، طلباً للنجاة أو كسباً للعزة! هذا هو الطريق: الصبر والتقوى.. التماسك والاعتصام بحبل الله. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها.. إلا عزوا وانتصروا، ووقاهم الله كيد أعدائهم، وكانت كلمتهم هي العليا. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سراً وجهراً، واستمعوا إلى مشورتهم، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعواناً وخبراء ومستشارين.. إلا كتب الله عليهم الهزيمة، ومكن لأعدائهم فيهم، وأذل رقابهم، وأذاقهم وبال أمرهم..
والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة وأن سنة الله نافذة. فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان..
بهذا ينتهي هذا الدرس وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة. وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة.
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء.
فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء. ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها. إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم، وللكينونة المسلمة.. مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون.. أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعاً وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعاً يتقي الكيد ولكنه لا يكيد، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد. إلا أن يحارب في دينه، وأن يفتن في عقيدته، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه.
فحينئذ هو مطالب أن يحارب، وأن يمنع الفتنة، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله، وعن تحقيق منهجه في الحياة. يحارب جهاداً في سبيل الله لا انتقاماً لذاته. وحباً لخير البشر لا حقداً على الذين آذوه. وتحطيماً للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس. لا حباً للغلب والاستعلاء والاستغلال.. وإقامة(1/453)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام. لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية! هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص.
إن هذا المنهج خير. وما يصد البشرية عند إلا أعدى أعداء البشرية. الذين ينبغي لها أن تطاردهم، حتى تقصيهم عن قيادتها.. وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة، فأدته مرة خير ما يكون الأداء.
وهي مدعوة دائماً إلى أدائه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.. تحت هذا اللواء..
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 179]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)(1/454)
من معركة الجدل والمناظرة، والبيان والتنوير، والتوجيه والتحذير- فيما سبق من السورة- ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان.. معركة أحد..
وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه.. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم.. وكان القرآن هناك. يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولاً، وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين.
وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة- بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم. وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك. ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.(1/457)
وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر- بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة.. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة. وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيراً كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم. وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة. وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة. وكان ما شاءه الله وما دبره. وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير.
ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع.. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح. والرغبات الدفينة.
ولعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام- في صدد التعقيب على معركة حربية- عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائج السيئة للمعركة! ثم.. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب..
ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل. فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب.. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة.. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى الله! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج الله القويم. المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها- لا في نظام الحكم وحده- وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي. والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام! والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن- كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده.
إنما كانت معركة في الميدان الأكبر. ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية.. ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة(1/458)
وعدم الإصرار فجعلها كلها مناط الرضوان. كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولين قلبه للناس. وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات. وعلى الأمانة التي تمنع الغلول.
وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات..
عرج على هذا كله. لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها. معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير. الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.
وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله. ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله، والعبودية له، والتوجه إليه في حساسية وتقوى. وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها، في كل حال من أحوالها. وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج. وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثير كل حركة من حركات النفس، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.
وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة. فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في «أحد» إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب. والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي. وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك.
كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته.. حقيقة قدر الله. ورد الأمر إليه جملة.
وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحاً حاسماً جازماً. وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم، وخطئهم وإصابتهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه. واعتبارهم بعد هذا كله ستاراً للقدرة، وأداة للمشيئة، وقدراً من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه.
ثم.. في النهاية.. إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء. إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره، من خلال جهادها. وأجرها هي على الله. وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض. ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء. إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله. وكذلك الهزيمة. فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلية الحقائق، وإقرار القيم، وإقامة الموازين، وجلاء السنن للمستبصرين..
ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة. وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس. ليكون كل نصر نصراً لله ولمنهج الله. وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله.
وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية. ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية. إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات(1/459)
الحق. والحق واحد لا يتعدد. إنه منهج الله وحده. ولا حق في هذا الكون غيره. وانتصاره لا يتم حتى يتم أولاً في ميدان النفس البشرية. وفي نظام الحياة الواقعية. وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها. وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق. وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة. وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها.
حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصاراً. في ميزان الله. وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة! ومن ثم كان ذلك الازدواج، وكان ذلك الشمول، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد، في ذلك الميدان الفسيح، الذي يعد ميدان القتال جانباً واحداً من جوانبه الكثيرة.
وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم، في تناول الوقائع والأحداث:
كان المسلمون قد انتصروا في بدر، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه- في ظل الظروف التي وقع فيها- رائحة المعجزة. وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش. فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب- بعد ذهاب أشرافهم في بدر- فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر. وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين.
وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش «1» وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد.
واستشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألاَّ يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت «2» . ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي (رأس المنافقين) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة- ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر- فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض- صلى الله عليه وسلم- ودخل بيته- بيت عائشة- رضي الله عنها- ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا: أكرهنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الخروج! فقالوا:
يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» .. وألقى عليهم بذلك درساً نبوياً عاليا فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله. ولم يعد هناك مجال للتردد، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء.. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء..
__________
(1) هم من الأعراب. وقد سموا كذلك لتحالفهم إلى جوار مكان يقال له: الأحبش.
(2) اعتمدنا في تقرير أن هذا كان رأي النبي- صلى الله عليه وسلم- على ما قرره الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه: زاد المعاد. [.....](1/460)
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقراً تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة.. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون. وتأول الدرع بالمدينة.. وكان إذن يرى عاقبة المعركة. ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى، ونظام الحركة بعد الشورى.. لقد كان يربي أمة. والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث.. ثم لقد كان يُمضي قدر الله، الذي تستقر عليه مشاعره، ويستقر عليه قلبه، فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول..
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، فلما صار بين المدينة وأحد، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال:
يخالفني ويسمع للفتية! فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- يوبخهم ويحضهم على الرجوع. ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم.
وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود.. فأبي- صلى الله عليه وسلم- فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله- حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له- وقال: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟» فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.
فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله ابن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش. وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
وظاهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير. وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد ابن أرقم، وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزام. وأجاز من رآه مطيقاً. وكان منهم سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة! وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة. وكان شجاعاً بطلاً يختال عند الحرب.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق. وكان يسمى «الراهب» فسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «الفاسق» . وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحضهم على قتاله. ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً.(1/461)
ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسناً. هو وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، والنضر بن أنس، وسعد بن الربيع..
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم. وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين. حتى انتهوا إلى نسائهم. وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات! فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا يبرحوها. وقالوا: يا قوم، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد! عندئذ أدركها خالد، فكّر في خيل المشركين، فوجدوا الثغر خالياً فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين. وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالداً والفرسان قد علوا المسلمين، فأحاطوا بهم! وانقلبت المعركة، فدارت الدائرة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد. وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة، وخلص المشركون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا.
وقد جرح وجهه- صلى الله عليه وسلم- وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.
وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمداً قتل.. فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالاً، مما أصابهم من اليأس والكلال! ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر- رضي الله عنه- وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد! فقاتل حتى قتل.. ووجد به بضع وسبعون ضربة. ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه..
وأقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحو المسلمين. وكان أول من عرفه تحت المغفر، كعب بن مالك. فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين. أبشروا. هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأشار بيده:
أن اسكت. واجتمع إليه المسلمون. ونهضوا معه إلى الشعب. وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.. فلما امتدوا صعوداً في الجبل أدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبي بن خلف على جواد له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمداً. فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.. فلما أدركه تناول- صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته. فذهب يخور كالثور. وقد أيقن أنه مقتول. كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته! وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تجيبوه.
فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة. فقال: مخاطباً قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر- رضي الله عنه- نفسه(1/462)
أن قال: يا عدو الله. إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله لك ما يسؤوك! فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة- رضي الله عنه- بعد أن قتله وحشي حين بقرت بطنه، واستخرجت كبده. فلاكتها ثمّ لفظتها!) ثم قال: اعل هبل! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال:
قولوا: الله أعلى وأجل. قال: لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر- رضي الله عنه-: لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال.
فشق ذلك عليهم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- «أخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون. فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة. وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. فو الذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها» ..
قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون. فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة.
فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: «لا يخرج معنا إلا من شهد القتال. فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك. قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف وقالوا: سمعاً وطاعة. وأستأذنه جابر بن عبد الله. وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذّله، فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه، فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة.
ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة فقال: هل لك أن تبلغ محمداً رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيباً إذا أتيت إلى مكة؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمداً أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون. ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين. فعادوا إلى المدينة..
وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها، مما هو موضع المثل والعبرة.. ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه:
كان عمرو ابن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أفرد في فترة(1/463)
اضطراب المعركة، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم، وإحاطة الكفار بالمسلمين، والصيحة بأن محمداً قتل، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم.
وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتالا شديدا. وقد ضربت عمر بن قميثة بسيفها ضربات عدة، ولكن وقته درعان كانتا عليه. وضربها هو بالسيف فجرحها جرحاً شديداً على عاتقها..
وكان أبو دجانة يترّس بظهره على النبي- صلى الله عليه وسلم- والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعاً إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقف دونه وحده، حتى يصرع.. في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: لما كان يوم أحد، انصرف الناس كلهم عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فكنت أول من فاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فرأيت بين يديه رجالا يقاتل عنه ويحميه. قلت: كن طلحة! فداك أبي وأمي! كن طلحة! فداك أبي وأمي! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح. وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فإذا طلحة بين يديه صريعا. فقال صلى الله عليه وسلم: «دونكم أخاكم فقد أوجب» . وقد رُمي النبي- صلى الله عليه وسلم- في وجنته، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته. فذهبت لأنزعها عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة. قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه، فجعل ينضنضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «دونكم أخاكم فقد أوجب» قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة.
وجاء علي- كرم الله وجهه- بالماء لغسل جرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة- رضي الله عنها- تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم.
وقد مصّ مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أنقاه. فقال له:
«مجه» فقال: والله لا أمجه أبداً! ثم ذهب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» ..
وفي صحيح مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: «من يردهم عني وله الجنة؟» فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال:
«من يردهم عني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة» .. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما انصفنا أصحابنا» .. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه. وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة.. وقد بلغ الإعياء برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة.
فصلى بهم جالساً.
ومن أحداث هذا اليوم كذلك:(1/464)
إن حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل) شد على أبي سفيان، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله. وكان جنباً. فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته، قام من فوره إلى الجهاد. فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر! وقال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. قال:
فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. فقلت: يا سعد. إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام، ويقول لك:
أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السلام. قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرف.. وفاضت نفسه من وقته.
ومن رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان. أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم، قبل أُحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام. فقلت. وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء. قلت له ألم تقتل يوم بدر؟ فقال: بلى. ثم أحييت. فذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هذه الشهادة يا أبا جابر» ..
وقال خيثمة- وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمت إبني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً. وقد- والله يا رسول الله- أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة. وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي. فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة.
فدعا له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك. فقتل بأحد شهيداً.
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني. ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك! وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو بن الجموح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله. إن بنيّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك. والله إني لأرجو أن استشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد» .
وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟» .. فخرج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقتل يوم أحد شهيداً.
وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله، لا يعرفونه، وهم يظنونه من المشركين. فقال حذيفة: أي عباد الله، أبي. فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال: يغفر الله لكم. فأراد(1/465)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يؤدي ديته. فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين. فزاد ذلك حذيفة خيراً عند رسول الله.
وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس. وكنت رجلاً حبشياً، أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا، ما يقوم له شيء. فو الله إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني.
إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه، فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه. وذهب لينوء نحوي فغلب. وتركته وإياها حتى مات. ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر، فقعدت فيه. إذ لم تكن لي بغيره حاجة. إنما قتلت لأعتق..
وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فبقرت بطن حمزة، وأخرجت كبده، ولاكتها فلم تقدر عليها. فألقتها..
ولما وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد المعركة على جثمان حمزة- رضي الله عنه- تأثر تأثرا شديدا. وقال- صلى الله عليه وسلم-: «لن أصاب بمثلك أبداً. وما وقفت قط موقفاً أغيظ إلي من هذا» ..
ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكلت شيئاً؟» قالوا: لا. قال: «ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار» ..
وقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة. وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم. فنادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- برد القتلى إلى مصارعهم فردوا. ووقف- صلوات الله وسلامه عليه- يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد. وكان يسأل: أيهم أكثر أخذاً في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجلَ قدمه في اللحد. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة. فقال: «ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد» .
هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة، وفي تاريخ النفاق والهزيمة! وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت- وفق سنة الله وقدره- هذه النتائج التي ذاقها المسلمون وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام. وقد دفعوا الثمن غالياً ليتلقوا الدرس عالياً، وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية..
فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن.(1/466)
إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه..
وهو لا يعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها والسنن الكونية التي تحكمها والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محوراً أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات، والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها ثم يستطرد حولها ثم يعود إليها ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة ويكرر هذا مرة بعد مرة، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر، فجلاها. ونقاها، وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقاً، ولا تحس فيها لبساً ولا دخلاً..
وينظر الإنسان في رقعة المعركة، وما وقع فيها- على سعته وتنوعه- ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال، على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان..
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان..
وسنعرض لها متجمعة- إن شاء الله- بعد استعراضها متفرقة في النصوص..
121- «وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، والله سميع عليم. إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون» ..
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره- وقد كان قريباً من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو، واستحضار المشهد الأول بهذا النص، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه- من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله- سبحانه- معهم، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي، بكل تكاليفه، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها، وبكل حيويتها كذلك:
«وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ.. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ..» ..
والإشارة هنا إلى غدو النبي- صلى الله عليه وسلم- من بيت عائشة- رضي الله عنها- وقد لبس لأمته ودرعه بعد التشاور في الأمر، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- للصفوف، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل..
وهو مشهد يعرفونه، وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه:(1/467)
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
ويا له من مشهد، الله حاضره! ويا له من موقف، الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله. وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر.
122- واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول، هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق «عبد الله بن أبي بن سلول» حين انفصل بثلث الجيش، مغضبا أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه، واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال: «لو نعلم قتالاً لاتبعناكم!» فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه، ويطغى في ذلك القلب على العقيدة.. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها، ولا تطيق لها فيه شريكاً! فإما أن يخلص لها وحدها، وإما أن تجانبه هي وتجتويه! «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
وهاتان الطائفتان- كما ورد في الصحيح- من حديث سفيان بن عيينة- هما بنو حارثة وبنو سلمة. أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبيّ، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم، من أول خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته، كما أخبر هذا النص القرآني:
«وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» ..
قال عمر- رضي الله عنه- سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» .. قال: نحن الطائفتان.. بنو حارثة وبنو سلمة.. وما نحب (أو وما يسرني) أنها لم تنزل، لقوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» .. (رواه البخاري ومسلم) ..
وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة ثم وقاهم الله إياه، وصرفه عنهم، وأيدهم بولايته، فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة، واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم.. لتصوير خلجات النفوس، وإشعار أهلها حضور الله معهم، وعلمه بمكنونات ضمائرهم- كما قال لهم: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» - لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف، ويدب فيهم الفشل، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئاً من هذا وأين يلتجئون. ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين:
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون. فليس لهم- إن كانوا مؤمنين- إلا هذا السند المتين.
وهكذا نجد في الآيتين الأوليين، اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها، هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي، وفي التربية الإسلامية:
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..(1/468)
نجدهما في أوانهما المناسب، وفي جوهما المناسب حيث يلقيان كل إيقاعاتهما، وكل إيحاءاتهما، في الموعد المناسب وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع.. ويتبين- من هذين النصين التمهيديين- كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها بالتعقيب على الأحداث، وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها، وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ولكنها لا تستهدف القلب البشري، والحياة البشرية، بالإحياء والاستجاشة، وبالتربية والتوجيه. كما يستهدفها القرآن الكريم، بمنهجه القويم.
123- هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون- وقد كادوا- وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم. وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين. ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة، عن المصير الذي انتهت إليه، بسبب ذلك الخلل في الصف، وبسبب ذلك الغبش في التصور..
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة، يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر- معركة بدر- لتكون هذه أمام تلك، مجالاً للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة، وأسباب النصر وأسباب الهزيمة. ثم- بعد ذلك- ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء. وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين، وفي جميع الأحوال:
«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ- وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ- فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ؟ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ- أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»
..
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة- كما أسلفنا- فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر.
لم تكن الكفتان فيها- بين المؤمنين والمشركين- متوازنتين ولا قريبتين من التوازن. كان المشركون حوالي ألف، خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان، لحماية القافلة التي كانت معه، مزودين بالعدة والعتاد، والحرص على الأموال، والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة، إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها فلم يكن معهم- على قلة العدد- إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم، ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة، وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة! فبهذا كله يذكرهم الله- سبحانه- ويرد ذلك النصر إلى سببه الأولى في وسط هذه الظروف:(1/469)
«وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ. وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
إن الله هو الذي نصرهم ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات. وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر وأن تجعله شكراً وافياً لائقاً بنعمة الله عليهم على كل حال.
124- هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسنهم، كأنهم اللحظة فيها:
«إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ؟ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» ..
وكانت هذه كلمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، للقلة المسلمة التي خرجت معه والتي رأت نفير المشركين، وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر، لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما بلغه يومها ربه، لتثبيت قلوبهم وأقدامهم، وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. 125- وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة:
«بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» «1» ..
126- فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه، وأن الفاعلية كلها منه- سبحانه- وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم لتأنس بهذا وتستبشر، وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة، ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة:
«وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ..
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله، كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة، وإرادته الفاعلة، وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ..
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي، وعلى تنقيتها من كل شائبة، وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب.
بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط. كما هي في عالم الحقيقة..
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد، استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين، على نحو بديع، هادئ، عميق، مستنير.
عرفوا أن الله هو الفاعل- وحده- وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب، وبذل الجهد، والوفاء بالتكاليف.. فاستيقنوا الحقيقة، وأطاعوا الأمر، في توازن شعوري وحركي عجيب!
__________
(1) فورهم هذا: أي من جهتهم هذه- مسومين: أي معلمين لهم علامة تميزهم.(1/470)
ولكن هذا إنما جاء مع الزمن، ومع الأحداث، ومع التربية بالأحداث، والتربية بالتعقيب على الأحداث..
كهذا التعقيب، ونظائره الكثيرة، في هذه السورة..
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول- صلى الله عليه وسلم- يعدهم الملائكة مدداً من عند الله إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة- حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا.. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل- من وراء نزول الملائكة- وهو الله. الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته، ويتحقق النصر بفعله وإذنه.
«اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ..
«فهو العزيز» القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر. وهو «الْحَكِيمِ» الذي يجري قدره وفق حكمته.
والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة..
127- ثم يبين حكمة هذا النصر.. أي نصر.. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء:
«لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ- أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» ..
إن النصر من عند الله. لتحقيق قدر الله. وليس للرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله، وبالتأييد من عنده. لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده:
«لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» ..
فينقص من عددهم بالقتل، أو ينقص من أرضهم بالفتح، أو ينقص من سلطانهم بالقهر، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة! «أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» ..
أي يصرفهم مهزومين أذلاء، فيعودوا خائبين مقهورين.
128- «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» ..
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم، فيتوب الله عليهم من كفرهم، ويختم لهم بالإسلام والهداية..
«أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» ..
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم. أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر، وظلمهم بفتنة المسلمين، وظلمهم بالفساد في الأرض، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه.. إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
وعلى أية حال فهي حكمة الله، وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده- سبحانه- فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك.
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك(1/471)
يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء، إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً.
وبذلك يرد أمر الناس- طائعهم وعاصيهم- إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده- سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء.. وليس للنبي- صلى الله عليه وسلم- وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج، وأجرهم من الله على الوفاء، وعلى الولاء، وعلى الأداء.
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» فسيرد في السياق قول بعضهم:
«هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» .. وقولهم: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.» .. ليقول لهم: إن أحداً ليس له من الأمر من شيء. لا في نصر ولا في هزيمة. إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله. ليس لأحد منه شيء. ولا حتى لرسول الله.. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي.
وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث، وأكبر من شتى الاعتبارات..
129- ويختم هذا التذكير ببدر، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن الأمر لله في الكون كله، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء:
«وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
فهي المشيئة المطلقة، المستندة إلى الملكية المطلقة. وهو التصرف المطلق في شأن العباد، بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض. وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد، في المغفرة أو في العذاب. إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل، وبالرحمة والمغفرة. فشأنه- سبحانه- الرحمة والمغفرة:
«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته، بالعودة إليه، ورد الأمر كله له، وأداء الواجب المفروض، وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب.
130- وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة- معركة أحد- والتعقيبات على وقائعها وأحداثها..
تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى، التي ألمعنا في مقدمة الحديث إليها. المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة.. يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله. وعن الإنفاق في السراء والضراء، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون. وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة. وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» ..
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة:(1/472)
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله والعبودية له، والتوجه إليه بالأمر كله. والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، وفي كل جانب من جوانب نشاطها. ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل ألوان النشاط الإنساني وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله، كما أسلفنا.
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق. ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب، والسيطرة على الأهواء والشهوات، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة.. فكلها قريب من قريب.. وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات، وكل توجيه من هذه التوجيهات، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال «1» فلا نكرر الحديث عنه هنا.. ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة. فإن قوماً يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص، ويتداروا به، ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة. أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة.. فليست أضعافاً مضاعفة. وليست داخلة في نطاق التحريم! ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطاً يتعلق به الحكم. والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا- بلا تحديد ولا تقييد: «وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» .. أياً كان! فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف، لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفاً تاريخياً فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات. إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت، أياً كان سعر الفائدة.
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة. ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة. فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى. فهي تنشئ مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافاً مضاعفة بلا جدال.
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائماً هذا الوصف. فليس هو مقصوراً على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب. إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان.
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية- كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث- كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية- كما فصلنا ذلك أيضاً- ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها، وتأثيره في مصائرها جميعاً.
والإسلام- وهو ينشئ الأمة المسلمة- كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية. وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف. 131- فالنهي عن أكل
__________
(1) ص 318 إلى ص 328 من الجزء الثالث(1/473)
الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوماً في هذا المنهج الشامل البصير..
أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح واتقاء النار التي أعدت للكافرين.. أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك وهو أنسب تعقيب:
إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين.. ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله، ويعزل نفسه من صفوف الكافرين.. والإيمان ليس كلمة تقال باللسان إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان. وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية، وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته.
ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان. وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة وهناك النار التي أعدت للكافرين! والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة.. والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله، وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين، ليس عبثاً ولا مصادفة. إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين.
وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله.. فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى، ولتحقيق منهج الله في حياة الناس.. ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية، وويلاته البشعة في حياة الإنسانية. فلنرجع إلى هذا البيان هناك. لندرك معنى الفلاح هنا، واقترانه بترك النظام الربوي المقيت! 132- ثم يجيء التوكيد الأخير:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول، وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة. ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة. هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره.. وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيداً بعد توكيد..
وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول، بوصفها وسيلة الفلاح، وموضع الرجاء فيه..
133- ثم لقد سبق في سورة البقرة- في الجزء الثالث- أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا، والحديث عن الصدقة. بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم: النظام الربوي. والنظام التعاوني.. فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء..
فبعد النهي عن أكل الربا، والتحذير من النار التي أعدت للكافرين، والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح.. بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة وإلى جنة عرضها السماوات والأرض (أعدت للمتقين) ..
ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» - فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة- ثم تجيء بقية الصفات والسمات:
«وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ..»(1/474)
والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية.. يصوره سباقاً إلى هدف أو جائزة تنال:
«وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» .. «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .. سارعوا فهي هناك: المغفرة والجنة.. «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ..
134- ثم يأخذ في بيان صفات المتقين:
«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» ..
فهم ثابتون على البذل، ماضون على النهج، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء. السراء لا تبطرهم فتلهيهم. والضراء لا تضجرهم فتنسيهم. إنما هو الشعور بالواجب في كل حال والتحرر من الشح والحرص ومراقبة الله وتقواه.. وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها، المحبة للمال بفطرتها.. ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال، إلا دافع أقوى من شهوة المال، وربقة الحرص، وثقلة الشح.. دافع التقوى. ذلك الشعور اللطيف العميق، الذي تشف به الروح وتخلص، وتنطلق من القيود والأغلال..
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة. فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل- كما سيأتي في السياق القرآني- مكرراً كذلك. مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله.
«وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» ..
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل، بنفس البواعث ونفس المؤثرات. فالغيظ انفعال بشري، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم فهو إحدى دفعات التكوين البشري، وإحدى ضروراته. وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات.
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى. وهي وحدها لا تكفي. فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين.. وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن.. لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين.. إنها العفو والسماحة والانطلاق..
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه وشواظ يلفح القلب ودخان يغشى الضمير.. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير.
«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون. والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون.. والله «يُحِبُّ» المحسنين.. والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم..
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه. وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب.. فليس هو مجرد التعبير الموحي، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير! والجماعة التي يحبها الله، وتحب الله.. والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان.. هي(1/475)
جماعة متضامة، وجماعة متآخية، وجماعة قوية. ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق! 135- ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين:
«وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
يا لسماحة هذا الدين! إن الله- سبحانه- لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته- سبحانه وتعالى- معهم. ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا:
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين.. ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين «الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» .. والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها. ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله. ولا تجعلهم في ذيل القافلة.. قافلة المؤمنين.. إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة.. مرتبة «المتقين» .. على شرط واحد. شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته..
أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.. وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية. فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع. يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه. حين يرتكب الفاحشة.. المعصية الكبيرة.. وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر.. وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير.. إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر. فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده. ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته.
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذاً حائراً في التيه! ولا يدعه مطروداً خائفاً من المآب.. إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين.
شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله.. وما دام يذكر الله. ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي. ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي. ما دام في قلبه ذلك الندى البليل.. فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.
إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط- لا سواه- في الدار.. سيروح آبقاً شارداً لا يثوب إلى الدار أبداً. فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يداً حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة.. فإنه سيعود! وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه.. فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف(1/476)
قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية.. فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد. ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «1» والإسلام لا يدعو- بهذا- إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف «الواقعية» ! إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار.
فأما الذين يستهترون ويصرون، فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار! وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها. ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها» .
... هؤلاء المتقون ما لهم؟
«أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» ..
فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية. كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.. إنما هم عاملون. «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» .. المغفرة من ربهم، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله.. فهنالك عمل في أغوار النفس، وهنالك عمل في ظاهر الحياة. وكلاهما عمل، وكلاهما حركة، وكلاهما نماء.
وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق.. وكما أن للنظام الربوي- أو النظام التعاوني- أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.. فالانتصار على الشح، والانتصار على الغيظ، والانتصار على الخطيئة، والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه.. كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة. وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح! وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يُخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته. ففي هذا تكون العداوة، وفي هذا تكون المعركة، وفي هذا يكون الجهاد.
وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد. فهو إنما يعادي لله، ويعارك لله، ويجاهد لله! فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق.. كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة. من مخالفة عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة. ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبيّ ومن معه.
ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى- كما سيرد في السياق- ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله، وسؤال بعضهم: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» ؟ وقول بعضهم: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» ..
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد.. وفي سنده صحابي مجهول ولكن ابن كثير في تفسيره صححه وقال: «حديث حسن» .
(2) يراجع بتوسع فصل: «سلام الضمير» في كتاب: «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق» .(1/477)
والقرآن يتناول هذه الملابسات كلها، واحدة واحدة، فيجلوها، ويقرر الحقائق فيها، ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها.. على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق.
بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق.
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان. فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها. وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ووقف المسلمين أمام الموت وجهاً لوجه وقد كانوا يتمنونه، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي! ثم في النهاية محق الكافرين، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة.
137- «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ- إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ؟ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: «أَنَّى هذا؟» وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي:
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ. ومداولة الأيام بين الناس. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعدائهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى(1/478)
منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين.
«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.
وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم- قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام- وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا..
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وما جريات حياتهم فضلاً على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلاً على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعاً.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى الله تصير الأمور.. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان- بعد هذا- إلى مشيئته الطليقة! «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» ..
وهي هي التي تحكم الحياة. وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة. فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله- بمشيئة الله- في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.
«فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» ..
فالأرض كلها وحدة. والأرض كلها مسرح للحياة البشرية. والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر.
«فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ..
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة. بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه.
وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:
إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً. ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة. وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير. وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.
138- وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:
«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..
هذا بيان للناس كافة. فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي. ولكن طائفة(1/479)
خاصة هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة، وتنتفع به وتصل على هداه.. طائفة «المتقين» ..
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى. والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها.. والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال.. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل. إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه.. والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى.. ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات. تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق، ومن هدى، ومن نور، ومن موعظة، ومن عبرة.. إنما هي للمؤمنين وللمتقين. فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة. وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة.. واحتمال مشقات الطريق.. وهذا هو الأمر، وهذا هو لب المسألة.. لا مجرد العلم والمعرفة.. فكم ممن يعلمون ويعرفون، وهم في حمأة الباطل يتمرغون. إما خضوعاً لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة، وإما خوفاً من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة! 139- وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت:
«وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لا تهنوا- من الوهن والضعف- ولا تحزنوا- لما أصابكم ولما فاتكم- وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى. فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى. فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون. وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا. فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:
140- «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر. وقد مس القرح فيها المشركون وسلم المسلمون. وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد. وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر. حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد. حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها.. ثم كانت الدولة للمشركين، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختلفوا فيما بينهم. فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة. جزاء وفاقاً لهذا الاختلاف وذلك الخروج، وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة. والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد. وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس- وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم- فتكون لهؤلاء يوماً ولأولئك يوماً. ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون. كما تتكشف الأخطاء. وينجلي الغبش.
«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» ..(1/480)
إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين. والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.
ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة.
وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.
وقد كان الله يربي هذه الجماعة- وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب- وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة لله، وتوكلاً عليه، والتصاقاً بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس، وفيما بعد تمييز الصفوف، وعلم الله للمؤمنين:
«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» ..
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه- سبحانه- فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه- سبحانه- ويخصهم بقربه.
ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة.
يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله- سبحانه- منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال! وكل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لا يقال له إنه شهد، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها. ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إليها. ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من(1/481)
الله. فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد وأخص خصائص العبودية التلقي من الله.. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله. ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر..
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد- صلى الله عليه وسلم- فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد- صلى الله عليه وسلم- هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء.
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله، فهو إذن شهيد. أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها. واتخذه الله شهيداً.. ورزقه هذا المقام.
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ..» ..
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومقتضاه.. لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع! «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ..
والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك. بوصفه أظلم الظلم وأقبحه. وفي القرآن: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أنه قال: قلت: يا رسول الله. أي الذنب أعظم؟ قال:
«أن تجعل لله ندا وهو خلقك ... » ..
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين. فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله. والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين. وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد، لها مناسبتها الحاضرة. فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه. وهذا هو مقام الاستشهاد، وفي هذا تكون الشهادة ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء..
141- ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين:
«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز. التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب..
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية- إن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيأ(1/482)
لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله- سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض.
فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:
«وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص..
142- وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي. وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:
«وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .. «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ..
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان. فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات. والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها، في الطريق المحفوف بالمكاره. طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان! 143- «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
وهكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه. ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان. فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في(1/483)
ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة. حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس! ولقد كان الله- سبحانه- قادراً على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء. وكان قادراً أن ينزل الملائكة تقاتل معهم- أو بدونهم- وتدمر على المشركين، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط..
ولكن المسألة ليست هي النصر.. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها وبكل شهواتها ونزواتها وبكل جاهليتها وانحرافها.. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج..
ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة. وصبر على الشدة بعد الرخاء. وطعمها يومئذ لاذع مرير! ..
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض. وقد شاء- سبحانه- أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض! وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها- في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدة. فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله. وتجرب مرارة الهزيمة وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد.. ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد..
وقد كان هذا كله طرفاً من رصيد معركة أحد الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة- على نحو ما نرى في هذه الآيات- وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.
144- ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد:
«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ(1/484)
الْكافِرِينَ. فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»
..
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة، حدثت في غزوة أحد. ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل، فركبه المشركون، وأوقعوا بالمسلمين، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه، ونزفت جراحه وحين اختلطت الأمور، وتفرق المسلمون، لا يدري أحدهم مكان الآخر.. حينئذ نادى مناد: إن محمداً قد قتل.. وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين.
فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة، مصعدين في الجبل منهزمين، تاركين المعركة يائسين.. لولا أن ثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تلك القلة من الرجال وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون، حتى فاءوا إليه، وثبت الله قلوبهم، وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة.. كما سيجيء..
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ويجعلها محوراً لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين:
«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ..
إن محمداً ليس إلا رسولاً. سبقته الرسل. وقد مات الرسل. ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله..
هذه حقيقة أولية بسيطة. فما بالكم غفلتم عنها حينما وواجهتكم في المعركة؟! إن محمداً رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل.. وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول. وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة! إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة. وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره- صلى الله عليه وسلم-.. هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد- صلى الله عليه وسلم- والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.
إن الدعوة أقدم من الداعية:
«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» ..
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق.
وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق- سبحانه- يتوجه إليه المؤمنون..
وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله. والله حي لا يموت:(1/485)
ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المنير:
«أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ..
وفي التعبير تصوير حي للارتداد: «انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» .. «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ» . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، كأنه منظر مشهود، والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إن محمداً قد قتل، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين، وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس- رضي الله عنه- فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم، وقالوا له: إن محمداً قد مات: «فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم» .
«وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» ..
فإنما هو الخاسر، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئاً. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه- رحمة منه بالعباد- شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم، ولخيرهم هم. وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق، وتعوج الأمور كلها، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة، وتستقيم في ظله النفوس، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.
«وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ..
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج، فيشكرونها باتباع المنهج، ويشكرونها بالثناء على الله، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى..
وكأنما أراد الله- سبحانه- بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد- صلى الله عليه وسلم- ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه من قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه! وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون! وكأنما كان الله- سبحانه- يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى- حين تقع- وهو- سبحانه- يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم. فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو، وبدعوته الباقية، قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول.(1/486)
ولقد أصيبوا- حين وقعت بالفعل- بالدهش والذهول. حتى لقد وقف عمر- رضي الله عنه- شاهراً سيفه، يهدد به من يقول: إن محمداً قد مات! ولم يثبت إلا أبو بكر، الموصول القلب بصاحبه، وبقدر الله فيه، الاتصال المباشر الوثيق. وكانت هذه الآية- حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين- هي النداء الإلهي المسموع، فإذا هم يثوبون ويرجعون! 145- ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية، لمسة موحية، تطرد ذلك الخوف، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير، ومن ابتلاء للعباد وجزاء:
«وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها. وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» ..
إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم. ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم. فالخوف والهلع، والحرص والتخلف، لا تطيل أجلاً. والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً. فلا كان الجبن، ولا نامت أعين الجبناء. والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد! بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية. وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع. وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده.
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول.. فإنه إذا كان العمر مكتوباً، والأجل مرسوماً.. فلتنظر نفس ما قدمت لغد ولتنظر نفس ماذا تريد.. أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ .. مع تساوي هذا الهم وذلك فيما يختص بالعمر والحياة؟! «وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها» .
وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها.. إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب. والذي يتطلع إلى الأفق الآخر.. إنما يحيا حياة «الإنسان» الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب.. «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» ..
«وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» ..
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان..
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف- وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس،(1/487)
في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار. فتختار الدنيا أو تختار الآخرة. وتنال من جزاء الله ما تختار! 146- ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم. من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان.. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء وتأدبوا- وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيماني في هذا المقام.. مقام الجهاد.. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم وأن يجسموا أخطاءهم فيروها «إِسْرافاً» في أمرهم. وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار.. وبذلك نالوا ثواب الدارين، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد. وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
لقد كانت الهزيمة في «أحد» ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية. فلما أن صدمتهم أحد، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه! ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم. واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة، وبالاستنكار تارة، وبالتقرير تارة، وبالمثل تارة، تربية لنفوسهم، وتصحيحاً لتصورهم، وإعداداً لهم.
فالطريق أمامهم طويل، والتجارب أمامهم شاقة، والتكاليف عليهم باهظة، والأمر الذي يندبون له عظيم.
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام، لا يحدد فيه نبياً، ولا يحدد فيه قوماً. إنما يربطهم بموكب الإيمان ويعلمهم أدب المؤمنين ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد.
وأنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا» ..
.. وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة. فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح. وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.. فهذا هو شأن المؤمنين، المنافحين عن عقيدة ودين..
«وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» ..
الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون..
والتعبير بالحب من الله للصابرين. له وقعه. وله إيحاؤه. فهو الحب الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير! 147- وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء. فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم. صورة الأدب في حق الله، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس، ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه. ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله.. لا لتطلب النصر أول ما تطلب- وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:(1/488)
«وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء. بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء.. لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة. لقد كانوا أكثر أدباً مع الله، وهم يتوجهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله. فلم يطلبوا منه- سبحانه- إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام.. والنصر على الكفار. فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار.. إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.
148- وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً، أعطاهم الله من عنده كل شيء. أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة. وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه:
«فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا، وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» ..
وشهد لهم- سبحانه- بالإحسان. فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم. وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:
«وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي. وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة. وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل..
149- ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة واتخاذها محوراً للتعقيبات، يتوخى بها تصحيح التصور، وتربية الضمائر، والتحذير من مزالق الطريق، والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد، وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالاً لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة. وكانت المدينة لم تخلص بعد للإسلام بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير. نبتة غريبة أحاطتها «بدر» بسياج من الرهبة، بما كان فيها من النصر الأبلج. فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم، وأن ينفثوا سمومهم وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين- وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة- ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف.
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه- وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها- نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ونسمعه- سبحانه- يعدهم النصر على عدوهم، وإلقاء الرعب في قلبه ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة، حسب وعده لهم والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه، في صورة فائضة بالحيوية والحركة. ثم ما أعقب الهزيمة والفزع، من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين، الذين ساء ظنهم بالله سبحانه. ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف، في سير الأحداث سيرتها تلك، مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد. ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت(1/489)
والاستشهاد. ويردهم إلى حقيقة البعث، التي ينتهي إليها الناس.. ماتوا أو قتلوا.. وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال:
149- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ! وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً، نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ. يَقُولُونَ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ- إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى-: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» ..
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة الحيوية، ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي، وفي الحياة الإنسانية. وفي السنن الكونية.. نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة، فلا تدع منها جانباً إلا سجلته تسجيلاً يستجيش المشاعر والخواطر وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضاراً للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها، وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية لمصاحبة لها.. من كل تصوير آخر رود في روايات السيرة- على طولها وتشعبها- ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس، البانية للتصور الصحيح.
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها، وهذه الحقائق كلها، في هذا القدر من الألفاظ والعبارات- مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو- أمر غير معهود في التعبير البشري. يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب، وطاقات الأداء، وبخاصة من يعالجون منهم التعبير، ويعانون أسرار الأداء! 149- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» ..
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح، ليثبطوا عزائمهم، ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد، ويصوروا لهم مخاوف القتال، وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم.. وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب، وخلخلة الصفوف، وإشاعة عدم الثقة في القيادة والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء وتزيين الانسحاب منها، ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة، ثم لهدم كيان العقيدة، ثم للاستسلام(1/490)
للأقوياء الغالبين! ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا. فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة. فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر. فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار، ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه كافراً- والعياذ بالله- ومحال أن يقف سلبياً بين بين، محافظاً على موقفه، ومحتفظاً بدينه.. إنه قد يخيل إليه هذا.. يخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم، وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير. فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان، لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين، والاستماع إليهم، والثقة بهم يتنازل- في الحقيقة- عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى..
إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته، وأن يستمع إلى وسوستهم، وأن يطيع توجيهاتهم..
الهزيمة بادئ ذي بدء. فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية، والارتداد على عقبيه إلى الكفر، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس.. إن المؤمن يجد في عقيدته، وفي قيادته، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته. فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب.. حقيقة فطرية وحقيقة واقعية، ينبه الله المؤمنين لها، ويحذرهم إياها، وهو يناديهم باسم الإيمان:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» ..
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب، من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
150- وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم، فهو وهم، يضرب السياق صفحا عنه، ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:
«بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية، ويطلبون عندها النصرة. ومن كان الله مولاه، فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
151- ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين، ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ولم يجعل له قوة وقدرة. وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين:
«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً. وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» ..
والوعد من الله الجليل القادر القاهر، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، كفيل بنهاية المعركة، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه..
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان. فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم. ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين. حقيقة الشعور بولاية الله وحده، والثقة المطلقة بهذه الولاية، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون، وأن الله غالب على أمره، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه!(1/491)
والتعامل مع وعد الله هذا، مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه، فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم! إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح. لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة. إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها، لأن الله لم يمنحها سلطاناً.
والتعبير: «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» ذو معنى عميق، وهو يصادفنا في القرآن كثيراً. مرة توصف به الآلهة المدعاة، ومرة توصف به العقائد الزائفة.. وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة، أو عقيدة، أو شخصية، أو منظمة.. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر. هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من «الحق» أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون، ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون. وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود. وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية، مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش! والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى- في صور شتى- ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله- سبحانه- شيئاً ما من خصائص الألوهية ومظاهرها. وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم.. ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه، وواحدة منها! فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد.. فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل، فهو زائف باطل، مناقض للحق الكامن في بنية الكون. ومن ثم فهو واهٍ هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطاناً، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة! وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبداً خوارون ضعفاء وهم أبداً في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان..
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل.. وكم من مرة وقف الباطل مدججاً بالسلاح أمام الحق الأعزل. ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب، ويرتجف من كل حركة وكل صوت- وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ولو كانت له الحشود، وكان للحق القلة، تصديقاً لوعد الله الصادق:
«سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» ..
ذلك في الدنيا. فأما في الآخرة.. فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين.
«وَمَأْواهُمُ النَّارُ. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ!» ..
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها. فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها.
ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار، وتركوا وراءهم الغنائم، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة! .. ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم(1/492)
152- وتنازعوا فيما بينهم، وخالفوا عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نبيهم وقائدهم.. وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها، في حيوية عجيبة:
«وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ- مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ. يَقُولُونَ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ. وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ»
..
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهداً كاملاً لمسرح المعركة، ولتداول النصر والهزيمة. مشهداً لا يترك حركة في الميدان، ولا خاطرة في النفوس، ولا سمة في الوجوه، ولا خالجة في الضمائر، إلا ويثبتها.. وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر، ويحمل في كل حركة صوراً جديدة نابضة. وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل، والهروب في دهش وذعر، ودعاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- للفارين المرتدين عن المعركة، المصعدين للهرب. يصحب ذلك كله حركة النفوس، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع..
ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن، ومنهج القرآن التربوي العجيب:
«وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» ..
وكان ذلك في مطالع المعركة، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين، أي يخمدون حسهم، أو يستأصلون شأفتهم. قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قال لهم: «لكم النصر ما صبرتم» فصدقهم الله وعده على لسان نبيه.
«حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» ..
وهو تقرير لحال الرماة. وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وانتهى الأمر إلى العصيان. بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه. فكانوا فريقين: فريقاً يريد غنيمة الدنيا، وفريقاً يريد ثواب الآخرة. وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة، ولم يعد الهدف واحداً. وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة. فمعركة العقيدة ليست ككل معركة. إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير. إنها معركة لله، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له.
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية. ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك- لحكمة يعلمها الله- أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد،(1/493)
فلا يمنحهم الله النصر أبداً، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا.. وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة، وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح! «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» ..
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم..
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» «1» .. وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها! وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة:
«ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» ..
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر. فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل، وصرف المقاتلين عن الميدان، فلاذوا بالفرار..
وقع كل هذا مرتباً على ما صدر منهم ولكن مدبراً من الله ليبتليهم.. ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب، ومن تمحيص النفوس، وتمييز الصفوف- كما سيجيء.
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها. بلا تعارض بين هذا وذاك.
فلكل حادث سبب، ووراء كل سبب تدبير.. من اللطيف الخبير..
«وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» ..
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد.. عفا عنكم فضلاً منه ومنة، وتجاوزاً عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة.. عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله، والاستسلام له، وتسليم قيادكم لمشيئته:
«وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» ..
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم، ما داموا سائرين على منهجه، مقرين بعبوديتهم له لا يدعون من خصائص الألوهية شيئاً لأنفسهم، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم، ولا موازينهم إلا منه.. فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة.. فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص..
153- ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة:
«إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» ..
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير وقال: روي من غير وجه عن ابن مسعود. ورواه ابن مردويه في تفسيره.(1/494)
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ويثير الخجل والحياء من الفعل، ومقدماته التي نشأ عنها، من الضعف والتنازع والعصيان.. والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في ألفاظ قلائل.. فهم مصعدون في الجبل هرباً، في اضطراب ورعب ودهش، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يدعوهم ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح: إن محمداً قد قتل، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم.. إنه مشهد كامل في ألفاظ قلائل..
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول- صلى الله عليه وسلم- بفرارهم، غماً يملأ نفوسهم على ما كان منهم، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه- وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون- ذلك كي لا يحفلوا شيئاً فاتهم ولا أذى أصابهم. فهذه التجربة التي مرت بهم، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم- وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم- وذلك الندم الذي ساور نفوسهم، وذلك الغم الذي أصابهم.. كل ذلك سيصغر في نفوسهم كلّ ما يفوتهم من عرض، وكل ما يصيبهم من مشقة:
«فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» ..
والله المطلع على الخفايا، يعلم حقيقة أعمالكم، ودوافع حركاتكم:
«وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» ..
154- ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها، وهرجها ومرجها، سكون عجيب. سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم، وثابوا إلى نبيهم. لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين! والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» ..
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين، ولو لحظة واحدة، يفعل في كيانهم فعل السحر، ويردهم خلقاً جديداً، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة، كما يسكب في كيانهم الراحة. بطريقة مجهولة الكنه والكيف! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة.
فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة! روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:
«رفعت رأسي يوم أحد، وجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس» .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة: «غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه» ..
أما الطائفة الأخرى فهم ذوو الإيمان المزعزع، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص، وليس تخلياً من الله عن أوليائه لأعدائه، ولا قضاء منه- سبحانه- للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل:
«وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» ..
إن هذه العقيدة تعلم أصحابها- فيما تعلم- أن ليس لهم في أنفسهم شيء، فهم كلهم لله وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له، ويتحركون له، ويقاتلون له، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد،(1/495)
وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم، كائناً هذا القدر ما يكون.
فأما الذين تهمهم أنفسهم، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم، ومحور اهتمامهم وانشغالهم.. فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان. ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع. طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم، فهم في قلق وفي أرجحة، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعاً ولا إرادة لهم فيها وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير، ويؤدون الثمن فادحاً من القتل والقرح والألم.. وهم لا يعرفون الله على حقيقته، فهم يظنون بالله غير الحق، كما تظن الجاهلية. ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه- سبحانه- مضيعهم في هذه المعركة، التي ليس لهم من أمرها شيء، وإنما دفعوا إليها دفعاً ليموتوا ويجرحوا، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم إنما يدعهم فريسة لأعدائهم، ويتساءلون:
«هل لنا من الأمر من شيء؟» .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة.. ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي.. ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت..
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه، ويرد على قولتهم: «هل لنا من الأمر من شيء؟» .
«قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» ..
فلا أمر لأحد. لا لهم ولا لغيرهم. ومن قبل قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- «ليس لك من الأمر شيء» . فأمر هذا الدين، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض، وهداية القلوب له.. كلها من أمر الله، وليس للبشر فيها من شيء، إلا أن يؤدوا واجبهم، ويفوا ببيعتهم، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون! ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم:
«يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ..
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات وسؤالهم: «هل لنا من الأمر من شيء» .. يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه! وأنهم ضحية سوء القيادة، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير.
«يَقُولُونَ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» ..
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة، وحينما تعاني آلام الهزيمة! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحاً ولا مستقراً وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها! وهي لا يمكن- بهذا الغبش في التصور- أن ترى يد الله وراء الأحداث، ولا حكمته في الابتلاء. إنما المسألة كلها- في اعتبارها- خسارة في خسارة! وضياع في ضياع! هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله. لأمر الحياة والموت. ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء:
«قُلْ: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ،(1/496)
وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ..
قل لو كنتم في بيوتكم ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة، وكان أمركم كله لتقديركم.. لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.. إن هنالك أجلاً مكتوباً لا يستقدم ولا يستأخر. وإن هنالك مضجعاً مقسوماً لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه! فإذا حم الأجل، سعى صاحبه بقدميه إليه، وجاء إلى مضجعه برجليه، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم! ويا للتعبير العجيب.. «إِلى مَضاجِعِهِمْ» .. فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب، وتسكن فيه الخطى، وينتهي إليه الضاربون في الأرض.. مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه، إنما هو يدركهم ويملكهم ويتصرف في أمرهم كما يشاء. والاستسلام له أروح للقلب، وأهدأ للنفس، وأريح للضمير! إنه قدر الله. ووراءه حكمته:
«وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» ..
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور، ويصهر ما في القلوب، فينفي عنها الزيف والرياء، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء.. فهو الابتلاء والاختيار لما في الصدور، ليظهر على حقيقته، وهو التطهير والتصفية للقلوب، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف. وهو التصحيح والتجلية للتصور فلا يبقى فيه غبش ولا خلل:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور، المختبئة فيها، المصاحبة لها، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور! والله عليم بذات الصدور هذه. ولكنه- سبحانه- يريد أن يكشفها للناس، ويكشفها لأصحابها أنفسهم، فقد لا يعلمونها من أنفسهم، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم! 155- ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان في الغزوة. إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستزلهم فزلوا وسقطوا:
«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ..
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم. فكان هذا هو الذي كسبوه، وهو الذي استزلهم الشيطان به..
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف بالله ارتباطها، ويختل توازنها وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة، وهي بعيدة عن الحمى الآمن، والركن الركين.
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء.
الاستغفار الذي يردهم إلى الله، ويقوي صلتهم به، ويعفي قلوبهم من الأرجحة، ويطرد عنها الوساوس، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان، ثغرة الانقطاع عن الله، والبعد عن حماه. هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة، حتى ينقطع بهم في التيه، بعيداً بعيداً عن الحمى الذي لا ينالهم فيه!(1/497)
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم، فعفا عنهم.. ويعرفهم بنفسه- سبحانه- فهو غفور حليم. لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم متى علم من نفوسهم التطلع إليه، والاتصال به ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق! 156- ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر، منادياً الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء. ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ- إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى-: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا. لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» ..
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات..
وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة- نتيجة لخروجهم- ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة. ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.
إن قول الكافرين: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» .. ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سراؤها وضراؤها.. إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله، متعرف إلى مشيئة الله، مطمئن إلى قدر الله. إنه يعلم أن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع، ولا يتلقى السراء بالزهو، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا، أو ليستجلب كذا، بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة، كله قبل الإقدام والحركة فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير- في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه- فكل ما يقع من النتائج، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم موقناً أنه وقع وفقاً لقدر الله وتدبيره وحكمته وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله! .. توازن بين العمل والتسليم، وبين الإيجابية والتوكل، يستقيم عليه الخطو، ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة، فهو أبداً مستطار، أبداً في قلق! أبداً في «لو» و «لولا» و «يا ليت» و «وا أسفاه» ! والله- في تربيته للجماعة المسلمة، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها- يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا. أولئك الذين تصيبهم الحسرات، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» ..
