[المجلد الاول]
تقديم
بسم الله الرّحمن الرّحيم «فى ظلال القرآن» ..
الكتاب الذي عاشه صاحبه بروحه وفكره وشعوره وكيانه كلّه..
وعاشه لحظة لحظة، وفكرة فكرة، ولفظة لفظة..
وأورعه خلاصة تجربته الحيّة فى عالم الايمان..
لقرآن له أن يأخذ وضعه الطبيعي فى يد ناشر أمين..
يقدّر أنه ناشر فكر قبل أن يكون جامع مال..
وأن نشر الفكر رسالة عليا وليس انتهازية طامعة..
فلتكن هذه الطبعة المشروعة الصادرة عن دار الشروق..
بعد طول التطواف فى طبعات غير مشروعة..
فلتكن فى توبها الجديد هذا..
تحيّة منّا فى رحلتنا العابرة على الأرض..
إلى المؤلف الشهيد..
محمد قطب(1/9)
مقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم في ظلال القرآن الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلّا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله.. لقد منّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
لقد عشت أسمع الله- سبحانه- يتحدث إليّ بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت- في ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطقال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى- في ظلال القرآن- ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت- في ظلال القرآن- أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟
يا حسرة على العباد!!! وعشت- في ظلال القرآن- أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول.. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه(1/11)
مقدمة كله. إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت- في ظلال القرآن- أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.. إنه إنسان بنفخة من روح الله: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» .. وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. ومسخر له كل ما في الأرض: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً»
..
ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه.
وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج! ..
والمؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد.. عليهم الصلاة والسلام.. «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» ..
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه- كما يتجلى في ظلال القرآن- مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد..
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء، ولا للفلتة العارضة:
«إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» .. «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» .. وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ(1/12)
اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً»
.. «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .. والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» ..
«وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» .. والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
ومن ثم عشت- في ظلال القرآن- هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير.. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها.. «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ؟» .. «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» .. «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» .. «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» .. «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» .. «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» .. «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .. «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» .. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء. فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة.. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وأنه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي- كما يبدو في ظلال القرآن- موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة.. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه.. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم! .. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته، يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله.. ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل- الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن- ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح، لا يحده عمر فرد، ولا تستحثه رغبة فان، يخشى أن يعجله الموت عن(1/13)
تحقيق غايته البعيدة كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر، وتسيل الدماء، وتتحطم القيم، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية، وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة، يدفعها من هنا، ويردعها من هناك، ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة.. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف.. فالزمن ممتد، والغاية واضحة، والطريق إلى الهدف الكبير طويل، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك.. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة. ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون..
والزرعة قد تسفى عليها الرمال، وقد يأكل بعضها الدود، وقد يحرقها الظمأ، وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل فلا يعتسف ولا يقلق، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة، السمحة الودود.. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله.. «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» ..
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود. ليس فلتة عابرة، ولا مصادفة غير مقصودة..
إن الله سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل: «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ!» والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» .. ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بد للباطل أن يزهق.. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» ..
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق، باقية بقاءه في الأرض: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ، زَبَدٌ مِثْلُهُ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» ... «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ، تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» ..
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟(1/14)
وانتهيت من فترة الحياة- في ظلال القرآن- إلى يقين جازم حاسم.. إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله..
والرجوع إلى الله- كما يتجلى في ظلال القرآن- له صورة واحدة وطريق واحد.. واحد لا سواه.. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم.. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله:
«فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتاب ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار، إنما هو الإيمان..
أو.. فلا إيمان.. «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» ..
والأمر إذن جد.. إنه أمر العقيدة من أساسها.. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها..
إن هذه البشرية- وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده- سبحانه- وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها.. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة.. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟» ..
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات..
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة و «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي(1/15)
النَّاسِ»
..
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور.. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.. نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق ... بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها.. في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان! إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ثم يقولون لها: اختاري!!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله!!! وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا.. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة.. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه الله له، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافىء الواجب المفروض عليه فيه وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع.. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى.. فهم سيئو النية، شريرون، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة، وأن تطمئن إلى كنف الله ...
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل، والإدراك العميق..
هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ويجعلون للقوانين الطبيعة مجالا، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس!(1/16)
هذا وهم.. إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره.. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» . وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: «فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» .. وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ..
إن الإيمان بالله، وعبادته على استقامة، وإقرار شريعته في الأرض ... كلها إنفاذ لسنن الله.
وهي سنن ذات فاعلية إيجابية، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية.. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته.. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك.. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله، وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتهامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك ... وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية.. فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته(1/17)
ونشاطه.... هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود.. وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق بينما تفسد آثارها وتضطرب، وتفسد الحياة معها، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع.
ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى وينبغي لها أن تطارده، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم..
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل الله ينفع بها ويهدي.
وما تشاءون إلا أن يشاء الله..
سيد قطب(1/18)
بسم الله الرّحمن الرحيم سورة الفاتحة وأول سورة البقرة الجزء الأوّل(1/19)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(1) سورة الفاتحة مكيّة وآياتها سبع
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلاً، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها..
تبدأ السورة: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. ومع الخلاف حول البسملة: أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة، وبها تحتسب آياتها سبعاً. وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» .. وهو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات «مِنَ الْمَثانِي» لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة.
والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... » .. وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ» .. فهو- سبحانه- الموجود الحق الذي يستمد منه كلُّ موجود وجودَه، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.
ووصفه- سبحانه- في البدء بالرحمن الرحيم، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها.. وهو المختص(1/21)
وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان.. ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.
وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي..
فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.. فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاماً قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ... » .
ومع هذا يبلغ من فضل الله- سبحانه- وفيضه على عبده المؤمن، أنه إذا قال: الحمد لله. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين.. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حدثهم أن عبداً من عباد الله قال: «يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك» .
فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا، إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال الله- وهو أعلم بما قال عبده-: «وما الذي قال عبدي؟» قالا: يا رب، أنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» ..
والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله- كما أسلفنا- أما شطر الآية الأخير: «رَبِّ الْعالَمِينَ» فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية.. والرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية..
والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين- أي جميع الخلائق- والله- سبحانه- لم يخلق الكون ثم يتركه هملاً. إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه. وكل العوالم والخلائق تحفظ وتُتعهد برعاية الله رب العالمين.
والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة.
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيراً ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريباً مضحكاً. ولكنه كان وما يزال.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا(1/22)
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»
.. كما قال عن جماعة من أهل الكتاب: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أرباباً صغاراً تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون! فإطلاق الربوبية في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعاً، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة. لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب.. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبداً ولا تفتر ولا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلاً يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! وأرسطو- وهذا تصوره- هو أكبر الفلاسفة، وعقله هو أكبر العقول! لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار..
يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون، ولا يستقر منها على يقين.
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، وصفاته وعلاقته بخلائقه، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص.
ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل.
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجاً وافياً شاملاً كاملاً) .
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد.. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، وظل يجلوها في الضمير، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش. ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور..
كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة.
فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير..
مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. وفي السلوك البشري سواء.
والذي يراجع لجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة.. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه.. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير.. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف(1/23)
عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة- وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير! وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. كل هذا لا ينجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم.. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.
«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه. وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.
إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في «العهد القديم» كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين «1» .
«مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» .. وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة.. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. ويوم الدين هو يوما الجزاء في الآخرة.. وكثيراً ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء.. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ» .. ثم يحكي عنهم في موضع آخر: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا تراباً؟
ذلك رجع بعيد» ! والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور. وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة لله، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين.. ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.
__________
(1) وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاما واحدا. وكان أنهم لما رحلوا من المشرق وجدوا بقعة في أرض شنعار فأقاموا هناك. وقال بعضهم لبعض تعالوا نصنع لبنا وننضجه طبخا فكان لهم اللبن بدل الحجارة والحمر كان لهم بدل الطين. وقالوا تعالوا نبن لنا مدينة وبرجا رأسه إلى السماء ونقم لنا اسما كي لا نتبدد على وجه الأرض كلها. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب هو ذا هم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفون عما هموا به حتى يصنعوه. هلم نهبط ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها وكفوا عن بناء المدينة. ولذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها. ومن هناك شتتهم الرب على كل وجهها.(1/24)
وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على العوض الذي يلقاه فيها..
وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق..
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .. وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله.
وهنا كذلك مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع. وإذا كان الله وحده هو الذي يُعبد، والله وحده هو الذي يُستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات..
وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية..
فأما القوى الإنسانية- بالقياس إلى المسلم- فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن بالله، وتتبع منهج الله..
وهذه يجب أن يؤازرها، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.
ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول- قوة الله- تفقد قوتها الحقيقية. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفىء ويبرد ويفقد ناره ونوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعاً.
وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة، لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته. محكومتان بإرادة الله ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه.
إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقاً مساعداً متعاوناً وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. ويتعرف إليها، ويتعاون وإياها، ويتجه معها إلى الله ربه وربها.
وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحياناً، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.
ولقد درج الغربيون- ورثة الجاهلية الرومانية- على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: «قهر الطبيعة» .. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله.
فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين..(1/25)
فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعاً. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها. وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فالله هو الذي يسخرها له، وليس هو الذي يقهرها: «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة ولن تقوم بينه وبينها المخاوف.. إنه يؤمن بالله وحده، ويعبد الله وحده، ويستعين بالله وحده. وهذه القوى من خلق ربه. وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود.. وما أروع قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو ينظر إلى جبل أُحد: «هذا جبل يحبنا ونحبه» .. ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد- صلى الله عليه وسلم- من ود وألفة وتجاوب، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها.
وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي وتقرير الاتجاه إلى الله وحده بالعبادة والاستعانة..
يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها:
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» ..
«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» .. وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته.. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته. والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين. وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه. فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين.. وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين.
ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم: «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» ..
فهو طريق الذين قسم لهم نعمته. لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه. أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلاً إليه.. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين..
وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة، والتي لا تصح بدونها صلاة. وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور.
وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.. إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال الرحمن الرحيم. قال الله أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال الله: مجدني عبدي.
وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» ..
ولعل هذا الحديث الصحيح- بعد ما تبين من سياق السورة ما تبين- يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة..(1/26)
(2) سورة البقرة مدنيّة وآياتها ستّ وثمانون ومائتان
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة. وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. والمرجح أن آياتها لم تنزل متوالية كلها حتى اكتملت قبل نزول آيات من سور أخرى فمراجعة أسباب نزول بعض آياتها وبعض الآيات من السور المدنية الأخرى- وإن تكن هذه الأسباب ليست قطعية الثبوت- تفيد أن السور المدنية الطوال لم تنزل آياتها كلها متوالية إنما كان يحدث أن تنزل آيات من سورة لاحقة قبل استكمال سورة سابقة نزلت مقدماتها وأن المعول عليه في ترتيب السور من حيث النزول هو سبق نزول أوائلها- لا جميعها- وفي هذه السورة آيات في أواخر ما نزل من القرآن كآيات الربا، في حين أن الراجح أن مقدماتها كانت من أول ما نزل من القرآن في المدينة.
فأما تجميع آيات كل سورة في السورة، وترتيب هذه الآيات، فهو توقيفي موحى به.. روى الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، وقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ وما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها وقبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال.
فهذه الرواية تبين أن ترتيب الآيات في كل سورة كان بتوقيف من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- القرآن، وفي رواية فيدارسه القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة. ومن الثابت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد قرأ القرآن كله على جبريل- عليه السلام- كما أن جبريل قد قرأه عليه.. ومعنى هذا أنهما قرآن مرتبة آياته في سوره.
ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح(1/27)
يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص. ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو. ولها إيقاع موسيقي خاص- إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة «1» .. وهذا طابع عام في سور القرآن جميعا.
ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة.
هذه السورة تضم عدة موضوعات. ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا.. فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها- صلى الله عليه وسلم- وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها ...
وسائر ما يتعلق بهذا الموقف بما فيه تلك العلاقة القوية بين اليهود والمنافقين من جهة، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى.. وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها وإعدادها لحمل أمانة الدعوة والخلافة في الأرض، بعد أن تعلن السورة نكول بني إسرائيل عن حملها، ونقضهم لعهد الله بخصوصها، وتجريدهم من شرف الانتساب الحقيقي لإبراهيم- عليه السلام- صاحب الحنيفية الأولى، وتبصير الجماعة المسلمة وتحذيرها من العثرات التي سببت تجريد بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم..
وكل موضوعات السورة تدور حول هذا المحور المزدوج بخطيه الرئيسيين، كما سيجيء في استعراضها التفصيلي.
ولكي يتضح مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أول العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من الجهة الأخرى.. يحسن أن نلقي ضوءا على مجمل هذه الملابسات التي نزلت آيات السورة لمواجهتها ابتداء. مع التنبيه الدائم إلى أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها- مع اختلاف يسير- على مر العصور وكر الدهور من أعدائها وأوليائها على السواء. مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالد ويبث في هذه النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق، بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة.. وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني.
لقد تمت هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم. تمت تحت تأثير ظروف حتمت هذه الهجرة وجعلتها إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره.. كان موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة- وبخاصة بعد وفاة خديجة- رضي الله عنها- وموت أبي طالب كافل النبي وحاميه.. كان هذا الموقف قد انتهى إلى تجميد الدعوة تقريبا في مكة وما حولها. ومع استمرار دخول أفراد في الإسلام على الرغم من جميع الاضطهادات والتدبيرات فإن الدعوة كانت تعتبر قد تجمدت فعلا في مكة وما حولها، بموقف قريش منها، وتحالفهم على حربها بشتى الوسائل، مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار، في ارتقاب نتيجة المعركة بين الرسول وعشيرته الأقربين، وعلى رأسهم أبو لهب وعمرو بن هشام وأبو سفيان بن حرب وغير هم ممن يمتون بصلة القرابة القوية لصاحب الدعوة. وما كان هناك ما يشجع العرب في بيئة قبلية لعلاقات القرابة عندها وزن كبير، على الدخول في عقيدة
__________
(1) يراجع فصل: «التناسق الفني في كتاب «التصوير الفني في القرآن» - «دار الشروق»(1/28)
رجل تقف منه عشيرته هذا الموقف. وبخاصة أن عشيرته هذه هي التي تقوم بسدانة الكعبة، وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة! ومن ثم كان بحث الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة. حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة.. وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة.
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة للدعوة الجديدة، عدة اتجاهات.. سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل. والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين. غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا. إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم- في بيئة قبلية- ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر بن أبي طالب- وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي- صلى الله عليه وسلم- ومنهم جعفر بن أبي طالب- وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي- صلى الله عليه وسلم- ومنهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي.... وغيرهم. وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا.. وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربى، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة، بنت أبي سفيان، زعيم الجاهلية، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها.. ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه، كما ورد في روايات صحيحة.
كذلك يبدو اتجاه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة.. وهي محاولة لم تكلل بالنجاح لأن كبراء ثقيف استقبلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوأ استقبال، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم يرجمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه الشريفتين، ولم يتركوه حتى آوى إلى حائط (أي حديقة) لعتبة وشيبة ابني ربيعة.. وهناك انطلق لسانه بذلك الدعاء الخالص العميق: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى عدو ملكته أمري! أم بعيد يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلّا بك» .
بعد ذلك فتح الله على الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب، فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية. وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة، وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة.(1/29)
وقصة ذلك في اختصار: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- التقى قبل الهجرة إلى يثرب بسنتين بجماعة من الخزرج في موسم الحج، حيث كان يعرض نفسه ودعوته على الوافدين للحج ويطلب حاميا يحميه حتى يبلغ دعوة ربه. وكان سكان يثرب من العرب- الأوس والخزرج- يسمعون من اليهود المقيمين معهم، أن هنالك نبيا قد أطل زمانه وكانت يهود تستفتح به على العرب، أي تطلب أن يفتح لهم على يديه، وأن يكون معهم على كل من عداهم. فلما سمع وفد الخزرج دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- قال بعضهم لبعض: تعلمنّ والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه.. وأجابوه لما دعاهم. وقالوا له:
إننا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم. فعسى الله أن يجمعهم بك.. ولما عادوا إلى قومهم، وعرضوا الأمر عليهم، ارتاحوا له، ووافقوا عليه.
فلما كان العام التالي وافى الموسم جماعة من الأوس والخزرج، فالتقوا بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وبايعوه على الإسلام. وقد أرسل معهم من يعلمهم أمر دينهم.
وفي الموسم التالي وفد عليه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج كذلك، فطلبوا أن يبايعوه، وتمت البيعة بحضور العباس عم النبي- صلى الله عليه وسلم- على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم. وتسمى هذه البيعة الثانية بيعة العقبة الكبرى.. ومما وردت به الروايات في هذه البيعة ما قاله محمد بن كعب القرظي:
قال عبد الله بن رواحة- رضي الله عنه- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعني ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» . قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» . قالوا: ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل! وهكذا أخذوا الأمر بقوة.. ومن ثم فشا الإسلام في المدينة، حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام.
وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا، تاركين وراءهم كل شيء، ناجين بعقيدتهم وحدها، حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له الإنسانية نظيرا قط. ثم هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق. هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من قبل طويلا.. وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول لهجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم.
من أولئك السابقين من المهاجرين والأنصار تكونت طبقة ممتازة من المسلمين نوه القرآن بها في مواضع كثيرة. وهنا نجد السورة تفتتح بتقرير مقوّمات الإيمان، وهي تمثل صفة المؤمنين الصادقين إطلاقا. ولكنها أولا تصف ذلك الفريق من المسلمين الذي كان قائما بالمدينة حينذاك: «ألم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
ثم نجد بعدها مباشرة في السياق وصفا للكفار وهو يمثل مقومات الكفر على الإطلاق. ولكنه أولا وصف مباشر للكفار الذين كانت الدعوة تواجههم حينذاك، سواء في مكة أو فيما حول المدينة ذاتها من طوائف الكفار: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..(1/30)
كذلك كانت هناك طائفة المنافقين. ووجود هذه الطائفة نشأ مباشرة من الأوضاع التي أنشأتها الهجرة النبوية إلى المدينة في ظروفها التي تمت فيها، والتي أشرنا إليها من قبل ولم يكن لها وجود بمكة. فالإسلام في مكة لم تكن له دولة ولم تكن له قوة، بل لم تكن له عصبة يخشاها أهل مكة فينافقونها. على الضد من ذلك كان الإسلام مضطهدا، وكانت الدعوة مطاردة، وكان الذين يغامرون بالانضمام إلى الصف الإسلامي هم المخلصون في عقيدتهم، الذين يؤثرونها على كل شيء ويحتملون في سبيلها كل شيء. فأما في يثرب التي أصبحت منذ اليوم تعرف باسم المدينة- أي مدينة الرسول- فقد أصبح الإسلام قوة يحسب حسابها كل أحد ويضطر لمضانعتها كثيرا أو قليلا- وبخاصة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما- وفي مقدمة من كان مضطرا لمصانعتها نفر من الكبراء، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحوا هم ولا بد لهم لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك أن يتظاهروا باعتناق الدين الذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم.
ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة..
وسنجد في أول السورة وصفا مطولا لهؤلاء المنافقين، ندرك من بعض فقراته أن المعنيّ بهم في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التظاهر بالإسلام، ولم ينسوا بعد ترفعهم على جماهير الناس، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة العلية المتكبرين!: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين- الذين في قلوبهم مرض- نجد إشارة إلى «شَياطِينِهِمْ» . والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة أنها تعني اليهود، الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد. أما قصتهم مع الدعوة فنلخصها في هذه السطور القليلة:
لقد كان اليهود هم أول من اصطدم بالدعوة في المدينة وكان لهذا الاصطدام أسبابه الكثيرة.. كان لليهود في يثرب مركز ممتاز بسبب أنهم أهل كتاب بين الأميين من العرب- الأوس والخزرج- ومع أن مشركي العرب لم يظهروا ميلا لاعتناق ديانة أهل الكتاب هؤلاء، إلا أنهم كانوا يعدونهم أعلم منهم وأحكم بسبب ما لديهم من كتاب. ثم كان هنالك ظرف موات لليهود فيما بين الأوس والخزرج من فرقة وخصام- وهي البيئة التي يجد اليهود دائما لهم فيها عملا! - فلما أن جاء الإسلام سلبهم هذه المزايا جميعا.. فلقد جاء بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه. ثم إنه أزال الفرقة التي كانوا ينفذون من خلالها للدس والكيد وجر المغانم، ووحد الصف الإسلامي الذي ضم الأوس والخزرج، وقد أصبحوا منذ اليوم(1/31)
يعرفون بالأنصار، إلى المهاجرين، وألف منهم جميعا ذلك المجتمع المسلم المتضام المتراص الذي لم تعهد له البشرية من قبل ولا من بعد نظيرا على الإطلاق.
ولقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن فيهم الرسالة والكتاب. فكانوا يتطلعون أن يكون الرسول الأخير فيهم كما توقعوا دائما. فلما أن جاء من العرب ظلوا يتوقعون أن يعتبرهم خارج نطاق دعوته، وأن يقصر الدعوة على الأميين من العرب! فلما وجدوه يدعوهم- أول من يدعو- إلى كتاب الله، بحكم أنهم أعرف به من المشركين، وأجدر بالاستجابة له من المشركين.. أخذتهم العزة بالإثم، وعدوا توجيه الدعوة إليهم إهانة واستطالة! ثم إنهم حسدوا النبي- صلى الله عليه وسلم- حسدا شديدا. حسدوه مرتين: مرة لأن الله اختاره وأنزل عليه الكتاب- وهم لم يكونوا يشكون في صحته- وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.
على أنه كان هناك سبب آخر لحنقهم ولموقفهم من الإسلام موقف العداء والهجوم منذ الأيام الأولى: ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف! هذا أو يستجيبوا للدعوة الجديدة. ويذوبوا في المجتمع الإسلامي. وهما أمران- في تقديرهم- أحلاهما مر! لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية هذا الموقف الذي تصفه سورة البقرة، (وسور غيرها كثيرة) في تفصيل دقيق، نقتطف هنا بعض الآيات التي تشير إليه.. جاء في مقدمة الحديث عن بني إسرائيل هذا النداء العلوي لهم: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .. وبعد تذكير هم طويلا بمواقفهم مع نبيهم موسى- عليه السلام- وجحودهم لنعم الله عليهم، وفسوقهم عن كتابهم وشريعتهم..
ونكثهم لعهد الله معهم.. جاء في سياق الخطاب لتحذير المسلمين منهم: «أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:
آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟» ..
«وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ... «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» ... «وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ... «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» ...
«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ...
«وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» ... «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ... إلخ إلخ.
وكانت معجزة القرآن الخالدة أن صفتهم التي دمغهم بها هي الصفة الملازمة لهم في كل أجيالهم من قبل(1/32)
الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. مما جعل القرآن يخاطبهم- في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى- عليه السلام- وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبار هم جبلة واحدة. سماتهم هي هي، ودورهم هو هو، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى، إلى خطاب اليهود في المدينة، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد، وحرب منوعة المظاهر، متحدة الحقيقة! وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف، وهذا التنبيه، وهذا التحذير، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا..
تبدأ السورة- كما أسلفنا- بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة- بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكر هم فيما بعد مطولا- وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك. ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها. في وحدة ملحوظة، تمثل الشخصية الخاصة للسورة، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها.
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتقين. والكافرين. والمنافقين. وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين.. نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده. وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله. وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة.. ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ! هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض:
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف- وهو عهد الإيمان-: «قُلْنَا: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل- أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق- تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى- عليه السلام- وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة.
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه.. لقد كانوا أول كافربه. وكانوا يلبسون الحق بالباطل. وكانوا يأمرون الناس بالبر- وهو الإيمان- وينسون أنفسهم. وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته! وكانوا يريدون(1/33)
أن يردوا المسلمين كفارا. وكانوا يدعون من أجل هذا أن المهتدين هم اليهود وحدهم- كما كان النصارى يدعون هذا أيضا- وكانوا يعلنون عداءهم لجبريل- عليه السلام- بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم! وكانوا يكرهون كل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء. وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك في صحة الأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى- كما فعلوا عند تحويل القبلة- وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين. كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين.
ومن ثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه وتذكرهم بمواقفهم المماثلة من نبيهم موسى- عليه السلام- ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم. وتخاطبهم في هذا كأنهم جيل واحد متصل، وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل.
وتنتهي هذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم، وهم على هذه الجبلة الملتوية القصد، المؤوفة الطبع. كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهم وحدهم المهتدون، بما أنهم ورثة إبراهيم.
وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين هم الذين يمضون على سنته، ويتقيدون بعهده مع ربه وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذن إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به، بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج الله ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه. وأن هذا كان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- وهما يرفعان القواعد من البيت: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
وعند هذا الحد يبدأ سياق السورة يتجه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وإلى الجماعة المسلمة من حوله حيث يأخذ في وضع الأسس التي تقوم عليها حياة هذا الجماعة المستخلفة على دعوة الله في الأرض، وفي تمييز هذه الجماعة بطابع خاص، وبمنهج في التصور وفي الحياة خاص.
ويبدأ في هذا بتعيين القبلة التي تتجه إليها هذه الجماعة. وهي البيت المحرم الذي عهد الله لإبراهيم وإسماعيل أن يقيماه ويطهراه ليعبد فيه الله وحده، هذه القبلة التي كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يرغب ولا يصرح في الاتجاه إليها: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» ..
ثم تمضي السورة في بيان المنهج الرباني لهذه الجماعة المسلمة. منهج التصور والعبادة، ومنهج السلوك والمعاملة، تبين لها أن الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء. وأن الإصابة بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ليس شرا يراد بها، إنما هو ابتلاء، ينال الصابرون عليه صلوات الله ورحمته وهداه. وأن الشيطان يعد الناس الفقر ويأمرهم بالفحشاء والله يعدهم مغفرة منه وفضلا. وأن الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات..
وتبين لهم بعض الحلال والحرام في المطاعم والمشارب. وتبين لهم حقيقة البر لا مظاهره وأشكاله. وتبين لهم أحكام القصاص في القتلى. وأحكام الوصية. وأحكام الصوم. وأحكام الجهاد. وأحكام الحج. وأحكام الزواج والطلاق مع التوسع في دستور الأسرة بصفة خاصة. وأحكام الصدقة وأحكام الربا.. وأحكام الدّين والتجارة ...
وفي مناسبات معينة يرجع السياق إلى الحديث عن بني إسرائيل من بعد موسى. وعن حلقات من قصة(1/34)
إبراهيم. ولكن جسم السورة- بعد الجزء الأول منها- ينصرف إلى بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة، والخلافة في الأرض بمنهج الله وشريعته. وتمييزها بتصورها الخاص للوجود، وارتباطها بربها الذي اختارها لحمل هذه الأمانة الكبرى.
وفي النهاية نرى ختام السورة ينعطف على افتتاحها، فيبين طبيعة التصور الإيماني، وإيمان الأمة المسلمة بالأنبياء كلهم، وبالكتب كلها وبالغيب وما وراءه، مع السمع والطاعة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا، وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
ومن ثم يتناسق البدء والختام، وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان.(1/35)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ألم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)(1/36)
في هذا المقطع، الذي يكوّن افتتاح السورة الكبيرة، نجد الملامح الأساسية للطوائف التي واجهتها الدعوة في المدينة باستثناء طائفة اليهود التي ترد إشارة صغيرة لها، ولكنها كافية، فإن تسميتهم بشياطين المنافقين تشير إلى الكثير من صفاتهم، ومن حقيقة دور هم، حتى يرد التفصيل الكامل بعد قليل.
وفي رسم هذه الملامح نجد خصائص التعبير القرآنية، التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون، إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة..
وهنا.. في عدد قليل من الكلمات والعبارات في أول السورة ترتسم ثلاث صور لثلاثة أنماط من النفوس.
كل نمط منها نموذج حي لمجموعات ضخمة من البشر. نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان ومكان.
حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة.. وهذا هو الإعجاز..
في تلك الكلمات القلائل والآيات المعدودات ترتسم هذه الصور واضحة كاملة، نابضة بالحياة، دقيقة السمات، مميزة الصفات. حتى ما يبلغ الوصف المطول والإطناب المفصل شيئاً وراء هذه اللمسات السريعة المبينة، الجميلة النسق، الموسيقية الإيقاع.
فإذا انتهى السياق من عرض هذه الصور الثلاث دعا الناس.. الناس جميعاً.. إلى الصورة الأولى وناداهم..(1/37)
ناداهم كافة.. أن يفيئوا إليها. أن يفيئوا إلى عبادة الله الواحد، والخالق الواحد، والرازق الواحد، بلا شركاء ولا أنداد. وتحدى الذين يرتابون في رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وتنزيل الكتاب عليه أن يأتوا بسورة من مثله. وأنذرهم إذا تولوا عذابا مفزعاً مرهوباً وبشر المؤمنين وصور ما ينتظر هم من نعيم مقيم.
ثم أخذ يرد على اليهود والمنافقين الذين استنكروا ضرب الله للأمثال في القرآن، واتخذوا منه وسيلة للتشكيك في أنه منزل من عند الله. وحذرهم ما وراء ضرب الأمثال، أن يزيدهم ضلالاً- كما يزيد المؤمنين هدى- ثم استنكر أن يكفروا بالله المحيي المميت الخالق المدبر، العليم بكل شيء في هذا الوجود، وهو الذي أنعم على البشر فخلق لهم ما في الأرض جميعاً واستخلفهم في هذا الملك الطويل العريض.
تلك مجمل الخطوط الرئيسية في هذا الدرس الأول من سورة البقرة. فلنحاول أن نتناول هذا الإجمال بشيء من التفصيل.
1- تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة: «ألف. لام. ميم» . يليها الحديث عن كتاب الله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» ..
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية. وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة. نختار منها وجها. إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جواباً! والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا. وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس.. أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة. أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائناً في دقته ما يكون.. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر.. وهكذا القرآن.. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها الله قرآناً وفرقاناً، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة! 2- «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ» ..
ومن أين يكون ريب أو شك ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع، ظاهرة في عجز هم عن صياغة مثله، من مثل هذه الأحرف المتداولة بينهم، المعروفة لهم من لغتهم؟
«ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» ..
الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونوراً ودليلاً ناصحاً مبيناً؟ .. للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي(1/38)
التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيىء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب.
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم. بقلب خالص. ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً، خائفاً، حساساً، مهيأ للتلقي.. ورد أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى..
فذلك التقوى.. حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً. وعشرات غيرها من الأشواك! 3- ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة، كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ..
إن السمة الأولى للمتقين هي الشعورية الإيجابية الفعالة. الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جائت ليلتقي عليها الناس جميعاً، ولتهيمن على البشرية جميعا، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعر هم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، وشاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام.
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا..
«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» .. فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس- أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه(1/39)
وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود. وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده..
حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.. فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال. وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال.. ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه- احتراما لمنطقه ذاته- أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل و. ن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة.. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا «تقدمية» وهو النكسة التي وفى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء.
يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود، ويحنون جباههم لله لا للعبيد والقلب الذي يسجد لله حقاً، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك.
«وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .. فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر. وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس، لا بين أظفار ومخالب ونيوب! والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة، وسائر ما ينفق في وجوه البر. وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه. وقد ورد في حديث رسول الله- صلى الله عليه(1/40)
وسلم- بإسناده لفاطمة بنت قيس «إن في المال حقاً سوى الزكاة» «1» .. وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة.
4- «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» .. وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووراثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها.. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح.. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها.
هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد. قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان، وهو ثابت مطرد، كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
«وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .. وهذه خاتمة السمات. الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملاً، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى وأن العدالة المطلقة في انتظاره، ليطمئن قلبه، وتستقر بلابله، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف.
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.
وكل صفة من هذه الصفات- كما رأينا- ذات قيمة في الحياة الإنسانية، ومن ثم كانت هي صفات المتقين. وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعاً، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها اتجاهات وأعمال وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة وتصل الإنسان بالله في سره وجهره. وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكلّي يشمل عالمي الغيب الشهادة، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً بجميل العطاء، وشعوراً بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين.. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئاً عظيما. شيئاً عظيماً حقاً بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعاً..
ومن ثم كان هذا التقرير:
5- «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ..
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا. والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم.
__________
(1) أخرجه الترمذي.(1/41)
6- فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين. وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
وهنا نجد التقابل تاماً بين صورة المتقين وصورة الكافرين.. فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين. إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر.. إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك، مغلقة كلها هنا. وإن الوشائج الموصولة كلها هناك، مقطوعة كلها هنا:
7- «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ» ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى.
«وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» .. فلا نور يوصوص لها ولا هدى.! وقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقاً على استهتارهم بالإنذار، حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار.
إنها صورة صلدة، مظلمة، جامدة، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة. حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار..
«وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد، الذي لا يستجيب للنذير والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار كما علم الله من طبعهم المطموس العنيد.
8- ثم ننتقل- مع السياق- إلى الصورة الثالثة. أو إلى النموذج الثالث:
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها. وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها. ولكنها تتلوى في الحس. وتروغ من البصر، وتخفى وتبين.. إنها صورة المنافقين:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا. وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجاً مكروراً في أجيال البشرية جميعاً. نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح. وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس، وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل. وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل.
إنهم يدّعون الإيمان بالله واليوم الآخر. وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.(1/42)
9- وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم، فهم لا يخادعون المؤمنين، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون:
«يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا» ..
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من الله كريم.. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائماً ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين. إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره. وشأنهم شأنه. يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجهاً إليه- سبحانه- وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله- جل شأنه- يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟! وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم.
تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار. وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين. ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين..
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر. ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء.. ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:
«وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَما يَشْعُرُونَ» ..
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور! إن الله بخداعهم عليم والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم. أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين. وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه، والنفاق الذي يظهرونه. وينتهون بها إلى شر مصير! 10- ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة؟ ولماذا يخادعون هذا الخداع؟
«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ..
في طبيعتهم آفة. في قلوبهم علة. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم. ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه:
«فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» ..
فالمرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيراً، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد. سنة لا تتخلف.
سنة الله في الأشياء والأوضاع، وفي المشاعر والسلوك. فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم. المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين:
«وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» ..(1/43)
11- وصفة أخرى من صفاتهم- وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول- صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» ..
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» .. لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: «قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» ..
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم.
والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية..
12- ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:
«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» ..
13- ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:
«وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» ..
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء. إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة، وأسلموا وجوههم لله، وفتحوا صدورهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين.. هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم..
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول- صلى الله عليه وسلم- ويرونه خاصاً بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام! ومن ثم قالوا قولتهم هذه: «أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟»
.. ومن ثم جاءهم الرد الحاسم، والتقرير الجازم:
«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم؟! 14- ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين.. إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، والسفه والادعاء، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:
«وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» ..
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيئ براعة. وهو في حقيقته ضعف وخسة. فالقوي ليس لئيماً ولا خبيثاً، ولا خادعاً ولا متآمراً ولا غمازاً في الخفاء لمازاً. وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة،(1/44)
ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين، ليتقوا الأذى، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.. هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم- وهم غالباً- اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سنداً وملاذاً.. هؤلاء المنافقون كانوا «إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» - أي بالمؤمنين- بما نظهره من الإيمان والتصديق! 15- وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:
«اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ..
وما أبأس من يستهزىء به جبار السماوات والأرض وما أشقاه!! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب، وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب.
وهو يقرأ: «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» .. فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ، غافلة عن المقبض المكين.. وهذا هو الاستهزاء الرعيب، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير.
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها. حقيقة تولي الله- سبحانه- للمعركة التي يراد بها المؤمنون. وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله، ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين، المتروكين في عماهم يخبطون، المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم، والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك، وهم غافلون يعمهون! 16- والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم، ومدى خسرانهم:
«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا. كان الهدى مبذولا لهم. كان في أيديهم. ولكنهم «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى» ، كأغفل ما يكون المتجرون:
«فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» ..
17- ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية..
ذلك أن كلاًّ من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء، وفيه بساطة على معنى من المعاني..
الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقة. وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات، ومزيد من الخطوط كما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة..
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.
وزيادة في الإيضاح، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة. ويكشف عن طبيعتها، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا:(1/45)
«مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارا، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» ..
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا. ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه..
لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها. عندئذ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» الذي طلبوه ثم تركوه: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» جزاء إعراضهم عن النور! 18- وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون، لتلقي الأصداء والأضواء، والانتفاع بالهدى والنور، فهم قد عطلوا آذانهم فهم «صُمٌّ» وعطلوا ألسنتهم فهم «بُكْمٌ» وعطلوا عيونهم فهم «عُمْيٌ» .. فلا رجعة لهم إلى الحق، ولا أوبة لهم إلى الهدى. ولا هداية لهم إلى النور! 20، 19- ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.. صيب من السماء هاطل غزير «فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» .. «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» .. «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا» .. أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون. وهم مفزعون: «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ»
..
إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عند ما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم- عن طريق التأثر الإيحائي- حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية.
وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس «1» .
21- وعند ما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشرية جمعاء، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة. الصورة النقية الخالصة. الصورة العاملة النافعة. الصورة المهتدية المفلحة..
صورة المتقين:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم. ربهم الذي تفرذ بالخلق، فوجب أن يتفرد بالعبادة.. وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه:
__________
(1) يراجع فصل: «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(1/46)
«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» .. لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية. صورة العابدين لله.
المتقين لله. الذين أدوا حق الربوبية الخالقة، فعبدوا الخالق وحده رب الحاضرين والغابرين، وخالق الناس أجمعين، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك:
22- «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» ..
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكناً مريحاً وملجأ واقياً كالفراش.. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع. ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة! «وَالسَّماءَ بِناءً» ..
فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة.
وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها. فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.
«وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» ..
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك.. والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعاً. فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيوناً أو تحفر آباراً، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
وقصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي: وحدة الخالق لكل الخلائق: «الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» .. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
«فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم. وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء. وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!(1/47)
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.. عن ابن عباس قال: «الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل:
لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك» ... وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ماشاء الله وشئت. قال: «أجعلتني لله نداً؟» ! هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله.. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!! 23- ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان المنافقون يرتابون فيها- كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها- فهنا يتحدى القرآن الجميع. إذ كان الخطاب إلى «الناس» جميعاً. يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة:
«وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال.. يصف الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالعبودية لله: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا» .. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:
فهو أولاً تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك. وهو ثانياً تقرير لمعنى العبودية، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده، واطراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي في مقام الوحي- وهو أعلى مقام- يدعى بالعبودية لله، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام.
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة.. فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم، فإن كانوا يرتابون في تنزيله، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله وليدعوا من يشهد لهم بهذا- من دون الله- فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه.
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبعدها، وما يزال قائماً إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها.. وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزاً واضحاً قاطعاً.
24- وسيظل كذلك أبداً. سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا- وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ..
والتحدي هنا عجيب، والجزم بعدم إمكانه أعجب، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة. وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها. ولقد كان المجال أمامهم مفتوحاً، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعاً، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس..(1/48)
وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية.
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر.. لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر. والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز، أو غرض يلبس الحق بالباطل..
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
«فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ..
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين.
الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» .. والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون، ثم لا يستجيبون.. فهم إذن حجارة من الحجارة! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر! على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع: مشهد النار التي تأكل الأحجار.
ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار.. في النار..
25- وفي مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد المقابل. مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين:
«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ، وَهُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها- إلى جانب الأزواج المطهرة- تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل- أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل- فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جواً من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد! وهذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره. ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفاً لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان.
خلايا حية من نوع الخلايا الحية. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟
ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان- على هذا التشابه- ليبلغ أحياناً أبعد مما بين الأرض والسماء! وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.(1/49)
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله انداداً، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟
26- بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن:
«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما، بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد ناراً ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق- وربما كان اليهود كذلك والمشركون- قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .. وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» ..
نقول: إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين- وربما كان اليهود والمشركون- قد وجدوا في هذه المناسبة منفذاً للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه! .. وكان هذا طرفاً من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة.
فجاءت هذه الآيات دفعاً لهذا الدس، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيراً لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطميناً للمؤمنين أن ستزيدهم إيماناً.
«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما، بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» ..
فالله رب الصغير والكبير، وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل.
إنها معجزة الحياة. معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله.. على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير. وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره.
والله- جلت حكمته- يريد بها اختبار القلوب، وامتحان النفوس:
«فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» ..
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله وبما يعرفون من حكمته. وقد وهبهم الإيمان نوراً في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحاً في مداركهم، واتصالاً بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله..
«وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟» ..
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره. ثم هو سؤال من لا يرجو لله(1/50)
وقاراً، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله! هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
«يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» ..
والله- سبحانه- يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها، ويتلقاها عباده، كل وفق طبيعته واستعداده، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه. والابتلاء واحد.. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق.. الشدة تسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعاً وخشية. وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعداً، وتخرجه من الصف إخراجاً. والرخاء يسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكراً. وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء.. وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس.. «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» .. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، «وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً» ممن يدركون حكمة الله. «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» .. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه! 27- ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء، كما فصل في أول السورة صفة المتقين فالمجال ما يزال- في السورة- هو مجال الحديث عن تلك الطوائف، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون؟
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال، لأن المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج، لا مجال تسجيل حادثة، أو تفصيل واقعة.. إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها. فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع.. إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد. إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة.. ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون.
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات! «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» ..
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة: إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي.. أن يعرف خالقه، وأن يتجه إليه بالعبادة. وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أنداداً وشركاء.. وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم- كما(1/51)
سيجيء-: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته.. وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون.
وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه، فكل عهد دون الله منقوض. فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهداً من العهود.
«وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» ..
والله أمر بصلات كثيرة.. أمر بصلة الرحم والقربى. وأمر بصلة الإنسانية الكبرى. وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها.. وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى، وانحلت الروابط، ووقع الفساد في الأرض، وعمت الفوضي.
«وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» ..
والفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله، ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها.
هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتماً، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض، ومنهج الله بعيد عن تصريفها، وشريعة الله مقصاة عن حياتها. وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال، وللحياة والمعاش وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء.
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله.. ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين.
28- وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع، مجرد من كل حجة أو سند.. والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته، والاعتراف به، والتسليم بمقتضياته. يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم. لقد كانوا أمواتاً فأحياهم. كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة. إنهم أحياء، فيهم حياة. فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات. فمن أين جاءت؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات. من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزاً عن كل ما عداها من الموات؟ ..
لقد جاءت من عند الله.. هذا هو أقرب جواب.. وإلا فليقل من لا يريد التسليم: أين هو الجواب! وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام:(1/52)
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ؟» ..
كنتم أمواتاًً من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض فأنشأ فيكم الحياة «فَأَحْياكُمْ» .. فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة؟
«ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» ..
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلاً، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة، وتفرض نفسها عليهم فرضاً، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال.
«ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ..
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة. وهي، حين يتدبرون النشأة الأولى، لا تدعو إلى العجب، ولا تدعو إلى التكذيب.
«ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
كما بدأكم تعودون، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه، ويقضي فيكم قضاءه..
وهكذا في آية واحدة قصيرة يُفتح سجل الحياة كلها ويُطوى، وتُعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة البارئ: ينشرها من همود الموت أول مرة، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى، ثم يحييها كرة أخرى، وإليه مرجعها في الآخرة، كما كانت منه نشأتها في الأولى.. وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة.
29- ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية.
ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن «قبل وبعد» اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!! فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي وفي نظام المجتمع الإسلامي..
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
إن كلمة «لَكُمْ» هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان(1/53)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفاً في الأرض، مالكاً لما فيها، فاعلاً مؤثراً فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبداً للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعاً للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعاً للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولاً، واستعلاء الإنسان أولاً، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا- وهو يستنكر كفرهم به- ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعاً، ولكنها- إلى ذلك- سيادتهم على ما في الأرض جميعاً، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعاً. هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» ..
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها. اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
«وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير. حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافاً بالجميل.
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة.. وكلها تركيز على الإيمان، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين..
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 39]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)(1/54)
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات. وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة، والحلقة التي تعرض منها، والصورة التي تأتي عليها، والطريقة التي تؤدى بها. تنسيقا للجو الروحي والفكري والفني الذي تعرض فيه. وبذلك تؤدي دورها الموضوعي، وتحقق غايتها النفسية، وتلقي إيقاعها المطلوب.
ويحسب أناس أن هنالك تكراراً في القصص القرآني، لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى.
ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة، من ناحية القدر الذي يساق، وطريقة الأداء في السياق. وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه، ينفي حقيقة التكرار.
ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقاً للحوادث أو تصرفاً فيها، يقصد به إلى مجرد الفن- بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع- ولكن الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن، وهو مستقيم الفطرة، مفتوح البصيرة، هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع، كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء. والقرآن كتاب دعوة، ودستور نظام، ومنهج حياة، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ. وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار، بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق، وتحقق الجمال الفني الصادق، الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق، ولكن يعتمد على إبداع العرض، وقوة الحق، وجمال الأداء «1» .
وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل. ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلاً بعد جيل كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر، وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم.. وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضى ونوراً وشفافية ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز- عنصر الإيمان- وأصالته في الوجود. كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة..
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق»(1/55)
ومن ثم كان القصص شطراً كبيراً من كتاب الدعوة الكريم.
فلننظر الآن في قصة آدم- كما جاءت هنا- في ضوء هذه الإيضاحات..
إن السياق- فيما سبق- يستعرض موكب الحياة، وبل موكب الوجود كله. ثم يتحدث عن الأرض- في معرض آلاء الله على الناس- فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم.. فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض، ومنحه مقاليدها، على عهد من الله وشرط، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة.
كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله (كما سيجيء) فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق.
فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة:
30- ها نحن أولاء- بعين البصيرة في ومضات الاستشراف- في ساحة الملأ الأعلى وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى:
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ..
وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله- بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه.
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض- وتحكم الكون كله- والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كي لا يقع التصادم بين هذه التصادم بين هذه النواميس وتلك وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة! وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة. وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض! «قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟» ..
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنه سيسفك الدماء.. ثم هم- بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق، وإلا السلام الشامل- يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له، هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق.. وهو متحقق بوجودهم هم، يسبحون بحمد الله ويقدسون له،(1/56)
ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته! لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا، في بناء هذه الأرض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه. هذا الذي قد يفسد أحياناً، وقد يسفك الدماء أحيانا، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل. خير النمو الدائم، والرقي الدائم. خير الحركة الهادمة البانية. خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء، والخبير بمصائر الأمور:
«قالَ: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
31- «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» ..
ها نحن أولاء- بعين البصيرة في ومضات الاستشراف- نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى.. ها نحن أولاء نشهد طرفاً من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة. سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات. سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها- وهي ألفاظ منطوقة- رموزاً لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض. ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه.. الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة! الشأن شأن جبل. فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس ... إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات.
32- فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم. ومن ثم لم توهب لهم. فلما علم الله آدم هذا السر، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء. لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص.. وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم، والاعتراف بعجزهم، والإقرار بحدود علمهم، وهو ما علمهم.. وعرف آدم.. 33- ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم:
«قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ؟» ..
«وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا» ..
إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة. لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة..
إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.
34- ولقد سجد الملائكة امتثالاً للأمر العلوي الجليل..(1/57)
«إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» ..
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة: عصيان الجليل سبحانه! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله. والعزة بالإثم. والاستغلاق عن الفهم.
ويوحي السياق أن ابليس لم يكن من جنس الملائكة، إنما كان معهم. فلو كان منهم ما عصى. وصفتهم الأولى أنهم «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» .. والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء، كما تقول: جاء بنو فلان إلا أحمد. وليس منهم إنما هو عشير هم وإبليس من الجن بنص القرآن، والله خلق الجان من مارج من نار. وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة.
35- والآن. لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة. المعركة بين خليقة الشر في إبليس، وخليفة الله في الأرض.
المعركة الخالدة في ضمير الإنسان. المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان لشهوته. ويبعد عن ربه:
«وَقُلْنا: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» ..
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة.. إلا شجرة.. شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض. فبغير محظور لا تنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالإرادة هي مفرق الطريق. والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بدوا في شكل الآدميين! 36- «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها، فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» ..
ويا للتعبير المصور: «فَأَزَلَّهُمَا» .. إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها. وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي! عندئذ تمت التجربة: نسي آدم عهده، وضعف أمام الغواية. وعندئذ حقت كلمة الله، وصرح قضاؤه:
«وَقُلْنَا: اهْبِطُوا.. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» ..
وكان هذا إيذاناً بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها. بين الشيطان والإنسان. إلى آخر الزمان.
37- ونهض آدم من عثرته، بما ركب في فطرته، وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عند ما يثوب إليها، ويلوذ بها.
«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ..
وتمت كلمة الله الأخيرة، وعهده الدائم مع آدم وذريته. عهد الاستخلاف في هذه الأرض، وشرط الفلاح فيها أو البوار.
38- «قُلْنَا: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر. وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار ...(1/58)
وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة. قصة البشرية الأولى.
لقد قال الله تعالى للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى. ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة؟ وفيم إذن كان بلاء آدم؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟
لعلني المح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعداداً. كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه. كانت تدريباً له على تلقي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.
إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة.. إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة! لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته، مزوداً بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلاً، استعداداً للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيراً..
وبعد.. مرة أخرى.. فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان؟
ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ .. كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟ ..
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض، وليس من مستلزمان الخلافة أن نطلع على هذا الغيب. وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرّفه بأسرارها، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب، فيما لا جدوى له في معرفته. وما يزال الإنسان مثلاً على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلاً مطلقاً، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر، لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة، بل ربما كان معوِّقا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك الوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه، لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره. وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع، ذاهب سدى، بلا ثمرة ولا جدوى.
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر.. فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة. والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل، وليست في طوق وسائله، ولا هي ضرورية له في وظيفته! إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة. ولكن أضر منه وأخطر، التنكر للمجهول كله وإنكاره، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به.. إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق.
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه، وحسبنا ما يقص لنا عنه، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا، ويصلح سرائرنا ومعاشنا. ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية، ومن تصور للوجود وارتباطاته، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه.. فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى.(1/59)
وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مروراً مجملا سريعاً.
إن أبرز إيحاءات قصة آدم- كما وردت في هذا الموضع- هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض، ولمكانه في نظام الوجود، وللقيم التي يوزن بها. ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه..
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له. وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى، وفي رعاية الله له أولاً وأخيراً..
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء.
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها- كما تقدم ذلك نصاً- فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي.. لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي، أو إنتاج أي شيء مادي، أو تكثير أي عنصر مادي.. فهذه الماديات كلها مخلوقة- أو مصنوعة- من أجله. من أجل تحقيق إنسانيته. من أجل تقرير وجوده الإنساني. فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كلامته.
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول. فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها. وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر! إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض، عاملاً مهما في نظام الكون، ملحوظا في هذا النظام. فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار، ومع الشموس والكواكب.. وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة.. فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية، ولا تسمح له أن يتعداه؟! وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره..
وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره، إلا أثراً من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان، وحقيقة دوره في هذه الأرض! كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته. فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ... » وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية- هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية، ولكن بحيث لا(1/60)
تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا- ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته. بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية، وإهدار لكل القيم الأدبية، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان «1» ! وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء.. إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه. بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه. وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى. كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق! وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة. إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر. بين الحق والباطل. بين الهدى والضلال.. والإنسان هو نفسه ميدان المعركة. وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها. وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان! وأخيراً تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة.. إن الخطيئة فردية والتوبة فردية. في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض.. ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده- كما تقول نظرية الكنيسة- وليس هنالك تكفير لاهوتي، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى- عليه السلام- (ابن الله بزعمهم) قام به بصلبه، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم! .. كلا! خطيئة آدم كانت خطيئة الشخصية، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة. وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة.. تصور مريح صريح. يحمل كل إنسان وزره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط.. «إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» ..
هذا طرف من إيحاءات قصة آدم- في هذا الموضع- نكتفي به في ظلال القرآن. وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية، يحكمها الخلق والخير والفضيلة. ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي وإيضاح القيم التي يرتكز عليها. وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله، متجه إلى الله، صائر إلى الله في نهاية المطاف.. عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله، والتقيد بمنهجه في الحياة. ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله، أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان. وليس هناك طريق ثالث.. إما الله وإما الشيطان. إما الهدى وإما الضلال. إما الحق وإما الباطل. إما الفلاح وإما الخسران.. وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الأولى، التي تقوم عليها سائر التصورات، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان..
__________
(1) يراجع بتوسع كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» لمحمد قطب- «دار الشروق» .(1/61)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 74]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)(1/62)
ابتداء من هذا المقطع في السورة يواجه السياق بني إسرائيل، أولئك الذين واجهوا الدعوة في المدينة مواجهة نكرة وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة وكادوا لها كيداً موصولاً، لم يفتر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة وتبين لهم أنه في طريقه إلى الهيمنة على مقاليدها، وعزلهم من القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم، مذ وحد الأوس والخزرج، وسد الثغرات التي كانت تنفذ منها يهود، وشرع لهم منهجاً مستقلاً، يقوم على أساس الكتاب الجديد.. هذه المعركة التي شنها اليهود على الإسلام والمسلمين منذ ذلك(1/63)
التاريخ البعيد ثم لم يخب أوارها حتى اللحظة الحاضرة، بنفس الوسائل، ونفس الأساليب، لا يتغير إلا شكلها أما حقيقتها فباقية، وأما طبيعتها فواحدة، وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطاردهم من جهة إلى جهة، ومن قرن إلى قرن، فلا يجدون لهم صدراً حنوناً إلا في العالم الإسلامي المفتوح، الذي ينكر الاضطهادات الدينية والعنصرية، ويفتح أبوابه لكل مسالم لا يؤذي الإسلام ولا يكيد للمسلمين! ولقد كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة الجديدة ويؤمن للرسول الجديد مذ كان القرآن يصدق ما جاء في التوراة في عمومه ومذ كانوا هم يتوقعون رسالة هذا الرسول، وعندهم أوصافه في البشارات التي يتضمنها كتابهم وهم كانوا يستفتحون به على العرب المشركين.
وهذا الدرس هو الشطر الأول من هذه الجولة الواسعة مع بني إسرائيل بل هذه الحملة الشاملة لكشف موقفهم وفضح كيدهم بعد استنفاد كل وسائل الدعوة معهم لترغيبهم في الإسلام، والانضمام إلى موكب الإيمان بالدين الجديد.
يبدأ هذا الدرس بنداء علوي جليل إلى بني إسرائيل، يذكرهم بنعمته- تعالى- عليهم ويدعوهم إلى الوفاء بعهدهم معه ليوفي بعهده معهم، وإلى تقواه وخشيته يمهد بها لدعوتهم إلى الإيمان بما أنزله مصدقا لما معهم. ويندد بموقفهم منه، وكفرهم به أول من يكفر! كما يندد بتلبيسهم الحق بالباطل وكتمان الحق ليموهوا على الناس- وعلى المسلمين خاصة- ويشيعوا الفتنة والبلبلة في الصف الإسلامي، والشك والارتياب في نفوس الداخلين في الإسلام الجديد. ويأمرهم أن يدخلوا في الصف. فيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويركعوا مع الراكعين، مستعينين على قهر نفوسهم وتطويعها للاندماج في الدين الجديد بالصبر والصلاة. وينكر عليهم أن يكونوا يدعون المشركين إلى الإيمان، وهم في الوقت ذاته يأبون أن يدخلوا في دين الله مسلمين! ثم يبدأ في تذكيرهم بنعم الله التي أسبغها عليهم في تاريخهم الطويل. مخاطباً الحاضرين منهم كما لو كانوا هم الذين تلقوا هذه النعم على عهد موسى- عليه السلام- وذلك باعتبار أنهم أمة واحدة متضامنة الأجيال، متحدة الجبلة. كما هم في حقيقة الأمر وفق ما بدا من صفاتهم ومواقفهم في جميع العصور! ويعاود تخويفهم باليوم الذي يُخاف، حيث لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها فدية، ولا يجدون من ينصرهم ويعصمهم من العذاب.
ويستحضر أمام خيالهم مشهد نجاتهم من فرعون وملئه كأنه حاضر. ومشهد النعم الأخرى التي ظلت تتوالى عليهم من تظليل الغمام إلى المن والسلوى إلى تفجير الصخر بالماء. ثم يذكرهم بما كان منهم بعد ذلك من انحرافات متوالية، ما يكاد يردهم عن واحدة منها حتى يعودوا إلى أخرى، وما يكاد يعفو عنهم من معصية حتى يقعوا في خطيئة، وما يكادون ينجون من عثرة حتى يقعوا في حفرة.. ونفوسهم هي هي في التوائها وعنادها وإصرارها على الالتواء والعناد، كما أنها هي هي في ضعفها عن حمل التكاليف، ونكولها عن الأمانة، ونكثها للعهد، ونقضها للمواثيق مع ربها ومع نبيها.. حتى لتبلغ أن تقتل أنبياءها بغير الحق، وتكفر بآيات ربها، وتعبد العجل وتجدف في حق الله. فترفض الإيمان لنبيها حتى ترى الله جهرة وتخالف عما أوصاها به الله وهي تدخل القرية فتفعل وتقول غير ما أمرت به وتعتدي في السبت، وتنسى ميثاق الطور، وتماحل وتجادل في ذبح البقرة التي أمر الله بذبحها لحكمة خاصة ...(1/64)
وهذا كله مع الإدعاء العريض بأنها هي وحدها المهتدية وأن الله لا يرضى إلا عنها، وأن جميع الأديان باطلة وجميع الأمم ضالة عداها! مما يبطله القرآن في هذه الجولة، ويقرر أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا من جميع الملل، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
هذه الحملة- سواء ما ورد منها في هذا الدرس وما يلي منها في سياق السورة- كانت ضرورية أولاً وقبل كل شيء لتحطيم دعاوى يهود، وكشف كيدها، وبيان حقيقتها وحقيقة دوافعها في الدس للإسلام والمسلمين.
كما كانت ضرورية لتفتيح عيون المسلمين وقلوبهم لهذه الدسائس والمكايد التي توجه إلى مجتمعهم الجديد، وإلى الأصول التي يقوم عليها كما توجه إلى وحدة الصف المسلم لخلخلته وإشاعة الفتنة فيه.
ومن جانب آخر كانت ضرورية لتحذير المسلمين من مزالق الطريق التي عثرت فيها أقدام الأمة المستخلفة قبلهم، فحرمت مقام الخلافة، وسلبت شرف القيام على أمانة الله في الأرض، ومنهجه لقيادة البشر. وقد تخللت هذه الحملة توجيهات ظاهرة وخفية للمسلمين لتحذيرهم من تلك المزالق كما سيجيء في الشطر الثاني منها.
وما كان أحوج الجماعة المسلمة في المدينة إلى هذه وتلك. وما أحوج الأمة المسلمة في كل وقت إلى تملي هذه التوجيهات، وإلى دراسة هذا القرآن بالعين المفتوحة والحس البصير، لتتلقى منه تعليمات القيادة الإلهية العلوية في معاركها التي تخوضها مع أعدائها التقليديين ولتعرف منها كيف ترد على الكيد العميق الخبيث الذي يوجهونه إليها دائبين، بأخفى الوسائل، وأمكر الطرق. وما يملك قلب لم يهتد بنور الإيمان، ولم يتلق التوجيه من تلك القيادة المطلعة على السر والعلن والباطن والظاهر، أن يدرك المسالك والدروب الخفية الخبيثة التي يتدسس فيها ذلك الكيد الخبيث المريب ...
ثم نلحظ من جانب التناسق الفني والنفسي في الأداء القرآني، أن بدء هذه الجولة يلتحم بختام قصة آدم، وبالإيحاءات التي أشرنا إليها هناك، وهذا جانب من التكامل في السياق القرآني بين القصص والوسط الذي تعرض فيه «1» :
لقد مضى السياق قبل ذلك بتقرير أن الله خلق ما في الأرض جميعاً للإنسان. ثم بقصة استخلاف آدم في الأرض بعهد الله الصريح الدقيق وتكريمه على الملائكة والوصية والنسيان، والندم والتوبة، والهداية والمغفرة، وتزويده بالتجربة الأولى في الصراع الطويل في الأرض، بين قوى الشر والفساد والهدم ممثلة في إبليس، وقوى الخير والصلاح والبناء ممثلة في الإنسان المعتصم بالإيمان.
مضى السياق بهذا كله في السورة. ثم أعقبه بهذه الجولة مع بني إسرائيل، فذكر عهد الله معهم ونكثهم له ونعمته عليهم وجحودهم بها ورتب على هذا حرمانهم من الخلافة، وكتب عليهم الذلة، وحذر المؤمنين كيدهم كما حذرهم مزالقهم. فكانت هناك صلة ظاهرة بين قصة استخلاف آدم وقصة استخلاف بني إسرائيل، واتساق في السياق واضح وفي الأداء.
__________
(1) يراجع فصل القصة في القرآن وفي كتاب «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(1/65)
والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى مواقف منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب.
وقد وردت القصة في السور المكية التي نزلت قبل هذا، ولكنها هناك كانت تذكر- مع غيرها- لتثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة. فأما هنا فالقصد هو ما أسلفنا من كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرها كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود.. وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والقرآن المدني اختلفت طريقة العرض وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة (كما سيجيء عند استعراض السور المكية السابقة في ترتيب النزول) .
ومن مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه، متممة لأهدافه وتوجيهاته.. وهي هنا متسقة مع السياق قبلها. سياق تكريم الإنسان، والعهد إليه والنسيان. متضمنة إشارات إلى وحدة الإنسانية، ووحدة دين الله المنزل إليها، ووحدة رسالاته، مع لفتات ولمسات للنفس البشرية ومقوماتها، وإلى عواقب الانحراف عن هذه المقومات التي نيطت بها خلافة الإنسان في الأرض فمن كفر بها كفر بإنسانيته وفقد أسباب خلافته، وارتكس في عالم الحيوان.
وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة، توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة المسلمة، وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى..
فلننظر بعد هذا الإجمال في استعراض النص القرآني:
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ»
..
40- إن المستعرض لتاريخ بني إسرائيل ليأخذه العجب من فيض الآلاء التي أفاضها الله عليهم، ومن الجحود المنكر المتكرر الذي قابلوا به هذا الفيض المدرار.. وهنا يذكرهم الله بنعمته التي أنعمها عليهم إجمالاً، قبل البدء في تفصيل بعضها في الفقر التالية. يذكرهم بها ليدعوهم بعدها إلى الوفاء بعهدهم معه- سبحانه- كي يتم عليهم النعمة ويمد لهم في الآلاء:
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» ..
فأي عهد هذا الذي يشار إليه في هذا المقام؟ أهو العهد الأول، عهد الله لآدم: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..؟ أم هو العهد الكوني السابق على عهد الله هذا مع آدم. العهد المعقود بين فطرة الإنسان وبارئه: أن يعرفه ويعبده وحده لا شريك له. وهو العهد الذي لا يحتاج إلى بيان، ولا يحتاج إلى برهان، لأن فطرة الإنسان بذاتها تتجه إليه بأشواقها اللدنية، ولا يصدها عنه إلا الغواية والانحراف؟ أم هو العهد(1/66)
الخاص الذي قطعه الله لإبراهيم جد إسرائيل. والذي سيجيء في سياق السورة: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..؟ أم هو العهد الخاص الذي قطعه الله على بني إسرائيل وقد رفع فوقهم الطور، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة، والذي سيأتي ذكره في هذه الجولة؟
إن هذه العهود جميعاً إن هي إلا عهد واحد في صميمها. إنه العهد بين البارئ وعباده أن يصغوا قلوبهم إليه، وأن يسلموا أنفسهم كلها له. وهذا هو الدين الواحد. وهذا هو الإسلام الذي جاء به الرسل جميعاً وسار موكب الإيمان يحمله شعاراً له على مدار القرون.
ووفاء بهذا العهد يدعو الله بني إسرائيل أن يخافوه وحده وأن يفردوه بالخشية:
«وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» ..
41- ووفاء بهذا العهد كذلك يدعو الله بني إسرائيل أن يؤمنوا بما أنزله على رسوله، مصدقاً لما معهم وألا يسارعوا إلى الكفر به، فيصبحوا أول الكافرين وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين:
«وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» ..
فما الإسلام الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- إلا الدين الواحد الخالد. جاء به في صورته الأخيرة وهو امتداد لرسالة الله، ولعهد الله منذ البشرية الأولى، يضم جناحيه على ما مضى، ويأخذ بيد البشرية فيما سيأتي ويوحد بين «العهد القديم» «1» و «والعهد الجديد» «2» ويضيف ما أراده الله من الخير والصلاح للبشرية في مستقبلها الطويل ويجمع بذلك بين البشر كلهم إخوة متعارفين يلتقون على عهد الله، ودين الله لا يتفرقون شيعاً وأحزاباً، وأقواماً وأجناساً ولكن يلتقون عباداً لله، مستمسكين جميعاً بعهده الذي لا يتبدل منذ فجر الحياة.
وينهى الله بني إسرائيل أن يكون كفرهم بما أنزله مصدقاً لما معهم، شراء للدنيا بالآخرة، وإيثاراً لما بين أيديهم من مصالح خاصة لهم- وبخاصة أحبارهم الذين يخشون أن يؤمنوا بالإسلام فيخسروا رياستهم، وما تدره عليهم من منافع وإتاوات- ويدعوهم إلى خشيته وحده وتقواه..
«وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ» ..
والثمن والمال والكسب الدنيوي المادي.. كله شنشنة يهود من قديم!! وقد يكون المقصود بالنهي هنا هو ما يكسبه رؤساؤهم من ثمن الخدمات الدينية والفتاوى المكذوبة، وتحريف الأحكام حتى لا تقع العقوبة على الأغنياء منهم والكبراء، كما ورد في مواضع أخرى، واستبقاء هذا كله في أيديهم بصد شعبهم كله عن الدخول في الإسلام، حيث تفلت منهم القيادة والرياسة.. على أن الدنيا كلها- كما قال بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية- ثمن قليل، حين تقاس إلى الإيمان بآيات الله، وإلى عاقبة الإيمان في الآخرة عند الله.
42- ويمضي السياق يحذرهم ما كانوا يزاولونه من تلبيس الحق بالباطل، وكتمان الحق وهم يعلمونه، بقصد بلبلة الأفكار في المجتمع المسلم، وإشاعة الشك والاضطراب:
__________
(1) التوراة.
(2) الإنجيل.(1/67)
«وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ. وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
ولقد زاول اليهود هذا التلبيس والتخليط وكتمان الحق في كل مناسبة عرضت لهم، كما فصل القرآن في مواضع منه كثيرة وكانوا دائما عامل فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي، وعامل اضطراب وخلخلة في الصف المسلم. وسيأتي من أمثلة هذا التلبيس الشيء الكثير! 43- ثم يدعوهم إلى الاندماج في موكب الإيمان، والدخول في الصف، وأداء عباداته المفروضة، وترك هذه العزلة والتعصب الذميم، وهو ما عرفت به يهود من قديم:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» ..
44- ثم ينكر عليهم- وبخاصة أحبارهم- أن يكونوا من الدعاة إلى الإيمان بحكم أنهم أهل كتاب بين مشركين، وهم في الوقت ذاته يصدون قومهم عن الإيمان بدين الله، المصدق لدينهم القديم:
«أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
ومع أن هذا النص القرآني كان يواجه ابتداء حالة واقعة من بني إسرائيل، فإنه في إيحائه للنفس البشرية، ولرجال الدين بصفة خاصة، دائم لا يخص قوماً دون قوم ولا يعني جيلا دون جيل.
إن آفة رجال الدين- حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان! كما كان يفعل أحبار يهود! والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها. وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين.
إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق..
عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق.. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها.. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة.
والمطابقة بين القول والفعل، وبين العقيدة والسلوك، ليست مع هذا أمراً هيناً، ولا طريقاً معبداً. إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة. وإلى صلة بالله، واستمداد منه، واستعانة بهديه فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيراً ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره، أو عما يدعو إليه غيره.
والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي، أقوى من كل قوي. قوي على شهوته وضعفه. قوي على ضروراته واضطراراته. قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه.(1/68)
45- ومن ثم يوجه القرآن اليهود الذين كان يواجههم أولاً، ويوجه الناس كلهم ضمناً، إلى الاستعانة بالصبر والاستعانة بالصلاة.: وفي حالة اليهود كان مطلوباً منهم أن يؤثروا الحق الذي يعلمونه على المركز الخاص الذي يتمتعون به في المدينة، وعلى الثمن القليل- سواء كان ثمن الخدمات الدينية أو هو الدنيا كلها- وأن يدخلوا في موكب الإيمان وهم يدعون الناس إلى الإيمان! وكان هذا كله يقتضي قوة وشجاعة وتجرداً.
واستعانة بالصبر والصلاة:
«وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
والغالب أن الضمير في أنها ضمير الشأن، أي إن هذه الدعوة إلى الاعتراف بالحق في وجه هذه العوامل كبيرة وصغبة وشاقة، إلا على الخاشعين الخاضعين لله، الشاعرين بخشيته وتقواه، الواثقين بلقائه والرجعة إليه عن يقين.
والاستعانة بالصبر تتكرر كثيراً فهو الزاد الذي لا بد منه لمواجهة كل مشقة، وأول المشقات مشقة النزول عن القيادة والرياسة والنفع والكسب احتراماً للحق وإيثاراً له، واعترافاً بالحقيقة وخضوعاً لها.
فما الاستعانة بالصلاة؟
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب. صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زاداً للطريق، وريّاً في الهجير، ومدداً حين ينقطع المدد، ورصيداً حين ينفد الرصيد..
46- واليقين بلقاء الله- واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة- واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور.. هو مناط الصبر والاحتمال وهو مناط التقوى والحساسية. كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم: قيم الدنيا وقيم الآخرة. ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمناً قليلاً، وعرضاً هزيلاً وبدت الآخرة على حقيقتها، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها.
وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة، توجيهاً دائماً مستمر الإيحاء للجميع..
47- ومن ثم عودة إلى نداء بني إسرائيل، وتذكير هم بنعمة الله عليهم، وتخويفهم ذلك اليوم المخيف إجمالاً قبل الأخذ في التفصيل:
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .
وتفضيل بني إسرائيل على العالمين موقوت بزمان استخلافهم واختيارهم، فأما بعد ما عتوا عن أمر ربهم، وعصوا أنبياءهم، وجحدوا نعمة الله عليهم، وتخلوا عن التزاماتهم وعهدهم، فقد أعلن الله حكمه عليهم باللعنة والغضب والذلة والمسكنة، وقضى عليهم بالتشريد وحق عليهم الوعيد.
وتذكيرهم بتفضيلهم على العالمين، هو تذكير لهم بما كان لهم من فضل الله وعهده وإطماع لهم لينتهزوا(1/69)
الفرصة المتاحة على يدي الدعوة الإسلامية، فيعودوا إلى موكب الإيمان. وإلى عهد الله شكراً على تفضيله لآبائهم، ورغبة في العودة إلى مقام التكريم الذي يناله المؤمنون.
48- ومع الإطماع في الفضل والنعمة، التحذير من اليوم الذي يأتي وصفه:
«لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» ..
فالتبعة فردية، والحساب شخصي، وكل نفس مسؤولة عن نفسها، ولا تغني نفس عن نفس شيئاً..
وهذا هو المبدأ الإسلامي العظيم. مبدأ التبعة الفردية القائمة على الإرادة والتمييز من الإنسان، وعلى العدل المطلق من الله. وهو أقوم المبادئ التي تشعر الإنسان بكرامته، والتي تستجيش اليقظة الدائمة في ضميره.
وكلاهما عامل من عوامل التربية، فوق أنه قيمة إنسانية تضاف إلى رصيده من القيم التي يكرمه بها الإسلام.
«وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» .
فلا شفاعة تنفع يومئذ من لم يقدم إيماناً وعملاً صالحاً ولا فدية تؤخذ منه للتجاوز عن كفره ومعصيته.
«وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..
فما من ناصر يعصمهم من الله، وينجيهم من عذابه.. وقد عبر هنا بالجمع باعتبار مجموع النفوس التي لا تجزي نفس منها عن نفس، ولا يقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، وانصرف عن الخطاب في أول الآية إلى صيغة الغيبة في آخرها للتعميم. فهذا مبدأ كلي ينال المخاطبين وغير المخاطبين من الناس أجمعين.
49- بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم، وكيف استقبلوا هذه الآلاء، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق. وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم:
«وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعر هم صورة الكرب الذي كانوا فيه- باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد- ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب.
يقول لهم: واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم، (من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائماً) وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه!! ثم يذكرلونا من هذا العذاب.
هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث. كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم! وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم. ليلقي في حسهم- وحس كل من يصادف شدة- أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ. والألم لا يذهب ضياعاً إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.. ومن ثم هذا التعقيب الموحى: «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» ..(1/70)
50- فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب..
«وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل. أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة. سواء من القرآن المكي، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة. إنما يذكرهم بها في صورة مشهد، ليستعيدوا تصورها، ويتأثروا بهذا التصور، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى- عليه السلام- على مشهد منهم ومرأى! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب «1» .
51- ثم يمضي السياق قدماً مع رحلة بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ناجين:
«وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ..
وقصة اتخاذ بني إسرائيل للعجل، وعبادته في غيبة موسى- عليه السلام- عند ما ذهب إلى ميعاد ربه على الجبل، مفصلة في سورة طه السابقة النزول في مكة. وهنا فقط يذكرهم بها، وهي معروفة لديهم. يذكرهم بانحدار هم إلى عبادة العجل بمجرد غيبة نبيهم، الذي أنقذهم باسم الله، من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب.
ويصف حقيقة موقفهم في هذه العبادة: «وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» .. ومن أظلم ممن يترك عبادة الله ووصية نبيه ليعبد عجلاً جسداً، وقد أنقذه الله ممن كانوا يقدسون العجول! 52- ومع هذا فقد عفا الله عنهم، 53- وآتى نبيهم الكتاب- وهو التوراة- فيه فرقان بين الحق والباطل، عسى أن يهتدوا إلى الحق البين بعد الضلال.
ولم يكن بد من التطهير القاسي فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة، وتأديب عنيف. عنيف في طريقته وفي حقيقته:
54- «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» ..
أقتلوا أنفسكم. ليقتل الطائع منكم العاصي. ليطهره ويطهر نفسه.. هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة.. وإنه لتكليف مرهق شاق، أن يقتل الأخ أخاه، فكأنما يقتل نفسه برضاه. ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة، التي لا تتماسك عن شر، ولا تتناهى عن نكر. ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل. وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم! وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير:
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(1/71)
«فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ..
55- ولكن إسرائيل هي إسرائيل! هي هي كثافة حس، ومادية فكر، واحتجاباً عن مسارب الغيب.. فإذا هم يطلبون أن يروا الله جهرة، والذي طلب هذا هم السبعون المختارون منهم، الذين اختارهم موسى لميقات ربه- الذي فصلت قصته في السور المكية من قبل- ويرفضون الإيمان لموسى إلا أن يروا الله عياناً. والقرآن يواجههم هنا بهذا التجديف الذي صدر من آبائهم، لينكشف تعنتهم القديم الذي يشابه تعنتهم الجديد مع الرسول الكريم، وطلبهم الخوارق منه، وتحريضهم بعض المؤمنين على طلب الخوارق للتثبت من صدقه:
«وَإِذْ قُلْتُمْ: يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. إن الحس المادي الغليظ هو وحده طريقهم إلى المعرفة.. أم لعله التعنت والمعاجزة..
والآيات الكثيرة، والنعم الإلهية، والعفو والمغفرة.. كلها لا تغير من تلك الطبيعة الجاسية، التي لا تؤمن إلا بالمحسوس، والتي تظل مع ذلك تجادل وتماحل ولا تستجيب إلا تحت وقع العذاب والتنكيل، مما يوحي بأن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفساداً عميقاً. وليس أشد إفساداً للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقّوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد: استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطراً حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.. وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين..
ومن ثم يجدفون هذا التجديف. ويتعنتون هذا التعنت:
«وَإِذْ قُلْتُمْ: يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» :
ومن ثم يأخذهم الله جزاء ذلك التجديف، وهم على الجبل في الميقات المعلوم:
«فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..
56- ومرة أخرى تدركهم رحمة الله، وتوهب لهم فرصة الحياة عسى أن يذكروا ويشكروا، ويذكرهم هنا مواجهة بهذه النعمة:
«ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
57- ويذكرهم برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم طعاماً شهياً لا يجهدون فيه ولا يكدون، ووقاهم هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره اللطيف:
«وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
وتذكر الروايات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من الهاجرة. والصحراء بغير مطر ولا سحب، جحيم يفور بالنار، ويقذف بالشواظ. وهي بالمطر والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح.. وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم «الْمَنَّ» يجدونه على الأشجار حلواً كالعسل، وسخر لهم «السَّلْوى» وهو طائر السماني يجدونه بوفرة قريب المنال. وبهذا توافر لهم الطعام الجيد، والمقام المريح، وأحلت لهم هذه الطيبات.. ولكن(1/72)
أتراهم شكروا واهتدوا.. إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا. وإن كانت عاقبة ذلك عليهم، فما ظلموا إلاَّ أنفسهم! «وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» ..
58- ويمضي السياق في مواجهتهم بما كان منهم من انحراف ومعصية وجحود:
«وَإِذْ قُلْنَا: ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُولُوا: حِطَّةٌ. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ، بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ..
وتذكر بعض الروايات أن القرية المقصودة هنا هي بيت المقدس، التي أمر الله بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها، ويخرجوا منها العمالقة الذين كانوا يسكنونها، والتي نكص بنو إسرائيل عنها وقالوا:
«يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» .. والتي قالوا بشأنها لنبيهم موسى- عليه السلام-: «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ!» .. ومن ثم كتب عليهم ربهم التيه أربعين سنة، حتى نشأ جيل جديد بقيادة يوشع بن نون، فتح المدينة ودخلها.. ولكنهم بدلاً من أن يدخلوها سجداً كما أمرهم الله، علامة على التواضع والخشوع، ويقولوا: حطة.. أي حط عنا ذنوبنا واغفر لنا.. دخلوها على غير الهيئة التي أمروا بها، وقالوا قولاً آخر غير الذي أمروا به..
والسياق يواجههم بهذا الحادث في تاريخهم وقد كان مما وقع بعد الفترة التي يدور عنها الحديث هنا- وهي عهد موسى- ذلك أنه يعتبر تاريخهم كله وحدة، قديمه كحديثه، ووسطه كطرفيه.. كله مخالفة وتمرد وعصيان وانحراف! وأيًّا كان هذا الحادث، فقد كان القرآن يخاطبهم بأمر يعرفونه، ويذكرهم بحادث يعلمونه.. فلقد نصرهم الله فدخلوا القرية المعينة وأمرهم أن يدخلوها في هيئة خشوع وخضوع، وأن يدعوا الله ليغفر لهم ويحط عنهم ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم، وأن يزيد المحسنين من فضله ونعمته. 59- فخالفوا عن هذا كله كعادة يهود:
«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» ..
ويخص الذين ظلموا بالذكر. إما لأنهم كانوا فريقاً منهم هو الذي بدل وظلم. وإما لتقرير وصف الظلم لهم جميعاً، إذا كان قد وقع منهم جميعاً.
«فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ..
والرجز: العذاب. والفسوق: المخالفة والخروج.. وكانت هذه واحدة من أفاعيل بني إسرائيل! 60- وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى- عليه السلام- والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والإنعام:
«وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ، فَقُلْنَا: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً. قَدْ عَلِمَ(1/73)
كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ. كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»
..
لقد طلب موسى لقومه السقيا. طلبها من ربه فاستجاب له. وأمره أن يضرب حجراً معيناً بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل، وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطاً بعدة أحفاد يعقوب- وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه- وأحفاد إسرائيل- أو يعقوب- هم المعروفون باسم الأسباط، والذين يرد ذكرهم مكرراً في القرآن، وهم رؤوس قبائل بني إسرائيل. وكانوا ما يزالون يتبعون النظام القبلي، الذي تنسب فيه القبيلة إلى رأسها الكبير.
ومن ثم يقول: «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» .. أي العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عيناً. وقيل لهم، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من الاعتداء والإفساد:
«كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» ..
61- لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلاً وطيراً.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء.. لقد أخرجهم الله- على يدي نبيهم موسى- عليه السلام- من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة.. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية. حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة. حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر. يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء.. وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة:
«وَإِذْ قُلْتُمْ: يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها. قالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ.. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ..
ولقد تلقى موسى- عليه السلام- طلبهم بالاستنكار:
«أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟» ..
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية؟
«اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» ..
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها.. وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها.. عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة.. حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها.. ويكون هذا من موسى- عليه السلام- تأنيباً لهم وتوبيخا..(1/74)
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى:
«وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» ..
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية- في هذه المرحلة من تاريخهم إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» .
وقد وقع هذا منهم متأخراً بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، «اهْبِطُوا مِصْراً» هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان! 62- ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم- وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل! ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون. وهم وحدهم شعب الله المختار، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك.. وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان.. ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيماناً ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجراً محجوراً على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هادُوا، وَالنَّصارى، وَالصَّابِئِينَ- مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً- فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين. والذين هادوا هم اليهود- إما بمعنى عادوا إلى الله، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا- والنصارى هم اتباع عيسى- عليه السلام- والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم. فقال عنهم المشركون: إنهم صبأوا- أي مالوا عن دين آبائهم- كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعاً وعمل صالحاً، فإن لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالعبرة بحقيقة العقيدة، لا بعصبية جنس أو قوم.. وذلك طبعاً قبل البعثة(1/75)
المحمدية. أما بعدها فقد تحدد شكل الإيمان الأخير.
63- ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين..
«وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
وتفصيل هذا الميثاق وارد في سور أخرى، وبعضه ورد في هذه السورة فيما بعد. والمهم هنا هو استحضار المشهد، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة رفع الصخرة فوق رؤوسهم وقوة أخذ العهد، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة. وأن يعزموا فيه عزيمة. فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف. ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد نودي للتكليف: «مضى عهد النوم يا خديجة» .. وكما قال له ربه: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» ..
وكما قال لبني إسرائيل:
«خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» . «وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم.. لا بد مع هذا من تذكر ما فيه، واستشعار حقيقته، والتكيف بهذه الحقيقة، كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة. فعهد الله منهج حياة، منهج يستقر في القلب تصوراً وشعوراً، ويستقر في الحياة وضعاً ونظاماً، ويستقر في السلوك أدباً وخلقاً، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.
64- ولكن هيهات! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها، وغلبت عليها جبلتها:
«ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» ..
ثم أدركتها رحمة الله مرة أخرى وشملها فضله العظيم فأنقذها من الخسار المبين:
«فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
65- ومرة أخرى يواجههم بمظهر من مظاهر النكث والنكسة، والتحلل من العهد والعجز عن الاستمساك به، والضعف عن احتمال تكاليفه، والضعف أمام الهوى أو النفع القريب:
«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ: فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» ..
وقد فصل القرآن حكاية اعتدائهم في السبت في موضع آخر فقال: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» .. فلقد طلبوا أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدساً لا يعملون فيه للمعاش. ثم ابتلاهم بعد ذلك بالحيتان تكثر يوم السبت، وتختفي في غيره! وكان ابتلاء لم تصمد له يهود! وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع؟(1/76)
أتتركه وفاء بعهد واستمساكاً بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع يهود! ومن ثم اعتدوا في السبت. اعتدوا على طريقتهم الملتوية. راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت، ويقطعونها عن البحر بحاجز، ولا يصيدونها! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز! «فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» ..
لقد حق عليهم جزاء النكول عن عهدهم مع الله، والنكوص عن مقام الإنسان ذي الإرادة. فانتكسوا بهذا إلى عالم الحيوان والبهيمة، الحيوان الذي لا إرادة له، والبهيمة التي لا ترتفع على دعوة البطون! انتكسوا بمجرد تخليهم عن الخصيصة الأولى التي تجعل من الإنسان إنساناً. خصيصة الإرادة المستعلية المستمسكة بعهد الله.
وليس من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم، فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم، وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه والملامح سمات تؤثر في السحنة وتلقي ظلها العميق! 66- ومضت هذه الحادثة عبرة رادعة للمخالفين في زمانها وفيما يليه، وموعظة نافعة للمؤمنين في جميع العصور:
«فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» ..
67- وفي نهاية هذا الدرس تجيء قصة «البقرة» .. تجيء مفصلة وفي صورة حكاية، لا مجرد إشارة كالذي سبق، ذلك أنها لم ترد من قبل في السور المكية، كما أنها لم ترد في موضع آخر وهي ترسم سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة، وتمحل المعاذير، التي تتسم بها إسرائيل:
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قالُوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا، وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها. قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ. فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها، كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
وفي هذه القصة القصيرة- كما يعرضها السياق القرآني- مجال للنظر في جوانب شتى.. جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة. وجانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة.
ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءاً ونهاية واتساقاً مع السياق..
إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه: انقطاع الصلة بين قلوبهم، وذلك النبع الشفيف الرقراق: نبع الإيمان بالغيب، والثقة بالله، والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل. ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف، وتلمس الحجج والمعاذير، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان! 67- لقد قال لهم نبيهم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» .. وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ. فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين، برحمة من الله ورعاية وتعليم وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه، إنما هو أمر الله، الذي يسير بهم على هداه.. فماذا كان الجواب؟ لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب، واتهاماً لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله-(1/77)
فضلاً على أن يكون رسول الله- أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس:
«قالُوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟» .
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله وأن يردهم برفق، وعن طريق التعريض والتلميح، إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله، لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه:
«قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» ..
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم، وينفذوا أمر نبيهم.. ولكنها إسرائيل! 68- نعم. لقد كان في وسعهم- وهم في سعة من الأمر- أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها، فإذا هم مطيعون لأمر الله، منفذون لإشارة رسوله. ولكن طبيعة التلكؤ والالتواء تدركهم، فإذا هم يسألون: «قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟» .. والسؤال بهذه الصيغة يشي بأنهم ما يزالون في شكهم أن يكون موسى هازئاً فيما أنهى إليهم! فهم أولاً: يقولون: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ» .. فكأنما هو ربه وحده لا ربهم كذلك! وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعني موسى وربه! وهم ثانياً: يطلبون منه أن يدعو ربه ليبين لهم: «ما هِيَ؟» والسؤال عن الماهية في هذا المقام- وإن كان المقصود الصفة- إنكار واستهزاء.. ما هي؟ إنها بقرة. وقد قال لهم هذا من أول الأمر بلا تحديد لصفة ولا سمة. بقرة وكفى! هنا كذلك يردهم موسى إلى الجادة، بأن يسلك في الإجابة طريقاً غير طريق السؤال. إنه لا يجبههم بانحرافهم في صيغة السؤال كي لا يدخل معهم في جدل شكلي.. إنما يجيبهم كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين. يجيبهم عن صفة البقرة:
«قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» ..
إنها بقرة لا هي عجوز ولا هي شابة، وسط بين هذا وذاك. ثم يعقب على هذا البيان المجمل بنصيحة آمرة حازمة:
«فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ» ..
ولقد كان في هذا كفاية لمن يريد الكفاية وكان حسبهم وقد ردهم نبيهم إلى الجادة مرتين، ولمح لهم بالأدب الواجب في السؤال وفي التلقي. أن يعمدوا إلى أية بقرة من أبقارهم، لا عجوز ولا صغيرة، متوسطة السن، فيخلصوا بها ذمتهم، وينفذوا بذبحها أمر ربهم، ويعفوا أنفسهم من مشقة التعقيد والتضييق.. ولكن إسرائيل هي إسرائيل! 69- لقد راحوا يسألون:
«قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟» ..
هكذا مرة أخرى: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ» ! ولم يكن بد- وقد شققوا الموضوع وطلبوا التفصيل- أن يأتيهم الجواب بالتفصيل:
«قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ، إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» ..
وهكذا ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار- وكانوا من الأمر في سعة- فأصبحوا مكلفين أن يبحثوا لا عن بقرة.. مجرد بقرة.. بل عن بقرة متوسطة السن، لا عجوز ولا صغيرة، وهي بعد هذا صفراء فاقع لونها(1/78)
وهي بعد هذا وذلك ليست هزيلة ولا شوهاء: «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» .. وسرور الناظرين لا يتم إلا أن تقع أبصارهم على فراهة وحيوية ونشاط والتماع في تلك البقرة المطلوبة فهذا هو الشائع في طباع الناس: أن يعجبوا بالحيوية والاستواء ويسروا، وأن ينفروا من الهزال والتشويه ويشمئزوا.
70- ولقد كان فيما تلكأوا كفاية، ولكنهم يمضون في طريقهم، يعقدون الأمور، ويشددون على أنفسهم، فيشدد الله عليهم. لقد عادوا مرة أخرى يسألون عن الماهية:
«قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» ..
ويعتذرون عن هذا السؤال وعن ذلك التلكؤ بأن الأمر مشكل:
«إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» ..
وكأنما استشعروا لجاجتهم هذه المرة. فهم يقولون:
«وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» ..
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيداً، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصراً وضيقاً، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها:
71- «قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها» ..
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر. صفراء فاقع لونها فارهة فحسب. بل لم يعد بد أن تكون- مع هذا- بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة.
هنا فقط.. وبعد أن تعقد الأمر، وتضاعفت الشروط، وضاق مجال الاختيار:
«قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» ..
الآن! كأنما كان كل ما مضى ليس حقاً. أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة! «فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» !! 72- عندئذ- وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف- كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف:
«وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة. جانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة:
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة.. لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ثم جعل كل فريق 73- يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح.. وهكذا كان، فعادت إليه الحياة، ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين.
ولكن. فيم كانت هذه الوسيلة، والله قادر على أن يحي الموتى بلا وسيلة؟ ثم ما مناسبة البقرة المذبوحة مع القتيل المبعوث؟(1/79)
إن البقر يذبح قرباناً كما كانت عادة بني إسرائيل.. وبضعة من جسد ذبيح ترد بها الحياة إلى جسد قتيل.
وما في هذه البضعة حياة ولا قدرة على الأحياء.. إنما هي مجرد وسيلة ظاهرة تكشف لهم عن قدرة الله، التي لا يعرف البشر كيف تعمل. فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل و: «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
.. كذلك بمثل هذا الذي ترونه واقعاً ولا تدرون كيف وقع وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر.
إن المسافة بين طبيعة الموت وطبيعة الحياة مسافة هائلة تدير الرؤوس. ولكنها في حساب القدرة الإلهية أمر يسير.. كيف؟ .. هذا ما لا أحد يدريه. وما لا يمكن لأحد إدراكه.. إن إدراك الماهية والكيفية هنا سر من أسرار الألوهية، لا سبيل إليه في عالم الفانين! وإن يكن في طوق العقل البشري إدراك دلالته والاتعاظ بها:
«وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
..
وأخيراً نجيء إلى جمال الأداء وتناسقه مع السياق..
هذه قصة قصيرة نبدؤها، فإذا نحن أمام مجهول لا نعرف ما وراءه. نحن لا نعرف في مبدأ عرض القصة لماذا يأمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، كما أن بني إسرائيل إذ ذاك لم يعرفوا، وفي هذا اختبار لمدى الطاعة والاستجابة والتسليم.
ثم تتابع الحوار في عرض القصة بين موسى وقومه، فلا نرى الحوار ينقطع ليثبت ما دار بين موسى وربه على حين أنهم كانوا في كل مرة يطلبون منه أن يسأل ربه، فكان يسأله، ثم يعود إليهم بالجواب.. ولكن سياق القصة لا يقول: إنه سأل ربه ولا إن ربه أجابه.. إن هذا السكوت هو اللائق بعظمة الله، التي لا يجوز أن تكون في طريق اللجاجة التي يزاولها بنو إسرائيل! ثم تنتهي إلى المباغتة في الخاتمة- كما بوغت بها بنو إسرائيل- انتفاض الميت مبعوثا ناطقاً، على ضربة من بعض جسد لبقرة بكماء مذبوحة، ليس فيها من حياة ولا مادة حياة! ومن ثم يلتقي جمال الأداء التعبيري بحكمة السياق الموضوعية في قصة قصيرة من القصص القرآني الجميل «1» .
74- وتعقيباً على هذا المشهد الأخير من القصة، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد والأحداث والعبر والعظات، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب:
«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً. وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى.. هي حجارة لهم بها سابق عهد. فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقاً! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى.. قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة.. ومن ثم هذا التهديد:
«وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب، والالتواء
__________
(1) يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .(1/80)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
واللجاجة، والكيد والدس، والقسوة والجدب، والتمرد والفسوق..
[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 103]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)(1/81)
انقضى المقطع السابق في السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها.
فالأن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل. ويدل طول هذا الحديث، وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود! وبين آن وآخر يلتفت السياق إلى بني إسرائيل ليواجههم- على مشهد من المسلمين- بما أخذ عليهم من المواثيق، وبما نقضوا من هذه المواثيق وبما وقع منهم من انحرافات ونكول عن العهد وتكذيب بأنبيائهم، وقتلهم لهؤلاء الأنبياء الذين لا يطاوعونهم على هواهم، ومن مخالفة لشريعتهم، ومن التوائهم وجدالهم بالباطل، وتحريفهم لما بين أيديهم من النصوص.
يستعرض جدالهم مع الجماعة المسلمة وحججهم ودعاويهم الباطلة، ويلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يفضح دعاويهم، ويفند حججهم، ويكشف زيف ادعاءاتهم، ويرد عليهم كيدهم بالحق الواضح الصريح:
فلقد زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله! فلقن الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يرد عليهم قولهم هذا: «قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
وكانوا إذا دعوا إلى الإسلام «قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» .. فلقن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم: «قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ؟ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا. قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!» ..
وكانوا يدعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. فلقن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع الفريقان: هم والمسلمون، ثم يدعون الله أن يميت الكاذب: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقرر أنهم لن يتمنوه أبداً- وهذا ما حدث. فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون فيما يدعون! وهكذا يمضي السياق في هذه المواجهة، وهذا الكشف، وهذا التوجيه.. ومن شأن هذه الخطة أن تضعف- أو تبطل- كيد اليهود في وسط الصف المسلم وأن تكشف دسائسهم وأحابيلهم وأن تدرك الجماعة المسلمة طريقة اليهود في العمل والكيد والادعاء، على ضوء ما وقع منهم في تاريخهم القديم.
وما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع- مع الأسف- بتلك التوجيهات القرآنية، وبهذا الهدى الإلهي، الذي انتفع به أسلافها، فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة، والدين ناشىء، والجماعة المسلمة وليدة.. وما يزال اليهود- بلؤمهم ومكرهم- يضللون هذه الأمة عن دينها، ويصرفونها عن قرآنها، كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية، وعدتها الواقية. وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية، وينابيع معرفتها الصافية.. وكل(1/83)
من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود سواء عرف أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها- حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية- فهذا هو الطريق. وهذه هي معالم الطريق:
75- «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ؟» ..
كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي.
صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة، ولا يلين لها ممس، ولا تنبض فيها حياة.. وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية.. وفي ظل هذا التصوير، وظل هذا الإيحاء، يلتفت السياق إلى المؤمنين، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان، وأن يفيضوا عليها النور.. يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة، وبالقنوط من الطمع:
«أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ؟ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟» ..
ألا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان طبيعة أخرى، واستعداد آخر. إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة، مفتحة المنافذ للأضواء، مستعدة للإتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء. وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى. هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله. تحرفه عن علم وإصرار. فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة، تتحرج من هذا التحريف والالتواء.
والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته. لا عن جهل بحقيقة مواضعه، ولكن عن تعمد للتحريف، وعلم بهذا التحريف.
يدفعهم الهوى، وتقودهم المصلحة، ويحدوهم الغرض المريض! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى- عليه السلام- ومن باب أولى- وهذا خراب ذممهم، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه- أن يعارضوا دعوة الإسلام، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب! 76- «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» ..
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وهم يضيفون إلى خراب الذمة، وكتمان الحق، وتحريف الكلم عن مراضعه..
الرياء والنفاق والخداع والمراوغة؟
وقد كان بعضهم إذا لقوا المؤمنين قالوا: آمنا.. أي آمنا بأن محمداً مرسل، بحكم ما عندهم في التوراة من البشارة به، وبحكم أنهم كانوا ينتظرون بعثته، ويطلبون أن ينصرهم الله به على من عداهم. وهو معنى قوله: «وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» .. ولكن: «إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» .. عاتبوهم(1/84)
على ما أفضوا للمسلمين من صحة رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- ومن معرفتهم بحقيقة بعثته من كتابهم، فقال بعضهم لبعض: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ» .. فتكون لهم الحجة عليكم؟ ..
وهنا تدركهم طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين! أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة! .. وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: «أَفَلا تَعْقِلُونَ؟» .. فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون عنه مثل هذا الحديث!! 77- ومن ثم يعجب السياق من تصورهم هذا قبل أن يمضي في استعراض ما يقولون وما يفعلون:
«أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ؟» ..
78- ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل: إنهم فريقان. فريق أمي جاهل، لا يدري شيئاً من كتابهم الذي نزل عليهم، ولا يعرف منه إلا أوهاماً وظنوناً، وإلا أماني في النجاة من العذاب، بما أنهم شعب الله المختار، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزوّر على كتاب الله، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة، ويكتم منه ما يشاء، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاماً من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله.. كل هذا ليربح ويكسب، ويحتفظ بالرياسة والقيادة:
«وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا. فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» ..
79- فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق، وأن يستقيموا على الهدى، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين. وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم. الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق! 80- من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله، ولا تتفق مع سنته، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء.. أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم.. علام يعتمدون في هذه الأمنية؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال، وأكاذيب المحتالين العلماء! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة، حين يطول بهم الأمد، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله:
«وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة: «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟» .. فأين هو هذا العهد؟
«أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. وهذا هو الواقع. فالاستفهام هنا للتقرير. ولكنه في صورة الاستفهام(1/85)
يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ! 81- هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان: إن الجزاء من جنس العمل، ووفق هذا العمل.
«بَلى! مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
ولا بد أن نقف قليلاً أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره:
«بَلى! مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ..» ..
الخطيئة كسب؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة. ولكن التعبير يومىء إلى حالة نفسية معروفة..
إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها ويحسبها كسباً له- على معنى من المعاني- ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا، وما تركها تملأ عليه نفسه، وتحيط بعالمه لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها- حتى لو اندفع لارتكابها- وأن يستغفر منها، ويلوذ إلى كنف غير كنفها. وفي هذه الحالة لا تحيط به، ولا تملأ عليه عالمه، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير.. وفي التعبير: «وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» .. تجسيم لهذا المعنى. وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني، وسمة واضحة من سماته تجعل له وقعاً في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة. وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوها، ويحيا معها ولها.
عندئذ.. عند ما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة.. عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم:
«فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
82- ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم.
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح.. وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان.. وما أحوجنا- نحن الذين نقول أنا مسلمون- أن نستيقن هذه الحقيقة: أن الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح. فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض، وشريعته في الحياة، وأخلاقه في المجتمع، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني كأمانيّ اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان.
83- ثم يمضي السياق يحدث الجماعة المسلمة عن حال اليهود، ومواقفهم التي يتجلى فيها العصيان والالتواء(1/86)
والانحراف والنكول عن العهد والميثاق. ويواجه اليهود بهذه المواقف على مشهد من المسلمين:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ.. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..
ولقد سبقت الإشارة إلى الميثاق في معرض تذكير الله لبني إسرائيل بإخلاف موقفهم معه في الدرس الماضي.
فهنا شيء من التفصيل لبعض نصوص هذا الميثاق.
ومن الآية الأولى ندرك أن ميثاق الله مع بني إسرائيل، ذلك الميثاق الذي أخذه عليهم في ظل الجبل، والذي أمروا أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه.. أن ذلك الميثاق قد تضمن القواعد الثابتة لدين الله. هذه القواعد التي جاء بها الإسلام أيضاً، فتنكروا لها وأنكروها.
لقد تضمن ميثاق الله معهم: ألا يعبدوا إلا الله.. القاعدة الأولى للتوحيد المطلق. وتضمن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين. وتضمن خطاب الناس بالحسنى، وفي أولها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. كذلك تضمن فريضة الصلاة وفريضة الزكاة. وهذه في مجموعها هي قواعد الإسلام وتكاليفه..
ومن ثم تتقرر حقيقتان: الأولى هي وحدة دين الله وتصديق هذا الدين الأخير لما قبله في أصوله. والثانية هي مقدار التعنت في موقف اليهود من هذا الدين، وهو يدعوهم لمثل ما عاهدوا الله عليه، وأعطوا عليه الميثاق.
وهنا- في هذا الموقف المخجل- يتحول السياق من الحكاية إلى الخطاب، فيوجه القول إلى بني إسرائيل.
وكان قد ترك خطابهم والتفت إلى خطاب المؤمنين. ولكن توجيه الخطاب إليهم هنا أخزى وأنكى:
«ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» ..
وهكذا تتكشف بعض أسرار الالتفات في سياق القصص وغيره في هذا الكتاب العجيب! 84- ويستمر السياق يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل، وهو يعرض عليهم متناقضات موقفهم من ميثاقهم مع الله..
«وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» ..
فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون؟
«ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟» ..
ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعاً قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج. كان الأوس والخزرج مشركين، وكان الحيّان أشد ما يكون حيّان من العرب عداء. وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين.. كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه،(1/87)
85- وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر- وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم- وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم- وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم- ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء- وذلك عملاً بحكم التوراة وقد جاء فيها: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته..
هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن وهو يسألهم في استنكار:
«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟» ..
وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الأشد في الآخرة. مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلاً عنه ولا متجاوزاً:
«فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
86- ثم يلتفت إلى المسلمين وإلى البشرية جميعاً، وهو يعلن حقيقتهم وحقيقة عملهم:
«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..
وكذبوا إذن في دعواهم أن لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة.. فهؤلاء هم هناك: «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..
وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة هنا في هذه المناسبة: هي أن الدافع لهم على مخالفة ميثاقهم مع الله، هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم. فإن انقسامهم فريقين، وانضمامهم إلى حلفين، هي هي خطة إسرائيل التقليدية، في إمساك العصا من الوسط والانضمام إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من باب الاحتياط، لتحقيق بعض المغانم على أية حال وضمان صوالح اليهود في النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك! وهي خطة من لا يثق بالله، ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كله على الدهاء، ومواثيق الأرض، والاستنصار بالعباد لا برب العباد. والإيمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة إلا في اتباع دينهم، ولا وقاية إلا بحفظ عهدهم مع ربهم.
87- ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء.. أنبيائهم هم، وما كان من سوء صنيعهم معهم كلما جاءوهم بالحق، الذي لا يخضع للأهواء..
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ، وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ؟» ..
ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام، وإبائهم الدخول فيه، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم.. فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم. ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق، الذي لا يخضع لأهوائهم.
وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى- عليه السلام- وقد آتاه الله الكتاب. ويزيد هنا(1/88)
أن رسلهم توالت تترى، يقفو بعضهم بعضاً وكان آخر هم عيسى بن مريم. وقد آتاه الله المعجزات البينات، وأيده بروح القدس جبريل- عليه السلام- فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم والذي لا يملكون هم إنكاره، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به:
«أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ!» ! ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلبة. ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته. المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت- غير المصدر الإنساني المتقلب- مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة. وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى! ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وحكموا أهواءهم وشهواتهم، وقتلوا فريقاً من الهداة وكذبوا فريقاً. ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل، من الفرقة والضعف، والذلة والهوان، والشقاء والتعاسة.. إلا أن يستجيبوا لله ورسله، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم، وإلا أن يأخذوه بقوة، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون.
88- ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم، يبينه ويقرره، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد، فإذا هم هم، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل:
«وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- بَغْياً، أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ- فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا. قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. قُلْ: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!»
..
إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد، ويتحول- في بعض المواضع- إلى صواعق وحمم.. إنه يجبههم جبهاً شديداً بما قالوا وما فعلوا ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة، وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير، وحسدهم أن يؤتي الله أحداً من فضله.
جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم..
«وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» ..
قالوا: إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيسا لمحمد- صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين، من دعوتهم إلى هذا الدين أو تعليلاً لعدم استجابتهم لدعوة الرسول..(1/89)
ويقول الله رداً على قولتهم: «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» .. أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم.
فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى.. «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» ..
أي قليلاً ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم. أو أن هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريراً لحقيقتهم.. وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع.
89- وقد كان كفرهم قبيحاً، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه، واستفتحوا به على الكافرين، أي ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم. وقد جاءهم بكتاب مصدق لما معهم:
«وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ- وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ» ..
وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته.. ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر:
«فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» ..
90- ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها:
«بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» ..
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ... لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما، يكثر أو يقل. أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع. وإن بدا تمثيلاً وتصويراً. لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين. وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه! وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وكان هذا بغياً منهم وظلماً فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب وهناك ينتظرهم عذاب مهين، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم.
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى، التي تربط البشرية جميعاً.. وهكذا عاش اليهود في عزلة، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ويتربصون بالبشرية الدوائر ويكنون للناس البغضاء، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروباً يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء، وهلاكاً يسلطونه على الناس، ويسلطه عليهم الناس.. وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: «بَغْياً.. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
91- «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» ..
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام. كانوا يقولون «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» ..(1/90)
ففيه الكفاية، وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه. سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين.
والقرآن يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم «وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» ..
وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدقاً لما معهم! ما داموا لم يستأثروا هم به؟ إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعبدون لعصبيتهم. لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به ... ويلقن الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يجبههم بهذه الحقيقة، وكشفا لموقفهم وفضحاً لدعواهم:
«قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟» ..
لم تقتلون أنبياء الله من قبل، إن كنتم حقاً تؤمنون بما أنزل إليكم؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذين جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به؟
92- لا بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى- نبيكم الأول ومنقذكم الأكبر-:
«وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ» ..
فهل اتخاذكم العجل من بعد ما جاء كم موسى بالبينات، وفي حياة موسى نفسه، كان من وحي الإيمان؟
وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟
93- ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة. بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة، وكان هناك التمرد والمعصية:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا، قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» ..
والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية.. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين- وإلى الناس جميعاً- فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح:
«قُلْ: بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!» ..
ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: «قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا» .. «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» ..
إنهم قالوا: سمعنا. ولم يقولوا عصينا. ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق، لقد قالوا بأفواههم: سمعنا. وقالوا بأعمالهم: عصينا. والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته. وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق.. وهذا التصوير الحي للواقع يومىء إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل. إن العمل هو المعتبر. أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، وهي مناط الحكم والتقدير.
فأما الصورة الغليظة التي ترسمها: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ» فهي صورة فريدة. لقد أشربوا، أشربوا بفعل فاعل سواهم. أشربوا ماذا؟ أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالاً، ويحشر فيها حشراً، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشراباً في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور، بالقياس(1/91)
إلى التعبير الذهني المفسر.. إنه التصوير.. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل.
94- ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة.. إنهم شعب الله المختار. إنهم وحدهم المهتدون. إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة. إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب.
وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد- صلى الله عليه وسلم- لا نصيب لهم في الآخرة. والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم.. فأمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يدعو اليهود إلى مباهلة. أي بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما:
«قُلْ: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .
95- ويعقب على هذا التحدي بتقرير أنهم لن يقبلوا المباهلة، ولن يطلبوا الموت. لأنهم يعلمون أنهم كاذبون ويخشون أن يستجيب الله فيأخذهم. وهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة. وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيء الذي قدموه.. ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدي. فهم أحرص الناس على حياة. وهم والمشركون في هذا سواء:
«وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» .
لن يتمنوه. لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب، ولا يؤمنهم من عقاب. إنه مدخر لهم هناك، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون.
96- وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنصح بالتحقير والمهانة: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» .. أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبناً وحرصاً على الحياة.. أي حياة! «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة.
وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة.. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة. نعمة يفيضها الإيمان على القلب.
نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني. المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة. فالإيمان بالآخرة- فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى- هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق، الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعداً إلى جوار الله.
97- ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- يتحداهم به، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد:(1/92)
«قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» ..
وفي قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود. سمة عجيبة حقاً.. لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حد، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل.. لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوحي من عند الله على محمد- صلى الله عليه وسلم- ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة، فيزعموا أن جبريل عدوهم، لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا، فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب! إنها الحماقة المضحكة، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة. وإلا فما بالهم يعادون جبريل؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدهم، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصى الله ما أمره! «قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
فما كان له من هوى شخصي، ولا إرادة ذاتية، في أن ينزله على قلبك، إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك.. والقلب هو موضع التلقي، وهو الذي يفقه بعد التلقي، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ.. والقلب يعبر به في القرآن عن قوة الإدراك جملة وليس هو هذه العضلة المعروفة بطبيعة الحال.
نزله على قلبك.. «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ..
والقرآن يصدق في عمومه ما سبقه من الكتب السماوية، فأساس دين الله واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الديانات الإلهية.. وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة، التي تتفتح له وتستجيب.. وهذه حقيقة ينبغي إبرازها.. إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس، وتفتح له من أبواب المعرفة، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان. ومن ثم يجد فيه الهدى، كما يستروح فيه البشرى. وكذلك نجد القرآن يكرر هذه الحقيقة في مناسبات شتى.. «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» .. «هدى» لقوم يؤمنون» .. «هدى لقوم يوقنون» .. «شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . فالهدى ثمرة الإيمان والتقوى واليقين..
وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون! 98- وكانوا- كعادتهم في تفريق الدين وتفريق الرسل- قد فرقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم، فقالوا: إنهم على صداقة مع ميكائيل أما مع جبريل فلا! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكال وملائكة الله ورسله، لبيان وحدة الجميع، ولإعلان أن من عادى أحداً منهم فقد عاداهم جميعا، وعادى الله سبحانه، فعاداه الله. فهو من الكافرين» ..
«مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» ..
99- ثم يتجه بالخطاب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يثبته على ما أنزل عليه من الحق، وما آتاه من الآيات البينات، مقررا أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون. ويندد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد. سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل، أو عهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما(1/93)
يندد بنبذهم لكتاب الله الأخير الذي جاء مصدقاً لما معهم:
«وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ... » ..
لقد كشف القرآن هنا عن علة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البينات التي أنزلها الله.. إنه الفسوق وانحراف الفطرة. فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات. وهي تفرض نفسها فرضاً على القلب المستقيم.
فإذا كفر بها اليهود- أو غيرهم- فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكن لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون.
100- ثم يلتفت إلى المسلمين- وإلى الناس عامة- مندداً بهؤلاء اليهود، كاشفاً عن سمة من سماتهم الوبيئة.. إنهم جماعة مفككة الأهواء- رغم تعصبها الذميم- فهم لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد، ولا يستمسكون بعروة. ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم، يكرهون أن يمنح الله شيئاً من فضله لسواهم، إلا أنهم- مع هذا- لا يستمسكون بوحدة، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند منهم فرقة فتنقض ما أبرموا، وتخرج على ما أجمعوا:
«أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيراً نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي- صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه إلى المدينة وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه وأول من عاب دينه، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه..
وبئس هي من خلة في اليهود! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض، يعلنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قوله: «المسلمون تتكافؤا دماؤهم، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم» «1» .. يسعى بذمتهم أدناهم، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم، ولقد كتب أبو عبيدة- رضي الله عنه- وهو قائد لجيش عمر- رضي الله عنه- وهو الخليفة يقول: إن عبداً أمن أهل بلد بالعراق.
وسأله رأيه. فكتب إليه عمر: إن الله عظم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا.. فوفوا لهم وانصرفوا عنهم..
وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة. وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين.
101- «وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
وكان هذا مظهراً من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه. فلقد كان ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم، أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه، وأن ينصروه ويحترموه. فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، خاسوا بذلك العهد، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، يستوي في هذا النبذ كتاب الله الذي معهم، والذي يتضمن البشرى بهذا النبي وقد نبذوه، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد
__________
(1) رواه الإمام أحمد.(1/94)
نبذوه أيضاً! وفي الآية ما فيها من سخرية خفية، يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوماً! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب. هم الذين عرفوا الرسالات والرسل. هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور.. وماذا صنعوا؟
إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! والمقصود طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم. ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة، تصور هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحة ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة. حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور..
102- ثم ماذا؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟ كلا.. لا شيء من هذا كله.
إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة.
«وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ- وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ- وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
لقد تركوا ما أنزل الله مصدقاً لما معهم وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان، إذ يقولون: إنه كان ساحراً، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه.
والقرآن ينفي عن سليمان- عليه السلام- أنه كان ساحراً، فيقول:
«وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ» .
فكأنه يعد السحر واستخدامه كفراً ينفيه عن سليمان- عليه السلام- ويثبته للشياطين:
«وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» ..
ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين: هاروت وماروت. اللذين كان مقرهما بابل:
«وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ» ..
ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما! فنفى القرآن هذه الفرية أيضاً. فرية تنزيل السحر على الملكين.
ثم يبين الحقيقة، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة. وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما، طالباً منهما أن يعلماه السحر:
«وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ» ..
ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفراً ويذكر هذا على لسان الملكين: هاروت(1/95)
وماروت.
وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما، على الرغم من تحذيره وتبصيره. وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين:
«فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» ..
وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان..
وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله:
«وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشئ آثارها وتحقق نتائجها.. وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماماً. وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق. ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله. فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها كما وقع لإبراهيم- عليه السلام- وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، ينشىء هذا الأثر بإذن الله. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها.. وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار.. كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله، فهو يعمل بهذا الإذن، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء..
ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون، وما يفرقون به بين المرء وزوجه.. إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير:
«وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» ..
ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضراً خالصاً لا نفع فيه! «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» ..
ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب..
فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة:
«وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
103- «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ..
وينطبق هذا القول على الذين كانوا يتعلمون السحر من الملكين ببابل، وعلى الذين يتبعون ما تقصه الشياطين عن عهد سليمان وملكه، وهم اليهود الذين ينبذون كتاب الله وراءهم ظهرياً، ويتبعون هذا الباطل وهذا الشر الذميم.
وبعد فلا بد من كلمة هنا عن السحر، وعما يفرق بين المرء وزوجه، مما كان أولئك اليهود يجرون خلفه، ويتركون كتاب الله وراء ظهورهم من أجله..
إنه ما يزال مشاهداً في كل وقت أن بعض الناس يملكون خصائص لم يكشف العلم عن كنهها بعد. لقد(1/96)
سمي بعضها بأسماء ولكنه لم يحدد كنهها ولا طرائقها! .. هذا «التيليپاثي» - التخاطر عن بعد- ما هو؟
وكيف يتم؟ كيف يملك إنسان أن يدعو إنساناً على أبعاد وفواصل لا يصل إليها صوت الإنسان في العادة ولا بصره، فيتلقى عنه، دون أن تقف بينهما الفواصل والأبعاد؟
وهذا التنويم المغنطيسي ما هو وكيف يتم؟ كيف يقع أن تسيطر إرادة على إرادة، وأن يتصل فكر بفكر، فإذا أحدهما يوحي إلى الآخر، وإذا أحدهما يتلقى عن الآخر، كأنما يقرأ من كتاب مفتوح؟
إن كل ما استطاع العلم أن يقوله إلى اليوم في هذه القوى التي اعترف بها، هو أن أعطاها أسماء! ولكنه لم يقل قط: ما هي؟ ولم يقل قط كيف تتم؟
وثمة أمور كثيرة أخرى يماري فيها العلم. إما لأنه لم يجمع منها مشاهدات كافية للاعتراف بها وإما لأنه لم يهتد إلى وسيلة تدخلها في نطاق تجاربه. هذه الأحلام التنبئية- وفرويد الذي يحاول إنكار كل قوة روحية لم يستطع إنكار وجودها- كيف أرى رؤيا عن مستقبل مجهول، ثم إذا هذه النبوءة تصدق في الواقع بعد حين؟ وهذه الأحاسيس الخفية التي ليس لها اسم بعد. كيف أحس أن أمراً ما سيحدث بعد قليل أو أن شخصاً ما قادم بعد قليل ثم يحدث ما توقعت على نحو من الأنحاء! إنه من المكابرة في الواقع أن يقف إنسان لينفي ببساطة مثل هذه القوى المجهولة في الكائن البشري، لمجرد أن العلم لم يهتد بعد إلى وسيلة يجرب بها هذه القوى.
وليس معنى هذا هو التسليم بكل خرافة، والجري وراء كل أسطورة.. إنما الأسلم والأحوط أن يقف العقل الإنساني أمام هذه المجاهيل موقفاً مرناً.. لا ينفي على الإطلاق ولا يثبت على الإطلاق، حتى يتمكن بوسائله المتاحة له بعد ارتقاء هذه الوسائل من إدراك ما يعجز الآن عن إدراكه أو يسلم بأن في الأمر شيئاً فوق طاقته، ويعرف حدوده، ويحسب للمجهول في هذا الكون حسابه..