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري. فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية، بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.(1/498)
«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ..
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا..
إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل، ونداء المضجع، وقدر الله، وسنته في الموت والحياة، ما تحسروا. ولتلقوا الابتلاء صابرين، ولفاءوا إلى الله راضين:
«وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، في الموعد المضروب والأجل المرسوم، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة. وعنده الجزاء، وعنده العوض، عن خبرة وعن علم وعن بصر:
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ..» ..
157- على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل فهذه ليست نهاية المطاف. وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء. فهناك قيم أخرى، واعتبارات أرقى في ميزان الله:
«وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ- أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» ..
فالموت أو القتل في سبيل الله- بهذا القيد، وبهذا الاعتبار- خير من الحياة، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار: من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع. خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون. وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين.. إنه لا يكلهم- في هذا المقام- إلى أمجاد شخصية، ولا إلى اعتبارات بشرية. إنما يكلهم إلى ما عند الله، ويعلق قلوبهم برحمة الله. وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض..
158- وكلهم مرجوعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال. ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان. فما لهم مرجع سوى هذا المرجع وما لهم مصير سوى هذا المصير.. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه، والاهتمام.. أما النهاية فواحدة: موت أو قتل في الموعد المحتوم، والأجل المقسوم. ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر.. ومغفرة من الله ورحمة، أو غضب من الله وعذاب.. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس. وهو ميت على كل حال! بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله. وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر وإلى ما وراء القدر من حكمة، وما وراء الابتلاء من جزاء.. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة، وفيما صاحبها من ملابسات..
159- ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة. جولة محورها شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحقيقته النبوية الكريمة وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة.. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة، وأسس هذا التنظيم ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة:(1/499)
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؟ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
وننظر في هذه الفقرة، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها- وهي الحقيقة النبوية الكريمة- فنجد كذلك أصولاً كبيرة تحتويها عبارات قصيرة.. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي- صلى الله عليه وسلم- وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس..
ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية- وهو الشورى- يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى- في ظاهر الأمر- نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي- بعد الشورى- في مضاء وحسم. ونجد حقيقة التوكل على الله- إلى جانب الشورى والمضاء- حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية. ونجد حقيقة قدر الله، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج. ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة. ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة.. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الأمة، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء! هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات! «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» .
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي نفسه شيء من القوم تحمسوا للخروج، ثم اضطربت صفوفهم، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة وخالفوا- بعد ذلك- عن أمره، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة، ووهنوا أمام إشاعة مقتله، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين، وأفردوه في النفر القليل، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم، وهم لا يلوون على أحد.. يتوجه إليه- صلى الله عليه وسلم- يطيب قلبه، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به. ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم، الذي تتجمع حوله القلوب.. ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه- صلى الله عليه وسلم- فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم. ثم يدعوه أن يعفو عنهم، ويستغفر الله لهم.. وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية.
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» ..
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم فجعلته- صلى الله عليه وسلم- رحيماً بهم، ليناً معهم. ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى(1/500)
رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت حياته مع الناس. ما غضب لنفسه قط. ولا ضاق صدره بضعفهم البشري. ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية. ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم. وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه نتيجة لما أفاض عليه- صلى الله عليه وسلم- من نفسه الكبيرة الرحيبة.
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف. ليرتب عليها ما يريده- سبحانه- لحياة هذه الأمة من تنظيم:
«فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ..
وبهذا النص الجازم: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- حتى ومحمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكاً في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام.
لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهرياً وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين.
وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف- كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها- أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ أنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله ابن أبي- وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلاً في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد! ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج.
فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة، التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعاً حصينة.. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى.. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ، وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية.
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ- مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة- لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ..(1/501)
والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها، وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلاً- لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى- كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضلل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمية. ولكن وجود محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة.. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل.. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، في هذا الوقت بالذات:
«فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ..
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أياً كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب.. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق! على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية فنرى أن الشورى لا تنتهي أبداً إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف:
«فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ..
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ.. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء.
وكما ألقى النبي- صلى الله عليه وسلم- درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء، الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها.. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج،(1/502)
ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات.. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه- صلى الله عليه وسلم- على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى.. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع. لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على الله والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد.
فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي.. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ..
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون. بل هي التي تميز المؤمنين..
والتوكل على الله، ورد الأمر إليه في النهاية، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية.
وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة: حقيقة أن مرد الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد..
لقد كان هذا درساً من دروس «أحد» الكبار. هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان..
160- ولتقرير حقيقة التوكل على الله، وإقامتها على أصولها الثابتة، يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله، فعندها يلتمس النصر، ومنها تتقى الهزيمة، وإليها يكون التوجه، وعليها يكون التوكل، بعد اتخاذ العدة، ونفض الأيدي من العواقب، وتعليقها بقدر الله:
«إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله- سبحانه- وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله.. إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب.
ولكن الأسباب ليست هي التي «تنشئ» النتائج. فالفاعل المؤثر هو الله. والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته.. ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وأن يفي بالتزاماته. وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها.. وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره. هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء، وكيفما يشاء.. وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله. فهو يعمل ويبذل ما في طوقه وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته. ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب. فهو لا يحتم أمراً بعينه على الله! وهنا في قضية النصر والخذلان، بوصفهما نتيجتين للمعركة- أية معركة- يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ويعلقهم بإرادة الله وقدرته: إن ينصرهم الله فلا غالب لهم. وأن يخذلهم فلا ناصر لهم من بعده.. وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود. حيث لا قوة إلا قوة الله، ولا قدرة إلا قدرته، ولا مشيئة إلا مشيئته.
وعنها تصدر الأشياء والأحداث.. ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج، وطاعة التوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد، والتوكل بعد هذا كله على الله:
«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» ..
وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ويتوكل على الله وحده(1/503)
في أحداث النتائج، وتحقيق المصاير، وتدبير الأمر بحكمته، وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أياً كان.
إنه التوازن العجيب، الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام.
161- ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ليمد من هذا المحور خيوطاً في التوجيه للأمانة، والنهي عن الغلول، والتذكير بالحساب، وتوفية النفوس دون إجحاف:
«وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الغنائم! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال.
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا.. أي أن يحتجزوا شيئاً من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض، أو يخونوا إجمالاً في شيء:
«وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» ..
ما كان له. فهو ليس من شأنه أصلاً ولا من طبعه ولا من خلقه. فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل.
وليس نفياً لحله أو جوازه. فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتي أن يقع منها الغلول ابتداء.. وفي قراءة:
«يَغُلَّ» على بناء الفعل لغير الفاعل. أي لا يجوز أن يخان. ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئاً.. فيكون نهياً عن خيانة النبي في شيء. وهو يتمشى مع عجز الآية. وهي قراءة الحسن البصري.
ثم يهدد الذين يغلون، ويخفون شيئاً من المال العام أو من الغنائم، ذلك التهديد المخيف:
«وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
روى الإمام أحمد. حدثنا سفيان عن الزهري، سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية. على الصدقة. فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي. فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال: «ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» .. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه. ثم قال: «اللهم هل بلغت؟» - ثلاثاً-.. (وأخرجه الشيخان) وروى الإمام أحمد بإسناده، عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوماً فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره. ثم قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت. فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك» .. وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان) ..
وروى الإمام أحمد- بإسناده- عن عدي بن عميرة الكندي. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:(1/504)
«يا أيها الناس. من عمل لنا منكم عملاً، فكتمنا منه مخيطا «1» فما فوقه، فهو غل يأتي به يوم القيامة» .. قال:
فقام رجل من الأنصار أسود- قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه- فقال: يا رسول الله، أقبل مني عملك. قال: «وما ذاك؟» قال: سمعتك تقول: كذا وكذا. قال: «وأنا أقول ذلك الآن.
من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره. فما أوتي منه أخذه وما نهي عنه انتهى» .. (ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع) ..
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة حتى أتت بالعجب العجاب وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية. وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة، لا يراه أحد، فيأتي به إلى أميره، لا تحدثه نفسه بشيء منه، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلاً. وكانت الآخرة في حسه واقعاً، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها. وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه. فالآخرة كانت حقيقة يعيشها، لا وعداً بعيداً! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت، وهم لا يظلمون..
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض. فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه.
فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أما والله لولا الله ما آتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأناً. فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه.
فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس «2» ..
وقد حملت الغنائم إلى عمر- رضي الله عنه- بعد القادسية، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن..
فنظر- رضي الله عنه- إلى ما أداه الجند في غبطة وقال: «إن قوماً أدوا هذا لأميرهم لأمناء» ..
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير.
162- ثم يستطرد السياق- في معرض الحديث عن الغنائم والغلول- يوازن بين القيم.. القيم الحقيقية التي يليق أن يلتفت إليها القلب المؤمن، وأن يشغل بها:
«أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ؟ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
إنها النقلة التي تصغر في ظلها الغنائم، ويصغر في ظلها التكفير في هذه الأعراض. وهي لمسة من لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب، ورفع اهتماماتها، وتوسيع آفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل.
«أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
__________
(1) يعني إبرة خياطة.
(2) تاريخ الطبري جزء 4 ص 16.(1/505)
هذه هي القيم، وهذا هو مجال الطمع! ومجال الاختيار. وهذا هو ميدان الكسب والخسارة. وشتان بين من يتبع رضوان الله فيفوز به، ومن يعود وفي وطابه سخط الله! يذهب به إلى جهنم.. وبئس المصير! 163- هذه درجة وهذه درجة.. وشتان شتان:
«هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ» ..
وكل ينال درجته باستحقاق، فلا ظلم ولا إجحاف، ولا محاباة ولا جزاف! «وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
164- ثم يختم الفقرة بالرجوع إلى محورها الأصيل: شخص الرسول- صلى الله عليه وسلم- ورسالته وعظم المنة بها على المؤمنين.
«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقيمتها الذاتية، وعظم المنة الإلهية بها، ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها، ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة.. إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة:
إنها تجيء ابتداء تعقيباً على الغنائم والطمع فيها والغلول، والانشغال بهذا الأمر الصغير، الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة، وبدل النصر هزيمة، وفعل بالمسلمين الأفاعيل.. فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة، والمنة العظيمة المتمثلة فيها، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة. تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها، وأسلاب الأرض كلها، وإعراض الأرض كلها، شيئاً تافهاً زهيداً، لا يذكر ولا يقدر. شيئاً تخجل النفس المؤمنة أن تذكره، بل تستحي أن تفكر فيه! فضلاً عن أن تشغل به! وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة..
فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة، وما تمثله من منة عظيمة، لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة، تصغر في ظلها الآلام والخسائر، وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات. على حين تعظم المنة، ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق.
ثم.. الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمراً ضخماً في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول- صلى الله عليه وسلم- فما ينبغي لأمة هذا شأنها، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة..
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق. نذكرها باختصار وإجمال، لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال:
«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ..
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولاً، وأن يكون هذا الرسول «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .. إن العناية من الله(1/506)
الجليل، بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه، هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي. المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر. وإلا فمن هم هؤلاء الناس، ومن هم هؤلاء الخلق، حتى يذكرهم الله هذا الذكر، ويعنى بهم هذه العناية؟ ويبلغ من حفاوة الله بهم، أن يرسل لهم رسولاً من عنده، يحدثهم بآياته- سبحانه- وكلماته، لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب، ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل؟
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .. لم يقل «منهم» فإن للتعبير القرآني «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» ظلالاً عميقة الإيحاء والدلالة.. إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس، لا صلة الفرد بالجنس.
فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى. إنما هي أعمق من ذلك وأرقى. ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول، ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله. فهو منة على المؤمنين.. فالمنة مضاعفة، ممثلة في إرسال الرسول، وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول، ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب.
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية.. في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني:
«يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» ..
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها. في تكريم الله لهم. بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل:
«يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» ..
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله، حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة! ولو تأمل أن الله الجليل- سبحانه- يتكرم عليه، فيخاطبه بكلماته. يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها. ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو- هو الإنسان- هو العبد الصغير الضئيل- وعن حياته، وعن خوالجه، وعن حركاته وسكناته. يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه، وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله، ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة، وهذا التفضل، وهذا العطاء؟
إن الله الجليل غني عن العالمين. وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج.. ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل، ويتلمسه بعنايته، ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته! فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء! «وَيُزَكِّيهِمْ» ..
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم.
ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها.
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده.. يقول جعفر:
«أيها الملك. كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام،(1/507)
ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..
ومن أرجاسها ما حكته عائشة- رضي الله عنها- وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري، في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:
«إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء. فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته، فيصدقها، ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها:
أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه! ويعتزلها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت. فهو إبنك يا فلان. تسمي من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها. ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل! والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها- وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً- فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك!» ..
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق. ويكفي تصور الرجل، وهو يرسل امرأته إلى «فلان» لتأتي له منه بولد نجيب. تماماً كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب، لتأتي له منه بنتاج جيد! ويكفي تصور الرجال- ما دون العشرة! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين- «كلهم يصيبها!» .. ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها! أما البغاء- وهو الصورة الرابعة- فهو البغاء! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة! لا يجد في ذلك معرة! ولا يمتنع من ذلك! إنه الوحل. الذي طهر الإسلام منه العرب. وزكاهم. وكانوا- لولا الإسلام- غارقين إلى الأذقان فيه! ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفاً من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية. يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» :
«وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها، وتبتز أموالها، وتحرم من إرثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجاً ترضاه «1» ، وتورث كما يورث المتاع أو الدابة «2» . عن ابن عباس قال: «كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى
__________
(1) سورة البقرة: 232.
(2) سورة النساء: 19.(1/508)
تفتدى بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها» .. وقال عطاء بن رباح: «إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل، فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم» .. وقال السدّي: إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن يَنكحها بمهر صاحبه، أو يُنكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها» «1» . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها، يؤخذ مما تؤتى من مهر، وتمسك ضراراً للاعتداء «2» . وتلاقي من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة «3» . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث «4» . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد «5» .
«وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد. ذكر الهيثم بن عدي- على ما حكاه عنه الميداني- أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة. فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد. فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن. ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء. أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصفات. ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق، وخوف الفقر..
«وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخر وأد الموؤدة لسفر الوالد وشغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت، وصارت تعقل. وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات. وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق» «6» ..
ومن أرجاسها- وأصل هذه الأرجاس جميعاً- الشرك والوثنية الهابطة الساذجة: كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:
«انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها. فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة، صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي. قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً» «7» . واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب «8» . وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بني لعبادة الله وحده- وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنماً «9» . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة. روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي، قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خيراً منه القيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به «10» . وقال الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربا، وجعل ثلاث أثافيّ لقدره، وإذا
__________
(1) تفسير الطبري جزء 4 ص 308.
(2) سورة البقرة: 231.
(3) سورة النساء: 139.
(4) سورة الانعام: 140.
(5) سورة النساء: 3. [.....]
(6) بلوغ الأرب في أحوال العرب.
(7) كتاب الأصنام.
(8) المصدر السابق.
(9) الجامع الصحيح للبخاري.
(10) المصدر السابق.(1/509)
ارتحل تركه «1» .
«وكان للعرب- شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان- آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب.
فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله، ويعبدونهم، ويتوسلون بهم عند الله.
واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله، وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم، وعبدوهم «2» . قال الكلبي: كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن «3» . وقال صاعد: كانت حمير تعد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطي سهيلاً. وقيس الشعري العبور. وأسد عطارداً» «4» .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء. ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة، التي تشغل اهتماماتهم، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة:
«هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر. فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل، ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة، وما ذاك إلا أن كليباً رئيس معد، رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها وقتل جساس بن مرة كليباً، واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب. وكان كما قال المهلهل أخو كليب: «قد فني الحياة، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد. دموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن» .
«وكذلك حرب داحس والغبراء. فما كان سببها إلا أن داحساً فرس قيس بن زهير، كان سابقاً في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر، فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة، فلطم وجهه وشغله، ففاتته الخيل.
وتلا ذلك قتل، ثم أخذ بالثأر. ونصر القبائل لأبنائها، وأسر، ونزح للقبائل، وقتل في ذلك ألوف من الناس» «5» .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة، التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة. إذ لم تكن لهم رسالة للحياة، ولا فكرة للبشرية، ولا دور للإنسانية، يشغلهم عن هذا السفساف..
ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة.. وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية؟
ماذا تكون اهتماماتهم؟ وماذا تكون تصوراتهم؟ وماذا تكون أخلاقهم؟
إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم، ومن شريعة- منبثقة من هذه العقيدة- تحكم حياتهم، فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة.. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.
__________
(1) كتاب الأصنام.
(2) كتاب الأصنام.
(3) المصدر السابق.
(4) طبقات الأمم لصاعد.
(5) كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 34.(1/510)
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها. ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها. وإذاعاتها. ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها.. إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون «1» .. وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني.. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.
إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر. لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها، والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة:
«وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» ..
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالاً. أمية القلم، وأمية العقل سواء. وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة، في أي باب من الأبواب. وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشئ معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب. فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا، وحكماء العالم، وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان. والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة- بإذن الله- لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة من النواحي الأخلاقية والاجتماعية وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي، والرخاء الحضاري! «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .
ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفهومات الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك. وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق..
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون- ولا شك- ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان.
كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمة فحسب. ولكن ليكونوا- على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن- أمة تقود البشرية، وترسم لها مثلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل.
كانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي منحهم وجودهم القومي، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي.. وقبل كل شيء وأهم من كل شيء.. وجودهم الإنساني، الذي يرفع إنسانيتهم، ويكرّم
__________
(1) يراجع ما جاء عن الربا في الجزء الثالث من الظلال ص 318- 328 ويراجع كتاب: الربا للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.(1/511)
آدميتهم، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم، الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم.
والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك، وعلموها كيف تحترم «الإنسان» وتكرمه بتكريم الله. غير مسبوقين في هذا، لا في الجزيرة العربية، ولا في أي مكان.. وفي اللفتة السابقة إلى «الشورى» طرف من هذا المنهج الإلهي، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله.
وكانوا يدركون أن الإسلام- والإسلام وحده- هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم، ونظرية للحياة البشرية، ومذهباً مميزاً للحياة الإنسانية.. والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب، تقدمه للبشرية، لتدفع بالبشرية إلى الأمام.
وقد كان الإسلام، وتصوره للوجود، ورأيه في الحياة، وشريعته للمجتمع، وتنظيمه للحياة البشرية، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله «الإنسان» .. كان الإسلام بخصائصه هذه هو «بطاقة الشخصية» التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة.
وهم اليوم وغداً لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم وإما أن ينبذوها فيعودوا هملاً- كما كانوا- لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول. والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة. وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة! يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به على ما عنده من إنتاج؟؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار! يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعاً غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شيء إلا هذا المنهج الفريد. لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس! إنها- وحدها- بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديماً للبشرية، فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. وهي التي تقدم أكبر منهج.
وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة.
والعرب يملكون هذه الرسالة- وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء- فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان.. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان!(1/512)
5- ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة، والتعقيب عليها فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم- وهم المسلمون- مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة، وتصوغهم صياغة واقعية، تتعامل مع واقع الأمر، وطبيعة السنن، وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحداً لا يأخذ بالسنن، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم! ..
ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة- التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة- بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين فيكشف لهم عن حكمة ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث. فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق:
«أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير.
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم قتالا لا تبعناكم! هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم- وقعدوا-: لو أطاعونا ما قتلوا. قل:
فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين» ..
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم وباستكمال العدة التي في طاقتهم، وببذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله. وسنة الله لا تحابي أحداً.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير. فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس. فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس..
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك، ولا يضيع هباء. فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية- بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح- وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف وتؤهل للنصر الموعود وتنتهي بالخير والبركة..
ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته. بل تمدهم بزاد الطريق. مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصرامة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ويكشف عن السبب القريب من أفعالها كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره- سبحانه- ويواجه المنافقين بحقيقة الموت، التي لا يعصم منها حذر ولا قعود:
«أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن(1/513165)
أصابوا مثليها: أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش. وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله- صلى الله عليه وسلم- وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين! ويذكرهم الله هذا كله، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب:
«قُلْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» ..
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله- صلى الله عليه وسلم- وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة.. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرّضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلماً كان أو مشركاً، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء! «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته، وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث.
166- ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها. وقدر الله دائماً من وراء كل أمر يحدث، ومن وراء كل حركة وكل نأمة، وكل انبثاقة في هذا الكون كله:
«وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ... » ..
لم يقع مصادفة ولا جزافاً، ولم يقع عبثاً ولا سدى. فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون ومقدر لها علتها ونتائجها وهي في مجموعها- ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي- تحقق الحكمة الكامنة وراءها وتكمل «التصميم» النهائي للكون في مجموعه! إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية..
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية.. وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة.
وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها.. والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء- ومن بينها الإنسان- والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة، وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره، فتنطبق عليه، وتؤثر فيه.. ولكن هذا كله يقع موافقاً لقدر الله ومشيئته ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره.. وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل، ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره. فليس شيء منها خارجاً على السنن والناموس. ولا مقابلاً لها ومناهضاً لفعلها، كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة، ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة.. كلا. ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي.. فالإنسان ليس نداً لله، ولا عدواً له كذلك. والله- سبحانه- حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض، لم يجعل شيئاً من هذا كله متعارضاً مع سنته- سبحانه- ولا مناهضاً لمشيئته، ولا خارجاً كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير.. ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر وأن يتحرك ويؤثر وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملاً من لذة وألم، وراحة وتعب، وسعادة وشقاوة.. وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته، قدر الله المحيط(1/514)
بكل شيء، في تناسق وتوازن..
وهذا الذي وقع في غزوة أحد، مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل. فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة. فخالفوا هم عن سنته وشرطه، فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له.. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف، وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور، ومن ضعف أو قصور..
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين- من وراء الألم والضر- وقد نالوه وفق سنة الله كذلك. فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه، يعينهم الله ويرعاهم، ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي- ولو ذاقوا مغبتها من الألم- لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد.
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم، بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة، وهم يواجهون قدر الله، ويتعاملون مع سنته في الحياة وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده، وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء، وأن خطأهم وصوابهم- وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم- متساوق مع قدر الله وحكمته، وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق:
«وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ.. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ..
167- وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول، ومن معه، ويسميهم: «الَّذِينَ نافَقُوا» ..
وقد كشفهم الله في هذه الموقعة، وميز الصف الإسلامي منهم. وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» .. وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً سيكون بين المسلمين والمشركين. فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر، وإنما هم: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» .. فقد كان في قلوبهم النفاق، الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة، وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها. فالذي كان برأس النفاق- عبد الله بن أبي- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه يوم أحد. والذي كان به قبل هذا أن قدومه- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم، وجعل الرياسة لدين الله، ولحامل هذا الدين! .. فهذا الذي كان في قلوبهم، والذي جعلهم يرجعون يوم أحد، والمشركون على أبواب المدينة، وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام، وهو يقول لهم: «تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا» محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالاً! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية:
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ..
168- ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس:
«الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ- وَقَعَدُوا- لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» ..
فهم لم يكتفوا بالتخلف- والمعركة على الأبواب- وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس، وبخاصة أن عبد الله بن أبي، كان ما يزال سيداً في قومه، ولم يكشف لهم نفاقه بعد، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم. بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة، وهم يقولون:(1/515)
«لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» ..
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة، ويجعلون من طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتباعه مغرماً ومضرة. وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله، ولحتمية الأجل، ولحقيقة الموت والحياة، وتعلقهما بقدر الله وحده.. ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع، الذي يرد كيدهم من ناحية، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية:
«قُلْ: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
فالموت يصيب المجاهد والقاعد، والشجاع والجبان. ولا يرده حرص ولا حذر. ولا يؤجله جبن ولا قعود.. والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء.. وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم، فيرد كيدهم اللئيم، ويقر الحق في نصابه، ويثبت قلوب المسلمين. ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين..
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة، تأخيره ذكر هذا الحادث- حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة- وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها.. تأخيره إلى هذا الموضع من السياق..
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية.. فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها.. ثم يشير هذه الإشارة إلى «الَّذِينَ نافَقُوا» . وفعلتهم وتصرفهم بعدها، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح.. وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم، ووزن الأعمال والأشخاص، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص- بعد ذلك- فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح، بذلك الحس الإيماني الصحيح..
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد. فعبد الله بن أبيّ كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيماً في قومه- كما أسلفنا- وقد ورم أنفه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ برأيه- لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة- وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم، وبلبلة في الأفكار، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر.. فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق. مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح: «الَّذِينَ نافَقُوا» والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا؟» ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه، ليبقى نكره في: «الَّذِينَ نافَقُوا» كما يستحق من يفعل فعلته، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان.. ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق..
وبعد أن تستريح القلوب، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير.. ثم على حقيقة الأجل المكتوب، والموت المقدور، الذي لا يؤجله قعود، ولا يقدمه خروج، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير..
169- بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى.. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها.. حقيقة أن الذين(1/516)
قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء. أحياء عند ربهم يرزقون لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها، فهم متأثرون بها، مؤثرون فيها، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة.
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح، وخرجت تتعقب قريشاً بعد ذهابها خوفاً من كرة قريش على المدينة، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش، متوكلة على الله وحده، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ، فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» فقال يتحداهم: «قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة.
فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله- وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم «يُرْزَقُونَ» عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث، فوق ما نالهم من فضل الله، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل- بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها، وهي موصولة لا تنقطع فليس الموت خاتمة المطاف بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق! إنها نظرة جديدة لهذا الأمر، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين، واستقبالهم للحياة والموت، وتصورهم لما هنا وما هناك.
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ..
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله، وفارقوا هذه الحياة، وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.. ونص كذلك في إثبات أنهم «أَحْياءٌ» .. «عِنْدَ رَبِّهِمْ» . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات، وصف ما لهم من خصائص الحياة. فهم «يُرْزَقُونَ» ..(1/517)
ومع أننا نحن- في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة، وما بينهما من انفصال والتئام. وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها وأننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها. لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
فهؤلاء ناس منا، يقتلون، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: «قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وتجردوا له من كل الأعراض والأعراض الجزئية الصغيرة واتصلت أرواحهم بالله، فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك، فإن الله- سبحانه- يخبرنا في الخبر الصادق، أنهم ليسوا أمواتاً. وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده، وأنهم يرزقون.
فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء. 170- ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:
«فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ..
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح لأنهم يدركون أنه «مِنْ فَضْلِهِ» عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم وهم مستبشرون لهم لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين:
«وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» .
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم «بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم «أَحْياءٌ» كذلك معهم، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. 171- وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين. وأنه لا يضيع أجر المؤمنين..
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء- الذين قتلوا في سبيل الله؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس، عن هذه الرحلة إلى جوار الله، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة! إنها تعديل كامل لمفهوم الموت- متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم. وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة إلى حياة! ووفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة- في سبيل الله- وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات(1/518)
الحديث عن هذه الغزوة. فيرجع إليها هناك «1» .
172- وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن «الْمُؤْمِنِينَ» الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم، فيعين من هم ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
«الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً. وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» ..
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة.
وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم- ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! - فاستجابوا.. استجابوا لدعوة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهي دعوة الله- كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك- فاستجابوا بهذا لله والرسول «مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» ، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح.
لقد دعاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودعاهم وحدهم. وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى، وتومئ إلى حقائق كبرى، نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم، هو شعور الهزيمة، وآلام البرح والقرح فاستنهضهم لمتابعة قريش، وتعقبها، كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء، وليست نهاية المطاف. وأنهم بعد ذلك أقوياء، وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء، إنما هي واحدة وتمضي، ولهم الكرة عليهم، متى نفضوا عنهم الضعف والفشل، واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ولعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش، وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته. فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس يشعر قريشاً أنها لم تنل من المسلمين منالاً. وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها..
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة.
ولعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاء أن يشعر المسلمين، وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم، بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض.. حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها.
ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها، وليس لهم من غاية في حياتهم سواها. عقيدة يعيشون لها وحدها، فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها، ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها، ولا يقدمونها فداها..
لقد كان هذا أمراً جديداً في هذه الأرض في ذلك الحين. ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها- بعد أن يشعر المؤمنون- بقيام هذا الأمر الجديد، وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة.
__________
(1) ص 462، 463، 464، 465 من هذا الجزء..(1/519)
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم- كما أبلغهم رسل أبي سفيان- وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا-:
173- «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلاناً قوياً عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة. وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة..
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صور من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحداً قال:
شهدنا أحداً مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا وأخي، فرجعنا جريحين. فلما أذن مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي- أو قال لي- أتفوتنا غزوة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ - والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكنت أيسر جراحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة.. حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام.
فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع. وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن. ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على نفسي.
فتخلف على أخوتك. فتخلفت عليهن.. فأذن له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فخرج معه..
173- وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة، في تلك النفوس الكبيرة.
النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً، وترضى به وحده وتكتفي، وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة، وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
«حَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..
174- ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه، المكتفين به، المتجردين له:
«فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ» .
فأصابوا النجاة- لم يمسسهم سوء- ونالوا رضوان الله. وعادوا بالنجاة والرضى.
«بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ» ..
فهنا يردهم إلى السبب الأولى في العطاء: نعمة الله وفضله على من يشاء. ومع التنويه بموقفهم الرائع، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله، لأن هذا هو الأصل الكبير، الذي يرجع إليه كل فضل، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل! «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» ..(1/520)
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله، صورتهم هذه، وموقفهم هذا، وهي صورة رفيعة، وهو موقف كريم.
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة.
نضجت. وتناسقت. واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها. وانجلى الغبش عن تصورها. وأخذت الأمر جداً كله. وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف. فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس.. والفارق هائل والمسافة بعيدة..
لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس وقد هزتها الحادثة هزاً عنيفاً. أطار الغبش، وأيقظ القلوب، وثبت الأقدام، وملأ النفوس بالعزم والتصميم..
نعم. وكان فضل الله عظيماً في الابتلاء المرير..
175- وأخيراً يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع.. إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب، وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة.. ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان، وأن يبطلوا محاولته. فلا يخافوا أولياءه هؤلاء، ولا يخشوهم. بل يخافوا الله وحده. فهو وحده القوي القاهر القادر، الذي ينبغي أن يخاف:
«إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول، وأنهم يملكون النفع والضر.. ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب.. الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا. فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير.. دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة. بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه..
والشيطان ماكر خادع غادر، يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته.. ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره. ويعرف المؤمنين الحقيقة:
حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذر. فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم. فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه، ويستند إلى قوته.. إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر. هي قوة الله. وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء. فلا تقف لهم قوة في الأرض.. لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
«فَلا تَخافُوهُمْ. وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..(1/521)
176- وأخيراً يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب، إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن، من مسارعة الكفار إلى الكفار، ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئاً. وإنما هي فتنة الله لهم، وقدر الله بهم، فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولاً لهم، فآثروا عليه الكفر فتركوا يسارعون في الكفر. وأملي لهم ليزدادوا إثماً مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء.
فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء.. ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها: من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين. إنها تمييز الخبيث من الطيب، بالاختبار والابتلاء، فقد كان أمر القلوب غيباً مما يستأثر الله به، ولا يطلع الناس عليه، فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر، وبالوسيلة التي يدركها البشر.. فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين، ليتكشف المخبوء في القلوب، ويتميز الخبيث من الطيب ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين:
«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً، وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة.. فهناك دائماً تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب، أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل. ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة، ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة! هناك دائماً الشبهة الكاذبة، أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل، ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة، وفيها فتنة للقلوب وهزة؟! ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب: «أَنَّى هذا؟!» ..
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير، والبيان الأخير. ويريح الله القلوب المتعبة، ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله: أمس واليوم وغداً وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجياً في معركة من المعارك. وبقاءه منتفشاً فترة من الزمان، ليس معناه أن الله تاركه، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب، أو بحيث يضر الحق ضرراً باقياً قاضياً..
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان، ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه..
كلا. إنما هي حكمة وتدبير.. هنا وهناك.. يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق! .. ويبتلى الحق، ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم(1/522)
الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. فهو الكسب للحق والخسار للباطل، مضاعفاً هذا وذاك! هنا وهناك! «وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
إنه يواسي النبي- صلى الله عليه وسلم- ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره وهو يرى المغالين في الكفر، يسارعون فيه، ويمضون بعنف واندفاع وسرعة، كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه! وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية. فبعض الناس يرى مشتداً في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف، أو من يهتف له من الإمام، إلى جائزة تُنال! وكان الحزن يساور قلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حسرة على هؤلاء العباد الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار، وهو لا يملك لهم رداً، وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر، من الشر والأذى يصيب المسلمين، ويصيب دعوة الله، وسيرها بين الجماهير، التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية.. فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم. فيطمئن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويواسي قلبه، ويمسح عنه الحزن الذي يساوره.
«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» ..
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئاً. والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان. إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو. ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعاتق المسلمين جملة.. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله، وهم أضعف من أن يضروا الله شيئاً.. وهم إذن لن يضروا دعوته. ولن يضروا حملة هذه الدعوة. مهما سارعوا في الكفر، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى.
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين، وينتفشون غالبين، وهم أعداؤه المباشرون؟
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى! «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ..
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله وأن يحملوا وزرهم كله، وأن يستحقوا عذابهم كله، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق! «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان.
«إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون، وفي أعماق الفطرة. وأماراته قائمة في «تصميم» هذا الوجود العجيب، وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في «تصميم» الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان- بعد هذا كله- قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة، ومن جمال(1/523)
التناسق، ومن صلاحية للحياة والناس..
أجل كان الإيمان مبذولاً لهم، فباعوه واشتروا به الكفر، على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر، ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظاً من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئاً. فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل الله بالضلالة سلطاناً ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة، مهما انتفشت، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين! «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
أشد إيلاماً- بما لا يقاس- مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام! 178- «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يحسبون أن الله- حاشاه- يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله- سبحانه- لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!! وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك. وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن.. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء، فإنما هي الفتنة وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد:
«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ.. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً» ! ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيراً، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة- غمرة النعمة والسلطان- بالابتلاء! «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير. فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم- ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء- فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين.(1/524)
وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم.
179- ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين، أن يميزهم من المنافقين، الذين اندسوا في الصفوف، تحت تأثير ملابسات شتى، ليست من حب الإسلام في شيء «1» . فابتلاهم الله هذا الابتلاء- في أحد- بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم، ليميز الخبيث من الطيب، عن هذا الطريق:
«ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله- سبحانه- وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً، ونظاماً جديداً.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة..
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله- سبحانه- أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن الله- سبحانه- أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس «مصمماً» على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض.
وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معداً لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يداً ولا رجلاً في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقاً مشغولاً بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض! من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» ..
وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله
__________
(1) ص 31 من الجزء الأول من الظلال.(1/525)
الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس.. ويكون من قدر الله ما يكون..
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة..
وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل الله العظيم، الذي ينتظر المؤمنين.
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب، بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان، خير خاتمة لاستعراض الأحداث في «أحد» والتعقيب على هذه الأحداث..
وبعد.. فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة، يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال. فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها، ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
1- لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية، وفي طريقته في العمل في حياة البشر. وهي حقيقة أولية بسيطة، ولكنها كثيراً ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء، فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية، وفي دوره أمس واليوم وغداً..
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين- ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة! دون اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أية مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم! وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة، وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية، وحدود الواقع المادي للبشر. وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه، فيتأثران به في فترات تأثراً واضحاً، أو يؤثران في مدى استجابة الناس له، وقد يكون تأثير هما مضاداً في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين، وجاذبية المطامع والشهوات، دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاهاً كاملاً.. حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها! - ما دام هذا الدين من عند الله- أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً! وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد، هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين، وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري، في حدود الطاقة البشرية، ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي، ويسير بهم إلى نهاية الطريق، في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية، ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه.
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة، في أية خطة، وفي أية خطوة، عن طبيعة فطرة الإنسان، وحدود طاقته، وواقعه المادي أيضاً. وأنه في الوقت ذاته يبلغ به- كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات، وكما(1/526)
يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة- ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق.
ولكن الخطأ كله- كما تقدم- ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري والتي تبدل فطرة الإنسان، وتنشئه نشأة أخرى، لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته، وواقعه المادي كله! أليس هو من عند الله؟ أليس ديناً من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء؟ فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية؟ ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل؟ ثم لماذا لا ينتصر دائماً؟ ولا ينتصر أصحابه دائماً؟ لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحياناً؟
وكلها- كما نرى- أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها! إن الله قادر- طبعاً- على تبديل فطرة الإنسان- عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه- وكان قادراً على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى.. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة. وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة. وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً، ولا تمحى، ولا تبدل، ولا تعطل. وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية. وشاء أن يبلغ «الإنسان» من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة.
وليس لأحد من خلقه أن يسأله: لماذا شاء هذا؟ ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً! وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم، بالنظام الكلي للكون، وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا «التصميم» الخاص! و «لماذا؟» - في هذا المقام- سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله كذلك ملحد جاد.. المؤمن لا يسأله، لأنه أكثر أدباً مع الله- الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته- وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال.. والكافر لا يسأله، لأنه لا يعترف بالله ابتداء. فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه- سبحانه- ومقتضى ألوهيته! ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع. لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد.. ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه! وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية.. فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر. إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية- حتى يعرفها فهو مؤمن، أو ينكرها فهو ملحد.. وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء! ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله- سبحانه-لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة؟ ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة، لا تمحى، ولا تعدل، ولا تعطل! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية؟
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة ويراها وهي تعمل في واقع البشرية، ويفسر التاريخ(1/527)
البشري على ضوئها فيفقه خط سير التاريخ من ناحية، ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى.
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام- كما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يُمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه- بقدر طاقتها- وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة.. تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين.
وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج.. وتبلغ- بعد ذلك كله- من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً ولا تغفل واقعهم، ومقتضيات هذا الواقع، في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها.. ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة.
بقدر ما تبذل من الجهد وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب..
وقبل كل شيء، وقبل كل جهد، وقبل كل وسيلة.. هنالك عنصر آخر: هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض. ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج، وثقتها به، وتوكلها عليه.
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته، وهذه هي خطته الحركية ووسيلته..
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يربيها بأحداث معركة أحد وبالتعقيب على هذه الأحداث..
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً بغض النظر عن تصورها وتصرفها- حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة وتعاني آلامها المريرة. ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة: «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ: أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ولكنه- كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص- لا يترك المسلمين عند هذه النقطة، بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء، الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة..
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري، ويتأثر بتصرف البشر إزاءه.. هو خير في عمومه، فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها..
ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية.. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضاً- فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة، متوكلة على الله.(1/528)
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. لأنه يجاهد نفسه أولاً في أثناء مجاهدته للناس وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً، وهو قاعد آمن سالم وتتبين له حقائق في الناس، وفي الحياة، لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه، وبانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً، بدون هذه التجربة الشاقة المريرة.
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة، حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها. مدى احتمال كل لبنة، ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام.
وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للجماعة المسلمة، وهو يربيها بالأحداث في «أحد» وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة. وهو يقول لها، بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» .. وهو يقول: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» . ثم.. وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعاً فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..
وإذن فهو- في النهاية- قدر الله وتدبيره وحكمته، من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات..
وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل، يستقر في النفس من وراء الأحداث، والتعقيب المنير على هذه الأحداث.
2- وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة الجهد البشري، ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
إن النفس البشرية ليست كاملة- في واقعها- ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء، حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
وها نحن أولاء نرى قطاعاً من قطاعات البشرية- كما هو وعلى الطبيعة- ممثلاً في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» .. وهم أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق.. فماذا نرى؟ نرى مجموعة من البشر، فيهم الضعف وفيهم النقص، وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» . ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» .. وفيهم من يقول الله عنهم: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»
.. وفيهم من ينهزم وينكشف، وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ. فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» ..
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ولكنهم كانوا في أوائل الطريق. كانوا في دور التربية والتكوين. ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر، مسلمين أمرهم لله، مرتضين قيادته، ومستسلمين لمنهجه. ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه، بل رحمهم وعفا عنهم وأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يعفو عنهم، ويستغفر لهم، وأمره أن يشاورهم في الأمر، بعد كل ما وقع منهم، وبعد كل ما وقع من جراء المشورة! نعم إنه- سبحانه-(1/529)
تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك، وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير.. ولكنه لم يطردهم خارج الصف، ولم يقل لهم: إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر، بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف.. لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم، ورباهم بالابتلاء، ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء، والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات. في رحمة وفي عفو وفي سماحة كما يربت الكبير على الصغار وهم يكتوون بالنار، ليعرفوا ويدركوا وينضجوا. وكشف لهم ضعفهم، ومخبآت نفوسهم، لا يفضحهم بها، ويرذلهم، ويحقرهم، ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملاً. ولكن ليأخذ بأيديهم، ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين.
ثم وصلوا.. وصلوا في النهاية، وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة. وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح، يخرجون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غير هيَّابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ..
ولما كبروا بعد ذلك شيئاً فشيئاً.. تغيرت معاملتهم، وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار. بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين، تلك المؤاخذة العسيرة، يجد الفرق واضحاً في المعاملة ويجد الفرق واضحاً في مراحل التربية الإلهية العجيبة. كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد، والقوم يوم تبوك.. وهم هم.. ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق.. ولكنهم مع هذا ظلوا بشراً. وظل فيهم الضعف، والنقص، والخطأ.
ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله.
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج ولا يبدلها أو يعطلها، ولا يحملها ما لا تطيق. وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية، لتحاول وتبلغ، في ظل هذا المنهج الفريد.
فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة، إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه. وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زوالتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية. متخلفة في كل شيء. على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس.. وكل ذلك يعطي البشرية أملاً كبيراً في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي، مهما تكن قابعة في السفح. ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة، فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر. فهي ليست وليدة خارقة عابرة. إنما هي وليدة المنهج الإلهي، الذي يتحقق بالجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية- والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير! هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها، ومن الواقع المادي الذي هي فيه. ثم يمضي بها صعداً كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة.. من السفح.. ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان، إلى ذلك الأوج السامق..
شرط واحد لا بد أن يتحقق.. أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج. أن تؤمن به. وأن تستسلم له. وأن تتخذه قاعدة حياتها، وشعار حركتها، وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل..
3- وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها.. حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة، وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان. الارتباط بين العقيدة والتصور(1/530)
والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة.. فكل هذه عوامل أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة.
والمنهج الإلهي- من ثم- يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية. مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط، متكاملة في الوقت ذاته وشاملة. والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساجات كلها والنقط والخطوط والخيوط.. وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل، الذي يأخذ الحياة جملة، ولا يأخذها مزقاً وتفاريق. والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعاً، ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة، في قبضته، فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة، لا تصيب النفس بالفصام، ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام.
ومن نماذج هذا التجميع، وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه- في التعقيب القرآني- عن الخطيئة، وأثرها في النصر والهزيمة. فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» .. كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا- وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به- بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا- وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ- وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»
.. وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة، توجيهها للتطهر والاستغفار: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ- وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ- وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم: الاعتداء والمعصية: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا- إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ- وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ..
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة، يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة، كما نجد الكلام عن «التقوى» وتصوير حالات المتقين، يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة. ويربط بين جو السورة كلها- على اختلاف موضوعاتها- وجو المعركة. كما نجد الدعوة إلى ترك الربا، وإلى طاعة الله والرسول، وإلى العفو عن الناس، وكظم الغيظ، والإحسان،.. وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية.. والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي الهام.
4- وحقيقة رابعة.. عن طبيعة منهج التربية الإسلامي.. فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث، وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات، ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث.. على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد.. وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة، ليصحح تأثره، ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح! وهو لا يدع جانباً من الجوانب، ولا خاطرة من الخواطر، ولا تصوراً من التصورات، ولا استجابة من الاستجابات، حتى يوجه إليها الأنظار،(1/531)
ويسلط عليها الأنوار، ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة، ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية وبذلك يمحص الدخائل، وينظفها ويطهرها في وضح النور ويصحح المشاعر والتصورات والقيم ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين، وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة.. مما يلهم وجوب اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق..
وننظر في التعقيب على غزوة أحد، فنجد الدقة والعمق والشمول.. الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج. والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف، المسيرة للحادث، كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجاً عميقاً عنيفاً، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب. فهو وصف حي، يستحضر المشاهد- كما لو كانت تتحرك- ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير.
5- وحقيقة خامسة كذلك.. عن واقعية المنهج الإلهي.. فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع، مزاولته بالفعل، فهو لا يقدم مبادئ نظرية، ولا توجيهات مجردة.. ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته.
وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة، هو موقفه إزاء مبدأ الشورى..
لقد كان في استطاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة، التي تعرضت لها- وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب، والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها- نقول كان في استطاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها، لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة، مستنداً إلى رؤياه الصادقة وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ولم يستشر أصحابه، أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة! أو لو أنه رجع عن الرأي عند ما سنحت له فرصة الرجوع، وقد خرج من بيته، فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد! ولكنه- وهو يقدر النتائج كلها- أنفذ الشورى. وانفذ ما استقرت عليه، ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية، وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي، وتبعة العمل. لأن هذا في تقديره- صلى الله عليه وسلم- وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه، أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة، ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة. فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة، وحرمانها المعرفة، وحرمانها التربية! ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى- بعد المعركة كذلك- تثبيتاً للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة. فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية، وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية..
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته! فهو يعلم أنها لن تستعد أبداً لمزاولته إلا إذا زاولته فعلاً، وأن حرمانها من مزاولة مبادئ حياتها الأساسية- كمبدأ الشورى- شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله، وأن الأخطاء في مزاولته- مهما بلغت من الجسامة- لا تبرر إلغاءه، بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت، لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي، ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف. بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقاً! وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعالى- بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: «فَاعْفُ عَنْهُمْ،(1/532)
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» .
كما أن المزاولة العملية للمبادئ النظرية تتجلى في تصرف الرسول- صلى الله عليه وسلم- عند ما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين، واعتباره هذا تردداً وأرجحة. وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته، من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم، والشلل الحركي. فقال قولته التربوية المأثورة: «ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له» .. ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» .. فتطابق- في المنهج- التوجيه والتنفيذ..
6- وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله.. وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله..
إن منهج الله ثابت، وقيمه وموازينه ثابتة، والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج، ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك. ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوباً على المنهج، ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة.
وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك، فإنه يصفهم بالخطأ. وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف.
ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم- مهما تكن منازلهم وأقدارهم- ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم! ونتعلم نحن من هذا، أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه- أياً كانوا- وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً، بتحريف المنهج، وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف.. فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص. والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم. وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقاً تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة.. وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام، وعلى تاريخ الإسلام إنما يحسب على أصحابه وحدهم، ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه: من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام.. إن تاريخ «الإسلام» ليس هو تاريخ «المسلمين» ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان! إن تاريخ «الإسلام» هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام، في تصورات الناس وسلوكهم، وفي أوضاع حياتهم، ونظام مجتمعاتهم.. فالإسلام محور ثابت، تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت. فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار، أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً، فما للإسلام وما لهم يومئذ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام، أو يفسر بها الإسلام؟ بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام، وأبوا تطبيقه في حياتهم، وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم، لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين، ولا لأنهم يقولون بأفواههم: إنهم مسلمون؟! وهذا ما أراد الله- سبحانه- أن يعلمه للأمة المسلمة، وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة، ويسجل عليها النقص والضعف، ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها، ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه. وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء!(1/533)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 189]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
انتهى الاستعراض القرآني للمعركة «1» - معركة أحد- ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة- وبخاصة اليهود- لم تكن قد انتهت بعد. معركة الجدل والمراء، والتشكيك والبلبلة، والكيد والدس، والتربص والتدبير.. هذه المعركة التي استغرقت الشطر الأكبر من هذه السورة.
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أجلى بني قينقاع عن جواره في المدينة، بعد ما كان منهم- عقب غزوة بدر- من غيظ وكيد، وتحرش بالمسلمين، ونقض للمواثيق التي عقدها معهم النبي- صلى الله عليه
__________
(1) هنالك رواية أن الآية الأولى في هذا الدرس وهي تمام ستين آية نزلت في غزوة أحد. ولكننا نرى أنها ألصق بهذا الدرس فألحقناها به.. [.....](1/534)
وسلم- عند مقدمه إلى المدينة، وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج.. ولكن كان بقي من حوله: بنو النضير، وبنو قريظة، وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة.. وكلهم يتراسلون ويتجمعون، ويتصلون بالمنافقين في المدينة، وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة، ويكيدون للمسلمين كيداً لا ينقطع ولا يكف.
وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين:
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا. فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» .. فلما أبلغهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا التحذير- الذي جاء رداً على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر- أساءوا أدبهم في استقباله وقالوا: يا محمد. لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. ثم مضوا في دسهم وكيدهم، الذي روت هذه السورة منه الواناً شتى، حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- من العهد. فحاصرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلوا على حكمه، فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات.. وبقيت الطائفتان الأخريان: بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما- في الظاهر- مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة.. وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله، وسجله عليها السجل الصادق- كتاب الله- وتعارفه أهل الأرض كلهم، عن ذلك الجنس الملعون! وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها. يبدو فيه سوء الأدب مع الله- سبحانه- بعد سوء الفعل مع المسلمين. وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول- صلى الله عليه وسلم- ثم يزيدون فيقولون: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» ! ويبدو فيه التعلل الواهي، الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم وكذب هذا التعلل، ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف. هذا الواقع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم، وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق، ونبذه وراء ظهورهم، وشرائهم به ثمناً قليلاً. وبقتلهم أنبياءهم بغير حق، وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها، وجاءوهم بالبينات فرفضوها.
وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم، وأقاويلهم على ربهم، كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة، وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم- هم والمشركون- للمسلمين. كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية تبصرهم بما حولهم، وبمن حولهم وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها، وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم، وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق..
وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة. ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان، على مدار التاريخ..
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتوالى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير.. نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة. فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل. وكل نفس ذائقة الموت على كل حال. إنما الجزاء هناك، والكسب والخسارة هناك. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .. وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم، والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب. فلا(1/535)
عاصم لهم إلا الصبر والتقوى، والمضي مع المنهج، الذي يزحزحهم عن النار! وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو، قائماً اليوم وغداً، يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق، لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله.. يبصرها بطبيعة أعدائها- وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب- الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية! - ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها، وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء. ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك. بما عند الله. ويهوّن عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال. ويناديها- كما نادى الجماعة المسلمة الأولى-: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
والقرآن هو القرآن. كتاب هذه الأمة الخالد. ودستورها الشامل. وحاديها الهادي. وقائدها الأمين.
وأعداؤها هم أعداؤها.. والطريق هو الطريق..
180- «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. قُلْ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ» ..