السحر من قبيل هذه الأمور. وتعليم الشياطين للناس من قبيل هذه الأمور. وقد تكون صورة من صوره:
القدرة على الإيحاء والتأثير، إما في الحواس والأفكار، وإما في الأشياء والأجسام.. وإن كان السحر الذي ذكر القرآن وقوعه من سحرة فرعون كان مجرد تخييل لا حقيقة له: «فخيل إليه من سحر هم أنها تسعى» - ولا مانع أن يكون مثل هذا التأثير وسيلة للتفريق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه. فالانفعالات تنشأ من التأثرات. وإن كانت الوسائل والآثار، والأسباب والمسببات، لا تقع كلها إلا بإذن الله، على النحو الذي أسلفنا.
أما من هما الملكان: هاروت وماروت؟ ومتى كانا ببابل؟ فإن قصتهما كانت متعارفة بين اليهود. بدليل أنهم لم يكذبوا هذه الإشارة ولم يعترضوا عليها. وقد وردت في القرآن الكريم إشارات مجملة لبعض الأحداث التي كانت معروفة عند المخاطبين بها وكان في ذلك الإجمال كفاية لأداء الغرض، ولم يكن هنالك ما يدعو إلى تفصيل أكثر. لأن هذا التفصيل ليس هو المقصود.
ولا أحب أن نجري نحن- في ظلال القرآن- خلف الأساطير الكثيرة التي وردت حول قصة الملكين. فليست هنالك رواية واحدة محققة يوثق بها.
ولقد مضى في تاريخ البشرية من الآيات والابتلاءات ما يناسب حالتها وإدراكها في كل طور من أطوارها.
فإذا جاء الاختيار في صورة ملكين- أو في صورة رجلين طيبين كالملائكة- فليس هذا غريباً ولا شاذاً بالقياس إلى شتى الصور وشتى الابتلاءات الخارقة، التي مرت بها البشرية، وهي تحبو، وهي تخطو، وهي تقفو(1/97)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
أشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم! والمفهومات الواضحة المحكمة في هذه الآيات تغني عن السعي وراء المتشابه فيها بالقياس إلينا بعد ذلك الزمن المديد. وحسبنا أن نعلم منها ضلال بني إسرائيل في جريهم وراء الأساطير، ونبذهم كتاب الله المستيقن، وأن نعرف أن السحر من عمل الشيطان وأنه من ثم كفر يدان به الإنسان، ويفقد به في الآخرة كل نصيب وكل رصيد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)(1/98)
يمضي هذا الدرس في كشف دسائس اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين وتحذير الجماعة المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم، وما تكنه نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر، وما يبيتون لهم من الكيد والضر ونهى الجماعة المسلمة عن التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في قول أو فعل ويكشف للمسلمين عن الأسباب الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال اليهود وأفعالهم، وكيدهم ودسهم، وألا عيبهم وفتنهم، التي يطلقونها في الصف الإسلامي.
ويبدو أن اليهود كانوا يتخذون من نسخ بعض الأوامر والتكاليف، وتغييرها وفق مقتضيات النشأة الإسلامية الجديدة، والظروف والملابسات التي تحيط بالجماعة المسلمة.. يبدو أنهم كانوا يتخذون من هذا ذريعة للتشكيك في مصدر هذه الأوامر والتكاليف ويقولون للمسلمين: لو كانت من عند الله ما نسخت ولا صدر أمر جديد يلغي أو يعدل أمراً سابقاً..
واشتدت هذه الحملة عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة. وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- قد اتجه بالصلاة- عقب الهجرة- إلى بيت المقدس- قبلة اليهود ومصلاهم- فاتخذ اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة مما جعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- يرغب ولا يصرح في التحول عن بيت المقدس إلى الكعبة، بيت الله المحرم. وظلت هذه الرغبة تعتمل في نفسه حتى استجاب له ربه فوجهه إلى القبلة التي يرضاها- كما سيجيء في سياق السورة- ونظراً لما يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل فقد عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة، فشنوها حملة دعاية ماكرة في وسط المسلمين، بالتشكيك في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي صحة تلقيه عن الوحي.. أي إنهم وجهوا المعول إلى أساس العقيدة في نفوس المسلمين! ثم قالوا لهم:
إن كان التوجه إلى بيت المقدس باطلاً فقد ضاعت صلاتكم وعبادتكم طوال هذه الفترة. وإن كان صحيحاً(1/99)
ففيم التحول عنه؟ أي أنهم وجهوا المعول إلى أساس الثقة في نفوس المسلمين برصيدهم من ثواب الله، وقبل كل شيء في حكمة القيادة النبوية! ويبدو أن هذه الحملة الخبيثة الماكرة آتت ثمرتها الكريهة في بعض نفوس المسلمين. فأخذوا يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- في قلق وزعزعة ويطلبون البراهين والأدلة، الأمر الذي لا يتفق مع الطمأنينة المطلقة إلى القيادة، والثقة المطلقة بمصدر العقيدة. فنزل القرآن يبين لهم أن نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة الله الذي يختار الأحسن لعباده ويعلم ما يصلح لهم في كل موقف. وينبههم في الوقت ذاته إلى أن هدف اليهود هو ردهم كفاراً بعد إيمانهم حسداً من عند أنفسهم على اختيار الله لهم، واختصاصهم برحمته وفضله، بتنزيل الكتاب الأخير عليهم، وانتدابهم لهذا الأمر العظيم. ويكشف لهم ما وراء أضاليل اليهود من غرض دفين! ويفند دعواهم الكاذبة في أن الجنة من حقهم وحدهم. ويقص عليهم التهم المتبادلة بين فريقي أهل الكتاب إذ يقول اليهود: ليست النصارى على شيء، وتقول النصارى ليست اليهود على شيء وكذلك يقول المشركون عن الجميع! ثم يفظع نيتهم التي يخفونها من وراء قصة القبلة وهي منع الاتجاه إلى الكعبة بيت الله ومسجده الأول، ويعده منعا لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعياً في خرابها.
ويمضي السياق في هذا الدرس على هذا النحو، حتى ينتهي إلى أن يضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى.. إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى يتبع ملتهم، وإلا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية! وهذه هي حقيقة المعركة التي تكمن وراء الأباطيل والأضاليل، وتتخفى خلف الحجج والأسباب المقنعة!!! 104- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا. وَقُولُوا: انْظُرْنا، وَاسْمَعُوا، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ. ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
يتجه الخطاب في مطلع هذا الدرس إلى «الَّذِينَ آمَنُوا» يناديهم بالصفة التي تميزهم، والتي تربطهم بربهم ونبيهم، والتي تستجيش في نفوسهم الاستجابة والتلبية.
وبهذه الصفة ينهاهم أن يقولوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- «راعنا» - من الرعاية والنظر- وأن يقولوا بدلاً منها مرادفها في اللغة العربية: «انْظُرْنا» .. ويأمرهم بالسمع بمعنى الطاعة، ويحذرهم من مصير الكافرين وهو العذاب الأليم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا. وَاسْمَعُوا. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
وتذكر الروايات أن السبب في ذلك النهي عن كلمة «راعِنا» .. أن سفهاء اليهود كانوا يميلون ألسنتهم(1/100)
في نطق هذا اللفظ، وهم يوجهونه للنبي- صلى الله عليه وسلم- حتى يؤدي معنى آخر مشتقاً من الرعونة. فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي- صلى الله عليه وسلم- مواجهة، فيحتالون على سبه- صلوات الله وسلامه عليه- عن هذا الطريق الملتوي، الذي لا يسلكه إلا صغار السفهاء! ومن ثم جاء النهي للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهود ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته. كي يفوتوا على اليهود غرضهم الصغير السفيه! واستخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى غيظهم وحقدهم، كما يشي بسوء الأدب، وخسة الوسيلة، وانحطاط السلوك. والنهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة، ودفاعه- سبحانه- عن أوليائه، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين.
105- ثم يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل. ليحذروا أعداءهم، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه:
«ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر.. وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير. وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين. هو أن يختارهم الله لهذا الخير وينزل عليهم هذا القرآن، ويحبوهم بهذه النعمة، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود.
ولقد سبق الحديث عن حقدهم وغيظهم من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، حتى لقد بلغ بهم الغيظ أن يعلنوا عداءهم لجبريل- عليه السلام- إذ كان ينزل بالوحي على الرسول- صلى الله عليه وسلم-:
«وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» ..
فالله أعلم حيث يجعل رسالته فإذا اختص بها محمداً- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به، فقد علم- سبحانه- أنه وأنهم أه لهذا الاختصاص.
«وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ..
وليس أعظم من نعمة النبوة والرسالة وليس أعظم من نعمة الإيمان والدعوة إليه. وفي هذا التلميح ما يستجيش في قلوب الذين آمنوا الشعور بضخامة العطاء وجزالة الفضل، وفي التقرير الذي سبقه عما يضمره الذين كفروا للذين آمنوا ما يستجيش الشعور بالحذر والحرص الشديد.. وهذا الشعور وذاك ضروريان للوقوف في وجه حملة البلبلة والتشكيك التي قادها- ويقودها- اليهود، لتوهين العقيدة في نفوس المؤمنين، وهي الخير الضخم الذي ينفسونه على المسلمين! 106- وكانت الحملة- كما أسلفنا- تتعلق بنسخ بعض الأوامر والتكاليف. وبخاصة عند تحويل القبلة إلى الكعبة.
الأمر الذي أبطل حجتهم على المسلمين:
«ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» ..
وسواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة- كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها- أم كانت مناسبة(1/101)
أخرى من تعديل بعض الأوامر والتشريعات والتكاليف، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة، وأحوالها المتطورة. أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة..
سواء كانت هذه أم هذه أم هذه، أم هي جميعاً المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشكيك في صلب العقيدة..
فإن القرآن يبين هنا بياناً حاسماً في شأن النسخ والتعديل وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها يهود، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب.
فالتعديل الجزئي وفق مقتضيات الأحوال- في فترة الرسالة- هو لصالح البشرية، ولتحقيق خير أكبر تقتضيه أطوار حياتها. والله خالق الناس، ومرسل الرسل، ومنزل الآيات، هو الذي يقدر هذا. فإذا نسخ آية القاها في عالم النسيان- سواء كانت آية مقروءة تشتمل حكماً من الأحكام، أو آية بمعنى علامة وخارقة تجيء لمناسبة حاضرة وتطوى كالمعجزات المادية التي جاء بها الرسل- فإنه يأتي بخير منها أو مثلها! ولا يعجزه شيء. 107- وهو مالك كل شيء، وصاحب الأمر كله في السماوات وفي الأرض.. ومن ثم تجيء هذه التعقيبات:
«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
والخطاب هنا للمؤمنين يحمل رائحة التحذير، ورائحة التذكير بأن الله هو وليهم وناصرهم وليس لهم من دونه ولي ولا نصير ... 108- ولعل هذا كان بسبب انخداع بعضهم بحملة اليهود التضليلية وبلبلة أفكارهم بحججهم الخادعة وإقدامهم على توجيه أسئلة للرسول- صلى الله عليه وسلم- لا تتفق مع الثقة واليقين.
يدل على هذا ما جاء في الآية التالية من صريح التحذير والاستنكار:
«أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ..
فهو استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنتهم، وطلبهم للبراهين والخوارق، وإعناتهم لرسولهم كلما أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف، على نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة..
وهو تحذير لهم من نهاية هذا الطريق، وهي الضلال، واستبدال الكفر بالإيمان، وهي النهاية التي صار إليها بنو إسرائيل. 109- كما أنها هي النهاية التي يتمنى اليهود لو قادوا إليها المسلمين! «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ..
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس.. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون..لماذا؟
لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم! «حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» ..
والحسد هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين، ومازالت تفيض، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيراتهم كلها وما تزال. وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم وردهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه، والذي أنقذهم الله منه بالإيمان، وخصهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي تحسدهم عليها يهود! وهنا- في اللحظة التي تتجلى فيها هذه الحقيقة، وتنكشف فيها النية السيئة والحسد اللئيم- هنا يدعو القرآن المؤمنين إلى الارتفاع عن مقابلة الحقد بالحقد، والشر بالشر، ويدعوهم إلى الصفح والعفو حتى يأتي الله(1/102)
بأمره، وقتما يريد:
«فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وامضوا في طريقكم التي اختارها الله لكم، واعبدوا ربكم وادخروا عنده حسناتكم:
110- «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
وهكذا.. يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر، ومكمن الدسيسة ويعبىء مشاعر المسلمين تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم.. ثم يأخذهم بهذه الطاقة المعبأة المشحونة كلها إلى جناب الله ينتظرون أمره، ويعلقون تصرفهم بإذنه.. وإلى أن يحين هذا الأمر يدعوهم إلى العفو والسماحة، لينقذ قلوبهم من نتن الحقد والضغينة. ويدعها طيبة في انتظار الأمر من صاحب الأمر والمشيئة..
111- ثم يمضي في تفنيد دعاوى أهل الكتاب عامة: اليهود والنصارى، وقولهم: إنهم هم المهتدون وحدهم! وإن الجنة وقف عليهم لا يدخلها سواهم! على حين يجبه كل فريق منهم الآخر بأنهم ليسوا على شيء! ويقرر في ثنايا عرض هذه الدعاوى العريضة حقيقة الأمر، ويقول كلمة الفصل في العمل والجزاء:
«وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلى! مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ- وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ- كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
والذين كانوا يواجهون المسلمين في المدينة كانوا هم اليهود إذ لم تكن هناك كتلة من النصارى تقف مواقف اليهود. ولكن النص هنا عام يواجه مقولات هؤلاء وهؤلاء. ثم يجبه هؤلاء بهؤلاء! ويحكي رأي المشركين في الطائفتين جميعاً! «وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» ..
وهذه حكاية قوليهم مزدوجة. وإلا فقد كانت اليهود تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً- أي من يهود- وكانت النصارى تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى..
وهذه القولة كتلك، لا تستند إلى دليل، سوى الادعاء العريض! ومن ثم يلقن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يجبههم بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل:
«قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
112- وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد. إنما هو الإسلام والإحسان، لا الاسم والعنوان:
«بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» .. فقال: «بَلى! مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»
..
إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة. طرفيها المتقابلين: «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» ..
فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة، في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة..(1/103)
و «مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ» .. فأخلص ذاته كلها لله، ووجه مشاعره كلها إليه، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة.. «مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» .. هنا تبرز سمة الإسلام الأولى: إسلام الوجه- والوجه رمز على الكل- ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم. الاستسلام المعنوي والتسليم العملي. ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» .. فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي.. بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله:
«فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
الأجر المضمون لا يضيع عند ربهم.. والأمن الموفور لا يساوره خوف، والسرور الفائض لا يمسه حزن.. وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعاً. فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة! 113- ولقد كانوا- يهوداً ونصارى- يطلقون تلك الدعوى العريضة، بينما يقول كل منهما عن الفريق الآخر إنه ليس على شيء وبينما كان المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها:
«وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ- وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ- كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ..
والذين لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم كتاب وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالإتهام، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات العرب وأساطير هم في الشرك ونسبة الأبناء- أو البنات- لله سبحانه فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون:
إنهم ليسوا على شيء! والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله:
«فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
فهو الحكم العدل، وإليه تصير الأمور.. وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق، ولا يعتمدون على دليل، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة، وأنهم وحدهم المهديون! 114- ثم يعود إلى ترذيل محاولتهم تشكيك المسلمين في صحة الأوامر والتبليغات النبوية- وبخاصة ما يتعلق منها بتحويل القبلة- وبعدها سعيا في منع ذكر الله في مساجده، وعملا على خرابها:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها؟ أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
وأقرب ما يتوارد إلى الخاطر أن هاتين الآيتين تتعلقان بمسألة تحويل القبلة وسعي اليهود لصد المسلمين عن التوجه إلى الكعبة.. أول بيت وضع للناس وأول قبلة.. وهناك روايات متعددة عن أسباب نزولهما غير هذا الوجه..(1/104)
وعلى أية حال فإن إطلاق النص يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والسعي في خرابها. كذلك الحكم الذي يرتبه على هذه الفعلة، ويقرر أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها.
وهو قوله:
«أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» ..
أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين (وذلك كالذي حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح: من دخل المسجد الحرام فهو آمن.. فلجأ إليها المستأمنون من جبابرة قريش، بعد أن كانوا هم الذين يصدون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن معه ويمنعونهم زيارة المسجد الحرام!) .
ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم به من خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة:
«لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
وهناك تفسير آخر لقوله: «أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» .. أي أنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا في خوف من الله وخشوع لجلالته في بيوته. فهذا هو الأدب اللائق ببيوت الله، المناسب لمهابته وجلاله العظيم.. وهو وجه من التأويل جائز في هذا المقام.
115- والذي يجعلنا نرجح أن الآيتين نزلتا في مناسبة تحويل القبلة، هو الآية الثانية منهما:
«وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» .
فهي توحي بأنها جاءت رداً على تضليل اليهود في ادعائهم إن صلاة المسلمين إذن إلى بيت المقدس كانت باطلة، وضائعة ولا حساب لها عند الله! والآية ترد عليهم هذا الزعم، وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة، فثم وجه الله حيثما توجه إليه عابد. وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة، لا أن وجه الله- سبحانه- في جهة دون جهة. والله لا يضيق على عباده، ولا ينقصهم ثوابهم، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودوافع اتجاهاتهم. وفي الأمر سعة. والنية لله «إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
116- بعد ذلك يستعرض السياق ضلال تصورهم لحقيقة الألوهية، وانحرافهم عن التوحيد الذي هو قاعدة دين الله، وأساس التصور الصحيح في كل رسالة. ويقرن تصورهم المنحرف إلى تصورات الجاهلية عن ذات الله- سبحانه- وصفاته. ويقرر التشابه بين قلوب المشركين من العرب وقلوب المشركين من أهل الكتاب، ويصحح للجميع انحرافهم إلى الشرك، ويوضح لهم قاعدة التصور الإيماني الصحيح:
«وَقالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. سُبْحانَهُ! بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ..
وهذه المقولة الفاسدة: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .. ليست مقولة النصارى وحدهم في المسيح، فهي كذلك مقولة اليهود في العزير. كما كانت مقولة المشركين في الملائكة. ولم تفصل الآية هنا هذه المقولات، لأن السياق سياق إجمال للفرق الثلاث التي كانت تناهض الإسلام يومئذ في الجزيرة- ومن عجب أنها لا تزال هي التي تناهضه اليوم تماما، ممثلة في الصهيونية العالمية والصليبية العالمية، والشيوعية العالمية، وهي أشد كفراً من(1/105)
المشركين في ذلك الحين! - ومن هذا الإدماج تسقط دعوى اليهود والنصارى في أنهم وحدهم المهتدون وها هم أولاء يستوون مع المشركين! وقبل أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من تصورهم لشأن الله- سبحانه- يبادر بتنزيه الله عن هذا التصور، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعاً:
«سُبْحانَهُ! بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ. فَيَكُونُ» ..
هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن الله سبحانه، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعاً.. لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: «كُنْ، فَيَكُونُ» .. فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن، على الصورة المقدرة له، بدون وسيط من قوة أو مادة.. أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها، بذلك الكائن المراد صدوره عنها، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه. وهي غير مهيأة لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها.. وبقدر ما وهب الله للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته، وسخر له الانتفاع بها، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى.. ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه، وهي تحاول كشف هذه الأسرار وتفترض فروضاً تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال، ولم يزود أصلاً بأدوات المعرفة فيه والارتياد. فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها. مضحكة إلى حد يحير الإنسان: كيف يصدر هذا عن «فيلسوف» ! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله. وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة، الخاطئة المنهج ابتداء. فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية- على وجه خاص- أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى، باءوا بالتعقيد والتخليط، كما باء أساتذتهم الإغريق! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته.. وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة للعقل البشري وراء مجاله، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه..
والنظرية الإسلامية: أن الخلق غير الخالق. وأن الخالق ليس كمثله شيء.. ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة: «وحدة الوجود» على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح- أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة- أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق، أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده.. أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس.. والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر: وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع:
«بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ..
فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولداً.. فالكل من خلقه بدرجة واحدة، وبأداة واحدة:(1/106)
117- «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» ..
وتوجه الإرادة يتم بكيفية غير معلومة للإدراك البشري، لأنها فوق طاقة الإدراك البشري. فمن العبث إنفاق الطاقة في اكتناه هذا السر، والخبط في التيه بلا دليل! 118- وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد لله- سبحانه- وتصحيح هذه المقولة وردها، يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب:
«وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ! كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» ..
والذين لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين إذ لم يكن لديهم علم من كتاب. وكثيرا ما تحدوا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يكلمهم الله أو أن تأتيهم خارقة من الخوارق المادية.. وذكر هذه المقولة هنا مقصود لبيان أن الذين من قبلهم- وهم اليهود وغيرهم- طلبوا مثل هذا من أنبيائهم. فلقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة. فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة، وشبه في التصور، وشبه في الضلال:
«تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» ..
فلا فضل لليهود على المشركين. وهم متشابهو القلوب في التصور والعنت والضلال:
«قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ..
والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة ضميره. فالآيات لا تنشئ اليقين، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها. ويهيىء القلوب للتلقي الواصل الصحيح.
119- وإذا انتهت مقولاتهم، وفندت أباطيلهم، وكشفت الدوافع الكامنة وراء أضاليلهم، يتجه الخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبين له وظيفته، ويحدد له تبعاته، ويكشف له عن حقيقة المعركة بينه وبين اليهود والنصارى، وطبيعة الخلاف الذي لا حل له إلا بثمن لا يملكه ولا يستطيعه! ولو أداه لتعرض لغضب الله مولاه وحاشاه! «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
«إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ» .. وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات المضللين، ومحاولات الكائدين، وتلبيس الملفقين. وفي جرسها صرامة توحي بالجزم واليقين.
«بَشِيراً وَنَذِيراً» .. وظيفتك البلاغ والأداء، تبشر الطائعين وتنذر العصاة، فينتهي دورك.
«وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» .. الذين يدخلون الجحيم بمعصيتهم، وتبعتهم على أنفسهم.
120- وسيظل اليهود والنصارى يحاربونك، ويكيدون لك، ولا يسالمونك ولا يرضون عنك، إلا أن تحيد عن هذا الأمر، وإلا أن تترك هذا الحق، وإلا أن تتخلى عن هذا اليقين، تتخلى عنه إلى ما هم فيه من ضلال وشرك وسوء تصور كالذي سبق بيانه منذ قليل:(1/107)
«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..
فتلك هي العلة الأصيلة. ليس الذي ينقصهم هو البرهان وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت.. لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان.. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة.. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها. ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاماً شتى، في خبث ومكر وتورية. إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة. ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة.. لم يعلنوها حربا باسم العقيدة- على حقيقتها- خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها. إنما أعلنوها باسم الأرض، والاقتصاد، والسياسة، والمراكز العسكرية.. وما إليها. وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها. فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها.. بينما هم في قرارة نفوسهم: الصهيونية العالمية والصليبية العالمية- بإضافة الشيوعية العالمية- جميعاً يخوضون المعركة أولاً وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلاً، فأدمتهم جميعاً!!! إنها معركة العقيدة. إنها ليست معركة الأرض. ولا الغلة. ولا المراكز العسكرية. ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين. ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا. ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- ولأمته، وهو- سبحانه- أصدق القائلين:
«وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» ..
فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم، والتوجيه الصادق:
«قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» ..
على سبيل القصر والحصر. هدى الله هو الهدى. وما عداه ليس بهدى. فلا براح منه، ولا فكاك عنه، ولا محاولة فيه، ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شيء منه قليل أو كثير، ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. وحذار أن تميل بك الرغبة في هدايتهم وإيمانهم، أو صداقتهم ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق.
«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» ..
بهذا التهديد المفزع، وبهذا القطع الجازم، وبهذا الوعيد الرعيب.. ولمن؟ لنبي الله ورسوله وحبيبه الكريم! إنها الأهواء.. إن أنت ملت عن الهدى.. هدى الله الذي لا هدى سواه.. وهي الأهواء التي تقفهم منك هذا الموقف وليس نقص الحجة ولا ضعف الدليل.(1/108)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
121- والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته، ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون، لا أنت ولا المؤمنون! «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» ..
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان، أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود؟
123 و 122- وبعد هذا التقرير الحاسم الجازم ينتقل السياق بالخطاب إلى بني إسرائيل. كأنما ليهتف بهم الهتاف الأخير، بعد هذه المجابهة وهذا الجدل الطويل، وبعد استعراض تاريخهم مع ربهم ومع أنبيائهم، وبعد الالتفات عنهم إلى خطاب النبي- صلى الله عليه وسلم- وخطاب المؤمنين.. هنا يجيء الالتفات إليهم كأنه الدعوة الأخيرة، وهم على أبواب الإهمال والإغفال والتجريد النهائي من شرف الأمانة.. أمانة العقيدة.. التي نيطت بهم من قديم.. وهنا يكرر لهم الدعوة ذاتها التي وجهها إليهم في أول الجولة.. يا بني إسرائيل..
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» ..
[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 141]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)(1/109)
في القطاعات التي مضت من هذه السورة كان الجدل مع أهل الكتاب، دائراً كله حول سيرة بني إسرائيل، ومواقفهم من أنبيائهم وشرائعهم، ومن مواثيقهم وعهودهم، ابتداء من عهد موسى- عليه السلام- إلى عهد محمد- صلى الله عليه وسلم- أكثره عن اليهود، وأقله عن النصارى، مع إشارات إلى المشركين، عند السمات التي يلتقون فيها مع أهل الكتاب، أو يلتقي معهم فيها أهل الكتاب.
فالآن يرجع السياق إلى مرحلة تاريخية أسبق من عهد موسى.. يرجع إلى إبراهيم.. وقصة إبراهيم- على النحو الذي تساق به في موضعها هذا- تؤدي دورها في السياق، كما أنها تؤدي دوراً هاماً فيما شجر بين اليهود والجماعة المسلمة في المدينة من نزاع حاد متشعب الأطراف.
إن أهل الكتاب ليرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق- عليهما السلام- ويعتزون بنسبتهم إليه، وبوعد الله له ولذريته بالنمو والبركة، وعهده معه ومع ذريته من بعده. ومن ثم يحتكرون لأنفسهم الهدى والقوامة على الدين، كما يحتكرون لأنفسهم الجنة أيا كان ما يعملون! وإن قريشاً لترجع بأصولها كذلك إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل- عليهما السلام- وتعتز بنسبتها إليه وتستمد منها القوامة على البيت، وعمارة المسجد الحرام وتستمد كذلك سلطانها الديني على العرب، وفضلها(1/110)
وشرفها ومكانتها.
وقد وصل السياق فيما مضى إلى الحديث عن دعاوى اليهود والنصارى العريضة في الجنة: «وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» .. وعن محاولتهم أن يجعلوا المسلمين يهوداً أو نصارى.. ليهتدوا..
«وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا» .. كذلك وصل إلى الحديث عن الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها. وقلنا هناك: إنها قد تكون خاصة بموقف اليهود من قضية تحويل القبلة، وبالدعاية المسمومة التي أثاروها في الصف الإسلامي بهذه المناسبة.
فالآن يجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره.. في جوه المناسب، لتقرير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جميعاً حول هذه النسب وهذه الصلات. ولتقرير قضية القبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون.. كذلك تجيء المناسبة لتقرير حقيقة دين إبراهيم- وهي التوحيد الخالص- وبعد ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الكتاب والمشركون سواء وقرب ما بين عقيدة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب- وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه- وعقيدة الجماعة المسلمة بآخر دين. ولتقرير وحدة دين الله، واطراده على أيدي رسله جميعاً، ونفي فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس. وبيان أن العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية العمياء.
وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة. فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء العصب! فالدين دين الله. وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر!!! هذه الحقائق التي تمثل شطراً من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي، يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع.. يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم- عليه السلام- منذ أن ابتلاه ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه، وتنصيبه للناس إماماً.. إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعاً، بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة. سبب الإيمان بالرسالة، وحسن القيام عليها، والاستقامة على تصورها الصحيح.
وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق: أن الإسلام- بمعنى إسلام الوجه لله وحده- كان هو الرسالة الأولى، وكان هو الرسالة الأخيرة.. هكذا اعتقد إبراهيم، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى.. ثم آلت أخيراً إلى ورثة إبراهيم من المسلمين..
فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها، ووريث عهودها وبشاراتها. ومن فسق عنها، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد الله، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته.
عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه! لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة.. وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته.. ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون. فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم..
كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية، والوقفات العميقة(1/111)
الدلالة، والإيضاح القوي التأثير. 124- فلنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظل هذا البيان المنير:
«وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..
يقول للنبي- صلى الله عليه وسلم- اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاء وقضاء.. وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» .. وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم. مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل. والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم! عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى. أو تلك الثقة:
«قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ..
إماماً يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى الله، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعاً، وتكون له فيهم قيادة.
عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر: الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد. ذلك الشعور الفطري العميق، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق.. ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى. وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث، تلبية لتلك الفطرة، وتنشيطاً لها لتعمل، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد. وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة. وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى. وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة. ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق، وفكرة عن تكوينها أدق، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح:
«قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟» ..
وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا.. إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور، وبالصلاح والإيمان، وليست وراثة أصلاب وأنساب. فالقربى ليست وشيجة لحم ودم، إنما هي وشيجة دين وعقيدة. ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية، التي تصطدم اصطداماً أساسياً بالتصور الإيماني الصحيح:
«قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..
والظلم أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي.. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة الصلاة.. وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة.
فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها. ومن ظلم- أي لون من الظلم- فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.
وهذا الذي قيل لإبراهيم- عليه السلام- وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع في(1/112)
تنحية اليهود عن القيادة والإمامة، بما ظلموا، وبما فسقوا، وبما عتوا عن أمر الله، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم..
وهذا الذي قيل لإبراهيم- عليه السلام- وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم. بما ظلموا، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم.. ودعواهم الإسلام، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله.
إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل. ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا أنبتّت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل.. وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته، بل يفصل بين الوالد والولد، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة. فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر. ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة. والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة.. إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفاداً.. إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة. وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين..
إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم.. وهذا هو التصور الإيماني، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني، في كتاب الله الكريم..
125- «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» ..
هذا البيت الحرام الذي قام سدنته من قريش فروعوا المؤمنين وآذوهم وفتنوهم عن دينهم حتى هاجروا من جواره.. لقد أراده الله مثابة يثوب إليها الناس جميعاً، فلا يروعهم أحد بل يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم. فهو ذاته أمن وطمأنينة وسلام.
ولقد أمروا أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى- ومقام إبراهيم يشير هنا إلى البيت كله وهذا ما نختاره في تفسيره- فاتخاذ البيت قبلة للمسلمين هو الأمر الطبيعي، الذي لا يثير اعتراضاً. وهو أولى قبلة يتوجه إليها المسلمون، ورثة إبراهيم بالإيمان والتوحيد الصحيح، بما أنه بيت الله، لا بيت أحد من الناس. وقد عهد الله- صاحب البيت- إلى عبدين من عباده صالحين أن يقوما بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود- أي للحجاج الوافدين عليه، وأهله العاكفين فيه، والذين يصلون فيه ويركعون ويسجدون فحتى إبراهيم وإسماعيل لم يكن البيت ملكاً لهما، فيورث بالنسب عنهما، إنما كانا سادنين له بأمر ربهما، لإعداده لقصاده وعباده من المؤمنين.
126- «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ.. مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.. قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت. ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير..
إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى. لقد وعى منذ أن قال له ربه: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ..(1/113)
وعى هذا الدرس.. فهو هنا، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات، يحترس ويستثني ويحدد من يعني:
«مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه، فيراعيه في طلبه ودعائه..
وعندئذ يجيثه رد ربه مكملاً ومبيناً عن الشطر الآخر الذي سكت عنه. شطر الذين لا يؤمنون، ومصير هم الأليم:
«قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا، ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ..
127- ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.. يرسمه مشهوداً كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن:
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر.. حكاية تحكى:
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ» ..
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان:
«رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.. رَبَّنا..»
فنغمة الدعاء، وموسيقى الدعاء، وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة..
وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضراً يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة.. إنها خصيصة «التصوير الفني» بمعناه الصادق، اللائق بالكتاب الخالد.
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود.
وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء:
«رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
إنه طلب القبول.. هذه هي الغاية.. فهو عمل خالص لله. الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله. والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول.. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء. عليم بما وراءه من النية والشعور.
128- «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .
إنه رجاء العون من ربهما في الهداية إلى الإسلام والشعور بأن قلبيهما بين أصبعين من أصابع الرحمن وأن الهدى هداه، وأنه لا حول لهما ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان.
ثم هو طابع الأمة المسلمة.. التضامن.. تضامن الأجيال في العقيدة: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» ..(1/114)
وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن. إن أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول. وشعور إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما.. نعمة الإيمان.. تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام.. لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم. بما أنه هو التواب الرحيم.
ثم ألا يتركهم بلا هداية في أجيالهم البعيدة:
«رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون. بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل، يتلو عليهم آيات، الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس.
إن الدعوة المستجابة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته. غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون! وبعد فإن لهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان يشجر بين اليهود والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف.
إن إبراهيم وإسماعيل اللذين عهد الله إليهما برفع قواعد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والمصلين، وهما أصل سادني البيت من قريش.. إنهما يقولان باللسان الصريح: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» .. «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» .. 129- كما يقولان باللسان الصريح: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» .. وهما بهذا وذاك يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم، ووراثتها للبيت الحرام سواء. وإذن فهو بيتها الذي تتجه إليه، وهي أولى به من المشركين. وهو أولى بها من قبلة اليهود والمسيحيين! وإذن فمن كان يربط ديانته بإبراهيم من اليهود والنصارى، ويدعي دعاواه العريضة في الهدى والجنة بسبب تلك الوراثة، ومن كان يربط نسبه بإسماعيل من قريش.. فليسمع: إن إبراهيم حين طلب الوراثة لبنيه والإمامة، قال له ربه: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» .. ولما أن دعا هو لأهل البلد بالرزق والبركة خص بدعوته: «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. وحين قام هو وإسماعيل بأمر ربهما في بناء البيت وتطهيره كانت دعوتهما: أن يكونا مسلمين لله، وأن يجعل الله من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث في أهل بيته رسولاً منهم..
فاستجاب الله لهما، وأرسل من أهل البيت محمد بن عبد الله، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله.
الوارثة لدين الله.
130- وعند هذا المقطع من قصة إبراهيم، يلتقط السياق دلالته وإيحاءه، ليواجه بهما الذين ينازعون الأمة المسلمة الإمامة وينازعون الرسول- صلى الله عليه وسلم- النبوة والرسالة ويجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة:
«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ؟ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. 131- إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ. قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ..
هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها،(1/115)
مستهتر بها.. إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما، وشهد له في الآخرة بإصلاح.. اصطفاه «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» .. فلم يتلكأ، ولم يرتب، ولم ينحرف، واستجاب فور تلقي الأمر.
«قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ..
132- هذه هي ملة إبراهيم.. الإسلام الخالص الصريح.. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه. ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم! ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة الله عليهم في اختياره الدين لهم:
«يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» ..
فهو من اختيار الله. فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه. وأقل ما توجبه رعاية الله لهم، وفضل الله عليهم، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه، والحرص على ما اختاره لهم، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم:
«فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ..
وها هي ذي الفرصة سانحة، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم..
133- تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه.. الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته، فليسمعها بنو إسرائيل:
«أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟ ..
إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته:
«ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟» ..
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث..
«قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. إِلهاً واحِداً. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه.
وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب. وكذلك هم ينصون نصاً صريحاً على أنهم «مُسْلِمُونَ» .(1/116)
والقرآن يسأل بني إسرائيل: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ؟» .. فهذا هو الذي كان، يشهد به الله، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل! 134- وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة..
حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين:
«تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
فلكل حساب ولكل طريق ولكل عنوان ولكل صفة.. أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين. إن هذه الأعقاب ليست امتداداً لتلك الأسلاف. هؤلاء حزب وأولئك حزب. لهؤلاء راية ولأولئك راية.. والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي.. فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب. أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق فليسا أمة واحدة، وليس بينهما صلة ولا قرابة.. إنهما أمتان مختلفتان في ميزان الله، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين. إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة. وهذا هو التصور اللائق بالإنسان، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية، لا من التصاقات الطين الأرضية! 135- في ظل هذا البيان التاريخي الحاسم، لقصة العهد مع إبراهيم: وقصة البيت الحرام كعبة المسلمين ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين يناقش ادعاءات أهل الكتاب المعاصرين، ويعرض لحججهم وجدلهم ومحالهم، فيبدو هذا كله ضعيفاً شاحباً، كما يبدو فيه العنت والادعاء بلا دليل: كذلك تبدو العقيدة الإسلامية عقيدة طبيعية شاملة لا ينحرف عنها إلا المتعنتون:
«وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا. قُلْ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ. قُلْ: أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟. أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى؟ قُلْ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ؟ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وإنما كان قول اليهود: كونوا يهوداً تهتدوا وكان قول النصارى: كونوا نصارى تهتدوا. فجمع الله قوليهم ليوجه نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يواجههم جميعاً بكلمة واحدة:
«قُلْ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
قل: بل نرجع جميعاً، نحن وأنتم، إلى ملة إبراهيم، أبينا وأبيكم، وأصل ملة الإسلام، وصاحب العهد مع ربه عليه.. «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. بينما أنتم تشركون..
136- ثم يدعو المسلمين لإعلان الوحدة الكبرى للدين، من لدن إبراهيم أبي الأنبياء إلى عيسى بن مريم، إلى(1/117)
الإسلام الأخير. ودعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الواحد:
«قُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
تلك الوحدة الكبرى بين الرسالات جميعاً، وبين الرسل جميعاً، هي قاعدة التصور الإسلامي وهي التي تجعل من الأمة المسلمة، الأمة الوارثة لتراث العقيدة القائمة على دين الله في الأرض، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في الدرب على هدى ونور. والتي تجعل من النظام الإسلامي النظام العالمي الذي يملك الجميع الحياة في ظله دون تعصب ولا اضطهاد. والتي تجعل من المجتمع الإسلامي مجتمعاً مفتوحاً للناس جميعاً في مودة وسلام.
137- ومن ثم يقرر السياق الحقيقة الكبيرة، ويثبت عليها المؤمنين بهذه العقيدة. حقيقة أن هذه العقيدة هي الهدى.
من اتبعها فقد اهتدى. ومن أعرض عنها فلن يستقر على أصل ثابت ومن ثم يظل في شقاق مع الشيع المختلفة التي لا تلتقي على قرار:
«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» ..
وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه. فهو وحده المهتدي. ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق المعادي للهدى. ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن، ولا عليه من كيده ومكره. ولا عليه من جداله ومعارضته. فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه:
«فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ. وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
138- إنه ليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه، فيعرفون بها في الأرض:
«صِبْغَةَ اللَّهِ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً؟ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ» .
صبغة الله التي شاء لها أن تكون آخر رسالاته إلى البشر. لتقوم عليها وحدة إنسانية واسعة الآفاق، لا تعصب فيها ولا حقد، ولا أجناس فيها ولا ألوان.
ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة.. إن صدر هذه الآية من كلام الله التقريري: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» .. أما باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق- بلا فاصل- بكلام البارئ سبحانه في السياق. وكله قرآن منزل. ولكن الشطر الأول حكاية عن قول الله، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربهم، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير.
وهو ذو مغزى كبير.
139- ثم تمضي الحجة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة:
«قُلْ: أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟» ..
ولا مجال للجدل في وحدانية الله وربوبيته. فهو ربنا وربكم، ونحن محاسبون بأعمالنا، وعليكم وزر أعمالكم. ونحن متجردون له مخلصون لا نشرك به شيئاً، ولا نرجو معه أحداً.. وهذا الكلام تقرير لموقف(1/118)
المسلمين واعتقادهم وهو غير قابل للجدل والمحاجة واللجاج..
140- ومن ثم يضرب السياق عنه، وينتقل إلى مجال آخر من مجالات الجدل. يظهر أنه هو الآخر غير قابل للجاجة والمحال:
«أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى؟» .
وهم كانوا أسبق من موسى، وأسبق من اليهودية والنصرانية. والله يشهد بحقيقة دينهم- وهو الإسلام كما سبق البيان-:
«قُلْ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟» ..
وهو سؤال لا جواب عليه! وفيه من الاستنكار ما يقطع الألسنة دون الجواب عليه! ثم إنكم لتعلمون أنهم كانوا قبل أن تكون اليهودية والنصرانية. وكانوا على الحنيفية الأولى التي لا تشرك بالله شيئاً. ولديكم كذلك شهادة في كتبكم أن سيبعث نبي في آخر الزمان دينه الحنيفية، دين إبراهيم. ولكنكم تكتمون هذه الشهادة:
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ؟» ..
والله مطلع على ما تخفون من الشهادة التي ائتمنتم عليها، وما تقومون به من الجدال فيها لتعميتها وتلبيسها:
«وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
141- وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الإفحام، وإلى هذا الفصل في القضية، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه.. عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين:
«تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ. لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وفيها فصل الخطاب، ونهاية الجدل، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة.(1/119)
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني مبدوءا بقوله تعالى:
سيقول السفهاء من الناس ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟(1/120)
بسم الله الرّحمن الرّحيم من سورة البقرة الجزء الثّاني(1/121)
بسم الله الرّحمن الرّحيم ابتداء من هذا الجزء في سورة البقرة نجد التركيز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل الأمانة الكبرى- أمانة العقيدة، وأمانة الخلافة في الأرض باسم هذه العقيدة- وإن نكن ما نزال نلتقي بين الحين والحين بالجدل مع أعداء هذه الجماعة المناهضين لها- وفي مقدمتهم بنو إسرائيل- ومواجهة دسائسهم وكيدهم وحربهم للعقيدة في أصولها، وللجماعة المسلمة في وجودها. كما نلتقي بالتوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة لمواجهة الحرب المتعددة الأساليب التي يشنها عليها خصومها وللحذر كذلك من مزالق الطريق التي وقع فيها بنو إسرائيل قبلها.
فأما المادة الأساسية لهذا الجزء، ولبقية السورة، فهي إعطاء الجماعة المسلمة خصائص الأمة المستخلفة، وشخصيتها المستقلة. المستقلة بقبلتها وبشرائعها المصدقة لشرائع الديانات السماوية قبلها والمهيمنة عليها وبمنهجها الجامع الشامل المتميز كذلك.. وقبل كل شيء بتصورها الخاص للوجود والحياة، ولحقيقة ارتباطها بربها، ولوظيفتها في الأرض وما تقتضيه هذه الوظيفة من تكاليف في النفس والمال، وفي الشعور والسلوك، ومن بذل وتضحية، وتهيؤ للطاعة المطلقة للقيادة الإلهية، الممثلة في تعليمات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي- صلى الله عليه وسلم- وتلقي ذلك كله بالاستسلام والرضى، وبالثقة واليقين.
ومن ثم نجد حديثا عن تحويل القبلة، يتبين منه أنه يراد بهذه الأمة أن تكون أمة وسطا، أهلها شهداء على الناس والرسول عليهم شهيد فلها على الناس في الأرض قيادة وهيمنة، وإشراف وتوجيه. ونجد دعوة لهذه الأمة إلى الصبر على تكاليف هذه الوظيفة الملقاة على عاتقها، وهذا الواجب الذي ستضطلع به للبشرية جميعا واحتمال ما سيكلفها في الأنفس والأموال، والرضى بقدر الله ورد الأمور كلها إليه على كل حال.
ثم نجد بيانا وجلاء لبعض قواعد التصور الإيماني، حيث يقرر أن البر هو التقوى والعمل الصالح لا تقليب الوجوه قبل المشرق والمغرب.. وذلك ردا على ما يقوم به اليهود من بلبلة، ومن كتمان وتلبيس للحقائق، وجدال ومراء فيما يعلمون أنه الحق.. ومعظم الحديث في هذا القطاع يتعلق بتحويل القبلة، وما ثار حوله من ملابسات وأقاويل.
ثم يأخذ السياق في تقرير النظم العملية والشعائر التعبدية- وهما العنصران اللذان تقوم عليهما حياة هذه الأمة- وتنظيم مجتمعها ليواجه المهام الملقاة على عاتقها، فنجد شريعة القصاص وأحكام الوصية، وفريضة الصيام، وأحكام القتال في الأشهر الحرام وفي المسجد الحرام، وفريضة الحج، وأحكام الخمر والميسر، ودستور الأسرة.. مشدودة كلها برباط العقيدة والصلة بالله. كذلك نجد في نهاية هذا الجزء بمناسبة الحديث عن الجهاد بالنفس والمال، قصة من حياة بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل(1/123)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
الله.. فيها عبر كثيرة وتوجيهات موحية بالنسبة للجماعة المسلمة الوارثة لتراث الرسالات قبلها، ولتجارب الأمم في هذا التراث.
ومن مراجعة هذا الجزء- بالإضافة إلى الجزء الأول من السورة- ندرك طبيعة المعركة التي كان يخوضها القرآن وطبيعة الغاية التي كان يستهدفها في بناء الأمة المسلمة. وهي معركة ضخمة مع الدسائس والفتن والألاعيب والبلبلة والتلبيس والكذب ومع الضعف البشري، ومداخل الفتنة ومسارب الغواية في النفس البشرية على السواء. وهي كذلك معركة للبناء والتوجيه وإنشاء التصور الصحيح الذي يمكن أن تقوم عليه الأمة المستخلفة في الأرض، التي تتولى القيادة الرشيدة للبشرية جميعا.
أما الإعجاز القرآني فيتجلى في أن هذه التوجيهات وهذه الأسس التي جاء بها القرآن لكي ينشىء الجماعة المسلمة الأولى، هي هي ما تزال التوجيهات والأسس الضرورية لقيام الجماعة المسلمة في كل زمان ومكان وأن المعركة التي خاضها القرآن ضد أعدائها هي ذاتها المعركة التي يمكن أن يخوضها في كل زمان ومكان.
لا بل إن أعداءها التقليديين الذين كان يواجههم القرآن ويواجه دسائسهم وكيدهم ومكرهم، هم هم، ووسائلهم هي هي، تتغير أشكالها بتغير الملابسات، وتبقى حقيقتها وطبيعتها وتحتاج الأمة المسلمة، في كفاحها وتوقيها إلى توجيهات هذا القرآن حاجة الجماعة المسلمة الأولى. كما تحتاج في بناء تصورها الصحيح وإدراك موقفها ومن الكون والناس إلى ذات النصوص وذات التوجيهات وتجد فيها معالم طريقها واضحة، كما لا تجدها في أي مصدر آخر من مصادر المعرفة والتوجيه. ويظل القرآن كتاب هذه الأمة العامل في حياتها، وقائدها الحقيقي في طريقها الواقعي، ودستورها الشامل الكامل، الذي تستمد منه منهج الحياة، ونظام المجتمع، وقواعد التعامل الدولي والسلوك الأخلاقي والعملي.
وهذا هو الإعجاز ...
[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 152]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)(1/124)
الحديث في هذا الدرس يكاد يقتصر على حادث تحويل القبلة، والملابسات التي أحاطت به، والدسائس التي حاولها اليهود في الصف المسلم بمناسبته، والأقاويل التي أطلقوها من حوله ومعالجة آثار هذه الأقاويل في نفوس بعض المسلمين، وفي الصف المسلم على العموم.
ولا توجد رواية قطعية في هذا الحادث، كما أنه لا يوجد قرآن يتعلق بتاريخه بالتفصيل. والآيات الخاصة به هنا تتعلق بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وكان هذا في المدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهراً من الهجرة.
ومجموع الروايات المتعلقة بهذا الحادث يمكن أن يستنبط منها- بالإجمال- أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة منذ أن فرضت الصلاة- وليس في هذا نص قرآني- وأنهم بعد الهجرة وجهوا إلى بيت المقدس بأمر إلهي للرسول- صلى الله عليه وسلم- يرجح أنه أمر غير قرآني. ثم جاء الأمر القرآني الأخير: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» .. فنسخه.
وعلى أية حال فقد كان التوجه إلى بيت المقدس- وهو قبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى- سبباً في اتخاذ اليهود إياه ذريعة للاستكبار عن الدخول في الإسلام، إذ أطلقوا في المدينة ألسنتهم بالقول، بأن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتهم في الصلاة دليل على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام!(1/125)
وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقاً على المسلمين من العرب، الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظموا حرمة البيت الحرام وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم. وزاد الأمر مشقة ما كانوا يسمعونه من اليهود من التبجح بهذا الأمر، واتخاذه حجة عليهم! وكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقلب وجهه في السماء متجهاً إلى ربه، دون أن ينطق لسانه بشيء، تأدباً مع الله، وانتظار لتوجيهه بما يرضاه..
ثم نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» ..
وتقول الروايات: إن هذا كان في الشهر السادس عشر أو السابع عشر أو السابع عشر من الهجرة، وإن المسلمين حينما سمعوا بتحويل القبلة، كان بعضهم في منتصف صلاة، فحولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.
عندئذ انطلقت أبواق يهود- وقد عز عليهم أن يتحول محمد- صلى الله عليه وسلم- والجماعة المسلمة عن قبلتهم، وأن يفقدوا حجتهم التي يرتكنون إليها في تعاظمهم وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم- انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم بذور الشك والقلق في قيادتهم وفي أساس عقيدتهم.. قالوا لهم: إن كان التوجه- فيما مضى- إلى بيت المقدس باطلاً فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة وإن كانت حقاً فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل، وضائعة صلاتكم إليه كلها.. وعلى أية حال فإن هذا النسخ والتغيير للأوامر- أو للآيات- لا يصدر من الله، فهو دليل على أن محمداً لا يتلقى الوحي من الله! وتتبين لنا ضخامة ما أحدثته هذه الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف الإسلامي من مراجعة ما نزل من القرآن في هذا الموضوع، منذ قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها» - وقد استغرق درسين كاملين في الجزء الأول- ومن مراجعة هذا الدرس في هذا الجزء أيضاً. ومن التوكيدات والإيضاحات والتحذيرات التي سندرسها فيما يلي تفصيلاً عند استعراض النص القرآني.
أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة بهم يتجهون إليها. فقد كان هذا حادثاً عظيماً في تاريخ الجماعة المسلمة، وكانت له آثار ضخمة في حياتها..
لقد كان تحويل القبلة أولاً عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها آية في هذا الدرس:
«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» .. فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي.. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، المجرد من كل ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية على العموم.. فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول اتباعاً مجرداً من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد..
حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة التي وجههم إليها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت(1/126)
ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام.
ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصاً لله، وليكون تراثاً للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولاً منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.. كما مر في درس: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ..
في الجزء الماضي.
ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته، وما أحاط بهما من ملابسات والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته، وعهده ووصيته.. كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة. فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل..
يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه. فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري، الذي ينشئه ذلك التاريخ.
لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده، كما عهد به يعقوب- وهو إسرائيل- ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين.
ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام.. فهو تراث لهما، يرثه من يرثون عهد الله إليهما.. والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق، وبيناها فيما سبق. فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم- وهو الإسلام- فيشاركوا في هذه الوراثة..
الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه. تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعاً.
إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحاً فيما يختص بالتصور والاعتقاد ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة.. هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة.
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها..
ربما يبدوله أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئاً من التعصب الضيق، أو شيئاً من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكاً أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.
إن في النفس الإنسانية ميلاً فطرياً- ناشئاً من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وبذلك يتم التعبير عنها. يتم في الحس كما تم في النفس. فتهدأ حينئذ وتستريح وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.(1/127)
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها. فهي لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي. ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً: قياماً واتجاهاً إلى القبلة وتكبيراً وقراءة وركوعاً وسجوداً في الصلاة. وإحراماً من مكان معين ولباساً معيناً وحركة وسعياً ودعاء وتلبية ونحراً وحلقاً في الحج.
ونية وامتناعاً عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.. وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، وينسق بين طاقاتها، ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص.
ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادث بالمنحرفين عن الطريق السليم. فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر، ومن نجوم وشمس وقمر، ومن حيوان وطير وشيء.. حين أعوزهم أن يجدواً متصرفاً منسقاً للتعبير الظاهر عن القوى الخفية.. فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة. فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته.. بقلبه وحواسه وجوارحه..
فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان! ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه.. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد كما أنه بدوره ينشىء شعوراً بالامتياز والتفرد.
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء. ولم يكن هذا تعصباً ولا تمسكاً بمجرد شكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات. كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة. وهذه البواعث هي التي تفرق قوماً عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصوراً عن تصور، وضميراً عن ضمير، وخلقاً عن خلق، واتجاهاً في الحياة كلها عن اتجاه.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم» «1» .
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد خرج على جماعة فقاموا له: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا» «2» .
وقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا:
عبد الله ورسوله» «3» .
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس. ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك. ونهى عن تشبه في قول أو أدب..
لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصوراً عن تصور، ومنهجاً في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة.
ثم هو نهى عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض. نهى عن الهزيمة
__________
(1) أخرجه مالك والشيخان وأبو داود.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه. [.....]
(3) أخرجه البخاري.(1/128)
الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض. فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين. والجماعة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية فينبغي لها أن تستمد تقاليدها- كما تستمد عقيدتها- من المصدر الذي اختارها للقيادة.. والمسلمون هم الأعلون. وهم الأمة الوسط. وهم خير أمة أخرجت للناس. فمن أين إذن يستمدون تصور هم ومنهجهم؟ ومن أين إذن يستمدون تقاليدهم ونظمهم؟
إلا يستمدوها من الله فهم سيستمدونها من الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه! ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور، وأقوم منهج في الحياة. فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه. وما كان تعصباً أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى. فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله، والوحدة في الأرفع من التصور، والوحدة في الأفضل من النظام، ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله، والتردي في مهاوي الجاهلية.. ليس متعصباً. أو هو متعصب. ولكن للخير والحق والصلاح! والجماعة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه. إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الجماعة في الصلاة. فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز. رمز للتميز والاختصاص. تميز التصور، وتميز الشخصية، وتميز الهدف، وتميز الاهتمامات، وتميز الكيان.
والأمة المسلمة- اليوم- بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعاً، وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعاً، وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعاً، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعاً.. الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده، فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها..
إن هذه العقيدة منهج حياة كامل. وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله.. وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة. وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام! ثم نعود من هذا الاستطراد بمناسبة تحويل القبلة لنواجه النصوص القرآنية بالتفصيل:
142- «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
من السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود. فهم الذين أثاروا الضجة التي أثيرت بمناسبة تحويل القبلة كما أسلفنا. وهم الذين أثاروا هذا التساؤل: «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ(1/129)
الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟»
وهي المسجد الأقصى.
عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- قال: أول ما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة نزل على أجداده- أو قال أخواله- من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون. فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت. وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس.
فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، فنزلت: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... » فقال السفهاء- وهم اليهود- «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» «1» .
وسنلاحظ أن علاج القرآن لهذا التساؤل ولتلك الفتنة يشي بضخامة آثار تلك الحملة في نفوس بعض المسلمين وفي الصف المسلم في ذلك الحين..
والذي يظهر من صيغة التعبير هنا:
«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟» .
أن هذا كان تمهيداً لإعلان تحويل القبلة في المقطع التالي في هذا الدرس، وأخذاً للطريق على الأقاويل والتساؤلات التي علم الله أن السفهاء سيطلقونها.. أو كان رداً عليها بعد إطلاقها، - كما جاء في الحديث السابق- اتخذ هذه الصيغة للإيحاء بأن ما قالوه كان مقدراً أمره، ومعروفة خطته، ومعدة إجابته. وهي طريقة من طرق الرد أعمق تأثيراً.
وهو يبدأ في علاج آثار هذا التساؤل، والرد عليه بتلقين الرسول- صلى الله عليه وسلم- ما يواجههم به، ويُقُّر به الحقيقة في نصابها وفي الوقت نفسه يصحح التصور العام للأمور.
«قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
إن المشرق لله والمغرب لله. فكل متجه فهو إليه في أي اتجاه. فالجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها.
إنما يفضلها ويخصصها اختيار الله وتوجيهه.. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فإذا اختار لعباده وجهة، واختار لهم قبلة، فهي إذن المختارة. وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم..
بذلك يقرر حقيقة التصور للأماكن والجهات، وحقيقة المصدر الذي يتلقى منه البشر التوجهات، وحقيقة الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه إلى الله في كل حال.
143- ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية، وعن دورها الأساسي في حياة الناس مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة، وشخصيتها الخاصة وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم:
«وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» ..
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط وتضع لهم الموازين والقيم
__________
(1) أخرجه مالك والشيخان والترمذي.(1/130)
وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم.. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة..
وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.. لتعرفها، ولتشعر بضخامتها. ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعداداً لائقاً..
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في التصور والاعتقاد.. لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبت ويقين.
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان..
ولكن مزاج من هذا وذاك.
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.
ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعاً وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
«أُمَّةً وَسَطاً» .. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها.
وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء وتسير(1/131)
بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصيغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة.
وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها، بمناسبة تحويلهم الآن عنها:
«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» ..
ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة. إنه يريد لها أن تخلص له وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية، ومن كل شعار اتخذته، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر.
ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصبية الجنس، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس.. والله يريده أن يكون بيت الله المقدس، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته.
لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة، ووجههم إلى بيت المقدس، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولاً ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول- صلى الله عليه وسلم- ثانياً، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة.
إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة.. إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكاً ولا تقبل شعاراً غير شعارها المفرد الصريح إنها لا تقبل راسباً من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور. جل أم صغر.
وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني: «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» .. والله- سبحانه- يعلم كل ما يكون قبل أن يكون. ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس، حتى يحاسبهم عليه، ويأخذهم به. فهو- لرحمته بهم- لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم.
ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس عُلقة..
أمر شاق، ومحاولة عسيرة.. إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه:(1/132)
«وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» ..
فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات، وأن تنفض عنها تلك الرواسب وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع، حيثما وجهها الله تتجه، وحيثما قادها رسول الله تقاد.
ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم. إنهم ليسوا على ضلال، وإن صلاتهم لم تضع، فالله سبحانه لا يعنت العباد، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
إنه يعرف طاقتهم المحدودة، فلا يكلفهم فوق طاقتهم وإنه يهدي المؤمنين، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان، حين تصدق منهم النية، وتصح العزيمة. وإذا كان البلاء مظهراً لحكمته، فاجتياز البلاء فضل رحمته: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين..
144- بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم- في أمر القبلة ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم.. في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة، ووقايتها من البلبلة والفتنة:
«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ، أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيراً مصوراً لحالة النبي- صلى الله عليه وسلم-:
«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ» ..
وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها. بعد ما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس.. فكان- صلى الله عليه وسلم- يقلب وجهه في السماء، ولا يصرح بدعاء، تأدباً مع ربه، وتحرجاً أن يقترح عليه شيئاً، أو أن يقدم بين يديه شيئاً.
ولقد أجابه ربه إلى ما يرضيه. والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود:(1/133)
«فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» ..
ثم يعين له هذه القبلة التي علم- سبحانه- أنه يرضاها:
«فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ..
قبلة له ولأمته. من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
«وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» ..
من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعاً.. قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها.. قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها. فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد. منهج ينبثق من كونها جميعاً تعبد إلهاً واحداً، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.
وهكذا وحد الله هذه الأمة. وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها. وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات. ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة! ثم.. ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟
«وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» ..
إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم. جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين. وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه..
ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه. فلا على المسلمين منهم فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم:
«وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» ..
145- إنهم لن يقتنعوا بدليل، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه:
«وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» ..
فهم في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيراً من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم.. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجهاً لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائماً عند قول الله تعالى لنبيه الكريم: «وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» ..
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الإعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة(1/134)
له، يقرر حقيقة شأن النبي- صلى الله عليه وسلم- وموقفه الطبيعي:
«وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» ..
ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلاً. واستخدام الجملة الاسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول- صلى الله عليه وسلم- تجاه هذا الأمر. وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه. فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها ولن تتبع منهجاً إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة.. هذا شأنها ما دامت مسلمة فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى..
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم وبعض فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم:
«وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» ..
والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
وما كان للنبي- صلى الله عليه وسلم- وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم:
«وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم، في هذا الخطاب الإلهي من الله سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود..
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي الله وتوجيهه ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة الله ونهجه.
ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير.. «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ..
إن الطريق واضح، والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند الله. وإما الهوى في كل ما عداه.
وليس للمسلم أن يتلقى إلا من الله. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند الله فهو الهوى بلا تردد.
وإلى جانب هذا الإيحاء الدائم نلمح كذلك أنه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين، في غمرة الدسائس اليهودية وحملة التضليل الماكرة، تستدعي هذه الشدة في التحذير، وهذا الجزم في التعبير.
146- وبعد هذه الوقفة العابرة نعود إلى السياق فنجده لا يزال يقرر معرفة أهل الكتاب الجازمة بأن الحق في هذا الشأن وفي غيره هو ما جاء به القرآن، وما أمر به الرسول. ولكنهم يكتمون الحق الذي يعلمونه، للهوى الذي يضمرونه:
«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه..
فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي- صلى الله عليه وسلم- ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين.. فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا(1/135)
بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب. وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئاً في أمر دينهم، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين.
147- وهنا يوجه الخطاب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب:
«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ..
ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما امترى يوماً ولا شك. وحينما قال له ربه في آية أخرى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» .. قال: «لا أشك ولا أسأل» ..
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه- صلى الله عليه وسلم- يحمل إيحاء قوياً إلى من وراءه من المسلمين.
سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم.
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير ونحن- في بلاهة منقطعة النظير- نروح نستفتي المستشرقين- من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار- في أمر ديننا، ونتلقى عنهم تاريخنا، ونأمنهم على القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير.
إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة المسلمة. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره.
وأهل الكتاب هم أهل الكتاب، والكفار هم الكفار. والدين هو الدين! 148- ونعود إلى السياق فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة. فلكل فريق وجهته، وليستبق المسلمون إلى الخير لا يشغلهم عنه شاغل، ومصيرهم جميعاً إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف:
َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ، أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
..
وبهذا يصرف الله المسلمين عن الإنشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل.. يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات. مع تذكر أن مرجعهم إلى الله، وأن الله قدير على كل شيء، لا يعجزه أمر، ولا يفوته شيء.
إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل..
149- ثم يعود فيؤكد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب:
«وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
والأمر في هذه المرة يخلو من الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم، ويتضمن الاتجاه إلى المسجد الحرام حيثما خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- وحيثما كان، مع توكيد أنه الحق من ربه. ومع التحذير الخفي من الميل عن هذا الحق. التحذير الذي يتضمنه قوله: «وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .. وهو الذي يشي بأنه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين تقتضي هذا التوكيد وهذا التحذير الشديد.(1/136)
150- ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد، وهو إبطال حجة أهل الكتاب، وحجة غيرهم ممن كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم. أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذين يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل! «وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
وهو أمر للرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا. وبيان لعلة هذا التوجيه:
«لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» ..
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والمنطق، إنما ينساقون مع العناد واللجاج.
فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم، فسيظلون إذن في لجاجهم. فلا على المسلمين منهم:
«فَلا تَخْشَوْهُمْ.. وَاخْشَوْنِي» ..
فلا سلطان لهم عليكم، ولا يملكون شيئاً من أمركم، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاء كم من عندي، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة.. ومع التهوين من شأن الذين ظلموا، والتحذير من بأس الله، يجيء التذكير بنعمة الله، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة، حين تستجيب وتستقيم:
«وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ...
وهو تذكير موح، وإطماع دافع، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم..
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم، يدركونها في أنفسهم، ويدركونها في حياتهم، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود..
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته. فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديداً واضحاً عميقاً.
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة.
ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة، وإلى القوة والمنعة، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم.
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم..
ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع، الواضح التصور والاعتقاد، المستقيم القيم والموازين..
فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم.
فإذا قال الله لهم: «وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» .. كان في هذا القول تذكير موح، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم..
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديداً في كل مرة.. في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه(1/137)
إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه.. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة.. وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة..
ولكننا- مع هذا- نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد، وهذا البيان، وهذا التعليل، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل، وأثرها في بعض القلوب والنفوس. هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين! 151- واستطراداً مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم، بإرسال هذا النبي منهم إليهم، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين ويربطهم- سبحانه- به مباشرة في نهاية الحديث:
«كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» ..
والذي يلفت النظر هنا، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل. دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت، رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم. وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثاً إنما هو قديم وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد.
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييز كم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم:
«كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ» ..
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم، وأن يختار الرسول الأخير منكم، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم! «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا» ..
فما يتلو عليكم هو الحق.. والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله. وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته. فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟
حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته، ويتحدث إليهم بقوله، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه- سبحانه- منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام، وما يستقبل هذا الإفضال؟
«وَيُزَكِّيكُمْ» ..
ولولا الله ما زكي منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع. ولكنه أرسل رسوله- صلى الله عليه وسلم-(1/138)
يطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديماً وحديثاً يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيراً مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب.. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي. وينشر العدل النظيف الصريح، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام. ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور..
«وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» ..
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب وبيان للمادة الأصيلة فيه، وهي الحكمة، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزكاهم بآيات الله.
«وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» ..
وكان ذلك حقاً في واقع الجماعة المسلمة، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء. فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن- مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن- هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن- هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل «1» .
وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين، ولو آمنت حقا بهذا القرآن، ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان! 152- وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلاً آخر، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره.
يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه.
«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» ..
يا للتفضل الجليل الودود! الله. جل جلاله. يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئاً لذكرهم له في عالمهم الصغير..
إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة.. وهم أصغر من أرضهم الصغيرة! والله حين
__________
(1) يراجع في خصائص هذه القيادة الراشدة كتاب: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للأستاذ أبو الحسن الندوي ص 82- ص 96.(1/139)
يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير.. وهو الله.. العلي الكبير.. أي تفضل! وأي كرم! وأي فيض في السماحة والجود! «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» .
إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه، ولا حاسب لعطاياه. الفضل الفائض من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء.
وفي الصحيح: يقول الله تعالى: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» .
وفي الصحيح أيضاً: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال الله عز وجل: «يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة- أو قال في ملأ خير منه- وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة..
إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب..
وذكر الله ليس لفظاً باللسان، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء..
«وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» ..
والشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته. وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جنان.
والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس! والعياذ بالله! ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة. وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله، والتميز بالانتساب إليه، والاختصاص بهذا الانتساب.
وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفاراً، وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم.. نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس. وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجوداً، وجعلت لهم دوراً في التاريخ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية، وكانوا بدونها ضائعين، ولولاها لظلوا ضائعين، وهم بدونها أبداً ضائعون. فما لهم من فكرة يؤدون بها دوراً في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها. وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة.
وتذكُّر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكرها الله فلا ينساها. ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض، ولا ذكر له في الملأ الأعلى. ومن ذكر الله ذكره، ورفع من وجوده وذكره في(1/140)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
هذا الكون العريض.
ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم، ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة. ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه ذليل.. والوسيلة قائمة. والله يدعوهم في قرآنه الكريم: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» ..
[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
بعد تقرير القبلة، وإفراد الأمة المسلمة بشخصيتها المميزة، التي تتفق مع حقيقة تصورها المميزة كذلك..
كان أول توجيه لهذه الأمة ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص، هذه الأمة الوسط الشهيدة على الناس..
كان أول توجيه لهذه الأمة هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم. والاستعداد لبذل التضحيات التي يتطلبها هذا الدور من استشهاد الشهداء، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والخوف والجوع، ومكابدة أهوال الجهاد لإقرار منهج الله في الأنفس، وإقراره في الأرض بين الناس. وربط قلوب هذه الأمة بالله، وتجردها له، ورد الأمور كلها إليه.. كل أولئك في مقابل رضى الله ورحمته وهدايته، وهي وحدها جزاء ضخم للقلب المؤمن، الذي يدرك قيمة هذا الجزاء..
153- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج..
ولا بد من الصبر في هذا كله.. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض..
وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم(1/141)
يقرن الصلاة إلى الصبر فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئاً وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق..
هنا تبدو قيمة الصلاة.. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود.. ومن هنا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا كان في الشدة قال: «أرحنا بها يا بلال» .. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله.
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر.. إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا- صلى الله عليه وسلم- للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له:
«يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن.. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان.
ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام.. إلى الصبر وإلى الصلاة..
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق..
وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب:
«إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» .
والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها:
عن خباب بن الأرتّ- رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة في ظل الكعبة. فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد(1/142)
ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» «1» ...
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «كأني أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» «2» .
وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم» «3» .
154- والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل.. الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع، ومن تضحيات وآلام، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديراً صحيحاً:
«وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ» ..
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء- فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس- هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهم أحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان.
إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه. فهم لا بد أحياء.
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقرر هما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.
ثم هم أحياء عند ربهم- إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: «أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ» .. لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنهم أحياء.
أحياء. ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.
أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء.
أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنا عظم الفداء.
__________
(1) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
(2) أخرجه الشيخان.
(3) أخرجه الترمذي.(1/143)
ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
في صحيح مسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة. فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا. وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا. فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى- لما يرون من ثواب الشهادة- فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون» ..
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء. إلا الشهيد، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة. (أخرجه مالك والشيخان) .
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله. في سبيل هذا الحق الذي أنزله. في سبيل هذا المنهج الذي شرعه. في سبيل هذا الدين الذي اختاره.. في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار. وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر.. غير الله..
عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» .. (أخرجه مالك والشيخان) .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال: «لا أجر له» . فأعاد عليه ثلاثاً. كل ذلك يقول: «لا أجر له» . (أخرجه أبو داود) .
وعنه- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله. لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي.. فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبداً. ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» (أخرجه مالك والشيخان) .
فهؤلاء هم الشهداء. هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله.
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد:
عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه (وكان مولى من أهل فارس) قال: (شهدت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- أحداً. فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي. فالتفت إليّ النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى(1/144)
القوم منهم» (أخرجه أبو داود) .
فقد كره له صلى الله عليه وسلم أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين.. وهذا هو الجهاد. وفيه وحده تكون الشهادة، وتكون الحياة للشهداء.
155- ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها.. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها.. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه.. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً..
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده. لا يجد سنداً إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا شيء إلا الله.. لا قوة إلا قوته.. لا حول إلا حوله.. لا إرادة إلا إرادته.. لا ملجأ إلا إليه.. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق:
«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. 156- الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله.. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق.. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل..
157- وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» ..(1/145)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
صلوات من ربهم.. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه.. وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون..
وكل أمر من هذه هائل عظيم..
وبعد.. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.
إن الله يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً، ولا يعدهم هنا تمكيناً، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته.. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها.
فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية- حتى الرغبة في انتصار العقيدة- كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها.
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة.. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور..
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين.
[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 177]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)(1/146)
يستهدف هذا الدرس تصحيح عدد من القواعد التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح مع الاستمرار في مواجهة يهود المدينة الذين لا يكفون عن تلبيس الحق بالباطل في هذه القواعد وكتمان الحق الذي يعلمونه في شأنها وإيقاع البلبلة والاضطراب فيها.. ولكن السياق يتخذ في هذا الدرس أسلوب التعميم وعرض القواعد العامة، التي تشمل اليهود وغير هم ممن يرصدون للدعوة. وكذلك يحذر المسلمين من المزالق التي تترصدهم في طريقهم بصفة عامة.
ومن ثم نجد بياناً في موضوع الطواف بالصفا والمروة، بسبب ما كان يلابس هذا الموضوع من تقاليد الجاهلية. وهو بيان يتصل كذلك بمسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة، وإقرار شعائر الحج إلى هذا البيت.
لذلك يليه في السياق بيان في شأن أهل الكتاب الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى وحملة عنيفة عليهم مع فتح باب التوبة لمن يريد أن يتوب. فأما الذين يصرون على الكفر فيعدهم اللعنة الجامعة، والعذاب الشديد الدائم.
ثم بيان لوحدانية الله، وتوجيه إلى الآيات الكونية الشاهدة بهذه الحقيقة. وتنديد بمن يتخذون من دون الله أنداداً. وعرض مشهد من مشاهد القيامة للتابعين منهم والمتبوعين. يتبرأ بعضهم من بعض وهم يرون العذاب.
وبمناسبة ما كان يجادل فيه اليهود من الحلال والحرام في المطاعم والمشارب، مما نزل به القرآن وبيانه عندهم فيما يكتمونه من التوراة.. تجيء دعوة إلى الناس كافة للاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله وتحذير من الشيطان الذي يأمرهم بالسوء والفحشاء. تليها دعوة خاصة للذين آمنوا للاستمتاع بما أحل الله لهم والامتناع عما حرم عليهم، وبيان هذه المحرمات التي يجادل فيها اليهود ويماحلون وهم يعلمون.
ومن ثم حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً. وتهديد رعيب بما ينتظرهم في الآخرة من إهمال وغضب واحتقار.
وفي نهاية الدرس يرد بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليباً للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.. وتبدو العلاقة بين هذا البيان والجدل الذي ثار حول القبلة واضحة.
وهكذا نجد السياق ما يزال في المعركة.. المعركة في داخل النفوس لتصحيح التصورات والموازين. والمعركة مع الكيد والدس والبلبلة التي يقوم بها أعداء المسلمين..
158- «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» ..
هناك عدة روايات عن سبب نزول هذه الآية، أقربها إلى المنطق النفسي المستفاد من طبيعة التصور الذي أنشأه الإسلام في نفوس المجموعة السابقة إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار.. الرواية التي تقول: إن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بالصفا والمروة في الحج والعمرة، بسبب أنهم كانوا يسعون بين هذين الجبلين في الجاهلية، وأنه كان فوقهما صنمان هما أساف ونائلة. فكره المسلمون أن يطوفوا كما كانوا يطوفون في الجاهلية.(1/148)
قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم بن سليمان: قال سألت أنساً عن الصفا والمروة قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية. فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل:
«إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» .. وقال الشعبي: كان أساف على الصفا، وكانت نائلة على المروة، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما، فنزلت هذه الآية.
ولم يرد تحديد لتاريخ نزول هذه الآية. والأرجح أنها نزلت متأخرة عن الآيات الخاصة بتحويل القبلة.
ومع أن مكة قد أصبحت دار حرب بالنسبة للمسلمين، فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين كانوا يتمكنون أفراداً من الحج ومن العمرة. وهؤلاء هم الذين تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة.. وكان هذا التحرج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصور الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرزون ويتوجسون من كل أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية. إذ أصبحت نفوسهم من الحساسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كل ما كان في الجاهلية، وتتوجس أن يكون منهياً عنه في الإسلام. الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة..
كانت الدعوة الجديدة قد هزت أرواحهم هزاً وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلاباً نفسياً وشعورياً كاملاً، حتى لينظرون بجفوة وتحرز إلى ماضيهم في الجاهلية ويحسون أن هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالاً كاملاً، فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه وعاد دنساً ورجساً يتحرزون من الإلمام به! وإن المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحس بقوة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس.
يحس التغير الكامل في تصور هم للحياة. حتى لكأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد أمسك بهذه النفوس فهزها هزة نفضت عنها كل رواسبها، وأعادت تأليف ذراتها على نسق جديد كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان! وهذا هو الإسلام.. هذا هو: انسلاخاً كاملاً عن كل ما في الجاهلية، وتحرجاً بالغاً من كل أمر من أمور الجاهلية، وحذراً دائماً من كل شعور وكل حركة كانت النفس تأتيها في الجاهلية. حتى يخلص القلب للتصور الجديد بكل ما يقتضيه.. فلما أن تم هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى، مما لا يرى فيه بأساً. ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه عن أصله الجاهلي. فإذا أتاه المسلم فلا يأتيه لأنه كان يفعله في الجاهلية ولكن لأنه شعيرة جديدة من شعائر الإسلام، تستمد أصلها من الإسلام.
وهنا نجد مثالا من هذا المنهج التربوي العميق. إذ يبدأ القرآن بتقرير أن الصفا والمروة من شعائر الله:
«إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» ..
فإذا أطوف بهما مطوف، فإنما يؤدي شعيرة من شعائر الله وإنما يقصد بالطواف بينهما إلى الله. ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث وتعلق الأمر بالله- سبحانه- لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية! ومن ثم فلا حرج ولا تأثم. فالأمر غير الأمر، والاتجاه غير الاتجاه:
«فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» ..
وقد أقر الإسلام معظم شعائر الحج التي كان العرب يؤدونها، ونفى كل ما يمت إلى الأوثان وإلى أوهام الجاهلية، وربط الشعائر التي أقرها بالتصور الإسلامي الجديد، بوصفها شعائر إبراهيم التي علمه ربه إياها(1/149)
(وسيأتي تفصيل هذا عند الكلام على فريضة الحج في موضعه من سياق السورة) .. فأما العمرة فكالحج في شعائرها فيما عدا الوقوف بعرفة دون توقيت بمواقيت الحج. وفي كلا الحج والعمرة جعل الطواف بين الصفا المروة من شعائرهما.
ثم يختم الآية بتحسين التطوع بالخير إطلاقاً:
«وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» ..
فيلمح إلى أن هذا الطواف من الخير، وبذلك ينفي من النفوس كل حرج، ويطيب القلوب بهذه الشعائر، ويطمئنها على أن الله يعدها خيراً، ويجازي عليها بالخير. وهو يعلم ما تنطوي عليه القلوب من نية وشعور.
ولا بد أن نقف لحظة أمام ذلك التعبير الموحي: «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ ... » .. إن المعنى المقصود أن الله يرضى عن ذلك الخير ويثيب عليه. ولكن كلمة «شاكِرٌ» تلقي ظلالاً ندية وراء هذا المعنى المجرد. تلقي ظلال الرضى الكامل، حتى لكأنه الشكر من الرب للعبد. ومن ثم توحي بالأدب الواجب من العبد مع الرب. فإذا كان الرب يشكر لعبده الخير، فماذا يصنع العبد ليوفي الرب حقه من الشكر والحمد؟؟ تلك ظلال التعبير القرآني التي تلمس الحس بكل ما فيها من الندى والرفق والجمال.
159- ومن بيان مشروعية الطواف بالصفا والمروة ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة. مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضاً:
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ..
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب.
فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيداً عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا.. الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة.. «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» ..
كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها- بعد الله- من كل لاعن! واللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب. فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان..
160- «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا. فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» ..
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة- نافذة التوبة- يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود(1/150)
القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه. فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية. وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه. ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: «وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» وهو أصدق القائلين.
161- فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» ..
ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .. فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون! 162- ولم يذكر السياق لهم عذاباً آخر غير هذه اللعنة المطبقة بل عدها عذاباً لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه. وإنه لعذاب دونه كل عذاب. عذاب المطاردة والنبذ والجفوة. فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية. إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء.. وهذا هو العذاب الأليم المهين..
163- بعد هذا يمضي السياق في إقامة التصور الإيماني على قاعدته الكبيرة. قاعدة التوحيد. ويعرض من مشاهد الكون ما يشهد بهذه الحقيقة شهادة لا تقبل الجدل. ثم يندد بمن يتخذون من دون الله انداداً، ويصور موقفهم المتخاذل يوم يرون العذاب، فيتبرأ بعضهم من بعض فلا ينفعهم هذا التبرؤ، ولا تفيدهم حسراتهم ولا تخرجهم من النار.
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا! كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» ..
إن وحدة الألوهية هي القاعدة الكبيرة التي يقوم عليها التصور الإيماني. فلم يكن هناك جدل حول الاعتقاد بوجود إله- تختلف التصورات حول ذاته وحول صفاته وحول علاقاته بالخلق ولكنها لا تنفي وجوده- ولم يقع أن نسيت الفطرة هذه الحقيقة، حقيقة وجود إله، إلا في هذه الأيام الأخيرة حين نبتت نابتة منقطعة عن أصل الحياة، منقطعة عن أصل الفطرة، تنكر وجود الله. وهي نابتة شاذة لا جذور لها في أصل هذا الوجود ومن ثم فمصيرها حتماً إلى الفناء والاندثار من هذا الوجود. هذا الوجود الذي لا يطيق تكوينه، ولا تطيق فطرته بقاء هذا الصنف من الخلائق المقطوعة الجذور! لذلك اتجه السياق القرآني دائما إلى الحديث عن وحدة الألوهية، بوصفها التصحيح الضروري للتصور،(1/151)
والقاعدة الأساسية لإقامة هذا التصور.. ثم لإقامة سائر القواعد الأخلاقية والنظم الاجتماعية، المنبثقة من هذا التصور.. تصور وحدة الألوهية في هذا الوجود:
«وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» .. «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» ..
ومن وحدانية الألوهية التي يؤكدها هذا التأكيد، بشتى أساليب التوكيد، يتوحد المعبود الذي يتجه إليه الخلق بالعبودية والطاعة وتتوحد الجهة التي يتلقى منها الخلق قواعد الأخلاق والسلوك ويتوحد المصدر الذي يتلقى منه الخلق أصول الشرائع والقوانين ويتوحد المنهج الذي يصرف حياة الخلق في كل طريق.
وهنا والسياق يستهدف إعداد الأمة المسلمة لدورها العظيم في الأرض، يعيد ذكر هذه الحقيقة التي تكرر ذكرها مرات ومرات في القرآن المكي، والتي ظل القرآن يعمق جذورها ويمد في آفاقها حتى تشمل كل جوانب الحس والعقل، وكل جوانب الحياة والوجود ... يعيد ذكر هذه الحقيقة ليقيم على أساسها سائر التشريعات والتكاليف.. ثم يذكر من صفات الله هنا: «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» .. فمن رحمته السابغة العميقة الدائمة تنبثق كل التشريعات والتكاليف.
164- وهذا الكون كله شاهد بالوحدانية وبالرحمة في كل مجاليه:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
وهذه الطريقة في تنبيه الحواس والمشاعر جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون. العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس، وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب. وكم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب وكم فيها من غريب. وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة ثم الفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب.
تلك السماوات والأرض.. هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة..
هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس.. هذه الأسرار التي توصوص للنفس وتلتف في رداء المجهول.. هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئاً عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم..
واختلاف الليل والنهار.. تعاقب النور والظلام.. توالي الإشراق والعتمة. ذلك الفجر وذلك الغروب..
كم اهتزت لها مشاعر، وكم وجفت لها قلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب.. ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار. إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد ويظل أبداً يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق الجديد.
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. وأشهد ما أحسست ما في هذه اللفتة من عمق قدر ما أحسست ونقطة صغيرة في خضم المحيط تحملنا وتجري بنا، والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا. والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك. ولا شيء إلا قدرة الله، وإلا رعاية الله، وإلا قانون الكون الذي جعله الله، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرعيب!(1/152)
وما أنزل الله من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض. وكلها مشاهد لو أعاد الإنسان تأملها- كما يوحي القرآن للقلب المؤمن- بعين مفتوحة وقلب واع، لارتجف كيانه من عظمة القدرة ورحمتها.. تلك الحياة التي تنبعث من الأرض حينما يجودها الماء.. هذه الحياة المجهولة الكنه، اللطيفة الجوهر، التي تدب في لطف، ثم تتبدى جاهرة معلنة قوية.. هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة..
لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات.
وحاولوا طويلاً أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة- بلا حاجة إلى إله! - ثم أخيراً إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء من مواجهة هذا السؤال! ثم تلك الرياح المتحولة من وجهة إلى وجهة، وذلك السحاب المحمول على هواء، المسخر بين السماء والأرض، الخاضع للناموس الذي أودعه الخالق هذا الوجود.. إنه لا يكفي أن تقول نظرية ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب.. إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب.. سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة.. سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة.. سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوحدة التصميم ورحمة التدبير..
إن في ذلك «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ..
نعم لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الألفة والغفلة، فاستقبل مشاهد الكون بحس متجدد، ونظرة مستطلعة، وقلب نوّره الإيمان. ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة. تلفت عينه كل ومضة، وتلفت سمعه كل نأمة، وتلفت حسه كل حركة، وتهز كيانه تلك الأعاجيب التي ما تني تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر..
إن هذا هو ما يصنعه الإيمان. هذا التفتح. هذه الحساسية. هذا التقدير للجمال والتناسق والكمال..
إن الإيمان رؤية جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال، وحياة على الأرض في مهرجان من صنع الله، آناء الليل وأطراف النهار..
165- ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» ..
من الناس من يتخذ من دون الله انداداً.. كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجاراً وأشجاراً، أو نجوماً وكواكب، أو ملائكة وشياطين.. وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات.. وكلها شرك خفي أو ظاهر، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله. فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟(1/153)
إن المؤمنين لا يحبون شيئاً حبهم لله. لا أنفسهم ولا سواهم. لا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» ..
أشد حباً لله، حباً مطلقاً من كل موازنة، ومن كل قيد. أشد حباً لله من كل حب يتجهون به إلى سواه.
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل، فوق أنه تعبير صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب.
صلة الوشيجة القلبية، والتجاذب الروحي. صلة المودة والقربى. صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود.
«وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ- أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ. وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا! كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» ..
أولئك الذين اتخذوا من دون الله انداداً. فظلموا الحق، وظلموا أنفسهم.. لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو يرون لرأوا «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فلا شركاء ولا أنداد.. «وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ» .
166- لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين. ورأوا العذاب. فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كل بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً. وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً على وقاية تابعيها. وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب.
167- «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» ..
وتبدى الحنق والغيظ من التابعين المخدوعين في القيادات الضالة. وتمنوا لو يردون لهم الجميل! لو يعودون إلى الأرض فيتبرأوا من تبعيتهم لتلك القيادات العاجزة الضعيفة في حقيقتها، التي خدعتهم ثم تبرأت منهم أمام العذاب! إنه مشهد مؤثر: مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين. بين المحبين والمحبوبين! وهنا يجيء التعقيب الممض المؤلم:
«كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» ..
168- بعد هذا يمضي السياق يدعو الناس إلى التمتع بطيبات الحياة، والبعد عن خبائثها، محذراً من اتباع الشيطان، الذي يأمرهم بالخبائث، والادعاء على الله في التحليل والتحريم بغير إذن منه ولا تشريع ويحذرهم من التقليد في شأن العقيدة بغير هدى من الله، ويندد بالذين يدعون من دون الله ما لا يعقل ولا يسمع.. وبهذا يلتقي موضوع هذه الفقرة بموضوع الفقرة السابقة في السياق:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي(1/154)
يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ»
..
لما بين الله- سبحانه- أنه الإله الواحد، وأنه الخالق الواحد- في الفقرات السابقة- وأن الذين يتخذون من دون الله أنداداً سينالهم ما ينالهم.. شرع يبين هنا أنه الرازق لعباده، وأنه هو الذي يشرع لهم الحلال والحرام.. وهذا فرع عن وحدانية الألوهية كما أسلفنا. فالجهة التي تخلق وترزق هي التي تشرع فتحرم وتحلل.
وهكذا يرتبط التشريع بالعقيدة بلا فكاك.
وهنا يبيح الله للناس جميعاً أن يأكلوا مما رزقهم في الأرض حلالاً طيباً- إلا ما شرع لهم حرمته وهو المبين فيما بعد- وأن يتلقوا منه هو الأمر في الحل والحرمة، وألا يتبعوا الشيطان في شيء من هذا، لأنه عدوهم 169- ومن ثم فهو لا يأمرهم بخير، إنما يأمرهم بالسوء من التصور والفعل ويأمرهم بأن يحللوا ويحرموا من عند أنفسهم، دون أمر من الله، مع الزعم بأن هذا الذي يقولونه هو شريعة الله.. كما كان اليهود مثلاً يصنعون، وكما كان مشركو قريش يدعون:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض- إلا المحظور القليل الذي ينص عليه القرآن نصاً- يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس. فالله خلق ما في الأرض للإنسان، ومن ثم جعله له حلالاً، لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد. ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة، واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق.. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق. لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة. لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء، وإلا بالتجديف على الله، والإفتراء عليه، دون تثبت ولا يقين! 170- «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا» ..
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام. أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلاً.. سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك:
«أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ» .
أو لو كان الأمر كذلك، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم؟ فأي جمود هذا وأي تقليد؟! 171- ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا يعني! بل هم أضل من هذه البهيمة، فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صم بكم عمي:
«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» ! صم بكم عمي. ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون. ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون. فكأنها لا تؤدي(1/155)
وظيفتها التي خلقت لها، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون.
وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة..
172- وهنا يتجه بالحديث- خاصة- إلى الذين آمنوا. يبيح لهم الأكل من طيبات ما رزقهم. ويوجههم إلى شكر المنعم على نعمه. ويبين لهم ما حرم عليهم، وهو غير الطيبات التي أباحها لهم. ويندد بالذين يجادلونهم في هذه الطيبات والمحرمات من اليهود. وهي عندهم في كتابهم:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ..
إن الله ينادي الذين آمنوا بالصفة التي تربطهم به سبحانه، وتوحي إليهم أن يتلقوا منه الشرائع وأن يأخذوا عنه الحلال والحرام. ويذكرهم بما رزقهم فهو وحده الرازق، ويبيح لهم الطيبات مما رزقهم فيشعرهم أنه لم يمنع عنهم طيباً من الطيبات، وأنه إذا حرم عليهم شيئاً فلأنه غير طيب، لا لأنه يريد أن يحرمهم ويضيق عليهم- وهو الذي أفاض عليهم الرزق ابتداء- ويوجههم للشكر إن كانوا يريدون أن يعبدوه وحده بلا شريك. فيوحي إليهم بأن الشكر عبادة وطاعة يرضاها الله من العباد.. كل أولئك في آية واحدة قليلة الكلمات:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» ..
173- ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصاً وتحديداً باستعمال أداة القصر» «إِنَّما» ..
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» ..
والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم، فضلاً على ما أثبته الطب- بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله- من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسباباً أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس.
فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم.. والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم.. ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة) . ويقول الآن قوم: إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة.. وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة. فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نئق بها، وندع كلمة الفصل لها، ونحرم ما حرمت، ونحلل ما حللت، وهي من لدن حكيم خبير!(1/156)
أما ما أهل به لغير الله. أي ما توجه به صاحبه لغير الله. فهو محرم، لا لعلة فيه، ولكن للتوجه به لغير الله. محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور، وسلامة القلب، وطهارة الروح، وخلوص الضمير، ووحدة المتجه.. فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة. وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله. وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك..
ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة. فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم..
وفي سائر أمور التشريع..
ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات، فيبيح فيها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها:
«فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات. ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات.
فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة. على أن هناك خلافاً فقهياً حول مواضع الضرورة.. هل فيها قياس؟
أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها.. وحول مقدار ما تدفع به الضرورة؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة.. ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي. وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن.
174- ولقد جادل اليهود جدالاً كثيراً حول ما أحله القرآن وما حرمه. فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» .. بينما كانت هذه مباحة للمسلمين. ولعلهم جادلوا في هذا الحل. وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة..
وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله.
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب:
«إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» .
والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولاً أهل الكتاب. ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة، يكتمون الحق الذي يعلمونه، ويشترون به ثمناً قليلاً. إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان، ويخشون عليها من البيان. وإما هو الدنيا كلها- وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله، ومن ثواب الآخرة.
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل، يقول القرآن عن هؤلاء:(1/157)
«ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» ..
تنسيقاً للمشهد في السياق. وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم! وكأنما هم يأكلون النار! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة، فإذا هي لهم لباس، وإذا هي لهم طعام! وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله:
«لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» ..
لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم.. لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران..
«وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
175- وتعبير آخر مصور موح:
«أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» ..
فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة! ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب.. فما أخسرها من صفقة وأغباها! ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا! وإنها لحقيقة. فقد كان الهدى مبذولاً لهم فتركوه وأخذوا الضلالة. وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب..
«فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ!» ..
فيالطول صبرهم على النار، التي اختاروها اختياراً، وقصدوا إليها قصدا.
فياللتهكم الساخر من طول صبرهم على النار! وإنه لجزاء مكافىء لشناعة الجريمة. جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس، وليحقق في واقع الأرض، وليكون شريعة ومنهاجاً. فمن كتمه فقد عطله عن العمل. 176- وهو الحق الذي جاء للعمل:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» ..
فمن فاء إليه فهو على الهدى، وهو في وفاق مع الحق، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل.
«وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ..
شقاق مع الحق، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولقد كانوا كذلك، وما يزالون. وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها. فلا تأخذ به جملة، وتمزقه تفاريق.. وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام. ونحن نرى مصداقه واقعاً في هذا العالم الذي نعيش فيه.
177- وأخيراً وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، ويحدد صفة الصادقين المتقين:
«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ- عَلى حُبِّهِ- ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.. أُولئِكَ(1/158)
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»
..
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل. ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة. فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات، وكثيراً ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور.
إنه ليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوههم قبل المشرق والمغرب.. نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام.. وليست غاية البر- وهو الخير جملة- هي تلك الشعائر الظاهرة. فهي في ذاتها- مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك- لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير.. إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك. تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب.. سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالاً، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر.
«وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ... الآية» .
ذلك هو البر الذي هو جماع الخير.. فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات.. إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار.. وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه. فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصداً مستقيماً ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات..
والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان. وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء.. والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان. الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه «1» ..
والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعاً وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي.. ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.
وما قيمة إيتاء المال- على حبه والاعتزاز به- لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة. انعتاق الروح من حب المال الذي
__________
(1) يراجع تفسير الآيات الأولى من سورة البقرة في الجزء الأول.(1/159)
يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق. فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال. وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال.
لا في الرخيص منه ولا الخبيث. فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرؤوس. ويتحرر من الحرص. والحرص يذل اعناق الرجال. وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائماً تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقيناً منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات! .. ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة.. هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى. والأسرة هي النواة الأولى للجماعة.
ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم.. وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم براً ولا رعاية.. وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون- وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضناً بماء وجوههم- احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم، وصيانة لهم من البوار، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يهمل فيها فرد، ولا يضيع فيها عضو.. وهي لابن السبيل- المنقطع عن ماله وأهله- واجب للنجدة في ساعة العسرة، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل، وبأن الأرض كلها وطن، يلقى فيها أهلاً بأهل، ومالاً بمال، وصلة بصلة، وقراراً بقرار.. وهي للسائلين إسعاف لعوزهم، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام. وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملاً، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل، وأن يقنع ولا يسأل. فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال.. وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام- حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة. ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه. والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها- أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقاً في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة.. كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته..
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب. إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهراً وباطناً، جسماً وعقلاً وروحاً. إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم، وليست مجرد توجه صوفي بالروح. فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة. إن الإسلام يعترف بالإنسان جسماً وعقلاً وروحاً في كيان ولا يفترض أن هناك تعارضاً بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضرورياً لانطلاق الروح. ومن ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة.
مظهراً لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعاً في ترابط واتساق. يجعلها قياماً وركوعاً وسجوداً تحقيقاً لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبراً وتفكيراً في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ويجعلها توجها واستسلاماً لله تحقيقا لنشاط الروح.. كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة.. في كل ركعة وفي كل صلاة.(1/160)
وإيتاء الزكاة؟ .. إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقاً في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة. وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال- على حبه- لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه.. وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق.. والبر لا يتم إلا بهذه وتلك. وكلتاهما من مقومات الإسلام. وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق.
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيراً ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان. وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول. تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله. وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعاً قلقاً لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟ .. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعاً أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً. إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر. والصبر في المرض والضعف. والصبر في القلة والنقص.
والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة «الصَّابِرِينَ» وصفاً في العبارة يدل على الاختصاص. فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير:
«وأخص الصابرين» .. وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.. لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال- على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد.. وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار.. «1»
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلاً لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم. وتضع على هذا كله عنواناً واحداً هو «الْبِرَّ» أو هو «جماع الخير» أو هو «الإيمان» كما ورد في بعض الأثر. والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام.
__________
(1) يراجع تفسير الآيات: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ... إلى قوله تعالى-: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة» ...
في الدرس الماضي في هذا الجزء.(1/161)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم:
«أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» ..
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة.
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق..
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها، بمنهجه الرفيع القويم.. ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه، ويحاربونه، ويرصدون له العداوة، ولكل من يدعوهم إليه.. ونقلب أيادينا في أسف، ونقول ما قال الله سبحانه: يا حسرة على العباد! ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة، على أمل في الله وثيق، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل. أمل وضيء منير. أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء- بعد العناء الطويل- إلى هذا المنهج الرفيع، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء.. والله المستعان.
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 188]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)(1/162)
يتضمن هذا الدرس جانباً من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، كما يتضمن جانباً من العبادات المفروضة.. هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة.
وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته، حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء.. وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق.
في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته. وفيه حديث عن الوصية عند الموت.. ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف.. وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال.
وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- إِنْ تَرَكَ خَيْراً- الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» ..
وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضاً: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..
ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب. فتجيء هذه التعقيبات: «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» .. «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..(1/163)
وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين.. إنه وحدة لا تتجزأ.. تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية.. كلها منبثقة من العقيدة فيه وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة: عبادة الله الواحد. الله الذي خلق، ورزق، واستخلف الناس في هذا الملك، خلافة مشروطة بشرط: أن يؤمنوا به وحده وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده.
وهذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها، والتعقيبات التي يتضمنها، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين..
178- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
النداء للذين آمنوا.. بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله، الذي آمنوا به، في تشريع القصاص. وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى. وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص.
وهذه الشريعة التي تبينها الآية: أنه عند القصاص للقتلى- في حالة العمد- بقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.
«فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ» ..
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني. ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة. ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال. تحقيقاً لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء.
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة:
«ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ» ..
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة. إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند الترضي والصفاء.
«فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة.. يتعين قتله، ولا تقبل منه الدية. لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول، نكث للعهد، وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي.
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع.. إن الغضب للدم فطرة وطبيعة. فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس، ويفثأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في(1/164)
الوقت ذاته يحبب في العفو، ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق:
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة. نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. الآية» .. قال ابن كثير في التفسير: «وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم. حدثنا أبو زرعة. حدثنا يحي بن عبد الله بن بكير. حدثني عبد الله بن لهيعة. حدثني عطاء بن دينار. عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى - يعني إذا كان عمداً- الحر بالحر ... وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية- قبل الإسلام بقليل. فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا. فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم.. فنزل فيهم: «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» ..
منسوخة نسختها: «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» .. وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» .
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس.. وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى. وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك. فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً.. فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي- كحالة ذينك الحيين من العرب- حيث تعتدي أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة. فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء.. فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك.
وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص.
179- ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
إنه ليس الانتقام، وليس إرواء الأحقاد. إنما هو أجل من ذلك وأعلى. إنه للحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة.. ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله..
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء. فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل.. جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد. كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل. شفائها من الحقد والرغبة في الثأر. الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم. وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل، ولا تكف عن المسيل..
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم. فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة. فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها. وكان في هذا الكف حياة. حياة مطلقة. لا حياة فرد، ولا حياة أسرة، ولا حياة جماعة.. بل حياة..(1/165)
ثم- وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة- استجاشة شعور التدبر لحكمة الله، ولتقواه:
«لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء. الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثأر أخيراً..
التقوى.. حساسية القلب وشعوره بالخوف من الله وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه.
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان! وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً.. لقد كانت هنالك التقوى.. كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود.. إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب.. وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور. نظيف الحركة نظيف السلوك. لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير! «حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون، تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة، ووخزاً لاذعاً للضمير، وخيالاً مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً، تفادياً من سخط الله، وعقوبة الآخرة» «1» .
إنها التقوى.. إنها التقوى..
180- ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت.. والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة:
«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- إِنْ تَرَكَ خَيْراً- الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهذه كذلك كانت فريضة. الوصية للوالدين والأقربين. إن كان سيترك وراءه خيراً. وفسر الخير بأنه الثروة. واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية. والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف. فقال بعضهم لا يترك خيراً من يترك أقل من ستين ديناراً، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة. وقيل ألف.. والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة.
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه. وحددت فيها أنصبة معينة للورثة، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات. ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث. لقوله- صلى الله عليه وسلم-:
«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» «2» . أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه. فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله.. وهذا هو رأي
__________
(1) عن كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للسيد أبي الحسن علي الحسني الندوي. ص 62 طبعة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
(2) رواه أصحاب السنن.(1/166)
بعض الصحابة والتابعين نأخذ به.
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم. وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة. ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى:
«بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» ..
فلا يظلم فيها الورثة، ولا يهمل فيها غير الورثة ويتحرى التقوى في قصد واعتدال، وفي بر وإفضال..
ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل. كي لا يضار الوارث بغير الوارث. وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام.
181- فمن سمع الوصية فهو آثم إن بدلها بعد وفاة المورث، وهذا من التبديل بريء:
«فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ، فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهو- سبحانه- الشهيد بما سمع وعلم. الشهيد للمورث فلا يؤاخذ بما فعل من وراءه. والشهيد على من بدل فيؤاخذه بإثم التبديل والتغيير.
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي. ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد، أو النكاية بالوريث. فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف، وهو الحيف، 182- ويرد الأمر إلى العدل والنصف:
«فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك. ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف.
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدوداً إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى. والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء.
183- ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس. فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع.
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات! وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان. ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة.. مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض(1/167)
والتوجيهات وذلك ارتكاناً إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه. ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري.
فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري.
أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
إن الله- سبحانه- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه.
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه.
فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم. وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
184- ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر. ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرون حتى يقيموا، تحقيقاً وتيسيراً:
«أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» ..
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد. فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم. وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر. فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقاً، لإرادة اليسر بالناس لا العسر. ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها، أو لا تظهر للتقدير البشري.. وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها. فوراءها قطعاً حكمة. وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها.
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب. مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون. ولكن هذا- في اعتقادي- لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص.(1/168)
فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى. وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى.
والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق. وهذا الدين دين الله لا دين الناس. والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها. بل لا بد أن يكون الأمر كذلك. ومن ثم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم. وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم. وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقاً مباشراً كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر. والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب. وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه، ويراها هي الأولى، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها.
أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص، فقد ينشيء حرجاً لبعض المتحرجين. في الوقت الذي لا يجدي كثيراً في تقويم المتفلتين.. والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين. فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة.. وهذا هو جماع القول في هذا المجال.
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام.. وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين. وصورة سلوك أولئك السلف- رضوان الله عليهم- أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته، من البحوث الفقهية ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقاً حياً لهذه العقيدة وخصائصها:
1- عن جابر- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ «كراع الغميم» فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة. أولئك العصاة» .. (أخرجه مسلم والترمذي) .
2- وعن أنس رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر. فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- ذهب المفطرون اليوم بالأجر» .. (أخرجه الشيخان والنسائي) .
3- وعن جابر- رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع عليه الناس، وقد ظلل عليه. فقال: ما له؟ فقالوا: رجل صائم. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«ليس من البر الصوم في السفر» .. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي) .
4- وعن عمرو بن أمية الضمري- رضي الله عنه- قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من سفر. فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلت: يا رسول الله إني صائم. قال: إذاً أخبرك عن المسافر. إن(1/169)
الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة» . (أخرجه النسائي) ..
5- وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك. قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما» . (أخرجه أصحاب السنن) .
6- وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سأل حمزة بن عمرو الأسلمي- رضي الله عنه- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الصوم في السفر. (وكان كثير الصيام) فقال: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» . (أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي) وفي رواية أخرى وكان جلداً على الصوم.
7- وعن أنس- رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فمنا الصائم ومنا المفطر.
فلا الصائم يعيب على المفطر، ولا المفطر يعيب على الصائم» .. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داود) .
8- وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وابن رواحة رضي الله عنه.. (أخرجه الشيخان وأبو داود) .
9- وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك- رضي الله عنه- في رمضان وهو يريد سفراً.
وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ قال: نعم. ثم ركب..
(أخرجه الترمذي) .
10- وعن عبيد بن جبير قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان. فدفع فقِّرب غداؤه، فقال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فأكل وأكلت.. (أخرجه أبو داود) 11- وعن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة- رضي الله عنه- خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط، وذلك ثلاثة أميال، في رمضان. فأفطر وأفطر معه ناس كثير. وكره آخرون أن يفطروا.
فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه. إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. اللهم أقبضني إليك.. (أخرجه أبو داود) ..
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر. وترجح الأخذ بها.
ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده ظل مرة صائماً مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة، فقد كانت له- صلى الله عليه وسلم- خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه. كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحياناً. أي يصل اليوم باليوم بلا فطر. فلما قالوا له في هذا، قال: «إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» .. (أخرجه الشيخان) وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا: أولئك العصاة. أولئك العصاة. وهذا الحديث متأخر- في سنة الفتح- فهو أحدث من الأحاديث الأخرى. وأكثر دلالة على الاتجاه المختار..
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات.. أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية، تقتضي توجيهاً معيناً- كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد، ونجد فيها توجيهات متنوعة-(1/170)
فالرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يربي وكان يواجه حالات حية. ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة! ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل.. أما المرض فلم أجد فيه شيئاً إلا أقوال الفقهاء، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته، على وجوب القضاء يوماً بيوم في المرض والسفر، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح.
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها. وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين- كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقاً، في طمأنينة إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه.
ثم نعود إلى استكمال السياق:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين- وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد- فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد- وهو مدلول يطيقونه- فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد- جعل الله هذه الرخصة، وهي الفطر مع إطعام مسكين.. ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً، إما تطوعاً بغير الفدية، وإما بالإكثار عن حد الفدية، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان: «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» .. ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة- في غير سفر ولا مرض-: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .. لما في الصوم من خير في هذه الحالة. يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية.
كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض- حتى ولو أحس الصائم بالجهد.
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً.
كما جاء فيما بعد. وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء.. فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك- رضي الله عنه- كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي.. وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.. وعن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... » .
185- وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن- إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمناً، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئاً. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم(1/171)
الشهر الذي نزل فيه القرآن:
«شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ.. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» ..
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم- فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا:
«فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» ..
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر. أو من رأى منكم هلال الشهر. والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان.
ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر:
«وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» ..
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء:
«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» ..
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها. فهي ميسرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها:
«وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» .
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر:
«وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ..
فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً. ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير.
186- وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك..
نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة. نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم،(1/172)
والجزاء المعجل على الاستجابة لله.. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء..
تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير:
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» ..
فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة:
«وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» ..
إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» ..
إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح.
«فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» ..
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.. وهي الرشد والهدى والصلاح. فالله غني عن العالمين.
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد. فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد. واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون- بإسناده- عن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين» .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- بإسناده- عن ابن ثوبان: ورواه عبد الله بن الإمام أحمد- بإسناده- عن عبادة بن الصامت: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» .
وفي الصحيحين: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول:
دعوت فلم يستجب لي!» ..
وفي صحيح مسلم: عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم(1/173)
أو قطيعة رحم ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله وما الاستعجال. قال: «يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» .
والصائم أقرب الدعاة استجابة، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده- بإسناده- عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: «سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة» .. فكان عبد الله بن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجه في سننه- بإسناده- عن عبد الله بن عمر كذلك قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة- رضي الله عنه-:
قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» ..
ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام.
187- ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام. فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر، وحل الطعام والشراب كذلك، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» .
وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره. فإذا صحا بعد نومه من الليل- ولو كان قبل الفجر- لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب. وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاماً عند أهله وقت الإفطار، فغلبه النوم، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل. ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة.. ونزلت هذه الآية. نزلت تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ» ..
والرفث مقدمات المباشرة، أو المباشرة ذاتها، وكلاهما مقصود هنا ومباح.. ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقاً ونداوة، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة:
«هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» ..
واللباس ساتر وواق.. وكذلك هذه الصلة بين الزوجين. تستر كلاًّ منهما وتقيه. والإسلام الذي يأخذ(1/174)
هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته..
الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم. وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف..
في آن..
ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم:
«عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ. فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» ..
وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها، تتمثل في الهواتف الحبيسة، والرغبات المكبوتة أو تتمثل في الفعل ذاته، وقد ورد أن بعضهم أتاه.. وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم.. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم:
«فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ» ..
ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضاً:
«وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» ..
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء، ومن المتعة بالذرية، ثمرة المباشرة. فكلتا هما من أمر الله، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه، ومن إباحتها وإباحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها. وهي موصولة بالله فهي من عطاياه. ومن ورائها حكمة، ولها في حسابه غاية. فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط.
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما. وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى.. ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها. وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء. المنهج الخارج من يد الخالق. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها:
«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» ..
أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال. وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب. وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول: إنه قبل طلوع الشمس بقليل. وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت..
ربما زيادة في الاحتياط..
قال ابن جرير- بإسناده- عن سمرة بن جندب: قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر» .. ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكنه الفجر المستطير في الأفق» .. والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل.. وكان بلال- رضي الله عنه- يبكر في الأذان لتنبيه النائم، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخراً للإمساك. وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال..(1/175)
ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد. والاعتكاف- بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد.
وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة، أو ضرورة الطعام والشراب- يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة. وكانت سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر منه.. وهي فترة تجرد لله. ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقاً لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل:
«وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» ..
سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار.
وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع. كل أمر وكل نهي.
كل حركة وكل سكون:
«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» ..
والنهي هنا عن القرب.. لتكون هناك منطقة أمان. فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة، اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد. ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر: «فَلا تَقْرَبُوها» ..
والمقصود هو المواقعة لا القرب. ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى:
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» ..
وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين.
188- وفي ظل الصوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل: أكل أموال الناس بالباطل، عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتماداً على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللحن بالقول والحجة. حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدا له. ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله، والدعوة إلى تقواه، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله:
«وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
ذكر ابن كثير في تفسير الآية: «قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار. فليحملها أو ليذرها» ..
وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم. فحكم الحاكم لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً. إنما هو ملزم في الظاهر. وإثمه على المحتال فيه.(1/176)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله. كما ربط في القصاص، وفي الوصية وفي الصيام.
فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل. وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله.. ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة. لا تتجزأ ولا تتفرق. ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب، إيماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض.. فهو الكفر في النهاية. والعياذ بالله..
[سورة البقرة (2) : الآيات 189 الى 203]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)(1/177)
هذا الدرس- كسابقه- استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها، ونظم حياتها، وأحكام شريعتها فيما بينها، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها.
ويتضمن هذا الدرس بياناً عن الأهلة- جمع هلال- كما يتضمن تصحيحاً لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلاً من أبوابها في مناسبات معينة، ثم بياناً عن أحكام القتال عامة، وأحكام القتال في الأشهر الحرم، وعند المسجد الحرام خاصة. وفي النهاية بياناً لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية.
وهكذا نرى هنا- كما رأينا في الدرس السابق- أحكاماً تتعلق بالتصور والاعتقاد، وأحكاماً تتعلق بالشعائر التعبدية، وأحكاماً تتعلق بالقتال.. كلها تتجمع في نطاق واحد، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه.
في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء، ويربط هذا بحب الله وكرهه. «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» ..
وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..(1/178)
وهكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، ناشئاً من طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلب وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون.
وهناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع. تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم- صلى الله عليه وسلم- عن شؤون شتى، هي الشؤون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد، ووفق نظامهم الجديد. وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه..
فهم يسألون عن الأهلة.. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالاً، ثم يكبر حتى يستدير بدراً، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالاً، ثم يختفي ليظهر هلالاً من جديد؟
ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟
ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام. هل يجوز؟
ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر! ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته. ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن.
وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضاً..
وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى:
فهي أولاً دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقاً وثيقاً فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة. إنما عادوا أمة لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته.. وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء.. حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام.
وهي ثانياً دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمراً في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة.. وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق. عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة. فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيهاً يقربعض جزئيات من مألوفها القديم(1/179)
تلقته جديداً مرتبطاً بالتصور الجديد. إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كل جزئية في النظام القديم ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد، فتصبح جزءاً منه، داخلاً في كيانه، متناسقاً مع بقية أجزائه.. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها. فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائياً.
والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث- كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم- مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين.. ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائماً في المعركة. سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب.
هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة. فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها..
والقرآن حاضر.. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة.. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح! وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس.. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور.
أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشئ التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، يقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي الأمر.. إنه لأمر غير هذا نزل الله القرآن.. لقد نزله لينشئ حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطئ الأمان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. والله المستعان..
189- والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس بالتفصيل:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
تقول بعض الروايات: إن النبي- صلّى الله عليه وسلم- سئل ذلك السؤال الذي أسلفناه عن الأهلة:
ظهورها ونموها وتناقصها.. ما بالها تصنع هذا؟ وتقول بعض الروايات: إنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ وقد يكون هذا السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب. فقال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-:
«قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» ..
مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم، وفي صومهم وفطرهم، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم.. وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء.
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني، فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن(1/180)
الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال: ما بال القمر يبدو هلالاً.. إلخ. كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية. وهي داخلة في مضمون السؤال: لماذا خلق الله الأهلة؟ فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة؟
لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص.. كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دور خاص في قيادة البشرية، لتنشئ نموذجاً معيناً من المجتمعات غير مسبوق ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض وتقود إليها الناس.
والإجابة «العلمية» عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علماً نظرياً في الفلك إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين، أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات.
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيراً في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها. وليس مجالها على أية حال هو القرآن. إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية. ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي.. كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم! إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. وإن وظيفته أن ينشئ تصوراً عاماً للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته.. ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل- بالبحث العلمي- في الحدود المتاحة للإنسان- وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته.. أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته. بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه..
والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه- وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته.. ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها.. لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها.. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه. بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره. كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي(1/181)
يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطىء ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه.. لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه «حقائق علمية» مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني- أياً كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها..
فمن الخطأ المنهجي- بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية.
وهي كل ما يصل إليه العلم البشري! هذا بالقياس إلى «الحقائق العلمية» .. والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى «علمية» .
ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه.. وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها.. فهذه كلها ليست «حقائق علمية» حتى بالقياس الإنساني. وإنما هي نظريات وفروض. كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية. إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق! ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة! وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة- أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم..
الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق- بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي. حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة! والثالثة: هي التأويل المستمر- مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكل يوم يجد فيها جديد.(1/182)
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا..
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات- ومن حقائق- عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن.. كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .. ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله. وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.
فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:
يقول القرآن الكريم مثلاً: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» .. ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون.. الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا ... وبآلاف من الخصائص.. هي التي تصلح للحياة وتوائمها.. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة.. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» وتعميقه في تصورنا.. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه..
وهكذا..
هذا جائز ومطلوب.. ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً، هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» .. ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان.. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية. لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!! لا.. إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية. فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها. وهي معرضة غدا للنقض والبطلان.. بينما الحقيقة القرآنية نهائية. وليس من الضروري أن يكون هذا معناها. فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية.. وكفى..
ولا زيادة..
ويقول القرآن الكريم: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» .. فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري..
ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية. ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية.. ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان.. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية- في أن الشمس تجري- وكفى.. فلا نعلق هذه بتلك أبداً.
ويقول القرآن الكريم: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» .. ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها.. فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية. ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية!(1/183)
لا.. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية. وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة. وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء.. كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية.. ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية! وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق.. وفرق بين هذا وذاك.
ثم نعود إلى النص القرآني:
«وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
والارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج، وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني.. في الصحيحين- بإسناده- عن البراء- رضي الله عنه- قال: «كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك. فنزلت: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» ..
ورواه أبو داود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه.. فنزلت هذه الآية.
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر- أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء. وجاء يصحح التصور الإيماني للبر.. فالبر هو التقوى.
هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن. وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان.
ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها. وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح:
«وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة- هي التقوى- وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج.. كل ذلك في آية واحدة قصيرة..
190- بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط:
«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ،(1/184)
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ. وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»
..
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال. نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا. وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم، وللتمكين لهم في الأرض، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» ..
ومن ثم كانوا يعرفون لم أُذن لهم بأنهم ظلموا، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة، وقيل لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله.. نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى.
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر، وخضوعا للقيادة، وانتظاراً للإذن. وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم.. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع.. ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحماسة والتدبر، والحمية والطاعة.. في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم..