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة، عمن تعنيهم، ومن تحذرهم البخل، وعاقبة يوم القيامة.. ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات، في شأن اليهود. فهم- قبحهم الله- الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء. وهم الذين قالوا: إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول- صلى الله عليه وسلم- والإنفاق في سبيل الله.
وقد نزل هذا التحذير التهديدي، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- رداً على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم، ومن كذب تعلاتهم ونزلت معه المواساة للرسول- صلى الله عليه وسلم- عن تكذيبهم، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم. ومنهم أنبياء بني إسرائيل، الذين قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل:
«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
إن مدلول الآية عام. فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ويحسبون أن هذا البخل خير لهم، يحفظ لهم أموالهم، فلا تذهب بالإنفاق.(1/536)
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة ناراً.. وهو تهديد مفزع.. والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم «يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم. فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئاً.. ولا جلودهم..! فآتاهم الله من فضله فأغناهم. حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا «مِنْ فَضْلِهِ» شيئاً لم يذكروا فضل الله عليهم. وبخلوا بالقليل، وحسبوا أن في كنزه خيراً لهم. وهو شر فظيع. وهم- بعد هذا كله- ذاهبون وتاركوه وراءهم. فالله هو الوارث: «وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فهذا الكنز إلى أمد قصير. ثم يعود كله إلى الله. ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته، فيبقى مدخراً لهم عنده، بدلاً من أن يطوقهم إياه يوم القيامة! 181- ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال- الذي آتاهم الله من فضله- فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله، لا حاجة بهم إلى جزائه، ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله- وهو ما يسميه تفضلاً منه ومنة إقراضاً له سبحانه- وقالوا في وقاحة: ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا. ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة، وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة؟! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله:
«لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ. سَنَكْتُبُ ما قالُوا! وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .
وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة. ولكن هذه تبلغ مبلغاً عظيماً من سوء التصور ومن سوء الأدب معاً.. ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق:
«سَنَكْتُبُ ما قالُوا» ..
لنحاسبهم عليه، فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل.. وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة- وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه- فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم:
«وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» ..
وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء، آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام.. وهم يزعمون أنهم قتلوه، متباهين بهذا الجرم العظيم..!
«وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» ..
والنص على «الْحَرِيقِ» هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه. ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه.. جزاء على الفعلة الشنيعة: قتل الأنبياء بغير حق. وجزاء على القولة الشنيعة: إن الله فقير ونحن أغنياء.
182- «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» ..
جزاء وفاقاً، لا ظلم فيه، ولا قسوة:
«وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ..
والتعبير بالعبيد هنا، إبراز لحقيقة وضعهم- وهم عبيد من العبيد- بالقياس إلى لله تعالى. وهو يزيد في شناعة الجرم، وفظاعة سوء الأدب. الذي يتجلى في قول العبيد: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء..(1/537)
هؤلاء الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قتلوا الأنبياء.. هم الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد- صلى الله عليه وسلم- لأن الله عهد إليهم- بزعمهم- ألا يؤمنوا لرسول، حتى يأتيهم بقربان يقدمونه، فتقع المعجزة، وتهبط نار تأكله، على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل. وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله!! 183- هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي.. لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات:
«الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ، حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» .
وهي مجابهة قوية، تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر، وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله! 184- وهنا يلتفت إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- مسلياً مواسياً، مهوناً عليه ما يلقاه منهم، وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور:
«فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ» .
فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب. والأجيال المتعاقبة- وبخاصة من بني إسرائيل- تلقوا بالتكذيب رسلاً جاءوهم بالبينات والخوارق، وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية- وهي الزبر- وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.. فهذا هو طريق الرسل والرسالات.. وما فيه من عناء ومشقة. وهو وحده الطريق.
185- بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال:
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»
..
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما.. يموت الصالحون ويموت الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن.. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت.. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .. كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة.. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر.
الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير:
«وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..(1/538)
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هيئته، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة.. فقد فاز..
صورة قوية. بل مشهد حي. فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته. فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان- حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة- يظل أبداً مقصراً في العمل.. إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى! وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار! «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..
إنها متاع. ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة.. إنها متاع الغرور. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا. أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله.. فهو ذاك.. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
186- وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس. عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة- إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال- وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل..
عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس. وقد استعدت نفوسهم للبلاء:
«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
إنها سنة العقائد والدعوات. لا بد من بلاء، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام.
إنه الطريق إلى الجنة. وقد حفت الجنة بالمكاره. بينما حفت النار بالشهوات.
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها. طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال. وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً. فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها..
فهم عليها مؤتمنون.
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال. فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال.
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة. فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها.
والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة..(1/539)
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية. ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها. وحقيقة الجماعات والمجتمعات. وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس. ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال! ثم.. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير، ولا بد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون.. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها.. أفواجاً.. في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات. وما يصبر على ما فيها من مشقة ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد.. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
«وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام. وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال. من أهل الكتاب من حولها. ومن المشركين أعدائها.. ولكنها سارت في الطريق. لم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها.. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت. وأن توفية الأجور يوم القيامة. وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور.. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو.. والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان. والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان. وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها، تتوالى القرون والأجيال وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال..
والقرآن هو القرآن..
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها.. ولكن القاعدة واحدة: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» ! ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك.
أحياناً في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحياناً في أصحابها وقيادتها. وهذه الصور تتجدد مع الزمان. وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية. فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق..
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها.. يبقى هذا التوجيه القرآني حاضراً يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها. وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق. ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة.. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي.. تستبشر بهذا(1/540)
كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل. وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق. ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود.. في صبر وفي تقوى.. وفي عزم أكيد..
187- ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب.
ونبذهم له. وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه، حين يسألون عنه:
«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» ! وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم- وبخاصة اليهود- وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه، ولبسه بالباطل، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين، وفي صحة الإسلام، وفي وحدة الأسس والمبادئ بينه وبين الأديان قبله، وفي تصديقه لها وتصديقها له.. وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوراة..
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعاً غاية البشاعة حين ينكشف أيضاً أن الله- سبحانه- قد أخذ عليهم العهد- وهو يعطيهم الكتاب- أن يبينوه للناس، ويبلغوه، ولا يكتموه أو يخفوه. وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله- والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد فيمثله في حركة:
«فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ» ! وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة، ابتغاء ثمن قليل:
«وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» .
هو عرض من أعراض هذه الأرض، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود! وكله ثمن قليل، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور! فما أقل هذا الثمن ثمناً لعهد الله! وما أقل هذا المتاع متاعاً حين يقاس بما عند الله! «فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» ! 188- وقد ورد في رواية للبخاري- بإسناده- عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه. وأنه في هذا نزلت آية:
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا، فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وفي رواية أخرى للبخاري- بإسناده- عن أبي سعيد الخدري، أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانوا إذا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلت: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ(1/541)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ... » .
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا. فكثيراً ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها. فيروى أنها نزلت فيها. أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك: إنها نزلت فيها..
ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول.
فأما إذا كانت الأولى، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. ثم هم يكتمونه. ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري! وأما إذا كانت الثانية، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية. وهي تصور نموذجاً من الناس يوجد على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويوجد في كل جماعة. نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي، وتكاليف العقيدة، فيقعدون متخلفين عن الكفاح. فإن غُلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم، ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة.. أما إذا انتصر المكافحون وغنموا، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم وينتحلون لأنفسهم يداً في النصر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا! إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء. نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين. فإذا ملامحه واضحة للعيان، وسماته خالدة في الزمان.. وتلك طريقة القرآن.
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول- صلى الله عليه وسلم- أنهم لا نجاة لهم من العذاب. وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه ولا معين:
«فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
189- والذي يتوعدهم به هو الله. مالك السماوات والأرض. القادر على كل شيء. فأين المفازة إذن؟ وكيف النجاة؟
«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 200]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(1/542)
هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه: من مقوّمات التصور الإسلامي. وتقرير هذه المقوّمات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب، ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين. وبيان طبيعة هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في الأنفس والأموال. وتعليم الجماعة المسلمة كيف تنهض بهذه التكاليف، وكيف تستقبل الابتلاء بالسراء والضراء، وكيف تتجرد لهذه العقيدة وتكاليفها الضخمة في الأنفس والأموال.. إلى آخر ما ضمه سياق السورة، واستعرضناه في الجزئين الثالث والرابع من هذه الظلال..
فالآن يجيء هذا الإيقاع الأخير في السورة- أو هذه الإيقاعات الأخيرة- متناسقة في موضوعها وفي أسلوبها مع ذلك الحشد من الإيقاعات من ناحية الموضوع ومن ناحية الأداء تجيء بحقيقة عميقة: إن هذا الكون بذاته كتاب مفتوح، يحمل بذاته دلائل الإيمان وآياته ويشي وراءه من يد تدبره بحكمة ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا آخرة، وحساباً وجزاء.. إنما يدرك هذه الدلائل، ويقرأ هذه الآيات، ويرى هذه الحكمة، ويسمع هذه الإيحاءات «أولوا الألباب» من الناس، الذين لا يمرون بهذا الكتاب المفتوح، وبهذه الآيات الباهرة مغمضي الأعين غير واعين! وهذه الحقيقة تمثل أحد مقومات التصور الإسلامي عن هذا «الكون» والصلة الوثيقة بينه وبين فطرة «الإنسان» والتفاهم الداخلي الوثيق بين فطرة الكون وفطرة الإنسان ودلالة هذا الكون بذاته على خالقه من جهة وعلى الناموس الذي يصرّفه وما يصاحبه من «غاية» و «حكمة» و «قصد» من جهة أخرى.. وهي ذات أهمية بالغة في تقرير موقف «الإنسان» من «الكون» و «إله» الكون سبحانه وتعالى. فهي ركيزة من ركائز التصور الإسلامي للوجود «1» .
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «فكرة الإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان» . «دار الشروق» .(1/543)
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله «لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب، وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح، ويتأملون ما ينطق به من الآيات، وما يوحي به من الغايات.. استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر، والنهوض بتكاليف هذا الإيمان، الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح.. مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة. وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي، التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار.
وعطفاً على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين، يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن، وجزاؤه المناسب، ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع، التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح، ودعائهم الخاشع المنيب. وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وتقدم وصفهم في السورة.
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة، وتمثل خصائصها المطلوبة، وتكاليفها المحددة، والتي بها يكون الفلاح:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا، وَصابِرُوا، وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل، وموضوعاتها الرئيسية، ويتسق معها كل الاتساق.
190- «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ. فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا، وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ... » ..
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؟ ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عند ما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ» ..
إلى نهاية ذلك الدعاء؟
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم. وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون، بالليل والنهار.
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيهاً مكرراً مؤكداً إلى هذا الكتاب المفتوح الذي لا تفتأ صفحاته تقلب، فتتبدى في كل صفحة آية موحية، تستجيش في الفطرة السليمة إحساساً بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب، وفي «تصميم» هذا البناء، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق، ومودعه هذا الحق، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان!!! وأولو الألباب.. أولو الإدراك الصحيح.. يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات. ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشف مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله(1/544)
إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلة نشأته، وقوام فطرته. بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود.
ومشهد السماوات والأرض، ومشهد اختلاف الليل والنهار. لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا. لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة. لو استنقذنا حسنا من همود الإلف، وخمود التكرار..
لارتعشت له رؤانا، ولا هتزت له مشاعرنا، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف.. وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعاً، ولا يمكن أن يكون جزافاً، ولا يمكن أن يكون باطلاً.
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس. ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى «الجاذبية» أو غير الجاذبية.. هذه فروض تصح أو لا تصح، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها.. وهذه النواميس- أياً كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان- هي آية القدرة، وآية الحق، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويراً دقيقاً، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح، في التعامل مع الكون، وفي التخاطب معه بلغته، والتجاوب مع فطرته وحقيقته، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته. ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب «معرفة» للإنسان المؤمن الموصول بالله، وبما تبدعه يد الله «1» .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: «قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ» .. وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار.. فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانباً من مشهد الذكر.. فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين.
الحقيقة الأولى: أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب.. هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر. ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته.. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله.
لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة. ولاستقامت الحياة- بهذه العلوم- واتجهت إلى الله.
ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ومن هنا يتحول العلم- أجمل هبة من الله للإنسان- لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار! 191- والحقيقة الثانية: أن آيات الله في الكون، لا تتجلى على حقيقتها الموحية، إلا للقلوب الذاكرة العابدة.
وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم- وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار- هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل
__________
(1) كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «فكرة الإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان» . «دار الشروق» .(1/545)
والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.. فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية- بدون هذا الاتصال- فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق. ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف! فهما أمران متلازمان، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال.
إنها لحظة تمثل صفاء القلب، وشفافية الروح، وتفتح الإدراك، واستعداده للتلقي. كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع..
إنها لحظة العبادة. وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال. فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهما للحقيقة الكامنة فيها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثاً ولا باطلاً. ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة، للخطة الواصلة.
«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ!» ..
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلاً. ولكن ليكون حقاً. الحق قوامه. والحق قانونه. والحق أصيل فيه.
إن لهذا الكون حقيقة، فهو ليس «عدماً» كما تقول بعض الفلسفات! وهو يسير وفق ناموس، فليس متروكاً للفوضى. وهو يمضي لغاية، فليس متروكاً للمصادفة. وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل.
هذه هي اللمسة الأولى، التي تمس قلوب «لِأُولِي الْأَلْبابِ» من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال. وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلاً:
«رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا. سُبْحانَكَ!» ..
ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته.
« ... فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ... » ..
فما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه- عند أولي الألباب- أن هناك تقديراً وتدبيراً، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقاً وعدلاً وراء حياة الناس في هذا الكوكب. ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال. ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء.
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع. لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود.. وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر. 192- ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء(1/546)
الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام! ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار.. لا بد من وقفة أمام قولهم:
«رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ» .. «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» ..
إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف- قبل كل شيء- من الخزي الذي يصيب أهل النار. وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولاً رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار. فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله، فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله، وأن الظالمين ما لهم من أنصار..
193- ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل:
«رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ. فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» ..
فهي قلوب مفتوحة ما إن تتلقى حتى تستجيب. وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة، فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها، فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، والوفاة مع الأبرار.
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها، في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية، في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة. المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان، مع أعداء الله وأعداء الإيمان.. والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال.
194- وختام هذا الدعاء. توجه ورجاء. واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
«رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ..
فهو استنجاز لوعد الله، الذي بلغته الرسل، وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد، ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة، يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء، ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي، وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه. مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله.
والدعاء في مجموعه يمثل الاستجابة الصنادقة العميقة، لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه، في القلوب السليمة المفتوحة..
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء، من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء..
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها- والقوافي في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفاً متحداً، ولكنها إيقاع متشابه- مثل: «بَصِيرٌ. حَكِيمٌ. مُبِينٌ. مُرِيبٍ» .. «الْأَلْبابِ، الْأَبْصارِ.
النَّارَ. قَرارٍ» .. «خَفِيًّا. شَقِيًّا. شَرْقِيًّا
. شَيْئاً» .. الخ.
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير. والثانية في مواضع الدعاء. والثالثة في مواضع الحكاية.
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى. ولم تبعد عنها إلا في موضعين: أولهما في أوائل السورة وفيه(1/547)
دعاء. والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد..
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني.. فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية، وعذوبة صوتية.
تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال.
195- وهناك ظاهرة فنية أخرى.. إن عرض هذا المشهد: مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم، عميق النبرات. فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته، على الأعصاب والأسماع والخيال، فيؤثر في الوجدان، بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف.. وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضاً أصيلاً من أغراض التعبير القرآني، ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته. ثم.. طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك:
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى - بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ- فَالَّذِينَ هاجَرُوا، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ.. لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» ..
وهي استجابة مفصلة، وتعبير مطول، يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني وفق مقتضى الحال، ومتطلبات الموقف، من الجانب النفسي والشعوري «1» .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية، ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته، ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه..
إن أولي الألباب هؤلاء، تفكروا في خلق السماوات والأرض، وتدبروا اختلاف الليل والنهار، وتلقوا من كتاب الكون المفتوح، واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه، فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق.. ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم، على دعائهم المخلص الودود..
فماذا كانت الاستجابة؟
لقد كانت قبولاً للدعاء، وتوجيهاً إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ.. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» ..
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر. وليس مجرد الخشوع والارتجاف. وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار.. إنما هو «العمل» . العمل الإيجابي، الذي ينشأ عن هذا التلقي، وعن هذه الاستجابة، وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة. العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر، والذكر والاستغفار، والخوف من الله، والتوجه إليه بالرجاء. بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة، والذي يقبل من الجميع: ذكرانا وإناثاً بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس.
فكلهم سواء في الإنسانية- بعضهم من بعض- وكلهم سواء في الميزان..
ثم تفصيل للعمل، تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال كما تتبين منه طبيعة المنهج، وطبيعة الأرض التي يقوم عليها، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك، وضرورة مغالبة العوائق، وتكسير
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «التناسق الفني» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(1/548)
الأشواك، وتمهيد التربة للنبتة الطيبة، والتمكين لها في الأرض، أياً كانت التضحيات، وأياً كانت العقبات:
«فَالَّذِينَ هاجَرُوا، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» .
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة. الذين هاجروا من مكة، وأخرجوا من ديارهم، في سبيل العقيدة، وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه، وقاتلوا وقتلوا.. ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها.. في كل أرض وفي كل زمان.. صورتها وهي تنشأ في الجاهلية- أية جاهلية- في الأرض المعادية لها- أية أرض- وبين القوم المعادين- أي قوم- فتضيق بها الصدور، وتتأذى بها الأطماع والشهوات، وتتعرض للأذى والمطاردة، وأصحابها- في أول الأمر- قلة مستضعفة.. ثم تنمو النبتة الطيبة- كما لا بد أن تنمو- على الرغم من الأذى، وعلى الرغم من المطاردة، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها. فيكون القتال، ويكون القتل.. وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات، ويكون الجزاء ويكون الثواب.
هذا هو الطريق.. طريق هذا المنهج الرباني، الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري، وعن طريق هذا الجهد، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله. ابتغاء وجه الله.
وهذه هي طبيعة هذا المنهج، ومقوماته، وتكاليفه.. ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية، وطريقته في التوجيه، للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقاً للمنهج الذي أراده الله «1» .
196- ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله.. التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنة لأصحابه، ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين، الذي يعانون ما يعانون، من أذى وإخراج من الديار، وقتل وقتال:
«لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ.. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» ..
وتقلب الذين كفروا في البلاد، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة. يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد.. وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون! .. ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم فيزيدهم ضلالاً وبطراً ولجاجاً في الشر والفساد.
هنا تأتي هذه اللمسة:
«لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» .
197- متاع قليل.. ينتهي ويذهب.. أما المأوى الدائم الخالد، فهو جهنم.. وبئس المهاد!
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «منهج التربية الإسلامية» لمحمد قطب فصل «تربية العقل» «دار الشروق» .(1/549)
198- وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات. وخلود. وتكريم من الله:
«جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. «خالِدِينَ فِيها» .. «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» ..
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند الله خير للأبرار. وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان. وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب! إن الله- سبحانه- في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة.. مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه.
إنه يعدهم هنا شيئاً واحداً. هو «ما عِنْدَ اللَّهِ» . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة. وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع- حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله- حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها! هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء.. فقط. وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء.. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء.. ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة. ليس جزءاً من الصفقة.
ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا. وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء.. والابتلاء..
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة وعلى هذا كان البيع والشراء. ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعني ليلة العقبة (ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه- صلى الله عليه وسلم- على الهجرة إليهم) :
اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» . قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» .. قالوا: ربح البيع. ولا نقيل ولا نستقيل» ..
هكذا.. «الجنة» .. والجنة فقط! لم يقل: النصر والعز والوحدة. والقوة. والتمكين. والقيادة. والمال.
والرخاء- مما منحهم الله وأجراه على أيديهم- فذلك كله خارج عن الصفقة! وهكذا.. ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل.. لقد أخذوها صفقة بين متبايعين أنهي أمرها، وأمضي عقدها.
ولم تعد هناك مساومة حولها! وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها. فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب(1/550)
لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة «1» .
199- وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب، فيقرر أن فريقاً منهم يؤمن إيمان المسلمين، وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم. وسار سيرتهم. وله كذلك جزاؤهم:
«وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب. وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير. ففي معرض الإيمان، وفي مشهد الدعاء والاستجابة، يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق، وانتهوا إلى النهاية. فآمنوا بالكتاب كله، ولم يفرقوا بين الله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله. آمنوا بما أنزل إليهم من قبل، وآمنوا بما أنزل للمسلمين- وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود وتنظر إلى خط العقيدة موصولاً بالله، وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة، ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب: سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمناً قليلاً.. ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب، وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله. ثم التزوير والكتمان لآيات الله، لقاء أعراض الحياة الرخيصة! ويعدهم أجر المؤمنين عند الله. الذي لا يمطل المتعاملين معه- حاشاه-! «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
200- ثم يجيء الإيقاع الأخير، في نداء الله للذين آمنوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا، وَصابِرُوا، وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
إنه النداء العلوي للذين آمنوا. نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء. والتي تلقي عليهم هذه الأعباء.
والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .
النداء لهم. للصبر والمصابرة، والمرابطة، والتقوى..
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى.. يذكران مفردين، ويذكران مجتمعين.. وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة، وإلى المرابطة والتقوى، فيكون هذا أنسب ختام.
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة. إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم
__________
(1) راجع ص 206- 212 من الجزء الثاني في تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» .(1/551)
للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة. من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحياناً في الخير، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع..
والصبر على هذا كله- وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل.. لا تصوره حقيقة الكلمات.
فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة. إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات! والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي. فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء.
كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه..
والمصابرة.. وهي مفاعلة من الصبر.. مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين.. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة.
بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء.
فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار.. ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء. وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق! والمرابطة.. الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء.. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس. وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان! إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي. منهج يتحكم في ضمائرهم، كما يتحكم في أموالهم، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم. منهج خير عادل مستقيم. ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة.. ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان. ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال. وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار. وينهد لحربها المستهترون المنحلون، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات.. ولا بد من مجاهدتهم جميعاً. ولا بد من الصبر والمصابرة. ولا بد من المرابطة والحراسة. كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل..
هذه طبيعة هذه الدعوة، وهذا طريقها.. إنها لا تريد أن تعتدي ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم.. وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام. ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد. ومن يتربص بها الدوائر. ومن يحاربها باليد والقلب واللسان.. ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل(1/552)
تكاليفها، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!! والتقوى.. التقوى تصاحب هذا كله. فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ويحرسه أن يضعف ويحرسه أن يعتدي ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك.
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات..
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات. وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها.. ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
«لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
وصدق الله العظيم..(1/553)
(4) سورة النّساء مدنيّة وآياتها ستّ وسبعون ومائة
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مدنية، وهي أطول سور القرآن- بعد سورة البقرة- وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة، التي تقول الروايات: إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة.
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول- كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول- ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها، والسورة الواحدة- على هذا- كانت تظل «مفتوحة» فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن.
وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك.
ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر- على كل حال- أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية، إلى ما بعد السنة الثامنة، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة.
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» .. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة (أو في السنة الرابعة على رواية) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: «خذوا عني. خذوا عني.
قد جعل الله لهن سبيلا ... » «1» إلخ. وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور.
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب. على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة «2» ..
__________
(1) رواه الإمام أحمد في سنده والإمام مسلم في صحيحه وابن ماجه
(2) ص 27 من الجزء الأول.(1/554)
هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة، وإنشاء المجتمع الإسلامي وفي حماية تلك الجماعة، وصيانة هذا المجتمع. وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد، الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني. وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني.. تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد، من السفح الهابط، إلى القمة السامقة.. خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة.. بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك! وكما رأينا من قبل- في سورة البقرة وسورة آل عمران- مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف، وما في وسائلهم من خسة والتواء ... إلخ ... فكذلك نرى القرآن- في هذه السورة- يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق..
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا.. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها، وتتميز به شخصيتها. كالكائن الحي المميز السمات والملامح، وهو- مع هذا- واحد من جنسه على العموم! ونحن نرى في هذه السورة- ونكاد نحس- أنها كائن حي، يستهدف غرضا معينا، ويجهد له، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل.. والفقرات والآيات والكلمات في السورة، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها- كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن- إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي، المعروف السمات، المميز الملامح، صاحب القصد والوجهة، وصاحب الحياة والحركة، وصاحب الحس والشعور! إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي- الذي منه التقطت المجموعة المسلمة- ونبذ رواسبه وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم، وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه، وجلاء شخصيته الخاصة.
كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله- من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود- وأعدائه المتميعين فيه- من ضعاف الإيمان والمنافقين- وكشف وسائلهم وحبلهم ومكايدهم، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم. مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط.
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية، وهي تتصارع مع المنهج الجديد، والقيم الجديدة، والاعتبارات الجديدة. ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة. ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان. وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة، عن المعركة(1/555)
التي يخوضها في الميدان الآخر، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه! وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها- كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى- قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها.. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر.. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط، الذي تمثله تلك الرواسب، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة.. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح، فيرتقي بها إلى تلك القمة، رويدا رويدا، في يسر ورفق، وفي ثبات وصبر، وفي خطو متناسق موزون! والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة.. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله- من السفح إلى القمة- وبكل ظواهره، وبكل تجاربه، ولترى البشرية- في عمرها كله- أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد. سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحه الذي التقط منه «الأميين» ! إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته، لأنه يتعامل مع «الإنسان» . وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوّله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة، تلك الكينونة البشرية الثابتة. ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجه بها «الإنسان» ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة، وهو محافظ على مقوماته الأساسية.. مقوّمات الإنسان..
وفي «الإنسان» هذا الاستعداد، وهذه المرونة، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله. وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان، ذات الخصائص، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان، ومودع خصائصه ذاتها، ومعدّ للعمل معه إلى آخر الزمان.
وهكذا يستطيع ذلك المنهج، وتستطيع هذه النصوص، أن تلتقط الفرد الإنساني، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية، من أي مستوى، ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد، فينتهي به وبها إلى القمة السامقة..
إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء، ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى. كما أنه لا يضيق به ولا بها، ولا يعجز عن رفعه ورفعها، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق! المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة، والمجتمع الصناعي المتحضر، كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة.. كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانه، ويجد من(1/556)
يأخذ بيده من هذا المكان، فيرقى به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، التي حققها الإسلام، في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني..
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ. إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر.
وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء. ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم، يأخذ البشر عن بشر مثلهم: التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها. الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر، حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون الله.
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر. لأنهم يتلقون التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد، من يد الله- سبحانه- فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها لله وحده، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده. ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد، حين يصبحون كلهم عبيدا لله بلا شريك.
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية- في كل صورة من صورها- وبين الإسلام. وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب.
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم، كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي، وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة، وإما إبطال حالة قائمة.. وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .. ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا. وفي هذا تمكن المعجزة. فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها، هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية، في أي طور من أطوارها. والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة- أيا كان موقفها على الدرج الصاعد- ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة، التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى، يوم التقطها من ذلك السفح السحيق! ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي، من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها، وأن يثبتها في المجتمع الجديد..
فماذا نحن واجدون- في هذه السورة- من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة، منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية؟ وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها! إننا نجد مجتمعا تؤكل فيه حقوق الأيتام- وبخاصة اليتمات- في حجور الأهل والأولياء والأوصياء، ويستبدل الخبيث منها بالطيب، ويعمل فيها بالإسراف والطمع، خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال، ليتخذهن الأولياء زوجات، طمعا في مالهن لا رغبة فيهن! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته! ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث. إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء، القادرون على حمل السلاح ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات.
وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات، هو الذي يحتجزن من أجله، ويحبسن على(1/557)
الأطفال من الذكور أو على الشيوخ من الأولياء. كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء! ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم، ويعاملها بالعسف والجور. في كل أدوار حياتها. يحرمها الميراث- كما قلنا- أو يحبسها لما ينالها منع، ويورّثها للرجل كما يورثه المتاع! فإذا مات زوجها جاء وليه، فألقي عليها ثوبه، فيعرف أنها محجوزة له. إن شاء نكحها بغير مهر، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها! ويعضلها زوجها إذا طلقها، فيدعها لا هي زوجة، ولا هي مطلقة، حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها! ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه، علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء، واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب، فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية. حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة.
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية. وتغتصب فيه الحقوق. وتجحد فيه الأمانات.
وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح. ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء. كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس، اجتلابا للمفاخر، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء! وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية- وهي التي تصدت لها هذه السورة- ووراءها ما صورته السور الأخرى، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب، وفيمن حولهم من الأمم»
..
إنه لم يكن- قطعا- مجتمعا بلا فضائل. فقد كانت له فضائله، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى.
ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا، ووجهها الوجهة البناءة. وكانت- لولا الإسلام- مضيعة تحت ركام هذه الرذائل، مفرقة غير متجمعة، وضائعة غير موجهة. وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة، لولا هذا المنهج، الذي جعل يمحو ملامح الجاهلية الشائهة، وينشئ أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها، والتي اندثرت كلها، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة! من تلك الجاهلية، التي هذه بعض ملامحها، التقط الإسلام المجموعة التي قسم الله لها الخير، وقدّر أن يسلمها قيادة البشر، فكون منها الجماعة المسلمة، وأنشأ بها المجتمع المسلم. ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط، والتي ما تزال أملا للبشرية، يمكن أن تحاوله، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق.
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم، بعد تطهيره من رواسب الجاهلية، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي.
نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها، ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة، واتصالها بوشيجة الرحم، مع استجاشة هذه الروابط كلها في الضمير البشري، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها، وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة، ذات الخالق الواحد، وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة وتنظيم الأسرة
__________
(1) يراجع ما سبق تفصيله من ملامح الجاهلية العربية في هذا الجزء عند تفسير قوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ... » ص 508(1/558)
المسلمة والمجتمع المسلم، والمجتمع الإنساني كله، على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» .. وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي، تقوم عليها الحياة الجماعية. نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة.
ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة:
في حماية اليتامى نجد التوجيه الموحي، والتحذير المخيف، والتشريع المحدد الأصول: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (آية 2) ..
«وَابْتَلُوا الْيَتامى، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً، وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» (آية 6) .. «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ، وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (9- 10) ..
وفي حماية الإناث خاصة- يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات- وحفظ حقهن جميعا في الميراث، وفي الكسب، وفي حقهن في أنفسهن، واستنقاذهن من عسف الجاهلية، وتقاليدها الظالمة المهينة.. نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ، مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا «1» . وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» .. (3- 4) .. «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (آية 7) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ- إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ- وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟» .. (19- 21) .. «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ، وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» .. (آية 127) ..
وفي تنظيم الأسرة، وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة، وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية.. ترد مثل هذه التوجيهات والتوجيهات والتنظيمات- بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات-: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ، وَبَناتُكُمْ، وَأَخَواتُكُمْ، وَعَمَّاتُكُمْ، وَخالاتُكُمْ، وَبَناتُ الْأَخِ، وَبَناتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ، وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ،
__________
(1) تعولوا: تجوروا.(1/559)
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ- فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ، وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ- إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ- كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَأُحِلَّ لَكُمْ- ما وَراءَ ذلِكُمْ- أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً»
(22- 24) .. «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» .. (34- 35) .. «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ، وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» .. (128- 130) ..
وفي تنظيم علاقات الميراث والتكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الموالي والأولياء الذين كانوا متعاقدين قبل نزول تشريعات النسب، وإبطال التبني، ترد هذه المبادئ الجامعة وهذه التشريعات المحددة، ذات الأهداف الاجتماعية البعيدة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (آية 7) .. «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ، وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ- إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ- آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ- وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ- وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً، أَوِ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ- وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» .. (11- 12) .. «يَسْتَفْتُونَكَ. قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. (آية 176) .. «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» .. (آية 33) ..
وفي حماية المجتمع من الفاحشة، وتوفير أسباب الإحصان والوقاية.. نجد مثل هذه التنظيمات: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» .. (15- 16) .. «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ(1/560)
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
.. (25- 26) ..
وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح، والأمانة، والعدل، والسماحة والمودة، والإحسان.. ترد توجيهات وتشريعات شتى- إلى جانب ما ذكرنا من قبل- نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة: «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً، وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (آية 5) ..
«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» .. (آية 8) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ- وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. (29- 30) .. «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» .. (آية 32) .. «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَبِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى، وَالْجارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً، وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» .. (36-
38) .. «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .. (آية 58) .. «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً. وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» .. (85- 86) .. «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً..»
«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» .. (92-
93) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا. وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» .. (آية 135) .. «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» .. (148- 149) ..
إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل والمودة والطهارة ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة.. نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم- إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول- ذلك هو تحديد معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين، وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام.
إن الدين هو النظام الذي قرره الله للحياة البشرية بجملتها، والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها(1/561)
والله وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك. والدين هو الاتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع، ومنها وحدها يكون التلقي، ولها وحدها يكون الاستسلام.. فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة- كما له عقيدة خاصة وتصور خاص- قيادة ربانية متمثلة في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة الله ومنهجه. وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه «مجتمعا مسلما» . وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون «مسلما» بحال. وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى الله والرسول، ورد الأمر كله إلى الله، والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم.
وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة، وتقرير هذا الأصل، مبلغا حاسما جازما، لا سبيل للجدال فيه، أو الاحتيال عليه، أو تمويهه وتلبيسه، لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال! وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة. وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق. فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا:
يتمثل على وجه الإجمال في آية الافتتاح في السورة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ..» .. كما يتمثل في مثل هذه الآيات: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ... » (آية 36) .. «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» .. (آية 48) ..
ويتمثل على وجه التخصيص والتحديد في مثل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» .. (59- 61) .. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. (آية 64) .. «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .. (آية 65) .. «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» .. (آية 80) .. «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ- مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى - وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» .. (آية 115) ..
وهكذا يتحدد معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، ونظام المجتمع المسلم، ومنهجه في الحياة.
وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات.. إنما هو إلى جانب هذا وذلك، وقبل هذا وذلك. نظام يحكم، ومنهج يتحكم، وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين، ومنهج معين، وقيادة معينة. وبغير هذا كله لا يكون إيمان، ولا يكون إسلام، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام.
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة. كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير:
1- يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع- شأنها شأن الشعائر التعبدية- مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير، مستندة إلى معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا. فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات. إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته،(1/562)
وإفراده بالألوهية، والتلقي من القيادة التي يحددها.. ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة، وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة:
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية، وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم، وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة.. تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» .. وتنتهي إلى تقواه، وتحذيرهم من رقابته: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى، وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير بالله وحسابه:
«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من الله: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... » «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» .. وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ..» .. «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» ..
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين.. إلخ وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات بالله، وتستمد من شريعته، وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع.
2- ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة. فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم، ولا يتبع منهجهم، ولا يخضع لنظامهم، ولا يتلقى من قيادتهم. كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد. علاقة قرابة. أو جنس. أو أرض أو مصلحة. وإلا فهو الشرك أو النفاق، وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ- مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى - وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، وَساءَتْ مَصِيراً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» .. (115- 116) .. «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» .. (آية 139) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» .. (144- 146) ..
3- ويترتب عليه وجوب هجرة المسلمين من دار الحرب- وهي كل دار لا تقوم فيها شريعة الإسلام ولا تدين للقيادة المسلمة- ليلحقوا بالجماعة المسلمة متى قامت في الأرض وأصبح لها قيادة وسلطان- وليستظلوا براية القيادة المسلمة ولا يخضعوا لراية الكفر- وهي كل راية غير راية الإسلام- وإلا فهو النفاق أو الكفر(1/563)
وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ؟ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ؟ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. (88- 89) .. «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. (97- 100) ..
4- ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين، الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر، وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام، كي لا يفتنوا عن دينهم، ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام، ولا يخضعوا لنظام غير نظامه. ثم لكي يتمتعوا بالنظام الإسلامي الرفيع، وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف. وهو حق كل مسلم، والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض، ومن أفضل طيبات الحياة: «وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» ..
(آية 75) ..
ويستتبع هذا الأمر حملة ضخمة للحض على الجهاد بالنفس والمال، والتنديد بالمعوّقين والمبطئين والقاعدين.
وهي حملة تستغرق قطاعا كبيرا من السورة، يرتفع عندها نبض السورة الهادئة الأنفاس! ويشتد إيقاعها، وتحمى لذعاتها في التوجيه والتنديد! ولا نملك هنا استعراض هذا القطاع بترتيبه في السياق- ولهذا الترتيب أهمية خاصة وإيحاء معين- فندع هذا إلى مكانه من السياق. ونكتفي بمقتطفات من هذا القطاع: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ، فَانْفِرُوا ثُباتٍ «1» أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ، فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً. فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً، الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» .. (71- 76) .. «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» .. (آية 84) .. «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ
__________
(1) جماعات أو سرايا.(1/564)
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. (95- 96) .. «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً..» (آية: 104) ..
وفي ثنايا هذه الحملة للحض على الجهاد توضع بعض قواعد المعاملات الدولية بين «دار الإسلام» والمعسكرات المتعددة التي تدور معها المعاملات، والخلافات:
في التعقيب على انقسام المسلمين فئتين ورأيين في أمر المنافقين، الذين يدخلون المدينة للتجارة والمنافع والاتصال مع أهلها، حتى إذا خرجوا منها عادوا موالين لمعسكرات الأعداء، يقول: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ، أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ، وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها. فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ، وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ، وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً» .. (89- 91) .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ: لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَبَيَّنُوا، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»
.. (آية 94) ..
وكذلك تجيء في ثنايا الحديث عن الجهاد بعض الأحكام الخاصة بالصلاة في حالة الخوف وحالة الأمن مع توصيات الله للمؤمنين وتحذيرهم من أعدائهم المتربصين: «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ- إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا- إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً! وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ- إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى - أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» ..
(101- 103) ..
وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية حتى لتذكر في مقام الخوف، وتبين كيفياتها في هذا المقام كما تدل على تكامل هذا المنهج، في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال..
ويستتبع الأمر بالجهاد كذلك حملة ضخمة على المنافقين وعلى موالاتهم لليهود في المدينة بينما هم يكيدون لدين الله، وللجماعة المسلمة، وللقيادة المسلمة كيدا شديدا. وعلى ألا عيبهم في الصف المسلم، وتمييعهم للقيم والنظم. وفي الآيات التي اقتطفناها من قطاع الجهاد طرف من الحملة على المنافقين، نضم إليه هذا القطاع المصور لحالهم وصفاتهم، الكاشف لطبيعتهم ووسائلهم: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ، وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ(1/565)
أَذاعُوا بِهِ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا»
.. (81- 83) .. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً. الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاللَّهُ، يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» .. (137- 145) ..
وفي قطاع الجهاد- وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة- نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة، وعلى العقيدة الإسلامية، والقيادة الإسلامية كذلك، من أهل الكتاب- وبخاصة اليهود- وحلفائهم من المنافقين في المدينة، والمشركين في مكة، وما حولهما.. وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، من قبل.. ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني. وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة، والأحابيل الماكرة، يقودها، ويوجهها، ويحذرها، ويكشف لها طبيعة أعدائها، وطبيعة المعركة التي تخوضها، وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة، وزواياها وجوانبها الخبيثة.
ومن علامات الإعجاز في هذا القرآن، أن هذه النصوص التي نزلت لتواجه معركة معينة، ما تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان، وعلى توالي الأجيال، وبين أعدائها التقليديين الذين ما يزالون هم هم، وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها، وإن اختلفت أشكالها وظواهرها وأسبابها القريبة، وما تزال أهدافهم هي هي في طبيعتها وإن اختلفت أدواتها ووسائلها، وما تزال زلزلة العقيدة، وزعزعة الصف، والتشكيك في القيادة الربانية، هي الأهداف التي تصوب إليها طلقاتهم الماكرة، للوصول من ورائها إلى الاستيلاء على مقاليد الجماعة المسلمة، والتصرف في مقاديرها، واستغلال أرضها وجهدها وغلاتها وقواها وطاقاتها، كما كانت يهود تستغل الأوس والخزرج في المدينة، قبل أن يعزهم الله ويجمعهم بالإسلام، وبالقيادة المسلمة، وبالمنهج الرباني.
وقد حفلت هذه السورة كما حفلت سورتا البقرة وآل عمران بالحديث عن تلك المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد الجماعة المسلمة، بالاتفاق مع المنافقين ومع المشركين. وستجيء هذه النصوص مشروحة عند استعراضها في مكانها في السياق. فنكتفي هنا بإثبات طرف من هذه الحملة العنيفة:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا- لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ- وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا،(1/566)
وَاسْمَعْ، وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً؟ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً..» .. (44- 55) ..
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» ..
(150- 151) ..
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ، فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ، وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً. وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ، وَقُلْنا لَهُمُ: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» ... «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (153- 161) .
ومن هذه المقتطفات تتبين بعض أفاعيل اليهود، التي يتصدى لها القرآن بالكشف والتنديد وبالتكذيب والتفنيد.. وهذه الحملة، وتسمية اليهود فيها بالكافرين، ووصفهم بأنهم «أعداء» ، تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من هذه الأفاعيل، وبضرورة التعرض لها بالتفنيد والتكذيب، وكشف ما ورائها من أهداف خبيثة، وبواعث خبيثة، من هذه الجبلة الخبيثة التي لم تستسلم أبدا للهدى في تاريخها الطويل، ولم تستقم على الهدى إلا ريثما تنحرف وتقتل أنبياءها بغير الحق. والتي كان يدفعها الحقد والحسد للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن آتاه الله الرسالة- وهو من غيرهم- وللمسلمين أن جمعهم الله على الهدى فتكيد لهم هذا الكيد الذي لم ينقطع منذ أن اقتحم الإسلام المدينة عليهم، إلى يومنا هذا. والذي ما يزال هو هو اليوم وغدا يتلقى كل تجمع إسلامي، وكل حركة إسلامية، وكل بعث إسلامي، على مدار القرون! ولقد كان التشكيك في نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم- ورسالته، هو الهدف الأول لحملات اليهود الذي يسهل بعد بلوغه تحويل المسلمين عن قيادتهم الأمينة- بعد تحويلهم عن عقيدتهم القويمة. ومن ثم يسهل تفتيت الصف المسلم، وإيهان تماسكه. فهذا التماسك حول العقيدة القويمة والقيادة الأمينة، هو الذي يتعب اليهود وأعداء الجماعة المسلمة- في كل زمان- وهو الذي يكلفهم الجهد والمشقة. ومن ثم تتجه جهودهم أولا لتحطيمه. وتسليم مقادة المسلمين إلى الهوى والجاهلية من جديد! ومن ثم نجد في السورة بيانا للحقيقة البسيطة في رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- فهي ليست بدعا من(1/567)
الرسالات ولا غريبة من الغرائب، التي لا عهد للأرض بها أو لا عهد بها لبني إسرائيل أنفسهم. إنما هي حلقة من سلسلة الحجة التي يأخذها الله على العباد قبل الحساب. فقد أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله.
وقد آتاه الله النبوة والحكم، كما آتى أنبياء بني إسرائيل! فلا غرابة في رسالته، ولا غرابة في قيادته، ولا غرابة في حاكميته. وكلها مألوف في عالم الرسالات. وكل تعلات بني إسرائيل في هذا الأمر كاذبة، وكل شبهاتهم كذلك باطلة. ولهم سوابق مثلها مع نبيهم الأكبر موسى عليه السلام، ومع أنبيائهم من بعده، وبخاصة مع عيسى عليه السلام، ومن ثم لا يجوز أن يلقي باله إليها أحد من المسلمين.
وتتولى آيات كثيرة في السورة بيان هذه الحقيقة. نقتطف بعضها في هذا المجمل حتى تجيء كلها مشروحة في مكانها من السياق:
«إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» .. (163- 166) ..
«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» .. «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» .. «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ- رَسُولَ اللَّهِ- وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ..»
(153- 157) .
«أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ..» .. (54- 55) ..
وكما تتولى السورة نصيبها من تنظيم المجتمع المسلم وتطهيره من رواسب الجاهلية وبيان معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام وترتب على هذا البيان مقتضياته من المبادئ والتوجيهات التي أسلفنا بيانها بصفة عامة وتتولى دفع شبهات اليهود وكيدهم- وبخاصة فيما يتعلق بصحة الرسالة- فهي كذلك تتولى بيان بعض مقومات التصور الإسلامي الأساسية، وتجلو عنها الغبش. وتبين ما في عقيدة أهل الكتاب- من النصارى- من غلو، بعد دفع المقولات اليهودية الكاذبة عن عيسى عليه السلام وأمه الطاهرة، وتقرر وحدة الألوهية وحقيقة العبودية، وتبين حقيقة قدر الله وعلاقته بخلقه، وحقيقة الأجل وعلاقته بقدر الله، وحدود ما يغفره الله من الذنوب، وحدود التوبة وحقيقتها، وقواعد العمل والجزاء ... إلى آخر هذه المقومات الاعتقادية الأصيلة.
وذلك في مثل هذه النصوص:
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ! وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (17- 18) .
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ(1/568)
ضَعِيفاً»
.. (26- 28) ..
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» .. (آية 31) ..
«إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .. (40) ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ- وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ- وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» .. (77- 79) ..
«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» (116) ..
«لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى - وَهُوَ مُؤْمِنٌ- فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» ..
(123- 124) ..
«ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» .. (147) ..
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ..
(150- 152) ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ! لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. (171- 173) ..
ثم الأسس الأخلاقية الرفيعة، التي يقام عليها بناء المجتمع المسلم.. والسورة تعرض من هذه الأسس جمهرة صالحة. سبقت الإشارة إلى بعضها. فالعنصر الأخلاقي أصيل وعميق في كيان التصور الإسلامي، وفي كيان المجتمع المسلم بحيث لا يخلو منه جانب من جوانب الحياة ونشاطها كله.. ونحن نكتفي هنا بالإشارة السريعة المجملة إلى بعض الأسس المستمدة من هذا العنصر الأصيل في حياة الجماعة المسلمة بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من محتويات السورة..
إنه مجتمع يقوم على العبودية لله وحده فهو مجتمع متحرر إذن من كل عبودية للعبيد، في آية صورة من صور العبودية، المتحققة في كل نظام على وجه الأرض، ما عدا النظام الإسلامي الذي تتوحد فيه الألوهية(1/569)
وتتمحض لله فلا تخلع خاصية من خواصها على أحد من عباده ولا يدين بها الناس لأحد من عبيده.. ومن هذه الحرية تنطلق الفضائل كلها، وتنطلق الأخلاقيات كلها، لأن مرجعها جميعا إلى ابتغاء رضوان الله، ومرتقاها ممتد إلى التحلي بأخلاق الله، وهي مبرأة إذن من النفاق والرياء، والتطلع إلى غير وجه الله.. وهذا هو الأصل الكبير في أخلاقية الإسلام، وفي فضائل المجتمع المسلم..
ثم ترد بعض مفردات العنصر الأخلاقي- إلى جانب ذلك الأصل الكبير- في السورة.. فهو مجتمع يقوم على الأمانة. والعدل. وعدم أكل الأموال بالباطل. وعدم النجوى والتآمر إلا في معروف. وعدم الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. والشفاعة الحسنة. والتحية الحسنة. ومنع الفاحشة. وتحريم السفاح والمخادنة.
وعدم الاختيال والفخر، والرياء والبخل، والحسد والغل.. كما يقوم على التكافل والتعاون والتناصح والتسامح، والنخوة والنجدة، وطاعة القيادة التي لها وحدها حق الطاعة.. إلخ.
وقد سبق ذكر معظم النصوص التي تشير إلى هذه الأسس.. وسيرد تفصيلها عند استعراضها في موضعها من السياق.. فنكتفي هنا بالإشارة إلى الحادث الفذ، الذي يشير إلى القمة السامقة، التي تتطلع إليها أنظار الإنسانية، وتظل تتطلع، ولا تبلغ إليها أبدا- كما لم تبلغ إليها قط- إلا في ظل هذا المنهج الفريد العجيب:
.. في الوقت الذي كانت يهود تكيد ذلك الكيد الجاهد للإسلام ونبيه، وللصف المسلم وقيادته.. كان القرآن يصنع الأمة المسلمة على عين الله، فيرتفع بتصوراتها وأخلاقها، ونظامها وإجراءاتها إلى القمة السامقة..
وكان يعالج حادثا يتعلق بيهودي فرد، هذا العلاج الذي سنذكره..
كان الله يأمر الأمة المسلمة بالأمانة المطلقة، وبالعدل المطلق «بَيْنَ النَّاسِ» .. الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم، وقومياتهم وأوطانهم.. كان يقول لهم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ! إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .. (آية 58) ..
وكان يقول لهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما. فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ..
ثم.. كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي.. فرد.. من اتهام ظالم، وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار، ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادئ السامقة بعد، ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص. فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي! والتواطؤ على اتهامه، والشهادة ضده- في حادث سرقة درع- أمام النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة، ويبرئ الفاعل الأصلي! تنزلت هذه الآيات ذوات العدد، فيها عتاب شديد للنبي- صلى الله عليه وسلم- وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي- صلى الله عليه وسلم- وعزروه ونصروه.. إنصافا ليهودي، من تلك الفئة التي تؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشد الإيذاء، وتنصب لدعوته، وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئيم! وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا. وفيها- من ثم- تلك النقلة العجيبة، إلى تلك القمة السامقة، وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد.
لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي.. من يهود..(1/570)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
«إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً «1» . وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ- وَهُوَ مَعَهُمْ- إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا؟ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً. لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ، إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً، وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» .. (105- 116) ..
فماذا؟ ماذا يملك الإنسان أن يقول؟ إلا أنه المنهج الفريد، الذي يملك- وحده- أن يلتقط الجماعة البشرية، من سفح الجاهلية ذاك فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة، في مثل هذا الزمن القصير؟! والآن نكتفي بهذه التقدمة للسورة، وموضوعاتها، وخط سيرها.. وقد أشرنا إلى ذلك الحشد من الحقائق والتصورات، والتوجيهات والتشريعات، التي تتضمنها.. مجرد إشارة.. عسى أن نبلغ شيئا في بيانها التفصيلي، عند استعراض النصوص في مكانها من السياق..
والموفق هو الله..
[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
__________
(1) خصيما: محاميا ومدافعا.(1/571)
هذا الشوط الأول في السورة يبدأ بآية الافتتاح، التي ترد «النَّاسُ» إلى رب واحد، وخالق واحد كما تردهم إلى أصل واحد، وأسرة واحدة، وتجعل وحدة الإنسانية هي «النفس» ووحدة المجتمع هي الأسرة، وتستجيش في النفس تقوى الرب، ورعاية الرحم.. لتقيم على هذا الأصل الكبير كل تكاليف التكافل والتراحم في الأسرة الواحدة، ثم في الإنسانية الواحدة، وترد إليه سائر التنظيمات والتشريعات التي تتضمنها السورة.
وهذا الشوط يضم من تلك التكاليف ومن هذه التشريعات، ما يتعلق بالضعاف في الأسرة وفي الإنسانية من اليتامى، وتنظم طريقة القيام عليهم وعلى أموالهم كما تنظم طريقة انتقال الميراث بين أفراد الأسرة الواحدة، وأنصباء الأقرباء المتعددي الطبقات والجهات، في الحالات المتعددة.. وهي ترد هذا كله إلى الأصل الكبير الذي تضمنته آية الافتتاح، مع التذكير بهذا الأصل في مطالع بعض الآيات أو في ثناياها، أو في خواتيمها، توثيقاً للارتباط بين هذه التنظيمات والتشريعات، وبين الأصل الذي تنبثق منه، وهو الربوبية، التي لها حق التشريع والتنظيم، هذا الحق الذي منه وحده ينبثق كل تشريع وكل تنظيم.
1- «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
إنه الخطاب «للناس» .. بصفتهم هذه، لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم.. والذي خلقهم «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» .. «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها. وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» ..
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جداً، وعميقة جداً، وثقيلة جداً.. ولو ألقى «النَّاسُ» أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم، وبنقلهم من الجاهلية- أو من الجاهليات المختلفة- إلى الإيمان والرشد والهدى، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة «بالناس» و «بالنفس» واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله..
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالاً فسيحاً لتأملات شتى:
1- إنها ابتداء تذكر «النَّاسُ» بمصدرهم الذي صدروا عنه وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض.. هذه الحقيقة التي ينساها «النَّاسُ» فينسون كل شيء! ولا يستقيم لهم بعدها أمر! إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه.. فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم.
فقد كانوا- قبل أن يجيئوا- عدماً لا إرادة له.. لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء. فإرادة أخرى- إذن- غير إرادتهم، هي التي جاءت بهم إلى هنا.. إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي قررت أن تخلقهم.
إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي رسمت لهم الطريق، وهي التي اختارت لهم خط الحياة.. إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون! وعلى غير استعداد، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد.
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق..
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم، وخطت لهم طريق الحياة فيه، ومنحتهم القدرة على التعامل معه، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير. وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم، وأن تشرع لهم أنظمتهم(1/573)
وقوانينهم، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم. وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده الله رب العالمين.
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» ..
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخرة، ففرقت بين أبناء «النفس» الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة. وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة، وصلة الربوبية وحقها في التقوى.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً باستبعاد الصراع العنصري، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة في الجاهلية الحديثة، التي تفرق بين الألوان، وتفرق بين العناصر، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي، الذي تسيل فيه الدماء أنهاراً، في الدول الشيوعية، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية، ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع! 3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة «خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» .. كانت كفيلة- لو أدركتها البشرية- أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة، التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشر والبلاء.. وهي من النفس الأولى فطرة وطبعاً، خلقها الله لتكون لها زوجاً، وليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فلا فارق في الأصل والفطرة، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة..
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلاً. جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها. فترة من الزمان. تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له. فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى، وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان.
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد..
4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة. فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة. فخلق ابتداء نفساً واحدة، وخلق منها زوجها. فكانت أسرة من زوجين. «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» .. ولو شاء الله لخلق- في أول النشأة- رجالاً كثيراً ونساء، وزوجهم، فكانوا أسراً شتى من أول الطريق. لا رحم بينها من مبدأ الأمر. ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد.
وهي الوشيجة الأولى. ولكنه- سبحانه- شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها، أن يضاعف الوشائج. فيبدأ(1/574)
بها من وشيجة الربوبية- وهي أصل وأول الوشائج- ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى- هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة- ومن هذه الأسرة الأولى بيت رجالاً كثيراً ونساء، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة. التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني. بعد قيامه على أساس العقيدة.
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء- وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى.
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي.. وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية- كل جاهلية- ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة «1» .
5- وأخيراً فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعدادتهم- بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة- على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال.. التنوع في الأشكال والسمات والملامح. والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر. والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف.. إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبرة عن علم وحكمة، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائماً تتجدد، والتي لا يقدر عليها إلا الله، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله. فالإرادة التي لا حد لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد! والتأمل في «النَّاسُ» على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زاداً من الأنس والمتاع، فوق زاد الإيمان والتقوى..
وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع! وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر، يردّ «النَّاسُ» إلى تقوى الله، الذي يسأل بعضهم بعضاً به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعا:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» ..
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضاً الوفاء باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه.. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات.
.. وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن. أما تقوى الأرحام، فهي تعبير عجيب. يلقي ظلاله الشعورية في النفس، ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال! اتقوا الأرحام. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها. والإحساس بحقها. وتوقي هضمها وظلمها، والتحرج من خدشها ومسها.. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها.. أرهفوا حساسيتكم بها، وتوقيركم لها، وحنينكم إلى نداها وظلها.
ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية:
__________
(1) يراجع بتوسع فصل «سلام البيت» في كتاب «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق» .(1/575)
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
وما أهولها رقابة! والله هو الرقيب! وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب.
2- من هذا الافتتاح القوي المؤثر، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته: من التكافل في الأسرة والجماعة، والرعاية لحقوق الضعاف فيها، والصيانة لحق المرأة وكرامتها، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع..
ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد. وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعاً في أموالهن. أما السفهاء الذين يُخْشَى من إتلافهم للمال، إذا هم تسلموه، فلا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الجماعة، ولها فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة.
«وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ. إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً، وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَابْتَلُوا الْيَتامى، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ، وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
وتشي هذه التوصيات المشددة- كما قلنا- بما كان واقعاً في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة. والأيتام والنساء بصفة خاصة.. هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم- المقتطع أصلاً من المجتمع الجاهلي- حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصورات جديدة، ومشاعر جديدة، وعرفاً جديداً، وملامح جديدة.
«وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ، إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» ..
أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد. كأن تأخذوا أرضهم الجيدة، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم، أو أسهمهم، أو نقودهم- وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة- أو أي نوع من أنواع المال، فيه الجيد وفيه الرديء.. وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم، كلها أو بعضها.. إن ذلك كله كان ذنباً كبيراً. والله يحذركم من هذا الذنب الكبير..
فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة. فالخطاب يشي بأنه كان موجهاً إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور. وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية.. وفي كل جاهلية يقع مثل هذا. ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى. وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق،(1/576)
وشتى الحيل، من أكثر الأوصياء، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر. فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانونية، ولا الرقابة الظاهرية..
كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد.. التقوى.. فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره. كما وقع بعد نزول هذه الآية، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم، ويعزلوا طعامه عن طعامهم، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم، الذي حذرهم الله منه وهو يقول:
«إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» ..
إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات. ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات.. وهذه التقوى لا تجيش- تجاه التشريعات والتنظيمات- إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر.. عندئذ يحس الفرد- وهو يهم بانتهاك حرمة القانون- أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم إرادته وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله.. وعندئذ تتزلزل أقدامه، وترتجف مفاصله، وتجيش تقواه..
إن الله أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي- وهو خلقهم- ومن ثم جعل التشريع تشريعه، والقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته.. وقد علم- سبحانه- أنه لا يطاع أبداً شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب. وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير البطش والإرهاب، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة، وكلما واتتهم الحيلة. مع شعورهم دائماً بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض..
3- «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» ..
عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه- أنه سأل عائشة- رضي الله عنها- عن قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» فقالت: «يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه ما لها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا اليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن» قال عروة:
قالت عائشة: «وإن الناس استفتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية، فأنزل الله: «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ... » قالت عائشة: (وقول الله في هذه الآية الأخرى: «وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال) «1» .
وحديث عائشة- رضي الله عنها- يصور جانباً من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها، بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى
__________
(1) أخرجه البخاري.(1/577)
الضمائر، وهو يقول: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى» .. فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر. كأن ينكحها رغبة في مالها، لا لأن لها في قلبه مودة، ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها. وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفاً من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته.. إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل.. والقرآن يقيم الضمير حارساً، والتقوى رقيباً. وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
فعند ما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم، فهناك النساء غيرهن، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» ..
وهذه الرخصة في التعدد، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة، أو بما ملكت اليمين..
هذه الرخصة- مع هذا التحفظ- يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها. في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم، ويدعون لأنفسهم بصراً بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه! ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة، وبالجهالة والعمى. كأن ملابسات وضرورات جدّت اليوم، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله- سبحانه- ولا في تقديره، يوم شرّع للناس هذه الشرائع!!! وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى، بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب، بقدر ما فيها من الكفر والضلالة! ولكنها تقال، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها! وهم يتبجحون على الله وشريعته، ويتطاولون على الله وجلاله، ويتوقحون على الله ومنهجه، آمنين سالمين غانمين، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين! وهذه المسألة- مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام- يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها..
روى البخاري- بإسناده- أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم- وتحته عشر نسوة- فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اختر منهن أربعاً» ..
وروى أبو داود- بإسناده- أن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اختر منهن أربعاً» .
وقال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزياد يقول: أخبرني عبد المجيد عن ابن سهل بن عبد الرحمن، عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلمي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى» ..
فقد جاء الإسلام إذن، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل- بدون حد ولا قيد- فجاء ليقول للرجال: إن هناك حداً لا يتجاوزه المسلم- هو أربع- وإن هناك قيداً- هو إمكان العدل- وإلا فواحدة..(1/578)
أو ما ملكت أيمانكم..
جاء الإسلام لا ليطلق، ولكن ليحدد. ولا ليترك الأمر لهوى الرجل، ولكن ليقيد التعدد بالعدل. وإلا امتنعت الرخصة المعطاة! ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟
إن الإسلام نظام للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال.
إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقفه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. في غير إنكار لفطرته أو تنكر وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف! إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء ولا على التظرف المائع ولا على «المثالية» الفارغة ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء! وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي، من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخى دائما أن ينشئ واقعاً يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع.
فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات..
فماذا نرى؟
نرى.. أولاً.. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج.. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يُعرف تاريخياً أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد. وهو يدور دائماً في حدودها.
فكيف نعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة. هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟
نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟! إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري! ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء..
وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:
1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج.. ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال! 2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجاً شرعياً نظيفاً. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينا أو خليلاً في الحرام والظلام! 3- أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل،(1/579)
زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام! الاحتمال الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال. ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب. فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان. وألف عمل، وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية.. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة، ومطالب الروح والعقل، من السكن والأنس بالعشير.. والرجل يجد العمل ويجد الكسب ولكن هذا لا يكفيه، فيروح يسعى للحصول على العشيرة، والمرأة كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة! والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف وضد كرامة المرأة الإنسانية. والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع، هم أنفسهم الذين يتعاملون على الله، ويتطاولون على شريعته. لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير! والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء. يختاره متمشياً مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح، والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة. ولكن في يسر ولين وواقعية! ثم نرى.. ثانياً.. في المجتمعات الإنسانية. قديماً وحديثاً. وبالأمس واليوم والغد. إلى آخر الزمان. واقعاً في حياة الناس، لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله.
نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها. فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة.
وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما، امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار. فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال. ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع- الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال- هذه الرخصة- لا على سبيل الإلزام الفردي، ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري، ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء.. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائماً في التشريع الإلهي. لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية، لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له، ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة، ولا تنظر من جميع الزوايا، ولا تراعي جميع الاحتمالات.
ومن الحالات الواقعية- المرتبطة بالحقيقة السالفة- ما نراه أحياناً من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية، مع رغبة الزوجة عنها- لعائق من السن أو من المرض- مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال- فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟
نواجهها بهز الكتفين وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟
إن هز الكتفين- كما قلنا- لا يحل مشكلة. والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية،(1/580)
ومشكلاتها الحقيقية..
وعندئذ نجد أنفسنا- مرة أخرى- أمام احتمال من ثلاثة احتمالات:
1- أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق، ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها! 2- أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء! 3- أن نبيح لهذا الرجل التعدد- وفق ضرورات الحال- ونتوقى طلاق الزوجة الأولى..
الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق الطاقة، وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي. وثمرته القريبة- إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان- هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت، ومعاناة جحيم هذه الحياة.. وهذه ما يكرهه الإسلام، الذي يجعل من البيت سكناً، ومن الزوجة أنساً ولباساً.
والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي، وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية، ورفعها وتطهيرها وتزكيتها، كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان! والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية، ويلبي منهج الإسلام الخلقي، ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية، ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما، وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية.
وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة، مع رغبة الزوج الفطرية في النسل. حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما:
1- أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل.
2- أو أن يتزوج بأخرى، ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى.
وقد يهذر قوم من المتحذلقين- ومن المتحذلقات- بإيثار الطريق الأول. ولكنّ تسعاً وتسعين زوجة- على الأقل- من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور- فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج- وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً في الأطفال الصغار، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة أياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص.
وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية، التي لا تصغي للحذلقة، ولا تستجيب للهذر، ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم.. وجدنا مظاهر الحكمة العلوية، في سن هذه الرخصة، مقيدة بذلك القيد:
«فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ- مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ- فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» فالرخصة تلبي واقع الفطرة، وواقع الحياة وتحمي المجتمع من الجنوح- تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال.. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال، ويحمي الزوجة من الجور والظلم ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل. ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة.
إن أحداً يدرك روح الإسلام واتجاهه، لا يقول: إن التعدد مطلوب لذاته، مستحب بلا مبرر من ضرورة(1/581)
فطرية أو اجتماعية وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني، وإلا التنقل بين الزوجات، كما يتنقل الخليل بين الخليلات.
إنما هو ضرورة تواجه ضرورة، وحل يواجه مشكلة. وهو ليس متروكاً للهوى، بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي، الذي يواجه كل واقعيات الحياة.
فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة. إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحاً للذة الحيوانية. إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات.
إذا أنشئوا «الحريم» في هذه الصورة المريبة.. فليس ذلك شأن الإسلام وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام.. إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام، ولم يدركوا روحه النظيف الكريم.
والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام، ولا تسيطر فيه شريعته. مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة، تدين للإسلام وشريعته وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه، وآدابه وتقاليده.
إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه، هو المسئول الأول عن هذه الفوضى. هو المسئول الأول عن «الحريم» في صورته الهابطة المريبة. هو المسئول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية.
فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام، وشريعة الإسلام، ومنهج الإسلام فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال.. من شاء الإصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها. فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل..
والعدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة. أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس، فلا يطالب به أحد من بني الإنسان، لأنه خارج عن إرادة الإنسان.. وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ- وَلَوْ حَرَصْتُمْ- فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» .. هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلاً على تحريم التعدد. والأمر ليس كذلك. وشريعة الله ليست هازلة، حتى تشرع الأمر في آية، وتحرمه في آية، بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال! فالعدل المطلوب في الآية الأولى والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة، وسائر الأوضاع الظاهرة، بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها.. على نحو ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو أرفع إنسان عرفته البشرية، يقوم به. في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه، أنه يحب عائشة- رضي الله عنها- ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة، لا تشاركها فيها غيرها.. فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها. إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يعرف دينه ويعرف قلبه. فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» «1» ..
ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة، أن الإسلام لم ينشئ التعدد إنما حدده. ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده. وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية، وضرورات الفطرة الإنسانية. هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منها. وقد يكون وراءها غيرها تظهره أطوار الحياة في أجيال أخرى، وفي ظروف أخرى كذلك. كما يقع في كل تشريع أو توجيه جاء به هذا المنهج الرباني، وقصر البشر في فترة من فترات التاريخ، عن استيعاب كل ما وراءه من حكمة ومصلحة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. [.....](1/582)
فالحكمة والمصلحة مفترضتان وواقعتان في كل تشريع إلهي، سواء أدركهما البشر أم لم يدركوهما، في فترة من فترات التاريخ الإنساني القصير، عن طريق الإدراك البشري المحدود! ثم ننتقل إلى الإجراء الثاني الذي تنص عليه الآية عند الخوف من عدم تحقق العدل:
«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» ..
أي إنه إن خيف عدم العدل في التزوج بأكثر من واحدة تعين الاقتصار على واحدة! ولم يجز تجاوزها.
أو «ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» من الإماء زواجاً أو تسرياً، فالنص لم يحدد.
ولقد سبق أن وقفنا في الجزء الثاني من هذه الظلال وقفة قصيرة أمام مسألة الرق إجمالاً «1» . فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة.
إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية. فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها- حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج- فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى «أم ولد» ويمتنع على سيدها بيعها وتصبح حرة بعد وفاته. أما ولدها فهو حر منذ مولده.
وكذلك عند التسري بها. فإنها إذا ولدت أصبحت «أم ولد» وامتنع بيعها، وصارت حرة بعد وفاة سيدها. وصار ولدها منه كذلك حراً إذا اعترف بنسبه، وهذا ما كان يحدث عادة.
فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة.. على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه. فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة- كما بينا هناك- وأن الضرورة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله، هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شراً من هذا المصير! على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات، لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن، ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه.. فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج، وإما أن تتم عن طريق تسري السيد، ما دام نظام الاسترقاق قائماً، كي لا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي، والفوضى الجنسية، لا ضابط لها، حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة، كما كانت الحال في الجاهلية.
أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء- عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور، واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي، وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء، وعربدة السكر والرقص والغناء.. إلى آخر ما نقلته إلينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء.. أما هذا كله فليس هو الإسلام. وليس من فعل الإسلام، ولا إيحاء الإسلام. ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي، ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي..
إن الواقع التاريخي «الإسلامي» هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي «الإسلامي» .. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام، خارجاً على أصوله وموازينه، فلا يجوز أن يحسب منه، لأنه انحراف عنه.
__________
(1) صفحة 230- 231 من الجزء الثاني.(1/583)
إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل. فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام، إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين. الإسلام هو الأصل، والمسلمون فرع عنه، ونتاج من نتاحه. ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي. إلا أن يكون مطابقاً للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم، والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم، ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام.
إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر، ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم- وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به، فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته، ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة- ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ، والأوضاع المتطورة في أنظمتهم، هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم، وطبقوها على أنفسهم.
فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم، إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم.. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي «الإسلامي» وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية، فليس هذا واقعاً تاريخياً للإسلام. إنما هو انحراف عن الإسلام! ولا بد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي. فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية، وهي تختلف تماماً مع سائر النظريات التاريخية الأخرى، التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي، هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب، وتبحث عن «تطور» النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه، وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة، ويؤدي إلى أخطار كثيرة، في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي.
وأخيراً تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها.. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل:
«ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» ..
ذلك.. البعد عن نكاح اليتيمات- إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى- ونكاح غيرهن من النساء- مثنى وثلاث ورباع- ونكاح الواحدة فقط- إن خفتم ألا تعدلوا- أو ما ملكت أيمانكم.. «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» ..
أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا.
وهكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط، هو رائد هذا المنهج، وهدف كل جزئية من جزئياته..
والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة. وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله، ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة، وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف، فإن لم يقم على العدل والود والسلام، فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام «1» .
4- ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء- وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن- قبل أن يستكمل
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «سلام البيت» في كتاب «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق» .(1/584)
الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها:
«وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» ..
وهذه الآية تنشئ للمرأة حقاً صريحاً، وحقاً شخصياً، في صداقها. وتنبئ بما كان واقعاً في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار. وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين. كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقاً للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجباً لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج «نحلة» - أي هبة خالصة لصاحبتها- وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها- كله أو بعضه- فهي صاحبة الشأن في هذا تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالاً طيباً هنيئاً مريئاً. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك.
وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها. وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة.
5- فإذا انتهى من هذا الاستطراد- الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء- عاد إلى أموال اليتامى يفصل في أحكام ردها إليهم، بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال.
إن هذا المال، ولو أنه مال اليتامى، إلا أنه- قبل هذا- مال الجماعة، أعطاها الله إياه لتقوم به وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه. فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام، واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره- بإذن من الجماعة- ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم، ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره راشدين في تصريفه وتدبيره- والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار «1» - أما السفهاء من اليتامى ذوي المال، الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره، فلا يسلم لهم، ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه- وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم- إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة. مع مراعاة درجة القرابة لليتيم، تحقيقاً للتكافل العائلي، الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى! وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته:
«وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً، وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» ..
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «سياسة المال» في كتاب: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» . «دار الشروق» .(1/585)
6- ويتبين السفه والرشد- بعد البلوغ- وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة، ولا يحتاج إلى تحديد مفهومه بالنصوص. فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك، وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ، الذي يعبر عنه النص بكلمة: «النكاح» وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ:
«وَابْتَلُوا الْيَتامى، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ، وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد. كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم، بمجرد تبين الرشد- بعد البلوغ- وتسليمها لهم كاملة سالمة، والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها، وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها- إذا كان الولي غنياً- والأكل منها في أضيق الحدود- إذا كان الولي محتاجاً- ومع وجوب الإشهاد في محضر التسليم.. وختام الآية: التذكير بشهادة الله وحسابه:
«وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
كل هذا التشديد، وكل هذا البيان المفصل، وكل هذا التذكير والتحذير.. يشي بما كان سائداً في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع، وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد، ومن بيان وتفصيل، لا يدع مجالاً للتلاعب عن أي طريق..
وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النفوس والمجتمعات، ويثبت معالم الإسلام ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع، ويثبت ملامح الإسلام. وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده، وشرائعه وقوانينه، في ظلال تقوى الله ورقابته، ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع. ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة: «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» ..
7- ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية- في الغالب- إلا التافه القليل. لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرساً، ولا يردون عادياً! فإذا شريعة الله تجعل الميراث- في أصله- حقاً لذوي القربى جميعاً- حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد- وذلك تمشياً مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي التكافل الإنساني العام. وحسب قاعدة: الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج، والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح، فعدلٌ إذن أن يرثه- إن ترك مالاً- بحسب درجة قرابته وتكليفه به. والإسلام نظام متكافل متناسق. ويبدو تكامله وتناسقه واضحاً في توزيع الحقوق والواجبات..
هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة.. وقد نسمع هنا وهناك لغطاً حول مبدأ الإرث، لا يثيره إلا التطاول على الله- سبحانه- مع الجهل بطبيعة الإنسان، وملابسات حياته الواقعية! إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي، يضع حداً لهذا اللغط على الإطلاق..
إن قاعدة هذا النظام هي التكافل.. ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية. هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثاً في الفطرة، إنما خلقها لتؤدي دوراً أساسياً في حياة الإنسان.(1/586)
ولما كانت روابط الأسرة- القريبة والبعيدة- روابط فطرية حقيقية لم يصطنعها جيل من الأجيال ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام.. لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام. وجعل الإرث مظهراً من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة. فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.
فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة، لتكملها وتقويها. فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة، جهود الأسرة، وجهود الجماعة المحلية المحدودة.. وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة.. أولاً لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة، تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نمواً طبيعياً غير مصطنع- فضلاً على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث- أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشئ آثاراً طبيعية تلائم الفطرة.. فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته- وبخاصة ذريته- يحفزه إلى مضاعفة الجهد، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر. لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة «1» . فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عند ما تحتاج..
وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهداً- كما يقال! - فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة، ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجاً وذاك ذا مال. ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عند ما تحتاج. تمشياً مع قاعدة التكافل العام «2» .
ثم إن العلاقة بين المورث والوارث- وبخاصة الذرية- ليست مقصورة على المال. فإذا نحن قطعنا وراثة المال، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى، والوراثات الأخرى بينهما.
إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة، لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده. إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة، والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة، والانحراف والاستقامة، والحسن والقبح، والذكاء والغباء.. إلخ. وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم، ولا تتركهم من عقابيلها أبداً. فمن العدل إذن أن يورثوهم المال. وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء، ولا تملك الدولة- بكل وسائلها- أن تعفيهم من هذه الوراثات.
من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية- ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى- شرع الله قاعدة الإرث «3» :
«لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ- مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» ..
هذا هو المبدأ العام، الذي أعطى الإسلام به «النساء» منذ أربعة عشر قرناً، حق الإرث كالرجال- من
__________
(1، 2، 3) يراجع بتوسع فصل: الفرد والمجتمع في كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» لمحمد قطب. ويراجع فصل التكافل الاجتماعي في كتاب العدالة الاجتماعية. وفي كتاب دراسات إسلامية للمؤلف. وفصل سياسة المال في كتاب العدالة. «دار الشروق» .(1/587)
ناحية المبدأ- كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم. لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج. أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني، ينظر إلى «الإنسان» - أولاً- حسب قيمته الإنسانية. وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال! ثم ينظر إليه- بعد ذلك- حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة.
8- ولما كان نظام التوريث- كما سيجيء- يحجب فيه بعض ذوي القربى بعضاً، فيوجد ذوو قرابة، ولكنهم لا يرثون، لأن من هم أقرب منهم سبقوهم فحجبوهم، فإن السياق يقرر للمحجوبين حقاً لا يحدده- إذا هم حضروا القسمة- تطييباً لخاطرهم، كي لا يروا المال يفرق وهم محرومون، واحتفاظاً بالروابط العائلية، والمودات القلبية. كذلك يقرر لليتامى والمساكين مثل هذا الحق تمشياً مع قاعدة التكافل العام:
«وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» ..
وقد وردت في هذه الآية روايات شتى عن السلف. ما بين قولهم إنها منسوخة، نسختها آيات الميراث المحددة للأنصبة، وقولهم: إنها محكمة. وما بين قولهم: إن مدلولها واجب مفروض، وقولهم: إنه مستحب ما طابت به أنفس الورثة.. ونحن لا نرى فيها دليلاً للنسخ، ونرى أنها محكمة وواجبة. في مثل هذه الحالات التي ذكرنا. معتمدين على إطلاق النص من جهة، وعلى الاتجاه الإسلامي العام في التكافل من جهة أخرى.. وهي شيء آخر غير أنصبة الورثة المحددة في الآيات التالية على كل حال.
9- وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة، يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى.. يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين: أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب. والثانية تمس مكان الرهبة من النار، والخوف من السعير، في مشهد حسي مفزع:
«وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً. إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» ..
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب. قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار. بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح، لا راحم لهم ولا عاصم. كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم، بعد أن فقدوا الآباء. فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غداً موكولة إلى من بعدهم من الأحياء، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء.. مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولا هم الله عليهم من الصغار، لعل الله أن يهيئ لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان. وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولاً سديداً، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم..
10- أما اللمسة الثانية، فهي صورة مفزعة: صورة النار في البطون.. وصورة السعير في نهاية المطاف.. إن هذا المال.. نار.. وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود.
هي النار من باطن وظاهر. هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود، وحتى لتكاد تراها العيون، وهي تشوي البطون والجلود! ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين. خلصتها من رواسب(1/588)
الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس- أي مساس- بأموال اليتامى.. كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال! من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لما نزلت:
«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» .. الآية.. انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء، فيحبس له، حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى. قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ.. «الآية» فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم..
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر، إلى ذلك الأفق الوضيء وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب..
11- والآن نجيء إلى نظام التوارث. حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم فتدل هذه الوصية على أنه- سبحانه- أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم، وبين الأقرباء وأقاربهم. وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه، وأن ينفذوا وصيته وحكمه.. وأن هذا هو معنى «الدين» الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا.. كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ..
ثم يأخذ في التفريع، وتوزيع الأنصبة، في ظل تلك الحقيقة الكلية، وفي ظل هذا المبدأ العام.. ويستغرق هذا التفصيل آيتين: أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع، والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة.
ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالاً لبعض حالات الكلالة (وسنعرضها في موضعها) :
«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ. وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ- إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ، وَوَرِثَهُ أَبَواهُ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ- آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ- وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ- وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً، أَوِ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ- غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» ..
هاتان الآيتان، مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة، ونصها: «يَسْتَفْتُونَكَ. قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ. وَهُوَ يَرِثُها- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ- فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً، فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..(1/589)
هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض- أي علم الميراث- أما التفريعات فقد جاءت السّنة ببعضها نصاً، واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقاً على هذه الأصول. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه- فنكتفي- في ظلال القرآن- بتفسير هذه النصوص، والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي..
«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ..» ..
وهذا الافتتاح يشير- كما ذكرنا- إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض، وإلى الجهة التي صدرت منها، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد..
وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان..
إن الله هو الذي يوصي، وهو الذي يفرض، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس- كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة- ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم- وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم- وهذا هو الدين. فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده وليس هناك إسلام، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور- جل أو حقر- من مصدر آخر. إنما يكون الشرك أو الكفر، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس.
وإن ما يوصي به الله، ويفرضه، ويحكم به في حياة الناس- ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم- لهو أبر بالناس وأنفع لهم، مما يقسمونه هم لأنفسهم، ويختارونه لذرياتهم.. فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا. وإنما نحن أعرف بمصالحنا.. فهذا- فوق أنه باطل- هو في الوقت ذاته توقح، وتبجح، وتعالم على الله، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول! قال العوفي عن ابن عباس: ( «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» .. وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض، للولد الذكر، والأنثى، والأبوين، كرهها الناس- أو بعضهم- وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير. وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يجوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث، لعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينساه، أو نقول له فيغير! فقالوا: يا رسول الله، تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم. ويعطى الصبي الميراث، وليس يغني شيئاً- وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر) .. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير..
فهذا كان منطق الجاهلية العربية، الذي كان يحيك في بعض الصدور اليوم- وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكمية.. ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم- وهي تواجه فريضة الله وقسمته- لعله يختلف كثيراً أو قليلاً عن منطق الجاهلية العربية. فيقول: كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري؟ وهذا المنطق كذاك.. كلاهما لا يدرك الحكمة، ولا يلتزم الأدب وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب! «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ..
وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث، فإنهم يأخذون جميع التركة، على أساس أن(1/590)
للبنت نصيباً واحداً، وللذكر نصيبين اثنين.
وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس. إنما الأمر أمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة، وهي معه، وهي مطلقة منه.. أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء. وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال.. فالرجل مكلف- على الأقل- ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي. ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم. ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسريّ لا تستقيم معها حياة.
ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول:
«فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ، وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» .
فإذا لم يكن له ذرية ذكور، وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان. فإن كان له بنت واحدة فلها النصف.. ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له: الأب أو الجد. أو الأخ الشقيق. أو الأخ لأب. أو العم. أو أبناء الأصول..
والنص يقول: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» .. وهذا يثبت الثلثين للبنات- إذا كن فوق اثنتين- أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة.
فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن جابر.
قال: (جاءت امرأة سعد بن الربيع، إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ ما لهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال: «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث. فأرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما، فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك» ) ..
فهذه قسمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للبنتين بالثلثين. فدل هذا على أن البنتين فأكثر، لهما الثلثان في هذه الحالة.
وهناك أصل آخر لهذه القسمة وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين: «فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ» .. كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى، قياساً على الأختين. وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة.
وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين- عند وجودهما- في الحالات المختلفة.
مع وجود الذرية ومع عدم وجودها:
«وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ- إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» ..
والأبوان لهما في الإرث أحوال:
الحال الأول: أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها(1/591)
النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس. وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب. أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين، ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس.
والحال الثاني: ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة، وينفرد الأبوان بالميراث. فيفرض للأم الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب، فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين. فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف، أو الزوجة الربع. وأخذت الأم الثلث (إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم.
والحال الثالث: هو اجتماع الأبوين مع الإخوة- سواء كانوا من الأبوين أو من الأب، أو من الأم- فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً، لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر ولكنهم- مع هذا- يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. فيفرض لها معهم السدس فقط. ويأخذ الأب ما تبقى من التركة. إن لم يكن هناك زوج أو زوجة. أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث، فيفرض لها الثلث معه، كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة.
ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين:
«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» ..
قال ابن كثير في التفسير: «أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية» .. وتقديم الدين مفهوم واضح. لأنه يتعلق بحق الآخرين. فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان، ما دام قد ترك مالاً، توفية بحق الدائن، وتبرئة لذمة المدين. وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير، ومن الثقة في المعاملة، ومن الطمأنينة في جو الجماعة، فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته، حتى بعد وفاته:
عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله. أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نعم. إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر» . ثم قال: «كيف قلت؟» فأعاد عليه. فقال: «نعم. إلا الدين. فإن جبريل أخبرني بذلك» ..
(أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي) .
وعن أبي قتادة كذلك: أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- برجل ليصلي عليه. فقال- صلى الله عليه وسلم-:
«صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً» فقلت: هو عليَّ يا رسول الله. قال: «بالوفاء؟» قلت: بالوفاء. فصلى عليه.
وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها. وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضاً. وقد يكون المحجوبون معوزين أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت. ولا وصية لوارث. ولا وصية في غير الثلث.
وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية.
وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد:(1/592)
«آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض. فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء، لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر. وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء. وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل، وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله، ولما يفرضه الله بإشعارها أن العلم كله لله وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعاً، ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة:
«آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» ..
واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية. فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة. إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة:
«فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» ..
فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء. والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال. والله هو الذي يفرض، وهو الذي يقسم، وهو الذي يشرع. وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم، ولا أن يحكموا هواهم، كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم! «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب. تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس- مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره- فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة. فالله يحكم لأنه عليم- وهم لا يعلمون- والله يفرض لأنه حكيم- وهم يتبعون الهوى.
وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث، لرد الأمر إلى محوره الأصيل. محوره الاعتقادي. الذي يحدد معنى «الدين» فهو الاحتكام إلى الله. وتلقي الفرائض منه. والرضى بحكمه: «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
12- ثم يمضي يبين بقية الفرائض:
«وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ. وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ- فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ-» ..
والنصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد- ذكراً أو أنثى- فأما إذا كان لها ولد- ذكراً أو أنثى، واحداً أو أكثر- فللزوج ربع التركة. وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها. وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع.. وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية. كما سبق.
والزوجة ترث ربع تركة الزوج- إن مات عنها بلا ولد- فإن كان له ولد- ذكراً أو أنثى. واحداً أو متعدداً. منها أو من غيرها. وكذلك أبناء ابن الصلب- فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن.. والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة..(1/593)
والزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة، كلهن شريكات في الربع أو الثمن.
والحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة:
«وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً- أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ» ..
والمقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه- لا من أصوله ولا من فروعه- عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع. وقد سئل أبو بكر- رضي الله عنه- عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي. فإن يكن صواباً فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. (رواه ابن جرير وغيره عن الشعبي) ..
قال ابن كثير في التفسير: «وهكذا قال علي وابن مسعود. وصح عن غير واحد عن ابن عباس، وزيد ابن ثابت. وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم. وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة، والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف. بل جميعهم. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد» ..
«وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً- أَوِ امْرَأَةٌ- وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ..
وله أخ أو أخت- أي من الأم- فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكراً أم أنثى. فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم. إذ أنهم يرثون بالفرض- السدس لكل من الذكر أو الأنثى- لا بالتعصيب، وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض:
«فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ..
مهما بلغ عددهم ونوعهم. والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي. وإن كان هناك قول بأنهم- حينئذ- يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» ..
والإخوة لأم يخالفون- من ثم- بقية الورثة من وجوه:
أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.
والثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة. فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن.
والثالث:
أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم.
«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ- غَيْرَ مُضَارٍّ» ..
تحذيراً من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة. لتقام على العدل والمصلحة. مع تقديم الدين على الوصية.
وتقديمهما معاً على الورثة كما أسلفنا..
ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية- كما جاء في الآية الأولى-:
«وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» ..(1/594)
وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» صادرة منه ومردها إليه. لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى. صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع. وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد.
13- 14- توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة. قاعدة التلقي من الله وحده، وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين.
وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيباً نهائياً على تلك الوصايا والفرائض. حيث يسميها الله بالحدود:
«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها، وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
تلك الفرائض، وتلك التشريعات، التي شرعها الله لتقسيم التركات، وفق علمه وحكمته، ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.. «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» .. حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات، ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم.
ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم. كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين..
لماذا؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث وفي جزئية من هذا التشريع، وحد من حدوده؟
إن الآثار تبدو أضخم من الفعل.. لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق..
إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء. وقد أشرنا إليها في مقدمة التعريف بهذه السورة- وهي النصوص التي تبين معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر- على وجه الإجمال- بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين، في هذا التعقيب على آيتي المواريث:
إن الأمر في هذا الدين- الإسلام- بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ.. إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟
وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين، يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين! لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟
لله وحده- بلا شريك من خلقه- فهو الإيمان إذن، وهو الإسلام، وهو الدين.
لشركاء من خلقه معه، أو لشركاء من خلقه دونه، فهو الشرك إذن أو الكفر المبين.
فأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده، فهي الدينونة من العباد لله وحده. وهي العبودية من الناس لله وحده. وهي الطاعة من البشر لله وحده، وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك.. فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم. والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم. والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم.. وليس لغيره- أفراداً أو جماعات- شيء من هذا الحق إلا(1/595)
بالارتكان إلى شريعة الله. لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية. ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة.
وأما إن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله- شركة مع الله أو أصالة من دونه! - فهي الدينونة من العباد لغير الله. وهي العبودية من الناس لغير الله. وهي الطاعة من البشر لغير الله. وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين، التي يضعها ناس من البشر، لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه إنما يستندون إلى أسناد أخرى، يستمدون منها السلطان.. ومن ثم فلا دين، ولا إيمان، ولا إسلام.
إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان..
هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد، أو في الشريعة كلها.. لأن الأمر الواحد هو الدين- على ذلك المعنى- والشريعة كلها هي الدين.. فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس.. أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله- بكل خصائصها- أو إشراك أحد من خلقه معه. أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض. مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين! ومهما رددت ألسنتهم- دون واقعهم- أنهم مسلمون! هذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يشير إليها هذا التعقيب، الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة، وبين طاعة الله ورسوله، أو معصية الله ورسوله. وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونار خالدة وعذاب مهين! وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي تتكئ عليها نصوص كثيرة، في هذه السورة، وتعرضها عرضاً صريحاً حاسماً، لا يقبل المماحكة، ولا يقبل التأويل.
وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام، وأين حياتهم من هذا الدين! ثم لا بد كذلك من إضافة كلمة مجملة عن نظام الإرث في الإسلام بعد ما ذكرناه عن هذا النظام عند ما تعرضنا للآية التي تقرر المبدأ العام: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» .. وما ذكرناه كذلك عن مبدأ: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ..
إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال. يبدو هذا واضحاً حين نوازنه بأي نظام آخر، عرفته البشرية في جاهليتها القديمة، أو جاهليتها الحديثة، في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق.
إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملاً، ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل. فعصبة الميت هم أولى من يرثه- بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة- لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به، ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم. فهو نظام متناسق، ومتكامل.
وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة. فلا يحرم امرأة ولا صغيراً لمجرد أنه امرأة أو صغير. لأنه مع رعايته للمصالح العملية- كما بينا في الفقرة الأولى- يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة. فلا يميز جنساً على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي.(1/596)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة، وفطرة الإنسان بصفة خاصة. فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة. لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع. فهو أولى بالرعاية- من وجهة نظر الفطرة الحية- ومع هذا فلم يحرم الأصول، ولم يحرم بقية القرابات. بل جعل لكل نصيبه.
مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل.
وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي- وبخاصة الإنسان- في أن لا تنقطع صلته بنسله، وأن يمتد في هذا النسل. ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة، ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله، إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل، وأن جهده سيرثه أهله من بعده. مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد، ومما يضمن للأمة النفع والفائدة- في مجموعها- من هذا الجهد المضاعف. مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام.
وأخيراً فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة، على رأس كل جيل، وإعادة توزيعها من جديد. فلا يدع مجالاً لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة- كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر، أو تحصره في طبقات قليلة- وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة، ورده إلى الاعتدال، دون تدخل مباشر من السلطات.. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح. فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد فيتم والنفس به راضية، لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس!!! «1»
[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 23]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «سياسة المال» في كتاب: العدالة الاجتماعية في الإسلام. «دار الشروق» .(1/597)
مضى الشوط الأول من السورة، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة، وفي محيط الجماعة، يعالج نظام التوارث في المحيط العائلي، ويرد تلك الضمانات وهذا النظام إلى مصدر هما الأساسي: وهو ألوهية الله للبشر، وربوبيته للناس، وإرادته من خلقهم جميعاً من نفس واحدة، وإقامة المجتمع الإنساني على قاعدة الأسرة، وعلى أساس التكافل.
وردهم في كل شؤون حياتهم إلى حدود الله وعلمه وحكمته، ومجازاتهم على أساس طاعته في هذا كله أو معصيته.
فأما هذا الشوط الثاني فيمضي في تنظيم حياة المجتمع المسلم، واستنقاذه من رواسب الجاهلية، بتطهير هذا المجتمع من الفاحشة، وعزل العناصر الملوثة التي تقارفها، من الرجال والنساء، مع فتح باب التوبة لمن يشاء من هذه العناصر أن يتوب ويتطهر، ويرجع إلى المجتمع نظيفاً عفيفاً.. ثم باستنقاذ المرأة مما كانت ترزح تحته في الجاهلية من خسف وهوان، ومن عسف وظلم، حتى تقوم الأسرة على أساس سليم ركين، ومن ثم يقوم المجتمع- وقاعدته الأسرة- على أرض صلبة وفي جو نظيف عفيف.. وأخيراً ينظم جانباً من حياة الأسرة، ببيان المحرمات في الشريعة الإسلامية وبيان ما وراءهن من الحلال.
وبهذا البيان ينتهي هذا الشوط، وينتهي هذا الجزء كذلك.
15- «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما. إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..
إن الإسلام يمضي هنا على طريقه، في تطهير المجتمع وتنظيفه وقد اختار- في أول الأمر- عزل الفاحشات من النسوة، وإبعادهن عن المجتمع، متى ثبت عليهن ارتكاب الفاحشة. وإيذاء الرجال، الذين يأتون الفاحشة الشاذة، ويعملون عمل قوم لوط. ولم يحدد نوع الإيذاء ومداه. ثم اختار- فيما بعد- عقاب هؤلاء النسوة(1/598)
وعقاب الرجال أيضاً عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور، وهي الجلد وكما جاءت بها السنة أيضاً، وهي الرجم. والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث، والمحافظة عليه نظيفاً عفيفاً شريفاً.
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة في عقوبات خطيرة، تؤثر في حياة الناس تأثيراً خطيراً.
«وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ..
وفي النص دقة واحتياط بالغان. فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد: «مِنْ نِسائِكُمْ» - أي المسلمات- ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل: «مِنْ رِجالِكُمْ» - أي المسلمين- فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل. ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه.
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات- حين يقعن في الخطيئة- رجالاً غير مسلمين. بل لا بد من أربعة رجال مسلمين. منكم. من هذا المجتمع المسلم. يعيشون فيه، ويخضعون لشريعته، ويتبعون قيادته، ويهمهم أمره، ويعرفون ما فيه ومن فيه. ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة، وغير موثوق بأمانته وتقواه، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته، ولا على إجراء العدالة فيه. وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم، وأصبح هو الجلد أو الرجم..
«فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ» ..
لا يختلطن بالمجتمع، ولا يلوثنه، ولا يتزوجن، ولا يزاولن نشاطاً..
«حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» ..
فينتهي أجلهن، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت.
16- «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ..
فيغير ما بهن، أو يغير عقوبتهن، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء.. مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم، وإنما هو حكم فترة معينة، وملابسات في المجتمع خاصة. وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم.
وهذا هو الذي وقع بعد ذلك، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور، وفي حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت. قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي أثر عليه، وكرب لذلك، وتغير وجهه. فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم، فلما سري عنه قال: «خذوا عني.. قد جعل الله لهن سبيلاً.. الثيب بالثيب، والبكر بالبكر. الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» .. وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن عبادة بن الصامت. عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولفظه: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة» .. وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رجمهما ولم يجلدهما. وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما، فقضى برجمهما ولم يجلدهما..(1/599)
16- فدلت سنته العملية على أن هذا هو الحكم الأخير:
«وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» .
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ... » هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة. وهو قول مجاهد- رضي الله عنه- وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: «فَآذُوهُما» : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال! «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» ..
فالتوبة والإصلاح- كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك.
ومن ثم تقف العقوبة، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين. وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضع: أي الكف عن الإيذاء.
والإيماءة اللطيفة العميقة:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..
وهو الذي شرع العقوبة، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح. ليس للناس من الأمر شيء في الأولى، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة. إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه. وهو تواب رحيم.
يقبل التوبة ويرحم التائبين.
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق. وإذا كان الله تواباً رحيماً، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء أمام الذنب الذي سلف، وأعقبه التوبة والإصلاح. إنه ليس تسامحاً في الجريمة، وليس رحمة بالفاحشين. فهنا لا تسامح ولا رحمة. ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي- حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس، واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة.
والإفساد في الأرض، وتلويث المجتمع، والنقمة عليه في ذات الأوان.
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك- فيما بعد- فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: (قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ) .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة ولقد جاءت هذه العناية مبكرة: فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة الله، وتتولاها بالتنفيذ.
فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» كما ورد في سورة المؤمنون: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ... «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» .. وكرر هذا القول في سورة المعارج.
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية(1/600)
لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث. لأن الإسلام دين واقعي، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة. وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير. بلا سلطة وبلا تشريع، وبلا منهج محدد، ودستور معلوم! ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب، وتطهرها وتزكيها. فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة معلومة.
وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب- إلى جانب التوجيه والموعظة- فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير، إنما هو- إلى جانب ذلك- سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني، ولا يقوم أبداً على ساق واحدة.
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله. على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أدياناً سماوية جاءت بغير شريعة، وبغير نظام، وبغير سلطان.. كلا! فالدين منهج للحياة. منهج واقعي عملي.
يدين الناس فيه لله وحده، ويتلقون فيه من الله وحده. يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية. وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية. لتكون الدينونة لله وحده، ويكون الدين كله لله. أي لا تكون هناك آلهة غيره- في صورة من الصور- آلهة تشرع للناس، وتضع لهم القيم والموازين، والشرائع والأنظمة. فالإله هو الذي يصنع هذا كله. وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس.. وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلهاً، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى، ويباشرها.. ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقاداً وجدانياً صرفاً، بلا شريعة عملية، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة! وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ، والعقوبة والتأديب. على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة، والتي عدلت فيما بعد، ثم استقرت على ذلك التعديل. كما أرادها الله.
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة. فالسمة الأولى للجاهلية- في كل زمان- كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض- هي الفوضى الجنسية، والانطلاق البهيمي، بلا ضابط من خلق أو قانون. واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهراً من مظاهر «الحرية الشخصية» لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت! ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم «الإنسانية» كلها، ولا يتسامحون في حريتهم «البهيمية» هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها! وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها، وضوابط المجتمع ورقابته، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية، وعلى تمجيد هذه(1/601)
الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري! كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها.
وهي هي بعينها سمة كل جاهلية.. والذي يراجع أشعار امرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية.. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضاً! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع، وتبذل المرأة، ومجون العشاق، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبهاً ورابطة، ويجدها تنبع من تصورات واحدة، وتتخذ لها شعارات متقاربة! ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائماً بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها- كما وقع في الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية قديماً- وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية. الأمر الذي يفزع العقلاء هناك. وإن كانوا يشعرون- كما يبدو من أقوالهم- بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر «1» ! مع أن هذه هي العاقبة، فإن الجاهليين- في كل زمان وفي كل مكان- يندفعون إلى الهاوية، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم «الإنسانية» كلها أحياناً، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم «البهيمية» .
ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني! وهو ليس انطلاقاً، وليس حرية. إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم- في هذا- بقانون الفطرة، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائماً بحكمة الإخصاب والإنسال. فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله وضبط عقله بعقيدته. فمتى انطلق من العقيدة، ضعف عقله أمام الضغط، ولم يصبح قادراً على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه. ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس، إلا بعقيدة تمسك بالزمام، وسلطان يستمد من هذه العقيدة، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة. وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام «الإنسان» الكريم على الله.
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية، تعيش بلا عقيدة، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد لأن أحداً لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية. وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد لأن أحداً لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان! وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة. مهما بدا من متانة هذه الحضارة، وضخامة الأسس التي تقوم عليها. «فالإنسان» - بلا شك- هو أضخم هذه الأسس. ومتى
__________
(1) يراجع كتاب «الحجاب» للسيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(1/602)
دمر الإنسان، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها، ولا على الإنتاج! وحين ندرك عمق هذه الحقيقة، ندرك جانباً من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية «الإنسان» من التدمير كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل. كما ندرك جانباً من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها، وتسمية ذلك أحياناً «بالفن» وأحياناً «بالحرية» وأحياناً «بالتقدمية» .. وكل وسيلة من وسائل تدمير «الإنسان» ينبغي تسميتها باسمها.. جريمة.. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة! ..
وهذا ما يصنعه الإسلام. والإسلام وحده بمنهجه الكامل المتكامل القويم «1» .
17- على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه. ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم- متى أخلصوا فيها- حقاً عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم. وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد.
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .
ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة. في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ... » وهو بجملته يصح نقله هنا! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضاً آخر.. يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها:
إن التوبة التي يقبلها الله، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجاً شديداً حتى استفاقت فثابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد..
«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» ..
والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب.. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى- طال أمدها أم قصر- ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم.. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت، ويدخلوا في سكراته، ويحسوا أنهم على عتباته. فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم، والانخلاع من الخطيئة، والنية على العمل الصالح والتكفير.
وهي إذن نشأة جديدة للنفس، ويقظة جديدة للضمير.. «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» .. «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. يتصرف عن علم وعن حكمة. ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر، ولا يطردهم أبداً وراء الأسوار، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
__________
(1) يراجع فصل: «سلام البيت» في كتاب: «السلام العالمي والإسلام» . «دار الشروق» .(1/603)
18- إن الله- سبحانه- لا يطارد عباده الضعاف، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو- سبحانه- غني عنهم، وما تنفعه توبتهم، ولكن تنفعهم هم أنفسهم، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
«وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» .
فهذه التوبة هي توبة المضطر، لجت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله، لأنها لا تنشئ صلاحاً في القلب ولا صلاحاً في الحياة، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان، ليعملوا عملاً صالحاً- إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب- أو ليعلنوا- على الأقل- انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد..
«وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ..
وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة..
«أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .
اعتدناه: أي أعددناه وهيأناه.. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار! وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد..
19- والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة..
ولقد كانت الجاهلية العربية- كما كانت سائر الجاهليات من حولهم- تعامل المرأة معاملة سيئة.. لا تعرف لها حقوقها الإنسانية، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولاً شنيعاً، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان. وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية، وتطلقها فتنة للنفوس، وإغراء للغرائز، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف.. فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية. المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة:
«الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» .. ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل وليوثق الروابط والوشائج، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى، وعند الانفعال الأول:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ- إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ- وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟ وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ(1/604)
آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ- إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا»
..
كان بعضهم في الجاهلية العربية- قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم- إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات! إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها- كما يبيعون البهائم والمتروكات! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت. دون تزويج، حتى تفتدي نفسها بشيء..
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه، فمنعها من الناس، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة! فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، أو تفتدي نفسها منه بمال! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه! وكان بعضهم يطلق المرأة، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي نفسها منه، بما كان أعطاها..
كله أو بعضه! وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها! وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها، ويأخذ مالها! وهكذا. وهكذا. مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء.. ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار، أو علاقة بهائم! ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم، اللائق بكرامة بني آدم، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين. فمن فكرة الإسلام عن الإنسان، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية، كان ذلك الارتفاع، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم «1» .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة، ويتخذ أداة للإضرار بها- إلا في حالة الإتيان بالفاحشة، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف- وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافاً. بكراً أم ثيباً مطلقة أو متوفى عنها زوجها. وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال- حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة- ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله. كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة.
فما يدريه أن هنالك خيراً فيما يكره، هو لا يدريه. خيراً مخبوءاً كامناً، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجه سيلاقيه:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ- إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» ..
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية، تعلق النفس بالله، وتهدئ من فورة الغضب، وتفثأ من حدة الكره،
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته. «دار الشروق» .(1/605)
حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح. فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى. العروة الدائمة. العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه، وهي أوثق العرى وأبقاها.
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكناً وأمناً وسلاماً، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنساً، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب..
هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» ..
كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك..
وما أعظم قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لرجل أراد أن يطلق زوجه «لأنه لا يحبها» .. «ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟» ..
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم «الحب» وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه- لا انفصال الزوجين- وتحطيم المؤسسة الزوجية- بل خيانة الزوجة لزوجها! أليست لا تحبه؟! وخيانة الزوج لزوجته! أليس أنه لا يحبها؟! وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور. ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل.. ومن المؤكد طبعاً أنه لا يخطر لهم خاطر..
الله.. فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوّقة! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» ..
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس، وترفع الاهتمامات، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة، وطمع التاجر، وتفاهة الفارغ! 20- فإذا تبين بعد الصبر والتجمل والمحاولة والرجاء. أن الحياة غير مستطاعة، وأنه لا بد من الانفصال، واستبدال زوج مكان زوج، فعندئذ تنطلق المرأة بما أخذت من صداق، وما ورثت من مال، لا يجوز استرداد شيء منه، ولو كان قنطاراً من ذهب. فأخذ شيء منه إثم واضح، ومنكر لا شبهة فيه:
«وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟» .
21- ومن ثم لمسة وجدانية عميقة، وظل من ظلال الحياة الزوجية وريف، في تعبير موح عجيب:
«وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟» ..
ويدع الفعل: «أفضى» بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقاً، يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان.. وفي كل اختلاجة حب إفضاء. وفي كل نظرة ود إفضاء. وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء. وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء. وفي كل شوق إلى خلف(1/606)
إفضاء. وفي كل التقاء في وليد إفضاء..
كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب:
«وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» .. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف! ثم يضم إلى ذلك الحشد من الصور والذكريات والمشاعر عاملاً آخر، من لون آخر:
«وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» ..
هو ميثاق النكاح، باسم الله، وعلى سنة الله.. وهو ميثاق غليظ لا يستهين بحرمته قلب مؤمن وهو يخاطب الذين آمنوا، ويدعوهم بهذه الصفة أن يحترموا هذا الميثاق الغليظ.
22- وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريماً باتاً- مع التفظيع والتبشيع- أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء.
وقد كان ذلك في الجاهلية حلالاً. وكان سبباً من أسباب عضل النساء أحياناً، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه، أو إن كان كبيراً تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم:
«وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ- إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا» ..
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات- وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع، ولا يتوقف خضوعنا له، وتسليمنا به، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة، فحسبنا أن الله قد شرعه، لنستيقن أن وراءه حكمة، وأن فيه المصلحة.
نقول: يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات: الأول أن امرأة الأب في مكان الأم. والثاني:
ألا يخلف الابن أباه فيصبح في خياله نداً له. وكثيراً ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعاً، فيكره أباه ويمقته! والثالث: ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب. الأمر الذي كان سائداً في الجاهلية.
وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء. وهما من نفس واحدة، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء.
لهذه الاعتبارات الظاهرة- ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا- جعل هذا العمل شنيعاً غاية الشناعة.. جعله فاحشة. وجعله مقتاً: أي بغضاً وكراهية. وجعله سبيلاً سيئاً.. إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه. فهو معفو عنه. متروك أمره لله سبحانه..
23- والفقرة الثالثة في هذا الدرس، تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء. وهي خطوة في تنظيم الأسرة، وفي تنظيم المجتمع على السواء:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ، وَبَناتُكُمْ، وَأَخَواتُكُمْ، وَعَمَّاتُكُمْ، وَخالاتُكُمْ، وَبَناتُ الْأَخِ، وَبَناتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ، وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ- فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ، وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ- إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ- كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ- وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ... » ..
والمحارم- أي اللواتي يحرم الزواج منهن- معروفة في جميع الأمم، البدائية والمترقية على السواء. وقد(1/607)
تعددت أسباب التحريم، وطبقات المحارم عند شتى الأمم، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية، ثم ضاقت في الشعوب المترقية.
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها، والآية التي بعدها.. وبعضها محرمة تحريماً مؤبداً، وبعضها محرمة تحريماً مؤقتاً.. وبعضها بسبب النسب، وبعضها بسبب الرضاعة، وبعضها بسبب المصاهرة.
وقد ألغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى. كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها. والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد «1» ..
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات:
أولاها: أصوله مهما علوا. فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» ..
وثانيتها: فروعه مهما نزلوا. فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا:
«وَبَناتُكُمْ» ..
وثالثتها: فروع أبويه مهما نزلوا. فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته: «وَأَخَواتُكُمْ» ... «وَبَناتُ الْأَخِ، وَبَناتُ الْأُخْتِ» ..
ورابعتها: الفروع المباشرة لأجداده. فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته، وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه، وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه.. «وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ» .. أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم. ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات.
والمحرمات بالمصاهرة خمس:
1- أصول الزوجة مهما علون. فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته، وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون. ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة: سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل:
«وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» ..
2- فروع الزوجة مهما نزلن. فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته، وبنات أولادها، ذكوراً كانوا أم إناثاً مهما نزلوا. ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة: «وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» ..
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين- مهما علوا- فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه، وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا.. «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» .. أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه..
4- زوجات الأبناء، وأبناء الأولاد مهما نزلوا. فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه، وامرأة ابن ابنه، أو ابن بنته مهما نزل: «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» .. وذلك إبطالا لعادة الجاهلية
__________
(1) راجع كتاب: «الأسرة والمجتمع» للدكتور علي عبد الواحد وافي ص 26- ص 56.(1/608)
في تحريم زوجة الابن المتبنى. وتحديده بابن الصلب. ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم- كما جاء في سورة الأحزاب.
5- أخت الزوجة.. وهذه تحرم تحريماً مؤقتاً، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل. والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد: «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» .. أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه..
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر. وهذه تشمل تسع محارم:
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون: «وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن (وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته) .
3- الأخت من الرضاع، وبناتها مهما نزلن «وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» .
4- العمة والخالة من الرضاع (والخالة من الرضاع هي أخت المرضع. والعمة من الرضاع هي أخت زوجها) .
5- أم الزوجة من الرضاع (وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها) وأصول هذه الأم مهما علون.
ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة- كما في النسب.
6- بنت الزوجة من الرضاع (وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل) وبنات أولادها مهما نزلوا. ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة.
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا (والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته.
فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب، وهي أمه من الرضاع. بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع) .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل.
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع، أو عمتها أو خالتها من الرضاع، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع «1» ..
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصاً في الآية. أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» .. (أخرجه الشيخان) ..
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية، ولم يذكر النص علة للتحريم- لا عامة ولا خاصة- فكل ما يذكر من علل، إنما هو استنباط ورأي وتقدير..
فقد تكون هناك علة عامة. وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم. وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم.
وعلى سبيل المثال يقال:
__________
(1) اقتبست هذه التفصيلات مما جاء في كتاب الدكتور علي عبد الواحد وافي: «الأسرة والمجتمع» .(1/609)
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية، ويضعفها مع امتداد الزمن. لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية. على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة، تضاف استعداداتها الممتازة، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها.
أو يقال: إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وكذلك نظائرهن من الرضاعة. وأمهات النساء، وبنات الزوجات- الربائب والحجور- يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف، واحترام وتوقير، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال- مع رواسب هذا الانفصال- فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام..
أو يقال: إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور، والأخت مع الأخت، وأم الزوجة وزوجة الأب.. لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها. فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها، والبنت والأخت كذلك، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها، أو أختها التي تتصل بها، أو أمها، وهي أمها! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته. والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له، لأنه سبقه على زوجته! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب! أو يقال: إن علاقة الزواج جعلت لتوسيع نطاق الأسرة، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة. ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة. ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة «1» .
وأياً ما كانت العلة، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة، ولا بد فيه مصلحة. وسواء علمنا أو جهلنا، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئاً، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ، مع الرضى والقبول. فالإيمان لا يتحقق في قلب، ما لم يحتكم إلى شريعة الله، ثم لا يجد في صدره حرجاً منها ويسلم بها تسليماً.
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم، ونص التشريع القرآني المبين لها:
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية- فيما عدا حالتين اثنتين: ما نكح الآباء من النساء، والجمع بين الأختين. فقد كانتا جائزتين- على كراهة من المجتمع الجاهلي..
ولكن الإسلام- وهو يحرم هذه المحارم كلها- لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها. إنما حرمها ابتداء، مستنداً إلى سلطانه الخاص. وجاء النص: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... إلخ» ..
والأمر في هذا ليس أمر شكليات إنما هو أمر هذا الدين كله. وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله، وللأصل الذي يقوم عليه: أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده..
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده، لأنهما أخص خصائص الألوهية.
فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله. فالله- وحده- هو الذي يحل للناس ما يحل، ويحرم على الناس ما يحرم. وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق. لأن هذا مرادف تماماً لدعوى الألوهية!
__________
(1) كما يقول الأستاذ العقاد في كتابه: «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» .(1/610)
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلاً بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح، لأنه لا وجود له منذ الابتداء. فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت، فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلاناً أصلياً، ويعتبره كله غير قائم. بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره- لأنها ليست إلهاً- ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء. فإذا أحل شيئاً كانت الجاهلية تحله، أو حرم شيئا كانت الجاهلية تحرمه، فهو ينشئ هذه الأحكام ابتداء. ولا يعتبر هذا منه اعتماداً لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها، لأنها هي باطلة، لم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام.. وهي الله..
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة.. إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم، في نكاح، ولا في طعام، ولا في شراب، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في عقد، ولا في تعامل، ولا في ارتباط، ولا في عرف، ولا في وضع.. إلا أن يستمد سلطانه من الله، حسب شريعة الله.
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئاً في حياة البشر- كبر أم صغر- تصدر أحكامها باطلة بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف. وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحاً واعتماداً لما كان منها في الجاهلية. إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام، مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام.
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة، وهكذا أقام الإسلام أو ضاعه وأنظمته. وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده. مستنداً في إنشائها إلى سلطانه الخاص.
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية، وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه.. عني بتقرير المبدأ. فكان يسأل في استنكار: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟» ..
«قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» .. «قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ... إلخ» ..
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي. وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده. وليس ذلك لأحد من البشر.. لا فرد ولا طبقة ولا أمة، ولا الناس أجمعين.. إلا بسلطان من الله.
وفق شريعة الله.. والتحليل والتحريم- أي الحظر والإباحة- هو الشريعة، وهو الدين. فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس. فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله، فالناس إذن يدينون لله، وهم إذن في دين الله. وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحداً غير الله، فالناس إذن يدينون لهذا الأحد وهم إذن في دينه لا في دين الله.
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها. وهي مسألة الدين ومفهومه. وهي مسألة الإيمان وحدوده.. فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر؟ أين هم من الدين؟ وأين هم من الإسلام..
إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام!!!(1/611)
انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس مبدوءا بقوله تعالى:
والمحصنات من النساء.(1/612)
فهرس المجلد الأول
من رسالة إلى دار الشروق 5 تقديم للأستاذ محمد قطب 9 مقدمة ... في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 11 الجزء الأول (سورة الفاتحة. وسورة البقرة من آية 1- 141) 1- سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع تفسير الآيات من 1- 7 21 2- سورة البقرة. مدنية وآياتها 286 مقدمة السورة 27 الآيات من 1- 29 (الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه 36 الآيات من 30- 39 (وإذ قال ربك للملائكة 54 الآيات من 40- 74 (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي 62 الآيات من 75- 103 (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم 81 الآيات من 104- 123 (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا 98 الآيات من 124- 141 (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه 109 الجزء الثاني (سورة البقرة من آية 142- 252) مقدمة الجزء الثاني 123 الآيات من 142- 152 (سيقول السفهاء من الناس 124 الآيات من 153- 157 (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة 141 الآيات من 158- 177 (إن الصفا والمروة من شعائر الله 146 الآيات من 178- 188 (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص 162 الآيات من 189- 203 (يسألونك عن الأهلة 177 الآيات من 204- 214 (ومن الناس من يعجبك قوله 202 الآيات من 215- 220 (يسألونك ماذا ينفقون 219(1/613)
الآيات من 221- 242 (ولا تنكحوا المشركات 232 الآيات من 243- 252 (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم 260 الجزء الثالث (بقية سورة البقرة من آية 253- 286. وسورة آل عمران من آية 1- 92) مقدمة الجزء الثالث 275 الآيات من 253- 257 (تلك الرسل 277 الآيات من 258- 260 (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم 296 الآيات من 261- 274 (مثل الذين ينفقون أموالهم 303 الآيات من 275- 281 (الذين يأكلون الربا 317 الآيات من 282- 284 (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم 333 الآيات من 285- 286 (آمن الرسول بما أنزل إليه 339 3- سورة آل عمران. مدنية وآياتها 200 مقدمة 348 الآيات من 1- 32 (الم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم 360 الآيات من 33- 64 (إن الله اصطفى آدم 388 الآيات من 65- 92 (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم 407 الجزء الرابع (بقية سورة آل عمران من آية 93- 200 وسورة النساء من آية 1- 23) مقدمة الجزء الرابع 429 الآيات من 93- 120 (كلّ الطعام كان حلّا 430 الآيات من 121- 179 (وإذ غدوت من أهلك 454 الآيات من 180- 189 (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله 534 الآيات من 190- 200 (إن في خلق السماوات والأرض 542 4- سورة النساء مدنية وآياتها 176 مقدمة 554 الآيات من 1- 14 (يا أيها الناس اتقوا ربكم 571 الآيات من 15- 23 (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم 597(1/614)
[المجلد الثاني]
[بقية سورة النساء]
بسم الله الرّحمن الرّحيم نمضي مع سورة النساء في هذا الجزء، الذي يتضمن معظم أهداف السورة وموضوعاتها، التي أجملنا الإشارة إليها في مطالعها في الجزء الرابع «1» .
ونجد في هذا الجزء من الأهداف الأساسية للسورة والموضوعات الرئيسية عناصر كثيرة:
نجد في الدرس الأول بقية من تنظيم شؤون الأسرة وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة وحمايتها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية وحمايتها كذلك وحماية المجتمع معها من انتشار الفاحشة، والاستهتار بالحرمات، ووهن الروابط العائلية.
كذلك نجد بقية من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية. تتناول العلاقات المالية والتجارية، كما تتناول بعض أحكام الميراث، وحقوق الملكية للجنسين في المجتمع..
وهذه التنظيمات وتلك تستهدف- كما قلنا في مطالع السورة- نقل المجتمع المسلم من النظام الجاهلي إلى النظام الإسلامي للحياة ومحو الملامح الجاهلية المترسبة، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة، والارتفاع بالجماعة المسلمة- التي التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية- والمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد. إلى القمة السامقة.
ثم نجد في الدرس الثاني عودة إلى تقرير أصول التصور الإسلامي تبين حد الإيمان وشرط الإسلام..
ليقوم هذا التقرير المستأنف قاعدة لبعض تنظيمات أخرى للتكافل الاجتماعي في الجماعة. التكافل الذي يبدأ من أضيق الحدود في الأسرة، ثم يمتد ليشمل المحتاجين والضعاف في الجماعة كلها، ومع الأمر بالبذل والتكافل نجد تقبيح البخل بالمال، والاختيال بالثراء، وكتمان النعمة، والرياء في الإنفاق.
كما نجد في هذا الدرس جانبا من التربية النفسية بالعبادة التي بدأ بها، والتطهر لأدائها، واعتبار الخمر دنسا لا يتفق مع حال العبادة.. وذلك كخطوة في طريق تحريمها.. وفق المنهج التربوي الحكيم.
وفي الدرس الثالث نجد من موضوعات السورة الأساسية موقفا مع أهل الكتاب يتضمن كشفا لأهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة بالجماعة المسلمة، وبيانا لطبيعة كيدهم ومكرهم، وتعجيبا من أمرهم، واعتبارهم عدوا للمسلمين. وتهديدهم بسوء المصير والعذاب الأليم.
__________
(1) من ص 544 إلى ص 571 من الجزء الرابع(2/615)
أما الدرس الرابع فيستهدف بيان معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. بيانا حاسما جازما. يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي، ومنهج المسلمين في الطاعة والاتباع والتلقي من الله وحده، والتحاكم إلى منهج الله وحده، واتباع حكم رسوله وطاعته.. كما يكشف عن تكاليف المسلمين في الأرض في أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، وإقامة منهج الله في حياة الناس- باعتبار هذا كله شرطا لتحقق الإيمان- مع التعجيب من أمر الذين يدعون الإيمان، ثم لا يحققون شرطه الأول من التحاكم إلى الله ورسوله، مع الرضى والتسليم المطلق.. والتوكيد بعد التوكيد على أنه لا إيمان- مهما ادعاه المدعون- إلا بتحقق هذا الشرط الواضح الصريح.
ومن ثم نجد في الدرس الخامس توجيه الجماعة المسلمة لحماية هذا المنهج الواضح بالقتال دونه، والتنديد بالمعوقين والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد. واستجاشة الضمائر المؤمنة، ببيان أهداف القتال، لاستنقاذ الضعاف من المؤمنين من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتمتيعهم بالحياة في ظل ذلك المنهج الرفيع الكريم، وبيان حقيقة الأجل والقدر، لتطهير القلوب من الخوف والفزع.. وينتهي الدرس بأمر للنبي- صلى الله عليه وسلم- أن يمضي إلى الجهاد، ولو لم يجد إلا نفسه! فلا مناص من المضي فيه للتمكين لهذا الدين، وللمنهج الإلهي القويم.
وبمناسبة القتال نجد في الدرس السادس بيانا للكثير من قواعد المعاملات الدولية، بين المعسكر الإسلامي وشتى المعسكرات المناوئة له، والمهادنة، والمعاهدة، فليس الأمر أمر قوة وبطش وغلب، ولكنه أمر مواجهة للواقع مع إقامة الحدود المنظمة للعلاقات الإنسانية، في المعسكرات المختلفة الاتجاه..
وفي الدرس السابع نجد الحديث عن الجهاد بالأموال والأنفس، في صدد التنديد بالقاعدين عن الهجرة في دار الكفر، حيث يفتنون عن دينهم، بينما دار الإسلام قائمة، وراية الدين فيها عزيزة كريمة.. وينتهي هذا الدرس أيضا بالتحضيض للمؤمنين على القتال، ومتابعة أعدائهم، وعدم الوهن في طلبهم، وبيان حقيقة موقف المؤمنين وموقف أعدائهم، واختلاف وجهتهم ومصائرهم وجزائهم.
وفي الدرس الثامن نستشرف تلك القمة السامقة في العدل الإسلامي، في قصة اليهودي الذي اتهم ظلما، وقامت الشهادات الملفقة ضده، فنزل القرآن من الملأ الأعلى يبرئ هذا اليهودي.. مع كل ما كانت تكيده يهود للإسلام والمسلمين. ولكن العدل الإسلامي الإلهي هو العدل الذي لا يتأثر بالمودة أو الشنآن. وهو القمة السامقة التي لم تبلغ إليها البشرية قط إلا في ظلال هذا المنهج الرفيع الفريد «1» .
والدرس التاسع جولة مع الشرك والمشركين، وخرافات الشرك وآثاره في إنشاء الشعائر الضالة، والتصورات السخيفة! مع تصحيح الأوهام والأماني الزائفة عن عدل الله. وتقرير الجزاء على أساس العمل لا الأماني والأوهام. وتوكيد أن الإسلام هو وحده الدين، وهو ملة إبراهيم.
ويعود الدرس العاشر إلى النساء وحقوقهن- وبخاصة اليتامى منهن- وحقوق المستضعفين من الولدان- وهو الموضوع الذي بدأت به السورة- وإلى الإجراءات التي يعالج بها موقف النشوز والإعراض من جانب الزوج.
مع بيان حدود العدل المطلوب في معاشرة الزوجات، والذي لا تستقيم العشرة بدونه، ويكون خيرا منها الفرقة، عند ما يتعذر الإصلاح..
__________
(1) يرجع إلى قصة ذلك اليهودي في التمهيد للسورة في الجزء الرابع ص 570- 571.(2/616)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
والتعقيب على هذه الأحكام المتعلقة بالأسرة، والعدل في المعاشرة يربط هذه الأحكام والتوجيهات بالله، وملكيته للسماوات والأرض وقدرته على الذهاب بالناس واستبدال غيرهم بهم- فيدل على ضخامة الأمر، وعلاقته بحقيقة الألوهية الهائلة.. ومن ثم يستجيش تقوى الله في الضمائر ويستطرد إلى دعوة الذين آمنوا إلى العدل المطلق في معاملاتهم كلها، وفي أحكامهم جميعها.. على طريقة القرآن في الاستطراد من القطاع الضيق الخاص، إلى المحيط الشامل العام.
ثم يجيء الدرس الأخير في هذا الجزء. وهو يكاد يكون مقصورا على التنديد بالنفاق والمنافقين ودعوة المؤمنين إلى الإيمان الجاد الواضح المستقيم وتحذيرهم من الولاء لغير الجماعة المسلمة وقيادتها الخاصة، ومن التهاون والتراخي في دينهم مجاملة أو مراعاة للعلاقات الاجتماعية أو المصلحية مع المنافقين وأعداء هذا الدين.
فهذه سمة من سمات النفاق، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. والمنافقون هم الذين يتولون الكافرين.
ويختم الدرس، ويختم الجزء معه بتقرير حقيقة مؤثرة عن صفة الله سبحانه، وعلاقته بعباده، والحكمة في عقابه للمنحرفين والضالين. وهو- سبحانه- لا حاجة به إلى عقاب مخاليقه لو آمنوا وشكروا: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ؟ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» ..
وهو تعبير عجيب يوحي للقلب برحمة الله، واستغنائه- سبحانه- عن تعذيب الناس، لو استقاموا على منهجه، وشكروا فضله في هذا المنهج ومنته.. ولكنهم هم الذين يشترون العذاب لأنفسهم بالكفر والجحود، وما ينشئه الكفر والجحود من فساد في الأرض، وفساد في النفس، وفساد في الحياة.
وهكذا يضم الجزء جناحيه على هذا الحشد من الأهداف والموضوعات، وعلى هذا المدى من الأشواط والأبعاد.. فنكتفي في التقديم له بهذه الإشارات الخاطفة، ريثما نستعرض النصوص فيما يلي بتوفيق الله ...
[سورة النساء (4) : الآيات 24 الى 35]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)(2/617)
هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة، على قواعد الفطرة، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحياة الإنسانية في مجراها الفطري الهادئ الصالح، كما يترتب على انحرافها عنه فساد في الأرض كبير.
وهذا الدرس يتضمن تكملة لبيان المحرمات من النساء. ثم يحدد الطريقة التي يحب الله أن يجتمع عليه الرجال والنساء في مؤسسة الأسرة النظيفة. ويكشف عما في هذه الطريقة من تيسير على الناس وتخفيف، إلى جانب نظافتها وطهارتها. ويقرر القواعد التنظيمية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأساسية، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق الطرفين المتعاقدين فيها.
وإلى جانب هذا التنظيم في الأسرة يتطرق إلى شيء من التنظيم لبعض علاقات المجتمع المسلم في الأموال فيبين حقوق الرجال والنساء، في المال المكتسب، والمال الموروث. وما يتبع كذلك في تصفية ما كان من عقود التوارث بالولاء بين غير الأقارب.(2/618)
ومما يلاحظ- بوجه عام- أن السياق يربط ربطاً دقيقاً بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان: وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله. وهي مقتضى ألوهيته. فأخص خصائص الألوهية- كما كررنا ذلك في مطلع السورة- هو الحاكمية، والتشريع للبشر، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم.
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية. ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم.. وهي إشارة ذات مغزى.. فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل، والحكمة المدركة البصيرة.. هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان، فلا يصلح بعدها أبداً لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم، وراح يخبط في التيه بلا دليل، ويزعم أنه قادر، بجهله وطيشه وهواه، أن يختار لنفسه ولحياته خيراً مما يختاره الله!!! والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره: هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتاً ومشقة، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس «1» .
وسنرى- عند استعراض النصوص بالتفصيل- مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع، لولا أن الهوى يطمس القلوب، ويعمي العيون، عند ما ترين الجاهلية على القلوب والعيون! «والمحصنات من النساء- إلا ما ملكت أيمانكم- كتاب الله عليكم- وأحل لكم- ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليماً حكيماً. ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. فإذا أحصن، فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب- ذلك لمن خشي العنت منكم- وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم. يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً. يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفاً» ..
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية. وذلك في قوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ- إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ، وَبَناتُكُمْ، وَأَخَواتُكُمْ، وَعَمَّاتُكُمْ، وَخالاتُكُمْ، وَبَناتُ الْأَخِ، وَبَناتُ الْأُخْتِ، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ،
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «الربانية» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» وفصل: «تخبط واضطراب» في كتاب:
«الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق» [.....]
.(2/619)
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ- فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ- الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ- وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ- إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ- إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .
أما هذه التكملة:
«وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ... »
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين. محصنات بالزواج منهم: فهن محرمات على غير أزواجهن. لا يحل نكاحهن ... وذلك تحقيقاً للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي، من قيامه على قاعدة الأسرة، وجعلها وحدة المجتمع، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة، ومن كل اختلاط في الأنساب، ينشأ من «شيوعية» الاتصال الجنسي، أو ينشأ من انتشار الفاحشة، وتلوث المجتمع بها.
والأسرة القائمة على الزواج العلني، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه، ويتم به الإحصان- وهو الحفظ والصيانة- هي أكمل نظام يتفق مع فطرة «الإنسان» وحاجاته الحقيقية، الناشئة من كونه إنساناً، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية- وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها- ويحقق أهداف المجتمع الإنساني، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة: سلم الضمير. وسلم البيت. وسلم المجتمع في نهاية المطاف «1» .
والملاحظ بصفة ظاهرة، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر. كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادراً على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية- التي يتميز بها الإنسان- تمتد إلى فترة طويلة أخرى.
وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى- بين الرجل والمرأة- ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته، وجلب طعامه وضرورياته، كما يتم- وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية- تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة.
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع. ولم يعد «الهوى» الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى. إنما الحكم هو «الواجب» ... واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادراً على النهوض بالتبعة الإنسانية، وتحقيق غاية الوجود الإنساني.
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة، هو النظام الوحيد الصحيح. كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة. والذي يجعل «الواجب» لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى، هو الحكم في قيامها، ثم في استمرارها، ثم في معالجة كل مشكلة تقع في
__________
(1) تراجع بتوسع فصول: «سلام الضمير» و «سلام المجتمع» من كتاب «السلام العالمي والإسلام» . «دار الشروق» .(2/620)
أثنائها، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى.
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه- وهو «الواجب» لإحلال «الهوى» المتقلب، و «النزوة» العارضة، و «الشهوة» الجامحة محله، هي محاولة آثمة، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع وتهدم الأساس الذي يقوم عليه.
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة، المسخرة لتوهين روابط الأسرة، والتصغير من شأن الرباط الزوجي، وتشويهه وتحقيره، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب، والعاطفة الهائجة، والنزوة الجامحة. وتمجيد هذه الارتباطات، بقدر الحط من الرباط الزوجي! كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لرجل أراد أن يطلق زوجته، معللاً ذلك بأنه لم يعد يحبها: «ويحك! ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ وأين التذمم؟» ..
مستمداً قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده: «وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً» .. وذلك للإمساك بالبيوت- ما أمكن- ومقاومة نزوات القلوب، وعلاجها حتى تفيء، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها، رعاية للجيل الناشئ في هذه البيوت وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة، والنزوة الجامحة، والهوى الذاهب مع الريح! وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة! إن أقلاماً دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلاً عن زوجها أن تسارع إلى خدين ويسمون ارتباطها بخدينها هذا «رباطاً مقدساً» ! بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج «عقد بيع للجسد» ! والله سبحانه يقول: في بيان المحرمات من النساء: «والمحصنات من النساء» .. فيجعلهن «محرمات» .
هذا قول الله. وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه ... «والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» .
إن جهوداً منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله. ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله. ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله..
والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان، بعد أن تنهار عقائدها، وتنهار أخلاقها، وتنهار مجتمعاتها.. ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى.. إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله- لا المجتمع الإسلامي وحده- تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان. وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى. أمانة الحياة الإنسانية المترقية. وذلك بحرمانه من(2/621)
الأطفال المؤهلين- في جو الأسرة الهادئ، المطمئن، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح- للنهوض بأمانة الجنس البشري كله. وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس «العواطف» وحدها، وتنحية «الواجب» المطمئن الثابت الهادئ! وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله، إذ يحطم نفسه بنفسه ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة. لتحقيق لذاته هو، وشهواته هو، وعلى الأجيال القادمة اللعنة. وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه. ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره. إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض، وتأخذ بيد الناس إليها وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم. وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها.
«وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ- إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ..» .
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب. حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار، بانقطاع الدار. ويصبحن غير محصنات.
فلا أزواج لهن في دار الإسلام. ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل. ويصبح بعدها نكاحهن حلالا- إن دخلن في الإسلام- أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه، باعتبارهن ملك يمين. سواء أسلمن أم لم يسلمن.
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها «1» .. كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» .. في سورة «محمد» في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما.
ونكتفي هنا بالقول: بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلاً كبيراً. ولم يكن له بد من ذلك. حيث كان استرقاق الأسرى نظاماً عالمياً لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد. وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقاً بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحراراً. فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم، بل وهي رابحة غانمة! ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم. فكيف يصنع بهن؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن. فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات. لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة «2»
__________
(1) ص 230- ص 231.
(2) لا يتحتم النكاح لإحلال السبية إذا دخلت في الإسلام. ولكنه فقط يصير جائزا.(2/622)
فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال ووطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات- بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب.
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل. المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل، أو يشرع للناس شيئاً في أمور حياتهم جميعاً:
«كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ..
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه.. فليست المسألة هوى يتبع، أو عرفاً يطاع، أو موروثات بيئة تتحكم..
إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه.. فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك.
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء، والجمع بين الأختين- على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء. وقد كان يسمى عندهم «مقيتاً» نسبة إلى المقت! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا، إنما قال الله سبحانه: «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ..
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام، وحقيقة الأصل الفقهي. فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية:
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه. بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير. فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف. فالجاهلية بكل ما فيها- والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح- باطلة بطلاناً أصلياً. باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها. والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها، يأخذ الحياة جملة، ويأخذ الأمر جملة فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها، وكل عرفها، وكل شرائعها لأنها باطلة بطلاناً أصلياً غير قابل للتصحيح المستأنف..
فإذا أقر عرفاً كان سائداً في الجاهلية، فهو لا يقره بأصله الجاهلي مستنداً إلى هذا الأصل. إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه. أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية.
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على «العرف» في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطاناً من عنده هو- بأمر الله- فتصبح للعرف- في هذه المسائل- قوة الشريعة، استمداداً من سلطان الشارع- وهو الله- لا استمداداً من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل. فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان.. كلا.. إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدراً في بعض المسائل.
وإلا بقي على بطلانه الأصلي، لأنه لم يستمد من أمر الله. وهو وحده مصدر السلطان. وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ؟» فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع. فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله؟
هذا الأصل الكبير، الذي تشير إليه هذه اللمسة: «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» تقرره وتؤكده النصوص القرآنية(2/623)
في كل مناسبات التشريع، فما من مرة ذكر القرآن تشريعاً إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطاناً.
أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالباً بقوله: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» لتحريرها من السلطان ابتداء، وبيان علة بطلانها، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح.
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي. من أن الأصل في الأشياء الحل، ما لم يرد بتحريمها نص. فكون الأصل في الاشياء الحل، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه.
فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته. إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله. وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان.
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات، وربطها بأمر الله وعهده، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت، وإقامة مؤسسات الأسرة، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم:
«وَأُحِلَّ لَكُمْ- ما وَراءَ ذلِكُمْ- أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ.. مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ- فَرِيضَةً- وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء، بأموالهم- أي لأداء صداقهن- لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح! ومن ثم قال:
«مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» ..
وجعلها قيداً وشرطاً للابتغاء بالأموال، قبل أن يتم الجملة، وقبل أن يمضي في الحديث. ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته: «محصنين» بل أردفها بنفي الصورة الأخرى: «غير مسافحين» زيادة في التوكيد والإيضاح، في معرض التشريع والتقنين.. ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها.. علاقة النكاح.. وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها.. علاقة المخادنة أو البغاء.. وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية، ومعترفاً بها كذلك من المجتمع! جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها-:
«إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم. يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بيته، فيصدقها ثم ينكحها.. والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها- أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه. فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.. ونكاح آخر. يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو إبنك يا فلان. تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن،(2/624)
فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك» «1» فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه- سواء منه المخادنة والبغاء- والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه.. أما الثاني فما ندري كيف نسميه!!! والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله.. فهو إحصان.. هو حفظ وصيانة.. هو حماية ووقاية..
هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة. ففي هذه القراءة «محصِنين» بصيغة اسم الفاعل، وفي قراءة أخرى:
«محصَنين» بصيغة اسم المفعول. وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة. وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال. إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة.
والآخر: سفاح.. مفاعلة من السفح، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطئ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة، فيريقان ماء الحياة، الذي جعله الله لامتداد النوع، ورقيه، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها. فإذا هما يريقانه للذة العابرة، والنزوة العارضة. يريقانه في السفح الواطئ! فلا يحصنهما من الدنس، ولا يحصن الذرية من التلف، ولا يحصن البيت من البوار! وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة في كلمتين اثنتين. ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة. وذلك من بدائع التعبير في القرآن «2» .
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال. عاد ليقرر كيف يُبتغى بالأموال:
«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» .
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها. فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل- وهن ما وراء ذلكم من المحرمات- فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان- أي عن طريق النكاح (الزواج) لا عن أي طريق آخر- وعليه أن يؤدي لها صداقها حتماً مفروضاً، لا نافلة، ولا تطوعاً منه، ولا إحساناً، فهو حق لها عليه مفروض. وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل- كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية- وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية. وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده! كأنهما بهيمتان! أو شيئان! وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته، يدع الباب مفتوحاً لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة، ووفق مشاعر هما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر:
«وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» .
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها- كله أو بعضه- بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقاً لها خالصاً تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية- ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر، أو يزيدها فيه. فهذا شأنه الخاص. وهذا شأنهما معاً يتراضيان عليه في حرية وسماحة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح.
(2) يراجع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» فصل: «التناسق» وفصل «طريقة القرآن» .. «دار الشروق»
.(2/625)
ثم يجيء التعقيب. يربط هذه الأحكام بمصدرها ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف، والحكمة البصيرة:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ..
فهو الذي شرع هذه الأحكام. وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة.. فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته- وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه- ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام، الصادرة عن العلم وعن الحكمة «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» ...
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة، وخشي المشقة أو خشي الفتنة:
«ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات- والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف- محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان- فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب.
ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم» .
إن هذا الدين يتعامل مع «الإنسان» في حدود فطرته، وفي حدود طاقته. وفي حدود واقعه، وفي حدود حاجاته الحقيقية.. وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد.. إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه. فواقع الجاهلية هابط، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع! إنما هو يعتبر واقع «الإنسان» في فطرته وحقيقته.. واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع.. فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية.. أية جاهلية.. فمن الواقع كذلك مقدرته- بما ركب في فطرته- على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضاً! والله- سبحانه- هو الذي يعلم «واقع الإنسان» كله، لأنه يعلم «حقيقة الإنسان» كلها. هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه..
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ريثما يتم تدبير أمره.. إما بإطلاق سراحه امتناناً عليه بلا مقابل. وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين، أو مقابل مال- حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين- وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين- كما جاء في الآية السابقة- لمن هن ملك يمينه. لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا. مباشرتهن إما بزواج منهن- إن كن مؤمنات- أو بغير زواج، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب، بحيضة واحدة.. ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج. لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك! وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح:
«وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» ..
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول- أي القدرة على نكاح الحرة- ذلك أن الحرة تحصنها الحرية وتعلمها كيف تحفظ عرضها، وكيف تصون حرمة زوجها. فهن «محصنات» هنا- لا بمعنى(2/626)
متزوجات، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات- ولكن بمعنى حرائر، محصنات بالحرية وما تسبغه على الضمير من كرامة، وما توفره للحياة من ضمانات. فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها، وهي تخشى العار، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة، فهي تأبى السفاح والانحدار. ولا شيء من هذا كله لغير الحرة. ومن ثم فهي ليست محصنة، وحتى إذا تزوجت، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة. فضلاً على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه.. مضافاً إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر. فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور.. وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية..
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر. وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول. مع المشقة في الانتظار.
ولكن إذا وجدت المشقة، وخاف الرجال العنت. عنت المشقة أو عنت الفتنة. فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة. فهو يحل- إذن- الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين.
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر، وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر:
فأولاً يجب أن يكن مؤمنات:
«فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» ..
وثانياً: يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن. فهذا حقهن الخالص.
«وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» .
وثالثاً: يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق: وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح.
لا مخادنة ولا سفاح: والمخادنة أن تكون لواحد. والسفاح أن تكون لكل من أراد.
«مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» .
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة- رضي الله عنها- كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعاً من البغاء. وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر، لحساب سادتهن. وكان لعبد الله بن أبي بن سلول- رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه- أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها، ويطهرهم ويزكيهم، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك! وكذلك جعل الإسلام طريقاً واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء «الفتيات» ، هي طريق النكاح، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم. وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقاً مفروضاً، لا لتكون أجراً في مخادنة أو سفاح.. وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان، لا راية الإسلام!(2/627)
ولكن- قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية- ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عند ما واجهه المجتمع الإسلامي. إنه لا يسمي الرقيقات: رقيقات. ولا جواري. ولا إماء. إنما يسميهن «فتيات» .
«فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» ..
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني- كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك- إنما يذكر بالأصل الواحد، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط:
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» ..
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة. إنما يسميهم «أهلاً» :
«فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» .
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها. فمهرها إنما هو حق لها. لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له. فهذا ليس كسباً، إنما هو حق ارتباطها برجل:
«وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» ..
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال، إنما هو النكاح والإحصان:
«مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» ..
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات، حتى وهن في هذا الوضع، الذي اقتضته ملابسات وقتية، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية.
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائداً في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق، وحرمانه حق الانتساب إلى «إنسانية» السادة! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه «الإنسانية» .. يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليها كرامة «الإنسان» وهو يرعاها في جميع الأحوال، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي، كوضع الاسترقاق.
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة. وكلنا يعرف حكاية «الترفيه» أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال! ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج، واضعاً في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة، مقدراً أن الرق يقلل من الحصانة النفسية، لأنه يغض من الشعور بالكرامة، والشعور بشرف العائلة- وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة- كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية، واختلافها بين الحرة والأمة، وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحاً في عرضها، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة- بعد إحصانها- نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها.
«فَإِذا أُحْصِنَّ. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» .(2/628)
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة. وهي عقوبة الجلد. ولا يكون في عقوبة الرجم.
إذ لا يمكن قسمتها! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر. أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء. هل تكون هذا الحد نفسه- وهو نصف ما على الحرة البكر- ويتولاه الإمام؟ أم تكون تأديباً يتولاه سيدها ودون النصف من الحد؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه.
أما نحن- في ظلال القرآن- فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف.
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره- كما قلنا- واقع الناس، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع! وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات. تجعل الواحدة- ولو كانت متزوجة- أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة. فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة. ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات، فيعفيها نهائياً من العقوبة.
قوام وسط. يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات.
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سبباً في مضاعفة العقوبة، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف، وتقسو على الضعاف.
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة. فكان يقول: «ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء، فعقوبته- إن كان من بيئة كريمة- مصادرة نصف ماله. وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض» «1» .
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه «منو» وهو القانون المعروف باسم «منوشاستر» أن البرهمي إن استحق القتل، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه. أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصاً ليبطش به قطعت يده ... الخ «2» وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد «3» .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ولياخذ الجاني بالعقوبة، مراعياً جميع اعتبارات «الواقع» . وليجعل حد الأمة- بعد الإحصان- نصف حد الحرة قبل الإحصان. فلا يترخص فيعفيها من العقوبة، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف. فهذا خلاف الواقع. ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة- وواقعها يختلف عن واقع الحرة. ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف!!! وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية، وتغفر للأشراف «البيض» ما لا تغفره للضعاف «الملونين» والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت. والإسلام هو الإسلام.. حيث كان..
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة. فمن استطاع الصبر- في غير مشقة ولا فتنة- فهو خير. لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء:
__________
(1) مدونة جوستنيان ترجمة عبد العزيز فهمي.
(2) كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي.
(3) رواه الخمسة.(2/629)
«ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إن الله لا يريد أن يعنت عباده، ولا أن يشق عليهم. ولا أن يوقعهم في الفتنة. وإذا كان دينه الذي اختاره لهم، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية، وفي حدود طاقتهم الكامنة، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك.. ومن ثم فهو منهج ميسر، يلحظ الفطرة، ويعرف الحاجة، ويقدر الضرورة. كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط، ولا يقف أمامهم- وهم غارقون في الوحل- يبارك هبوطهم، ويمجد سقوطهم. أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء! وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج، وأن تقوم عليهن البيوت، وأن ينجبن كرام الأبناء، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشئ، وأن يحفظن فراش الأزواج.. فأما إذا خشي العنت: عنت المشقة عند الصبر، وعنت الفتنة التي لا تقاوم، فهناك الرخصة، والمحاولة لرفع مستوى الإماء، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن. فهن «فتياتكم» وهم «أهلهن» . والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان. والله أعلم بالإيمان. ولهن مهورهن فريضة. وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح.. وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة.. ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف:
«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر. ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء.. وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك. فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة، ووراء كل اضطرار.
ثم يجيء التعقيب الشامل على تلك الأحكام وعلى تلك التنظيمات التي شرعها الله للأسرة في المنهج الإسلامي، ليرفع بها المجتمع المسلم من وهدة الحياة الجاهلية وليرفع بها مستواه النفسي والخلقي والاجتماعي إلى القمة السامقة النظيفة الوضيئة التي رفعه إليها. يجيء التعقيب ليكشف للجماعة المسلمة عن حقيقة ما يريده الله لها بهذا المنهج وبتلك الأحكام والتشريعات والتنظيمات وعن حقيقة ما يريده بها الذين يتبعون الشهوات ويحيدون عن منهج الله:
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» ..
إن الله- سبحانه- يتلطف مع عباده فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم- سبحانه- وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم وليقول لهم: إنه يريد: أن يبين لهم..
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» ..
يريد الله ليكشف لكم عن حكمته ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب فهي ليست معميات ولا ألغازاً وهي ليست تحكماً لا علة له ولا غاية وأنتم أهل لإدراك حكمتها وأهل لبيان هذه الحكمة لكم.. وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.(2/630)
«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» ..
فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعاً. وهو منهج ثابت في أصوله، موجد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه.. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى الله في كل زمان ومكان ويكشف عن وحدة منهج الله في كل زمان ومكان ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه.. إنه من هذه الأمة المؤمنة بالله، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والألوان وتربطها سنة الله المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل.
«وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» ..
فهو- سبحانه- يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ليرحمكم ... ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل، والتوبة من المعصية. ليمهد لكم الطريق، ويعينكم على السير فيه..
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ...
فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات. ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات. العلم بنفوسكم وأحوالكم. والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم. والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء ...
«وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» ..
وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه وطريقته، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات، ويحيدون عن منهج الله- وكل من يحيد عن منهج الله إنما يتبع الشهوات- فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام، وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وفسوق وضلال.
فماذا يريد الله بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم.
يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها الله، ولم يشرعها لعباده؟
إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلاً عظيماً عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة: ميدان تنظيم الأسرة وتطهير المجتمع وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون.. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده الله وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
فأما ما يريده الله فقد بينته الآيات السابقة في السورة. وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني، أو أخلاقي، أو(2/631)
اجتماعي.. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعاناً من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي- في هذا الوضع- ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة! وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر الله المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج الله، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء الله.
واللمسة الأخيرة في التعقيب تتولى بيان رحمة الله بضعف الإنسان، فيما يشرعه له من منهج وأحكام.
والتخفيف عنه ممن يعلم ضعفه، ومراعاة اليسر فيما يشرع له، ونفي الحرج والمشقة والضرر والضرار.
«يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» ..
فأما في هذا المجال الذي تستهدفه الآيات السابقة، وما فيها من تشريعات وأحكام وتوجيهات، فإرادة التخفيف واضحة تتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة، وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المأمون المثمر، وفي الجو الطاهر النظيف الرفيع دون أن يكلف الله عباده عنتاً في كبتها حتى المشقة والفتنة ودون أن يطلقهم كذلك ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد ولا قيد.
وأما في المجال العام الذي يمثله المنهج الإلهي لحياة البشر كلها فإرادة التخفيف تبدو كذلك واضحة بمراعاة فطرة الإنسان، وطاقته، وحاجاته الحقيقية وإطلاق كل طاقاته البانية. ووضع السياج الذي يقيها التبدد وسوء الاستعمال! وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله- وبخاصة في علاقات الجنسين- شاق مجهد. والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح! وهذا وهم كبير ... فإطلاق الشهوات من كل قيد وتحري اللذة- واللذة وحدها- في كل تصرف واقصاء «الواجب» الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والأخير وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي، ومن كل التزام اجتماعي.. إن هذه كلها تبدو يسراً وراحة وانطلاقاً. ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة. وعقابيلها في حياة المجتمع- بل في حياة كل فرد- عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة..
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي «تحررت!» من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب. لو كانت هنالك قلوب! لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة. حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية. وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة وقد ظهرت آثار التحطيم شبه كاملة في انهيارات فرنسا التي سبقت في هذه الفوضى(2/632)
وبدأت هذه الآثار تظهر في أمريكا والسويد وانجلترا، وغيرها من دول الحضارة الحديثة.
وقد ظهرت آثار هذه الفوضى في فرنسا مبكرة، مما جعلها تركع على أقدامها في كل حرب خاضتها منذ سنة 1870 إلى اليوم، وهي في طريقها إلى الانهيار التام، كما تدل جميع الشواهد. وهذه بعض الأمارات التي أخذت تبدو واضحة من بعد الحرب العالمية الأولى:
«إن أول ما قد جر على الفرنسيين تمكن الشهوات منهم: اضمحلال قواهم الجسدية، وتدرجها إلى الضعف يوماً فيوماً. فإن الهياج الدائم قد أو هن أعصابهم وتعبد الشهوات يكاد يأتي على قوة صبرهم وجلدهم وطغيان الأمراض السرية قد أجحف بصحتهم. فمن أوائل القرن العشرين لا يزال حكام الجيش الفرنسي يخفضون من مستوى القوة والصحة البدنية المطلوب في المتطوعة للجند الفرنسي، على فترة كل بضع سنين. لأن عدد الشبان الوافين بالمستوى السابق من القوة والصحة لا يزال يقل ويندر في الأمة على مسير الأيام.. وهذا مقياس أمين، يدلنا كدلالة مقياس الحرارة- في الصحة والتدقيق- على كيفية اضمحلال القوى الجسدية في الأمة الفرنسية «1» . ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال: الأمراض السرية الفتاكة. يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل، وتبعث بهم إلى المستشفيات، في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى، لكونهم مصابين بمرض الزهري، خمسة وسبعين الفاً. وابتلي بهذا المرض وحده 242 جندياً في آن واحد في ثكنة متوسطة. وتصور- بالله- حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه- بجانب- في المضيق الحرج بين الحياة والموت، فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها. وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع. وكان- بجانب آخر- أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع، من جراء انغماسهم في اللذات وما كفى أمتهم ذلك خسراناً، بل ضيعوا جانباً من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم، في تلك الأوضاع الحرجة.
«يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه: إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري، وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة. وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى «الدق» .
وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها عدا هذا أمراض كثيرة أخرى «2» » .
والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير: ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي، وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد، لا تدع مجالاً لتكوين الأسرة، ولا لاستقرارها ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر. ومن ثم يقل الزواج، ويقل التناسل، وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية.
«سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم. ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها. ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج، قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض.
حتى إنه كثيراً ما يكون من مقاصد زواجهم أن يحللوا به الولد النغل الذي قد ولدته أمه قبل النكاح! ويتخذوه
__________
(1) مثل ذلك يقع الآن في أمريكا حيث لا يصلح للجندية ستة من كل سبعة ممن هم في سن التجنيد. وسنة الله لا تتخلف.
(2) كتاب الحجاب للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان ص 113- 114.(2/633)
ولداً شرعياً! فقد كتب «بول بيورو» : من العادة الجارية في طبقة العاملين في فرنسا أن المرأة منهم تأخذ من خدنها ميثاقاً قبل أن يعقد بينهما النكاح، أن الرجل سيتخذ ولدها الذي ولدته قبل النكاح ولداً شرعياً له.
وجاءت امرأة في محكمة الحقوق بمدينة سين! فصرحت: إنني كنت قد آذنت بعلي عن النكاح بأني لا أقصد بالزواج إلا استحلال الأولاد الذين ولدتهم نتيجة اتصالي به قبل النكاح. وأما أن أعاشره وأعيش معه كزوجة، فما كان في نيتي عند ذاك، ولا هو في نيتي الآن. ولذلك اعتزلت زوجي في أصيل اليوم الذي تم فيه زواجنا، ولم ألتق به إلى هذا اليوم، لأني كنت لا أنوي قط أن أعاشره معاشرة زوجية.
«قال عميد كلية شهيرة في باريس لبول بيورد: إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح استخدام بغي في بيتهم أيضاً. ذلك أنهم يظلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أحراراً طلقاء. ثم يأتي عليهم حين من دهرهم يملون تلك الحياة الشريدة المتقلقلة، فيتزوجون بامرأة بعينها، حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته، ولذة المخادنة الحرة خارج البيت «1» » .
وهكذا تدهورت فرنسا. وهكذا هزمت في كل حرب خاضتها، وهكذا تتوارى عن مسرح الحضارة ثم عن مسرح الوجود يوماً بعد يوم. حتى تحق سنة الله التي لا تتخلف وإن بدت بطيئة الدوران في بعض الأحيان! بالقياس إلى تعجل الإنسان! أما في الدول التي لا تزال تبدو فتية، أو لم تظهر فيها آثار الدمار واضحة بعد، فهذه نماذج مما يجري فيها:
يقول صحفي ممن زاروا السويد حديثاً.. بعد أن يتحدث عن «حرية الحب في السويد، وعن الرخاء المادي، والضمانات الاجتماعية في مجتمعها الاشتراكي النموذجي:
«إذا كانت أقصى أحلامنا أن نحقق للشعب هذا المستوى الاقتصادي الممتاز وأن نزيل الفوارق بين الطبقات بهذا الاتجاه الاشتراكي الناجح وأن نؤمن المواطن ضد كل ما يستطيع أي عقل أن يتصوره من أنواع العقبات في الحياة.. إذا وصلنا إلى هذا الحلم البهيج الذي نسعى بكل قوانا وإمكانياتنا إلى تحقيقه في مصر.. فهل نرضى نتائجه الأخرى؟ هل نقبل الجانب الأسود من هذا المجتمع المثالي؟ هل نقبل «حرية الحب» وآثارها الخطيرة على كيان الأسرة؟
«دعونا نتحدث بالأرقام ... »
«مع وجود كل هذه المشجعات على الاستقرار في الحياة، وتكوين أسرة، فإن الخط البياني لعدد سكان السويد يميل إلى الانقراض! .. مع وجود الدولة التي تكفل للفتاة إعانة زواج ثم تكفل لطفلها الحياة المجانية حتى يتخرج في الجامعة، فإن الأسرة السويدية في الطريق إلى عدم إنجاب أطفال على الإطلاق! «يقابل هذا انخفاض مستمر في نسبة المتزوجين. وارتفاع مستمر في نسبة عدد المواليد غير الشرعبين. مع ملاحظة أن عشرين في المائة من البالغين الأولاد والبنات لا يتزوجون أبداً.