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة.. هو أن البيئة العربية، كانت بيئة نخوة ونجدة. وقد كان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام وقد حدث بالفعل عند ما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب، كي يتخلوا عن حماية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنه عند ما اشتد الاضطهاد لبني هاشم، ثارت نفوس نجدة ونخوةً، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة. وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.(1/185)
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حرباً دموية داخل البيوت. فقد كان المسلمون حينذاك فروعاً من البيوت. وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام. ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة.. مما كان يجعل الإسلام- في نظر البيئة العربية- يبدو دعوة تفتت البيوت، وتشعل النار فيها من داخلها.. فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة، تواجه سلطة أخرى في مكة، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها.. وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة، بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى. وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة، وهم محصورون في مكة، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة. فشاء الله أن يكثروا، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال..
وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة (ثم خارج الجزيرة) . وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين. معسكر الإسلام ومعسكر الشرك. وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلاً يسيراً في سورة براءة.
ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام، تصلح أساساً لتفسير آيات القتال هنا، وفي المواضع القرآنية الأخرى، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة:
لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها، ولتكون منهجاً عاماً للبشرية جميعها ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني، كما أو ضحهما القرآن الكريم، المنزل من عند الله. قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعاً، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال.
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة. فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها. وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان..
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة. لا بالأذى ولا بالإغراء. ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة. وكان من واجب الجماعة(1/186)
المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة. ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها. وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله.. لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان.
ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، وأن يستجيب له، وأن يبقى عليه. وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله. بأية وسيلة وبأية أداة.
وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام.
وكان لهذه الأهداف العليا وحدها، غير متلبسة بأي هدف آخر، ولا بأي شارة أخرى.
إنه الجهاد للعقيدة. لحمايتها من الحصار وحمايتها من الفتنة وحماية منهجها وشريعتها في الحياة وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام، ويقره ويثيب عليه ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء والذين يحتملون أعباءه أولياء.
وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وآذوهم في دينهم، وفتنوهم في عقيدتهم، وهي- مع هذا- تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام:
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دون اعتداء:
«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء:
«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» ..
إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة. القتال في سبيل الله. لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب ولا في سبيل الأسواق والخامات ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس.. إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام.
ومع تحديد الهدف، تحديد المدى:(1/187)
«وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطراً على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين.. كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام، ووضع بها حداً للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء.. تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام، وتأباها تقوى الإسلام.
وهذه طائفة من أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- ووصايا أصحابه، تكشف عن طبيعة هذه الآداب، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «وجدت امرأت مقتولة في بعض مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان» .. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي) .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه» .. (أخرجه الشيخان) .
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن وجدتم فلاناً وفلاناً (رجلين من قريش) فأحرقوهما بالنار» . فلما أردنا الخروج قال: «كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجد تموهما فاقتلوهما» .. (أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي) .
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أعفّ الناس قِتلهً أهل الإيمان» .. (أخرجه أبو داود) .
وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري- رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن النُّهْبَى والمثلة» .. (أخرجه البخاري) .
وعن ابن يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأتى بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبراً بالنبل. فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- فقال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهى عن قتل الصبر. فوالذي نفسي بيده، لو كانت دجاجة ما صَبَرْتُهَا. فبلغ ذلك عبد الرحمن، فأعتق أربع رقاب «1» .. (أخرجه أبو داود) .
وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه- رضي الله عنه- قال: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سرية فلما بلغنا المغار «2» استحثثت فرسي فسبقت أصحابي فتلقاني أهل الحي بالرنين. فقلت لهم:
قولوا: لا إله إلا الله تُحَرَزُوا «3» . فقالوها. فلامني أصحابي، وقالوا: حرمتنا الغنيمة! فلما قدمنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبروه بالذي صنعت. فدعاني فحسن لي ما صنعت. ثم قال لي: «إن الله تعالى
__________
(1) قتل الصبر: القتل بصفحة السيف لا بشفرته. وفيه نوع من التعذيب بالموت البطيء.. وأعتق عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أربع رقاب وهي كفارة القتل الخطأ.
(2) أي مكان الإغارة على العدو.
(3) تحفظوا وتصانوا وتحرم دماؤكم وأموالكم.(1/188)
قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر» .. (أخرجه أبو داود) وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيراً. ثم قال له: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً» .. (أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي) .
وروى مالك عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- أنه قال في وصيته لجنده: «ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأت ولا صبياً ولا كبيراً هرماً» ..
فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام وهذه هي آدابه فيها وهذه هي أهدافه منها.. وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل:
«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ..
وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم- فعددهم قليل- ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم- فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم- إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم. فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه. ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل.. ولما فار الغضب برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمر بحرق فلان وفلان (رجلين من قريش) عاد فنهى عن حرقهما، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله.
191- ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنو هم في دينهم، وأخرجوهم من ديارهم، والمضي في القتال حتى يقتلو هم على أية حالة، وفي أي مكان وجدوهم. باستثناء المسجد الحرام. إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال. وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم:
«وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ- وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية. ومن ثم فهي أشد من القتل. أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة. ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله، وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه. وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله. ويجعل من هذه الأوضاع فروضاً حتمية لا يملك الناس التفلت منها.
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية.. هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني. فغاية الوجود الإنساني هي العبادة (ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله) . وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد. فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته. ومن ثم يدفعه بالقتل..
لذلك لم يقل: وقاتلوهم. إنما قال: «وَاقْتُلُوهُمْ» .. «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» .. أي حيث وجدتموهم.(1/189)
في أية حالة كانوا عليها وبأية وسيلة تملكونها- مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار.
ولا قتال عند المسجد الحرام، الذي كتب الله له الأمن، وجعل جواره آمناً استجابة لدعوة خليله إبراهيم (عليه السلام) وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام.. لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته، فيبدأون بقتال المسلمين عنده. وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم.. فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام، الذي عاشوا في جواره آمنين.
192- «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته، هو الانتهاء عن الكفر، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين. فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون. ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته. فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان.
وما أعظم الإسلام، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم، الذي قتلوا منه وفتنوا، وفعلوا بأهله الأفاعيل!!! 193- وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضلات والمفسدات. وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه، ويهابه أعداؤه، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة.. والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة:
«وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» ..
وإذا كان النص- عند نزوله- يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة، وهي التي كانت تفتن الناس، وتمنع أن يكون الدين لله، فإن النص عام الدلالة، مستمر التوجيه. والجهاد ماض إلى يوم القيامة. ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع، والاحتفاظ بها في أمان. والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة وتطلق الناس أحراراً من قهرها، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله.
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل.. هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام وينشئ مبدأ عظيماً يعني في حقيقته ميلاداً جديداً للإنسان على يد الإسلام.
ميلاداً تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة، فترجح كفة العقيدة.
كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء «الإنسان» .. إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمناً عن دينه، ويؤذون مسلماً بسبب إسلامه. أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله..
وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم، وأن تقتلهم حيث وجدتهم «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ..
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائماً. وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى الصور.. وما يزال الأذي والفتنة تلم بالمؤمنين أفراداً وجماعات وشعوباً كاملة في بعض الأحيان.. وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور،(1/190)
وفي أي شكل من الأشكال، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام، فكان ميلاداً جديداً للإنسان..
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم فلا عدوان عليهم- أي لا مناجزة لهم- لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين:
«فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» «1» .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدواناً من باب المشاكلة اللفظية. وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين.
194- ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام:
«الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام. وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان. تصان فيها الدماء، والحرمات والأموال، ولا يمس فيها حي بسوء. فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها، فجزاؤه أن يحرم هو منها. والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته، فالحرمات قصاص..
ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها. فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها:
«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» ..
بلا تجاوز ولا مغالاة.. والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم. وقد كانوا يعلمون- كما تقدم- أنهم إنما ينصرون بعون الله. فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين. بعد أمرهم بالتقوى.. وفي هذا الضمان كل الضمان..
والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال. ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال، ومركب القتال، وزاد القتال.. لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند. إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال.
وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم. إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحمي نفسها من أهلها أو من أعدائها، إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها! ولكن كثيراً من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد، والذود عن منهج الله وراية العقيدة، لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم، ولا ما يتجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب. وكانوا يجيئون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد، الذي لا يبلغ على الأقدام. فإذا لم يجد ما يحملهم عليه «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .. كما حكى عنهم القرآن الكريم.
__________
(1) نزل فيما بعد في سورة براءة، الأمر بقتال المشركين في كافة الجزيرة العربية حتى يقولوا: لا إله إلا الله.. وهذا هو التعديل الذي اطرد مع مقتضيات موقف الإسلام والجماعة المسلمة. لتخلص الجزيرة للإسلام. فلا يدع وراءه أعداء له وهو يواجه عداوات الروم والفرس خارج الجزيرة. [.....](1/191)
195- من أجل هذا كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله. الإنفاق لتجهيز الغزاة. وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع..
وهنا يعد عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون:
«وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف. وبخاصة في نظام يقوم على التطوع، كما كان يقوم الإسلام.
ثم يرتقي بهم من مرتبة الجهاد والإنفاق إلى مرتبة الإحسان:
«وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» ..
ومرتبة الإحسان هي عليا المراتب في الإسلام. وهي كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» .
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات كلها، وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء.
وهذا هو التعقيب الذي ينهي آيات القتال والإنفاق، فيكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان. أعلى مراتب الإيمان..
196- بعد ذلك يجيء الحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما. والتسلسل في السياق واضح بين الحديث عن الأهلة وأنها مواقيت للناس والحج والحديث عن القتال في الأشهر الحرم وعن المسجد الحرام والحديث عن الحج والعمرة وشعائرهما في نهاية الدرس نفسه:
«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.. الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.. فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
__________
(1) في الصحيحين من حديث الإيمان.(1/192)
وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلا رواية تذكر أن قوله تعالى: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة. كذلك ليس لدينا تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام. سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» .. أو بآية «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» .. الواردة في سورة آل عمران. فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت. وقد ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتاب: «زاد المعاد» أن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة ارتكاناً منه إلى أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حج حجة الوداع في السنة العاشرة وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إما في السنة التاسعة أو العاشرة.. ولكن هذا لا يصلح سنداً. فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول- صلى الله عليه وسلم- يؤخر حجه إلى السنة العاشرة. وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر- رضي الله عنه- أميراً على الحج في السنة التاسعة. وقد ورد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج ثم تذكر أن المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم، وأن بعضهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم.. ثم نزلت براءة، فأرسل- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- يبلغ مطلع براءة للناس، وينهي بها عهود المشركين، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى: «أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهو إلى مدته» ..
ومن ثم لم يحج- صلى الله عليه وسلم- حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا..
وهناك ما يستأنس به على أن فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا. وقد ورد أن الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة. ولكن هذا القول قد لا يجد سنداً قوياً. إلا أن آيات سورة الحج المكية- على الأرجح- ذكرت معظم شعائر الحج، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها. وقد ورد فيها: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»
.. «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .. «وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها، وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» ..
وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله. وهي شعائر الحج الأساسية. وكان الخطاب موجهاً إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم. مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون. فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين- وهم سدنة الكعبة إذ ذاك- جعلت أداء الفريضة متعذراً بعض الوقت، فذلك اعتبار آخر. وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء أن بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفراداً في وقت مبكر بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة.
وعلى أية حال فحسبنا هذا عن تاريخ فرض الحج، لنواجه الآيات الواردة هنا عن شعائره، وعن(1/193)
التوجيهات الكثيرة في ثناياها.
«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ- فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ- وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. فَإِذا أَمِنْتُمْ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ- تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ. ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
وأول ما يلاحظ في بناء الآية هو تلك الدقة التعبيرية في معرض التشريع، وتقسيم الفقرات في الآية لتستقل كل فقرة ببيان الحكم الذي تستهدفه. ومجيء الاستدراكات على كل حكم قبل الانتقال إلى الحكم التالي..
ثم ربط هذا كله في النهاية بالتقوى ومخافة الله..
والفقرة الأولى في الآية تتضمن الأمر بإتمام أعمال الحج والعمرة إطلاقاً متى بدأ الحاج أو المعتمر فأهلّ بعمرة أو بحج أو بهما معاً وتجريد التوجه بهما لله:
«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» ..
وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج. وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدىء- وهذا هو الأظهر- فالعمرة ليست فريضة عند الجميع ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج. مما يدل على أن المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص. ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أن العمرة- ولو أنها ابتداء ليست واجبة- إلا أنه متى أهل بها المعتمر فإن إتمامها يصبح واجباً. والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة. والأشهر أنها تؤدى على مدار العام. وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج.
ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار. من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر- وهذا متفق عليه- أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة- واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته-:
«فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» ..
وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في موضعه الذي بلغه.
ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات (وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معاً، ويترك لبس المخيط من الثياب، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله ... )
وهذا ما حدث في الحديبية عند ما حال المشركون بين النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام، سنة ست من الهجرة ثم عقدوا معه صلح الحديبية، على أن يعتمر في العام القادم. فقد ورد أن هذه الآية نزلت وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله- أي مكانه الذي ينحر فيه عادة- حتى نحر النبي- صلى الله عليه وسلم- هديه أمامهم وأحل من إحرامه.. ففعلوا «1» ..
__________
(1) يراجع تفصيل هذا في تفسير سورة الفتح في الجزء السادس والعشرين.(1/194)
وما استيسر من الهدي، أي ما تيسر، والهدي من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية، فيكون هذا هو ما استيسر ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزئ.
والحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية، أو الإحصار بالمرض، هي التيسير، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله، والقيام بالطاعات المفروضة. فإذا تم هذا، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته. ويعتبر كأنه قد أتم. فينحر ما معه من الهدى ويحل. وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة.
وبعد هذا الاستدراك من الأمر الأول العام، يعود السياق فينشئ حكماً جديداً عاماً من أحكام الحج والعمرة.
«وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» ..
وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار. فلا يجوز حلق الرؤوس- وهو إشارة إلى الإحلال من الإحرام بالحج أو العمرة أو منهما معاً- إلا بعد أن يبلغ الهدي محله. وهو مكان نحره. بعد الوقوف بعرفة، والإفاضة منها. والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة، وعندئذ يحل المحرم. أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال.
واستدراكاً من هذا الحكم العام يجيء هذا الاستثناء:
«فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» ..
ففي حالة ما إذا كان هناك مرض يقتضي حلق الرأس، أو كان به أذى من الهوام التي تتكون في الشعر حين يطول ولا يمشط، فالإسلام دين اليسر والواقع يبيح للمحرم أن يحلق شعره، - قبل أن يبلغ الهدي الذي ساقه عند الإحرام محله، وقبل أن يكمل أفعال الحج- وذلك في مقابل فدية: صيام ثلاثة أيام، أو صدقة بإطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة والتصدق بها. وهذا التحديد لحديث النبي- صلى الله عليه وسلم- قال البخاري- بإسناده إلى كعب بن عجرة- قال: حملت إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي.
فقال: «ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا. أما تجد شاة؟ قلت: لا. قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، وأحلق رأسك» ..
ثم يعود إلى حكم جديد عام في الحج والعمرة:
«فَإِذا أَمِنْتُمْ، فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» ..
أي فإذا لم تحصروا، وتمكنتم من أداء الشعائر، فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فلينحر ما استيسر من الهدي.. وتفصيل هذا الحكم: أن المسلم قد يخرج للعمرة فيهل محرماً عند الميقات. حتى إذا فرغ من العمرة- وهي تتم بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة- أحرم للحج وانتظر أيامه. وهذا إذا كان في أشهر الحج، وهي شوال وذو القعدة والعشرة الأولى من ذي الحجة.. هذه صورة من صور التمتع بالحج إلى العمرة. والصورة الثانية هي أن يحرم من الميقات بعمرة وحج معاً. فإذا قضى مناسك العمرة انتظر حتى يأتي موعد الحج. وهذه هي الصورة الثانية للتمتع- وفي أي من الحالتين على المعتمر المتمتع أن ينحر ما استيسر من الهدي بعد العمرة ليحل منها ويتمتع بالإحلال ما بين قضائه للعمرة وقضائه للحج. وما استيسر يشمل(1/195)
المستطاع من الأنعام سواء الإبل والبقر أو الغنم والمعز.
فإذا لم يجد ما استيسر من الهدي فهناك فدية:
«فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» ..
والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة الأولى قبل الوقوف بعرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. أما الأيام السبعة الباقية فيصومها بعد عودته من الحج إلى بلده.. «تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ» .. ينص عليها نصاً للتوكيد وزيادة البيان.. ولعل حكمة الهدي أو الصوم هي استمرار صلة القلب بالله، فيما بين العمرة والحج، فلا يكون الإحلال بينهما مخرجاً للشعور عن جو الحج، وجو الرقابة، وجو التحرج، الذي يلازم القلوب في هذه الفريضة..
ولما كان أهل الحرم عماره المقيمين فيه لا عمرة لهم.. إنما هو الحج وحده.. لم يكن لهم تمتع، ولا إحلال بين العمرة والحج. ومن ثم فليس عليهم فدية ولا صوم بطبيعة الحال:
«ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ..
وعند هذا المقطع من بيان أحكام الحج والعمرة يقف السياق ليعقب تعقيباً قرآنياً، يشد به القلوب إلى الله وتقواه:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
وهذه الأحكام ضمان القيام بها هو هذه التقوى، وهي مخافة الله، وخشية عقابه. والإحرام بصاحبه تحرج. فإذا أباح لهم الإحلال فترة أقام تقوى الله وخشيته في الضمير، تستجيش فيه هذا التحرج، وتقوم بالحراسة في انتباه! 197- ثم يمضي في بيان أحكام الحج خاصة فيبين مواعيده، وآدابه، وينتهي في هذا المقطع الجديد إلى التقوى كما انتهى إليها في المقطع الأول سواء:
«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» ..
وظاهر النص أن للحج وقتاً معلوماً، وأن وقته أشهر معلومات.. هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة.. وعلى هذا لا يصح الإحرام بالحج إلا في هذه الأشهر المعلومات وإن كان بعض المذاهب يعتبر الإحرام به صحيحاً على مدار السنة، ويخصص هذه الأشهر المعلومات لأداء شعائر الحج في مواعيدها المعروفة. وقد ذهب إلى هذا الرأي الأئمة: مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وهو مروي عن إبراهيم النخعي، والثوري والليث بن سعد. وذهب إلى الرأي الأول الإمام الشافعي، وهو مروي عن بن عباس وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد. وهو الأظهر.
فمن فرض الحج في هذه الأشهر المعلومات- أي أوجب على نفسه إتمامه بالإحرام- «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ» .. والرفث هنا ذكر الجماع ودواعيه إما إطلاقاً وإما في حضرة النساء. والجدال:
المناقشة والمشادة حتى يغضب الرجل صاحبه. والفسوق: إتيان المعاصي كبرت أم صغرت.. والنهي عنها ينتهي إلى ترك كل ما ينافي حالة التحرج والتجرد لله في هذه الفترة، والارتفاع على دواعي الأرض، والرياضة الروحية على التعلق بالله دون سواه، والتأدب الواجب في بيته الحرام لمن قصد إليه متجرداً حتى من مخيط الثياب!(1/196)
وبعد النهي عن فعل القبيح يحبب إليهم فعل الجميل:
«وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ» ..
ويكفي في حس المؤمن أن يتذكر أن الله يعلم ما يفعله من خير ويطلع عليه، ليكون هذا حافزا على فعل الخير، ليراه الله منه ويعلمه.. وهذا وحده جزاء.. قبل الجزاء..
ثم يدعوهم إلى التزود في رحلة الحج.. زاد الجسد وزاد الروح.. فقد ورد أن جماعة من أهل اليمن كانوا يخرجون من ديارهم للحج ليس معهم زاد، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا! وهذا القول- فوق مخالفته لطبيعة الإسلام التي تأمر باتخاذ العدة الواقعية في الوقت الذي يتوجه فيه القلب إلى الله ويعتمد عليه كل الاعتماد- يحمل كذلك رائحة عدم التحرج في جانب الحديث عن الله، ورائحة الامتنان على الله بأنهم يحجون بيته فعليه أن يطعمهم!! ومن ثم جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه، مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام دائم الإيحاء:
«وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» ..
والتقوى زاد القلوب والأرواح. منه تقتات. وبه تتقوى وترف وتشرق. وعليه تستند في الوصول والنجاة.
وأولو الألباب هم أول من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بهذا الزاد.
198- ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره، فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج. وحكم الإفاضة ومكانها. وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها:
«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
قال البخاري- بإسناده- عن ابن عباس. قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية.
فتأثموا أن يتجروا في الموسم. فنزلت: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» في مواسم الحج.
وروى أبو داود- بإسناده من طريق آخر- إلى ابن عباس. قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيام ذكر. فأنزل الله: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» ..
وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نُكري. فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون بالمعروف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر:
جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية:
«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» .
وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر (رواها ابن جرير) قال: قلت: يا أمير المؤمنين. كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة، والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج.. هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغاً في الجاهلية، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه. وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء،(1/197)
عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة.
وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله:
«لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» ..
ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق: إنه لا يرزق نفسه بعمله. إنما هو يطلب من فضل الله، فيعطيه الله. فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة وهي أنه يبتغي من فضل الله، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق. ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه، وهو يبتغي الرزق، فهو إذن في حالة عبادة لله، لا تتنافى مع عبادة الحج، في الاتجاه إلى الله.. ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء.. وكل حركة منه عبادة في هذا المقام.
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام:
«فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج.. روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير، عن عطاء، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي. قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحج عرفات- ثلاثاً- فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة. فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» ..
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال (الظهر) يوم عرفة- وهو اليوم التاسع من ذي الحجة- إلى طلوع الفجر من يوم النحر.. وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة. استناداً إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي. عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال: «أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت:
يا رسول الله إني جئت من جبل طيء. أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه. فهل لي من حج؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه» .
وقد سن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للوقوف هذا الوقت- على أي القولين- ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر- وهو العاشر من ذي الحجة- ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها.. روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي- بإسناده- عن المسور ابن مخرمة قال: «خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفات. فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: «أما بعد- وكان إذا خطب خطبة قال: أما بعد- فإن هذا اليوم الحج الأكبر. ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس، إذا كانت الشمس في رؤس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها. وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس، مخالفاً هدينا هدي أهل الشرك» ..
والذي ورد عن فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله- في صحيح مسلم- «فلم يزل واقفاً- يعني بعرفة- حتى غربت الشمس وبدت(1/198)
الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس، السكينة السكينة» كلما اتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً. ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام. فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس» ..
وهذا الذي فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي تشير إليه الآية:
«فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والمشعر الحرام هو المزدلفة. والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات. ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم وهو مظهر الشكر على هذه الهداية. ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم:
«وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها.. لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال.. ضلال في التصور، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة، ونسبة بنوة الملائكة إلى الله، ونسبة الصهر إلى الله مع الجن.. إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة، التي كانت تنشئ بدورها اضطراباً في العبادات والشعائر والسلوك: من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة. ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها. ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة.. وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية.. تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» .
إلى إزالتها كما سيجيء. وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي. وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية، والعلاقات الزوجية، وعلاقات الأسرة بصفة عامة. وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع.. وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام.
وحين كانوا يسمعون:
«وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال..
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل.. من هم بغير الإسلام؟
وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم. ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقاً، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي.. وإن البشرية كلها لتتيه(1/199)
في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي.. لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال! وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي، على البشرية كلها في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها- بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديماً وحديثاً، ومذاهب أكبر مفكريها قديماً وحديثاً- حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت، ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي- فيما يدعي- أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد على الأقل- كما يزعم- في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله! فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى:
«وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
199- والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس.. إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها «الحمس» جمع أحمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب. ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يفيضون- أي يرجعون- من حيث يفيض الناس. فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس:
«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
قال البخاري: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها. فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» ..
قفوا معهم حيث وقفوا، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا.. إن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يعرف طبقة.
إن الناس كلهم أمة واحدة. سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخوانا متساوين. فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب.. ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام.. واستغفروا الله..
استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية. واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان. مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال.
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه. أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً.. وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع..
200- «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ(1/200)
النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ»
..
ولقد سبق أنهم كانوا يأتون أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز.. وهذه الأسواق لم تكن أسواق بيع وشراء فحسب إنما كانت كذلك أسواق كلام ومفاخرات بالآباء، ومعاظمات بالأنساب.. ذلك حين لم يكن للعرب من الإهتمامات الكبيرة ما يشغلهم عن هذه المفاخرات والمعاظمات! لم تكن لهم رسالة إنسانية بعد ينفقون فيها طاقة القول وطاقة العمل. فرسالتهم الإنسانية الوحيدة هي التي ناطهم بها الإسلام. فأما قبل الإسلام وبدون الإسلام فلا رسالة لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء.. ومن ثم كانوا ينفقون أيام عكاظ ومجنة وذي المجاز في تلك الاهتمامات الفارغة. في المفاخرة بالأنساب وفي التعاظم بالآباء.. فأما الآن وقد أصبحت لهم بالإسلام رسالة ضخمة، وأنشأ لهم الإسلام تصوراً جديداً، بعد أن أنشأهم نشأة جديدة.. أما الآن فيوجههم القرآن لما هو خير، يوجههم إلى ذكر الله بعد قضاء مناسك الحج، بدلاً من ذكر الآباء:
«فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» ..
وقوله لهم: «كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» .. لا يفيد أن يذكروا الآباء مع الله، ولكنه يحمل طابع التنديد، ويوحي بالتوجيه إلى الأجدر والأولى.. يقول لهم: إنكم تذكرون آباءكم حيث لا يجوز أن تذكروا إلا الله. فاستبدلوا هذا بذاك. بل كونوا أشد ذكراً لله وأنتم خرجتم إليه متجردين من الثياب، فتجردوا كذلك من الأنساب.. ويقول لهم: إن ذكر الله هو الذي يرفع العباد حقاً، وليس هو التفاخر بالآباء. فالميزان الجديد للقيم البشرية هو ميزان التقوى. ميزان الاتصال بالله وذكره وتقواه.
ثم يزن لهم بهذا الميزان، ويريهم مقادير الناس ومآلاتهم بهذا الميزان:
«فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
إن هناك فريقين. فريقاً همه الدنيا، فهو حريص عليها، مشغول بها. وقد كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف في الحج فيقولون: اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولادٍ حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً.. وورد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن الآية نزلت في هذا الفريق من الناس.. ولكن مدلول الآية أعم وأدوم.. فهذا نموذج من الناس مكرور في الأجيال والبقاع. النموذج الذي همه الدنيا وحدها.
يذكرها حتى حين يتوجه إلى الله بالدعاء لأنها هي التي تشغله، وتملأ فراغ نفسه، وتحيط عالمه وتغلقه عليه..
هؤلاء قد يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا- إذا قدر العطاء- ولا نصيب لهم في الآخرة على الإطلاق! 201- وفريقا أفسح أفقاً، وأكبر نفساً، لأنه موصول بالله، يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول:
«رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» ..
إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين. ولا يحددون نوع الحسنة- بل يدعون اختيارها لله، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون.. 202- وهؤلاء لهم نصيب مضمون لا يبطئ عليهم. فالله سريع الحساب.
إن هذا التعليم الإلهي يحدد: لمن يكون الاتجاه. ويقرر أنه من اتجه إلى الله وأسلم له أمره، وترك لله الخيرة، ورضي بما يختاره له الله، فلن تفوته حسنات الدنيا ولا حسنات الآخرة. ومن جعل همه الدنيا فقد خسر في الآخرة كل نصيب. والأول رابح حتى بالحساب الظاهر. وهو في ميزان الله أربح وأرجح.
وقد تضمن دعاؤه خير الدارين في اعتدال، وفي استقامة على التصور الهادئ المتزن الذي ينشئه الإسلام.(1/201)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا. فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا. ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها، وألا يضيقوا من آفاقهم، فيجعلوا من الدنيا سوراً يحصرهم فيها.. إنه يريد أن يطلق «الإنسان» من أسوار هذه الأرض الصغيرة فيعمل فيها وهو أكبر منها ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى.. ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي..
203- ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله، وإلى تقواه:
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ. فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى. وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده.. قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق.. وقال عكرمة: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر. الله أكبر. وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي: «وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه» .. وأيام عرفة والنحر والتشريق. كلها صالحة للذكر.
اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين. بشرط التقوى:
ذلك «لِمَنِ اتَّقى» ..
ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ..
وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية وكيف خلعها من جذورها الجاهلية وربطها بعروة الإسلام وشدها إلى محوره وظللها بالتصورات الإسلامية ونقاها من الشوائب والرواسب..
وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة.. إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد.. إنها لم تعد تقليداً عربياً، إنما عادت عبادة إسلامية. فالإسلام، والإسلام وحده، هو الذي يبقى وهو الذي يرعى..
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 214]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)(1/202)
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجاً للتربية، قائماً على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح: هذه هي بعينها التي عناها القرآن! وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر: الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان. الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها. والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق ولم يحاول إصلاح نفسه بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل! والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حساباً في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه.
وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافاً بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله(1/203)
عليها وكفرتها.. ويسمى هذا الاستسلام دخولاً في السلم. فيفتح بهذه الكلمة باباً واسعاً للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة (كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله) .
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا.. يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال. ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس. وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين «النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» ..
ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل. كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها. وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد! وهكذا نرى أطرافاً من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية.
204- «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ.. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» ..
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدراً بشرياً على الإطلاق. فاللمسات البشرية لا تستوعب- في لمسات سريعة كهذه- أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول.
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات.. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائناً حياً، مميز الشخصية. حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول:
هذا هو الذي أراد إليه القرآن! .. إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد البارئ في عالم الأحياء! هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.. «وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ» .. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيداً للتجرد والإخلاص، وإظهاراً للتقوى وخشية الله..
«وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» ! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.
205- هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره.. هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان..(1/204)
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:
«وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» ..
وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد..
مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» .. ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.
206- ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:
«وَإِذا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ» ..
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض وأهلك الحرث والنسل ونشر الخراب والدمار وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: «اتَّقِ اللَّهَ» .. تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول واستكبر أن يوجه إلى التقوى وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن «بِالْإِثْمِ» .. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء! إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها.. وتدع هذا النموذج حياً يتحرك. تقول في غير تردد: هذا هو. هذا هو الذي عناه القرآن! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن! وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم واللدد في الخصومة والقسوة في الفساد والفجور في الإفساد..
في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:
«فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، وَلَبِئْسَ الْمِهادُ!» ..
حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تبقي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم «وَلَبِئْسَ الْمِهادُ!» ويا للسخرية القاصمة في ذكر «الْمِهادُ» هنا.. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء! 207- ... ذلك نموذج من الناس. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» ..
ويشري هنا معناها يبيع. فهو يبيع نفسه كلها لله ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء. بيعة كاملة لا تردد فيها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.. والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية..(1/205)
يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا، ليعتقها ويقدمها خالصة لله، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه. فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله. وقد ذكرت الروايات سبباً لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير:
قال ابن كثير في التفسير: قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة:
نزلت في صهيب بن سنان الرومي. وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل فتخلص منهم، وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا له: ربح البيع. فقال: وأنتم. فلا أخسر الله تجارتكم. وما ذاك؟
فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية.. ويروى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له: «ربح البيع صهيب» .. قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي، حدثنا عوف، عن أبي عثمان النهدي، عن صهيب، قال:
لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- قالت لي قريش: يا صهيب. قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبداً. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم ما لي تخلون عني؟
قالوا: نعم! فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: ربح صهيب.. ربح صهيب» .. مرتين..
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد. وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس ترى نظائره في البشرية هنا وهناك والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة، مفسود الفطرة.. والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.. وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان. ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة، والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء والزواق! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.
208- وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر، ونموذج الإيمان الخالص. يهتف بالجماعة المسلمة، باسم الإيمان الذي تعرف به، للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام(1/206)
لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.
وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام..
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان.. فالله خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصداً، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعاً.
وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود(1/207)
الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات.. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط.. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة.. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما الله يريد ظلماً للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله.. من شأنها- ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة..
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله.. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون الله ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء.. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا(1/208)
تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء.. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة- آصرة العقيدة- حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان..
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» «1» .. والذي يرى صورته في قول النبي الكريم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» «2» ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» «3» .. «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» «4» .. «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» «5» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «6» .. «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» «7» ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» «8» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا» «9» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» «10» .. و.. «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله» «11» ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً.. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله- سبحانه- يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
__________
(1) سورة الحجرات 10.
(2) رواه الإمام أحمد ومسلم.
(3) سورة النساء 86.
(4) سورة لقمان 18.
(5) سورة فصلت 34.
(6) سورة الحجرات 11.
(7) سورة الحجرات 12.
(8) سورة الحجرات 6.
(9) سورة الحجرات 12.
(10) سورة النور 27.
(11) أخرجه مالك والشيخان.(1/209)
الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» » .. «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «2» .. «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» «3» .. «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ، أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «4» .. والذي يخاطب فيه نساء النبي- أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»
«5» ..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب.. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها لله فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد
__________
(1) سورة النور 19. [.....]
(2) سورة النور 2.
(3) سورة النور 4.
(4) سورة النور: آية: 30 و 31.
(5) سورة الأحزاب: آية: 32 و 33.(1/210)
وفي تسليم..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان.. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد» . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب.. ثم الانتحار..
والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وأما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق الله وإما طريق الشيطان. وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحداً منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان..
ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل.
والغفلة لا تكون مع الإيمان.
209- ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان:(1/211)
«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وتذكيرهم بأن الله «عَزِيزٌ» يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه.. وتذكير هم بأنه «حَكِيمٌ» .. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه.. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في المقام..
بعد ذلك يتخذ السياق أسلوباً جديداً في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان. فيتحدث بصيغة الغيبة بدلاً من صيغة الخطاب:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ؟، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
.. وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة. ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة؟ وماذا يرتقبون؟ تراهم سيظلون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود، الذي قال الله سبحانه: إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام، ويأتي الملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً؟
وفجأة- وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب- نجد أن اليوم قد جاء، وأن كل شيء قد انتهى، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها:
«وَقُضِيَ الْأَمْرُ» ..
وطوي الزمان، وأفلتت الفرصة، وعزت النجاة، ووقفوا وجهاً لوجه أمام الله الذي ترجع إليه وحده الأمور:
«وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
إنها طريقة القرآن العجيبة، التي تفرده وتميزه من سائر القول. الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه! فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم وهذا الفزع الأكبر ينتظر هم؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم! والسلم منهم قريب. السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً.
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً. يوم يقضي الأمر.. وقد قضي الأمر! «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» ..
هنا يلتفت السياق لفتة أخرى. فيخاطب النبي- صلى الله عليه وسلم- يكلفه أن يسأل بني إسرائيل- وهم نموذج التلكؤ في الاستجابة كما وصفتهم هذا السورة من قبل-: كم آتاهم الله من آية بينة ثم لم يستجيبوا! وكيف بدلوا نعمة الله، نعمة الإيمان والسلم، من بعد ما جاءتهم:
«سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
والعودة هنا إلى بني إسرائيل عودة طبيعية، فهنا تحذير من موقف بنو إسرائيل فيه أصلاء! موقف التلكؤ دون الاستجابة وموقف النشوز وعدم الدخول في السلم كافة وموقف التعنت وسؤال الخوارق، ثم(1/212)
الاستمرار في العناد والجحود.. وهذه هي مزالق الطريق التي يحذر الله الجماعة المسلمة منها، كي تنجو من عاقبة بني إسرائيل المنكودة.
«سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ» ..
والسؤال هنا قد لا يكون مقصوراً على حقيقته. إنما هو أسلوب من أساليب البيان، للتذكير بكثرة الآيات التي آتاها الله بني إسرائيل، والخوارق التي أجراها لهم.. إما بسؤال منهم وتعنت، وإما ابتداء من عند الله لحكمة حاضرة.. ثم ما كان منهم- على الرغم من كثرة الخوارق- من تردد وتلكؤ وتعنت ونكوص عن السلم الذي يظلل كنف الإيمان.
ثم يجيء التعقيب عاماً:
«وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
ونعمة الله المشار إليها هنا هي نعمة السلم. أو نعمة الإيمان. فهما مترادفان. والتحذير من تبديلها يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، وحرمانهم من السلم والطمأنينة والاستقرار، منذ أن بدلوا نعمة الله، وأبوا الطاعة الراضية، والاستسلام لتوجيه الله. وكانوا دائماً في موقف الشاك المتردد، الذي يظل يطلب الدليل من الخارقة في كل خطوة وكل حركة ثم لا يؤمن بالمعجزة، ولا يطمئن لنور الله وهداه، والتهديد بشدة عقاب الله يجد مصداقه أولاً في حال بني إسرائيل، ويجد مصداقه أخيراً فيما ينتظر المبدلين للنعمة المتبطرين عليها في كل زمان.
وما بدلت البشرية هذه النعمة إلا أصابها العقاب الشديد في حياتها على الأرض قبل عقاب الآخرة. وها هي ذي البشرية المنكودة الطالع في أنحاء الأرض كلها تعاني العقاب الشديد وتجد الشقوة النكدة وتعاني القلق والحيرة ويأكل بعضها بعضاً ويأكل الفرد منها نفسه وأعصابه، ويطاردها وتطارده بالأشباح المطلقة، وبالخواء القاتل الذي يحاول المتحضرون أن يملأوه تارة بالمسكرات والمخدرات، وتارة بالحركات الحائرة التي يخيل إليك معها أنهم هاربون تطاردهم الأشباح! ونظرة إلى صورهم في الأوضاع العجيبة المتكلفة التي يظهرون بها: من مائلة برأسها، إلى كاشفة عن صدرها، إلى رافعة ذيلها، إلى مبتدعة قبعة غريبة على هيئة حيوان! إلى واضع رباط عنق رسم عليه تيتل أو فيل! إلى لابس قميص تربعت عليه صورة أسد أو دب! ونظرة إلى رقصاتهم المجنونة، وأغانيهم المحمومة، وأوضاعهم المتكلفة وأزيائهم الصارخة في بعض الحفلات والمناسبات ومحاولة لفت النظر بالشذوذ الصارخ، أو ترضية المزاج بالتميز الفاضح..
ونظرة إلى التنقل السريع المحموم بين الأهواء والأزواج والصداقات والأزياء بين فصل وفصل، لا بل بين الصباح والمساء! كل أولئك يكشف عن الحيرة القاتلة التي لا طمأنينة فيها ولا سلام. ويكشف عن حالة الملل الجاثم التي يفرون منها، وعن حالة «الهروب» من أنفسهم الخاوية وأرواحهم الموحشة، كالذي تطارده الجنة والأشباح.
وإن هو إلا عقاب الله، لمن يحيد عن منهجه، ولا يستمع لدعوته: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» ..
وإن الإيمان الواثق لنعمة الله على عباده، لا يبدلها مبدل حتى يحيق به ذلك العقاب.. والعياذ بالله..(1/213)
212- وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة، والتبديل بعد النعمة، يذكر حال الذين كفروا وحال الذين آمنوا ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص:
«زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة. زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ولا يعرفون قيماً أخرى غير قيمها. والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة.. إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها.. ولكن لأنه ينظر إليها من عل- مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة، وعنايته بالنماء والإكثار- فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى.
ينشد منها أن يقر في الأرض منهجاً، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض، المستعبدون لأهداف الأرض.. ينظرون للذين آمنوا، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم، ومتاعهم الزهيد ليحاولوا آمالاً كباراً لا تخصهم وحدهم، ولكن تخص البشرية كلها ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ويرونهم يعانون فيها المشقات ويقاسون فيها المتاعب ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة.. ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا- في هذه الحال- فلا يدركون سراهتماماتهم العليا. عندئذ يسخرون منهم. يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه! «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا..» ..
ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان.. إنه ميزان الأرض. ميزان الكفر.
ميزان الجاهلية.. أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه. والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه:
«وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» ..
هذا هو ميزان الحق في يد الله. فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان. وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين.. إنهم فوقهم يوم القيامة. فوقهم عند الحساب الختامي الأخير. فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين.
والله يدخر لهم ما هو خير، وما هو أوسع من الرزق. يهبهم إياه حيث يختار في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدارين وفق ما يرى أنه لهم خير:
«وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» ..
وهو المانح الوهاب يمنح من يشاء، ويفيض على من يشاء. لا خازن لعطائه ولا بوّاب! وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل. وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا أو في الآخرة.. فالعطاء كله من عنده. واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى..(1/214)
وستظل الحياة أبداَ تعرف هذين النموذجين من الناس.. تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار وبذلك يحققون إنسانيتهم ويصبحون سادة للحياة، لا عبيداً للحياة.. كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر: الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون! وسيظل المؤمنون ينظرون من عل إلى أولئك الهابطين مهما أوتوا من المتاع والأعراض. على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون فيشفقون عليهم تارة ويسخرون منهم تارة. وهم أحق بالرثاء والإشفاق..
213- وعلى ذكر الموازين والقيم وظن الذين كفروا بالذين آمنوا وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله..
ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون:
«كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ- وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ- فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
هذه هي القصة.. كان الناس أمة واحدة. على نهج واحد، وتصور واحد. وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات.
فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد. وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى. حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات.
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات.. وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..
«وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» ..
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى.. إن من طبيعة الناس أن يختلفوا لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض.. إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله. فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ- إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ- وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» ..(1/215)
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق.. ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم.. هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح. الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات فلا يقتلها ولا يكبحها ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون وحكم عدل يرجع إليه المختصمون وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين:
«فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى «بِالْحَقِّ» .. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره. ولا حكم معه. ولا قول بعده. وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ولا يقوم على الأرض السلام ولا يدخل الناس في السلم بحال.
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
وهو كتاب واحد في حقيقته، جاء به الرسل جميعاً. فهو كتاب واحد في أصله، وهي ملة واحدة في عمومها، وهو تصور واحد في قاعدته: إله واحد، ورب واحد، ومعبود واحد، ومشرّع واحد لبني الإنسان.. ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ووفق أطوار الحياة والارتباطات حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق.
بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير.
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد..
كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله، يقوم على القاعدة الأصيلة: قاعدة التوحيد المطلق.. ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة، وتتراكم الخرافات والأساطير، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير. وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة، وتنفي ما علق بها من الانحرافات، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات.. وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون، وهم لا يشعرون، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في كل زمان، ومع كل رسول، منذ أقدم الأزمان.
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه. ولم يكن(1/216)
بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني، ولا يتأثر بالقصور الإنساني، ولا يتأثر بالجهل الإنساني! وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علماً غير محدود. علم ما كان وما هو كائن وما سيكون. علمه كله لا مقيداً بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء.. ولا مقيداً بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد، ومنظور ومحجوب، ومحسوس وغير محسوس.. في حاجة إلى إله يعلم ما خلق، ويعلم من خلق.. ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع.
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة، واستعلاء على النقص، واستعلاء على الفناء، واستعلاء على الفوت، واستعلاء على الطمع، واستعلاء على الرغبة والرهبة.. واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه.. في حاجة إلى إله، لا أرب له، ولا هوى، ولا لذة، ولا ضعف في ذاته- سبحانه- ولا قصور! أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة، والظروف المتغيرة، والحاجات المتجددة ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت. على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه، فيدرك خطأه وصوابه، وغيه ورشاده، وحقه وباطله، من ذلك الميزان الثابت.. وبهذا وحده تستقيم الحياة.
ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله! إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل. إنما جاء ليحتكم الناس إليه.. وإليه وحده.. حين يختلفون..
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشئ حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية:
إن الإسلام يضع «الْكِتابَ» الذي أنزله الله «بِالْحَقِّ» ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية. ثم تمضي الحياة. فإما اتفقت مع هذه القاعدة، وظلت قائمة عليها، فهذا هو الحق.
وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى، فهذا هو الباطل.. هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً.
في فترة من فترات التاريخ. فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل. وليس الذي يقرره الناس هو الحق، وليس الذي يقرره الناس هو الدين. إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء، وقولهم لشيء، وإقامة حياتهم على شيء.. لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب ولا تجعله أصلاً من أصول الدين ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه..
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف، وظل ينمو وينمو.. فلا يقال: إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي. ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..
ولقد جاء الكتاب.. ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه:(1/217)
«وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ.. بَغْياً بَيْنَهُمْ» ..
فالبغي.. بغي الحسد. وبغي الطمع. وبغي الحرص. وبغي الهوى.. هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج والمضي في التفرق واللجاج والعناد.
وهذه حقيقة.. فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب، القوي الصادع المشرق المنير..
ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى، أو في نفسيهما جميعاً.. فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق:
«فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ» ..
هداهم بما في نفوسهم من صفاء، وبما في أرواحهم من تجرد، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق. وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة:
«وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب. وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق، ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات..
هو الله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط أولئك يدخلون في السلم، وأولئك هم الأعلون، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين! 214- وتنتهي هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة.. تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات.. يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة، في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلاً: أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم، لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة.. استحقوا نصر الله، لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه.
واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء. فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وارفع ما تكون عن عالم الطين:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» ..
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته- سبحانه- في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته.
وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم..
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة.. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه. من الرسول الموصول(1/218)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله. إن سؤالهم: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ..
وعند ما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة.. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله:
«أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» ..
إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء.
الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى «نَصْرُ اللَّهِ» ، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله.
بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها. وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين..
على أنه- حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته. يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية.. وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء. كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته.
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف.. وهذا هو الطريق..
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل.
هذا هو الطريق: إيمان وجهاد.. ومحنة وابتلاء. وصبر وثبات.. وتوجه إلى الله وحده. ثم يجيء النصر.
ثم يجيء النعيم..
[سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)(1/219)
الظاهرة البارزة في هذا القطاع من السورة، هي ظاهرة الأسئلة عن أحكام.. وهي كما قلنا عند الكلام عن قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة.. في هذا الجزء.. ظاهرة توحي بيقظة العقيدة واستيلائها على نفوس الجماعة المسلمة إذ ذاك، ورغبة المؤمنين في معرفة حكم العقيدة في كل شأن من شؤون حياتهم اليومية، كي يطابقوا بين تصرفهم وحكم العقيدة.. وهذه آية المسلم: أن يتحرى حكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة من شؤون حياته، فلا يقدم على عمل حتى يستيقن من حكم الإسلام فيه. فما أقره الإسلام كان هو دستوره وقانونه وما لم يقره كان ممنوعاً عليه حراماً. وهذه الحساسية هي آية الإيمان بهذه العقيدة.
كذلك كانت تثار بعض الأسئلة بسبب الحملات الكيدية التي يشنها اليهود والمنافقون، والمشركون كذلك حول بعض التصرفات مما يدفع بعض المسلمين ليسأل عنها، إما ليستيقن من حقيقتها وحكمتها، وإما تأثراً بتلك الحملات والدعايات المسمومة. فكان القرآن يتنزل فيها بالقول الفصل فيثوب المسلمون فيها إلى اليقين وتبطل الدسائس، وتموت الفتن، ويرتد كيد الكائدين إلى نحورهم..
وهذا يصور جانباً من المعركة التي كان القرآن يخوضها تارة في نفوس المسلمين، وتارة في صف المسلمين، ضد الكائدين والمحاربين! وفي هذا الدرس جملة من هذه الأسئلة: سؤال عن الإنفاق. مواضعه ومقاديره ونوع المال الذي تكون فيه النفقة. وسؤال عن القتال في الشهر الحرام. وسؤال عن الخمر والميسر. وسؤال عن اليتامى.. وبواعث.
هذه الأسئلة تمثل الأسباب التي ذكرناها من قبل. وسنعرضها بالتفصيل عند استعراض النصوص.(1/220)
215- «يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
لقد وردت آيات كثيرة في الإنفاق سابقة على هذا السؤال. فالإنفاق في مثل الظروف التي نشأ فيها الإسلام ضرورة لقيام الجماعة المسلمة في وجه تلك الصعاب والمشاق والحرب التي كانت تواجهها وتكتنفها ثم هو ضرورة من ناحية أخرى: من ناحية التضامن والتكافل بين أفراد الجماعة وإزالة الفوارق الشعورية بحيث لا يحس أحد إلا أنه عضو في ذلك الجسد، لا يحتجن دونه شيئاً، ولا يحتجز عنه شيئاً. وهو أمر له قيمته الكبرى في قيام الجماعة شعورياً، إذا كان سد الحاجة له قيمته في قيامها عملياً.
وهنا يسأل بعض المسلمين: «ماذا يُنْفِقُونَ؟» ..
وهو سؤال عن نوع ما ينفقون.. فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها:
«قُلْ: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ» ..
ولهذا التعبير إيحاءان: الأول إن الذي ينفق خير.. خير للمعطي وخير للآخذ وخير للجماعة وخير في ذاته فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب.. والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه. فالإنفاق تطهير للقلب وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون.
وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة، وللنفس التزكية، وللإيثار معناه الكريم.
على أن هذا الإيحاء ليس إلزاماً، فالإلزام- كما ورد في آية أخرى- أن ينفق المنفق من الوسط، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده. ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير، والتحبيب فيه، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس، وإعداد القلوب..
أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه:
«فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» ..
وهو يربط بين طوائف من الناس. بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب، وبعضهم رابطة الرحم، وبعضهم رابطة الرحمة، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة.. وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة:
الوالدون. والأقربون. واليتامى والمساكين وابن السبيل. وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين.
ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديداً ووضوحاً كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ... » .
هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها.. إنه يأخذ الإنسان كما هو، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته ثم يسير به من حيث هو كائن، ومن حيث هو واقف! يسير به خطوة خطوة، صعداً في المرتقى العالي: على هينة وفي يسر فيصعد وهو مستريح، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها. لا يحس بالجهد والرهق، ولا يكبل بالسلاسل(1/221)
والأغلال ليجر في المرتقى! ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف! ولا يعتسف به الطريق اعتسافاً، ولا يطير به طيراناً من فوق الآكام! إنما يصعدها به صعوداً هيناً ليناً وقدماه على الأرض وبصره معلق بالسماء، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى، وروحه موصولة بالله في علاه.
ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته فأمره أولاً بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها وأباح له الطيبات من الرزق وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة. فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية. والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» «1» .. وعن جابر- رضي الله عنه- قال: جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله.
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه. فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك، فأخذها- صلى الله عليه وسلم- فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته.
وقال: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة. ثم يقعد يتكفف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» «2» ..
ولقد علم الله أن الإنسان يحب- أول ما يحب- أفراد أسرته الأقربين.. عياله.. ووالديه. فسار به خطوة في الإنفاق وراء ذاته إلى هؤلاء الذين يحبهم ليعطيهم من ماله وهو راض فيرضي ميله الفطري الذي لا ضير منه، بل فيه حكمة وخير وفي الوقت ذاته يعول ويكفل ناساً هم أقرباؤه الأدنون، نعم، ولكنهم فريق من الأمة، إن لم يعطوا احتاجوا. وأخذهم من القريب أكرم لهم من أخذهم من البعيد. وفيه في الوقت ذاته إشاعة للحب والسلام في المحضن الأول وتوثيق لروابط الأسرة التي شاء الله أن تكون اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الكبير.
ولقد علم الله أن الإنسان يمد حبه وحميته بعد ذلك إلى أهله كافة- بدرجاتهم منه وصلتهم به- ولا ضير في هذا. فهم أفراد من جسم الأمة وأعضاء في المجتمع. فسار به خطوة أخرى في الإنفاق وراء أهله الأقربين، تساير عواطفه وميوله الفطرية، وتقضي حاجة هؤلاء، وتقوّي أواصر الأسرة البعيدة، وتضمن وحدة قوية من وحدات الجماعة المسلمة، مترابطة العرى وثيقة الصلات.
وعند ما يفيض ما في يده عن هؤلاء وهؤلاء- بعد ذاته- فإن الإسلام يأخذ بيده لينفق على طوائف من المجموع البشري، يثيرون بضعفهم أو حرج موقفهم عاطفة النخوة وعاطفة الرحمة وعاطفة المشاركة.. وفي أولهم اليتامى الصغار الضعاف ثم المساكين الذين لا يجدون ما ينفقون، ولكنهم يسكتون فلا يسألون الناس كرامة وتجملاً ثم أبناء السبيل الذين قد يكون لهم مال، ولكنهم انقطعوا عنه، وحالت بينهم وبينه الحوائل- وقد كانوا كثيرين في الجماعة المسلمة هاجروا من مكة تاركين وراءهم كل شيء- وهؤلاء جميعاً أعضاء في المجتمع والإسلام يقود الواجدين إلى الإنفاق عليهم، يقودهم بمشاعرهم الطيبة الطبيعية التي يستجيشها ويزكيها. فيبلغ إلى أهدافه كلها في هوادة ولين. يبلغ أولاً إلى تزكية نفوس المنفقين. فقد أنفقت طيبة بما أعطت، راضية بما بذلت، متجهة إلى الله في غير ضيق ولا تبرم. ويبلغ ثانياً إلى إعطاء هؤلاء المحتاجين
__________
(1) أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود.(1/222)
وكفالتهم. ويبلغ ثالثاً إلى حشد النفوس كلها متضامنة متكافلة، في غير ما تضرر ولا تبرم.. قيادة لطيفة مريجة بالغة ما تريد، محققة كل الخير بلا اعتساف ولا افتعال ولا تشديد! ثم يربط هذا كله بالأفق الأعلى، فيستجيش في القلب صلته بالله فيما يعطي، وفيما يفعل، وفيما يضمر من نية أو شعور:
«وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
عليم به، وعليم بباعثه، وعليم بالنية المصاحبة له.. وهو إذن لا يضيع. فهو في حساب الله الذي لا يضيع عنده شيء، والذي لا يبخس الناس شيئاً ولا يظلمهم، والذي لا يجوز عليه كذلك الرياء والتمويه..
بهذا يصل بالقلوب إلى الأفق الأعلى، وإلى درجة الصفاء والتجرد والخلوص لله.. في رفق وفي هوادة، وفي غير معسفة ولا اصطناع.. وهذا هو المنهج التربوي الذي يضعه العليم الخبير. ويقيم عليه النظام الذي يأخذ بيد الإنسان، كما هو، ويبدأ به من حيث هو ثم ينتهي به إلى آماد وآفاق لا تصل إليها البشرية قط بغير هذه الوسيلة، ولم تبلغ إليها قط إلا حين سارت على هذا المنهج، في هذا الطريق.
216- وعلى هذا المنهج ذاته، يجري الأمر في فريضة الجهاد، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق:
«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة. ولكنها فريضة واجبة الأداء. واجبة الأداء لأن فيها خيراً كثيراً للفرد المسلم، وللجماعة المسلمة، وللبشرية كلها. وللحق والخير والصلاح.
والإسلام يحسب حساب الفطرة فلا ينكر مشقة هذه الفريضة، ولا يهون من أمرها. ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها. فالإسلام لا يماري في الفطرة، ولا يصادمها، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل.. ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، ويسلط عليه نوراً جديداً إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسيغ مرارته، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير.. عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها. نافذة تهب منها ريح رخية عند ما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور.. إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً. ووراء المحبوب شراً. إن العليم بالغايات البعيدة، المطلع على العواقب المستورة، هو الذي يعلم وحده. حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة.
وعند ما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة، وتتفتح منافذ الرجاء، ويستروح القلب في الهاجرة، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء.
هكذا يواجه الإسلام الفطرة، لا منكراً عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريداً لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف. ولكن مربياً لها على الطاعة، ومفسحاً لها في الرجاء. لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها، ويعترف بمشقة ما كتب عليها، ويعذرها ويقدرها ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء.(1/223)
وهكذا يربي الإسلام الفطرة، فلا تمل التكليف، ولا تجزع عند الصدمة الأولى، ولا تخور عند المشقة البادية، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة. ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها. وتصمم على المضي في وجه المحنة، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر، واليسر بعد العسر، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء. ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ. فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة! وقد يكون المكروه مختبئاً خلف المحبوب. وقد يكون الهلاك متربصاً وراء المطمع البراق.
إنه منهج في التربية عجيب. منهج عميق بسيط. منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة. بالحق وبالصدق. لا بالإيحاء الكاذب، والتمويه الخادع.. فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمراً ويكون فيه الخير كل الخير. وهو حق كذلك أن تحب النفس أمراً وتتهالك عليه. وفيه الشر كل الشر. وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟! إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه. وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه.
وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعاً في يد القدر، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راض قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله. وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان! إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط. في يسر وفي هوادة وفي رخاء. يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال. فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال.
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير.. إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها. ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها.. إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر.. لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة.
لا فئة الحامية المقاتلة من قريش. ولكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش! وكان النصر الذي دوّى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام. فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون! ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما- وهو الحوت- فتسرب في البحر عند الصخرة. «فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً. قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.. قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا..» .. وكان هذا هو الذي خرج له موسى. ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا. ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها! وكل إنسان- في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها(1/224)
الخير العميم. ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم. وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذاً من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه. وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثاً يكاد يتقطع لفظاعتها. ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.
إن الإنسان لا يعلم. والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم؟
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية. لتؤمن وتسلم وتستسلم في أمر الغيب المخبوء، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف..
217- ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام:
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ؟ قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش- رضي الله عنه- وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين. فلما فتحه وجد به: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة- بين مكة والطائف- ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.. ولا تكرهن أحداً على المسير معك من أصحابك» - وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة. ثم قال لأصحابه:
قد أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر.
وقد نهى أن استكره أحداً منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم. فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- رضي الله عنهما- فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون. حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عمراً ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير. وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة.
فإذا هي في اليوم الأول من رجب- وقد دخلت الأشهر الحرم- التي تعظمها العرب. وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها.. فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال. وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد.. عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله..(1/225)
عمرو: عمرت الحرب. والحضرمي: حضرت الحرب. وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب!.
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية، وتظهر محمداً وأصحابه بمظهر المعتدي الذي بدوس مقدسات العرب، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية. فقطعت كل قول. وفصلت في الموقف بالحق. فقبض الرسول- صلى الله عليه وسلم- الأسيرين والغنيمة.
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ؟ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» ..
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة، نعم! ولكن:
«وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» ..
إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان. إنما هم المشركون. هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام. لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله. ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون. ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه، وهو الحرم الذي جعله الله آمناً، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته..
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.. وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل.
وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام.
ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة. وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة! لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل. وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء. وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.
إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية. إنه يواجه الحياة البشرية- كما هي- بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية. يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد. يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفوف في خيال حالم، ورؤى مجنحة:
لا تجدي على واقع الحياة شيئاً! هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون. لا يقيمون للمقدسات وزناً، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة. يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام! .. ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام! فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من(1/226)
السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح..! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا، لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه. يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال. ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة. ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة! إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه. ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان! وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه. وهو يحرم الجهر بالسوء من القول. ولكنه يستثني «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» .. فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق. ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه! ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلى مستوى الأشرار البغاة. ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة.. إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار..
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله.
هذا هو الإسلام.. صريحاً واضحاً قوياً دامغاً، لا يلف ولا يدور ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور.
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله..
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة، وتمكين هذه القاعدة، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم.. يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم:
«وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ..
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر وعلى فتنة المسلمين عن دينهم بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم. وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل.. إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون.(1/227)
ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام.
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته، ولكن الهدف يظل ثابتاً.. أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا. وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها.. والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر:
«وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثاً فانتفخت ثم نفقت.. والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي.. يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره، وهلاكه في النهاية وبواره.. مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ! ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وغرفه تحت مطارق الأذى والفتنة- مهما بلغت- هذا مصيره الذي قرره الله له.. حبوط العمل في الدنيا والآخرة. ثم ملازمة العذاب في النار خلوداً.
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه، لا يمكن أن يرتد عنه ارتداداً حقيقياً أبداً. إلا إذا فسد فساداً لا صلاح له. وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة. فالله رحيم. رخص للمسلم- حين يتجاوز العذاب طاقته- أن يقي نفسه بالتظاهر، مع بقاء قلبه ثابتاً على الإسلام مطمئناً بالإيمان. ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي، وفي الارتداد الحقيقي، بحيث يموت وهو كافر.. والعياذ بالله..
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان.. ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه، ويرتد عن إيمانه وإسلامه، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه.. وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله. والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به، ويصبرون على الأذى في سبيله. فهو معوضهم خيراً:
إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
218- وهناك رحمته التي يرجوها من يؤذون في سبيله لا ييئس منها مؤمن عامر القلب بالإيمان:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ورجاء المؤمن في رحمة الله لا يخيبه الله أبداً.. ولقد سمع أولئك النفر المخلص من المؤمنين المهاجرين هذا الوعد الحق، فجاهدوا وصبروا، حتى حقق الله لهم وعده بالنصر أو الشهادة. وكلاهما خير. وكلاهما رحمة.
وفازوا بمغفرة الله ورحمته: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
وهو هو طريق المؤمنين..
219- ثم يمضي السياق، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار.. وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها. يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم:(1/228)
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» ..
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر. ولكن نصاً في القرآن كله لم يرد بحلهما. إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها. وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية. أمس واليوم وغداً! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة..
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم. فالأشياء والأعمال قد لا تكون شراً خالصاً. فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض. ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر. فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع. وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم. وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته. ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر.
عند ما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسماً منذ اللحظة الأولى.
ولكن عند ما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيِّئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.
فعند ما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى. في ضربة حازمة جازمة.
لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق. لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف. والعادة تحتاج إلى علاج.. فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى.. ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» .. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله. فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها.. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ..
وأما في الرق مثلاً، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل(1/229)
تعديل ظواهرها وآثارها. والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى. ولكنه جاء فوجد الرق نظاماً عالمياً يقوم عليه الاقتصاد العالمي. ووجد استرقاق الأسرى عرفاً دولياً، يأخذ به المحاربون جميعاً.. فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله- مع الزمن- إلا الإلغاء، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة.
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء.. ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان. وما كان الإسلام يومئذ قادراً على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض. ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصوراً على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السيّء في عالم الرق هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.. ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلاً قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ.. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى، بل قال: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» «1» .. ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم. وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طيبعة موقفها. فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.
وبتجفيف موارد الرق الأخرى- وكانت كثيرة جداً ومتنوعة- يقل العدد.. وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقه كاملاً في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده. ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك، فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته- أي إنه يصبح كياناً مستقلاً ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلاً- ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة. والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته.. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة. كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار.. وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه.
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي، شيئا
__________
(1) سورة محمد.(1/230)
فشيئا. وهذه حقيقة.. ولكن مبادئ الإسلام ليست هي المسئولة عنه.. ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقاً صحيحاً في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه، قليلاً أو كثيراً.. ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا.. لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعاً إسلامية، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك. فالإسلام لم يتغير. ولم تضف إلى مبادئه مبادئه مبادئ جديدة. إنما الذي تغير هم الناس.
وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم. ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه.
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ. إنما يستأنفها من حيث يستمد استمداداً مباشراً من أصول الإسلام الصحيحة..
وهذه الحقيقة مهمة جداً. سواء من وجهة التحقيق النظري، أو النمو الحركي، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي. ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي. ومن شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي. ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة. وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي. ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطئ في فهم هذا التاريخ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين! ثم نمضي مع السياق في تقرير المبادئ الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية:
«وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ الْعَفْوَ. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ..
لقد سألوا مرة: ماذا ينفقون؟ فكان الجواب عن النوع والجهة. فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة..
والعفو: الفضل والزيادة. فكل ما زاد على النفقة الشخصية- في غير ترف ولا مخيلة- فهو محل للإنفاق.
الأقرب فالأقرب. ثم الآخرون على ما أسلفنا.. والزكاة وحدها لا تجزىء. فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى: فالزكاة لا تبرئ الذمة إلا بإسقاط الفريضة. ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائماً. إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله، وتنفقها في مصارفها المعلومة، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله. والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ولقوله عليه الصلاة والسلام: «في المال حق سوى الزكاة» «1» .. حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله- وهذا هو الأكمل والأجمل- فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة. كي لا يضيع في الترف المفسد. أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل.
220- «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ..
فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة. فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني. وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها.
ولا ينشئ تصوراً صحيحاً للأوضاع والقيم والموازين. فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر. وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبداً إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح.. ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة. فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه، وزكاة
__________
(1) من رواية شريك عن أبي حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم. نقله الإمام الجصاص في كتابه:
أحكام القرآن.(1/231)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
لمشاعره. كما يرد عليه صلاحاً للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاماً وسلاماً. ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظاً لكل فرد. وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء، وما فيها من قيم وموازين، مرجحاً لكفة الإنفاق، تطمئن إليه النفس، وتسكن له وتستريح. ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق.
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى؟ قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي. والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها.
واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها. رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم.
ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم. وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعاً وكان الغبن يقع أحياناً على اليتامى. فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام. عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم. فكان الرجل يكون في حجره اليتيم. يقدم له الطعام من ماله. فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام. فوق ما فيه من الغرم أحياناً على اليتيم. فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته. فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم. والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم. فاليتامى أخوان للأوصياء. كلهم أخوة في الإسلام. أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة. والله يعلم المفسد من المصلح.
فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله. ولكن نيته وثمرته. والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم. ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت. ولكنه لا يريد. وهو العزيز الحكيم. فهو قادر على ما يريد.
ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح.
وهكذا يربط الأمر كله بالله ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة..
وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة. فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبداً من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير..
[سورة البقرة (2) : الآيات 221 الى 242]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)(1/232)
نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة. جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي. هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهداً كبيراً، نراه متناثراً في سور شتى من القرآن، محيطاً بكل المقوّمات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى.
إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة- بما أنه نظام رباني للإنسان، ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها.
وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة، وقاعدة التكوين الأولي للأحياء جميعاً وللمخلوقات كافة.. تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .
ومن قوله سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» ..
ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية(1/234)
جميعاً: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» .. «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» ..
ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث، ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .
«هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» .. «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .. «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً»
..
فهي الفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة. العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان. ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله. ومن بينه هذا الإنسان..
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة.
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة. تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته. ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور.. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل.. ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني، وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة.
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان. أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطراراً لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام «1» ! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشئوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان. هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن، التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات.. وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدماً وتحرراً وانطلاقاً من الرجعية! وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة على
__________
(1) يراجع كتاب أطفال بلا أسر. تأليف أنا فرويد. وترجمة الأستاذين بدران، ويسي.(1/235)
وجه الأرض.. الأطفال.. رصيد المستقبل البشري.. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة.
أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض «1» .
ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل.. يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير.. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام. وهذه السورة واحدة منها..
والآيات الواردة في هذه السورة تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة. والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة. والرضاعة والحضانة..
ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة- كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون.. كلا! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية وأصلاً كبيراً من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي. وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة. موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس، ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان. ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه، وعقابه وثوابه، وموصول بالعقيدة وجوداً وعدماً في حقيقة الحال! ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر وخطورته كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته، وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصداً لأمر عظيم في ميزان الله. وأن الله يتولى بذاته- سبحانه- تنظيم حياة هذا الكائن، والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه، وإعدادها- بهذه النشأة- للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود. وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب.
إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل.. لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته.
ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم، وأحياناً في ثنايا الأحكام، منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته، تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية. وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير، لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ.
__________
(1) من أول ما أثبتته تجربة المحاضن أن الطفل في العالمين الأولين من عمره يحتاج حاجة نفسية فطرية إلى الاستقلال بوالدين له خاصة! وبخاصة الاستقلال بأم لا يشاركه فيها طفل آخر. وفيما بعد هذه السن يحتاج حاجة فطرية إلى الشعور بأن له أبا وأما مميزين ينسب إليهما، والأمر الأول متعذر في المحاضن. والأمر الثاني متعذر في غير نظام الأسرة. وأي طفل يفقد أيهما ينشأ منحرفا شاذا مريضا مرضا نفسيا على نحو من الأنحاء.
وحين تكون هناك حادثة تحرم الطفل إحدى هاتين الحاجتين تكون ولا شك كارثة في حياته. فما بال الجاهلية الشاردة تريد أن تعمم الكوارث في حياة الأطفال جميعا؟ ثم يزعم أناس حرموا أنفسهم نعمة السلام الذي أراده الله لهم.. أن هذا هو التقدم والتحرر والحضارة؟! (ويراجع بتوسع فصل «المشكلة الجنسية» في كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» وفصل «الإسلام والمرأة» في كتاب: «شبهات حول الإسلام» لمحمد قطب) . «دار الشروق»(1/236)
الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، وعن تزويج المشرك من مسلمة. والتعقيب:
«أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
والحكم الثاني يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض.. وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضى في لحظة، إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات أهداف اعلى من تلك اللحظة وأكبر، بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية. فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
والحكم الثالث حكم الإيمان بصفة عامة- تمهيداً للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الإيمان بالله وتقواه، ويجيء التعقيب مرة: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. ومرة: «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» .
والحكم الرابع حكم الإيلاء.. والتعقيب: «فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
والحكم الخامس حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
والحكم السادس حكم عدد الطلقات. ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق، وترد فيه التعقيبات التالية: «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً، إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» .. «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا، إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق. ويرد فيه: «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
والحكم الثامن حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر. ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
والحكم التاسع خاص بعدة المتوفى عنها زوجها. ويعقب عليه بقوله: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
والحكم العاشر حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة. ويرد فيه: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ. وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ..
والحكم الحادي عشر حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض.
ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..(1/237)
والحكم الثاني عشر حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة. ويرد فيه: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» ..
والتعقيب العام على هذه الأحكام: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
إنها العبادة.. عبادة الله في الزواج، وعبادته في المباشرة والإنسال. وعبادته في الطلاق والانفصال.
وعبادته في العدة والرجعة. وعبادته في النفقة والمتعة. وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان.
وعبادته في الافتداء والتعويض. وعبادته في الرضاع والفصال.. عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة..
ومن ثم يجيء- بين هذه الأحكام- حكم الصلاة في الخوف والأمن: «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» ..
يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام وقبل أن ينتهي منها السياق. وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة، الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام، ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي. ويبدو السياق موحياً هذا الإيحاء اللطيف.. إن هذه عبادات. وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة. والحياة وحدة والطاعات فيها جملة. والأمر كله من الله. وهو منهج الله للحياة «1» ..
والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة، وتنشئ جو العبادة وتلقي ظلال العبادة.. لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية، وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه، وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض.
إن الإسلام يشرع لناس من البشر، لا لجماعة من الملائكة، ولا لأطياف مهومة في الرؤي المجنحة! ومن ثم لا ينسى- وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته- أنهم بشر، وأنها عبادة من بشر.. بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات.. والإسلام يلاحظها كلها ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف، إلى مشرق النور الوضيء، في غير ما تعسف ولا اصطناع. ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان! ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء. وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت. ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر. ويقرر الطلاق ويشرّع له، وينظم أحكامه ومخلفاته. في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت، وتوثيق أواصر الأسرة، ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة.. إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة. في طاقة الإنسان. ومقصود بها هذا الإنسان.
إنه التيسير على الفطرة. التيسير الحكيم على الرجل والمرأة على السواء. إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة
__________
(1) كنت قد عييت فترة عن إدراك سر هذا السياق القرآني العجيب. وقلت في الطبعة الأولى لهذا الجزء وفي الطبعة المكملة للأولى:
أشهد أنني وقفت أمام هذه النقلة طويلا لا يفتح على في سرها، ولا أريد أنا أن أتمحل لها، ولا أقنع كل القناعة بما جاء في بعض التفاسير عنها. من أن إدخال الحديث عن الصلاة في جو الحديث عن الأسرة، إشارة إلى الاهتمام بأمرها، والتذكير بها حتى لا تنسى.. إلخ ص 68 وص 69 من تلك الطبعة.
وقلت: «ولكنني- كما قلت مخلصا- لا أستريح الراحة الكافية لما اهتديت إليه. فإذا هديت إلى شيء آخر فسأبينه في الطبعة التالية. وإذا هدى الله أحدا من القراء فليتفضل فيبلغني مشكورا بما هداه الله» ..
فالآن أطمئن إلى هذا الفتح وأحد فيه الطريق.. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..(1/238)
النجاح وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار. فالله الخبير البصير، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون، لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيداً وسجناً لا سبيل إلى الفكاك منه، مهما اختنقت فيه الأنفاس، ونبت فيه الشوك، وغشاه الظلام. لقد أرادها مثابة وسكناً فإذا لم تتحقق هذه الغاية- بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع- فأولى بهما أن يتفرقا وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى. وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كي لا يضار زوج ولا زوجة، ولا رضيع ولا جنين.
وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان..
وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر، والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام، وبين ما كان قائماً وقتها في الحياة البشرية، يجد النقلة بعيدة بعيدة.. كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء، ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر، وهو يشرع لهم هذا المنهج.
وترى المرأة- بصفة خاصة- مدى رعاية الله لها وكرامته.. حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله»
!!! 221- والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل:
«وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
النكاح- وهو الزواج- أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان. فلا بد إذن من توحد القلوب، والتقائها في عقدة لا تحل. ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه، وما تتجه إليه. والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس، ويؤثر فيها، ويكيف مشاعرها، ويحدد تأثراتها واستجاباتها، ويعين طريقها في الحياة كلها. وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها. فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية، أو بعض المذاهب الاجتماعية. وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية، ومقوماتها الحقيقية. وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها.
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين. لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة. فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية. بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه، ونزلت هذه الآية. نزلت تحرم إنشاء
__________
(1) يراجع بتوسع: فصل «المساواة الإنسانية» في كتاب «العدالة الاجتماعية» للمؤلف. وفصل: «المشكلة الجنسية» في كتاب:
«الإنسان بين المادية والإسلام» . وفصل: «الإسلام والمرأة» في كتاب: «شبهات حول الإسلام» لمحمد قطب.. كما تراجع في الظلال سور: النساء. والأحزاب والطلاق بصفة خاصة. (دار الشروق)(1/239)
أي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين- فأما ما كان قائماً بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» ..
«وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ... » ... فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء.
لقد بات حراماً أن ينكح المسلم مشركة، وأن ينكح المشرك مسلمة. حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة. إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف. إنهما لا يلتقيان في الله، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة. والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلاً حيوانياً، ولا اندفاعاً شهوانياً. إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة.
ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم:
«وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» ..
فإذا آمنّ فقد زالت العقبة الفاصلة وقد التقى القلبان في الله وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعّوقها ويفسدها. سلمت تلك الآصرة، وقويت بتلك العقدة الجديدة: عقدة العقيدة.
«وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» ..
فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس. وجمال القلب أعمق وأغلى، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة. فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب. إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب.
«وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» ..
القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى، توكيداً لها وتدقيقاً في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية:
«أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ..
إن الطريقين مختلفان، والدعوتين مختلفتان، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة؟
إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار. وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله.
والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله! ولكن أو يدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار؟! ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار.
والله يحذر من هذه الدعوة المردية «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم! هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية- مع اختلاف العقيدة- ولكن الأمر هنا يختلف. إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله. وإن اختلفت التفصيلات التشريعية..
وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة، أو أن الله هو المسيح بن مريم، أو أن العزير ابن الله.. أهي مشركة محرمة. أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة: «الْيَوْمَ(1/240)
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ»
... «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. والجمهور على أنها تدخل في هذا النص.. ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة. وقد رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال ابن عمر: «لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى» ..
فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية- غير مشركة- ومن هنا يختلف في حكمه.. إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية. كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع. فإذا تزوج المسلم من الكتابية (غير المشركة) انتقلت هي إلى قومه، ودعي أبناؤه منها باسمه، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن. ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي، فتعيش بعيداً عن قومها، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها، ويدينون بدين غير دينها. والإسلام يجب أن يهيمن دائماً.
على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروهاً. وهذا ما رآه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أمام بعض الاعتبارات:
قال ابن كثير في التفسير: «قال أبو جعفر بن جرير رحمة الله- بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات- وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني» ..
وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر: خل سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟
فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن. وفي رواية أخرى أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية. والمسلمة؟
ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم.. فالذي لا يمكن إنكاره واقعياً أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها، وتخرج جيلاً أبعد ما يكون عن الإسلام. وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزاً في حقيقة الأمر. والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك! 222- «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قُلْ: هُوَ أَذىً. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد.. في المباشرة..
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية. وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة. هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله. والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية- مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء- ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى. فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة. لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة. فتنصرف بطبعها- وفق هذا القانون- عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة. والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية. ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال:(1/241)
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. قُلْ: هُوَ أَذىً. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» ..
وليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات. إنما هي مقيدة بأمر الله فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود:
«فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» ..
في منبت الإخصاب دون سواه. فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة. وابتغاء ما كتب الله. فالله يكتب الحلال ويفرضه والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشئ هو نفسه ما يبتغيه. والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» ..
223- وفي هذا الظل يصور لوناً من ألوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه:
«نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» ..
وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها.
نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه. وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع. كقوله تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» .. وقوله: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. فكل من هذه التعبيرات يصور جانباً من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب. أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث. لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء. وما دام حرثاً فأتوه بالطريقة التي تشاءون. ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث:
«فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» ..
وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى فيكون عملاً صالحاً تقدمونه لأنفسكم. واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم:
«وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ. وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» ..
ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله:
«وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» ..
هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد. يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولاً، وبمشاعر دينية أخيراً فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي(1/242)
يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة. وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فرداً وجماعة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون..
224- ثم ينتقل السياق من الحديث عن حكم المباشرة في فترة الحيض، إلى الحديث عن حكم الإيلاء.. أي الحلف بالهجران والامتناع عن المباشرة.. وبهذه المناسبة يلم بالحلف ذاته فيجعل الحديث عنه مقدمة للحديث عن الإيلاء.
«وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
التفسير المروي في قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ..» عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي- رحمهم الله- كما نقل ابن كثير.
ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه مسلم- بإسناده- عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» .. وما رواه البخاري- بإسناده- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه» ..
وعلى هذا يكون معناها: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
فإذا حلفتم ألا تفعلوا، فكفروا عن إيمانكم وأتوا الخير. فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين.
وذلك كالذي وقع من أبي بكر- رضي الله عنه- حين أقسم لا يبر مسطحاً قريبه الذي شارك في حادثة الإفك- فأنزل الله الآية التي في سورة النور: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟» .. فرجع أبو بكر عن يمينه وكفر عنها.
225- على أن الله كان أرأف بالناس، فلم يجعل الكفارة إلا في اليمين المعقودة، التي يقصد إليها الحالف قصداً، وينوي ما وراءها مما حلف عليه. فأما ما جرى به اللسان عفواً ولغواً من غير قصد، فقد أعفاهم منه ولم يوجب فيه الكفارة:
«لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» .. وقد روى أبو داود- بإسناده- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله. وبلى والله» .. ورواه ابن جرير عن طريق عروة موقوفاً على عائشة: «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ.. لا والله وبلى والله» .. وفي حديث مرسل- عن الحسن بن أبي الحسن- قال: مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوم ينتضلون- يعني يرمون- ومع رسول الله- صلى الله عليه(1/243)
وسلم- رجل من أصحابه. فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- للنبي- صلى الله عليه وسلم- حنث الرجل يا رسول الله. قال: «كلا. أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» ..
وورد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.. كما روي عنه: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله، فذلك ليس عليك فيه كفارة..
وعن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث. فسأل أحدهما صاحبه القسمة. فقال:
إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة! فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك! كفر عن يمينك وكلم أخاك. سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك» ..
والذي يخلص من هذه الآثار أن اليمين التي لا تنعقد النية على ما وراءها، إنما يلغو بها اللسان، لا كفارة فيها. وأن اليمين التي ينوي الحالف الأخذ أو الترك لما حلف عليه هي التي تنعقد. وهي التي تستوجب الكفارة عند الحنث بها. وإنه يجب الحنث بها إن كان مؤداها الامتناع عن فعل خير أو الإقدام على فعل شر. فأما إذا حلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب، فبعض الآراء أنه لا تقوم لها كفارة أي لا يكفر عنها شيء.
قال الإمام مالك في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحداً، ويقتطع به مالاً، فهذا أعظم من أن تكون له كفارة.
ويعقب السياق على حكم العدول عن اليمين إلى ما فيه البر والخير بقوله: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. ليوحي إلى القلب بأن الله- سبحانه- يسمع ما يقال ويعلم أين هو الخير. ومن ثم يحكم هذا الحكم.
ويعقب على حكم يمين اللغو واليمين المعقودة التي ينويها القلب بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» .. ليلوح للقلب بحلم الله عن مؤاخذة العباد بكل ما يفلت من ألسنتهم، ومغفرته كذلك- بعد التوبة- لما تأثم به قلوبهم.
بهذا وذلك يربط الأمر بالله، ويعلق القلوب بالاتجاه إليه في كل ما تكسب وكل ما تقول:
226 و 227- وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء: وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته. إما لأجل غير محدود، وإما لأجل طويل معين:
«لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة ومن إضرار بها نفسيا وعصبياً ومن إهدار لكرامتها كأنثى ومن تعطيل للحياة الزوجية ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول.
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجاً نافعاً في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو إعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى..(1/244)
ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغياً في بعض الحالات يريد اعنات المرأة وإذلالها أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى.
فتوفيقاً بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حداً أقصى للإيلاء.
لا يتجاوز أربعة أشهر. وهذا التحديد قد يكون منظوراً فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر. وقد روي أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خرج من الليل يعس. أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفياً. فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه ... وأرقني إلا خليل ألاعبه
فو الله، لولا الله إني أراقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة- رضي الله عنها- كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر- أو أربعة أشهر- فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجياش أكثر من ذلك.. وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة..
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور. ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره. فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة، ويرجع إلى زوجه وعشه، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته. وفي هذه الحالة ينبعي أن تفك هذه العقدة وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق.
فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي. وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد.
فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون وأروح للرجل كذلك وأجدى وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة.
228- والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة.. إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق..
ويبدأ بحكم العدة والرجعة:
«وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ- إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ- إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً- وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء- أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف.
يتربصن بأنفسهن.. لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة.. إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات، أو حتى يطهرن منها.. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالاً أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني.. إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة. رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها، والإمساك بزمامها، مع التحفز، والتوفز. الذي يصاحب صورة التربص. وهي حالة طبيعية، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلاً آخر، وأن تنشئ حياة جديدة..
هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل، لأنه هو الذي طلق بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هي(1/245)
التي وقع عليها الطلاق.. وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حساباً..
يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة:
«وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض.. ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر. فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.. وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا. فهناك الجزاء.. هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه، فلا يخفى عليه شيء منه.. فلا يجوز كتمانه عليه- سبحانه- تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن.
هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة.
فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد، وعواطف تستجاش، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء! فإذا سكن الغضب، وهدأت الشرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات. والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج.. (وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق. كما أن إيقاعه الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء. وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات. إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق.. إلى آخر تلك المحاولات) ..
والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما. فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع، فالطريق مفتوح:
«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» ..
في ذلك.. أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة.. إن أرادوا إصلاحاً بهذا الرد ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك، انتقاما منها، أو استكباراً واستنكافاً أن تنكح زوجا آخر.
«وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ..
وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار. وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة.
«وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» ..
أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة. وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي! فتذهب إليه.(1/246)
وترده إلى عصمتها! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف. وهي درجة مقيدة في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها «1» .
ثم يجيء التعقيب:
«وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .
مشعراً بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس. وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات.
229- والحكم التالي يختص بعدد الطلقات، وحق المطلقة في تملك الصداق، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق، إلا في حالة واحدة: حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه. وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها:
«الطَّلاقُ مَرَّتانِ. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان. فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق. وهو أن تنكح زوجاً غيره، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقاً طبيعياً لسبب من الأسباب، ولا يراجعها فتبين منه.. وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد، إذا ارتضته زوجاً من جديد.
وقد ورد في سبب نزول هذا القيد، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات.
فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها، ثم يطلقها ويراجعها. هكذا ما شاء.. ثم إن رجلاً من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه، فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك للرسول- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» ..
وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها.. حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو. ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة، وتنشئ حلولاً مستمدة من تلك الأصول الشاملة.
وهذا التقييد جعل الطلاق محصوراً مقيداً لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلاً. فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر. فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين. فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها. فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوج آخر. ثم
__________
(1) وما أبرىء نفسي فقد وقعت في هذا التأويل الذي أرجح عدم صحته، في بعض ما كتبت!(1/247)
يقع لسبب طبيعي أن يطلقها. فتبين منه لأنه لم يراجعها. أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق. فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول.
إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا. فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير. فإن صلحت الحياة بعدها فذاك. وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة.
وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجاً أخيراً لعلة لا يجدي فيها سواه. فإذا وقعت الطلقتان:
فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء.
وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.. وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه. ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال! ولا يحل للرجل أن يسترد شيئاً من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها. ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب. فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدِّي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال. وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.
ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم.
روى الإمام مالك في كتابه: الموطأ.. أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس. وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج في الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من هذه؟» قالت: أنا حبيبة بنت سهل! فقال: «ما شأنك؟» فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس- لزوجها- فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر» .. فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها.
وروى البخاري- بإسناده- عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله. ما اعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أتردين عليه حديقته؟» (وكان قد أمهرها حديقة) قالت: نعم. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» ..
وفي رواية أكثر تفصيلاً رواها ابن جرير بإسناد- عن أبي جرير أنه سأل عكرمة: هل كان للخلع أصل؟
قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي. إنها أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً. إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً. فقال زوجها: يا رسول الله(1/248)
إني قد أعطيتها أفضل مالي: حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما..
ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهزة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها. فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية.
ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه.
جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله:
«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين:
في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم. ورد تعقيب: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» ..
وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها» ..
في الأولى تحذير من القرب. وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلماذا كان الاختلاف؟
في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ.. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ.. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» ..
والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية. فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها! أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات. فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف وتجاوزها وعدم الوقوف عندها. فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة. بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة! 230- ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق:
«فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا. إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
إن الطلقة الثالثة- كما تبين- دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب- إن كان الزوج جاداً عامداً في الطلاق- وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد. فأما إن كانت تلك الطلقات عبثاً أو تسرعاً أو رعونة، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق، الذي قرر ليكون صمام أمن، وليكون علاجاً اضطرارياً لعلة مستعصية، لا ليكون موضعاً للعبث والتسرع والسفاهة.(1/249)
ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراماً لها، واحتراساً من المساس بها.
وقد يقول قائل: وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث؟
ولكننا نواجه واقعاً في حياة البشر. فكيف يا ترى يكون العلاج، إن لم نأخذ بهذا العلاج؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها؟ فنقول له مثلاً: إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها! .. كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله.. إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه وأن نكلفه مهراً وعقداً جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريماً كاملاً- إلا أن تنكح زوجاً غيره- وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات..
والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية وواقع الحياة العملية لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض، في عالم الحياة! فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجاً آخر. ثم طلقها هذا الزوج الآخر.. فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا.. ولكن بشرط:
«إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» ..
فليست المسألة هوى يطاع، وشهوة تستجاب. وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق. إنما هي حدود الله تقام. وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله.
«وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة. إنما هو يبينها في هذا القرآن. يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها وإلا فهو الجهل الذميم، وهي الجاهلية العمياء! 231- بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين. توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال:
«وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة. سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها.
ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصراً من عناصرها. ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية. عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان(1/250)
بالله. والإيمان باليوم الآخر. وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان- أرفع النعم- إلى نعمة الصحة والرزق، واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة..
وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها.
ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها. كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل، أغلى منها الناقة والفرس وأعز! وكانت تلقاه مطلقة. تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها، إن أرادا أن يتراجعا.. وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان.
ثم جاء الإسلام.. جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها. وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها.. وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها.. هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه. ولم يطلب الرجل شيئاً من هذا ولا كان يتصوره. إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعاً، على الحياة الإنسانية جميعاً..
«وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» ..
والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة. فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح- والمعاملة بالمعروف- وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة- وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء..
«وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» ..
وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! فهذا هو الإمساك بغير إحسان. إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام. وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق لأنه فيما يبدو كان شائعاً في البيئة العربية: ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم يهذبها الإسلام، ولم يرفعها الإيمان..
وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر كما يستجيش عاطفة الحياء من الله، وشعور الخوف منه في آن.
ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه:
«وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
إن الذي يمسك المطلقة ضراراً واعتداء يظلم نفسه. فهي أخته. من نفسه. فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه. وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى.
وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعباً بالرخص التي جعلها الله متنفساً وصمام أمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك(1/251)
المراة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئاً من هذا فقد اتخذ آيات الله هزواً- وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد. ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام- وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله.
ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة. وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة..
وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم، هو وجودهم ذاته كأمة.. فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام؟ أنهم لم يكونوا شيئاً مذكوراً. لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم. كانوا فرقاً ومزقاً لا وزن لها ولا قيمة. لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به. بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم. لم يكن لديهم شيء على الإطلاق. لا مادي ولا معنوي.. كانوا فقراء يعيشون في شظف.
إلا قلة منهم تعيش في ترف، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير. عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة. وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود. واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة، والثارات الحادة، واللهو والشراب والقمار، والمتاع الساذج الصغير على كل حال! ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام. بل أنشأهم إنشاء. أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها. أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية. أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة. وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجوداً بين الأمم والدول، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود. وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حساباً، وكانوا قبلها خدماً للإمبراطوريات من حولهم، أو مهملين لا يحس بهم أحد.
وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة.. وأكثر من هذا أعطاهم السلام، سلام النفس. وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه. أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق..
وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين..
فإذا ذكر هم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئاً حاضراً في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر. وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد. وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به..
والقرآن يقول لهم: «وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ» .. بضمير المخاطب ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة..
ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
فيستجيش شعور الخوف والحذر، بعد شعور الحياء والشكر.. ويأخذ النفس من أقطارها، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل..(1/252)
232- كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة- حين توفي العدة- ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف:
«وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» ..
وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار، أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة لم يراجعها، حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع ابن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» إلى قوله: «وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .. فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة. ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك..
وهذه الاستجابة الحانية من الله- سبحانه- لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده.. أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال.
وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير:
«ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب. حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع.. والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر. لنفسه وللمجتمع من حوله. ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.
وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق..
233- والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق..
إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بياناً عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق. علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه، وارتبط كلاهما به فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة، تستوفي كل حالة من الحالات:
«وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ- إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ- وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
إن على الوالدة المطلقة واجباً تجاه طفلها الرضيع. واجباً يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها(1/253)
التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير. إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه.
فالله أولى بالناس من أنفسهم، وأبر منهم وأرحم من والديهم. والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.. «لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نمواً سليماً من الوجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم.
فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده.
وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية.
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل: أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة فكلاهما شريك في التبعة وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته:
«لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» ..
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سبباً لمضارة الآخر:
«لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» ..
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل. ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها..
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد:
«وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ» ..
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى. تحقيقاً للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث.
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده. فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات.
وعند ما يستوفى هذا الاحتياط.. يعود إلى استكمال حالات الرضاعة..
«فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» ..
فإذا شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه، فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته.
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعاً مأجورة، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها، وأن يحسن معاملتها:
«وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ» ..
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة، وله راعية وواعية.
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي.. بالتقوى.. بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..(1/254)
فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية. وهذا هو الضمان الوحيد.
234- وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها..
عدتها. وخطبتها بعد انقضاء العدة. والتعريض بالخطبة في أثنائها:
«والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً. فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف. والله بما تعملون خبير.
«وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ. وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ..
والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.. وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكاناً رديئاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة: حمار أو شاة ...
إلخ.. فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت، بل رفعه كله عن كاهلها ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده.. وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة. جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال- ما لم تكن حاملاً فعدتها عدة الحامل- وهي أطول قليلاً من عدة المطلقة. تستبرئ فيها رحمها، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها. وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب. فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها. سواء من أهلها أو من أهل الزوج. ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي. لا تقف في سبيلها عادة بالية، ولا كبرياء زائفة. وليس عليها من رقيب إلا الله:
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
هذا شأن المرأة.. 235- ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة فيوجههم توجيهاً قائماً على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح:
«وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ» ..
إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه.. وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة. لأن هذا الحديث لم يحن موعده، ولأنه يجرح مشاعر، ويخدش ذكريات.
ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض- لا التصريح- بخطبة النساء. أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها.
وقد روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن التعريض مثل أن يقول: إني أريد التزويج. وإن النساء لمن حاجتي. ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة» «1» ..
__________
(1) أخرجه البخاري. [.....](1/255)
كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحاً ولا تلميحاً. لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها:
«عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» ..
وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري، حلال في أصله، مباح في ذاته، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه. والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها. ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير:
«وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا» ..
لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة، ولكن المحظور هو المواعدة سراً على الزواج قبل انقضاء العدة. ففي هذا مجانبة لأدب النفس، ومخالسة لذكرى الزوج، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلاً بين عهدين من الحياة.
«إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» ..
لا نكر فيه ولا فحش، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق:
«وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» ..
ولم يقل: ولا تعقدوا النكاح.. إنما قال: «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» .. زيادة في التحرج.. فالعزيمة التي تنشئ العقدة هي المنهي عنها.. وذلك من نحو قوله تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» .. توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة.
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ» ..
وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر. فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة. تلك العلاقات الشديدة الحساسية، العالقة بالقلوب، الغائرة في الضمائر.
وخشية الله، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة، مع التشريع، لتنفيذ التشريع.
فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله، والثقة بعفو الله، وحلمه وغفرانه:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ..
غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله، الحذر من مكنونات القلوب. حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطئ أن يتوب.
236- ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول. وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل. وهي حالة كثيرة الوقوع. فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما:
«لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً. وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ. إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ(1/256)
بَيْنَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»
..
والحالة الأولى: هي حالة المطلقة قبل الدخول، ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم. والمهر فريضة، فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها. أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع. ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعاً من التعويض.. إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشئ جفوة ممضة في نفس المرأة، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة. ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى. فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية، واحتفاظاً بالذكرى الكريمة. وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق، فعلى الغني بقدر غناه، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع:
«عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» ..
ويلوّح بالمعروف والإحسان فيندّي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط:
«مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ» ..
237- والحالة الثانية: أن يكون قد فرض مهراً معلوماً. وفي هذه الحالة يجب نصف المهر المعلوم. هذا هو القانون. ولكن القرآن يدع الأمر بعد ذلك للسماحة والفضل واليسر. فللزوجة- ولوليها إن كانت صغيرة- أن تعفو وتترك ما يفرضه القانون. والتنازل في هذه الحالة هو تنازل الإنسان الراضي القادر العفّو السمح.
الذي يعف عن مال رجل قد انفصمت منه عروته. ومع هذا فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترف وتخلو من كل شائبة:
«وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
يلاحقها باستجاشة شعور التقوى. ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل. ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله.. ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة. ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية. موصولة بالله في كل حال.
238- وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله، يدس حديثاً عن الصلاة- أكبر عبادات الإسلام- ولم ينته بعد من هذه الأحكام. وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة- يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة، ومن جنسها، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن. وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر، بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله، والغاية منه طاعة الله:
«حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» ..
والأمر هنا بالمحافظة على الصلوات، يعني إقامتها في أوقاتها، وإقامتها صحيحة الأركان، مستوفية الشرائط.
أما الصلاة الوسطى فلأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله- صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب:(1/257)
«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً» «1» .. وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة، وقد تفوت المصلي..
والأمر بالقنوت، الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة. وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة. حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره.
فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالاً لإقامة الصلاة تجاه القبلة، فإن الصلاة تؤدى ولا تتوقف. يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله، ويومئ إيماءة خفيفة للركوع والسجود. وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء. فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه. ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولاً يحرسه.. أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلاً، فتكون الصلاة المشار إليه هنا في سورة البقرة.
وهذا الأمر عجيب حقاً. وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة، ويوحي بها لقلوب المسلمين. إنها عدة في الخوف والشدة. فلا تترك في ساعة الخوف البالغ، وهي العدة. ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان، والسيف في يده، والسيف على رأسه. يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده. وهي جنة له كالدرع التي تقيه. يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للإتصال به، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله..
إن هذا الدين عجيب. إنه منهج العبادة. العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها، وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته. وعن طريق العبادة يثبته في الشدة، ويهذبه في الرخاء. وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان.. ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب! فإذا كان الأمن فالصلاة المعروفة التي علمها الله للمسلمين، وذكر الله جزاء ما علمهم ما لم يكونوا يعلمون:
«فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» ..
وماذا كان البشر يعلمون لولا أن علمهم الله؟ ولولا أنه يعلمهم في كل يوم وفي كل لحظة طوال الحياة؟! وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحام الزواج والطلاق وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى. وهي العبادة ممثلة في كل طاعة. ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام:
«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
__________
(1) أخرجه مسلم.(1/258)
والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، مدة حول كامل، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء..
وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة. فالعدة فريضة عليها.
والبقاء حولاً حق لها.. وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك. ولا ضرورة لافتراض النسخ، لاختلاف الجهة كما رأينا. فهذه تقرر حقاً لها إن شاءت استعملته. وتلك تقرر حقاً عليها لا مفر منه:
«فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» ..
وكلمة «عَلَيْكُمْ» توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسئولة عن كل ما يقع فيها. فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها. وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون.. ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها. فهي المسئولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة. والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها.. والتعقيب:
«وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
للفت القلوب إلى قوة الله. وحكمته فيما يفرض وما يوجه. وفيه معنى التهديد والتحذير..
241- والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة، وتعلق الأمر كله بالتقوى:
«وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» .
وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة.. ولا حاجة لافتراض النسخ. فالمتاع غير النفقة..
ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة. المدخول بها وغير المدخول بها.
المفروض لها مهر وغير المفروض لها. لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق. وفي الآية استجاشة لشعور التقوى، وتعليق الأمر به. وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد.
242- والآية الثالثة تعقيب على الأحكام السابقة جميعاً:
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ..
كذلك.. كهذا البيان الذي سلف في هذه الأحكام.. وهو بيان محكم دقيق موح مؤثر.. كذلك يبين الله لكم آياته عسى أن تقود كم إلى التعقل والتدبر فيها، وفي الحكمة الكامنة وراءها، وفي الرحمة المتمثلة في ثناياها، وفي النعمة التي تتجلى فيها. نعمة التيسير والسماحة، مع الحسم والصرامة، ونعمة السلام الذي يفيض منها على الحياة.
ولو تعقل الناس وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن.. هو شأن الطاعة والاستسلام والرضى والقبول.. والسلام الفائض في الأرواح والعقول..(1/259)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
ندرك قيمة هذا الدرس. وما يتضمنه من تجارب الجماعات السابقة والأمم الغابرة، حين نستحضر في أنفسنا(1/260)
أن القرآن هو كتاب هذه الأمة الحي ورائدها الناصح وأنه هو مدرستها التي تلقت فيها دروس حياتها.
وأن الله- سبحانه- كان يربي به الجماعة المسلمة الأولى التي قسم لها إقامة منهجه الرباني في الأرض، وناط بها هذا الدور العظيم بعد أن أعدها له بهذا القرآن الكريم. وأنه- تعالى- أراد بهذا القرآن أن يكون هو الرائد الحي- الباقي بعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- لقيادة أجيال هذه الأمة، وتربيتها، وإعدادها لدور القيادة الراشدة الذي وعدها به، كلما اهتدت بهديه، واستمسكت بعهدها معه، واستمدت منهج حياتها كله من هذا القرآن، واستغزت به واستعلت على جميع المناهج الأرضية. وهي بصفتها هذه، مناهج الجاهلية! إن هذا القرآن ليس مجرد كلام يتلى.. ولكنه دستور شامل.. دستور للتربية، كما أنه دستور للحياة العملية، ومن ثم فقد تضمن عرض تجارب البشرية بصورة موحية على الجماعة المسلمة التي جاء لينشئها ويربيها وتضمن بصفة خاصة تجارب الدعوة الإيمانية في الأرض من لدن آدم- عليه السلام- وقدمها زاداً للأمة المسلمة في جميع أجيالها. تجاربها في الأنفس، وتجاربها في واقع الحياة. كي تكون الأمة المسلمة على بينة من طريقها، وهي تتزود لها بذلك الزاد الضخم، وذلك الرصيد المتنوع.
ومن ثم جاء القصص في القرآن بهذه الوفرة، وبهذا التنوع، وبهذا الإيحاء.. وقصص بني إسرائيل هو أكثر القصص وروداً في القرآن الكريم، لأسباب عدة، ذكرنا بعضها في الجزء الأول من الظلال عند استقبال أحداث بني إسرائيل وذكرنا بعضها في هذا الجزء في مناسبات شتى- وبخاصة في أوله- ونضيف إليها هنا ما نرجحه.. وهو أن الله- سبحانه- علم أن أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة ولترى صورتها في هذه المرآة المرفوعة لها بيد الله- سبحانه- قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق! إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنه مجرد كلام جميل يرتل أو على أنه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة.. وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي! سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق وتقول لنا: هذا فافعلوه وهذا لا تفعلوه. وتقول لنا: هذا عدولكم وهذا صديق. وتقول لنا: كذا فاتخذوا من الحيطة وكذا فاتخذوا من العدة. وتقول لنا حديثاً طويلاً مفصلاً دقيقاً في كل ما يعرض لنا من الشؤون.. وسنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة وسندرك معنى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» .. فهي دعوة للحياة..
للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ.
هذا الدرس يعرض تجربتين من تجارب الأمم يضمهما إلى ذخيرة هذه الأمة من التجارب ويعد بهما الجماعة المسلمة لما هي معرضة له في حياتها من المواقف بسبب قيامها بدورها الكبير، بوصفها وارثة العقيدة الإيمانية، ووارثة التجارب في هذا الحقل الخصيب.(1/261)
والأولى تجربة لا يذكر القرآن أصحابها ويعرضها في اختصار كامل، ولكنه واف. فهي تجربة جماعة «خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» .. فلم ينفعهم الخروج والفرار والحذر وأدركهم قدر الله الذي خرجوا حذراً منه.. فقال لهم الله: «مُوتُوا» .. «ثُمَّ أَحْياهُمْ» .. لم ينفعهم الجهد في اتقاء الموت، ولم يبذلوا جهداً في استرجاع الحياة. وإنما هو قدر الله في الحالين.
وفي ظل هذه التجربة يتجه إلى الذين آمنوا يحرضهم على القتال، وعلى الإنفاق في سبيل الله، واهب الحياة.
وواهب المال. والقادر على قبض الحياة وقبض المال.
والثانية تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى.. بعد ما ضاع ملكهم، ونهبت مقدساتهم، وذلوا لأعدائهم، وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدْي ربهم، وتعاليم نبيهم.. ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة واستيقظت في قلوبهم العقيدة واشتاقوا القتال في سبيل الله. فقالوا: «لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
ومن خلال هذه التجربة- كما يعرضها السياق القرآني الموحي- تبرز جملة حقائق، تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل، فضلاً على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين.
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة- على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلي القوم عنها فوجاً بعد فوج في مراحل الطريق- على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جداً..
فقد كان فيها النصر والعز والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين. ولقد جاءت لهم بملك داود، ثم ملك سليمان- وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى..
وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لا نتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت! وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
من ذلك.. أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها. فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل- من ذوي الرأي والمكانة فيهم- إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكاً يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم: «هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا!» استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: «وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟» ..
ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة وكما يقول السياق بالإجمال: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» .. ومع أن لبني إسرائيل طابعاً خاصاً في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق.. إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغاً عالياً من التدريب.. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل.. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم. ولم تبق إلا(1/262)
قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها. وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة ... !
ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى. وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي- إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ- فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» .. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية.
فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» .. وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة..
اعتصمت بالله ووثقت، وقالت: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» .. وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة.. وكلها واضحة في قيادة طالوت. تبرز منها خبرته بالنفوس وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه.. ثم- وهذا هو الأهم- عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة. فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين.
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود. فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» .. ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف. إنما حكمت حكماً آخر، فقالت: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» .. ثم اتجهت لربها تدعوه: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده. فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.. وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا، وعند ما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح. وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون! ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة. فالنصوص القرآنية- كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن وبقدر حاجته الظاهرة فيه. ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم..
فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص:
243- «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا. ثُمَّ أَحْياهُمْ. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» ..
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. من- هم؟ وفي أي أرض كانوا؟ وفي أي زمان خرجوا؟ .... فلو كان الله يريد بياناً عنهم لبين، كما يجيء القصص(1/263)
المحدد في القرآن. إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها. وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئاً على عبرة القصة ومغزاها..
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة. والاطمئنان إلى قدر الله فيهما. والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف..
يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلاً، ولا يردان قضاء وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد. وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء:
«إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» .
إن تجمع هؤلاء القوم «وَهُمْ أُلُوفٌ» وخروجهم من ديارهم «حَذَرَ الْمَوْتِ» .. لا يكون إلا في حالة هلع وجزع، سواء كان هذا الخروج خوفاً من عدو مهاجم، أو من وباء حائم.. إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئاً:
«فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ.. مُوتُوا» ..
كيف قال لهم؟ كيف ماتوا؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل، لأنه ليس موضع العبرة. إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر، لم تغير مصيرهم، ولم تدفع عنهم الموت، ولم ترد عنهم قضاء الله. وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لورجعوا لله..
«ثُمَّ أَحْياهُمْ» ..
كيف؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء؟ .. ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل. فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم. في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم.
إن الهلع لا يرد قضاء وإن الفرع لا يحفظ حياة وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء..
إذن فلا نامت أعين الجبناء! 244- «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
هنا ندرك طرفاً من هدف تلك الحادثة ومغزاها وندرك طرفاً من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعاً.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله. فالموت والحياة بيد الله. قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى. وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..(1/264)
يسمع ويعلم.. يسمع القول ويعلم ما وراءه. أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب. قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله، واهب الحياة وآخذ الحياة.
245- والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية. وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالباً بذكر الجهاد والقتال. وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعاً، والمجاهد ينفق على نفسه، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وإذا كان الموت والحياة بيد الله، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق. إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافاً كثيرة. يضاعفه في الدنيا مالاً وبركة وسعادة وراحة ويضاعفه في الآخرة نعيماً ومتاعاً، ورضى وقربى من الله.
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل، ولا إلى بذل وإنفاق:
«وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» ..
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف. فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ..
وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله. وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة. ومردهم بعد ذلك إلى الله..
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات.. أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ؟» .. إن في التعبير استعراضاً لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضاً ترسمه هاتان الكلمتان: «أَلَمْ تَرَ؟» .. وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار.
ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت، المتلفتة من الذعر.. إلى مشهد الموت المطبق في لحظة ومن خلال كلمة: «مُوتُوا» .. كل هذا الحذر، وكل هذا التجمع، وكل هذه المحاولة.. كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة: «مُوتُوا» .. ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج كما يلقي صرامة القضاء، وسرعة الفصل عند الله.
«ثُمَّ أَحْياهُمْ» .. هكذا بلا تفصيل للوسيلة.. إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة. المتصرفة في شؤون العباد، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء.. وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة.
ونحن في مشهد إماتة وإحياء. قبض للروح وإطلاق.. فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» .. متناسقاً في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار.(1/265)
وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد، إلى جوار التناسق العجيب في إحياء المعاني وجمال الأداء..
246- ثم يورد السياق التجربة الثانية، وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قالَ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا! قالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ..
ألم تر؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور.. لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم- إلى نبي لهم. ولم يرد في السياق ذكر اسمه، لأنه ليس المقصود بالقصة، وذكره هنا لا يزيد شيئاً في إيحاء القصة، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل.. لقد اجتمعوا إلى نبي لهم، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكاً يقاتلون تحت إمرته «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في «سَبِيلِ اللَّهِ» يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداء هم على ضلالة وكفر وباطل ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله.
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر. فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف.. في سبيل الله.. فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير.
وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم، وثبات نيتهم، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة، وجدّهم فيما يعرضون عليه من الأمر:
«قالَ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا» ..
ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر. فأما إذا استجبت لكم، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها.. إنها الكلمة اللائقة بني، والتأكد اللائق بني. فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ.
وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه:
«قالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟» ..
ونجد أن الأمر واضح في حسهم، مقرر في نفوسهم.. إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله. وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم. فقتالهم واجب والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم. ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية:
«فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ..
وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.. ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة(1/266)
التأثير. وهي- من ثم- سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل.
والتعقيب على هذا التولي:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ..
وهو يشي بالاستنكار ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة- بعد طلبها- وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية.. وصمها بالظلم. فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق، ثم تتخلى عنه للمبطلين! إن الذي يعرف أنه على الحق، وأن عدوه على الباطل- كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكاً ليقاتلوا «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ..
247- «وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً. قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ؟ قالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة.. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم، ويلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم ويستنكرون أن يكون طالوت- الذي بعثه الله لهم- ملكا عيهم. لماذا؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة. فلم يكن من نسل الملوك فيهم! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة! .. وكل هذا غبش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة..
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره:
«قالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.. والله «يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» .. فهو ملكه، وهو صاحب التصرف فيه، وهو يختار من عباده من يشاء.. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» .. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها..
248- وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش، وأن تجلو عنه الغبش.. ولكن طبيعة إسرائيل- ونبيها يعرفها- لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها. وهم مقبلون على معركة. ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم، وتردها إلى الثقة واليقين:
«وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ، فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ(1/267)
هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»
..
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة- التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى- عليه السلام- قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. وقيل: كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور.. فجعل لهم نبيهم علامة من الله، أن تقع خارقة يشهدونها، فيأتيهم التابوت بما فيه «تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ» فتفيض على قلوبهم السكينة.. وقال لهم: إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله لطالوت، إن كنتم حقاً مؤمنين..
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين.
249- ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق..
والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص «1» يترك هنا فجوة بين المشهدين. فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود:
«فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي- إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ..
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل.. إنه مقدم على معركة ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولاً للرغبات والشهوات، وصبره ثانياً على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش. ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته:
«فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» ..
شربوا وارتووا. فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق.
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه.
__________
(1) يراجع فصل: القصة في القرآن. في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . (دار الشروق)(1/268)
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت- إلى حد- ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد:
«فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» ..
لقد صاروا قلة. وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة جالوت. إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم. ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته. إنها التجربة الحاسمة. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور. وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم! وهنا برزت الفئة المؤمنة. الفئة القليلة المختارة. والفئة ذات الموازين الربانية:
«قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ..
هكذا.. «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً» .. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين.
وهم يكلون هذا النصر لله: «بِإِذْنِ اللَّهِ» .. ويعللونه بعلته الحقيقية: «وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل..
ونمضي مع القصة. فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين.. 250- إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها.. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة. بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب:
«وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» ..
هكذا.. «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» .. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالاً للهول والمشقة. «وَثَبِّتْ أَقْدامَنا» .. فهي في يده- سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد. «وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. فقد وضح الموقف.. إيمان تجاه كفر. وحق إزاء باطل. ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق.
251- وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: «فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. ويؤكد النص هذه الحقيقة:
«بِإِذْنِ اللَّهِ» .. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه..
ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله(1/269)
لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله- بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز السياق دور داود:
«وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ» ..
وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل. وجالوت كان ملكاً قوياً وقائداً مخوفاً.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه إبنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:
«وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» ..
وكان داود ملكاً نبياً، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى..
أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعاً.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر:
«وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» ..
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار. وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعاً تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعاً، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف..
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة. تعرف الحق الذي بينه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحاً. وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله(1/270)
إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه..
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه. وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر. ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.
252- وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:
«تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» ..
تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات «نَتْلُوها عَلَيْكَ» .. الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة.. «نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» .. تحمل معها الحق.
ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها، وجعلها دستوراً للعباد. وليس هذا الحق لغير الله سبحانه. فكل من يسن للعباد منهجاً غيره إنما هو مفتات على حق الله، ظالم لنفسه وللعباد، مدع ما لا يملك، مبطل لا يستحق أن يطاع. فإنما يطاع أمر الله. وأمر من يهتدي بهدى الله.. دون سواه..
«وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» ..
ومن ثم نتلو عليك هذه الآية ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين..
بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب. وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوَّف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات وهو يربيها ويعدها للدور الخطير، الذي قدره الله لها في الأرض، وجعلها قيمة عليه، وجعلها أمة وسطاً تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني- إلى آخر الزمان.(1/271)
انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث مبدوءا بقوله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.(1/272)
بسم الله الرّحمن الرّحيم بقيّة سورة البقرة وأول سورة آل عمران الجزء الثالث(1/273)
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا الجزء الثالث مؤلف من شطرين: الشطر الأول تتمة سورة البقرة التي استغرقت الجزءين الأولين.
والشطر الثاني أوائل سورة آل عمران.. وسنتحدث هنا- إجمالا- عن الشطر الأول. أما الشطر الثاني فسيجيء الحديث عنه عند استعراض سورة آل عمران إن شاء الله.
وهذه البقية الباقية من سورة البقرة هي استطراد في موضوعها الرئيسي الذي شرحناه في مطلع الجزء الأول، والذي ظللنا نطالعه في سياق السورة حتى نهاية الجزء الثاني. وهو إعداد الجماعة المسلمة في المدينة لتنهض بتكاليف الأمة المسلمة.. تنهض بها وقد تهيأت لهذه الأمانة الضخمة بالتصور الإيماني الصحيح وزودت بتجارب الأمة المؤمنة على مدار الرسالات السابقة وعرفت زاد الطريق كما عرفت مزالق الطريق وحذرت كيد أعدائها.. أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإيمان.. لتكون منهم على بينة في كل مراحل الطريق.
وهذا الإعداد بكل وسائله، وبكل زاده وتجاربه، وبكل أهدافه وغاياته.. هو هو الذي يعالج به القرآن الكريم أجيال الجماعة المسلمة على مدار الزمان بعد الجيل الأول. فهو المنهج الثابت الواضح المستقر لإنشاء الجماعة المسلمة، ولقيادة الحركة الإسلامية في كل جيل. والقرآن من ثم أداة حية متحركة فاعلة، ودستور شامل عامل في كل وقت بل هو قيادة راشدة لمن يطلب عندها الرشد والهدى والنصيحة في كل موقف وفي كل خطوة وفي كل جيل.
هذه البقية تأتي بعد قول الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- في نهاية الجزء الثاني من السورة: «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» .. وذلك تعقيبا على قصة الملأ «مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. والتي جاء في نهايتها: «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ» .. فنهاية الجزء الثاني كانت حديثا عن قوم موسى، وكانت حديثا عن داود- عليهما السلام- وكانت كذلك إشارة إلى رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وإلى تزويده بتجارب «الْمُرْسَلِينَ» .
ومن ثم يبدأ الجزء الثالث بعد هذا حديثا ملتحما بما قبله عن الرسل، وتفضيل الله بعضهم على بعض، وخصائص بعضهم، ورفع بعضهم درجات.. وحديثا عن اختلاف من جاء بعدهم من أتباعهم، وقتال بعضهم لبعض: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» ..
ومناسبة هذا الاستطراد واضحة في الحديث عن الرسل بين أواخر الجزء الثاني وأوائل هذا الجزء الثالث..(1/275)
والمناسبة كذلك واضحة في سياق السورة كله. فمعظم الجدل في السياق كان بين الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة وبين بني إسرائيل- كما هو واضح من خلال الجزءين الأولين- ومن ثم يجيء الحديث هنا عن اختلاف أتباع الرسل من بعدهم واقتتالهم- بعد ما كفر منهم من كفر وآمن منهم من آمن- يجيء الحديث عن هذا الاختلاف والاقتتال في موضعه المناسب. لتمضي الأمة المسلمة في طريقها، تواجه بني إسرائيل وغيرهم وفق ما يقتضيه الموقف الواقعي بين أتباع الرسل: المستقيمين على الهدى والمنحرفين عن الطريق. ولتنهض هذه الأمة بتبعاتها، فهي الجماعة المهتدية التي ينبغي أن تكافح المنحرفين.