«لقد بدأ عهد التصنيع. وبدأ معه المجتمع الاشتراكي في السويد عام 1870. كانت نسبة الأمهات- غير المتزوجات- في ذلك العام 7 في المائة، وارتفعت هذه النسبة في عام 1920 إلى 16 في المائة. والاحصاءات بعد ذلك لم أعثر عليها. ولكنها ولا شك مستمرة في الزيادة.
«وقد أجرت المعاهد العلمية عدة استفسارات عن «الحب الحر» في السويد، فتبين منها أن الرجل تبدأ
__________
(1) المصدر السابق 115- 117.(2/634)
علاقاته الجنسية بدون زواج في سن الثامنة عشرة. والفتاة في سن الخامسة عشرة. وأن 95 في المائة من الشبان في سن 21 سنة لهم علاقات جنسية! «وإذا أردنا تفصيلات تقنع المطالبين بحرية الحب، فإننا نقول: إن 7 في المائة من هذه العلاقات الجنسية مع خطيبات، و 35 في المائة منها مع حبيبات! و 58 في المائة منها مع صديقات عابرات! «وإذا سجلنا النسب عن علاقة المرأة الجنسية بالرجل قبل سن العشرين. وجدنا أن 3 في المائة من هذه العلاقات مع أزواج. و 27 في المائة منها مع خطيب! و 64 في المائة منها مع صديق عابر! «وتقول الأبحاث العلمية: إن 80 في المائة من نساء السويد مارسن علاقات جنسية كاملة قبل الزواج و 20 في المائة بقين بلا زواج! «وأدت حرية الحب بطبيعة الحال إلى الزواج المتأخر، وإلى الخطبة الطويلة الأجل. مع زيادة عدد الأطفال غير الشرعيين كما قلت.
«والنتيجة الطبيعية بعد ذلك أن يزيد تفكك الأسرة.. إن أهل السويد يدافعون عن «حرية الحب» بقولهم:
إن المجتمع السويدي ينظر نظرة احتقار إلى الخيانة بعد الزواج، كأي مجتمع متمدن آخر! وهذا صحيح لا ننكره! ولكنهم لا يستطيعون الدفاع عن الاتجاه إلى انقراض النسل. ثم الزيادة المروعة في نسبة الطلاق.
«إن نسبة الطلاق في السويد هي أكبر نسبة في العالم. إن طلاقاً واحداً يحدث بين كل ست أو سبع زيجات، طبقاً للإحصاءات التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية بالسويد. والنسبة بدأت صغيرة، وهي مستمرة في الزيادة.. في عام 1925 كان يحدث 26 طلاقاً بين كل 100 ألف من السكان- ارتفع هذا الرقم إلى 104 في عام 1952، ثم ارتفع إلى 114 في عام 1954.
«وسبب ذلك أن 30 في المائة من الزيجات تتم اضطراراً تحت ضغط الظروف، بعد أن تحمل الفتاة.
والزواج بحكم «الضرورة» لا يدوم بطبيعة الحال كالزواج العادي. ويشجع على الطلاق أن القانون السويدي لا يضع أية عقبة أمام الطلاق إذا قرر الزوجان أنهما يريدان الطلاق. فالأمر سهل جداً، وإذا طلب أحدهما الطلاق. فإن أي سبب بسيط يقدمه، يمكن أن يتم به الطلاق! «وإذا كانت حرية الحب مكفولة في السويد.. فهناك حرية أخرى يتمتع بها غالبية أهل السويد.. إنها حرية عدم الإيمان بالله! لقد انتشرت في السويد الحركات التحررية من سلطان الكنيسة على الإطلاق. وهذه الظاهرة تسود الترويج والدنمرك أيضاً. المدرسون في المدارس والمعاهد يدافعون عن هذه الحرية ويبثونها في عقول النشء والشباب.
«والجيل الجديد ينحرف.. وهذه ظاهرة جديدة تهدد الجيل الجديد في السويد وباقي دول اسكندنافيا. إن افتقادهم للإيمان يجرفهم إلى الانحراف، وإلى الإدمان على المخدرات والخمور.. وقد قدر عدد أطفال العائلات التي لها أب مدمن بحوالي 175 ألفاً. أي ما يوازي 10 في المائة من مجموع أطفال العائلات كلها.
وإقبال المراهقين على إدمان الخمر يتضاعف.. إن من يقبض عليهم البوليس السويدي في حالة سكر شديد من المراهقين بين سن 15 و 17 يوازي ثلاثة أمثال عدد المقبوض عليهم بنفس السبب منذ 15 عاماً. وعادة الشرب بين المراهقين والمراهقات تسير من سيىء إلى أسوأ.. ويتبع ذلك حقيقة رهيبة.
«إن عشر الذين يصلون إلى سن البلوغ في السويد يتعرضون لاضطرابات عقلية! ويقول أطباء السويد:
إن 50 في المائة من مرضاهم يعانون من اضطرابات عقلية تلازم أمراضهم الجسدية. ولا شك أن التمادي في التمتع(2/635)
بحرية عدم الإيمان سيضاعف هذه الانحرافات النفسية، ويزيد من دواعي تفكك الأسرة. ويقربهم إلى هوة انقراض النسل ... »
والحال في أمريكا لا تقل عن هذه الحال. ونذر السوء تتوالى. والأمة الأمريكية في عنفوانها لا تتلفت للنذر. ولكن عوامل التدمير تعمل في كيانها، على الرغم من هذا الرواء الظاهري وتعمل بسرعة، مما يشي بسرعة الدمار الداخلي على الرغم من كل الظواهر الخارجية!!! لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم، لا لأنهم في حاجة إلى المال. ولكن لأن بهم شذوذاً جنسياً، ناشئاً من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع.
وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى. مؤلفة من المحامين والأطباء- أي من قمة الطبقة المثقفة- مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا، وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق! ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبساً، وهي التي أوقعته في حبائلها! كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين! وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق! ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية! مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصباً يستريح!!! وأخيراً يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه.
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول:
«عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم. وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض، أولها:
الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية (الأولى) بسرعة عجيبة.
والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروساً عملية في بابه. والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء، الذي يظهر في ملابسهن، بل في عريهن، وفي إكثارهن من التدخين، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام.. هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام. ولا بد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر. فإن نحن لم نحد من طغيانها، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهاً لتاريخ الرومان، ومن تبعهم من سائر الأمم، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء، أو مشاغل رقص ولهو وغناء» «1» .
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة، بل استسلمت لها تماماً وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان! ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ليهون من انحلال شبابنا! يقول:
__________
(1) نقلا عن كتاب الحجاب للمودودي ص 129، 130.(2/636)
«انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا. وأعلن حاكم ولاية نيويورك، أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية:
«وعمد الحاكم إلى انشاء المزارع و «الإصلاحيات» التهذيبية والأندية الرياضية.. الخ» «ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات- التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين! - لا يدخل في برنامجه، وأنه يترك أمره للسلطات الصحية! «وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف. وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلاماً مراهقاً. وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة، وتركها جثة هامدة، حتى لا تفشي سره، أو تتعرف عليه، إذا عرضه عليها رجال البوليس.
«ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية، عند ما أبصر على جانب الطريق- وتحت شجرة- غلاماً يضاجع فتاة..
«واقترب الشيخ منهما، ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه، وقال له: إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام! «ونهض الفتى، وركل الشيخ بكل قوته في بطنه ... ووقع الشيخ.
«وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه ... واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس! «وكان الغلام في الخامسة عشرة، والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها!» وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن 90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة (وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين!) وكتب القاضي لندسي بمدينة «دنفر» أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق! وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه: «الإنسان ذلك المجهول» :
«بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية. الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال. فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية ... ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى. وكالجنون، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد. وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد، وتحطيم الأسر.. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية، التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن!» ..
هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة، في جاهليتها الحديثة، من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة. المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف وصيانته من نزواته، وحمايته من شهواته، وهدايته إلى الطريق الآمن، والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة:
«وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ(2/637)
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» .
والفقرة الثانية في هذا الدرس، تتناول جانباً من العلاقات المالية في المجتمع المسلم، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب، لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب- كل حسب نصيبه- وأخيراً لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام، لتصفية هذا النظام، وتخصيص الميراث بالأقارب ومنع عقود الولاء الجديدة:
«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل- إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم- ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً. وكان ذلك على الله يسيراً. إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً. ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، وأسالوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما. ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً» ..
إنها حلقة في سلسلة التربية، وحلقة في سلسلة التشريع.. والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان أو متداخلان أو متكاملان.. فالتشريع منظور فيه إلى التربية كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع وتحقق المصلحة فيه. والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما- معاً- إلى ربط القلب بالله، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه..
وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية.. هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان..
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل- وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال- وهو التجارة- ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس وهلكة وبوار. ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة، ومس النار! .. وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير، والعون على الضعف والعفو عن التقصير.. كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض، والتوجه إلى الله- صاحب العطاء- وسؤال من بيده الفضل والعطاء. وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليماً.. كما أن بيان التصرف في عقود الولاء، والأمر بالوفاء بها نجده مصحوباً بأن الله كان على كل شيء شهيداً.. وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان، وتكوينه النفسي، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة.
«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل- إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم- ولا تقتلوا أنفسكم. إن الله كان بكم رحيماً. ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً، وكان ذلك على الله يسيراً» .
النداء للذين آمنوا، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.(2/638)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» .
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء: «يا أيها الذين آمنوا» .. واستحياء مقتضيات الإيمان. مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها، وجميع أنواع البيوع المحرمة- والربا في مقدمتها- ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله فإن كان قد نزل قبله، فقد كان تمهيداً للنهي عنه. فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل. وإن كان قد نزل بعده، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل.
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري:
«إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» ..
وهو استثناء منقطع.. تأويله: ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق..
ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل.. وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا- في سورة البقرة- من قول المرابين في وجه تحريم الربا: «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» .. ورد الله عليهم في الآية نفسها: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» .. فقد كان المرابون يغالطون، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون. فيقولون: إن البيع- وهو التجارة- تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح. فهو- من ثم- مثل الربا.
فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا! والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير.
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً. وهي خدمة للطرفين، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة. انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة..
والربا على الضد من هذا كله. يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة. وهو في الوقت ذاته- كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عند ما بلغ أوجه- يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية. ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز، المحطمة للكيان الإنساني.. وفوق كل شيء.. هذا الربح الدائم لرأس المال وعدم مشاركته في نوبات الخسارة- كالتجارة- وقلة اعتماده على الجهد البشري، الذي يبذل حقيقة في التجارة.. إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي وتقتضي الحكم عليه بالإعدام كما حكم عليه الإسلام «1» !
__________
(1) يراجع ما كتبناه في الظلال في الجزء الثالث من ص 318- ص 328 ويراجع بتوسع ما كتبه الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان في كتابه «الربا»
.(2/639)
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك- «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل. وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون! «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» ..
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة إنها عملية قتل.. يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها، حين ينهاهم عنها! وإنها لكذلك. فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة: بالربا. والغش. والقمار. والاحتكار.
والتدليس. والاختلاس. والاحتيال. والرشوة. والسرقة. وبيع ما ليس يباع: كالعرض. والذمة.
والضمير. والخلق. والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء- ما تروج هذه الوسائل في جماعة، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار! والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المردية للنفوس وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ومن تدارك ضعفهم الإنساني، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات! ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل، معتدين ظالمين، تهديدهم بعذاب الآخرة بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها. الآكل فيهم والمأكول فالجماعة كلها متضامنة في التبعة ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
«وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها- في الدنيا والآخرة- وهو يشرع لها ويوجهها ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه، وتنفيذ التشريع ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها.. «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» فما يمنع منه مانع، ولا يحول دونه حائل، ولا يتخلف، متى وجدت أسبابه، عن الوقوع! وفي مقابل اجتناب «الكبائر» - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل- يعدهم الله برحمته، وغفرانه، وتجاوزه عما عدا الكبائر مراعاة لضعفهم الذي يعلمه- سبحانه- وتيسيراً عليهم، وتطميناً لقلوبهم وعوناً لهم على التحاجز عن النار باجتناب الفواحش الكبار:
«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» .
ألا ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة، والطاعة. وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود، والأوامر والنواهي، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة وإنشاء مجتمع نظيف سليم.
إن هذا الهتاف، وهذه التكاليف، لا تغفل- في الوقت ذاته- ضعف الإنسان وقصوره ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة.(2/640)
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة. وبين الأشواق والضرورات. وبين الدوافع والكوابح. وبين الأوامر والزواجر. وبين الترغيب والترهيب. وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة..
إنه حسبُ هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله وأن تخلص حقاً في هذا الاتجاه، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه.. فأما بعد ذلك.. فهناك رحمة الله.. هناك رحمة الله ترحم الضعف، وتعطف على القصور وتقبل التوبة، وتصفح عن التقصير وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين، في إيناس وفي تكريم..
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه. أما مقارفة هذه الكبائر- وهي واضحة ضخمة بارزة لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ولم تستنفد الطاقة في المقاومة.. وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه.. وقد قال فيها: «والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم- ومن يغفر الذنوب إلا الله- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون» .. وعدهم من «المتقين» .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله، متى اجتنبت الكبائر وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين.
أما ما هي الكبائر.. فقد وردت أحاديث تعدد أنواعاً منها- ولا تستقصيها- وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة فتذكر من الكبائر- في كل حديث- ما يناسب الملابسة الحاضرة، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم «الكبائر» من الذنوب. وإن كانت تختلف عدداً ونوعاً بين بيئة وبيئة، وبين جيل وجيل! ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية.
تبين- مع ذلك كله- كيف قوّم الإسلام حسه المرهف، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس:
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن ابن عون عن الحسن أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله- عز وجل- أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه. فلقي عمر- رضي الله عنه- فقال: متى قدمت؟
فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال: أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله، أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال فجمعتهم له. قال أبو عون: أظنه قال: في بهو.. فأخذ أدناهم رجلاً فقال أنشدك الله، وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله! قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك؟
فقال: اللهم لا- ولو قال: نعم، لخصمه! قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك «1» .. ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال: ثكلت عمر أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال: وتلا: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
__________
(1) يعني هل أحصيته منفذا محققا في نفسك وفي بصرك وفي لفظك ... إلخ؟. [.....](2/641)
سَيِّئاتِكُمْ» ... الآية. ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال:
لو علموا لو عظت بكم «1» !» .
فهكذا كان عمر- المتحرج الشديد الحساسية- يسوس القلوب والمجتمع وقد قوم القرآن حسه وأعطاه الميزان الدقيق.. «قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات!» ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات، وبذل الجهد في هذا الوفاء.. إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال.
وفي سياق الحديث عن الأموال، وتداولها في الجماعة، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات. وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام. الذي سبق تفصيله في أوائل السورة:
«ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض.. للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن..
وأسالوا الله من فضله. إن الله كان بكل شيء عليما. ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون. والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيداً..»
والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض.. من أي أنواع التفضيل، في الوظيفة والمكانة، وفي الاستعدادات والمواهب، وفي المال والمتاع.. وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة..
والتوجه بالطلب إلى الله، وسؤاله من فضله مباشرة بدلاً من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ومن حنق كذلك ونقمة، أو من شعور بالضياع والحرمان، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور.. وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله وسوء ظن بعدالة التوزيع.. حيث تكون القاصمة، التي تذهب بطمأنينة النفس، وتورث القلق والنكد وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة، وفي اتجاهات كذلك خبيثة. بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال! النص عام في هذا التوجيه العام. ولكن موضعه هنا من السياق، وبعض الروايات عن سبب النزول، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتاً معيناً، وتفضيلاً معيناً، هو الذي نزل هذا النص يعالجه.. هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء.. كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك.. وهذا الجانب- على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل وإشاعة هذا الرضا- من ثم- في البيوت وفي المجتمع المسلم كله إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام..
هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب.. ولهذا روت التفاسير المأثورة، هذا المعنى وذاك:
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبى نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله،
__________
(1) رواه ابن كثير في التفسير وقال عنه: إسناد صحيح، ومتن حسن. وإن كان من رواية الحسن عن عمر- وفيها انقطاع- إلا أن مثل هذا اشتهر به فتكفي شهرته.(2/642)
تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث.. فأنزل الله: «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» .
ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه. من حديث الثوري، عن أبي نجيح، عن مجاهد. قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله. لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث.. فنزلت الآية.. ثم أنزل الله: «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» ... الآية.
وقال السدي في الآية: إن رجالاً قالوا: إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان! وقالت النساء: إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء، فإننا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا! فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي. قال ليس بعرض الدنيا..
وروي مثل ذلك عن قتادة.. كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية:
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، قال: «ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت لي مال فلان وأهله. فنهى الله عن ذلك. ولكن يسأل من فضله.. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا..
ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء، لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة، تمشياً مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد..
إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه..
ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره. لا لحساب الرجال، ولا لحساب النساء! ولكن لحساب «الإنسان» ولحساب «المجتمع المسلم» ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه. وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب.
إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء. والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة لتنوط بكل منهما وظائف معينة..
لا لحسابه الخاص. ولا لحساب جنس منهما بذاته. ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم، وتنتظم، وتستوفي خصائصها، وتحقق غايتها- من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة- عن طريق هذا التنوع بين الجنسين، والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف.. وعن طريق تنوع الخصائص، وتنوع الوظائف، ينشأ تنوع التكاليف، وتنوع الأنصبة، وتنوع المراكز.. لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى.. المسماة بالحياة..
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات، ولا كذلك للجدل الحديث، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام. ويطغى أحياناً على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام! إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين، تسجل فيه المواقف والانتصارات.. ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص «المرأة» وثلبها، وإلصاق كل شائنة بها.. سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل.. فالمسألة ليست معركة على الإطلاق! إنما هي تنويع وتوزيع.
وتكامل. وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله.(2/643)
يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية التي تنشئ أنظمتها من تلقاء نفسها وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة. أو مصالح طبقات غالبة فيها، أو بيوت، أو أفراد.. ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله، وبوظيفة الجنسين في الحياة، أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها. أو في توزيع الميراث، أو حقوق التصرف في المال- كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة! فأما في المنهج الإسلامي فلا.. لا ظل للمعركة. ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا. ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل ومحاولة النيل من أحدهما، وثلبه، وتتبع نقائصه! .. ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص، لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف. ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز.. فكل ذلك عبث من ناحية وسوء فهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية! وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه.. وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح، الذي يتجه بكليته إلى الآخرة وهو يقوم بشئون هذه الدنيا.. وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه. وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديماً.. وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالاً ونساء في هذه الأيام..
إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها ولم يمنعها منه- حين تكون هناك حاجة إليها، لا يسدها الرجال- وقد شهدت المغازي الإسلامية آحاداً من النساء- مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد- وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة ولم يكن هو القاعدة.. وعلى أية حال، فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال.
إن الجهاد لم يكتب على المرأة، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون. وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها، العضوي والنفسي ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء. وهي- في هذا الحقل- أقدر وأنفع.. هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر بل هي- وعلى وجه التحديد- كل خلية منذ تلقيح البويضة، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكراً من لدن الخالق- سبحانه «1» - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية، والظواهر النفسية الكبرى.. وهي أنفع- بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل- فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ. والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال- أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال! فرجل واحد- في النظام الإسلامي- وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته- يمكن أن يجعل نساء أربعاً ينتجن، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان. ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال. وليس ذلك إلا باباً واحداً من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد ... ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين، لا يتسع لها المجال هنا، لأنها تحتاج إلى بحث خاص.. وأما الأجر والثواب، فقد طمأن الله الرجال والنساء
__________
(1) يراجع فصل: «المرأة وعلاقات الجنسين» في كتاب «الإسلام ومشكلات الحضارة» . «دار الشروق»
.(2/644)
عليه، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق..
والأمر في الميراث كذلك.. ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثاراً للرجل في قاعدة: «فللذكر مثل حظ الأنثيين» .. ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في أوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما.. فالغنم بالغرم، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي.. فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقاً. والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه، وهي معفاة من هذا التكليف، ولو كان لها مال خاص- وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل!! - والرجل عليه في الديات والأرش (التعويض عن الجراحات) متكافلاً مع الأسرة، والمرأة منها معفاة. والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة- الأقرب فالأقرب- والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام.. حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة، أو عند الطلاق، يتحملها الرجل، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء.. فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث. ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث. ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين الذي لا يقوّم بمال، ولا يعدله إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام! وهكذا نجد معالم التوازن الشامل، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم، الذي شرعه الحكيم العليم..
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية:
«لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» ..
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية- كغيرها من الجاهليات القديمة- تحيف عليه ولا تعترف به للمرأة- إلا في حالات نادرة- ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه. إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة، كالمتاع! وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة- التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر- تتحيفه فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور. وبعضها يجعل إذن الولي ضرورياً لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال ويجعل إذن الزوج ضرورياً لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص! وذلك بعد ثورات المرأة وحركاتها الكثيرة وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله، وفي نظام الأسرة، وفي الجو الأخلاقي العام.
فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء وبدون طلب منها، وبدون ثورة، وبدون جمعيات نسوية، وبدون عضوية برلمان!! منحها هذا الحق تمشياً مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة وإلى تكريم شِقَّيْ النفس الواحدة وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء.
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام.
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب «حقوق الإنسان» لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه:
«وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلك(2/645)
المرأة المتزوجة وغير المتزوجة. فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية، ولا أهليتها في التعاقد، ولا حقها في التملك. بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها، وبكامل حقوقها المدنية وبأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء مختلف العقود، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية وما إلى ذلك ومحتفظة بحقها في التملك تملكاً مستقلاً عن غيرها. فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته. ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً من مالها- قل ذلك أو كثر- قال تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً. أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً؟ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً؟» .. وقال: «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» .. وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئاً مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئاً من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها، وعن طيب نفس منها. وفي هذا يقول الله تعالى:
«وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها، إلا إذا أذنت له بذلك، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها. وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته، وتوكل غيره إذا شاءت.
«وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها- بعد- أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة.
فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب- بل لا تزال إلى الوقت الحاضر- أشبه شيء بحالة الرق المدني.
فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي. إذ تقرر أن: «المرأة المتزوجة- حتى ولو كان زواجها قائماً على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها- لا يجوز لها أن تهب، ولا أن تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض، بدون اشتراك زوجها في العقد، أو موافقته عليه موافقة كِتَابِيَّة!» .. وأورد نصها الفرنسي ...
«ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات، فيما بعد، فإن كثيراً من آثارها لا يزال ملازماً لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر.. وتوكيداً لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية، ويقضي عرفها، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها، فلا تعود تسمى فلانة بنت فلان بل تحمل اسم زوجها وأسرته فتدعى «مدام فلان» أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها.. وفقدان اسم المرأة، وحملها لاسم زوجها، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة، واندماجها في شخصية الزوج.
«ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغربيات- حتى في هذا النظام الجائر- ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلاً من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها، كما هو النظام الإسلامي، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة، هن المطالبات بحقوق النساء، ومساواتهن بالرجال ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن ورفع به شأنهن، وسواهن فيه بالرجال» (ص 651، 652) من هذا الجزء(2/646)
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث. هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة. بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه:
«وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» ..
بعد أن ذكر أن للرجال نصيباً مما اكتسبوا، وللنساء نصيباً مما اكتسبن.. وبين- فيما سلف- أنصبة الذكور والإناث في الميراث.. ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه. يرثونه مما آل إليه من الوالدين والأقربين..
فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلاً بعد جيل. يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين.. وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي وأنها لا تقف عند جيل ولا تتركز في بيت ولا فرد.. إنما هو التوارث المستمر، والتداول المستمر، وحركة التوزيع الدائبة وما يتبعها من تعديل في المالكين، وتعديل في المقادير، بين الحين والحين..
ثم عطف على العقود، التي أقرتها الشريعة الإسلامية والتي تجعل الإرث يذهب أحياناً إلى غير الأقرباء..
وهي عقود الموالاة.. وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعاً من هذه العقود:
الأول عقد ولاء العتق، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق- بعد عتقه- بمنزلة العضو في أسرة مولاه (مولى العتق) فيدفع عنه المولى الدية، إذا ارتكب جناية توجب الدية- كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب- ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة..
والثاني عقد الموالاة. وهو النظام الذي يبيح لغير العربي- إذا لم يكن له وارث من أقاربه- أن يرتبط بعقد مع عربي هو (مولى الموالاة) . فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه. يدفع عنه المولى الدية- إذا ارتكب جناية توجب الدية- ويرثه إذا مات.
والنوع الثالث، هو الذي عقده النبي- صلى الله عليه وسلم- أول العهد بالمدينة، بين المهاجرين والأنصار.
فكان المهاجر يرث الأنصاري، مع أهله- كواحد منهم- أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة..
والنوع الرابع.. كان في الجاهلية، يعاقد الرجل الرجل، ويقول: «وترثني وأرثك» ..
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود وبخاصة النوعين الثالث والرابع. بتقرير أن الميراث سببه القرابة.
والقرابة وحدها. ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها. فأمضاها على ألا يجدد سواها. وقال الله سبحانه:
«وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» .
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» ..
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«لا حلف في الإسلام. وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» (رواه أحمد ومسلم) .
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية، في علاجه لها- بدون أثر رجعي- فهكذا صنع في الربا حين أبطله. أبطله منذ نزول النص، وترك لهم ما سلف منه ولم يأمر برد(2/647)
الفوائد الربوية. وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد. فأما هنا فقد احترم تلك العقود على ألا ينشأ منها جديد. لما يتعلق بها- فوق الجانب المالي- من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة. فترك هذه العقود القائمة تنفذ وشدد في الوفاء بها وقطع الطريق على الجديد منها قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج! وفي هذا التصرف يبدو التيسير، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول، في علاج الأمور في المجتمع. حيث كان الإسلام يصوغ ملامح المجتمع المسلم يوماً بعد يوم ويمحو ويلغي ملامح الجاهلية في كل توجيه وكل تشريع «1» .
والموضوع الأخير في هذا الدرس، هو تنظيم مؤسسة الأسرة وضبط الأمور فيها وتوزيع الاختصاصات، وتحديد الواجبات وبيان الإجراءات التي تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير، جهد المستطاع:
«الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله. واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. إن الله كان علياً كبيراً. وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما. إن الله كان عليماً خبيراً» ..
ولا بد- قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية، وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية- من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها، وأهدافه منها.. بيان مجمل بقدر الإمكان، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص «2» :
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته «الزوجية» شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين للنفس الواحدة: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» ..
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة- بعد ذلك- فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس، وهدوءاً للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد.. ثم ستراً وإحصاناً وصيانة.. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون:
«وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ..
«هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» ..
«نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» ..
__________
(1) في رواية عن ابن عباس في تفسير هذا النص، أنه منع الوراثة إلا للقرابة، واستبقي للذين عقدت أيمانهم النصرة والرفادة والنصيحة.
(2) يراجع كتاب الحجاب وكتاب تفسير سورة النور للأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان
.(2/648)
«وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ «1» مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» ..
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله، ومن تكريمه للإنسان، كان ذلك التكريم للمرأة، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند الله، وفي حقوق التملك والإرث، وفي استقلال الشخصية المدنية.. التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس.
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة، لإنشاء مؤسسة الأسرة. ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولاً:
في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانياً: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي ... كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون هذه المؤسسة.. وقد احتوت هذه السورة جانباً من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات السابقة من أول هذا الجزء تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع.. واحتوت سورة البقرة جانباً آخر، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني. واحتوت سور أخرى من القرآن، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن والعشرين..
ومواضع أخرى متفرقة في السور، جوانب أخرى تؤلف دستوراً كاملاً شاملاً دقيقاً لنظام هذه المؤسسة الإنسانية وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة الخطيرة! ونرجو أن يكون قارئ هذه الصفحة على ذكر مما سبق في صفحات هذا الجزء نفسه عن طفولة الطفل الإنساني، وطولها، وحاجته في خلالها إلى بيئة تحميه أولاً حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش وأهم من هذا أن تؤهله، بالتربية، إلى وظيفته الاجتماعية والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني، وتركه خيراً مما تسلمه، حين جاء إليه! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة مؤسسة الأسرة ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها، والغاية منها واهتمامه بصيانتها، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد..
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام للأسرة وأهميتها ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها.. إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة ومنحها استقلال الشخصية واحترامها والحقوق التي أنشأها لها إنشاء- لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية- نستطيع أن نتحدث عن النص الأخير في هذا الدرس، الذي قدمنا للحديث عنه بهذا الإيضاح:
إن هذا النص- في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها، بردهم جميعاً إلى حكم الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات- يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل ويذكر من أسباب هذه القوامة: تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص ودربة، و.. تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة. وبناء على إعطاء القوامة للرجل، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ وحمايتها من النزوات العارضة وطريقة علاج هذه النزوات- حين تعرض- في حدود مرسومة- وأخيراً يبين الإجراءات- الخارجية- التي تتخذ عند ما تفشل
__________
(1) نقصناهم.(2/649)
الإجراءات الداخلية، ويلوح شبح الخطر على المؤسسة، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب، ولكن تضم الفراخ الخضر، الناشئة في المحضن. المعرضة للبوار والدمار. فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه الإجراءات من ضرورة، ومن حكمة، بقدر ما نستطيع:
«الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» ..
إن الأسرة- كما قلنا- هي المؤسسة الأولى في الحياة الإنسانية. الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق. والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون، في التصور الإسلامي.
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأناً، والأرخص سعراً: كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية ...
وما إليها ... لا يوكل أمرها- عادة- إلا لأكفأ المرشحين لها ممن تخصصوا في هذا الفرع علمياً، ودربوا عليه عملياً، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة ...
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً.. فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة، التي تنشئ أثمن عناصر الكون.. العنصر الإنساني..
والمنهج الرباني يراعي هذا. ويراعي به الفطرة، والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه الاستعدادات، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة.
والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها، المعان عليها من فطرته واستعداداته المتميزة المتفردة..
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله- سبحانه- لا يريد أن يظلم أحداً من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة! وقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى.. زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء هذا الكون.. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل.. وهي وظائف ضخمة أولاً وخطيرة ثانياً. وليست هينة ولا يسيرة، بحيث تؤدَّى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان الأنثى! فكان عدلاً كذلك أن ينوط بالشطر الثاني- الرجل- توفير الحاجات الضرورية. وتوفير الحماية كذلك للأنثى كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ولا يحمل عليها أن تحمل وتضع وترضع وتكفل.. ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد! وكان عدلاً كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه. وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك.
وكان هذا فعلاً.. ولا يظلم ربك أحداً..
ومن ثم زودت المرأة- فيما زودت به من الخصائص- بالرقة والعطف، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة- بغير وعي ولا سابق تفكير- لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها- حتى في الفرد الواحد- لم تترك لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية! لتسهل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أن يكون قسراً. ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج ولذيذ ومستحب في معظم الأحيان كذلك، لتكون الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى- مهما يكن فيها من المشقة والتضحية! صنع الله الذي أتقن كل شيء.
وهذه الخصائص ليست سطحية. بل هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة..(2/650)
بل يقول كبار العلماء المختصين: إنها غائرة في تكوين كل خلية. لأنها عميقة في تكوين الخلية الأولى، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكل خصائصه الأساسية! وكذلك زود الرجل- فيما زود به من الخصائص- بالخشونة والصلابة، وبطء الانفعال والاستجابة واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة. لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة إلى القتال الذي يمارسه دائماً لحماية الزوج والأطفال. إلى تدبير المعاش.. إلى سائر تكاليفه في الحياة.. لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام وإعمال الفكر، والبطء في الاستجابة بوجه عام! .. وكلها عميقة في تكوينه عمق خصائص المرأة في تكوينها..
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة، وأفضل في مجالها.. كما أن تكليفه بالإنفاق- وهو فرع من توزيع الاختصاصات- يجعله بدوره أولى بالقوامة، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة والإشراف على تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها..
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني، وهو يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي.
قوامة لها أسبابها من التكوين والاستعداد. ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات. ولها أسبابها من العدالة في التوزيع من ناحية وتكليف كل شطر- في هذا التوزيع- بالجانب الميسر له، والذي هو معان عليه من الفطرة.
وأفضليته في مكانها.. في الاستعداد للقوامة والدربة عليها.. والنهوض بها بأسبابها.. لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة- كسائر المؤسسات الأقل شأناً والأرخص سعراً- ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها، معان عليها، مكلف تكاليفها. وأحد الشطرين غير مهيأ لها، ولا معان عليها.. ومن الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى.. وإذا هو هيىء لها بالاستعدادات الكامنة، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي، فسد استعداده للقيام بالوظيفة الأخرى.. وظيفة الأمومة.. لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها. وفي مقدمتها سرعة الانفعال، وقرب الاستجابة. فوق الاستعدادات الغائرة في التكوين العضوي والعصبي وآثارها في السلوك والاستجابة! إنها مسائل خطيرة.. أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر.. وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء.. وحين تركت لهم ولأهوائهم في الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة، هددت البشرية تهديداً خطيراً في وجودها ذاته وفي بقاء الخصائص الإنسانية، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز.
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها..
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط وفساد، ومن تدهور وانهيار ومن تهديد بالدمار والبوار، في كل مرة خولفت فيها هذه القاعدة. فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة. أو اختلطت معالمها. أو شذت عن قاعدتها الفطرية الأصيلة! ولعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القوامة على أصلها الفطري في الأسرة. وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة السعادة عند ما تعيش مع رجل، لا يزاول مهام القوامة وتنقصه صفاتها اللازمة فيكل إليها هي القوامة! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في الظلام! ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال- الذين ينشأون في مؤسسة عائلية القوامة فيها ليست للأب. إما لأنه(2/651)
ضعيف الشخصية، بحيث تبرز عليه شخصية الأم وتسيطر. وإما لأنه مفقود: لوفاته- أو لعدم وجود أب شرعي! - قلما ينشأون أسوياء. وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما، في تكوينهم العصبي والنفسي، وفي سلوكهم العملي والخلقي..
فهذه كلها بعض الدلائل، التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكمها، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكرون لها! ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا- في سياق الظلال- عن قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها، وضرورتها وفطريتها كذلك.. ولكن ينبغي أن نقول: إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني ولا إلغاء وضعها «المدني» - كما بينا ذلك من قبل- وإنما هي وظيفة- داخل كيان الأسرة- لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها. ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها. فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية، وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله «1» .
وبعد بيان واجب الرجل وحقه والتزاماته وتكاليفه في القوامة، يجيء بيان طبيعة المرأة المؤمنة الصالحة وسلوكها وتصرفها الإيماني في محيط الأسرة:
«فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ، حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ» ..
فمن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها، أن تكون.. قانتة..
مطيعة. والقنوت: الطاعة عن إرادة وتوجه ورغبة ومحبة، لا عن قسر وإرغام وتفلت ومعاظلة! ومن ثم قال: قانتات. ولم يقل طائعات. لأن مدلول اللفظ الأول نفسي، وظلاله رخية ندية.. وهذا هو الذي يليق بالسكن والمودة والستر والصيانة بين شطري النفس الواحدة. في المحضن الذي يرعى الناشئة، ويطبعهم بجوه وأنفاسه وظلاله وإيقاعاته! ومن طبيعة المؤمنة الصالحة، ومن صفتها الملازمة لها، بحكم إيمانها وصلاحها كذلك، أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته- وبالأولى في حضوره- فلا تبيح من نفسها في نظرة أو نبرة- بله العرض والحرمة- ما لا يباح إلا له هو- بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة.
وما لا يباح، لا تقرره هي، ولا يقرره هو: إنما يقرره الله سبحانه: «بِما حَفِظَ اللَّهُ» ..
فليس الأمر أمر رضاء الزوج عن أن تبيح زوجته من نفسها- في غيبته أو في حضوره- ما لا يغضب هو له.
أو ما يمليه عليه وعليها المجتمع! إذا انحرف المجتمع عن منهج الله..
إن هنالك حكماً واحداً في حدود هذا الحفظ فعليها أن تحفظ نفسها «بِما حَفِظَ اللَّهُ» .. والتعبير القرآني لا يقول هذا بصيغة الأمر. بل بما هو أعمق وأشد توكيداً من الأمر. إنه يقول: إن هذا الحفظ بما حفظ الله، هو من طبيعة الصالحات، ومن مقتضى صلاحهن!
__________
(1) ولزيادة الإيضاح في جميع المسائل التي تناولتها هذه الفقرة من الموضوع يراجع: فصل: «المرأة وعلاقات الجنسين» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة» ، وكتاب «الحجاب» وكتاب «تفسير سورة النور» للأستاذ المودودي. وكتاب «الأسرة والمجتمع» ، وكتاب «حقوق الإنسان» للدكتور علي عبد الواحد وافي. وكتاب «الإنسان بين المادية والإسلام» لمحمد قطب ... «دار الشروق»
.(2/652)
وعندئذ تتهاوى كل أعذار المهزومين والمهزومات من المسلمين والمسلمات. أمام ضغط المجتمع المنحرف.
وتبرز حدود ما تحفظه الصالحات بالغيب: «بِما حَفِظَ اللَّهُ» مع القنوت الطائع الراضي الودود..
فأما غير الصالحات.. فهن الناشزات. (من الوقوف على النشز وهو المرتفع البارز من الأرض) وهي صورة حسية للتعبير عن حالة نفسية. فالناشز تبرز وتستعلي بالعصيان والتمرد..
والمنهج الإسلامي لا ينتظر حتى يقع النشوز بالفعل، وتعلن راية العصيان وتسقط مهابة القوامة وتنقسم المؤسسة إلى معسكرين.. فالعلاج حين ينتهي الأمر إلى هذا الوضع قلما يجدي. ولا بد من المبادرة في علاج مبادئ النشوز قبل استفحاله. لأن مآله إلى فساد في هذه المنظمة الخطيرة، لا يستقر معه سكن ولا طمأنينة، ولا تصلح معه تربية ولا إعداد للناشئين في المحضن الخطير. ومآله بعد ذلك إلى تصدع وانهيار ودمار للمؤسسة كلها وتشرد للناشئين فيها أو تربيتهم بين عوامل هدامة مفضية إلى الأمراض النفسية والعصبية والبدنية ...
وإلى الشذوذ..
فالأمر إذن خطير. ولا بد من المبادرة باتخاذ الإجراءات المتدرجة في علاج علامات النشوز منذ أن تلوح من بعيد.. وفي سبيل صيانة المؤسسة من الفساد، أو من الدمار، أبيح للمسئول الأول عنها أن يزاول بعض أنواع التأديب المصلحة في حالات كثيرة.. لا للانتقام، ولا للإهانة، ولا للتعذيب.. ولكن للإصلاح ورأب الصدع في هذه المرحلة المبكرة من النشوز:
«وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ، فَعِظُوهُنَّ. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ. وَاضْرِبُوهُنَّ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» ..
واستحضار ما سبق لنا بيانه من تكريم الله للإنسان بشطريه. ومن حقوق للمرأة نابعة من صفتها الإنسانية..
ومن احتفاظ للمرأة المسلمة بشخصيتها المدنية بكامل حقوقها.. بالإضافة إلى أن قوامة الرجل عليها لا تفقدها حقها في اختيار شريك حياتها والتصرف في أمر نفسها والتصرف في أمر مالها ... إلى آخر هذه المقومات البارزة في المنهج الإسلامي..
استحضار هذا الذي سبق كله واستحضار ما قيل عن أهمية مؤسسة الأسرة كذلك.. يجعلنا نفهم بوضوح- حين لا تنحرف القلوب بالهوى والرءوس بالكبر! -لماذا شرعت هذه الإجراءات التأديبية أولاً. والصورة التي يجب أن تؤدى بها ثانياً..
إنها شرعت كإجراء وقائي- عند خوف النشوز- للمبادرة بإصلاح النفوس والأوضاع، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحنق، أو بالمذلة والرضوخ الكظيم! إنها.. أبداً.. ليست معركة بين الرجل والمرأة. يراد لها بهذه الإجراءات تحطيم رأس المرأة حين تهم بالنشوز وردها إلى السلسلة كالكلب المسجور! إن هذا قطعاً.. ليس هو الإسلام.. إنما هو تقاليد بيئية في بعض الأزمان. نشأت مع هوان «الإنسان» كله. لا هوان شطر منه بعينه.. فأما حين يكون هو الإسلام، فالأمر مختلف جداً في الشكل والصورة. وفي الهدف والغاية..
«وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ» ..
هذا هو الإجراء الأول.. الموعظة.. وهذا هو أول واجبات القيم ورب الأسرة. عمل تهذيبي. مطلوب منه في كل حالة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» .. ولكنه في هذه(2/653)
الحالة بالذات، يتجه اتجاهاً معيناً لهدف معين. هو علاج أعراض النشوز قبل أن تستفحل وتستعلن.
ولكن العظة قد لا تنفع. لأن هناك هوى غالباً، أو انفعالاً جامحاً، أو استعلاء بجمال. أو بمال. أو بمركز عائلي.. أو بأي قيمة من القيم. تنسي الزوجة أنها شريكة في مؤسسة، وليست نداً في صراع أو مجال افتخار! ..
هنا يجيء الإجراء الثاني.. حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تدل به المرأة من جمال وجاذبية أو قيم أخرى، ترفع بها ذاتها عن ذاته، أو عن مكان الشريك في مؤسسة عليها قوامة.
«وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ» ..
والمضجع موضع الإغراء والجاذبية، التي تبلغ فيها المرأة الناشز المتعالية قمة سلطانها. فإذا استطاع الرجل أن يقهر دوافعه تجاه هذا الإغراء، فقد أسقط من يد المرأة الناشز أمضى أسلحتها التي تعتز بها. وكانت- في الغالب- أميل إلى التراجع والملاينة، أمام هذا الصمود من رجلها، وأمام بروز خاصية قوة الإرادة والشخصية فيه، في أحرج مواضعها! .. على أن هناك أدباً معيناً في هذا الإجراء.. إجراء الهجر في المضاجع..
وهو ألا يكون هجراً ظاهراً في غير مكان خلوة الزوجين.. لا يكون هجراً أمام الأطفال، يورث نفوسهم شراً وفساداً.. ولا هجراً أمام الغرباء يذل الزوجة أو يستثير كرامتها، فتزداد نشوزًا. فالمقصود علاج النشوز لا إذلال الزوجة ولا إفساد الأطفال! .. وكلا الهدفين يبدو أنه مقصود من هذا الإجراء..
ولكن هذه الخطوة قد لا تفلح كذلك.. فهل تترك المؤسسة تتحطم؟ إن هناك إجراء- ولو أنه أعنف- ولكنه أهون وأصغر من تحطيم المؤسسة كلها بالنشوز:
«واضربوهن» ..
واستصحاب المعاني السابقة كلها واستصحاب الهدف من هذه الإجراءات كلها يمنع أن يكون هذا الضرب تعذيباً للانتقام والتشفي. ويمنع أن يكون إهانة للإذلال والتحقير. ويمنع أن يكون أيضاً للقسر والإرغام على معيشة لا ترضاها.. ويحدد أن يكون ضرب تأديب، مصحوب بعاطفة المؤدب المربي كما يزاوله الأب مع أبنائه وكما يزاوله المربي مع تلميذه..
ومعروف- بالضرورة- أن هذه الإجراءات كلها لا موضع لها في حالة الوفاق بين الشريكين في المؤسسة الخطيرة. وإنما هي لمواجهة خطر الفساد والتصدع. فهي لا تكون إلا وهناك انحراف ما هو الذي تعالجه هذه الإجراءات..
وحين لا تجدي الموعظة، ولا يجدي الهجر في المضاجع.. لا بد أن يكون هذا الانحراف من نوع آخر، ومن مستوى آخر، لا تجدي فيه الوسائل الأخرى.. وقد تجدي فيه هذه الوسيلة! وشواهد الواقع، والملاحظات النفسية، على بعض أنواع الانحراف، تقول: إن هذه الوسيلة تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وطصلاح سلوك صاحبه.. وإرضائه.. في الوقت ذاته! على أنه من غير أن يكون هناك هذا الانحراف المرضي، الذي يعينه علم النفس التحليلي بالاسم إذ نحن لا نأخذ تقريرات علم النفس مسلمات «علمية» ، فهو لم يصبح بعد «علماً» بالمعنى العلمي، كما يقول الدكتور «ألكسيس كاريل» ، فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب نفسها أن تجعله قيماً وترضى به زوجاً، إلا حين يقهرها عضلياً! وليست هذه طبيعة كل امرأة. ولكن هذا الصنف من النساء موجود. وهو الذي قد يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة.. ليستقيم. ويبقي على المؤسسة الخطيرة.. في سلم وطمأنينة!(2/654)
وعلى أية حال، فالذي يقرر هذه الإجراءات، هو الذي خلق. وهو أعلم بمن خلق. وكل جدال بعد قول العليم الخبير مهاترة وكل تمرد على اختيار الخالق وعدم تسليم به، مفض إلى الخروج من مجال الإيمان كله..
وهو- سبحانه- يقررها، في جو وفي ملابسات تحدد صفتها، وتحدد النية المصاحبة لها، وتحدد الغاية من ورائها. بحيث لا يحسب على منهج الله تلك المفهومات الخاطئة للناس في عهود الجاهلية حين يتحول الرجل جلاداً- باسم الدين! - وتتحول المرأة رقيقاً- باسم الدين! - أو حين يتحول الرجل امرأة وتتحول المرأة رجلاً أو يتحول كلاهما إلى صنف ثالث مائع بين الرجل والمرأة- باسم التطور في فهم الدين- فهذه كلها أوضاع لا يصعب تمييزها عن الإسلام الصحيح ومقتضياته في نفوس المؤمنين! وقد أبيحت هذه الإجراءات لمعالجة أعراض النشوز- قبل استفحالها- وأحيطت بالتحذيرات من سوء استعمالها، فور تقريرها وإباحتها. وتولى الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسنته العملية في بيته مع أهله، وبتوجيهاته الكلامية علاج الغلو هنا وهناك، وتصحيح المفهومات في أقوال كثيرة:
ورد في السنن والمسند: عن معاوية بن حيدة القشيري، أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟
قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت. ولا تضرب الوجه. ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت» ..
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- «لا تضربوا إماء الله» .. فجاء عمر- رضي الله عنه- إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فقال: ذئرت النساء على أزواجهن! فرخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نساء كثير يشتكين أزواجهن! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن..
ليس أولئك بخياركم» !! وقال- صلى الله عليه وسلم- «لا يضرب أحدكم امرأته كالعير يجلدها أول النهار. ثم يضاجعها آخره» «1» .
وقال: «خيركم خيركم لأهله. وأنا خيركم لأهلي» «2» ..
ومثل هذه النصوص والتوجيهات والملابسات التي أحاطت بها ترسم صورة لصراع الرواسب الجاهلية مع توجيهات المنهج الإسلامي، في المجتمع المسلم، في هذا المجال. وهي تشبه صورة الصراع بين هذه الرواسب وهذه التوجيهات في شتى مجالات الحياة الأخرى. قبل أن تستقر الأوضاع الإسلامية الجديدة، وتعمق جذورها الشعورية في أعماق الضمير المسلم في المجتمع الإسلامي..
وعلى أية حال فقد جعل لهذه الإجراءات حد تقف عنده- متى تحققت الغاية- عند مرحلة من مراحل هذه الإجراءات. فلا تتجاوز إلى ما وراءها:
«فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» ..
فعند تحقق الغاية تقف الوسيلة. مما يدل على أن الغاية- غاية الطاعة- هي المقصودة. وهي طاعة الاستجابة لا طاعة الإرغام. فهذه ليست طاعة تصلح لقيام مؤسسة الأسرة، قاعدة الجماعة.
__________
(1) عن أبي هريرة. ذكره صاحب مصابيح السنة في الصحاح.
(2) رواه الترمذي والطبراني.(2/655)
ويشير النص إلى أن المضي في هذه الإجراءات بعد تحقق الطاعة بغي وتحكم وتجاوز.
«فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» ..
ثم يعقب على هذا النهي بالتذكير بالعلي الكبير.. كي تتطامن القلوب، وتعنو الرؤوس، وتتبخر مشاعر البغي والاستعلاء، إن طافت ببعض النفوس: على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» ..
ذلك حين لا يستعلن النشوز، وإنما تتقى بوادره. فأما إذا كان قد استعلن، فلا تتخذ تلك الإجراءات التي سلفت. إذ لا قيمة لها إذن ولا ثمرة. وإنما هي إذن صراع وحرب بين خصمين ليحطم أحدهما رأس الآخر! وهذا ليس المقصود، ولا المطلوب.. وكذلك إذا رئي أن استخدام هذه الإجراءات قد لا يجدي، بل سيزيد الشقة بعداً، والنشوز استعلاناً ويمزق بقية الخيوط التي لا تزال مربوطة. أو إذا أدى استخدام تلك الوسائل بالفعل إلى غير نتيجة.. في هذه الحالات كلها يشير المنهج الإسلامي الحكيم بإجراء أخير لإنقاذ المؤسسة العظيمة من الانهيار. قبل أن ينفض يديه منها ويدعها تنهار:
«وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» ..
وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار- الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة- فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام بقدر خطورتها في بناء المجتمع، وفي إمداده باللبنات الجديدة، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده.
إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة- عند خوف الشقاق- فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلا.. يبعث حكم من أهلها ترتضيه، وحكم من أهله يرتضيه. يجتمعان في هدوء. بعيدين عن الانفعالات النفسية، والرواسب الشعورية، والملابسات المعيشية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين. طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، وتبدو- لقربها من نفسي الزوجين- كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما. حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين. مشفقين على الأطفال الصغار. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر- كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف- راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار ... وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين، لأنهما من أهلهما:
لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار. إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها! يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح. فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق:
«إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» ..
فهما يريدان الإصلاح، والله يستتجيب لهما ويوفق..
وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم، ومشيئة الله وقدره.. إن قدر الله هو الذي يحقق ما يقع في(2/656)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
حياة الناس. ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا وبقدر الله- بعد ذلك- يكون ما يكون.
ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» .
وهكذا نرى- في هذا الدرس- مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية.. ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية. ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية- في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى الله. الذي لا هدى سواه..
[سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 43]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
هناك أكثر من مناسبة واحدة، تربط بين مطلع هذا الدرس وبين محور السورة كلها، وموضوعاتها الأساسية من ناحية وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى.
فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم وتخليصه من رواسب الجاهلية، وتثبيت الملامح الإسلامية(2/657)
الجديدة والتحذير من أهل الكتاب- وهم اليهود بالمدينة- وما جبلوا عليه من شرونكر وما ينفثونه في المجتمع المسلم، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله- وبخاصة من الناحية الأخلاقية، وناحية التكافل والتعاون، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد..
ولأن الدرس الجديد جولة جديدة، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم- قاعدة التوحيد الخالص- التي تنبثق منها حياته وينبثق منها منهج هذه الحياة، في كل جانب، وفي كل اتجاه.
وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي، والتنظيم الاجتماعي. وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها.. فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية- في المجتمع المسلم- أوسع مدى من علاقات الأسرة ومتصلة بها كذلك. متصلة بها بالحديث عن الوالدين. ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين، لتشمل علاقات أخرى ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى ويتعلمها الإنسان- أول ما يتعلمها- في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق. ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها بعد ما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة.
ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة- العائلة- والأسرة الكبيرة- الإنسانية- وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل، للباذلين وللباخلين.. فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين- كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم- وهي قاعدة التوحيد.. وربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله. التي هي غاية كل نشاط إنساني، في ضمير المسلم وفي حياته..
وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده- في محيطها الشامل- جاءت الفقرة الثانية في الدرس تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر- ولم تكن قد حرمت بعد- باعتبار هذه الخطوة جزءاً من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد. وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد..
حلقات متماسكة بعضها مع بعض. ومع الدرس السابق. ومع محور السورة كذلك.
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً! وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» ..
هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن إشراك شيء به.. تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر، وهذا النهي، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي. فيدل هذا الربط(2/658)
بين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين. فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير ولا مجرد شعائر تقام وعبادات ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية.. إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله، ويربط بين جوانبه، ويشدها جميعاً إلى الأصل الأصيل. وهو توحيد الله.
والتلقي منه وحده- في هذا النشاط كله- دون سواه. توحيده إلهاً معبوداً. وتوحيده مصدراً للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضاً. لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك- في الإسلام- وفي دين الله الصحيح على الإطلاق.
ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة، والأسرة الإنسانية وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل، وكتمان فضل الله- من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين- والتحذير من اتباع الشيطان والتلويح بعذاب الآخرة، وما فيه من خزي وافتضاح.. لربط هذا كله بالتوحيد وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.
وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك.
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ. وَابْنِ السَّبِيلِ، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... » .
إن التشريعات والتوجيهات- في منهج الله- إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة.
إنها تنبثق من العقيدة في الله، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة.. ومن ثم يتصل بعضها ببعض ويتناسق بعضها مع بعض ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة.
من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية. تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية. والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض والتي تكليف ضمير الفرد وواقع المجتمع والتي تجعل المعاملات عبادات- بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله- والعبادات قاعدة للمعاملات- بما فيها من تطهير للضمير والسلوك- والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله.
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي المنهج الإسلامي، وفي دين الله الصحيح كله، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين، وغيرهم من طوائف الناس. بعبادة الله وتوحيده- كما أسلفنا- ثم في الجمع بين قرابة الوالدين، وقرابة هذه الطوائف من الناس، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده- كذلك- وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس- على النحو الذي بينا من قبل- ليصلها جميعاً بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعاً وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعاً..
«وَاعْبُدُوا اللَّهَ.. وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» ..
الأمر الأول بعبادة الله.. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد- معه- سواه. نهياً باتاً، شاملاً، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية: «وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. شيئاً كائناً ما كان، من مادة أو حيوان أو إنسان(2/659)
أو ملك أو شيطان.. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال..
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين- على التخصيص- ولذوي القربى- على التعميم- ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين- وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي.
إذ الأولاد- في الغالب- يتجهون بكينونتهم كلها، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام، غافلون عن التلفت إلى الوراء، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم، الذي لا يترك والداً ولا مولوداً، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض، ولو كانوا ذرية أو والدين! كذلك يلحظ في هذه الآية- وفي كثير غيرها- أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربى- قرابة خاصة أو عامة- ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة.
وهذا المنهج يتفق- أولاً- مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة، ووجدان المشاركة، يبدآن أولاً في البيت.
في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مسّ هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين- فطرة وطبعاً- ولا بأس من ذلك ولا ضير ما دامت توجه دائماً إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور.. ثم يتفق المنهج- ثانياً- مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية: من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة- إلا عند ما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة- فالو حدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل: في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقاً ببني الإنسان! وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربى. ومنهم إلى اليتامى والمساكين- ولو أنهم قد يكونون أبعد مكاناً من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية- ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي- مقدمين على الصاحب المرافق- لأن الجار قربه دائم، أما الصاحب فلقاؤه على فترات- ثم الصاحب المرافق- وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر، الرفيق في السفر- ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله.
ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات «ملك اليمين» ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين.
ويعقب على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر، والبخل والتبخيل، وكتمان نعمة الله وفضله، والرياء في الإنفاق والكشف عن سبب هذا كله، وهو عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، واتباع الشيطان وصحبته:
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً!» ...
وهكذا تتضح مرة أخرى تلك اللمسة الأساسية في المنهج الإسلامي. وهي ربط كل مظاهر السلوك، وكل دوافع الشعور، وكل علاقات المجتمع بالعقيدة. فإفراد الله- سبحانه- بالعبادة والتلقي، يتبعه الإحسان إلى البشر، ابتغاء وجه الله ورضاه، والتعلق بثوابه في الآخرة في أدب ورفق ومعرفة بأن العبد لا ينفق إلا من رزق الله. فهو لا يخلق رزقه، ولا ينال إلا من عطاء الله.. والكفر بالله وباليوم الآخر يصاحبه الاختيال والفخر،(2/660)
والبخل والأمر بالبخل، وكتمان فضل الله ونعمته بحيث لا تظهر آثارها في إحسان أو عطاء أو الإنفاق رياء وتظاهراً طلباً للمفخرة عند الناس إذ لا إيمان بجزاء آخر غير الفخر والخيلاء بين العباد! وهكذا تتحدد «الأخلاق» .. أخلاق الإيمان. وأخلاق الكفر.. فالباعث على العمل الطيب، والخلق الطيب، هو الإيمان بالله واليوم الآخر، والتطلع إلى رضاء الله.. وجزاء الآخرة. فهو باعث رفيع لا ينتظر صاحبه جزاء من الناس، ولا يتلقاه ابتداء من عرف الناس! فإذا لم يكن هناك إيمان باله يبتغي وجهه، وتتحدد بواعث العمل بالرغبة في رضاه. وإذا لم يكن هناك اعتقاد بيوم آخر يتم فيه الجزاء.. اتجه هم الناس إلى نيل القيم الأرضية المستمدة من عرف الناس. وهذه لا ضابط لها في جيل واحد في رقعة واحدة، فضلاً عن أن يكون لها ضابط ثابت في كل زمان وفي كل مكان! وكانت هذه هي بواعثهم للعمل. وكان هناك التأرجح المستمر كتأرجح أهواء الناس وقيمهم التي لا تثبت على حال! وكان معها تلك الصفات الذميمة من الفخر والخيلاء، والبخل والتبخيل، ومراءاة الناس لا التجرد والإخلاص! والتعبير القرآني يقول: إن الله «لا يحب» هؤلاء.. والله- سبحانه- لا ينفعل انفعال الكره والحب.
إنما المقصود ما يصاحب هذا الانفعال في مألوف البشر من الطرد والأذى وسوء الجزاء: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» .. والإهانة هي الجزاء المقابل للفخر والخيلاء. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلاله- إلى جوار المعنى المقصود- وهي ظلال مقصودة تثير في النفوس الكره لهذه الصفات، ولهذه التصرفات كما تثير الاحتقار والاشمئزاز. وبخاصة حين يضم إليها أن الشيطان هو قرينهم: «وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» ! وقد ورد أن هذه النصوص نزلت في جماعة من يهود المدينة.. وهي صفات تنطبق على اليهود، كما تنطبق على المنافقين.. وكلاهما كان موجوداً في المجتمع المسلم في ذلك الحين.. وقد تكون الإشارة إلى كتمانهم ما آتاهم الله من فضله، تعني كذلك كتمانهم للحقائق التي يعرفونها في كتبهم عن هذا الدين، وعن رسوله الأمين.. ولكن النص عام، والسياق بصدد الإحسان بالمال وبالمعاملة. فأولى أن نترك مفهومه عاماً. لأنه الأقرب إلى طبيعة السياق.
وحين ينتهي من عرض سوءات نفوسهم وسوءات سلوكهم ومن عرض أسبابها من الكفر بالله واليوم الآخر، وصحبة الشيطان واتباعه ومن الجزاء المعد المهيأ لأصحاب هذه السوءات، وهو العذاب المهين..
عندئذ يسأل في استنكار:
«وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ؟ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» ..
أجل! ماذا عليهم؟ ما الذي يخشونه من الإيمان بالله واليوم الآخر، والإنفاق من رزق الله. والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث. والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم.
ولا خوف من الظلم في جزائهم.. بل هناك الفضل والزيادة، بمضاعفة الحسنات، والزيادة من فضل الله بلا حساب؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب- على كل حال وعلى كل احتمال- وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية، فإن الإيمان- في هذه الصورة- يبدو هو الأضمن وهو الأربح! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقاً إنما هو رزق الله لهم. ومع ذلك(2/661)
يضاعف لهم الحسنة ويزيدهم من فضله. وهم من رزقه ينفقون ويعطون! فياله من كرم! ويا له من فيض! ويا لها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران! ثم يختم الأوامر والنواهي، والتحضيض والترغيب، بمشهد من مشاهد القيامة يجسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة.. على طريقة القرآن في مشاهد القيامة:
«فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً! يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» ..
إنه يمهد لمشهد القيامة، بأن الله لا يظلم مثقال ذرة.. وإذن فهو العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه قيد شعرة.. وأنه يضاعف الحسنات ويؤتي فضلاً عنها أجراً من لدنه عظيماً.. فهي الرحمة إذن لمن يستحقون الرحمة والفضل المطلق لمن كانوا يرجون الفضل، بالإيمان والعمل..
فأما هؤلاء. هؤلاء الذين لم يقدموا إيماناً، ولم يقدموا عملاً.. هؤلاء الذين لم يقدموا إلا الكفر وسوء العمل.. فكيف يكون حالهم يومذاك؟ كيف يكون الحال، إذا جئنا من كل أمة بشهيد- هو نبيها الذي يشهد عليها- وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟
وعندئذ يرتسم المشهد شاخصاً.. ساحة العرض الواسعة. وكل أمة حاضرة. وعلى كل أمة شهيد بأعمالها..
وهؤلاء الكافرون المختالون الفخورون الباخلون المبخلون، الكاتمون لفضل الله، المراءون الذين لم يبتغوا وجه الله.. هؤلاء هم نكاد نراهم من خلال التعبير! واقفين في الساحة وقد انتدب الرسول صلى الله عليه وسلم للشهادة! هؤلاء هم بكل ما أضمروا وأظهروا. بكل ما كفروا وما أنكروا. بكل ما اختالوا وما افتخروا.
بكل ما بخلوا وبخلوا. بكل ما راءوا وتظاهروا.. هؤلاء هم في حضرة الخالق الذي كفروا به، الرازق الذي كتموا فضله وبخلوا بالإنفاق مما أعطاهم. في اليوم الآخر الذي لم يؤمنوا به. في مواجهة الرسول الذي عصوه..
فكيف؟؟؟
إنها المهانة والخزي، والخجل والندامة.. مع الاعتراف حيث لا جدوى من الإنكار..
والسياق القرآني لا يصف هذا كله من الظاهر. إنما يرسم «صورة نفسية» تتضح بهذا كله وترتسم حواليها تلك الظلال كلها. ظلال الخزي والمهانة، والخجل والندامة:
«يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً» ! ومن خلال اللمسات المعبرة في الصورة الحية، نحس بكل تلك المعاني، وبكل تلك الانفعالات، وهي تتحرك في هذه النفوس.. نحس بها عميقة حية مؤثرة. كما لا نحس من خلال أي تعبير آخر.. وصفي أو تحليلي.. وتلك طريقة القرآن في مشاهد القيامة، وفي غيرها من مواضع التعبير بالتصوير «1» .
وقد بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة. وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ- وَلا جُنُباً- إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ- حَتَّى تَغْتَسِلُوا. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً،
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» وكتاب: «مشاهد القيامة في القرآن» . «دار الشروق» .(2/662)
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة- التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية- وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصيلة الشاملة وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضاً.. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته وللمجتمع الفارسي أيضاً. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضاً كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى! في السويد- وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة- كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لتراً. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة.. ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب «النبيذ والبيرة» فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف..!
أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة 1919 سمي قانون «الجفاف» ! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع «الري» بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933. وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة.
وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه. وقد أعدم فيها 300 نفس وسجن كذلك 335، 532 نفسا. وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه. وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه.. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون «1» .
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي.. ببضع آيات من القرآن.
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني.. بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء! ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي حيث نجد «الخمر» عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها.
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر، أن أصبحت كلمة التجارة، مرادفة لبيع الخمر.. يقول لبيد:
قد بت سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة:
إذ أسحب الريط والمروط إلى ... أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي، وتطبعه طابعا ظاهرا.
__________
(1) عن كتاب تنقيحات للسيد أبي الأعلى المودودي. نقلا عن كتاب: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للسيد الندوي.(2/663)
يقول امرؤ القيس:
وأصبحت ودعت الصبا غير أنني ... أراقب خلات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى: ترفقوا ... يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا ... يبادرن سربا آمنا أن يفزعا
... الخ ويقول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
ويقول الأعشى:
فقد أشرب الراح قد تعلمين ... يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال ... قد طال بالريف ما قد دجن
ويقول المنخل اليشكري:
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير «1»
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ...
ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث.. وفيهم عمر، وعلي، وحمزة، وعبد الرحمن بن عوف.. وأمثال هذا الطراز من الرجال..
تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية. وتكفي عن الوصف المطول المفصل:
يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه.. في رواية.. «كنت صاحب خمر في الجاهلية. فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب ... »
وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام. حتى إذا نزلت آية: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» .. قال: «اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر» .. واستمر..
حتى إذا نزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» ..
قال: اللهم بيّن لنا بياناً شافياً في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» .. قال: انتهينا انتهينا! وانتهى..
وفي سبب نزول هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» ترد روايتان يشترك
__________
(1) قصران للنعمان بن المنذر كانت تتحدث بهما العرب في الجاهلية.(2/664)
في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين. وسعد بن معاذ من الأنصار.
روى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود- بإسناده- عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: «نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار. فأكلنا وشربنا، حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير (عظم الفك) فغرز بها أنف سعد.
فكان سعد مغروز الأنف. وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» .. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي أبو جعفر. عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وخضرت الصلاة، فقدموا فلاناً قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون.
ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون! فأنزل الله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع..
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبداً؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة.
دون حرب. ودون تضحيات. ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هودنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين- حين سمعوا آية التحريم- فمجوها من أفواههم. ولم يبلعوها. كما سيجيء! في مكة- حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن- وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة:
جاء في سورة النحل: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» .. فوضع «السكر» وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، في مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق «الحسن» شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد للضمير المسلم الوليد! ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب- بمعنى أدق- فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليداً اجتماعياً، له جذور اقتصادية.. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة..
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولاً سلطان القرآن..
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية..
بدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية..
بدأ بآية البقرة رداً على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ.. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما..»(2/665)
وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي. وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق..
ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر- رضي الله عنه-: «اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر» ..
عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي! ثم حدثت أحداث- كالتي رويناها- ونزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» ..
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل..
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي «قطع عادة الشراب» أو «كسر الإدمان» .. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار.
وبينها فترات لا تكفي للشراب- الذي يرضي المدمنين- ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلاً على أن للشراب كذلك أوقاتاً ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحاً ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة..
ومع ذلك.. فقد قال عمر رضي الله عنه- وهو عمر!!! - «اللهم بين لنا بياناً شافياً في الخمر» ..
ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب- وفق ترتيب المنهج- للضربة الحاسمة. فنزلت الآيتان في المائدة: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟» ..
وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر..
ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم- حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم.
وهم شاربون..
لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه- دون أن يستخدم السلطان!!! ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟
لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله- سبحانه- فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة..
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء..
ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها(2/666)
المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة! وملأ فراغها- وهذا هو الأهم- بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء..
وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله.. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها وترفض خمارها وصداعها وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية! إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره وتمشى في حناياها وأوصالها وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور..
إن الخمر- كالميسر. كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه «الألعاب الرياضية» والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون «بالمودات» «والتقاليع» .. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية! إن هذه كلها ليست إلا تعبيراً عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولاً.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانياً.. وليست إلا إعلاناً عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية..
ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا.. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى «الجنون» المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي..
وإلى الشذوذ..
إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير! إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء.
أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاماً منمقاً جميلاً يبدو أنه يؤلف منهجاً، أو مذهباً، أو فلسفة.. الخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» ! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور! فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟
وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟
متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟
ونعود من هذا الاستطراد إلى الآية الكريمة:(2/667)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ- وَلا جُنُباً- إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ- حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... »
كما منعت الآية- الذين آمنوا- أن يقربوا الصلاة وهم سكارى- حتى يعلموا ما يقولون- كذلك منعتهم من الصلاة وهم جنب- إلا عابري سبيل- حتى يغتسلوا..
وتختلف الأقوال في المقصود من «عابِرِي سَبِيلٍ» كما تختلف في معنى قرب الصلاة المنهي عنه..
فقول: إن المقصود هو عدم قرب المساجد، أو المكث فيها، لمن كان جنباً، حتى يغتسل. إلا أن يكون عابراً بالمسجد مجرد عبور. وقد كان جماعة من الصحابة أبواب بيوتهم تفتح في مسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو طريقهم من وإلى هذه البيوت. فرخص لهم في المرور- وهم جنب- لا بالمكث في المسجد- ولا الصلاة بطبيعة الحال- إلا بعد الاغتسال.
وقول: إن المقصود هو الصلاة ذاتها. والنهي عن أدائها للجنب- إلا بعد الاغتسال- ما لم يكن مسافراً.
فيحل له عندئذ أن يقصد المسجد وأن يصلي- بلا اغتسال- ولكن بالتيمم. الذي يسد مسد الغسل- عندئذ- كما يسد مسد الوضوء..
والقول الأول يبدو أظهر وأوجه. لأن الحالة الثانية- حالة السفر- ذكرت في الآية نفسها بعد ذلك. فتفسير عابري سبيل- بالمسافرين، ينشىء تكراراً للحكم في الآية الواحدة، لا ضرورة له:
«وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- فَلَمْ تَجِدُوا ماء- فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
فهذا النص يشمل حالة المسافر- عند ما يصيبه حدث أكبر فيكون جنباً في حاجة إلى الغسل أو حدث أصغر، فيكون في حاجة إلى الوضوء، لأداء الصلاة.
والنص يسويه في هذه الحالة بمن كان مريضاً، فألم به حدث أكبر أو أصغر. أو بمن جاء من الغائط (والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه، فكنى عن الفعل بالمجيء من مكان الفعل) فأصابه حدث أصغر يقتضي الوضوء. أو بمن لامس النساء..
وفي «لا مستم النساء» .. أقوال كذلك:
قول: إنه كناية عن الجماع.. فهو يستوجب الغسل.
وقول: إنه يعني حقيقة اللمس.. لمس أي جزء من جسم الرجل لجسم المرأة.. وهو يستوجب الوضوء في بعض المذاهب، ولا يستوجبه في بعضها. بتفصيلات تطلب في كتب الفروع نذكر منها إجمالاً:
«أ» اللمس يوجب الوضوء إطلاقاً.
«ب» اللمس يوجب الوضوء إذا كان اللامس ممن تثور الشهوة في نفسه باللمس. وإذا كانت الملموسة ممن تثير الشهوة باللمس.
«ج» اللمس يوجب الوضوء إذا أحس اللامس نفسه- حسب تقديره في كل حالة- أن اللمسة أثارت في نفسه حركة.
«د» اللمس لا يوجب الوضوء إطلاقاً، ولا العناق ولا التقبيل للزوجة..(2/668)
ولكل قول سنده من أفعال أو من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.. على طريقة الاختلافات الفقهية في الفروع.
والذي نرجحه في معنى «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» أنه كناية عن الفعل الذي يستوجب الغسل. وبذلك نستغني هنا عن كل الخلافات في مسألة الوضوء..
وفي جميع هذه الحالات المذكورة، سواء كانت الحالة تستوجب الغسل أو تستوجب الوضوء للصلاة..
حين لا يوجد الماء- وكذلك حين يوجد ولكن استعماله يكون ضاراً أو غير مقدور عليه- يغني عن الغسل والوضوء: التيمم. وقد جاء اسمه من نص الآية.
«فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» ..
أي فاقصدوا صعيداً طيباً.. طاهراً.. والصعيد كل ما كان من جنس الأرض من تراب. أو حجر.
أو حائط. ولو كان التراب مما على ظهر الدابة. أو في الفراش من ذرات التراب المتطاير. متى كان هناك تراب يتطاير عند ضرب اليدين به.
وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الظاهر. ثم نفضهما. ثم مسح الوجه. ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحاً:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
وهو التعقيب الموحي بالتيسير. وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور. والمغفرة في التقصير..
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة:
نقف أمام «حكمة التيمم» . نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها..
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحياناً في تعليل هذه الأحكام بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصاً.. وأولى: أن نقول دائماً:
إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم. وأنه قد تكون دائماً هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري- في مكانه- أمام النصوص والأحكام الإلهية. بدون إفراط ولا تفريط..
أقول هذا، لأن بعضنا- ومنهم المخلصون- يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه «العلم الحديث» ! وهذا حسن- ولكن في حدود- هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة.
وكثيراً ما ذكر عن حكمة الوضوء- قبل الصلاة- أنها النظافة..
وقد يكون هذا المعنى مقصوداً في الوضوء. ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم.
وغير المأمون أيضاً:
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة. والناس(2/669)
يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي. فإذا كانت هذه هي «حكمة الوضوء» فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضاً!! وكثيراً ما ذكر عن «حكمة الصلاة» ... تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولاً في مواقيتها. وثانياً في حركاتها. وثالثاً في نظام الصفوف والإمامة ... الخ. وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصوداً.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو «حكمة الصلاة» يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون.
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية. فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فناً من الفنون! وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام. فعندنا الجندية- مجال النظام الأكبر. وفيها غناء! وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة. فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيداً عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي! وهكذا.. إذا رحنا «نحدد» حكمة كل عبادة. وحكمة كل حكم. ونعلله تعليلاً وفق «العقل البشري» أو وفق «العلم الحديث» ثم نجزم بأن هذا هو المقصود.. فإننا نبعد كثيراً عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه. كما نبعد كذلك عن الحد المأمون. ونفتح الباب دائماً للمماحكات. فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم. والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل! وهنا في موضوعنا الحاضر- موضوع التيمم- يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي «مجرد» النظافة.
وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه «الحكمة» ! فلا بد إذن من حكمة «أخرى» للوضوء أو الغسل. تكون متحققة كذلك في «التيمم» ..
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها- ربما- كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم- في هذا الجانب- مكان الغسل أو مكان الوضوء..
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئاً من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير..
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات.
وتذليل هذه المعوّقات. والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معاً، عند تعذر وجود الماء أو عند التضرر بالماء (أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة) وكذلك عند السفر (حتى مع وجود الماء في أقوال) ..
إن هذا كله يدل- بالاضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال- على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب (ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدى الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم. وتؤدى بحركات من جفني العين عند ما يشق تحريك الجسم والأطراف!) إنها هذه الصلة بين العبد والرب. الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها. لأنه- سبحانه- يعلم ضرورتها لهذا العبد. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولا يناله من عبادة العباد شيء. إلا صلاحهم هم. وإلا(2/670)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم.
والإشراق في كيانهم والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم..
والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير.
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير:
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» .. فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين.
فلا يقول: أو جئتم من الغائط. بل يقول: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية. ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون! وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى- والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيراً عنه- وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عند ما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب. ليشير إلى أن الطاهر طيب. وأن النجس خبيث..
وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس..
وسبحان خالق النفوس. العليم بهذه النفوس!
[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 57]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)(2/671)
ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها- واليهود من أهل الكتاب خاصة- تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي البقرة وآل عمران من قبل.. وهي هي.. والمعسكرات المعادية هي هي كذلك! المعسكرات التي تحدثنا عنها في تقديم سورة البقرة «1» ، وفي تقديم سورة آل عمران «2» ، وفي تقديم هذه السورة كذلك «3» .
ابتداء من هذا الدرس تبدأ المعركة الخارجية. معركة الجماعة المسلمة مع المعسكرات المعادية من حولها..
ولكن هذا في الحقيقة ليس بدء المعركة. فكل ما سبق في السورة من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية والأخلاقية ومحو الملامح الجاهلية- في المجتمع المسلم الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية- وتخطيط وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة في هذا المجتمع.. كل ذلك لم يكن بعيداً عن المعركة الخارجية مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة خاصة وفي الجزيرة عامة.. إنما كان التمهيد الحقيقي لها، والاستعداد الحقيقي لمواجهتها.. كانت تلك معركة البناء. بناء هذا المجتمع الجديد، على أسس المنهج الإسلامي الجديد كي يستطيع أن يواجه المجتمعات المعادية من حوله، ويتفوق عليها.
وكما رأينا في سورتي البقرة وآل عمران العناية تتجه أولاً إلى بناء هذا المجتمع من داخله. بناء عقيدته وتصوراته، وأخلاقه ومشاعره، وتشريعاته وأوضاعه، إلى جانب تعليم الجماعة المسلمة كل شيء عن طبيعة أعدائها، ووسائلهم، وتحذيرها من كيدهم ومكرهم، وتوجيهها إلى المعركة معهم بقلوب مطمئنة، وعيون مفتوحة، وإرادات محشودة، ومعرفة بطبيعة المعركة وطبيعة الأعداء.. كذلك نجد الأمر هنا في هذه السورة، سواء بسواء.
لقد كان القرآن فيها جميعاً، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة.. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشىء فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصوراً للوجود جديدا، ويقيم فيها
__________
(1) الجزء الأول ص 27- 35.
(2) الجزء الثالث ص 349- 356.
(3) الجزء الرابع: ص 554- 571. [.....](2/672)
موازين جديدة، وينشىء فيها قيماً جديدة ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع وينشىء ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين.. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء..
ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله- بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي- بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقاً عسكرياً أو اقتصادياً أو مادياً على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقاً عسكرياً واقتصادياً- مادياً- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائماً أكثر عدداً، وأقوى عدة، وأغنى مالاً، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك.. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي- ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولاً في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانياً في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر.. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيراً. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث..
ذلك أنه لم يكن اكتساحاً عسكرياً فحسب. ولكنه كان اكتساحاً عقيدياً. ثقافياً. حضارياً كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي- من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها.. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديماً أو حديثاً! لقد كان تفوقاً «إنسانياً» كاملاً. تفوقاً في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلاداً آخر للإنسان.
ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته وترك عليها طابعه الخاص وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذوراً في الفطرة البشرية وأوسع مجالاً في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.
وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية» . فاللغة العربية كانت قائمة ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض- قبل الاسلام- ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعاً! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير(2/673)
عن ذاتها- لا بلغاتها الأصلية- ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجاً تبدو فيه الأصالة ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة- غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلاً لهذه العبقريات.. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولاً ومن ملاصقة الفطرة ثانياً بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضاً! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشاه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة- لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش- جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة.
وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال..
منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة.. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله..
وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها وكشف للمنافقين المندسين فيها وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها- أي لقواعد قانون المعاملات الدولية- وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجاً لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي! .. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة.. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير- في هذا الجزء- خاصاً بالنفاق والمنافقين يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار! وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة- في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغداً في أساسها وحقيقتها.
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا، وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ- غَيْرَ مُسْمَعٍ- وَراعِنا. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَطَعْناً فِي الدِّينِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
إنه التعجيب الأول- من سلسلة التعجيبات الكثيرة- من موقف أهل الكتاب- من اليهود- يوجه الخطاب فيه إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر:(2/674)
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.. يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» ..
لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيباً من الكتاب.. الهداية.. فقد آتاهم الله التوراة، على يدي موسى عليه السلام، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى.. ولكنهم يدعون هذا النصيب. يدعون الهداية. ويشترون الضلالة! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة.
فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد. لا عن جهل أو خطأ أو سهو! وهو أمر عجيب مستنكر، يستحق التعجيب منه والاستنكار.
ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر. بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين. يريدون أن يضلوا المسلمين.. بشتى الوسائل وشتى الطرق. التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك.. فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون! وفي هذه اللمسة: الأولى، والثانية، تنبيه للمسلمين وتحذير من ألاعيب اليهود وتدبيرهم.. ويا له من تدبير! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى. وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام. فكرهوها وأحبوا الإسلام! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير.. وكان القرآن يخاطبهم هكذا، عن علم من الله، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير.
ومن ثم يعقب على إبراز هذه المحاولة من اليهود، بالتصريح بأن هؤلاء أعداء للمسلمين. وبتطمين الجماعة المسلمة إلى ولاية الله ونصره، إزاء تلك المحاولة:
«وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ. وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا. وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» ..
وهكذا يصرح العداء ويستعلن، بين الجماعة المسلمة واليهود في المدينة.. وتتحدد الخطوط..
وقد كان التعجيب من أهل الكتاب عامة- وكان المفهوم أن المعنيين هم يهود المدينة- ولكن السياق لا يكتفي بهذا المفهوم. بل يمضي فيعين اليهود. ثم يصف حالهم وتصرفاتهم وسوء أدبهم مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في هذه الفترة التي يبدو أنها كانت في أوائل سنوات الهجرة، قبل أن تخضد شوكتهم في المدينة:
«مِنَ الَّذِينَ هادُوا، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا. وَاسْمَعْ- غَيْرَ مُسْمَعٍ- وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.» ..
لقد بلغ من التوائهم، وسوء أدبهم مع الله عز وجل: أن يحرفوا الكلام عن المقصود به. والأرجح أن ذلك يعني تأويلهم لعبارات التوراة بغير المقصود منها. وذلك كي ينفوا ما فيها من دلائل على الرسالة الأخيرة ومن أحكام كذلك وتشريعات يصدقها الكتاب الأخير وتدل وحدتها في الكتابين على المصدر الواحد وتبعاً لهذا على صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم. وتحريف الكلم عن المقصود به، ليوافق الأهواء، ظاهرة ملحوظة في كل رجال دين ينحرفون عن دينهم، ويتخذونه حرفة وصناعة، يوافقون بها أهواء ذوي السلطان في كل زمان وأهواء الجماهير التي تريد التفلت من الدين.. واليهود أبرع من يصنع ذلك. وإن كان في زماننا هذا من محتر في دين المسلمين من ينافسون- في هذه الخصلة- اليهود! ثم بلغ من التوائهم وسوء أدبهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا له: سمعنا يا محمد ما تقول.
ولكننا عصينا! فلا نؤمن ولا نتبع ولا نطيع! - مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في وقت مبكر، حيث(2/675)
كانت لليهود هذه الجرأة على مواجهة النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم يضيفون إلى التبجح سوء الأدب والخلق والالتواء أيضا. إذ يقولون للرسول- صلى الله عليه وسلم-:
«وَاسْمَعْ- غَيْرَ مُسْمَعٍ- وَراعِنا» ..
ففي ظاهر اللفظ أنهم يقولون: اسمع- غير مأمور بالسمع (وهي صيغة تأدب) - وراعنا: أى: انظر إلينا نظرة رعاية لحالنا أو نظرة اهتمام لوضعنا. بما أنهم أهل كتاب، فلا ينبغي أن يدعوا إلى إلاسلام كالمشركين! أما في الليّ الذي يلوونه، فهم يقصدون: اسمع- لا سمعت، ولا كنت سامعاً! - (أخزاهم الله) . وراعنا يميلونها إلى وصف «الرعونة» ! وهكذا.. تبجح وسوء أدب، والتواء ومداهنة، وتحريف للكلم عن مواضعه وعن معانيه..
إنها يهود!!! وبعد أن يحكي القرآن هذا عنهم يقرر المنهج اللائق بأهل الكتاب والأدب الجدير بمن أوتوا نصيباً منه.
ويطمعهم- بعد ذلك كله- في الهداية والجزاء الحسن والفضل والخير من الله. لو ثابوا إلى الطريق القويم.
وذلك مع بيان حقيقة طبيعتهم. وأنها هكذا كانت وهكذا تكون:
«وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
فهم لا يواجهون الحق بهذه الصراحة وهذه النصاعة وهذه الاستقامة. ولو أنهم واجهوه هكذا بالألفاظ الصريحة التي لا التواء فيها:
«سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا» .
لكان هذا خيراً لهم، وأقوم لطبيعتهم وأنفسهم وحالهم. ولكن واقع الأمر أنهم- بسبب كفرهم- مطرودون من هداية الله. فلا يؤمن منهم إلا القليل.
وصدق قول الله.. فلم يدخل في الإسلام- في تاريخه الطويل- إلا القليل من اليهود. ممن قسم الله لهم الخير، وأراد لهم الهدى باجتهادهم للخير وسعيهم للهدى. أما كتلة اليهود، فقد ظلت طوال أربعة عشر قرناً، حرباً على الإسلام والمسلمين. منذ أن جاورهم الإسلام في المدينة إلى اللحظة الحاضرة. وكيدهم للإسلام كان هو الكيد الواصب الذي لا ينقطع، العنيد الذي لا يكف، المنوع الأشكال والألوان والفنون، منذ ذلك الحين! وما من كيد كاده أحد للإسلام في تاريخه كله- بما في ذلك كيد الصليبية العالمية والاستعمار بشتى أشكاله- إلا كان من ورائه اليهود. أو كان لليهود فيه نصيب! بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب- اليهود- دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم وتهديداً لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم. ودمغاً لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخالص، الذي عليه دينهم، والله لا يغفر أن يشرك به.. وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا، مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ.. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ(2/676)
لِمَنْ يَشاءُ- وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً»
.. إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، آمِنُوا بِما نَزَّلْنا، مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» ..
فهم أوتوا الكتاب، فليس غريباً عليهم هذا الهدى. والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقاً لما معهم. فليس غريباً عليهم كذلك. وهو مصدق لما معهم..
ولو كان الإيمان بالبينة. أو بالأسباب الظاهرة. لآمنت يهود أول من آمن. ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح. وكانت لها أحقاد وعناد. وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة.. كما تعبر عنهم التوراة بأنهم:
«شعب صلب الرقبة!» . ومن ثم لم تؤمن. ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي:
«مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ..
وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها وردها على أدبارها، دفعها لأن تمشي القهقرى.. وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت (وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت، وهو محرم عليهم في شريعتهم) هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير.. كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب. والكفر بعد الإيمان، والهدى بعد الضلال، طمس للوجوه والبصائر، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد.
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك.. فهو التهديد الرعيب العنيف الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة! وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد: كعب الأحبار فأسلم:
أخرج ابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا ابن نفيل. حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن جليس، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني، قال: كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب. وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فبعثه إليه ينظر: أهو هو؟ قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة. فإذا تال يقرأ القرآن يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ... » فبادرت الماء فاغتسلت، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس! ثم أسلمت «1» .
والتعقيب على هذا التهديد:
«وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ..
فيه توكيد للتهديد، يناسب كذلك طبيعة اليهود! ثم يجيء تعقيب يتضمن تهديداً آخر في الآخرة. تهديداً بعدم المغفرة لجريمة الشرك. مع فتح أبواب الرحمة الإلهية كلها لما دون ذلك من الذنوب:
__________
(1) المشهور أن كعبا أسلم في أيام عمر بن الخطاب. وهناك رواية أخرى أخرجها ابن جرير عن إسلامه في أيام عمر لعلها الأوثق..
وهي تبني إسلامه كذلك على سماعه لهذه الآية.(2/677)
«إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ- لِمَنْ يَشاءُ- وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» ..
وسياق الآية هكذا يتضمن اتهام اليهود بالشرك ودعوتهم إلى الإيمان الخالص والتوحيد. ولا يذكر هنا القول أو الفعل الذي يعده عليهم شركاً.. وقد ورد في مواضع أخرى تفصيل لهذا: فقد روى القرآن عنهم قولهم: «عزير ابن الله» كقول النصارى «المسيح ابن الله» . وهو شرك لا شك فيه! كذلك روى عن هؤلاء وهؤلاء أنهم «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وهم لم يكونوا يعبدون الأحبار والرهبان. إنما كانوا- فقط- يقرون لهم بحق التشريع. حق التحليل والتحريم. الحق الخاص بالله، والذي هو من خصائص الألوهية. ومن ثم اعتبرهم القرآن مشركين.. ولهذا الاعتبار قيمة خاصة في التصور الإسلامي الصحيح لحد الإسلام وشرط الإيمان- كما سيجيء في سياق السورة بالتفصيل.
وعلى أية حال فاليهود على عهد الرسالة المحمدية كانت عقائدهم في الجزيرة حافلة بالوثنيات، منحرفة عن التوحيد. والتهديد هنا موجه إليهم بأن الله يغفر ما دون الشرك- لمن يشاء- ولكنه لا يتسامح في إثم الشرك العظيم. ولا مغفرة عنده لمن لقيه مشركاً به لم يرجع في الدنيا عن شركه.
إن الشرك انقطاع ما بين الله والعباد. فلا يبقى لهم معه أمل في مغفرة. إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون. مقطوعو الصلة بالله رب العالمين. وما تشرك النفس بالله، وتبقى على هذا الشرك حتى تخرج من الدنيا- وأمامها دلائل التوحيد في صفحة الكون وفي هداية الرسل- ما تفعل النفس هذا وفيها عنصر من عناصر الخير والصلاحية. إنما تفعله وقد فسدت فساداً لا رجعة فيه! وتلفت فطرتها التي برأها الله عليها، وارتدت أسفل سافلين، وتهيأت بذاتها لحياة الجحيم! أما ما وراء هذا الإثم المبين الواضح الظاهر، والظلم العظيم الوقح الجاهر.. أما ما وراء ذلك من الذنوب- والكبائر- فإن الله يغفره- لمن يشاء- فهو داخل في حدود المغفرة- بتوبة أو من غير توبة كما تقول بعض الروايات المأثورة الواردة- ما دام العبد يشعر بالله ويرجو مغفرته ويستيقن أنه قادر على أن يغفر له وأن عفوه لا يقصر عن ذنبه.. وهذا منتهى الأمد في تصوير الرحمة التي لا تنفد ولا تحد والمغفرة التي لا يوصد لها باب ولا يقف عليها بوّاب! أخرج البخاري ومسلم- كلاهما- عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال: فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال: «من هذا؟» فقلت: أبوذر- جعلني الله فداك- قال: «يا أبا ذر تعال!» قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرا، فجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً» . قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: «اجلس هاهنا» . فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي: «اجلس هاهنا حتى أرجع إليك» : قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عني، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول: «وإن زنى وإن سرق» قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله- جعلني الله فداك- من تكلمه في جانب الحرة،؟ فإني سمعت أحداً يرجع إليك. قال: «ذلك جبريل، عرض لي جانب الحرة، فقال: «بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» . قلت أيا جبريل. وإن سرق وإن زنى؟» . قال: «نعم» . «قلت: وإن سرق وإن زنى؟» قال: نعم. وإن شرب الخمر» ..(2/678)
وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده- عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئاً، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها.. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ..
وأخرج ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عمر قال. «كنا- أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» فأمسك أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الشهادة! وروى الطبراني- بإسناده- عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئاً» .
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته- سبحانه- ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.
ثم يمضي القرآن- وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة- يعجب من أمر هؤلاء الخلق الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار ويثنون على أنفسهم ويزكونها بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله- كما سبق- وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت- كما سيجيء- كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ؟ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ! وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» ..
ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلاً لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله وعتوا في الأرض عتواً كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عملياً- بهذا التحريم والتحليل- وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم. وبذلك اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله. وأكلوا الربا..
ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابه الذي أنزله عليهم.. وعل الرغم من ذلك كله- وغيره كثير- فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هوداً! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.. فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخاً كاملاً من دين الله الذي هو منهجه للحياة فينبذونه من حياتهم ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا(2/679)
في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة! والله يعجب رسوله- صلى الله عليه وسلم- من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم. وأمر «المسلمين» المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب!! إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله. إنما الله هو الذي يزكي من يشاء. فهو أعلم بالقلوب والأعمال. ولن يظلم الناس شيئا، إذا هم تركوا هذا التقدير الله- سبحانه- واتجهوا إلى العمل. لا إلى الادعاء. فلئن عملوا- وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء- فلن يغبنوا عند الله ولن ينسى لهم عمل ولن يبخس لهم حق.
والله- سبحانه- يشهد على اليهود أنهم- إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم- يفترون عليه الكذب. ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها:
«انْظُرْ. كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً!» .
وما أرى أننا- الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طرداً.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله- سبحانه- منه رسوله- صلى الله عليه وسلم- ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله! إن دين الله منهج حياة. وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة. والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته..
فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة. والحال هي الحال. وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!!! ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: «الجبت والطاغوت» وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم- بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم- حملة عنيفة ويرذلهم ترذيلاً شديداً ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم- الذي يفخرون بالانتساب إليه- وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم. «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» .
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا! أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» ..
لقد كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه(2/680)
من لم يأتهم من الله هدى وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت- وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند- ولكن اليهود- الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله- كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان- بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية- وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيباً من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب! ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضاً:
«وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» ..
قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة- أو عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس.
قال: «كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس. فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير.. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله- عز وجل-: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» ... إلى قوله عز وجل: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» .. وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة.
لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» .
وكان عجيباً أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلاً من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائماً من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عوناً لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم. إنما يجدون العون والنصرة- دائماً- عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق ولأهل الباطل ضد أهل الحق! هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعياً منهم ومنطقياً أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً! وهم يقولونها اليوم وغداً. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها- بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته- لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحياناً- لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث- قد لا يثنون ثناء مكشوفاً على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف-(2/681)
في هذا الزمان- أصبح متهماً، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان..
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحياناً، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تماماً عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة! ولكنهم لا يكفون أبداً عن تشويه الإسلام وأهله.. لأن حقدهم على الإسلام، وعلى كل شبح من بعيد لأي بعث إسلامي، أضخم من أن يداروه.. ولو للخداع والتمويه! إنها جبلة واحدة، وخطة واحدة، وغاية واحدة.. هي التي من أجلها يجبههم الله باللعنة والطرد، وفقدان النصير. والذي يفقد نصرة الله فما له من ناصر وما له من معين ولو كان أهل الأرض كلهم له ناصر وكلهم له معين:
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» ..
ولقد يهولنا اليوم أن نجد دول الغرب كلها نصيراً لليهود. فنسأل: وأين وعد الله بأنه لعنهم، وأن من يلعن الله فلن تجد له نصيراً؟
ولكن الناصر الحقيقي ليس هو الناس. ليس هو الدول. ولو كانت تملك القنابل الأيدروجينية والصواريخ.
إنما الناصر الحق هو الله. القاهر فوق عباده: ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الأيدروجينية والصواريخ! والله ناصر من ينصره.. «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» والله معين من يؤمن به حق الإيمان، ويتبع منهجه حق الاتباع ويتحاكم إلى منهجه في رضى وفي تسليم..
ولقد كان الله- سبحانه- يخاطب بهذا الكلام أمة مؤمنة به، متبعة لمنهجه، محتكمة إلى شريعته. وكان يهوّن من شأن عدوها- اليهود- وناصريهم. وكان يعد المسلمين النصر عليهم لأنهم- اليهود- لا نصير لهم.
وقد حقق الله لهم وعده. وعده الذى لا يناله إلا المؤمنون حقاً. والذي لا يتحقق إلا على أيدي العصبة المؤمنة حين تقوم.
فلا يهولننا ما نلقاه من نصرة الملحدين والمشركين والصليبيين لليهود. فهم في كل زمان ينصرونهم على الإسلام والمسلمين.. فليست هذه هي النصرة.. ولكن كذلك لا يخدعننا هذا. فإنما يتحقق هذا الأمر للمسلمين! يوم يكونون مسلمين! وليحاول المسلمون أن يجربوا- مرة واحدة- أن يكونوا مسلمين. ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصير.
أو أن ينفعهم هذا النصير! وبعد التعجيب من أمرهم وموقفهم وقولهم وإعلان اللعنة عليهم والخذلان.. يأخذ في استنكار موقفهم من الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين وغيظهم من أن يمن الله عليهم هذه المنة.. منة الدين والنصر والتمكين.
وحسدهم لهم على ما أعطاهم الله من فضله. وهم لم يعطوهم من عندهم شيئاً! ويكشف في الوقت ذاته عن كزازة طبيعتهم واستكثار أي عطاء يناله غيرهم مع أن الله قد أفاض عليهم وعلى آبائهم، فلم يعلمهم هذا الفيض السماحة ولم يمنعهم من الحسد والكنود:(2/682)
«أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً! أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ؟ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» ..
يا عجباً! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده.. فهل هم شركاؤه- سبحانه! - هل لهم نصيب في ملكه، الذي يمنح منه ويفيض؟ لو كان لهم نصيب لضنوا- بكزازتهم وشحهم- أن يعطوا الناس نقيراً.. والنقير النقرة تكون في ظهر النواة- وهذه لا تسمح كزازة يهود وأثرتها البغيضة أن تعطيها للناس، لو كان لها في الملك نصيب! والحمد لله أن ليس لها في الملك نصيب.. وإلا لهلك الناس جميعاً وهم لا يعطون حتى النقير!!! أم لعله الحسد.. حسد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، على ما آتاهم الله من فضله.. من هذا الدين الذي أنشأهم نشأة أخرى ووهب لهم ميلاداً جديداً، وجعل لهم وجوداً إنسانيا متميزاً ووهبهم النور والثقة والطمأنينة واليقين كما وهبهم النظافة والطهر، مع العز والتمكين؟
وإنه فعلاً للحسد من يهود. مع تفويت أطماعها في السيادة الأدبية والاقتصادية على العرب الجاهلين المتفرقين المتخاصمين.. يوم أن لم يكن لهم دين..
ولكن لماذا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله من النبوة والتمكين في الأرض؟ وهم غارقون في فضل الله من عهد إبراهيم.. الذي آتاه الله وآله الكتاب والحكمة- وهي النبوة- وآتاهم الملك كذلك والسيادة.
وهم لم يرعوا الفضل ولم يحتفظوا بالنعمة، ولم يصونوا العهد القديم، بل كان منهم فريق من غير المؤمنين.
ومن يؤت هذا الفضل كله لا يليق أن يكون منهم جاحدون كافرون! «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» .
إنه لمن أَلأم الحسد: أن يحسد ذو النعمة الموهوب! لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة! أما أن يحسد الواجد المغمور بالنعمة، فهذا هو الشر الأصيل العميق! شر يهود! المتميز الفريد! ومن ثم يكون التهديد بالسعير، هو الجزاء المقابل لهذا الشر النكير:
«وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» ..
وعند ما يبلغ السياق هذا المقطع من ذكر الإيمان والصدود عن الإيمان في آل إبراهيم، يعقب بالقاعدة الشاملة للجزاء. جزاء المكذبين، وجزاء المؤمنين.. هؤلاء وهؤلاء أجمعين.. في كل دين وفي كل حين ويعرض هذا الجزاء في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة الرعيبة:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» ..
... «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» ...
إنه مشهد لا يكاد ينتهي. مشهد شاخص متكرر. يشخص له الخيال، ولا ينصرف عنه! إنه الهول. وللهول جاذبية آسرة قاهرة! والسياق يرسم ذلك المشهد ويكرره بلفظ واحد.. «كلما» .. ويرسمه كذلك عنيفاً مفزعاً بشطر جملة.. «كلما نضجت جلودهم» .. ويرسمه عجيباً خارقاً للمألوف بتكملة الجملة.. «بَدَّلْناهُمْ(2/683)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
جُلُوداً غَيْرَها»
.. ويجمل الهول الرهيب المفزع العنيف كله في جملة شرطية واحدة لا تزيد! ذلك جزاء الكفر- وقد تهيأت أسباب الإيمان- وهو مقصود. وهو جزاء وفاق:
«لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» ..
ذلك، أن الله قادر على الجزاء. حكيم في توقيعه:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً» ..
وفي مقابل هذا السعير المتأجج. وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت. ليعود الاحتراق من جديد. ويعود الألم من جديد. في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في جنات ندية:
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» :
ونجد في المشهد ثباتاً وخلوداً مطمئناً أكيداً:
«خالِدِينَ فِيها أَبَداً» ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجاً مطهرة:
«لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ» ..
ونجد روح الظلال الندية يرف على مشهد النعيم:
«وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا» ..
تقابل كامل في الجزاء. وفي المشاهد. وفي الصور. وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في «مشاهد القيامة» ذات الإيحاء القوي النافذ العميق «1» .
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 70]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
__________
(1) يراجع كتاب «مشاهد القيامة في القرآن» . «دار الشروق» .(2/684)
هذا الدرس يتناول موضوعاً خطيراً.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحدّه متمثلاً في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره..
إن القرآن- وهو ينشىء هذه الأمة وينشئها- وهو يخرجها إلى الوجود إخراجاً. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ..
إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة من حيث لم تكن وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» .. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث: حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معاً.. فقد كانت- على التحقيق- إنشاء وتنشئة، كانت ميلاداً جديداً للأمة بل ميلاداًَ جديداً «للإنسان» في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت- على وجه التحديد- «نشأة» ! و «ميلاداً» للأمة العربية وللإنسان كله! وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي- والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية- وهو ديوان العرب، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود، والكون والإنسان والخلق والسلوك كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم ولباب ثقافتهم وحضارتهم وكينونتهم كلها بالاختصار..
حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان في ظل القرآن وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان ومن قيم في الحياة الإنسانية ومن نظام للمجتمع ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور..
ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده.. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم(2/685)
في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني..
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت «إخراجاً» من صنع الله كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة وأغرب إخراج.. فهي المرة الأولى والأخيرة- فيما نعلم- التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! و «تخرج» فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله..
ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن «يخرجها» الله بكلماته وقبل أن ينشئها الله بقرآنه؟
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود «الإنساني» ؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟
لقد «نشأت» هذه الأمة نشأتها بهذا الدين ونُشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها.. لا بشيء آخر.. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟
فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض وكان لها دورها في التاريخ وكان لها «وجود إنساني» ابتداء، وحضارة عالمية ثانياً.. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم.. ومن ثم جعل لهم وجوداً وذكراً وتاريخاً وحضارة- يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد.. بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة! نقول.. إن القرآن حين كان «ينشىء» هذه الأمة و «ينشئها» .. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة- التي التقطها من سفح الجاهلية- ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها.. وينظم مجتمعها- أو يقيمه ابتداء- على أساس الميلاد الجديد..
وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها- ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها- والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان! حين كان القرآن يصنع ذلك كله.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام ويربط بهذا التصور- في هذه النقطة بالذات- نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى الله..
نظامها الرباني..
وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائماً ومنبثقاً من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها والطريقة التي تتلقى بها والمنهج الذي(2/686)
تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام..
وعندئذ يلتقي «النظام الأساسي» لهذه الأمة بالعقيدة التي تؤمن بها.. في وحدة لا تتجزأ ولا تفترق عناصرها..
وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقاً كاملاً.. وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل «مسلم» فيها! إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع- بإذن الله- لا لمجرد الإبلاغ والإقناع:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
ويقول لها: إن الناس لا يؤمنون- ابتداء- إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله ممثلا- في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم- في أحكام الرسول. وباقياً بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة ولا يكفي أن يتحاكموا إليه- ليحسبوا مؤمنين- بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين:
«فَلا وَرَبِّكَ.. لا يُؤْمِنُونَ.. حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت- أي إلى غير شريعة الله- لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» .
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» .
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله- عز وجل- في هذا القرآن- وأن تطيع رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- في سنته- وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ..
ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله وسنة رسوله:
«فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمناً على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة.. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه.. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً:
«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..(2/687)
ولا ننسَ ما سبق بيانه عند قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» ..
من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أرباباً من دون الله- لا لأنهم عبدوهم- ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع- ابتداء من عند أنفسهم- فجعلوا بذلك مشركين.. الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه. حتى الكبائر.. «وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر» .. فرد الأمر كله إلى إفراد الله- سبحانه- بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلماً ويبقى المؤمن مؤمناً. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره.. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبداً.. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..»
هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض.
من إقرار مبادئ العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» ..
وقد ألممنا به إجمالاً. فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلاً..
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» ..
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها. والحكم بين «الناس» .
بالعدل. على منهج الله وتعليمه.
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها «الإنسان» .. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» .. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات «1» .
ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى:
ومن هذه الأمانات: أمانة الشهادة لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا:
ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون.. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته- بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية- فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان. وهي إحدى الأمانات..
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» فصل: «حقيقة الإنسان» . «دار الشروق» .(2/688)
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجاً للجماعة المؤمنة ومنهجاً للبشرية جميعاً.. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة.. ومن ثم ف «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات..
ومن هذه الأمانات- الداخلة في ثنايا ما سبق- أمانة التعامل مع الناس ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها ... وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال.. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى ويجملها النص هذا الإجمال..
فأما الحكم بالعدل بين «الناس» فالنص يطلقه هكذا عدلاً شاملاً «بين الناس» جميعاً. لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلاً مع أهل الكتاب، دون سائر الناس.. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه «إنساناً» . فهذه الصفة- صفة الناس- هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعاً: مؤمنين وكفاراً. أصدقاء وأعداء. سوداً وبيضاً. عرباً وعجماً. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل- متى حكمت في أمرهم- هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط- في هذه الصورة- إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية.. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة فلم تذق له طعماً قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعاً.
لأنهم «ناس» ! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه «الناس» ! وذلك هو أساس الحكم في الإسلام كما أن الأمانة- بكل مدلولاتها- هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي.
والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل هو التذكير بأنه من وعظ الله- سبحانه- وتوجيهه. ونعم ما يعظ الله به ويوجه:
«إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» ..
ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه. فالأصل في تركيب الجملة: إنه نعم ما يعظكم الله به.. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله «اسم إن» ويجعل نعم ما «نعما» ومتعلقاتها، في مكان «خبر إن» بعد حذف الخبر.. ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله- سبحانه- وهذا الذي يعظهم به..
ثم إنها لم تكن «عظة» إنما كانت «أمراً» .. ولكن التعبير يسميه عظة. لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياء! ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه:
«إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» ..
والتناسق بين المأمور به من التكاليف وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وبين كون الله سبحانه «سميعاً بصيراً» مناسبة واضحة ولطيفة معاً.. فالله يسمع ويبصر، قضايا العدل وقضايا الأمانة. والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء(2/689)
الملابسات والظواهر. وأخيراً فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور.
وبعد فالأمانة والعدل.. ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما؟ في كل مجال في الحياة، وفي كل نشاط للحياة؟
أنترك مدلول الأمانة والعدل ووسائل تطبيقهما وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم- أو أهواؤهم؟
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان.. هذا حق.. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات، متأثراً بشتى المؤثرات.. ليس هناك ما يسمى «العقل البشري» كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك، وعقل فلان وعلان، وعقول هذه المجموعة من البشر، في مكان ما وفي زمان ما.. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى تميل بها من هنا، وتميل بها من هناك..
ولا بد من ميزان ثابت، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان.. الميزان الثابت، الذي لا يميل مع الهوى، ولا يتأثر بشتى المؤثرات..
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين.. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها. فتختل جميع القيم.. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم.
والله يضع هذا الميزان للبشر، للأمانة والعدل، ولسائر القيم، وسائر الأحكام، وسائر أوجه النشاط، في كل حقل من حقول الحياة:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وَأُولِي الْأَمْرِ.. مِنْكُمْ.. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ..
وفي هذا النص القصير يبين الله- سبحانه- شرط الإيمان وحد الإسلام. في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة وقاعدة الحكم، ومصدر السلطان.. وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا، من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام.. ليكون هنالك الميزان الثابت، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام! إن «الحاكمية» لله وحده في حياة البشر- ما جل منها وما دق، وما كبر منها وما صغر- والله قد سن شريعة أودعها قرآنه. وأرسل بها رسولاً يبينها للناس. ولا ينطق عن الهوى. فسنته- صلى الله عليه وسلم- من ثم شريعة من شريعة الله.
والله واجب الطاعة. ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة. فشزيعته واجبة التنفيذ. وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله- ابتداء- وأن يطيعوا الرسول- بما له من هذه الصفة. صفة الرسالة من الله- فطاعته إذن من طاعة الله، الذي أرسله بهذه الشريعة، وببيانها للناس في سنته.. وسنته وقضاؤه- على هذا- جزء من الشريعة واجب النفاذ.. والإيمان يتعلق- وجوداً وعدماً- بهذه الطاعة وهذا التنفيذ- بنص القرآن:(2/690)
«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
فأما أولو الأمر فالنص يعين من هم.
«وَأُولِي الْأَمْرِ.. مِنْكُمْ..»
أي من المؤمنين.. الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية.. من طاعة الله وطاعة الرسول وإفراد الله- سبحانه- بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء والتلقي منه وحده- فيما نص عليه- والرجوع إليه أيضاً فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء، مما لم يرد فيه نص لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه.
والنص يجعل طاعة الله أصلاً وطاعة رسوله أصلاً كذلك- بما أنه مرسل منه- ويجعل طاعة أولي الأمر..
منكم.. تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله. فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله- بعد أن قرر أنهم «منكم» بقيد الإيمان وشرطه..
وطاعة أولي الأمر.. منكم.. بعد هذه التقريرات كلها، في حدود المعروف المشروع من الله، والذي لم يرد نص بحرمته ولا يكون من المحرم عند ما يرد إلى مبادئ شريعته، عند الاختلاف فيه.. والسنة تقرر حدود هذه الطاعة، على وجه الجزم واليقين:
في الصحيحين من حديث الأعمش: «إنما الطاعة في المعروف» .
وفيهما من حديث يحيى القطان: «السمع والطاعة على المرء المسلم. فيما أحب أو كره. ما لم يؤمر بمعصية.
فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .
وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: «ولو استعمل عليكم عبد. يقودكم بكتاب الله. اسمعوا له وأطيعوا» ..
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أميناً على شريعة الله وسنة رسوله. أميناً على إيمانه هو ودينه. أميناً على نفسه وعقله.
أميناً على مصيره في الدنيا والآخرة.. ولا يجعله بهيمة في القطيع تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة. والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون! ذلك فيما ورد فيه نص صريح. فأما الذي لم يرد فيه نص. وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات- ولا يكون فيه نص قاطع، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق.. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام- فإنه لم يترك كذلك تيهاً. ولم يترك بلا ميزان.
ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع.. ووضع هذا النص القصير، منهج الاجتهاد كله، وحدده بحدوده وأقام «الأصل» الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضاً.
«فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمناً. فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو، فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته.. وهذه ليست عائمة، ولا فوضى، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول. وهناك- في هذا الدين- مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية، وتضع لها سياجاً خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط(2/691)
بميزان هذا الدين «1» .
«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول.. ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول.. هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر. كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر..
فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود.. ولا يوجد الإيمان، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد.
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي، يقدمها مرة أخرى في صورة «العظة» والترغيب والتحبيب على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب:
«ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ..
ذلك خير لكم وأحسن مآلاً. خير في الدنيا وخير في الآخرة. وأحسن مآلاً في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة كذلك.. فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة- وهو أمر هائل، عظيم- ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة.
إن هذا المنهج معناه: أن يستمتع «الإنسان» بمزايا منهج يضعه له الله.. الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير.. منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان. وشهوة الإنسان.. منهج لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل من البشر على جيل.. لأن الله رب الجميع، ولا تخالجه- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- شهوة المحاباة لفرد، أو طبقة، أو شعب، أو جنس، أو جيل.
ومنهج من مزاياه، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان.. الذي يعلم حقيقة فطرته، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها ووسائل خطابها وإصلاحها، فلا يخبط- سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً- في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق. ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون. فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري. وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول.
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون، الذي يعيش فيه الإنسان. فهو يضمن للإنسان منهجاً تتلاءم قواعده مع نواميس الكون فلا يروح يعارك هذه النواميس. بل يروح يتعرف إليها، ويصادقها، وينتفع بها.. والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه.
ومنهج من مزاياه أنه- في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه- يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج.. مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة. ثم الاجتهاد في رد مالم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين.. ذلك إلى المجال الأصيل، الذي يحكمه العقل البشري، ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون والإبداع المادي فيه «2» ..
«ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» .. وصدق الله العظيم.
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «الثبات» في كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» . «دار الشروق» .
(2) يراجع كتاب: «هذا الدين» فصل «منهج متفرد» . «دار الشروق» .(2/692)
وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية، في شرط الإيمان وحد الإسلام، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة، وفي منهج تشريعها وأصوله.. يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة ثم يزعمون- بعد ذلك- أنهم مؤمنون! وهم ينقضون شرط الإيمان وحد الإسلام. إذ يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله.. «إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» ..
يلتفت إليهم ليعجب من أمرهم ويستنكر.. وليحذرهم- وأمثالهم- من إرادة الشيطان بهم الضلال. ويصف حالهم حين يدعون إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فيصدون. ويعتبر هذا الصدود نفاقاً. كما اعتبر إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت خروجاً من الإيمان- بل وعدم دخول فيه ابتداء- كما يصف معاذيرهم الواهية الكاذبة في اتباع هذه الخطة المستنكرة، حين تجر عليهم الوبال والنكال.. ومع هذا كله فهو يوجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى النصح لهم وموعظتهم.. ويختم المقطع كله ببيان ما أراده الله- سبحانه- من إرسال الرسل..
وهو أن يطاعوا.. ثم بنص صريح جازم في شرط الإيمان وحد الإسلام مرة أخرى..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ جاؤُكَ، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً. أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ- إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- جاؤُكَ، فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ..
إن هذا التصوير لهذه المجموعة التي تصفها النصوص، يوحي بأن هذا كان في أوائل العهد بالهجرة. يوم كان للنفاق صولة وكان لليهود- الذين يتبادلون التعاون مع المنافقين- قوة..
وهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله- إلى الطاغوت- قد يكونون جماعة من المنافقين- كما صرح بوصفهم في الآية الثانية من هذه المجموعة- وقد يكونون جماعة من اليهود الذين كانوا يُدعَوْن- حين تجدّ لهم أقضية مع بعضهم البعض أو أهل المدينة- إلى التحاكم إلى كتاب الله فيها.. التوراة أحياناً، وإلى حكم الرسول أحيانا- كما وقع في بعض الأقضية- فيرفضون ويتحاكمون إلى العرف الجاهلي الذي كان سائداً..
ولكننا نرجح الفرض الأول لقوله فيهم: «يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» .. واليهود لم يكونوا يسلمون أو يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول. إنما كان المنافقون هم الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله (كما هو مقتضى العقيدة الإسلامية من الإيمان بالرسل كلهم) .
وهذا لم يكن يقع إلا في السنوات الأولى للهجرة. قبل أن تخضد شوكة اليهود في بني قريظة وفي خيبر. وقبل أن يتضاءل شأن المنافقين بانتهاء شأن اليهود في المدينة! على أية حال نحن نجد في هذه المجموعة من الآيات، تحديداً كاملاً دقيقاً حاسماً لشرط الإيمان وحد الإسلام، ونجد شهادة من الله بعدم إيمان الذين «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» كما نجد قسماً من الله سبحانه- بذاته العلية- أنهم لا يدخلون في الإيمان ولا يحسبون مؤمنين حتى يحكموا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في أقضيتهم. ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه. طاعة الرضى، وتنفيذ الارتياح القلبي الذي هو التسليم، لا عجزاً واضطراراً. ولكن طمأنينة وارتضاء..(2/693)
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ- وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» ..
ألم تر إلى هذا العجب العاجب.. قوم.. يزعمون.. الإيمان. ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟! قوم «يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر، وإلى منهج آخر، وإلى حكم آخر.. يريدون أن يتحاكموا إلى.. الطاغوت.. الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ولا ضابط له ولا ميزان، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.. ومن ثم فهو.. طاغوت.. طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية. وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضاً! وهم لا يفعلون هذا عن جهل، ولا عن ظن.. إنما هم يعلمون يقيناً ويعرفون تماماً، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» .. فليس في الأمر جهالة ولا ظن. بل هو العمد والقصد.
ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم. زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب..
«وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً» ..
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت. وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم. لعلهم يتنبهون فيرجعوا. ويكشفه للجماعة المسلمة، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك.
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله.. ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» .
يا سبحان الله! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري.. وإلا ما كان نفاقاً ...
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به، وإلى من آمن به. فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه. ثم دعي إلى هذا الذي آمن به، ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية. فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية. ويكشف عن النفاق. وينبىء عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان! وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله- سبحانه- أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله. ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله. بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدوداً! ثم يعرض مظهراً من مظاهر النفاق في سلوكهم حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت. ومعاذيرهم عند ذلك. وهي معاذير النفاق:
«فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ- بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ- ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ: إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» ..
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة- يومذاك- حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم. فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناساً يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله أو يصدون حين يدعون إلى(2/694)
التحاكم إليها.. إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان. وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء! أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت في قضية من قضاياهم.
أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم. لعلهم يتفكرون ويهتدون..
وأياما كان سبب المصيبة فالنص القرآني، يسأل مستنكراً: فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم-:
«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» ...
إنها حال مخزية.. حين يعودون شاعرين بما فعلوا ... غير قادرين على مواجهة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بحقيقة دوافعهم. وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين: أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت- وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية- إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته: أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة.. إنها حجة الذين يزعمون الإيمان- وهم غير مؤمنين- وحجة المنافقين الملتوين.. هي هي دائماً وفي كل حين! والله- سبحانه- يكشف عنهم هذا الرداء المستعار. ويخبر رسوله- صلى الله عليه وسلم-، أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم. ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء:
«أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» ..
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم ويحتجون بهذه الحجج، ويعتذرون بهذه المعاذير. والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور.. ولكن السياسة التي كانت متبعة- في ذلك الوقت- مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم، وأخذهم بالرفق، واطراد الموعظة والتعليم..
والتعبير العجيب:
«وَقُلْ لَهُمْ.. فِي أَنْفُسِهِمْ.. قَوْلًا بَلِيغاً» .
تعبير مصور.. كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس، ويستقر مباشرة في القلوب.
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله.. بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت ومن الصدود عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول.. فالتوبة بابها مفتوح، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد واستغفارهم الله من الذنب، واستغفار الرسول لهم، فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية: وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا- بإذنه- لا يخالف عن أمرهم. ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين! «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ، فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..
وهذه حقيقة لها وزنها.. إن الرسول ليس مجرد «واعظ» يلقي كلمته ويمضي. لتذهب في الهواء- بلا سلطان- كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول «الدين» .(2/695)
إن الدين منهج حياة. منهج حياة واقعية. بتشكيلاتها وتنظيماتها، وأوضاعها، وقيمها، وأخلاقها وآدابها.
وعباداتها وشعائرها كذلك.
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان. سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ..
والله أرسل رسله ليطاعوا- بإذنه وفي حدود شرعه- في تحقيق منهج الدين. منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة. وما من رسول إلا أرسله الله، ليطاع، بإذن الله. فتكون طاعته طاعة لله.. ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني، والشعائر التعبدية.. فهذا وهم في فهم الدين لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل. وهي إقامة منهج معين للحياة، في واقع الحياة.. وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظاً. لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي. يستهتر بها المستهترون، ويبتذلها المبتذلون!!! ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان.. كان دعوة وبلاغاً. ونظاما وحكما. وخلاقة بعد ذلك عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقوم بقوة الشريعة والنظام، على تنفيذ الشريعة والنظام. لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول. وليست هنالك صورة أخرى يقال لها: الإسلام. أو يقال لها: الدين. إلا أن تكون طاعة للرسول، محققة في وضع وفي تنظيم. ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف ويبقى أصلها الثابت. وحقيقتها التي لا توجد بغيرها.. استسلام لمنهج الله، وتحقيق لمنهج رسول الله. وتحاكم إلى شريعة الله. وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله، وإفراد لله- سبحانه- بالألوهية (شهادة أن لا إله إلا الله) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقاً لله، لا يشاركه فيه سواه. وعدم احتكام إلى الطاغوت.
في كثير ولا قليل. والرجوع إلى الله والرسول، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة، والأحوال الطارئه حين تختلف فيه العقول..
وأمام الذين «ظلموا أنفسهم» بميلهم عن هذا المنهج، الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم- ورغبهم فيها..
«وَلَوْ أَنَّهُمْ- إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- جاؤُكَ، فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ، لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» ..
والله تواب في كل وقت على من يتوب. والله رحيم في كل وقت على من يؤوب. وهو- سبحانه- يصف نفسه بصفته. ويعد العائدين إليه، المستغفرين من الذنب، قبول التوبة وإفاضة الرحمة.. والذين يتناولهم هذا النص ابتداء، كان لديهم فرصة استغفار الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد انقضت فرصتها. وبقي باب الله مفتوحاً لا يغلق. ووعده قائماً لا ينقض. فمن أراد فليقدم. ومن عزم فليتقدم..
وأخيراً يجيء ذلك الإيقاع الحاسم الجازم. إذ يقسم الله- سبحانه- بذاته العلية، أنه لا يؤمن مؤمن، حتى يحكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أمره كله. ثم يمضي راضياً بحكمه، مسلماً بقضائه. ليس في صدره حرج منه، ولا في نفسه تلجلج في قبوله:
«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ..
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام. يقرره الله سبحانه بنفسه. ويقسم عليه بذاته. فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام، ولا تأويل لمؤول.
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام.. وهي أن هذا القول مرهون بزمان، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً. فهذه حقيقة كلية(2/696)
من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد مطلقة من كل قيد.. وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو تحكيم شخصه. إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه. وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم- وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر- رضي الله عنه- وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين: بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير. وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله، في حكم الزكاة وعدم قبول حكم رسول الله فيها، بعد الوفاة! وإذا كان يكفي لإثبات «الإسلام» أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فانه لا يكفي في «الإيمان» هذا، ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان، في اطمئنان! هذا هو الإسلام.. وهذا هو الإيمان.. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان! وبعد أن يقرر أن لا إيمان قبل تحكيم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقبل الرضى والتسليم بقضائه، يعود ليقول: إن هذا المنهج الذي يدعون إليه وهذه الشريعة التي يقال لهم: تحاكموا إليها- لا لسواها- وهذا القضاء الذي يتحتم عليهم قبوله والرضاء به ... إنه منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم.. إنه لا يكلفهم شيئاً فوق طاقتهم ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم ولا يكلفهم التضحية بعزيز عليهم.. فالله يعلم ضعف الإنسان ويرحم هذا الضعف. والله يعلم أنهم لو كلفوا تكاليف شاقة، ما أداها إلا قليل منهم.. وهو لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.. ومن ثم لم يكتب عليهم ما يشق، وما يدعو الكثيرين منهم للتقصير والمعصية. ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة ولأعانهم الله بالهدى، كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والعمل والإرادة، في حدود الطاقة:
«وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ- إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ- وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» ..
إن هذا المنهج ميسر لينهض به كل ذي فطرة سوية. إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر. وهذا الدين لم يجىء لهذه القلة القليلة. إنه جاء للناس جميعاً. والناس معادن، وألوان، وطبقات. من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف. وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى عنها.
وقتل النفس، والخروج من الديار.. مثلان للتكاليف الشاقة، التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم. وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس وأن ينكل عنها عامة الناس.
بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع، وأن يشمل موكب الإيمان كل النفوس السوية العادية وأن ينتظم المجتمع المسلم طبقات النفوس، وطبقات الهمم، وطبقات الاستعدادات وأن ينميها جميعاً ويرقيها، في أثناء سير الموكب الحافل الشامل العريض! قال ابن جريج: حدثنا المثنى إسحاق أبو الأزهر، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت:
«وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» ... الآية: قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا..
فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال(2/697)
الرواسي» .
وروى ابن أبي حاتم- بإسناده- عن مصعب بن ثابت. عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير. قال:
لما نزلت «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» .
وفي رواية له- بإسناده- عن شريح بن عبيد: قال: لما تلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الآية:
«وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ... » الآية، أشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده إلى عبد الله ابن رواحة، فقال: «لو أن الله كتب هذا، لكان هذا من أولئك القليل» :
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف رجاله معرفة وثيقة عميقة دقيقة ويعرف من خصائص كل منهم مالا يعرفه كل منهم عن نفسه! وفي السيرة من هذا الكثير من الشواهد على خبرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بكل واحد من رجاله وخبرته كذلك بالرجال والقبائل التي كانت تحاربه.. خبرة القائد البصير بكل ما حوله ومن حوله.. في دقة عجيبة.. لم تدرس بعد الدراسة الواجبة.
وليس هذا موضوعنا. ولكن موضوعنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يعرف أن في أمته من ينهض بالتكاليف الشاقة لو كتبت عليهم. ولكنه كان يعرف كذلك أن الدين لم يجىء لهذه القلة الممتازة في البشرية كلها. وكان الله- سبحانه- يعلم طبيعة هذا «الإنسان» الذي خلقه وحدود طاقته فلم يكتب على الناس في الدين الذي جاء للبشر أجمعين، إلا ما هو ميسر للجميع حين تصح العزيمة، وتعتدل الفطرة، وينوي العبد الطاعة، ولا يستهتر ولا يستهين.
وتقرير هذه الحقيقة ذو أهمية خاصة في مواجهة الدعوات الهدامة التي تدعو الإنسان إلى الانحلال والحيوانية، والتلبط في الوحل كالدود! بحجة أن هذا هو «واقع» الإنسان، وطبيعته وفطرته وحدود طاقته! وأن الدين دعوة «مثالية» لم تجىء لتحقق في واقع الأرض وإذا نهض بتكاليفها فرد، فإن مائة لا يطيقون! هذه دعوى كاذبة أولاً وخادعة ثانياً وجاهلة ثالثاً.. لأنها لا تفهم «الإنسان» ولا تعلم منه ما يعلمه خالقه، الذي فرض عليه تكاليف الدين وهو يعلم- سبحانه- أنها داخلة في مقدور الإنسان العادي. لأن الدين لم يجىء للقلائل الممتازين! وإن هي إلا العزيمة- عزيمة الفرد العادي- وإخلاص النية. والبدء في الطريق. وعندئذ يكون ما يعد الله به العاملين:
«وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» ..
فمجرد البدء، يتبعه العون من الله. ويتبعه التثبيت على المضي في الطريق. ويتبعه الأجر العظيم. وتتبعه الهداية إلى الطريق المستقيم.. وصدق الله العظيم.. فما يخدع الله- سبحانه وتعالى- عباده ولا يعدهم وعداً لا يفي لهم به ولا يحدثهم إلا حديث الصدق.. «ومن أصدق من الله حديثاً» ؟
في الوقت ذاته ليس اليسر- في هذا المنهج- هو الترخص. ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين وجعلها منهج الحياة. فهذا الدين عزائم ورخص. والعزائم هي الأصل والرخص للملابسات الطارئة.. وبعض المخلصين حسني النية، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين، يعمدون إلى «الرخص» فيجمعونها ويقدمونها(2/698)
للناس، على أنها هي هذا الدين. ويقولون لهم: انظروا كم هو ميسر هذا الدين! وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الجماهير، يبحثون عن «منافذ» لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص ويجعلون هذه المنافذ هي الدين! وهذا الدين ليس هذا وليس ذاك. إنما هو بجملته. برخصه وعزائمه. ميسر للناس يقدر عليه الفرد العادي، حين يعزم. ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي- في حدود بشريته- كما يبلغ تمام كماله الذاتي في الحديقة الواحدة:
العنب والخوخ والكمثرى والتوت والتين والقثاء.. ولا تكون كلها ذات طعم واحد.. ولا يقال عن أحدها:
إنه غير ناضج- حين يبلغ نضجه الذاتي- إذا كان طعمه أقل مرتبة من النوع الآخر! في حديقة هذا الدين ينبت البقل والقثاء وينبت الزيتون والرمان، وينبت التفاح والبرقوق، وينبت العنب والتين ... وينضج كله مختلفة طعومه ورتبه.. ولكنه كله ينضج. ويبلغ كماله المقدر له..
إنها زرعة الله.. في حقل الله.. برعاية الله.. وتيسير الله «1» ..
وفي نهاية هذه الجولة، ونهاية هذا الدرس، يعود السياق إلى الترغيب واستجاشة القلوب والتلويح للأرواح بالمتاع الحبيب.. متاع الصحبة في الآخرة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً! ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً» ..
إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب، فيه ذرة من خير وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة، في جوار الله الكريم.. وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي.. إنما هي من فضل الله. فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها.. إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم.
ويحسن هنا أن نعيش لحظات مع صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم يتشوقون إلى صحبته في الآخرة وفيهم من يبلغ به الوجد ألا يمسك نفسه عند تصور فراقه.. وهو- صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم. فتنزل هذه الآية: فتندي هذا الوجد وتبل هذه اللهفة.. الوجد النبيل. واللهفة الشفيفة:
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب السقمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير. قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو محزون. فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: «يا فلان. ما لي أراك محزوناً؟» فقال: يا نبي الله. شيء فكرت فيه. فقال:
«ما هو؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح. ننظر إلى وجهك، ونجالسك. وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك.. فلم يرد عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- شيئاً. فأتاه جبريل بهذه الآية: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ» .. الآية، فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- فبشره.
وقد رواه أبوبكر بن مردويه مرفوعا- بإسناده- عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله. إنك أحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من أهلي، وأحب إليّ من ولدي. وإني لأكون في البيت، فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك. وإذا ذكرت موتي
__________
(1) يراجع فصل: «منهج ميسر» في كتاب: «هذا الدين» . «دار الشروق»
.(2/699)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى نزلت: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» ..
وفي صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي، أنه قال: كنت أبيت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته. فقال لي: «سل» . فقلت يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أو غير ذلك» . قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود» .
وفي صحيح البخاري من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: «المرء مع من أحب» .. قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث..
لقد كان الأمر يشغل قلوبهم وأرواحهم.. أمر الصحبة في الآخرة.. وقد ذاقوا طعم الصحبة في الدنيا! وإنه لأمر يشغل كل قلب ذاق محبة هذا الرسول الكريم.. وفي الحديث الأخير أمل وطمأنينة ونور ...
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 86]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)(2/700)
نرجح أن تكون مجموعة هذه الآيات الواردة في هذا الدرس، نزلت في وقت مبكر.. ربما كان ذلك بعد غزوة أحد، وقبل الخندق. فصورة الصف المسلم التي تبدو من خلال هذه الآيات توحي بهذا. توحي بوجود جماعات منوعة في داخل الصف، لم تنضج بعد أو لم تؤمن إنما هي تنافق! وتوحي بأن الصف كان في حاجة إلى جهود ضخمة من التربية والتوجيه، ومن الاستنهاض والتشجيع، لينهض بالمهمة الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة المسلمة والارتفاع إلى مستوى هذه المهمة. سواء في التصورات الاعتقادية أو في خوض المعركة مع المعسكرات المعادية.
وهذا الذي نقرره لا يطعن في الحقيقة الأخرى. حقيقة أنه كان في هذا الصف من النماذج المسلمة من استوى على القمة السامقة وصعد المرتقى إلى هذه القمة.. ووصل.. ولكننا إنما نتحدث عن «الصف المسلم» ككل. وكبناء مختلط ولكنه غير متجانس وهو في هذه الحالة يحتاج إلى الجهد الجاهد لتسويته وتنسيقه مما هو ظاهر في هذه التوجيهات القرآنية الكثيرة.
والتدقيق في الملامح التي تبدو من خلال هذه التوجيهات، يجعلنا نعيش مع الجماعة المسلمة، في صورتها البشرية التي كثيراً ما ننساها! ونرى فيها مواضع الضعف ومواضع القوة. ونرى كيف كان القرآن يخوض(2/701)
المعركة مع الضعف البشري ومع رواسب الجاهلية ومع المعسكرات المعادية في وقت واحد. ونرى منهج القرآن في التربية- وهو يعمل في النفوس الحية في عالم الواقع- ونرى طرفاً من الجهد الموصول الذي بذله هذا المنهج، حتى انتهى بهذه المجموعة- المختلفة الدرجات، المختلفة السمات، الملتقطة ابتداء من سفح الجاهلية- إلى ذلك التناسق والتكامل والارتفاع، الذي نشهده في أواخر أيام الرسول- صلى الله عليه وسلّم- بقدر ما تسمح به الفطرة البشرية كذلك! وهذا يفيدنا.. يفيدنا كثيراً..
يفيدنا في إدراك طبيعة النفس البشرية، وما تحمله من استعدادات الضعف واستعدادات القوة. متمثلة في خير الجماعات.. الجماعة التي رباها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالمنهج القرآني..
ويفيدنا في إدراك طبيعة المنهج القرآني في التربية وكيف كان يأخذ هذه النفوس وكيف كان يتلطف لها وكيف كان ينسق الصف، الذي يحتوي على نماذج شتى من مستويات شتى. حيث نراه وهو يعمل في عالم الواقع.. على الطبيعة..!
ويفيدنا في أن نقيس حالنا وحال المجموعات البشرية على واقع النفس البشرية، ممثلة في تلك الجماعة المختارة.. كي لا نيأس من أنفسنا حين نطلع على مواضع الضعف، فنترك العلاج والمحاولة! وكي لا تبقى الجماعة الأولى- على كل فضلها- مجرد حلم طائر في خيالنا، لا مطمع لنا في محاولة السير على خطاها. من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة! وكل هذه ذخيرة، حين نخرج بها- من الحياة في ظلال القرآن- نكون قد جنينا خيراً كثيراً إن شاء الله..
إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
«أ» من يبطىء نفسه عن الجهاد في سبيل الله، ومن يبطىء غيره. ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم، على حين أصابت المسلمين مصيبة! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة! «ب» وكان فيه من المهاجرين أنفسهم- وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة، مكفوفون عن القتال- من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل، ولم يكتب عليهم القتال الآن! «ج» ومن كان يرجع الحسنة- حين تصيبه- إلى الله ويرجع السيئة- حين تصيبه- إلى النبي- صلى الله عليه وسلّم- لا لشدة إيمانه بالله طبعاً ولكن لتجريح القيادة والتطير بها! «د» ومن كان يقول: طاعة، في حضرة الرسول- صلى الله عليه وسلّم- فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول! «هـ» ومن كان يتناول الشائعات، فيذيع بها في الصف محدثاً بها ما يحدثه من البلبلة، قبل أن يتثبت منها، من القيادة التي يتبعها! «و» ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه. ويظن أن بعضها من عند النبي- صلى الله عليه وسلّم- لا مما أوحي له به! «ز» ومن كان يدافع عن بعض المنافقين- كما سيأتي في مطلع الدرس التالي- حتى لتنقسم الجماعة المسلمة(2/702)
في أمرهم فئتين.. مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي (من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون) ..
وقد يكون هؤلاء جميعاً مجموعة واحدة من المنافقين أو مجموعتين: المنافقين. وضعاف الإيمان، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية- ولو كان بعضهم من المهاجرين.. ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم- وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود، وفي مكة من المشركين، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين.. من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف تحتاج إلى تربية طويلة، وإلى جهاد طويل! ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد، ومن هذه التربية. وعلاجاً لكل خبيئة في النفس أو في الصف. في دقة، وفي عمق، وفي صبر كذلك، يتمثل في صبر النبي- صلى الله عليه وسلّم- قائد هذا الصف، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
«أ» نرى الأمر بالحذر، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى، للسرايا أو المهام الجهادية. بل يخرجون «ثُباتٍ» أي سرايا أو فصائل.. أو يخرجون جميعاً في جيش متكامل. لأن الأرض حولهم ملغمة! والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامناً بينهم من المنافقين، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين! «ب» ونرى تصويراً منفراً للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة وحب المنفعة القريبة والتلون من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع.
«ج» ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله، بالأجر العظيم، وإحدى الحسنيين: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..
«د» ونرى تصوير القرآن لشرف القصد، وارتفاع الهدف، ونبل الغاية، في القتال الذي يدفعهم إليه..
«فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» ..
«هـ» كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها: «الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» ..
«و» ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف.
وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية.. مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: «قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» .. ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه مهما يتخذ المرء من الاحتياط، ومهما ينكل عن الجهاد: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» ..
ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟ ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» ..
«ز» ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله- سبحانه- ورسوله- صلى الله عليه وسلّم- وأن طاعته من(2/703)
طاعته. ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه، الدالة على وحدة مصدره:
«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» .. «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» .
«ح» ثم نراه- بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء- يوجههم إلى الطريق الأسلم، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» ..
«ط» ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول، المنوع الأساليب.. حين نسمع الله- سبحانه- يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلّم- بأن يجاهد- ولو كان وحيداً- وأن يحرض المؤمنين على القتال. فيكون مسئولاً عن نفسه فحسب: والله يتولى المعركة: «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ- وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» .. وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب، واستثارة الهمم بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر، والثقة ببأس الله وقوته..
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة. وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري- حتى ولو لم يكن صادراً عن نفاق أو انحراف- وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم. وهذه غاية أبعد وأطول أمداً. فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة.. ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات.. وهي تواجه المعارك الكبيرة.
والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ. فَانْفِرُوا ثُباتٍ، أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ، إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ، فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» ..
إنها الوصية للذين آمنوا: الوصية من القيادة العليا، التي ترسم لهم المنهج، وتبين لهم الطريق. وإن الإنسان ليعجب، وهو يراجع القرآن الكريم فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين- بصفة عامة طبعاً- الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم «استراتيجية المعركة» . ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» . فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية. وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: «خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى «التاكتيك» . وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ... الآيات» .
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب- كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة. ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية.. ومن ثم يطلب- بحق- الوصاية التامة على الحياة البشرية(2/704)
ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج، وتحت تصرفه وتوجيهه. وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر: منهجاً للحياة الشخصية، وللشعائر والعبادات، والأخلاق والآداب، مستمداً من كتاب الله. ومنهجاً للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية، مستمداً من كتاب أحد آخر أو من تفكير بشري على الإطلاق! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله منهجه أحكاماً تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة- بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة- ولا شيء وراء ذلك. وإلا فلا إيمان أصلاً ولا إسلام. لا إيمان ابتداء ولا إسلام، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام. وفي أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله.
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانباً من الخطة التنفيذية للمعركة المناسبة لموقفهم حينذاك. ولو جودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج. والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل. وهو يحذرهم ابتداء:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» ..
خذوا حذركم من عدوكم جميعاً. وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية:
«فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» ..
ثُباتٍ. جميع ثُبة: أي مجموعة.. والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى. ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كله.. حسب طبيعة المعركة.. ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء، المبثوثون في كل مكان.
وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي.. وهم كانوا كذلك، ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة.
«وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» ..
انفروا جماعات نظامية. أو انفروا جميعاً. ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم- كما هو واقع- وخذوا حذركم. لا من العدو الخارجي وحده ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين سواء كانوا يبطئون أنفسهم- أي يقعدون متثاقلين- أو يبطئون غيرهم معهم وهو الذي يقع عادة من المخذّلين المثبطين! ولفظة «ليبطئن» مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شداً وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويراً كاملاً بهذا التعثر والتثاقل في جرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة «1» .
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» ، بأن هؤلاء المبطئين- وهم معدودون من المسلمين- «منكم» يزاولون عملية التبطئة كاملة، ويصرون عليها إصراراً، ويجتهدون فيها اجتهاداً.. وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف المسلم وشدة ما يلقاه منها! ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم، وعلى دخيلة نفوسهم ويرسم حقيقتهم المنفرة، على
__________
(1) يراجع فصل «التناسق الفني» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق»
.(2/705)
طريقة القرآن التصويرية العجيبة:
فها هم أولاء، بكل بواعثهم، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم.. هاهم أولاء مكشوفين للأعين، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر، يكشف النوايا والسرائر ويكشف البواعث والدوافع.
ها هم أولاء- كما كانوا على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلّم- وكما يكونون في كل زمان وكل مكان.
ها هم أولاء. ضعافاً منافقين ملتوين صغار الاهتمامات أيضاً: لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر، ولا أفقاً أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة. فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد. وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة! إنهم يبطئون ويتلكأون، ولا يصارحون، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة.. فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين- في بعض الأحايين- فرح المتخلفون وحسبوا أن فرارهم من الجهاد، ونجاتهم من الابتلاء نعمة:
«فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً» ..
إنهم لا يخجلون- وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة- أن ينسبوها لله. الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبداً. فنعمة الله لا تنال بالمخالفة. ولو كان ظاهرها نجاة! إنها نعمة! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله. عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله. ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة. نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطىء الأقدام في هذه الأرض.. كالنمال.. نعمة عند من لا يحسون أن البلاء- في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله- هو فضل واختيار من الله، يختص به من يشاء من عباده ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة، يملكونها ولا تملكهم. وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة.. في منازل الشهداء..
إن الناس كلهم يموتون! ولكن الشهداء- في سبيل الله- هم وحدهم الذين «يستشهدون» .. وهذا فضل من الله عظيم.
فأما إذا كانت الأخرى.. فانتصر المجاهدون الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله.. ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة.. ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة! «وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، لَيَقُولَنَّ- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» .
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب، هي التي يقولون عنها: «فوزاً عظيماً» والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة بل مطلوب منه أن يرجوه من الله. والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية.. ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسماً مستنكراً منفراً..(2/706)
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية. ولكنه إذا ندب للجهاد خرج- غير متثاقل- خرج يسأل الله إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.. وكلاهما فضل من الله وكلاهما فوز عظيم. فيقسم له الله الشهادة، فإذا هو راض بما قسم الله أو فرح بمقام الشهادة عند الله. ويقسم له الله الغنيمة والإياب، فيشكر الله على فضله، ويفرح بنصر الله. لا لمجرد النجاة! وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق «منهم» وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين، ليأخذوا منهم حذرهم كما يأخذون حذرهم من أعدائهم! ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان، في كل زمان ومكان، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن! ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبداً. وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء. فلا ييئس من نفسه. ولكن يأخذ حذره ويمضي. ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد، أن يكمل النقص، ويعالج الضعف، وينسق الخطى والمشاعر والحركات! ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى.. الآخرة.. وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة. ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين، وإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة:
«فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..
فليقاتل في سبيل الله- فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل. لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة. ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي! إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ولا للاستيلاء على السكان.. لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات، والأسواق للمنتجات أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات! إنه لا يقاتل لمجد شخص. ولا لمجد بيت. ولا لمجد طبقة. ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس. إنما يقاتل في سبيل الله. لإعلاء كلمة الله في الأرض. ولتمكين منهجه من تصريف الحياة. ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعدله المطلق «بين الناس» مع ترك كل فرد حراً في اختيار العقيدة التي يقتنع بها.. في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام..
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله، بقصد إعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة. ثم يقتل..
يكون شهيداً. وينال مقام الشهداء عند الله.. وحين يخرج لأي هدف آخر- غير هذا الهدف- لا يسمى «شهيداً» ولا ينتظر أجره عند الله، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له.. والذين يصفونه حينئذ بأنه «شهيد» يفترون على الله الكذب ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس. افتراء على الله! فليقاتل في سبيل الله- بهذا التحديد.. من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة. ولهم- حينئذ- فضل من الله عظيم في كلتا الحالتين: سواء من يُقتل في سبيل الله ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً:
«وَمَنْ يُقاتِلْ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» ..(2/707)
بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم، في كلتا الحالتين. وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل، وما ترجوه من الغنيمة كذلك! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئاً إلى جانب الفضل العظيم من الله. كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا (ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالباً بمعنى يبيع) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض. وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال- فيما يحتويه- ويحتوي سواه؟! ثم يلتفت السياق إلى المسلمين. يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها. يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس، وحساسية القلوب تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم وهم يتطلعون إلى الخلاص، ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجاً من دار الظلم والعدوان.. يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد، وشرف الغاية، ونبل الهدف، في هذا القتال، الذي يدعوهم أن ينفروا إليه، غير متثاقلين ولا مبطئين. وذلك في أسلوب تحضيضي يستنكر البطء والقعود:
«وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ. الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً؟» ..
وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم، وكرامة المؤمن، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق؟
هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم، والفتنة في دينهم. والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض، وحق المال والأرض! ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف، مشهد مؤثر مثير. لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا- وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة- وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد.
وهو وحده يكفي. لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات.. وهو أسلوب عميق الوقع، بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس.
ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن: إن «هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» التي يعدها الإسلام- في موضعها ذاك- دار حرب، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها، هي «مكة» وطن المهاجرين، الذين يُدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها. ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه! إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام- حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم، وعذبوا في عقيدتهم.. بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم «دار حرب» .. دار حرب، هم لا يدافعون عنها، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها.. إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه وأرضه التي يدفع عنها هي(2/708)
«دار الإسلام» التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجاً للحياة.. وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي، تنضح به الجاهليات، ولا يعرفه الإسلام.
ثم لمسة نفسية أخرى، لاستنهاض الهمم، واستجاشة العزائم، وإنارة الطريق، وتحديد القيم والغايات والأهداف، التي يعمل لها كل فريق:
«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» ..
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق. وفي لحظة ترتسم الأهداف، وتتضح الخطوط. وينقسم الناس إلى فريقين اثنين تحت رايتين متميزتين:
«الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ..
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ» ..
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته، وإقامة العدل «بين الناس» باسم الله. لا تحت أي عنوان آخر. اعترافاً بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى- غير منهج الله- وإقرار شرائع شتى- غير شريعة الله- وإقامة قيم شتى- غير التي أذن بها الله- ونصب موازين شتى غير ميزان الله! ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم ... فكلهم أولياء الشيطان.
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
«فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد. مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله، ليس لأنفسهم منها نصيب، ولا لذواتهم منها حظ. وليست لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء.. إنما هي لله وحده، ولمنهجه وشريعته. وأنهم يواجهون قوماً أهل باطل يقاتلون لتغليب الباطل على الحق. لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية- وكل مناهج البشر جاهلية- على شريعة منهج الله ولتغليب شرائع البشر الجاهلية- وكل شرائع البشر جاهلية- على الله ولتغليب ظلم البشر- وكل حكم للبشر من دون الله ظلم- على عدل الله، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس..
كذلك يخوضون المعركة، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها. وأنهم يواجهون قوماً، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف.. إن كيد الشيطان كان ضعيفاً..
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها. قبل أن يدخلوها. وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة- فهو واثق من النتيجة- أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر فهو واثق من الأجر العظيم.
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد(2/709)
في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة. وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال فهي كثيرة مشهورة.. ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ فقد كان هذا التصور جانباً من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة، على المعسكرات المعادية.. ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء «1» . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفاً من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين فأمسوا مهزومين! وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته. فلم يكن الأمر هيناً. ولم يكن مجرد كلمة تقال. ولكنه كان جهداً موصولاً، لمعالجة شح النفس، وحرصها على الحياة- بأي ثمن- وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة.. وفي الدرس بقية من هذا العلاج، وذلك الجهد الموصول.
إن السياق يمضي- بعد هذا- إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين- قيل إن بعضهم من المهاجرين، الذين كانت تشتد بهم الحماسة- وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد- ليؤذن لهم في قتال المشركين. حيث لم يكن مأذوناً لهم- بعد- في قتال، للحكمة التي يعلمها الله والتي قد نصيب طرفاً من معرفتها فيما سنذكره بعد.. فلما كتب عليهم القتال، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، وعلم الله أن في هذا الإذن خيراً لهم وللبشرية.. إذا هم- كما يصورهم القرآن- «يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً! وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ! لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!» ممن إذا أصابتهم الحسنة قالوا: هذه من عند الله. وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم: هذه من عندك. وممن يقولون: طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول- صلى الله عليه وسلّم- بيت طائفة منهم غير الذي تقول. وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ...
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء، في الأسلوب القرآني الذي يصور حالة النفس، كما لو كانت مشهداً يرى ويحس! ويصحح لهم- ولغيرهم- سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة، والأجل والقدر، والخير والشر، والنفع والضرر، والكسب والخسارة، والموازين والقيم ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» .
«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟ ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» .
«وَيَقُولُونَ: طاعَةٌ. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ- وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ- فَأَعْرِضْ
__________
(1) ص 673.(2/710)
عَنْهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» ... الآيات ... ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها.
وقد كدنا نرجح هذا الرأي لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها. وصدور هذه الأعمال وهذه الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك.
وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا..
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين: (قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ... الآيات) هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثاً عن المنافقين- وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده- وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين- ضعاف الإيمان غير منافقين- والضعف قريب الملامح من النفاق- وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم. وربما كانت كلها وصفاً للمنافقين عامة وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال.
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم..
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع، لدفع أذى المشركين- وهم في مكة- في وقت لم يكن مأذوناً لهم في القتال- فقيل لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» ..
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي- صلى الله عليه وسلم- من ميلهم على أهل منى- أي قتلهم- لو أمرهم الرسول- صلى الله عليه وسلّم- ورده عليهم: «إننا لم نؤمر بقتال» .. فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار- أصحاب بيعه العقبة- في المنافقين، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات. ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى. فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف رضي الله عنهم جميعاً.
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين، الذين ضعفت نفوسهم- وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى- عن تكاليف القتال.. وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم، بل في المنافقين. لأنه يصعب علينا- مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري- أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- دون الحسنة! أو قول الطاعة وتبييت غيرها..
وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف. لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام، ولا تدل على النفاق..
والحق.. أننا نجد أنفسنا- أمام هذه الآيات كلها- في موقف لا نملك الجزم فيه بشيء. والروايات الواردة(2/711)
عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء.. حتى في آيات المجموعة الأولى. التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين كما ورد أنها في طائفة من المنافقين! ومن ثم نأخذ بالأحوط في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر.
التي وردت في الآيات السابقة. ومن سمة إسناد السيئة للرسول- صلى الله عليه وسلّم- دون الحسنة، ورد هذه وحدها إلى الله! ومن سمة تبييت غير الطاعة.. وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني، ويدرك- بطول الصحبة- طريقة التعبير القرآنية!!! والله المعين.
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ.. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... »
يعجب الله- سبحانه- من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين. حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله. فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال- في سبيل الله- إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم- وهم ناس من البشر- كخشية الله القهار الجبار، الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.. «أو أشد خشية» !! وإذا هم يقولون- في حسرة وخوف وجزع- «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟» .. وهو سؤال غريب من مؤمن. وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ولوظيفة هذا الدين أيضاً.. ويتبعون ذلك التساؤل، بأمنية حسيرة مسكينة! «لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!» وأمهلتنا بعض الوقت، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف! إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهيارا وهزيمة عند ما يجد الجد، وتقع الواقعة.. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف. لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال. قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار.. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً.. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته.. والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً وأي الفريقين أبعد نظراً كذلك! وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول- صلى الله عليه وسلّم- يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية(2/712)
والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب. فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبرراً أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة! «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!» .
وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلا. بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا. فالإيمان الذي لم ينضج بعد والتصور الذي لم تتضح معالمه ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض- وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته- بأي لون من ألوان الفتنة- ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو- وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه.. وإذن فلم يكن الأمن في المدينة- حتى على فرض وجوده كاملاً غير مهدد- لينهي مهمة المسلمين هناك وينهى عن الجهاد! الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والكلمة الأخيرة- سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له- والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ومهمته هو- المؤمن- بوصفه قدراً من قدر الله، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة.. لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ويعجب منه هذا التعجيب! وينفر منه هذا التنفير.
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين- في مكة- بالانتصار من الظلم والرد على العدوان ودفع الأذى بالقوة..
وكثيرون منهم كان يملك هذا فلم يكن ضعيفاً ولا مستضعفاً ولم يكن عاجزاً عن رد الصاع صاعين..
مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة..
أما حكمة هذا، والأمر بالكف عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال.. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته فيفتن عن دينه. وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته..
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها. لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية. أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم- سبحانه- أن فيها الخير والمصلحة.. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف. أو أي حكم في شريعة الله- لم يبين الله سببه محدداً جازماً حاسماً- فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه.. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال. ولا يجزم- مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله- بأن ما رآه هو حكمة هو الحكمة التي أرادها الله.. نصاً.. وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله. ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في(2/713)
الطبيعة والحقيقة.
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة.. نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب.. على أنه مجرد احتمال.. وندع ما وراءه لله. لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً، لا يعلمها إلا هو.. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح! إنها أسباب.. اجتهادية.. تخطىء وتصيب. وتنقص وتزيد. ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله. وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
«أ» ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محوراً لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته.. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج. ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره- مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء «المجتمع المسلم» الخاضع لقيادة موجهة المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
«ب» وربما كان ذلك أيضاً، لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس- أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها- وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبداً. ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبداً! «ج» وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و «يؤدبونه» ! ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمداً يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وكل محلة؟
«د» وربما كان ذلك أيضاً، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء؟! «هـ» وربما كان ذلك، أيضاً، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة- فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته ... وآخر هذه الظواهر(2/714)
نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي! «و» وربما كان ذلك أيضاً، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة. حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف.. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة. ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة.
«ز» في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى. لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً- وقتها- ومحققاً.. هذا الأمر الأساسي هو «وجود الدعوة» .. وجودها في شخص الداعية- صلى الله عليه وسلم- وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم، إذا هي امتدت يدها إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- فكان شخص الداعية من ثم محمياً حماية كافية.. وكان الداعية يبلغ دعوته- إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا وفي اجتماعات عامة.. ولا يجرؤ أحد على سد فمه ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله يعلن فيه بعض حقيقة دينه ويسكت عن بعضها. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف. وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت. وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا. أي أن يجاملهم فيجاملوه بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته، لم يدهن ... وعلى الجملة كان للدعوة «وجودها» الكامل، في شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- محروساً بسيوف بني هاشم- وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة.. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة.
هذه الاعتبارات- كلها- فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله- معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب. وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ. لتكون خالصة لله. وفي سبيل الله.. والدعوة لها «وجودها» وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة ...
وأياً ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
«فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!» .(2/715)
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ فيه حالة من الخلخلة وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة المستقبلة لتكاليف الجهاد- على كل ما فيها من مشقة- بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضاً. ولكن في موضعها المناسب. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية. أما الحماسة قبل الأمر، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور يتبخر عند مواجهة الخطر! وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني:
«قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» ..
إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة. ويتمنون في حسرة مسكينة! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ومد لهم- شيئاً- في المتاع بالحياة! والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل..
«قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ» ..
متاع الدنيا كله. والدنيا كلها. فما بال أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير. إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا؟! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين. ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل!؟
«وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى» ..
فالدنيا- أولاً- ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة.. إنها مرحلة.. ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع- فضلاً على أن المتاع فيها طويل كثير- فهي «خَيْرٌ» .. «خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى» .. وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها. التقوى لله. فهو الذي يتقى، وهو الذي يخشى. وليس الناس.. الناس الذين سبق أن قال: إنهم يخشونهم كخشية الله- أو أشد خشية! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس. والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحداً. فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد؟
«وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» ..
فلا غبن ولا ضير ولا نجس إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا. فهناك الآخرة. وهناك الجزاء الأوفى الذي لا يبقى معه ظلم ولا نجس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعاً! ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه- مع هذا كله- إلى أيام تطول به في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير.. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة! هنا تجيء اللمسة الأخرى. اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية! «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» ..
فالموت حتم في موعده المقدر. ولا علاقة له بالحرب والسلم. ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته. ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده..(2/716)
هذا أمر وذاك أمر ولا علاقة بينهما.. إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل. بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد.. وليست هنالك علاقة أخرى.. ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال. ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال! وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر..
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية..
فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر. وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف. وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة.. ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر.. إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع، وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله.. وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب- رغم كل استعداد واحتياط- أمر آخر يجب أن يطاع وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله..
توازن واعتدال. وإلمام بجميع الأطراف. وتناسق بين جميع الأطراف..
هذا هو الإسلام. وهذا هو منهج التربية الإسلامي، للأفراد والجماعات..
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين. ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها.. هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل، ولا وقفة تنبىء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى..
ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها:
«وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ! قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟! ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا. وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» ..
إن الذين يقولون هذا القول، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله، وما يصيبهم من الضر إلى النبي- صلى الله عليه وسلّم- يحتمل فيهم وجوه:
الوجه الأول: أنهم يتطيرون بالنبي- صلى الله عليه وسلّم- فيظنونه- حاشاه- شؤماً عليهم. يأتيهم السوء من قبله. فإن أجدبت السنة، ولم تنسل الماشية، أو إذا أصيبوا في موقعة تطيروا بالرسول- صلى الله عليه وسلّم- فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله! الوجه الثاني: أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول- صلى الله عليه وسلّم- تخلصاً من التكاليف التي يأمرهم بها. وقد يكون تكليف القتال منها- أو أخصها- فبدلاً من أن يقولوا: إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر! ويقولون: إن الخير يأتيهم من الله، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول- صلى الله عليه وسلّم- ومن أوامره. وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر! والوجه الثالث: هو سوء التصور فعلاً لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله.(2/717)