لهذا يعقب ذلك البيان عن الرسل وأتباعهم والاختلاف والاقتتال دعوة حارة إلى الإنفاق «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ» .. فالإنفاق هو فريضة المال الملازمة لفريضة الجهاد في جميع الأحوال وبخاصة في الحالة التي كانت فيها الجماعة المسلمة، التي يتجهز فيها الغزاة في سبيل الله من مالهم ومن مال المنفقين في سبيل الله.
ثم بيان لقواعد التصور الإسلامي الذي يقوم عليه وجود الجماعة المسلمة. وهو بيان عن وحدانية الله وحياته، وقيامه على كل شيء وقيام كل شيء به، وملكيته المطلقة لكل شيء، وعلمه المحيط بكل شيء، وهيمنته الكاملة على كل شيء، وقدرته الكاملة وحفظه لكل شيء.. لا شفاعة عنده إلا بإذنه، ولا علم إلا ما يهبه وذلك ليمضي المسلم في طريقه، واضح التصور لعقيدته، التي يقوم عليها منهجه كله: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
ثم هو يقاتل في سبيل الله، لا ليكره الناس على عقيدته هذه وعلى تصوره ولكن ليتبين الرشد من الغيّ.
وتنتفي عوامل الفتنة والضلالة. ثم ليكن من أمر الناس بعد ذلك ما يكون: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهو يمضي مطمئنا في طريقه، في كنف الله وولايته، واثقا من هداية الله ورعايته: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
وهكذا تمضي هذه الفقرات المتتابعة في مطلع هذا الجزء. تمضي في الطريق الذي اتخذته السورة منذ مطالعها.
لتحقيق أهدافها في حياة الجماعة المسلمة وغاياتها.
يلي ذلك استطراد في توضيح التصور الإيماني لحقيقة الموت وحقيقة الحياة.. في سلسلة من التجارب يذكر إبراهيم- عليه السلام- في تجربتين منها، ويذكر شخص آخر لا يفصح عن اسمه في التجربة الثالثة.. وتنتهي كلها إلى إيضاح لحقيقة الموت ولحقيقة الحياة وارتباطهما مباشرة بإرادة الله وعلمه واستعصاء هذا السر على الإدراك البشري أن يعرف كنهه فهو فوق مجال الإدراك، ومرده إلى الله وحده دون سواه.
وعلاقة هذا الاستطراد بأمر القتال والجهاد واضحة كما أن علاقته بتصحيح التصور الإيماني بصفة عامة، واضحة كذلك.
ومن هنا يبدأ في حديث طويل عن الارتباطات التي يقوم عليها المجتمع المسلم. فيقرر أن التكافل هو قاعدة(1/276)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
هذا المجتمع وأن الربا منبوذ منه ملعون. ومن ثم يرد حديث عن الإنفاق والصدقة يستغرق مساحة واسعة من بقية السورة.. وهو حديث حافل بالصور والظلال، والإيقاعات والإيحاءات التي يحسن إرجاء وصفها إلى موضعها عند مواجهة نصوصها الجميلة. أما مناسبتها في هذا السياق فهي مناسبة قوية مع القتال والجهاد. كما أن النفقة في سبيل الله والصدقة جانب هام من جوانب الحياة الإسلامية العامة، التي تنظمها هذه السورة بشتى التشريعات وشتى التوجيهات.
وفي الجانب الآخر المقابل لجانب الإنفاق والصدقة يقوم الربا.. ذلك النظام الخبيث الذي يحمل عليه القرآن حملة قاصمة في خلال صفحة من المصحف، كأنما تنقض منها الصواعق لتحطيم هذا الأساس النكد للحياة الاقتصادية والاجتماعية ولإقامة قاعدة أخرى سليمة قوية ينهض عليها بناء المجتمع الإسلامي الذي كان ينشئه الله- سبحانه- بهذا القرآن.
يليه تشريع الدين، الذي سبق به القرآن الكريم كل تشريع في موضوعه. وهو مسوق في آيتين، إحداهما أطول آية في القرآن الكريم. وتتجلى فيهما خاصية هذا القرآن في سوق تشريعاته سياقة حية موحية يتفرد بها تفردا كاملا معجزا.
وفي النهاية تختم السورة ختاما يتناسق تماما مع افتتاحها، ومع أظهر ما اشتمل عليه سياقها. ختاما يتناول قاعدة التصور الإسلامي في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله- «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» .. وهي القاعدة التي تكرر إبرازها في السورة من قبل. كما يتناول دعاء رخيا من المسلمين لله. يقرر طبيعة العلاقة بين المؤمن وربه وحاله معه سبحانه. وفيه إشارة لما مر في السورة من تاريخ بني إسرائيل: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا. أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. وهو ختام يناسب المطلع ويناسب السياق الطويل الدقيق ...
[سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 257]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)(1/277)
أول ما يواجهنا في هذا الدرس هو ذلك التعبير الخاص عن الرسل:
«تِلْكَ الرُّسُلُ» ..
لم يقل: هؤلاء الرسل. إنما استهل الحديث عنهم بهذا التعبير الخاص، الذي يشتمل على إيحاء قوي واضح.
يحسن أن نقول عنه كلمة قبل المضي في مواجهة نصوص الدرس كله.
«تِلْكَ الرُّسُلُ» ..
إنهم جماعة خاصة. ذات طبيعة خاصة. وإن كانوا بشراً من البشر.. فمن هم؟ ما الرسالة؟ ما طبيعتها؟
كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلاً؟ وبماذا؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعان لا أجد لها كفاء من العبارات! ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات! إن لهذا الوجود الذي نعيش فيه، والذي نحن قطعة منه سنناً أصيلة يقوم عليها. هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله هذا الكون ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين كلما ارتقى في سلم المعرفة. يكشف عنها- أو يكشف له عنها- بمقدار يناسب إدراكه المحدود، المعطى له بالقدر الذي يلزم لنهوضه بمهمة الخلافة في الأرض، في أمد محدود.
ويعتمد الإنسان في معرفة هذه الأطراف من القوانين الكونية على وسيلتين أساسيتين- بالقياس إليه- هما الملاحظة والتجربة. وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما، وغير نهائيتين ولا مطلقتين في نتائجهما. ولكنهما تقودان أحيانا إلى أطراف من القوانين الكلية في آماد متطاولة من الزمان.. ثم يظل هذا الكشف جزئياً غير نهائي ولا مطلق لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها. سر الناموس الذي ينسق بين القوانين جميعها. هذا السر يظل خافياً، لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية النسبية، مهما طالت الآماد.. إن الزمن ليس هو العنصر النهائي في هذا المجال. إنما هو الحد المقدور للإنسان ذاته، بحكم تكوينه، وبحكم دوره في الوجود. وهو دور جزئي ونسبي. ثم تجيء كذلك نسبية الزمن الممنوح للجنس البشري كله على وجه الأرض وهو بدوره جزئي ومحدود.. ومن ثم تبقى جميع وسائل المعرفة، وجميع النتائج التي يصل إليها البشر عن طريق هذه الوسائل، محصورة في تلك الدائرة الجزئية النسبية.(1/278)
هنا يجيء دور الرسالة. دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها- بطريقة ما نزال نجهل طبيعتها وإن كنا ندرك آثارها- مع ذلك الناموس الكلي، الذي يقوم عليه الوجود..
هذه الطبيعة الخاصة هي التي تتلقى الوحي فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله.. إنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود لأنها متصلة اتصالاً مباشراً بالناموس الكوني الذي يصرّف هذا الوجود.. كيف تتلقى هذه الإشارة؟ وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة- لكي نجيب- أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله للمختارين من عباده! و «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .. وهي أمر عظيم أعظم من كل ما يخطر على البال من عظائم الأسرار في هذا الوجود.
كل الرسل قد أدركوا حقيقة «التوحيد» وكلهم بعثوا بها. ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في كيانهم كله، هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد- لا يتعدد وإلا لتعددت النواميس وتعدد إيقاعها الذي يتلقونه- وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، المبنية على الملاحظة والتجربة، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية، التي تشير إلى تلك الوحدة.
وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد.. دعا إلى هذه الحقيقة التي تلقاها وأمر أن يبلغها.. وكان إدراكهم لها هو المنطق الفطري الناشئ من إيقاع الناموس الواحد في الفطرة الواصلة. كما كان نهوضهم لتبليغها هو النتيجة الطبيعية لإيمانهم المطلق بكونها الحقيقة وبكونها صادرة إليهم من الله الواحد، الذي لا يمكن- وفق الإيقاع القوي الصادق الملزم الذي تلقته فطرتهم- أن يتعدد! وهذا الإلزام الملح الذي تستشعره فطرة الرسل يبدو أحياناً في كلمات الرسل التي يحكيها عنهم هذا القرآن، أو التي يصفهم بها في بعض الأحيان.
نجده مثلاً في حكاية قول نوح- عليه السلام- لقومه: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟ وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
ونجده في حكاية قول صالح- عليه السلام-: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
ونجده في سيرة إبراهيم- عليه السلام-: «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ...
ونجده في قصة شعيب- عليه السلام-: «قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً؟ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ..
ونجدها في قول يعقوب- عليه السلام- لبنيه: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
..
وهكذا وهكذا نجد في أقوال الرسل وأوصافهم أثر ذلك الإيقاع العميق الملح على فطرتهم، والذي تشي(1/279)
كلماتهم بما يجدونه منه في أعماق الضمير! ويوماً بعد يوم تكشفت للمعرفة الإنسانية الخارجية ظواهر تشير من بعيد إلى قانون الوحدة في هذا الوجود.
واطلع العلماء من البشر على ظاهرة وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون العريض. وتكشف- في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم- أن الذرة هي أساس البناء الكوني كله، وأن الذرة طاقة.. فالتقت المادة بالقوة في هذا الكون ممثلة في الذرة. وانتفت الثنائية التي تراءت طويلاً. وإذا المادة- وهي مجموعة من الذرات- هي طاقة حين تتحطم هذه الذرات، فتتحول إلى طاقة من الطاقات! .. وتكشف كذلك- في حدود ما يملك الإنسان أن يعلم- أن الذرة في حركة مستمرة من داخلها. وإنها مؤلفة من إلكترونات- أو كهارب- تدور في فلك حول النواة أو النويات وهي قلب الذرة. وأن هذه الحركة مستمرة ومطردة في كل ذرة. وأن كل ذرة- كما قال فريد الدين العطار- شمس تدور حولها كواكب كشمسنا هذه وكواكبها التي ما تني تدور حولها باستمرار! وحدة التكوين ووحدة الحركة في هذا الكون هما الظاهرتان اللتان اهتدى اليهما الإنسان.. وهما إشارتان من بعيد إلى قانون الوحدة الشامل الكبير. وقد بلغت اليهما المعرفة البشرية بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة البشرية أن تبلغ.. أما الطبائع الخاصة الموهوبة، فقد أدركت القانون الشامل الكبير كله في لمحة لأنها تتلقى إيقاعه المباشر، وتطيق وحدها تلقيه.
إنهم لم يجمعوا الشواهد والظواهر على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية. ولكن لأنهم وهبوا جهاز استقبال كاملاً مباشراً، استقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالا داخلياً مباشراً فأدركوا إدراكاً مباشراً أن الإيقاع الواحد لا بد منبعث عن ناموس واحد، صادر من مصدر واحد. وكان هذا الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة أدق وأشمل وأكمل، لأنه أدرك في لمسة واحدة ما وراء وحدة الإيقاع من وحدة المصدر، ووحدة الإرادة والفاعلية في هذا الوجود. فقرر- في إيمان- وحدة الذات الإلهية المصرفة لهذا الوجود.
وما أسوق هذا الكلام لأن العلم الحديث يرى أنه قد أدرك ظاهرة أو ظاهرتين من ظواهر الوحدة الكونية.
فالعلم يثبت أو ينفي في ميدانه. وكل ما يصل إليه من «الحقائق» نسبي جزئي مقيد فهو لا يملك أن يصل أبداً إلى حقيقة واحدة نهائية مطلقة. فضلاً على أن نظريات العلم قُلَّب، يكذب بعضها بعضاً، ويعدِّل بعضها بعضاً.
وما ذكرت شيئاً عن وحدة التكوين ووحدة الحركة لأقرن اليهما صدق الاستقبال لوحدة الناموس في حس الرسل.. كلا.. إنما قصدت إلى أمر آخر. قصدت إلى تحديد مصدر التلقي المعتمد لتكوين التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود.
إن الكشف العلمي ربما يكون قد اهتدى إلى بعض الظواهر الكونية المتعلقة بحقيقة الوحدة الكبرى.. هذه الوحدة التي لمست حس الرسل من قبل في محيطها الواسع الشامل المباشر. والتي أدركتها الفطرة اللدنية إدراكاً كاملاً شاملاً مباشراً. وهذه الفطرة صادقة بذاتها- سواء اهتدت نظريات العلم الحديث إلى بعض الظواهر أو لم تهتد- فنظريات العلم موضع بحث ومراجعة من العلم ذاته. وهي ليست ثابتة أولاً. ثم إنها ليست نهائية ولا مطلقة أخيراً. فلا تصلح إذن أن تقاس بها صحة الرسالة. فالمقياس لا بد أن يكون ثابتاً وأن يكون مطلقاً.
ومن هنا تكون الرسالة هي المقياس الثابت المطلق الوحيد.
وينشأ عن هذه الحقيقة حقيقة أخرى ذات أهمية قصوى..(1/280)
إن هذه الطبائع الخاصة الموصولة بناموس الوجود صلة مباشرة، هي التي تملك أن ترسم للبشرية اتجاهها الشامل. اتجاهها الذي يتسق مع فطرة الكون وقوانينه الثابتة وناموسه المطرد. هي التي تتلقى مباشرة وحي الله.
فلا تخطىء ولا تضل، ولا تكذب ولا تكتم. ولا تحجبها عوامل الزمان والمكان عن الحقيقة لأنها تتلقى هذه الحقيقة عن الله، الذي لا زمان عنده ولا مكان.
ولقد شاءت الإرادة العليا أن تبعث بالرسل بين الحين والحين، لتصل البشرية بالحقيقة المطلقة، التي ما كانت ملاحظتهم وتجربتهم لتبلغ إلى طرف منها إلا بعد مئات القرون. وما كانت لتبلغ إليها كلها أبداً على مدار القرون.
وقيمة هذا الاتصال هي استقامة خطاهم مع خطى الكون واستقامة حركاتهم مع حركة الكون واستقامة فطرتهم مع فطرة الكون.
ومن ثم كان هنالك مصدر واحد يتلقى منه البشر التصور الصادق الكامل الشامل لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني. ولغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني. ومن هذا التصور يمكن أن ينبثق المنهج الوحيد الصحيح القويم، الذي يتطابق مع حقيقة تصميم الكون وحقيقة حركته، وحقيقة اتجاهه. ويدخل به الناس في السلم كافة. السلم مع هذا الكون، والسلم مع فطرتهم وهي من فطرة هذا الكون، والسلم مع بعضهم البعض في سعيهم ونشاطهم ونموهم ورقيهم المهيأ لهم في هذه الحياة الدنيا.
مصدر واحد هو مصدر الرسالات، وما عداه ضلال وباطل، لأنه لا يتلقى عن ذلك المصدر الوحيد الواصل الموصول.
إن وسائل المعرفة الأخرى المتاحة للإنسان، معطاة له بقدر. ليكشف بها بعض ظواهر الكون وبعض قوانينه وبعض طاقاته. بالقدر اللازم له في النهوض بعبء الخلافة في الأرض، وتنمية الحياة وتطويرها. وقد يصل في هذا المجال إلى آماد بعيدة جداً. ولكن هذه الآماد لا تبلغ به أبداً إلى محيط الحقيقة المطلقة التي هو في حاجة إليها ليكيف حياته- لا وفق الأحوال والظروف الطارئة المتجددة فحسب، ولكن وفق القوانين الكونية الثابتة المطردة التي قام عليها الوجود، ووفق الغاية الكبرى للوجود الإنساني كله. هذه الغاية التي يراها خالق الإنسان المتعالي عن ملابسات الزمان والمكان. ولا يراها الإنسان المحدود المتأثر بملابسات الزمان والمكان.
إن الذي يضع خطة الرحلة للطريق كله، هو الذي يدرك الطريق كله. والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق. بل هو محجوب عن اللحظة التالية. ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه! فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول؟! إنه إما الخبط والضلال والشرود. وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود. منهج الرسالات. ومنهج الرسل. ومنهج الفطر الموصولة بالوجود وخالق الوجود.
ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة، تأخذ بيد البشرية وتمضي بها صعداً في الطريق على هدى وعلى نور. والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك وتحيد عن النهج، وتغفل حداء الرائد وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد.
وفي كل مرة تتكشف لها الحقيقة الواحدة في صور مترقية تناسب تجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلي قد أشرق. فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشري بكليات الحقيقة(1/281)
كلها لتتابع البشرية خطواتها في ظل تلك الخطوط النهائية العريضة. وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة. ويحسبها المفسرون المجددون على مدار القرون.
وبعد فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذي يسعها دائماً، ويسع نشاطها المتجدد المترقي، ويصلها بالحقيقة المطلقة التي لا تصل إليها عن أي طريق آخر. وإما أن تشرد وتضل وتذهب بدداً في التيه! بعيداً عن معالم الطريق! 253- «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ. وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» ..
هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات- كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس- فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره. ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة- من بعد ما جاءتهم البينات- وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف.
كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر. وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان، ودفع الشر بالخير.. وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل.
«تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» ..
والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. والذي تشمله دعوته ونشاطه. كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمة، أو رسول جيل. أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال.. كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته. كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية..
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى- عليهما السلام- وأشار إشارة عامة إلى من سواهما:
«مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ- وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ- وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» ..
وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى- عليه السلام- ومن ثم لم يذكره باسمه.
وذكر عيسى بن مريم- عليه السلام- وهكذا يرد اسمه منسوباً إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية. والحكمة في هذا واضحة. فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى- عليه السلام- وبنوته لله- سبحانه وتعالى- أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت. أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها وجرت حولها الدماء أنهاراً في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى- عليه السلام- وذكره في معظم المواضع منسوباً إلى أمه مريم.. أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل- عليه السلام- فهو حامل الوحي إلى الرسل. وهذا أعظم تأييد وأكبره. وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق.. وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى- عليه السلام- فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه، والتي ورد(1/282)
ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن. تصديقاً لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين! ولم يذكر النص هنا محمدا- صلى الله عليه وسلم- لأن الخطاب موجه إليه. كما جاء في الآية السابقة في السياق: «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تِلْكَ الرُّسُلُ.. إلخ» . فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل.
وحين ننظر إلى مقامات الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- من أية ناحية نجد محمدا- صلى الله عليه وسلم- في القمة العليا. وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها، أو من ناحية محيطها وامتدادها، فإن النتيجة لا تتغير..
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة- وهي أضخم الحقائق على الإطلاق- وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء. ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: «كن» . ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة. ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود. ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق. ووحدة البشرية من آدم- عليه السلام- إلى آخر أبنائه في الأرض. ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة. ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة. ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة.
ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم «العبادة» . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء.
ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه. ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة ...
ومحمد- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس.
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني.
ومن ثم كان هو خاتم الرسل. وكانت رسالته خاتمة الرسالات. ومن ثم انقطع الوحي بعده وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري- في حدود المنهج الرباني- ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة.
وقد علم الله- سبحانه- وهو الذي خلق البشر وهو الذي يعلم ما هم ومن هم ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن.. قد علم الله- سبحانه- أن هذه الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق. فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله.. أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعاً فقد كفر كفراً صراحاً لا مراء فيه وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها(1/283)
ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان.
وبعد فقد اقتتل أتباع «تِلْكَ الرُّسُلُ» . ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم.. لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ- مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ- وَلكِنِ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا. وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» ..
إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفاً لمشيئة الله. فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته- سبحانه- فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو. بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال. وأن يكون موكولاً إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال. ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة وواقع وفق هذه المشيئة.
كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق، لتنويع الخلق- مع وحدة الأصل والنشأة- لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة. وما كان الله ليجعل الناس جميعاً نسخاً مكررة كأنما طبعت على ورق «الكربون» .. على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة.. أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادت. ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل. وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان. وفيه الاستعداد الكامن لهذا، وأمامه دلائل الهدى في الكون، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان. وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد! «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» ..
وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى، فيكون اختلاف كفر وإيمان، يتعين القتال. يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض. دفع الكفر بالإيمان. والضلال بالهدى، والشر بالخير. فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر.
ولا يكفي أن يقول قوم: إنهم أتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان. وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص.. كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى. كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى.. ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعداً كبيراً عن أصل دينها، وعن رسالة نبيها.
وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر. وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب. كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب. ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد، هو من مشيئة الله وبإذنه:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» ..
ولكنه شاء. شاء ليدفع الكفر بالإيمان وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعاً، فانحرف عنها المنحرفون. وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبياً جامداً، إنما هو ذو طبيعة شريرة. فلا بد أن يعتدي، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة.(1/284)
فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور.
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» .
مشيئة مطلقة. ومعها القدرة الفاعلة. وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم. وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم. وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل. وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج. وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال. وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون. وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون..
وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان. إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة.
254- ومن ثم يعقب السياق على ذكر الاختلاف والاقتتال بنداء «الَّذِينَ آمَنُوا» ، ودعوتهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله. فالإنفاق صنو الجهاد وعصب الجهاد:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ. وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ..
وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه. فهو الذي أعطى، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ» ..
وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ» ..
فهي الفرصة التي ليس بعدها- لو فوّتوها على أنفسهم- بيع تربح فيه الأموال وتنمو. وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير.
ويشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله. فهو الإنفاق للجهاد. لدفع الكفر. ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر:
«وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ..
ظلموا الحق فأنكروه. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله. خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين.
255- إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع.. إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها. ومن واجب البشرية- لو رشدت- أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال.. وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يند بها إليه ربها ويدعوها من(1/285)
أجله بصفتها تلك ويناديها ذلك النداء الموحي العميق..
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان.. بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته. وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية. ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل الهام. الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس، ويتضح، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس، ترتكن إلى الوضوح واليقين.
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله- سبحانه- في الضمير الإنساني. بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئاً من غموض هذه الحقيقة، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة.. حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء «1» ! وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح.
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» ..
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة- بعد الرسل- كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى- عليه السلام- ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد، ولكنها تلبسه بالأساطير، كعقيدة قدماء المصريين- في وقت من الأوقات- بوحدانية الله، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له! هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها. فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة. فلا يكون إنسان عبداً إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله، وما يأمره الله به من الطاعات. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده. فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ويجيء تشريع البشر مستمداً من شريعة الله. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله.. وهكذا إلى آخر
__________
(1) تراجع صفحات 22- 24 من الجزء الأول من الظلال- «دار الشروق» .(1/286)
ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء.
«الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ..
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق. ومن ثم يتفرد الله- سبحانه- بالحياة على هذا المعنى. كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية. ومن ثم يتفرد الله- سبحانه- كذلك بالحياة على هذا المعنى. ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة. فالله- سبحانه- ليس كمثله شيء، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر.. وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر! أما صفة «الْقَيُّومُ» .. فتعني قيامه- سبحانه- على كل موجود. كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكناً إلى وجوده وتدبيره.. لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق- أرسطو- يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته! ويحسب أن في هذا التصور تنزيهاً لله وتعظيماً وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه.. وتركه.. فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي. يقوم على أساس أن الله- سبحانه- قائم على كل شيء، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره.. ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد الذي يصرّف أمره وأمر كل شيء حوله، وفق حكمة وتدبير، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ويستمد منه قيمه وموازينه، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين.
«لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ» ..
وهذا توكيد لقيامه- سبحانه- على كل شيء، وقيام كل شيء به. ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم. في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله- سبحانه- لكل شيء.. «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» .. وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق، وتنزهه- سبحانه- عنهما إطلاقاً..
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة.. حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ويتصور- بقدر ما يملك- قيام الله- سبحانه- عليها وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره.. إنه أمر.. أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني. وما يتصوره منه- وهو يسير- هائل يدير الرؤوس.
ويحير العقول، وتطمئن به القلوب..
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ..
فهي الملكية الشاملة. كما أنها هي الملكية المطلقة.. الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة. وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة. فالله الواحد هو الحي الواحد، القيوم الواحد، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم. كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس. فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء. إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء. ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروط(1/287)
المالك المستخلف في هذه الملكية. وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته فليس لهم أن يخرجوا عنها وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف، ووقعت تصرفاتهم باطلة، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض.. وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه. وحين يقول الله في القرآن الكريم: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك.
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير.. مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك- سبحانه- لما في السماوات وما في الأرض.. مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال: إنه يملكه ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم.. مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع، وحدة الشح والحرص، وحدة التكالب المسعور. وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق والسماحة والجود بالموجود وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ولا يتحرق القلب سعاراً على المرموق المطلوب! «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟» ..
وهذه صفة أخرى من صفات الله توضح مقام الألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعاً يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يقدم بين يدي ربه ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده.. وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله. ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد..
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية. يزيد هذا الإيحاء عمقاً صيغة الاستفهام الاستنكارية التي توحي بأن هذا أمر لا يكون وأنه مستنكر أن يكون. فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟
وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فزعموا لله- سبحانه- خليطاً يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له- سبحانه- انداداً يشفعون عنده فيستجيب لهم حتماً. أو زعموا له- سبحانه- من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له.. في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ولا تجول في الخاطر، ولا تلوح بظلها في خيال! وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي فلا تدع مجالاً لتلبيس أو وهم، أو اهتزاز في الرؤية! الألوهية ألوهية. والعبودية عبودية. ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء. والرب رب، والعبد عبد. ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء.
فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد.. فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكباً ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضاً ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة. دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية. ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة!(1/288)
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ» ..
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه، وفي تحديد مقامه هو من إلهه. فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم. وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم. فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب. كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت. وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه.. أما هم فلا يعلمون شيئاً إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه..
وشطر الحقيقة الأول.. علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم.. من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة. النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها. يعلم ما تضمر علمه بما تجهر. ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل. ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه..
شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عرياناً بكل ما في سريرته أمام الديان كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه.
وشطر الحقيقة الثاني.. أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه.. جدير بأن يتدبره الناس طويلاً، وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة.
«وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ» ..
إنه- سبحانه- هو الذي يعلم وحده كل شيء علماً مطلقاً شاملاً كاملاً. وهو- سبحانه- يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه تصديقاً لوعده الحق: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .. ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه. سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين..
يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك فينسون الإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم. فلا يذكرون ولا يشكرون.
بل يتبجحون وقد يكفرون.
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه. ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق. وصدقه وعده فكشف له يوماً بعد يوم، وجيلاً بعد جيل، في خط يكاد يكون صاعداً أبداً، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة.
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه، بقدر ما زوى عنه أسراراً أخرى لا حاجة له بها في الخلافة.. زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافياً، وما يزال عصياً، وما يزال البحث فيه خبطاً في التيه بلا دليل! وزوى عنه سر اللحظة القادمة. فهي غيب لا سبيل إليه. والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه.. وأحياناً تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ثم يسدل الستر ويسود السكون ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه! وزوى عنه أسراراً كثيرة.. زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض.. والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة..
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم، الذي أحاط به بعد الأذن. يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلهاً! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلهاً! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقاً إلى التواضع(1/289)
والتطامن. فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئاً كثيراً! «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» ..
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق على طريقة القرآن في التعبير التصويري، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقاً وثباتاً. فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك.
فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه. وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية. ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن. وكذلك التعبير بقوله: «وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما» فهو كناية عن القدرة الكاملة. ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة. صورة انعدام الجهد والكلال. لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس.
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيراً من بساطة القرآن ووضوحه «1» .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن. ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان.
«وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ..
وهذه خاتمة الصفات في الآية، تقرر حقيقة، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة. وتفرد الله سبحانه بالعلو، وتفرده سبحانه بالعظمة. فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر. فلم يقل وهو عليّ عظيم، ليثبت الصفة مجرد إثبات. ولكنه قال: «الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك! إنه المتفرد بالعلو، المتفرد بالعظمة. وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون وإلى العذاب في الآخرة والهوان. وهو يقول: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» .. ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: «إِنَّهُ كانَ عالِياً» ..
ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم. وعند ما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه وترده إلى مخافة الله ومهابته وإلى الشعور بجلاله وعظمته وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده.
فهي اعتقاد وتصور. وهي كذلك عمل وسلوك..
256- وعند ما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير.. ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ويقومون بهذه الدعوة وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة:
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: التصوير الفني. وفصل: طريقة القرآن. في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .(1/290)
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
إن قضية العقيدة- كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغصب وإجبار. ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجىء مشاهدها الجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
وكانت المسيحية- آخر الديانات قبل الإسلام- قد فرضت فرضاً بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعاً وحباً! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن- في أول ما يعلن- هذا المبدأ العظيم الكبير:
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني..
التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله- باختياره لعقيدته- أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا- وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون- وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب! إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق «الإنسان» التي يثبت له بها وصف «إنسان» . فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام- وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء- هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين..
فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. نفي الجنس كما يقول النحويون.. أي نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء. فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته.
والنهي في صورة النفي- والنفي للجنس- أعمق إيقاعاً وآكد دلالة.
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه، وتشوقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق،(1/291)
وتبين حقيقة الإيمان التي اعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول:
«قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه. والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به.
والأمر كذلك فعلاً. فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح،، وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة.. ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه، يترك الرشد إلى الغي، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء! ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحاً وتحديداً وبياناً:
«فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها» ..
إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر، وهو «الطاغوت» . وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو «اللَّهُ» .
والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنها الله، ومنه كل منهج غير مستمد من الله، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من الله. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن بالله وحده ويستمد من الله وحده فقد نجا.. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية، ولحقيقة معنوية.. إن الإيمان بالله عروة وثيقة لا تنفصم أبداً.. إنها متينة لا تنقطع.. ولا يضل الممسك بها طريق النجاة.. إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة.. والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود.. حقيقة الله.. واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه الله لهذا الوجود، وقام به هذا الوجود. والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به لا يُبخس ولا يظلم ولا يخيب.
257- ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال.. يصور كيف يأخذ الله- ولي الذين آمنوا- بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت- أولياء الذين كفروا- تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهاباً من هناك. بدلاً من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالاً، ولا يلمس حساً، ولا يستجيش وجداناً، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا(1/292)
ذهنياً أياً كان. لنقل مثلاً: الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران.. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع «1» !.
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة:
«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» ..
إن الإيمان نور.. نور واحد في طبيعته وحقيقته.. وإن الكفر ظلمات.. ظلمات متعددة متنوعة. ولكنها كلها ظلمات.
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور، والتعبير عن الكفر بالظلمة.
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره. تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نوراً ووضاءة ووضوحاً.. نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش، بينة بغير لبس، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه.. نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ويمضي في طريقه إلى الله هيناً ليناً لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات، ولا يخبط هنا وهناك. فالطريق في فطرته مكشوف معروف.
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد. فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة.. ظلمة الهوى والشهوة.
وظلمة الشرود والتيه. وظلمة الكبر والطغيان. وظلمة الضعف والذلة. وظلمة الرياء والنفاق. وظلمة الطمع والسعر. وظلمة الشك والقلق ... وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله، والتلقي من غير الله، والاحتكام لغير منهج الله.. وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد. نور الحق الواحد الذي لا يتلبس. حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف.. وكلها ظلمات..!
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات:
«أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. وإذ لم يهتدوا بالنور، فليخلدوا إذن في النار! إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
وقبل أن ننتقل من هذا الدرس يحسن أن نقول كلمة عن قاعدة: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» إلى جوار فرضية الجهاد في الإسلام، والمواقع التي خاضها الإسلام. وقوله تعالى في آية سابقة: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» ..
إن بعض المغرضين من أعداء الإسلام يرمونه بالتناقض فيزعمون أنه فرض بالسيف، في الوقت الذي قرر فيه: أن لا إكراه في الدين.. أما بعضهم الآخر فيتظاهر بأنه يدفع عن الإسلام هذه التهمة وهو يحاول في خبث أن يخمد في حس المسلم روح الجهاد ويهون من شأن هذه الأداة في تاريخ الإسلام وفي قيامه وانتشاره.
ويوحي إلى المسلمين- بطريق ملتوية ناعمة ماكرة- أن لا ضرورة اليوم أو غدا للاستعانة بهذه الأداة!
__________
(1) يراجع بتوسع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق» .(1/293)
وذلك كله في صورة من يدفع التهمة الجارحة عن الإسلام «1» ! ..
وهؤلاء وهؤلاء كلاهما من المستشرقين الذين يعملون في حقل واحد في حرب الإسلام، وتحريف منهجه، وقتل إيحاءاته الموحية في حس المسلمين، كي يأمنوا انبعاث هذا الروح، الذي لم يقفوا له مرة في ميدان! والذي أمنوا واطمأنوا منذ أن خدروه وكبلوه بشتى الوسائل، وكالوا له الضربات الساحقة الوحشية في كل مكان! وألقوا في خلد المسلمين أن الحرب بين الاستعمار وبين وطنهم ليست حرب عقيدة أبداً تقتضي الجهاد! إنما هي فقط حرب أسواق وخامات ومراكز وقواعد.. ومن ثم فلا داعي للجهاد! لقد انتضى الإسلام السيف، وناضل وجاهد في تاريخه الطويل. لا ليكره أحداً على الإسلام ولكن ليكفل عدة أهداف كلها تقتضي الجهاد.
جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم. وقرر ذلك المبدأ العظيم الذي سلف تقريره في هذه السورة- في الجزء الثاني- «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» .. فاعتبر الاعتداء على العقيدة والإيذاء بسببها، وفتنة أهلها عنها أشد من الاعتداء على الحياة ذاتها. فالعقيدة أعظم قيمة من الحياة وفق هذا المبدأ العظيم. وإذا كان المؤمن مأذوناً في القتال ليدفع عن حياته وعن ماله، فهو من باب أولى مأذون في القتال ليدفع عن عقيدته ودينه.. وقد كان المسلمون يسامون الفتنة عن عقيدتهم ويؤذون، ولم يكن لهم بد أن يدفعوا هذه الفتنة عن أعز ما يملكون. يسامون الفتنة عن عقيدتهم، ويؤذون فيها في مواطن من الأرض شتى. وقد شهدت الأندلس من بشاعة التعذيب الوحشي والتقتيل الجماعي لفتنة المسلمين عن دينهم، وفتنة أصحاب المذاهب المسيحية الأخرى ليرتدوا إلى الكثلكة، ما ترك اسبانيا اليوم ولا ظل فيها للإسلام! ولا للمذاهب المسيحية الأخرى ذاتها! كما شهد بيت المقدس وما حوله بشاعة الهجمات الصليبية التي لم تكن موجهة إلا للعقيدة والإجهاز عليها والتي خاضها المسلمون في هذه المنطقة تحت لواء العقيدة وحدها فانتصروا فيها وحموا هذه البقعة من مصير الأندلس الأليم.. وما يزال المسلمون يسامون الفتنة في أرجاء المناطق الشيوعية والوثنية والصهيونية والمسيحية «2» في أنحاء من الأرض شتى.. وما يزال الجهاد مفروضاً عليهم لرد الفتنة إن كانوا حقاً مسلمين! وجاهد الإسلام ثانياً لتقرير حرية الدعوة- بعد تقرير حرية العقيدة- فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود والحياة، وبأرقى نظام لتطوير الحياة. جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ويبلغه إلى أسماعها وإلى قلوبها. فمن شاء بعد البيان والبلاغ فليؤمن ومن شاء فليكفر. ولا إكراه في الدين. ولكن ينبغي قبل ذلك أن تزول العقبات من طريق إبلاغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من عند الله للناس كافة. وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا. ومن هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الأرض تصد الناس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضاً. فجاهد الإسلام ليحطم هذه النظم الطاغية وليقيم مكانها نظاماً عادلاً يكفل حرية الدعوة إلى الحق في كل مكان وحرية الدعاة..
وما يزال هذا الهدف قائماً، وما يزال الجهاد مفروضاً على المسلمين ليبلغوه إن كانوا مسلمين!
__________
(1) في مقدمة هؤلاء سيرت. و. أرنولد صاحب كتاب: «الدعوة إلى الإسلام» ترجمة الدكتور إبراهيم حسن وأخيه.
(2) تراجع في كتاب «دراسات إسلامية» للمؤلف الفصول الخمسة بعنوان: «المسلمون متعصبون!!!» «دار الشروق» .(1/294)
وجاهد الإسلام ثالثاً ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه.. وهو وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع. إنما هنالك رب واحد للناس جميعاً هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء. فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون منفذاً لشريعة الله، موكلاً عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ. حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء، لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد! هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام. وعلى هذه القاعدة يقوم نظام أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيا كانت عقيدته. ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ.
جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية- بغير حق- ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء. ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقاً ليعلن نظامه الرفيع في الأرض.. ثم يدع الناس في ظله أحراراً في عقائدهم الخاصة.
لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار.
وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار، يزاولونها وفق عقائدهم والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم، في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضاً على المسلمين: «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» .. فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض، ولا دينونة لغير الله «1» ..
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ولم ينتشر بالسيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه! إنما جاهد ليقيم نظاماً آمناً يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعاً، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته.
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية، ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين! ..
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
__________
(1) لزيادة الإيضاح في شأن الجهاد يراجع كتاب «الجهاد» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي وكتاب: «السلام العالمي في الإسلام» للمؤلف. «دار الشروق» .(1/295)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. نعم ولكن: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ. وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» ..
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام.. وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم، وحقيقة تاريخهم فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعاً، وعلى نظم الأرض جميعاً، وعلى مذاهب الأرض جميعاً.. ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه، ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية، الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت.
وإلى أن ترشد البشرية وتعقل، يجب أن يطارده المؤمنون، الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان، فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها، وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله..
[سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 260]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعاً واحداً في جملته: سر الحياة والموت، وحقيقة الحياة والموت. وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء وتتصل اتصالاً مباشراً بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى.. وهي جميعاً تمثل جانباً من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه.(1/296)
الجزء الثالث الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالاً بصيراً، منبثقاً من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائماً على اليقين الثابت المطمئن. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب.. ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود.. ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعاً.
258- والآية الأولى تحكي حواراً بين إبراهيم- عليه السلام- وملك في أيامه يجادله في الله. لا يذكر السياق اسمه، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئاً. وهذا الحوار يعرض على النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل، الذي حاج إبراهيم في ربه وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ! قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكراً لوجود الله أصلاً إنما كان منكراً لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له انداداً ينسبون إليها فاعلية وعملاً في حياتهم! وكذلك كان منكراً أن الحاكمية لله وحده، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع.
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر. هذا السبب هو «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» .. وجعل في يده السلطان! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف، لولا أن الملك يُطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله، ولا يدركون مصدر الإنعام. ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين! فهم حاكمون لأن الله حكمهم، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم. فهم كالناس عبيد لله، يتلقون مثلهم الشريعة من الله، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء! ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ؟» ..
ألم تر؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء.
فالفعلة منكرة حقاً: أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله.
«قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة، المعروضتان لحس الإنسان وعقله. وهما- في الوقت نفسه- السر الذي يحير، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري. وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق. ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز(1/297)
عنه كل الأحياء.
إننا لا نعرف شيئاً عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة. ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات. ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق.. قوة الله..
ومن ثم عرّف إبراهيم- عليه السلام- ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا يمكن أن يزعمها أحد. وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره.. قال: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» فهو من ثم الذي يحكم ويشرع.
وما كان إبراهيم- عليه السلام- وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء- ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء. فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه. ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكماً لقومه وقادراً على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهراً من مظاهر الربوبية، فقال لإبراهيم: أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته:
«قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» ! عند ذلك لم يرد إبراهيم- عليه السلام- أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة. حقيقة منح الحياة وسلبها. هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئاً.. وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية، إلى سنة أخرى ظاهرة مرثية وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» .. إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض، إنما هو مصرف هذا الكون كله. ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم:
«قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» ..
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ولا تتخلف مرة ولا تتأخر وهي شاهد يخاطب الفطرة- حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئاً عن تركيب هذا الكون، ولم يتعلم شيئاً من حقائق الفلك ونظرياته- والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه. ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:
«فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» ..
فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم، أو الجدال والمراء.. وكان التسليم أولى والإيمان أجدر. ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر، فيبهت ويبلس ويتحير. ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية، ولم يرغب في الحق ولم يلتزم القصد والعدل:
«وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة. مثلاً للضلال والعناد وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين وفي ترويض النفوس على تعنت(1/298)
المنكرين! كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع: «رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ..
«فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!» .. حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق. حقيقتان كونيتان هائلتان وهما- مع ذلك- مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار.
لا تحتاجان إلى علم غزير، ولا إلى تفكير طويل. فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين. إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم، ولا تستقيم بدونه حياتهم، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم.. ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم.. يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع، والتي تفرض نفسها فرضاً على الفطرة، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجئ إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد! والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري. فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء- كما يبحث عن التناسل والتكاثر- بحثاً فطرياً، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج، أو حتى ينمو العلم ويغزر.. وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار.. والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء. ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق.
259- وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:
«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، قالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ. قالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ! قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ- وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ- وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
من هو «كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ» ؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها؟ إن القرآن لم يفصح عنهما شيئاً، ولو شاء الله لأفصح، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن. فلنقف نحن- على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قوياً واضحاً موحياً. مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف: «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .. محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية. هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..
إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر.
«أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ..
كيف تدب الحياة في هذا الموات؟(1/299)
«فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ. ثُمَّ بَعَثَهُ» ..
لم يقل له كيف. إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحياناً من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان.. إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلىء بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام! «قالَ: كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ!» ..
وما يدريه كم لبث والإحساس بالزمن لا يكون إلا مع الحياة والوعي؟ على أن الحس الإنساني ليس هو المقياس الدقيق للحقيقة فهو يخدع ويضل فيرى الزمن الطويل المديد قصيراً لملابسة طارئة كما يرى اللحظة الصغيرة دهراً طويلاً لملابسة طارئة كذلك! «قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» ..
وتبعاً لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسية واقعية، نتصور أنه لا بد كانت هنالك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام.. هذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعام الرجل ولا شرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين:
«فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ» ..
وإذن فلا بد أن هذه الآثار المحسوسة كانت متمثلة في شخصه أو في حماره:
«وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ- وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ- وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» ..
أية عظام؟ عظامه هو؟ لو كان الأمر كذلك- كما يقول بعض المفسرين إن عظامه هي التي تعرت من اللحم- للفت هذا نظره عند ما استيقظ، ووخز حسه كذلك، ولما كانت إجابته: «لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» .
لذلك نرجح أن الحمار هو الذي تعرت عظامه وتفسخت. ثم كانت الآية هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن. ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها! أما كيف وقعت الخارقة؟ فكما تقع كل خارقة! كما وقعت خارقة الحياة الأولى. الخارقة التي ننسى كثيراً أنها وقعت، وأننا لا ندري كيف وقعت! ولا ندري كذلك كيف جاءت إلا أنها جاءت من عند الله بالطريق التي أرادها الله.. وهذا «دارون» أكبر علماء الحياة يظل ينزل في نظريته بالحياة درجة درجة، ويتعمق أغوارها قاعاً قاعاً، حتى يردها إلى الخلية الأولى.. ثم يقف بها هناك. إنه يجهل مصدر الحياة في هذه الخلية الأولى. ولكنه لا يريد أن يسلم بما ينبغي أن يسلم به الإدراك البشري، والذي يلح على المنطق الفطري إلحاحاً شديداً. وهو أنه لا بد من واهب وهب الحياة لهذه الخلية الأولى. لا يريد أن يسلم لأسباب ليست علمية وإنما هي تاريخية في صراعه مع الكنيسة! فإذا به يقول: «إن تفسير شؤن الحياة بوجود خالق يكون بمثابة ادخال عنصر خارق للطبيعة في وضع ميكانيكي بحت!» ..
أي وضع ميكانيكي! إن الميكانيكية هي أبعد شيء عن هذا الأمر الذي يفرض على الإدراك فرضاً أن يبحث عن مصدر لهذا السر القائم تجاه الأبصار والبصائر!(1/300)
وإنه- هو نفسه- ليجفل من ضغط المنطق الفطري، الذي يلجىء الإدراك البشري إلجاء إلى الاعتراف بما وراء الخلية الأولى، فيرجع كل شيء إلى «السبب الأول» ! ولا يقول: ما هو هذا السبب الأول؟ ما هو هذا السبب الذي يملك إيجاد الحياة أول مرة، ثم يملك- حسب نظريته هو وهي محل نظر طويل- توجيه الخلية الأولى في طريقها الذي افترض هو أنها سارت فيه صعداً، دون أي طريق آخر غير الذي كان! إنه الهروب والمراء والمحال «1» !!! ونعود إلى خارقة القرية لنسأل: وما الذي يفسر أن ينال البلى شيئاً ويترك شيئاً في مكان واحد وفي ظروف واحدة؟ إن خارقة خلق الحياة أول مرة أو خارقة رجعها كذلك لا تفسر هذا الاختلاف في مصائر أشياء ذات ظروف واحدة.
إن الذي يفسر هذه الظاهرة هو طلاقة المشيئة.. طلاقتها من التقيد بما نحسبه نحن قانوناً كلياً لازماً ملزماً لا سبيل إلى مخالفته أو الاستثناء منه! وحسباننا هذا خطأ بالقياس إلى المشيئة المطلقة: خطأ منشؤه أننا نفرض تقديراتنا نحن ومقرراتنا العقلية أو «العلمية!» على الله سبحانه! وهو خطأ يتمثل في أخطاء كثيرة:
فأولاً: ما لنا نحن نحاكم القدرة المطلقة إلى قانون نحن قائلوه؟ قانون مستمد من تجاربنا المحدودة الوسائل، ومن تفسيرنا لهذه التجارب ونحن محدود والإدراك؟
وثانياً: فهبه قانوناً من قوانين الكون أدركناه. فمن ذا الذي قال لنا: إنه قانون نهائي كلي مطلق، وأن ليس وراءه قانون سواه؟
وثالثاً: هبه كان قانوناً نهائياً مطلقاً. فالمشيئة الطليقة تنشئ القانون ولكنها ليست مقيدة به.. إنما هو الاختيار في كل حال.
وكذلك تمضي هذه التجربة، فتضاف إلى رصيد أصحاب الدعوة الجدد، وإلى رصيد التصور الإيماني الصحيح، وتقرر- إلى جانب حقيقة الموت والحياة وردهما إلى الله- حقيقة أخرى هي التي أشرنا إليها قريباً.
حقيقة طلاقة المشيئة، التي يعنى القرآن عناية فائقة بتقريرها في ضمائر المؤمنين به، لتتعلق بالله مباشرة، من وراء الأسباب الظاهرة، والمقدمات المنظورة. فالله فعال لما يريد. وهكذا قال الرجل الذي مرت به التجربة:
«فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
260- ثم تجيء التجربة الثالثة. تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى! وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية. وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل.. حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحياناً من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين!
__________
(1) يراجع بتوسع فصل «فرويد» في كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» (دار الشروق) .(1/301)
إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره وليس طلباً للبرهان أو تقوية للإيمان.. إنما هو أمر آخر، له مذاق آخر.. إنه أمر الشوق الروحي، إلى ملابسة السر الإلهي، في أثناء وقوعه العملي.
ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل، الذي يقول لربه، ويقول له ربه. وليس وراء هذا إيمان، ولا برهان للإيمان. ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها.. وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان.
وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع:
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى! وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» ..
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف.
ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله. ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب! ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:
«قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه ويميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن. وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة. ثم يدعوهن.
فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات.. وقد كان طبعاً..
ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه. وهو السر الذي يقع في كل لحظة. ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه. إنه سر هبة الحياة. الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد.
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه.. طيور فارقتها الحياة، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة. تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعياً! كيف؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه. إنه قد يراه كما رآه إبراهيم. وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن. ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته. إنه من أمر الله. والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم. ولا حاجة لهم به في خلافتهم.
إنه الشأن الخاص للخالق. الذي لا تتطاول إليه أعناق المخلوقين. فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب. وضاعت الجهود سدى، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب!(1/302)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 274]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)(1/303)
كانت الدروس الثلاثة الماضية في هذا الجزء تدور- في جملتها- حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني وإيضاح هذا التصور وتعميق جذوره في نواح شتى. وكان هذا محطاً في خط السورة الطويلة التي تعالج- كما أسلفنا- إعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية.
ومنذ الآن إلى قرب نهاية السورة يتعرض السياق لإقامة قواعد النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي يريد الإسلام أن يقوم عليها المجتمع المسلم وأن تنظم بها حياة الجماعة المسلمة. إنه نظام التكافل والتعاون الممثل في الزكاة المفروضة والصدقات المتروكة للتطوع. وليس النظام الربوي الذي كان سائداً في الجاهلية. ومن ثم يتحدث عن آداب الصدقة. ويلعن الربا، ويقرر أحكام الدين والتجارة في الدروس الآتية في السورة. وهي تكون في مجموعها جانباً أساسياً من نظام الاقتصاد الإسلامي والحياة الاجتماعية التي تقوم عليها. وبين الدروس الثلاثة الآتية صلة وثيقة فهي ذات موضوع واحد متشعب الأطراف.. موضوع النظام الاقتصادي الإسلامي.
وفي هذا الدرس نجد الحديث عن تكليف البذل والإنفاق، ودستور الصدقة والتكافل. والإنفاق في سبيل الله هو صنو الجهاد الذي فرضه الله على الأمة المسلمة، وهو يكلفها النهوض بأمانة الدعوة إليه، وحماية المؤمنين به، ودفع الشر والفساد والطغيان، وتجريده من القوة التي يسطو بها على المؤمنين، ويفسد بها في الأرض، ويصد بها عن سبيل الله، ويحرم البشرية ذلك الخير العظيم الذي يحمله إليها نظام الإسلام، والذي يعد حرمانها منه جريمة فوق كل جريمة، واعتداء أشد من الاعتداء على الأرواح والأموال.
ولقد تكررت الدعوة إلى الإنفاق في السورة. فالآن يرسم السياق دستور الصدقة في تفصيل وإسهاب.
يرسم هذا الدستور مظللاً بظلال حبيبة أليفة ويبين آدابها النفسية والاجتماعية. الآداب التي تحول الصدقة عملاً تهذيبياً لنفس معطيها وعملاً نافعاً مربحاً لآخذيها وتحوّل المجتمع عن طريقها إلى أسرة يسودها التعاون والتكافل، والتواد والتراحم وترفع البشرية إلى مستوى كريم: المعطي فيه والآخذ على السواء.
ومع أن التوجيهات التي وردت في هذا الدرس تعد دستوراً دائماً غير مقيد بزمن ولا بملابسات معينة، إلا أنه لا يفوتنا أن نلمح من ورائه أنه جاء تلبية لحالات واقعة كانت النصوص تواجهها في الجماعة المسلمة يومذاك- كما أنها يمكن أن تواجهها في أي مجتمع مسلم فيما بعد- وأنه كانت هناك نفوس شحيحة ضنينة بالمال تحتاج إلى هذه الإيقاعات القوية، والإيحاءات المؤثرة كما تحتاج إلى ضرب الأمثال، وتصوير الحقائق في مشاهد ناطقة كيما تبلغ إلى الأعماق! كان هناك من يضن بالمال. فلا يعطيه إلا بالربا. وكان هناك من ينفقه كارهاً أو مرائياً. وكان هناك من يتبع النفقة بالمن والأذى. وكان هناك من يقدم الرديء من ماله ويحتجز الجيد.. وكل هؤلاء إلى جانب المنفقين في سبيل الله مخلصين له، الذين يجودون بخير أموالهم، وينفقون سراً في موضع السر وعلانية في موضع العلانية في تجرد وإخلاص ونقاء..
كان هؤلاء وكان أولئك في الجماعة المسلمة حينذاك. وإدراك هذه الحقيقة يفيدنا فوائد كثيرة..
يفيدنا أولاً في إدراك طبيعة هذا القرآن ووظيفته. فهو كائن حي متحرك. ونحن نراه في ظل هذه الوقائع يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ويواجه حالات واقعة فيدفع هذه ويقر هذه ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها. فهو في عمل دائب، وفي حركة دائبة.. إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة.. وهو العنصر(1/304)
الدافع المحرك الموجه في الميدان! ونحن أحوج ما نكون إلى الإحساس بالقرآن على هذا النحو وإلى رؤيته كائناً حياً متحركاً دافعاً. فقد بعد العهد بيننا وبين الحركة الإسلامية والحياة الإسلامية والواقع الإسلامي وانفصل القرآن في حسنا عن واقعه التاريخي الحي ولم يعد يمثل في حسنا تلك الحياة التي وقعت يوماً ما على الأرض، في تاريخ الجماعة المسلمة ولم نعد نذكر أنه كان في أثناء تلك المعركة المستمرة هو «الأمر اليومي» للمسلم المجند وهو التوجيه الذي يتلقاه للعمل والتنفيذ.. مات القرآن في حسنا.. أو نام.. ولم تعد له تلك الصورة الحقيقية التي كانت له عند نزوله في حس المسلمين. ودرجنا على أن نتلقاه إما ترتيلاً منغماً نطرب له، أو نتأثر التأثر الوجداني الغامض السارب! وإما أن نقرأه أوراداً أقصى ما تصنع في حس المؤمنين الصادقين منا أن تنشئ في القلب حالة من الوجد أو الراحة أو الطمأنينة المبهمة المجملة.. والقرآن ينشىء هذا كله. ولكن المطلوب- إلى جانب هذا كله- أن ينشىء في المسلم وعياً وحياة. نعم المطلوب أن ينشىء حالة وعي يتحرك معها القرآن حركة الحياة التي جاء لينشئها. المطلوب أن يراه المسلم في ميدان المعركة التي خاضها، والتي لا يزال مستعداً لأن يخوضها في حياة الأمة المسلمة. المطلوب أن يتوجه إليه المسلم ليسمع منه ماذا ينبغي أن يعمل- كما كان المسلم الأول يفعل- وليدرك حقيقة التوجيهات القرآنية فيما يحيط به اليوم من أحداث ومشكلات وملابسات شتى في الحياة وليرى تاريخ الجماعة المسلمة ممثلاً في هذا القرآن، متحركاً في كلماته وتوجيهاته فيحس حينئذ أن هذا التاريخ ليس غريباً عنه. فهو تاريخه. وواقعه اليوم هو امتداد لهذا التاريخ. وما يصادفه اليوم من أحداث هو ثمرة لما صادف أسلافه، مما كان القرآن يوجههم إلى التصرف فيه تصرفاً معيناً. ومن ثم يحس أن هذا القرآن قرآنه هو كذلك. قرآنه الذي يستثيره فيما يعرض له من أحداث وملابسات وأنه هو دستور تصوره وتفكيره وحياته وتحركاته الآن وبعد الآن بلا انقطاع.
ويفيدنا ثانياً في رؤية حقيقة الطبيعة البشرية الثابتة المطردة تجاه دعوة الإيمان وتكاليفها. رؤيتها رؤية واقعية من خلال الواقع الذي تشير إليه الآيات القرآنية في حياة الجماعة المسلمة الأولى.. فهذه الجماعة التي كان يتنزل عليها القرآن، ويتعهدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فيها بعض مواضع الضعف والنقص التي تقتضي الرعاية والتوجيه والإيحاء المستمر ولم يمنعها هذا أن تكون خير الأجيال جميعاً.. وإدراك هذه الحقيقة ينفعنا. ينفعنا لأنه يرينا حقيقة الجماعات البشرية بلا غلو ولا مبالغة ولا هالات ولا تصورات مجنحة! وينفعنا لأنه يدفع عن نفوسنا اليأس من أنفسنا حين نرى أننا لم نبلغ تلك الآفاق التي يرسمها الإسلام ويدعو الناس إلى بلوغها. فيكفي أن نكون في الطريق، وأن تكون محاولتنا مستمرة ومخلصة للوصول.. وينفعنا في إدراك حقيقة أخرى: وهي أن الدعوة إلى الكمال يجب أن تلاحق الناس، ولا تفتر ولا تني ولا تيئس إذا ظهرت بعض النقائص والعيوب. فالنفوس هكذا. وهي ترتفع رويداً رويداً بمتابعة الهتاف لها بالواجب، ودعوتها إلى الكمال المنشود، وتذكيرها الدائم بالخير، وتجميل الخير لها وتقبيح الشر، وتنفيرها من النقص والضعف، والأخذ بيدها كلما كبتْ في الطريق، وكلما طال بها الطريق! ويفيدنا ثالثاً في الاستقرار إلى هذه الحقيقة البسيطة التي كثيراً ما نغفل عنها وننساها: وهي أن الناس هم الناس والدعوة هي الدعوة والمعركة هي المعركة.. إنها أولاً وقبل كل شيء معركة مع الضعف والنقص والشح والحرص في داخل النفس. ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة. والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها. ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها بطرفيها كما واجهها(1/305)
القرآن أول مرة وواجهها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا بد من الأخطاء والعثرات. ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق ولا بد من المضي أيضاً في علاج الضعف والنقص كلما أظهر تهما الأحداث والتجارب. ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه.. وهنا نرجع إلى أول الحديث. نرجع إلى استشارة القرآن في حركات حياتنا وملابساتها. وإلى رؤيته يعمل ويتحرك في مشاعرنا وفي حياتنا كما كان يعمل ويتحرك في حياة الجماعة الأولى..
والآن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس تفصيلاً:
261- «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ. وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
إن الدستور لا يبدأ بالفرض والتكليف إنما يبدأ بالحض والتأليف.. إنه يستجيش المشاعر والانفعالات الحية في الكيان الإنساني كله.. إنه يعرض صورة من صور الحياة النابضة النامية المعطية الواهبة: صورة الزرع. هبة الأرض أو هبة الله. الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض هذه الصورة الموحية مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله:
«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» ..
إن المعنى الذهني للتعبير ينتهي إلى عملية حسابية تضاعف الحبة الواحدة إلى سبعمائة حبة! أما المشهد الحي الذي يعرضه التعبير فهو أوسع من هذا وأجمل وأكثر استجاشة للمشاعر، وتأثيراً في الضمائر.. إنه مشهد الحياة النامية. مشهد الطبيعة الحية. مشهد الزرعة الواهبة. ثم مشهد العجيبة في عالم النبات: العود الذي يحمل سبع سنابل. والسنبلة التي تحوي مائة حبة! وفي موكب الحياة النامية الواهبة يتجه بالضمير البشري إلى البذل والعطاء. إنه لا يعطي بل يأخذ وإنه لا ينقص بل يزاد.. وتمضي موجة العطاء والنماء في طريقها. تضاعف المشاعر التي استجاشها مشهد الزرع والحصيلة.. إن الله يضاعف لمن يشاء. يضاعف بلا عدة ولا حساب. يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها:
«وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
واسع.. لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب. عليم.. يعلم بالنوايا ويثبت عليها، ولا تخفى عليه خافية.
262- ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو؟ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء؟
إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها. الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعوراً.
الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه:
«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
والمن عنصر كريه لئيم، وشعور خسيس واطٍ. فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاء(1/306)
الكاذب، أو رغبة في إذلال الآخذ، أو رغبة في لفت أنظار الناس. فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء..
وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن.. فالمن- من ثم- يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء. أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ورغبة في رؤية أخيه ذليلاً له كسيراً لديه وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله.. وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد فعل بالحقد والانتقام.. وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة، وملء البطن، وتلافي الحاجة..
كلا! إنما أراده تهذيباً وتزكية وتطهيراً لنفس المعطي واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية وتذكيراً له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة، وأن ينفق منها «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» في غير منع ولا من. كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقاً لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية وسداً لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها. والمن يذهب بهذا كله، ويحيل الإنفاق سماً وناراً. فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان. هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد.
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام! وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ويظل هذا الشعور يحز في نفسه فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه وإضمار العداوة له لأنه يشعر دائماً بضعفه ونقصه تجاهه ولأن المعطي يريد منه دائماً أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء! وقد يكون هذا كله صحيحاً في المجتمعات الجاهلية- وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام- أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر. عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله.. وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الزرق البعيدة والقريبة، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء. وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء. وكلها ليست في مقدور الإنسان..
وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء.. فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافاً كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسبباً لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها، توكيداً لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ. فكلاهما آكل من رزق الله. وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه:
«وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» ..
من فقر ولا من حقد ولا من غبن..
«وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..(1/307)
على ما أنفقوا في الدنيا، ولا على مصيرهم في الآخرة.
263- وتوكيداً للمعنى الذي سلف من حكمة الإنفاق والبذل. توكيداً لأن الغرض هو تهذيب النفوس، وترضية القلوب، وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله.. يقول في الآية التالية:
«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً. وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ» ..
فيقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح. كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضى والبشاشة. ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة.
فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة: من تهذيب النفوس وتأليف القلوب.
ولأن الصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله.. عقب على هذا بقوله:
«وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ» ..
غني عن الصدقة المؤذية. حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكرون، فلا يعجلهم بالعقاب ولا يبادرهم بالإيذاء وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء- فليتعلم عباده من حلمه- سبحانه- فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزاء مما أعطاه الله لهم. حين لا يروقهم منهم أمر، أولا ينالهم منهم شكر! وما يزال هذا القرآن يذكر الناس بصفة الله سبحانه ليتأدبوا منها بما يطيقون وما يزال أدب المسلم تطلعاً لصفة ربه، وارتقاء في مصاعدها، حتى ينال منها ما هو مقسوم له، مما تطيقه طبيعته.
264- وعند ما يصل التأثر الوجداني غايته.. بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلاً للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى، وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة، وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى.. عند ما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك، يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى. ويرسم لهم مشهداً عجيباً- أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول. مشهد الزرع والنماء. ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله، والإنفاق المشوب بالمن والأذى. على طريقة التصوير الفني في القرآن، التي تعرض المعنى صورة، والأثر حركة، والحالة مشهداً شاخصاً للخيال:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى، كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ، وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ، فَأَصابَهُ وابِلٌ، فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ. أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
هذا هو المشهد الأول..
مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلاً ووضعاً وثمرة. وفي كل منظر جزئيات، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.
نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد:(1/308)
«كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله «صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ» حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان..
«فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً» ..
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمرة..
كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيراً ولم يعقب مثوبة! 265- أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد.. فقلب عامر بالإيمان، ندي ببشاشته. ينفق ماله «ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» ..
وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير.. وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة. جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان. جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها..
«أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ» ..
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء. وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو:
«فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ» .. غزير.. «فَطَلٌّ» من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل! إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب..
ولما كان المشهد مجالاً للبصر والبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب:
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
266- فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقاً في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عوناً، ولا يستطيع لذلك المحق رداً. تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء:
«أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ؟ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» ..
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات:(1/309)
«جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ..
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة.. وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها.. كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية. كذلك هي ذات روح وظل، وذات خير وبركة، وذات غذاء وري، وذات زكاة ونماء! فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة- أو هذه الحسنة- ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقاً، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟
ومتى؟ في أشد ساعاته عجزاً عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها ونعمائها! «وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ. فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» ..
من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟
«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» ..
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة وما فيه من نضارة وروح وجمال. ثم بما يعصف به عصفاً من إعصار فيه نار.. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالاً للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار! وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه..
هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها.. إنها جميعاً تعرض في محيط متجانس. محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل. صفوان عليه تراب فأصابه وابل. جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين. جنة من نخيل وأعناب.. حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير.
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير.. حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء. وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء.
إنه القرآن.. كلمة الجميلة.. من لدن حكيم خبير..
267- ويمضي السياق خطوة أخرى في دستور الصدقة. ليبين نوعها وطريقتها، بعد ما بين آدابها وثمارها:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» ..
إن الأسس التي تكشفت النصوص السابقة عن أن الصدقة تقوم عليها وتنبعث منها لتقتضي أن يكون الجود بأفضل الموجود فلا تكون بالدون والرديء الذي يعافه صاحبه ولو قدم إليه مثله في صفقة ما قبله إلا أن ينقص من قيمته. فالله أغنى عن تقبل الرديء الخبيث! وهو نداء عام للذين آمنوا- في كل وقت وفي كل جيل- يشمل جميع الأموال التي تصل إلى أيديهم.
تشمل ما كسبته أيديهم من حلال طيب، وما أخرجه الله لهم من الأرض من زرع وغير زرع مما يخرج من الأرض(1/310)
ويشمل المعادن والبترول. ومن ثم يستوعب النص جميع أنواع المال، ما كان معهوداً على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- وما يستجد. فالنص شامل جامع لا يفلت منه مال مستحدث في أي زمان. وكله مما يوجب النص فيه الزكاة. أما المقادير فقد بينتها السنة في أنواع الأموال التي كانت معروفة حينذاك. وعليها يقاس وبها يلحق ما يجد من أنواع الأموال.
وقد وردت الروايات بسبب لنزول هذه الآية ابتداء، لا بأس من ذكره، لاستحضار حقيقة الحياة التي كان القرآن يواجهها وحقيقة الجهد الذي بذله لتهذيب النفوس ورفعها إلى مستواه..
روى ابن جرير- بإسناده- عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- قال: «نزلت في الأنصار. كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ «1» النخل أخرجت من حيطانها «2» البسر «3» فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين «4» في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف «5» فيدخله مع قناء البسر، يظن أن ذلك جائز. فأنزل الله فيمن فعل ذلك: «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» ..
وكذلك رواه الحاكم عن البراء وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
ورواه ابن أبي حاتم- بإسناده عن طريق آخر- عن البراء- رضي الله عنه- قال: نزلت فينا. كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي رجل بالقنو، فيعلقه في المسجد. وكان أهل الصفة ليس لهم طعام. فكان أحدهم إذا جاع جاء فضرب بعصاه، فسقط منه البسر والتمر فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص «6» ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» . قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء. فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
والروايتان قريبتان. وكلتاهما تشير إلى حالة واقعة في المدينة وترينا صفحة تقابل الصفحة الأخرى التي خطها الأنصار في تاريخ البذل السمح والعطاء الفياض. وترينا أن الجماعة الواحدة تكون فيها النماذج العجيبة السامقة، والنماذج الأخرى التي تحتاج إلى تربية وتهذيب وتوجيه لتتجه إلى الكمال! كما احتاج بعض الأنصار إلى النهي عن القصد إلى الرديء من أموالهم، الذي لا يقبلونه عادة في هدية إلا حياء من رده ولا في صفقة إلا بإغماض فيه أي: نقص في القيمة! بينما كانوا يقدمونه هم لله! ومن ثم جاء هذا التعقيب:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» ..
غني عن عطاء الناس إطلاقاً. فإذا بذلوه فإنما يبذلونه لأنفسهم فليبذلوه طيباً، وليبذلوه طيبة به نفوسهم كذلك.
حميد.. يتقبل الطيبات ويحمدها ويجزي عليها بالحسنى..
ولكل صفة من الصفتين في هذا الموضع إيحاء يهز القلوب. كما هز قلوب ذلك الفريق من الأنصار فعلاً.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ..» .. وإلا فالله غني عن الخبيث الذي تقصدون إليه
__________
(1) جذاذ النخل: قطع ثماره.
(2) حيطانها: أي بساتينها.
(3) البسر: التمر إذا لون ولم ينضج.
(4) الأسطوانتين: العمودين.
(5) الحشف: أردأ التمر. [.....]
(6) الشيص: تمر رديء.(1/311)
فتخرجون منه صدقاتكم! بينما هو- سبحانه- يحمد لكم الطيب حين تجرجونه ويجزيكم عليه جزاء الراضي الشاكر.
وهو الله الرازق الوهاب.. يجزيكم عليه جزاء الحمد وهو الذي أعطاكم إياه من قبل! أي إيحاء! وأي إغراء! وأي تربية للقلوب بهذا الأسلوب العجيب! 268- ولما كان الكف عن الإنفاق، أو التقدم بالرديء الخبيث، إنما ينشأ عن دوافع السوء، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفساً تتصل بالله، وتعتمد عليه، وتدرك أن مرد ما عندها إليه.. كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية، وليعرفوا من أين تنبت النفوس وما الذي يثيرها في القلوب.. إنه الشيطان..
«الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب. والشيطان يأمركم بالفحشاء- والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة. وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة.. على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة..
وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء:
«وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا» ..
ويقدم المغفرة، ويؤخر الفصل.. فالفضل زيادة فوق المغفرة. وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض، جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق.
«وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ..
269- يعطي عن سعة، ويعلم ما يوسوس في الصدور، وما يهجس في الضمير، والله لا يعطي المال وحده، ولا يعطي المغفرة وحدها. إنما يعطي «الحكمة» وهي توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك:
«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» ..
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال.. وذلك خير كثير متنوع الألون..
«وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» ..
فصاحب اللب- وهو العقل- هو الذي يتذكر فلا ينسى، ويتنبه فلا يغفل، ويعتبر فلا يلج في الضلال..
وهذه وظيفة العقل.. وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهياً غافلاً.
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه. هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي: رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة.. وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى:
أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها، بل يعينه عليها: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» .. ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه(1/312)
الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير.
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ... »
..
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما: طريق الله. وطريق الشيطان. أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان. ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده..
ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق.. المنهج الذي شرعه الله.. وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان.
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد. كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب. ليست هنالك شبهة ولا غشاوة.. الله. أو الشيطان.
منهج الله أو منهج الشيطان. طريق الله أو طريق الشيطان.. ولمن شاء أن يختار.. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» .. لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة.. وإنما هو الهدى أو الضلال. وهو الحق واحد لا يتعدد.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! 270- بعد ذلك نعود مع السياق إلى الصدقة.. إن الله يعلم كل ما ينفقه المنفق.. صدقة كان أم نذراً. وسراً كان أم جهراً. ومن مقتضى علمه أنه يجزي على الفعل وما وراءه من النية:
«وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
والنفقة تشمل سائر ما يخرجه صاحب المال من ماله: زكاة أو صدقة أو تطوعاً بالمال في جهاد.. والنذر نوع من أنواع النفقة يوجبه المنفق على نفسه مقدّراً بقدر معلوم. والنذر لا يكون لغير الله ولوجهه وفي سبيله.
فالنذر لفلان من عباده نوع من الشرك، كالذبائح التي كان يقدمها المشركون لآلهتهم وأوثانهم في شتى عصور الجاهلية.
«وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» ..
وشعور المؤمن بأن عين الله- سبحانه- على نيته وضميره، وعلى حركته وعمله.. يثير في حسه مشاعر حية متنوعة شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن. وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء. وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه..
فأما الذي لا يقوم بحق النعمة والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه.. فهو ظالم. ظالم للعهد، وظالم للناس، وظالم لنفسه:
«وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» ..
فالوفاء عدل وقسط. والمنع ظلم وجور. والناس في هذا الباب صنفان: مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر. وظالم ناكث لعهد الله، لم يعط الحق ولم يشكر.. «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» ..
271- وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعاً أولى وأحب إلى الله وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء. فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو هذا المعنى وظهوره خير.. ومن ثم تقول الآية:(1/313)
«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ. وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .. فتشمل هاتين الحالتين، وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات:
«وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ» ..
وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب، والطمأنينة والراحة من جانب آخر، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال:
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ..
272- ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده لندرك أمرين:
الأول: بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس. والثاني: ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم.. ولكنه كان سخاء وكرماً يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام! ولم يكن أمراً ميسوراً أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله، متجردين من هذا كله، متجهين لله وحده دون الناس. وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة، والجهد الكثير، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص! .. وقد كان..
ومن ثم لفتة من خطاب الذين آمنوا إلى خطاب الرسول- صلى الله عليه وسلم- لفتة لتقرير جملة حقائق كبيرة، ذات أثر عميق في إقامة التصور الإسلامي على قواعده، وفي استقامة السلوك الإسلامي على طريقه:
«لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..
روى ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ.. إلى آخرها» ..
فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين..
إن أمر القلوب وهداها وضلالها ليس من شأن أحد من خلق الله- ولو كان هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه من أمر الله وحده. فهذه القلوب من صنعه ولا يحكمها غيره، ولا يصرفها سواه، ولا سلطان لأحد عليها إلا الله. وما على الرسول إلا البلاغ. فأما الهدى فهو بيد الله، يعطيه من يشاء، ممن يعلم- سبحانه- أنه يستحق الهدى، ويسعى إليه. وإخراج هذا الأمر من اختصاص البشر يقرر الحقيقة التي لا بد أن تستقر في حس المسلم ليتوجه في طلب الهدى إلى الله وحده، وليتلقى دلائل الهدى من الله وحده.. ثم هي تفسح في احتمال صاحب الدعوة لعناد الضالين، فلا يضيق صدره بهم وهو يدعوهم ويعطف عليهم، ويرتقب إذن الله لقلوبهم في الهدي، وتوفيقهم إليه بمعرفته حين يريد.
«لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ..
فلتفسح لهم صدرك، ولتفض عليهم سماحتك، ولتبذل لهم الخير والعون ما احتاجوا إليه منك. وأمرهم(1/314)
إلى الله. وجزاء المنفق عند الله.
ومن هنا نطلع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها، ويروضهم عليها.
إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب. إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله. يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله- سبحانه- يقرر حق المحتاجين جميعاً في أن ينالوا العون والمساعدة- ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة- دون نظر إلى عقيدتهم.
ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله. وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام:
«وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» ..
ولا يفوتنا أن ندرك مغزى هذه اللفتة الواردة في الآية عن شأن المؤمنين حين ينفقون:
«وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» ..
إن هذا هو شأن المؤمن لا سواه. إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله. لا ينفق عن هوى ولا عن غرض. لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون! لا ينفق ليركب الناس بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ! لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان! لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله. خالصاً متجرداً لله.. ومن ثم يطمئن لقبول الله لصدقته ويطمئن لبركة الله في ماله ويطمئن لثواب الله وعطائه ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله. ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بعد في هذه الأرض. وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل! 273- ثم يخص بالذكر مصرفاً من مصارف الصدقة ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين.
صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون. وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام:
«لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرساً لبيوت الرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يخلص إليها من دونهم عدو.
وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة والكسب. وهم مع هذا لا يسألون الناس شيئاً.
متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عن إظهار الحاجة ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة..
ولكن النص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان. ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهراً، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون. إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل. فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء..(1/315)
إنها صورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذج الكريم. وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء! وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة، ترسم الملامح والسمات، وتشخص المشاعر والانفعالات.
وما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتى تبدو له تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها. وتلك طريقة القرآن في رسم النماذج الإنسانية، حتى لتكاد تخطر نابضة حية! هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة.. لن يكون إعطاؤهم إلا سراً وفي تلطف لا يخدش آباءهم ولا يجرح كرامتهم.. ومن ثم كان التعقيب موحياً بإخفاء الصدقة وإسرارها، مطمئناً لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها:
«وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» ..
الله وحده الذي يعلم السر، ولا يضيع عنده الخير..
وأخيراً يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق، وكل أوقات الإنفاق وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله:
«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، سِرًّا وَعَلانِيَةً. فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها، سواء في صدر الآية أم في ختامها. وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير..
«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ» ..
هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال..
«بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. سِرًّا وَعَلانِيَةً» ..
لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات..
«فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ..
هكذا إطلاقاً. من مضاعفة المال. وبركة العمر. وجزاء الآخرة. ورضوان الله.
«وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
لا خوف من أي مخوف، ولا حزن من أي محزن.. في الدنيا وفي الآخرة سواء..
إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم..
وبعد فإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء. فإن نظامه كله يقوم أولاً على تيسير العمل والرزق لكل قادر وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء.. ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائية وهذه هي التي يعالجها بالصدقة.. مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها: وهي مورد هام من موارد المالية العامة للدولة المسلمة. ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين رأساً. مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها. وبضمانة تعفف الآخذين.. هذا التعفف الذي تصف هذه الآية صورة منه واضحة. وقد رباه(1/316)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
الإسلام في نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه في حياته..
روى البخاري- بإسناده- عن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة. قالا: سمعنا أبا هريرة يقول:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف» .. اقرأوا إن شئتم يعني قوله: «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» ..
وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن رجل من مزينة: أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما يسأله الناس؟ فانطلقت أسأله، فوجدته قائماً يخطب وهو يقول: «ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله. ومن يسئل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافاً» فقلت بيني وبين نفسي: لناقة لي لهي خير من خمس أواق، ولغلامي ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأله.
وقال الحافظ الطبراني- بإسناده- عن محمد بن سيرين. قال: بلغ الحارث- رجلا كان بالشام من قريش- أن أباذر كان به عوز، فبعث إليه ثلاث مائة دينار. فقال: ما وجد عبد الله رجلاً أهون عليه مني! سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من سأل وله أربعون فقد ألحف» ولآل أبي ذر أربعون درهماً.. شاة وماهنان.. قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين..
إن الإسلام نظام متكامل، تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة، ولا يؤخذ أجزاء وتفاريق.
وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد، فتتكامل وتتناسق. وهكذا أنشأ مجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيراً في مجتمعات الأرض جميعا..
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)(1/317)
الوجه الآخر المقابل للصدقة التي عرض دستورها في الدرس الماضي.. الوجه الكالح الطالح هو الربا! الصدقة عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. والربا شح، وقذارة ودنس، وأثرة وفردية..
والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد. والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه. من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده. ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر، أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئاً..
ومن ثم فهو- الربا- الوجه الآخر المقابل للصدقة.. الوجه الكالح الطالح! لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود! عرضه عرضاً منفراً، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة. ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد.
ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا- في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى- ولله الحكمة البالغة. فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره. ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر، ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث. فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت، تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية. أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى. ويدرك- من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام- يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة.
وأمامه اليوم من واقع العالم ما يصدّق كل كلمة تصديقاً حياً مباشراً واقعاً. والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي، في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها.
وتتلقى- حقاً- حرباً من الله تصب عليها النقمة والعذاب.. أفراداً وجماعات، وأمماً وشعوباً، وهي لا تعتبر ولا تفيق! وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه، ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة..
في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم.
أنهما نظامان متقابلان: النظام الإسلامي. والنظام الربوي! وهما لا يلتقيان في تصور، ولا يتفقان في أساس ولا يتوافقان في نتيجة.. إن كلاً منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة. وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف.. ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة، وكان هذا التهديد الرعيب! إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي- ونظام الحياة كلها- على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود.
يقيمه على أساس أن الله- سبحانه- هو خالق هذا الكون. فهو خالق هذه الأرض، وهو خالق هذا الإنسان.. هو الذي وهب كل موجود وجوده..
وإن الله- سبحانه- وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات، على عهد منه وشرط. ولم يترك له هذا الملك(1/318)
العريض فوضى، يصنع فيه ما يشاء كيف شاء. وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة. استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله، وحسب شريعته. فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ. وما وقع منه مخالفاً لشروط التعاقد فهو باطل موقوف. فإذا انفذه قوة وقسراً فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله. فالحاكمية في الأرض- كما هي في الكون كله- لله وحده. والناس- حاكمهم ومحكممهم- إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه، وليس لهم- في جملتهم- أن يخرجوا عنها، لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكاً خالقين لما في أيديهم من أرزاق.
من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله، فيكون بعضهم أولياء بعض، وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل- لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية. ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة- فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه. مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له- فلا يكون أحدهم كلاًّ على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل. وجعل الزكاة فريضة في المال محددة. والصدقة تطوعاً غير محدد.
وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال، ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم. ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال. وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة.
وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره.
وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين، ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد، ودوران المال في الأيدي على أو سع نطاق: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» ..
وكتب عليهم الطهارة في النبية والعمل، والنظافة في الوسيلة والغاية، وفرض عليهم قيوداً في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلاً تؤذي ضمير الفرد وخلقه، أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها «1» .
وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض..
ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا ونظام يقوم على تصور آخر. تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى. ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها.
إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر. فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء وهو غير مقيد بعهد من الله وغير ملزم باتباع أوامر الله! ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال، وفي طرق تنميته، كما هو حر في التمتع به. غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين. ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته. وقد تتدخل القوانين الوضعية أحياناً في الحد
__________
(1) يراجع فصل «سياسة المال» في كتاب: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» . «دار الشروق» .(1/319)
من حريته هذه- جزئياً- في تحديد سعر الفائدة مثلاً وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب، والغش والضرر. ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم، وما تقودهم إليه أهواؤهم لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية! كذلك يقوم على أساس تصور خاطئ فاسد. هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال- بأية وسيلة- واستمتاعه به على النحو الذي يهوى! ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين! ثم ينشئ في النهاية نظاماً يسحق البشرية سحقاً، ويشقيها في حياتها أفراداً وجماعات ودولاً وشعوباً، لمصلحة حفنة من المرابين ويحطها أخلاقيا ونفسياً وعصبياً ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نمواً سوياً.. وينتهي- كما انتهى في العصر الحديث- إلى تركيز السلطة الحقيقة والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شراً وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلاًّ ولا ذمة، ولا يراقبون فيها عهداً ولا حرمة.. وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفراداً، كما يداينون الحكومات والشعوب- في داخل بلادهم وفي خارجها- وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها، وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم، في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهداً! وهم لا يملكون المال وحده.. إنما يملكون النفوذ.. ولما لم تكن لهم مبادئ ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادئ فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال، ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم.. وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات، التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه، حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة! وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة، مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة الممولين المرابين، الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية! والكارثة التي تمت في العصر الحديث- ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية- هي أن هؤلاء المرابين- الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية- قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها، وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها.. سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها.. أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم، ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي.. هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول، والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب. وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين- غير العمليين- وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه! حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا(1/320)
بائسة لهذا النظام ذاته! ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه. الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جرياناً غير طبيعي ولا سوي. ويتعرض للهزات الدورية المنظمة! وينحرف عن أن يكون نافعاً للبشرية كلها، إلى أن يكون وقفاً على حفنة من الذئاب قليلة! إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة- وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم وهم قد نشأوا في ظله، وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق. وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة «دكتور شاخت» الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقاً. وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام 1953 أنه بعملية رياضية (غير
متناهية) يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين. ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية بينما المدين معرض للربح والخسارة.
ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد- بالحساب الرياضي- أن يصير إلى الذي يربح دائماً! وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل. فإن معظم مال الأرض الآن يملكه- ملكاً حقيقا- بضعة ألوف! أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك، والعمال، وغيرهم، فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال، ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف!.
وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة. فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة. فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة. ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال، لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء.. عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين وتضيق المصانع دائرة انتاجها، ويتعطل العمال، فتقل القدرة على الشراء. وعند ما يصل الأمر إلى هذا الحد، ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف، يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطراراً.
فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد، وتعود دورة الحياة إلى الرخاء.. وهكذا دو إليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية. ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة! ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين. فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين، فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية. أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك. إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها. وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف.. وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد، ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون.. ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار! ونحن هنا- في ظلال القرآن- لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل «1» - فنكتفي
__________
(1) تراجع البحوث القيمة الدقيقة التي كتبها المسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي عن الربا وعن أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة..(1/321)
بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت:
الحقيقة الأولى: - التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم- أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان.
وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوى من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع. فأساس التصور الإسلامي- كما بينا- يصطدم اصطداماً مباشراً بالنظام الربوي، ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم.
والحقيقة الثانية: أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية- لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب- بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية، وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقاً، ويعطل نموها الإنساني المتوازن، على الرغم من الطلاء الظاهري الخدّاع، الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام! والحقيقة الثالثة: أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماماً، وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه، وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته، ومحاسب عليه في آخرته. فليس هناك نظام أخلاقي وحده ونظام عملي وحده، وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان، وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن، وإثم يؤاخذ عليه إن أساء. وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق، وأن الأخلاق ليست نافلة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية.
والحقيقة الرابعة: أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه، وشعوره تجاه أخيه في الجماعة وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة. أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار. كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحاً مضموناً، فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين. ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيماً.. والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشئ أنفع المشروعات للبشرية بل همه أن ينشئ أكثرها ربحاً. ولو كان الربح إتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول.. وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض. وسببه الأول هو التعامل الربوي! والحقيقة الخامسة: أن الإسلام نظام متكامل. فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه وينظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل، بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد.
والحقيقة السادسة: أن الإسلام- حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص- لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي، إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم. ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه. ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة. وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة: المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث.
والحقيقة السابعة: - وهي الأهم- ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلماً، بأن هناك استحالة اعتقادية(1/322)
في أن يحرم الله أمراً لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه! كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها.. فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة، وهو مستخلف الإنسان فيها وهو الآمر بتنميتها وترقيتها وهو المريد لهذا كله الموفق إليه. فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه. وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها. وإنما هو سوء التصور. وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالاً على بث فكرة: أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني، وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي. وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة، ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها.
ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلاً بسعي بيوت المال والمرابين. وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر.
وهي صعوبة تنشأ أولاً من عدم الإيمان. كما تنشأ ثانياً من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه بما لهم من قدرة على التوجيه، وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية، وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة.
والحقيقة الثامنة: أن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغداً على أساس غير الأساس الربوي.. ليست سوى خرافة. أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلاً! وأنه حين تصح النية، وتعزم البشرية- أو تعزم الأمة المسلمة- أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية، وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع، فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد، الذي أراده الله للبشرية، والذي طبق فعلاً، ونمت الحياة في ظله فعلاً وما تزال قابلة للنمو تحت إشرافه وفي ظلاله، لو عقل الناس ورشدوا! وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله.. فحسبنا هذه الإشارات المجملة «1» . وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديماً حتى ردها الإسلام إليه هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته، ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم.
فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء:
«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ. وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» ..
إنها الحملة المفزعة، والتصوير المرعب:
«لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» ..
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة.. صورة الممسوس
__________
(1) يمكن الرجوع لبعض الاقتراحات العملية في بحوث الأستاذ المودودي التي سبقت الإشارة إليها.(1/323)
المصروع.. وهي صورة معروفة معهودة للناس. فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها. بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة.. ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة. هو القيام يوم البعث. ولكن هذه الصورة- فيما نرى- واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضاً. ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله. ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي. وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية وتصورات أهل الجاهلية عنها..
إن الربا الذي كان معروفاً في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة. وربا الفضل.
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: «إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه» .
وقال مجاهد «كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه» .
وقال أبو بكر الجصاص: «إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة. فكانت الزيادة بدلاً من الأجل. فأبطله الله تعالى» ..
وقال الإمام الرازي في تفسيره: «إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية. لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً، ورأس المال باق بحاله. فإذا حل طالبه برأس ماله. فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل» .
وقد ورد في حديث أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا ربا إلا في النسيئة» «1» ..
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة. كبيع الذهب بالذهب. والدراهم بالدراهم. والقمح بالقمح. والشعير بالشعير.. وهكذا.. وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا.. وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة! عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح.. مثلاً بمثل.. يداً بيد.. فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» «2» ..
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الشيخان.(1/324)
وعن أبي سعيد الخدري أيضاً قال: جاء بلال إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بتمر برني فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- «من أين هذا؟» قال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع. فقال: أوَّه! عين الربا. عين الربا. لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به» «1» .
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية.
وهي: الزيادة على أصل المال. والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة.. وكون هذه الفائدة شرطاً مضموناً في التعاقد. أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا..
وأما النوع الثاني، فما لا شك فيه أن هناك فروقاً أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة. وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعاً من التمر الجيد.. ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية، إذ يلد التمر التمر! فقد وصفه- صلى الله عليه وسلم- بالربا. ونهى عنه. وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد. ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضاً. إبعاداً لشبح الربا من العملية تماماً! وكذلك شرط القبض: «يداً بيد» .. كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل، ولو من غير زيادة، فيه شبح من الربا، وعنصر من عناصره! إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول- صلى الله عليه وسلم- بشبح الربا في أية عملية. وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية.
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا- ربا النسيئة- بالاستناد إلى حديث أسامة، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية. وأن يحلوا- دينياً- وباسم الإسلام! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية! ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية.. فالإسلام ليس نظام شكليات. إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل. فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة.
إنما كان يناهض تصوراً يخالف تصوره ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته. وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعاداً لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جداً! ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام. سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة. ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية، أو تتسم بسمة العقلية الربوية.. وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة. وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث. شعور الحصول على الربح بأية وسيلة! فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيداً. ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي.
«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» ..
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم- وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب- إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم.
__________
(1) متفق عليه.(1/325)
عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أنه قال: لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، وقال: «هم سواء» «1» ..
وكان هذا في العمليات الربوية الفردية. فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون. معرضون لحرب الله. مطرودون من رحمته بلا جدال.
إنهم لا يقومون في الجياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقراراً ولا طمأنينة ولا راحة.. وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالاً للشك أبداً..
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم- في أنحاء الأرض- هو عالم القلق والاضطراب والخوف والأمراض العصبية والنفسية- باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية.. وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار. وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار.. ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك! إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة. وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاماً.. في أمريكا، وفي السويد، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء مادياً.. أن الناس ليسوا سعداء.. أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة. وفي «التقاليع» الغريبة الشاذة تارة. وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة. ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب. الهرب من أنفسهم. ومن الخواء الذي يعشش فيها! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها. فيهربون بالانتحار.
ويهربون بالجنون. ويهربون بالشذوذ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبداً! لماذا؟
السبب الرئيسي طبعاً هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة- على كل ما لديها من الرخاء المادي- من زاد الروح.. من الإيمان.. من الاطمئنان إلى الله.. وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه.
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير.. بلاء الربا.. بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سوياً معتدلاً بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها. إنما ينمو مائلاً جانحاً إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها
__________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.(1/326)
الجميع والتي تكفل عملاً منتظماً ورزقاً مضموناً للجميع والتي تهيئ طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع.. ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح- ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعاً! وصدق الله العظيم: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» ..
وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم! ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على تحريم الربا. اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» ..
وكانت الشبهة التي ركنوا إليها، هي أن البيع يحقق فائدة وربحاً، كما أن الربا يحقق فائدة وربحاً.. وهي شبهة واهية. فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة. والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة. أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة.
وهذا هو الفارق الرئيسي. وهذا هو مناط التحريم والتحليل..
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده.. ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة! «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» ...
لانتفاء هذا العنصر من البيع ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية «1» ..
وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية:
«فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» ..
لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه. فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله، يحكم فيه بما يراه.. وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته فيظل يتوجس من الأمر حتى يقول لنفسه: كفاني هذا الرصيد من العمل السيئ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت. فلا أضف إليه جديداً بعد! .. وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد.
«وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه، ويعمقه في القلوب ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد، وجهل الموعد، فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا! فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعاً ويقرر أن الصدقات- لا الربا- هي التي تربو وتزكو ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم. ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين:
__________
(1) تراجع البحوث القيمة في هذه الموضوعات: للأستاذ المودودي. وقد سبقت الإشارة إليها.(1/327)
«يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» ..
وصدق وعيد الله ووعده. فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة.. إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء. وقد ترى العين- في ظاهر الأمر- رخاء وإنتاجاً وموارد موفورة، ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد. وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده. ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم. حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة! وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوماً بعد يوم- سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا- ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال! وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون- الممثلين في الصدقات المفروض منها والمبروك للتطوع- وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة، والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه، والاطمئنان دائماً إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها.. ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله- أفراداً وجماعات- في ما لهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم.
والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية، هم الذين لا يريدون أن يروا. لأن لهم هوى في عدم الرؤية! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمداً وقصداً من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت فضغطوا عن رؤية الحقيقة! «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» ..
وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي- بعد تحريمه- من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله. وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله. محمد رسول الله.. فالإسلام ليس كلمة باللسان إنما هو نظام حياة ومنهج عمل وإنكار جزء منه كإنكار الكل.. وليس في حرمة الربا شبهة وليس في اعتباره حلالاً وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم.. والعياذ بالله..
وفي الصفحة المقابلة لصفحة الكفر والإثم، والتهديد الساحق لأصحاب منهج الربا ونظامه، يعرض صفحة الإيمان والعمل الصالح، وخصائص الجماعة المؤمنة في هذا الجانب، وقاعدة الحياة المرتكزة إلى النظام الآخر- نظام الزكاة- المقابل لنظام الربا:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
والعنصر البارز في هذه الصفحة هو عنصر «الزكاة» . عنصر البذل بلا عوض ولا رد. والسياق يعرض بهذا صفة المؤمنين وقاعدة المجتمع المؤمن. ثم يعرض صورة الأمن والطمأنينة والرضى الإلهي المسبغ على هذا المجتمع المؤمن.
إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.(1/328)
وقد بهتت صورة «الزكاة» في حسنا وحس الأجيال التعيسة من الأمة الإسلامية التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقاً في عالم الواقع ولم تشهد هذا النظام يقوم على أساس التصور الإيماني والتربية الإيمانية والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية. ويجعل «الزكاة» قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية.
ويجعل الحياة تنمو والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا! بهتت هذه الصورة في حس هذه الأجيال التعيسة المنكودة الحظ التي لم تشهد تلك الصورة الرفيعة من صور الإنسانية. إنما ولدت وعاشت في غمرة النظام المادي، القائم على الأساس الربوي. وشهدت الكزازة والشح، والتكالب والتطاحن، والفردية الأثرة التي تحكم ضمائر الناس. فتجعل المال لا ينتقل إلى من يحتاجون إليه إلا في الصورة الربوية الخسيسة! وجعلت الناس يعيشون بلا ضمانات، ما لم يكن لهم رصيد من المال أو يكونوا قد اشتركوا بجزء من مالهم في مؤسسات التأمين الربوية! وجعلت التجارة والصناعة لا تجد المال الذي تقوم به، ما لم تحصل عليه بالطريقة الربوية! فوقر في حس هذه الأجيال المنكودة الطالع أنه ليس هناك نظام إلا هذا النظام وأن الحياة لا تقوم إلا على هذا الأساس! بهتت صورة الزكاة حتى أصبحت هذه الأجيال تحسبها إحساناً فردياً هزيلاً، لا ينهض على أساسه نظام عصري! ولكن كم تكون ضخامة حصيلة الزكاة، وهي تتناول اثنين ونصفاً في المائة من أصل رؤوس الأموال الأهلية مع ربحها «1» ؟ يؤديها الناس الذين يصنعهم الإسلام صناعة خاصة، ويربيهم تربية خاصة، بالتوجيهات والتشريعات، وبنظام الحياة الخاص الذي يرتفع تصوره على ضمائر الذين لم يعيشوا فيه! وتحصلها الدولة المسلمة، حقاً مفروضاً، لا إحساناً فردياً. وتكفل بها كل من تقصر به وسائله الخاصة من الجماعة المسلمة حيث يشعر كل فرد أن حياته وحياة أولاده مكفولة في كل حالة وحيث يقضي عن الغارم المدين دينه سواء كان ديناً تجارياً أو غير تجاري، من حصيلة الزكاة.
وليس المهم هو شكلية النظام. إنما المهم هو روحه. فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معاً متناسقة متكاملة. وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى. ولكنها حقيقة نعرفها نحن- أهل الإسلام- ونتذوقها بذوقنا الإيماني. فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم- وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها- فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله به: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ» .. ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب. فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون! إن الله- سبحانه- يعد الذين يقيمون حياتهم على الإيمان والصلاح والعبادة والتعاون، أن يحتفظ لهم بأجرهم عنده. ويعدهم بالأمن فلا يخافون. وبالسعادة فلا يحزنون:
«فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
في الوقت الذي يوعد أكلة الربا والمجتمع الربوي بالمحق والسحق، وبالتخبط والضلال، وبالقلق والخوف.
__________
(1) ترتفع هذه النسبة إلى 5 وإلى 10 وإلى 20 في الزروع والكنوز.(1/329)
وشهدت البشرية ذلك واقعاً في المجتمع المسلم وتشهد اليوم هذا واقعاً كذلك في المجتمع الربوي! ولو كنا نملك أن نمسك بكل قلب غافل فنهزه هزاً عنيفاً حتى يستيقظ لهذه الحقيقة الماثلة ونمسك بكل عين مغمضة فنفتح جفنيها على هذا الواقع.. لو كنا نملك لفعلنا.. ولكننا لا نملك إلا أن نشير إلى هذه الحقيقة لعل الله أن يهدي البشرية المنكودة الطالع إليها.. والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. والهدى هدى الله..
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة، التي تنبذ الربا من حياتها، فتنبذ الكفر والإثم، وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة.. في ظل هذا الرخاء الآمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله، بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» ..
إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا. فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا. ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون. فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به.
والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر. ولا يدع إنساناً يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته. فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين. مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا.. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لقد ترك لهم ما سلف من الربا- لم يقرر استرداده منهم، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلاً فيها.. إذ لا تحريم بغير نص.. ولا حكم بغير تشريع.. والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره.. فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون. وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثراً رجعياً. وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثاً! ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها، ويطلقها تنمو وترتفع معاً..
وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به.
واستجاش في قلوبهم- مع هذا- شعور التقوى لله. وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته. فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية! وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية، حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان.
فهذه صفحة الترغيب.. وإلى جوارها صفحة الترهيب.. الترهيب الذي يزلزل القلوب:
«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ..
يا للهول! حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية.. حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟! ولقد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن(1/330)
يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي. وقد أمر- صلى الله عليه وسلم- في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية- وأوله ربا عمه العباس- عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة. وقال صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة:
«وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين. وأول ربا أضع ربا العباس» .. ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حال الجاهلية.
فالإمام مكلف- حين يقوم المجتمع الإسلامي- أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون. كما حارب أبو بكر- رضي الله عنه- مانعي الزكاة، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامتهم للصلاة. فليس مسلماً من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة! على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام. فهذه الحرب معلنة- كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة.
حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف.. وأخيراً حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات.
ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع- إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة! إنها الحرب المشبوبة دائماً. وقد أعلنها الله على المتعاملين بالربا.. وهي مسعرة الآن تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ولكنها- وهي تخرج من منبع الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقاً في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون! لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المَشْرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء:
«وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ. لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» ..
فهي التوبة عن خطيئة. إنها خطيئة الجاهلية. الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام..
إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان.. خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة. وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة. وتنشئ آثارها في الحياة(1/331)
البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته. ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي! واسترداد رأس المال مجرداً، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين.. فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي. ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة. ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق- بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه. ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة- على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة- ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت.. وللمصارف أن تتناول قدراً معيناً من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال.. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها.. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن «1» ! ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار.. فليس السبيل هو ربا النسيئة: بالتأجيل مقابل الزيادة.. ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة. والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيداً من الخير أوفى وأعلى:
«وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ.. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية. إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار. إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع! ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوماً «معقولاً» في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد! - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفراداً قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش. فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها. تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية. فكلهم سواء. غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية، والمؤلفات العلمية، والأساتذة والمعاهد والجامعات، والتشريعات والقوانين، والشرطة والمحاكم والجيوش.. كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون..!!
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب.. ولكنا نعرف أنها الحق. ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها:
«وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
__________
(1) تراجع بحوث الأستاذ المودودي التي سبقت الإشارة إليها..(1/332)
إن المعسر- في الإسلام- لا يطارد من صاحب الدين، أو من القانون والمحاكم. إنما ينظر حتى يوسر..
ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين. فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه- إن تطوع بهذا الخير. وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين. وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة. لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر! ذلك أن إبطال الربا يفقد شطراً كبيراً من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين، ويضيق عليه الخناق. وهو معسر لا يملك السداد. فهنا كان الأمر- في صورة شرط وجواب- بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء. وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار.
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظاً من مصارف الزكاة، ليؤدي دينه، وييسر حياته: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... وَالْغارِمِينَ ... » وهم أصحاب الديون. الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم. إنما أنفقوها في الطيب النظيف. ثم قعدت بهم الظروف! ثم يجيء التعقيب العميق الإيحاء، الذي ترجف منه النفس المؤمنة، وتتمنى لو تنزل عن الدين كله، ثم تمضي ناجية من الله يوم الحساب:
«وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول. والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان! وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات. جو الأخذ والعطاء. جو الكسب والجزاء.. إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه. والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه. فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه.
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فراراً منه لأنه في الأعماق هناك! إنه الإسلام.. النظام القوي.. الحلم الندي الممثل في واقع أرضي.. رحمة الله بالبشر. وتكريم الله للإنسان.
والخير الذي تشرد عنه البشرية ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان!(1/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
[سورة البقرة (2) : الآيات 282 الى 284]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
هذه الأحكام الخاصة بالدين والتجارة والرهن تكملة للأحكام السابقة في درسي الصدقة والربا. فقد استبعد التعامل الربوي في الدرس السابق والديون الربوية والبيوع الربوية.. أما هنا فالحديث عن القرض الحسن بلا ربا ولا فائدة، وعن المعاملات التجارية الحاضرة المبرأة من الربا..
وإن الإنسان ليقف في عجب وفي إعجاب أمام التعبير التشريعي في القرآن- حيث تتجلى الدقة العجيبة في الصياغة القانونية حتى ما يبدل لفظ بلفظ، ولا تقدم فقرة عن موضعها أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطاً لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينها وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما ...
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء والتوجيه. بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض هنا دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد.
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» ..(1/334)
هذا هو المبدأ العام الذي يريد تقريره. فالكتابة أمر مفروض بالنص، غير متروك للاختيار في حالة الدين إلى أجل. لحكمة سيأتي بيانها في نهاية النص.
«وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» ..
وهذا تعيين للشخص الذي يقوم بكتابة الدين فهو كاتب. وليس أحد المتعاقدين. وحكمة استدعاء ثالث- ليس أحد الطرفين في التعاقد- هي الاحتياط والحيدة المطلقة. وهذا الكاتب مأمور أن يكتب بالعدل، فلا يميل مع أحد الطرفين، ولا ينقص أو يزيد في النصوص..
«وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» ..
فالتكليف هنا من الله- بالقياس إلى الكاتب- كي لا يتأخر ولا يأبى ولا يثقل العمل على نفسه، فتلك فريضة من الله بنص التشريع، حسابه فيها على الله. وهي وفاء لفضل الله عليه إذ علمه كيف يكتب.. «فَلْيَكْتُبْ كما علمه الله.
وهنا يكون الشارع قد انتهى من تقرير مبدأ الكتابة في الدين إلى أجل. ومن تعيين من يتولى الكتابة. ومن تكليفه بأن يكتب. ومع التكليف ذلك التذكير اللطيف بنعمة الله عليه، وذلك الإيحاء بأن يلتزم العدل..
وهنا ينتقل إلى فقرة تالية يبين فيها كيف يكتب..
«وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً. فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ» ..
إن المدين- الذي عليه الحق- هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين، ومقدار الدين، وشرطه وأجله..
ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن، فزاد في الدين، أو قرب الأجل، أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته. والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبة في إتمام الصفقة لحاجته إليها، فيقع عليه الغبن. فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر. ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت، وهو الذي يملي.. وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين- وهو يملي- أن يتقي الله ربه ولا يبخس شيئاً من الدين الذي يقر به ولا من سائر أركان الإقرار الأخرى.. فإن كان المدين سفيهاً لا يحسن تدبير أموره. أو ضعيفاً- أي صغيراً أو ضعيف العقل- أو لا يستطيع أن يمل هو إما لعي أو جهل أو آفة في لسانه أو لأي سبب من الأسباب المختلفة الحسية أو العقلية.. فليملل ولي أمره القيم عليه.. «بِالْعَدْلِ» ..
والعدل يذكر هنا لزيادة الدقة. فربما تهاون الولي- ولو قليلاً- لأن الدين لا يخصه شخصياً. كي تتوافر الضمانات كلها لسلامة التعاقد.
وبهذا ينتهي الكلام عن الكتابة من جميع نواحيها، فينتقل الشارع إلى نقطة أخرى في العقد، نقطة الشهادة:
«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ- مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ- أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» ..
إنه لا بد من شاهدين على العقد- «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» - والرضى يشمل معنيين: الأول أن يكون الشاهدان عدلين مرضيين في الجماعة. والثاني أن يرضى بشهادتهما طرفا التعاقد.. ولكن ظروفاً معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمراً ميسوراً. فهنا ييسر التشريع فيستدعي النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال لأنهم هم الذين يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي، الذي لا تحتاج المرأة فيه أن تعمل لتعيش، فتجور(1/335)
بذلك على أمومتها وأنوثتها وواجبها في رعاية أثمن الأرصدة الإنسانية وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما تضطر إلى ذلك المرأة في المجتمع النكد المنحرف الذي نعيش فيه اليوم! فأما حين لا يوجد رجلان فليكن رجل واحد وامرأتان.. ولكن لماذا امرأتان؟ إن النص لا يدعنا نحدس! ففي مجال التشريع يكون كل نص محدداً واضحاً معللاً: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» .. والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة. فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معاً على تذكر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسياً في المرأة حتماً. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء..
وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة.. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذا طابعها- حين تكون امرأة سوية- بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى- إذا انحرفت مع أي انفعال- فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة.
وكما وجه الخطاب في أول النص إلى الكتاب ألا يأبوا الكتابة، يوجهه هنا إلى الشهداء ألا يأبوا الشهادة:
«وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» .
فتلبية الدعوة للشهادة إذن فريضة وليست تطوعاً. فهي وسيلة لإقامة العدل وإحقاق الحق. والله هو الذي يفرضها كي يلبيها الشهداء عن طواعية تلبية وجدانية، بدون تضرر أو تلكؤ. وبدون تفضل كذلك على المتعاقدين أو على أحدهما، إذا كانت الدعوة من كليهما أو من أحدهما.
وهنا ينتهي الكلام عن الشهادة، فينتقل الشارع إلى غرض آخر. غرض عام للتشريع. يؤكد ضرورة الكتابة- كبر الدين أم صغر- ويعالج ما قد يخطر للنفس من استثقال الكتابة وتكاليفها بحجة أن الدين صغير لا يستحق، أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل والحياء أو الكسل وقلة المبالاة! ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلا وجدانيا وتعليلا عمليا:
«وَلا تَسْئَمُوا- أَنْ تَكْتُبُوهُ- صَغِيراً أَوْ كَبِيراً- إِلى أَجَلِهِ. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا» .
لا تسأموا.. فهو إدراك لانفعالات النفس الإنسانية حين تحس أن تكاليف العمل أضخم من قيمته.. «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» .. أعدل وأفضل. وهو إيحاء وجداني بأن الله يحب هذا ويؤثره. «وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ» .
فالشهادة على شيء مكتوب أقوم من الشهادة الشفوية التي تعتمد على الذاكرة وحدها. وشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أقوم كذلك للشهادة وأصح من شهادة الواحد، أو الواحد والواحدة. «وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا» :
أقرب لعدم الريبة. الريبة في صحة البيانات التي تضمنها العقد، أو الريبة في أنفسكم وفي سواكم إذا ترك الأمر بلا قيد.
وهكذا تتكشف حكمة هذه الإجراءات كلها ويقتنع المتعاملون بضرورة هذا التشريع، ودقة أهدافه، وصحة إجراءاته. إنها الصحة والدقة والثقة والطمأنينة.
ذلك شأن الدين المسمى إلى أجل. أما التجارة الحاضرة فإن بيوعها مستثناة من قيد الكتابة. وتكفي فيها(1/336)
شهادة الشهود تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التعقيد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة. ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة كلها قد راعى كل ملابساتها وكان شريعة عملية واقعية لا تعقيد فيها، ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها:
«إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» .
وظاهر النص أن الإعفاء من الكتابة رخصة لا جناح فيها. أما الإشهاد فموجَب. وقد وردت بعض الروايات بأن الإشهاد كذلك للندب لا للوجوب. ولكن الأرجح هو ذاك.
والآن- وقد انتهى تشريع الدين المسمى، والتجارة الحاضرة، والتقى كلاهما عند شرطي الكتابة والشهادة- على الوجوب وعلى الرخصة- فإنه يقرر حقوق الكتاب والشهداء كما قرر واجباتهم من قبل.. لقد أوجب عليهم ألا يأبوا الكتابة أو الشهادة. فالآن يوجب لهم الحماية والرعاية ليتوازن الحق والواجب في أداء التكاليف العامة.
«وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
لا يقع ضرر على كاتب أو شهيد، بسبب أدائه لواجبه الذي فرضه الله عليه. وإذا وقع فإنه يكون خروجاً منكم عن شريعة الله ومخالفة عن طريقه. وهو احتياط لا بد منه. لأن الكتاب والشهداء معرضون لسخط أحد الفريقين المتعاقدين في أحيان كثيرة. فلا بد من تمتعهم بالضمانات التي تطمئنهم على أنفسهم، وتشجعهم على أداء واجبهم بالذمة والأمانة والنشاط في أداء الواجبات، والحيدة في جميع الأحوال. ثم- وعلى عادة القرآن في إيقاظ الضمير، واستجاشة الشعور كلما هم بالتكليف، ليستمد التكليف دفعته من داخل النفس، لا من مجرد ضغط النص- يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيئ أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .
ثم يعود المشرع إلى تكملة في أحكام الدين، آخرها في النص لأنها ذات ظروف خاصة، فلم يذكرها هناك في النص العام.. ذلك حين يكون الدائن والمدين على سفر فلا يجدان كاتباً. فتيسيراً للتعامل، مع ضمان الوفاء، رخص الشارع في التعاقد الشفوي بلا كتابة مع تسليم رهن مقبوض للدائن ضامن للدين:
«وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ» .
وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله. فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها:
«فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» .
والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه. والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي. وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء.. وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الإئتمان. ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر. والإئتمان خاص بهذه الحالة. والدائن والمدين كلاهما- في هذه الحالة- مؤتمن.(1/337)
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة- عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد- لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه:
«وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ. وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» .
ويتكئ التعبير هنا على القلب. فينسب إليه الإثم. تنسيقاً بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة. فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب. ويعقب عليه بتهديد ملفوف. فليس هناك خاف على الله.
«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» .
وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب! ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب! «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء. فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية.. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم.. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان. فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ويصنع المجتمع الذي يقنن له. صنعة إلهية متكاملة متناسقة. تربية وتشريع. وتقوى وسلطان.. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان. فأنى تذهب شرائع الأرض، وقوانين الأرض، ومناهج الأرض؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها. ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه. الشقوة التي بدأت في الغرب هرباً من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر.. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها. ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله.. وكانت الشقوة وكان البلاء «1» !! فأما نحن- نحن الذين نزعم الإسلام- فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟!
__________
(1) يراجع في هذا الموضوع كتاب: «الإنسان بين المادية والإسلام» وكتاب: «معركة التقاليد» لمحمد قطب. «دار الشروق» .(1/338)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
هذا ختام السورة الكبيرة.. الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعاً ضخماً رحيباً من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى.. كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي..
إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.
هذا ختام السورة الكبيرة.. في آيتين اثنتين.. ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصاً وافياً لأعظم قطاعات السورة.
يصلح ختاماً لها. ختاماً متناسقاً مع موضوعاتها وجوها وأهدافها.
لقد بدأت السورة بقوله تعالى: «ألم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» ..
وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعاً.. وها هي ذي تختم بقوله تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... » وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب! وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة.. كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم.. وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله- سبحانه- لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها- كما زعمت يهود عن ربها- ولا يتركها سدى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» ..
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» .. وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا(1/339)
إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ... » .
وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين..
وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم: «أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل..
وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها، ولها دورها، ولها دلالتها الضخمة. وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها- وهو كبير- من حقائق العقيدة.. من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه. ومن حال المؤمنين به مع ربهم، وتصورهم لما يريده- سبحانه- بهم، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم. ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه.. نعم.. كل كلمة لها دورها الضخم. بصورة عجيبة. عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن، وعرف شيئاً من أسرار التعبير فيه وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته! فلننظر في هذه النصوص بشيء من التفصيل:
«آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ. كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ..
إنها صورة للمؤمنين، للجماعة المختارة التي تمثلت فيها حقيقة الإيمان فعلاً. ولكل جماعة تتمثل فيها هذه الحقيقة الضخمة.. ومن ثم كرمها الله- سبحانه- وهو يجمعها- في حقيقة الإيمان الرفيعة- مع الرسول-- صلى الله عليه وسلم- وهو تكريم تدرك الجماعة المؤمنة حقيقته لأنها تدرك حقيقة الرسول الكبيرة وتعرف أي مرتقى رفعها الله إليه عنده، وهو يجمع بينها وبين الرسول- صلى الله عليه وسلم- في صفة واحدة، في آية واحدة، من كلامه الجليل:
«آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ» ..
وإيمان الرسول بما أنزل من ربه هو إيمان التلقي المباشر. تلقي قلبه النقي للوحي العلي. واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة. الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كد ولا محاولة وبلا أداة أو واسطة. وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف- على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك! فهذا الإيمان- إيمان الرسول- صلى الله عليه وسلم- هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم. على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول- صلى الله عليه وسلم- بطبيعة الحال وكيان أيٍّ سواه ممن لم يتلق الحقيقة المباشرة من مولاه.
فما هي طبيعة هذا الإيمان وحدوده؟
«كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا. غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ..
إنه الإيمان الشامل الذي جاء به هذا الدين. الإيمان الذي يليق بهذه الأمة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة، الضاربة الجذور في أعماق الزمان، السائرة في موكب الدعوة وموكب(1/340)
الرسول وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري، الإيمان الذي يتمثل البشرية كلها منذ نشأتها إلى نهايتها صفين اثنين: صف المؤمنين وصف الكافرين. حزب الله وحزب الشيطان. فليس هنالك صف ثالث على مدار الزمان.
«كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ» ..
والإيمان بالله في الإسلام قاعدة التصور. وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة. وقاعدة الخلق وقاعدة الاقتصاد.
وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك.
الإيمان بالله معناه إفراده- سبحانه- بالألوهية والربوبية والعبادة. ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة.
ليس هناك شركاء- إذن- في الألوهية أو الربوبية. فلا شريك له في الخلق. ولا شريك له في تصريف الأمور. ولا يتدخل في تصريفه للكون والحياة أحد. ولا يرزق الناس معه أحد. ولا يضر أو ينفع غيره أحد.
ولا يتم شيء في هذا الوجود صغيراً كان أو كبيراً إلا ما يأذن به ويرضاه.
وليس هناك شركاء في العبادة يتجه إليهم الناس. لا عبادة الشعائر ولا عبادة الخضوع والدينونة. فلا عبادة إلا لله. ولا طاعة إلا لله ولمن يعمل بأمره وشرعه، فيتلقى سلطانه من هذا المصدر الذي لا سلطان إلا منه.
فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد.. من الله.. فهذا هو معنى الإيمان بالله.. ومن ثم ينطلق الإنسان حراً إزاء كل من عدا الله، طليقاً من كل قيد إلا من الحدود التي شرعها الله، عزيزاً على كل أحد إلا بسلطان من الله.
«وَمَلائِكَتِهِ» .
والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب، الذي تحدثنا عن قيمته في حياة الإنسان في مطلع السورة- في الجزء الأول من الضلال- وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني وبذلك يعلن «إنسانيته» بخصائصها المميزة «1» .. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب- كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب «2» .
والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له.. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان- وهو فاطره وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها- ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن باله ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا حقائق الغيب
__________
(1) يراجع الجزء الأول ص 39- 40
(2) يراجع كتاب: منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب. فصل: «خطوط متقابلة في النفس البشرية» ؟ «دار الشروق» . [.....](1/341)
من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات! وفضلاً على ذلك كله فإن الإيمان بحقيقة الملائكة- شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله- يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه- وهو ضئيل- كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله تشاركه إيمانه بربه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير- بإذن الله- وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك.. ثم هنالك المعرفة: المعرفة بهذه الحقيقة وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته..
«وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» .. «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» .
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام. فالإيمان بالله يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين يبعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم.. ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم. فكلهم جاء من عند الله بالإسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين- محمد صلى الله عليه وسلم- فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة.
وهكذا تتلقى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله وتقوم على دين الله في الأرض، وهي الوارثة له كله ويشعر المسلمون- من ثم- بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى يوم القيامة. فهم الحراس على أعز رصيد عرفته البشرية في تاريخها الطويل. وهم المختارون لحمل راية الله- وراية الله وحدها- في الأرض، يواجهون بها رايات الجاهلية المختلفة الشارات، من قومية ووطنية وجنسية وعنصرية وصهيونية وصليبية واستعمارية وإلحادية.. إلى آخر شارات الجاهلية التي يرفعها الجاهليون في الأرض، على اختلاف الأسماء والمصطلحات واختلاف الزمان والمكان.
إن رصيد الإيمان الذي تقوم الأمة المسلمة حارسة عليه في الأرض، ووراثة له منذ أقدم الرسالات، هو أكرم رصيد وأقومه في حياة البشرية. إنه رصيد من الهدى والنور، ومن الثقة والطمأنينة، ومن الرضى والسعادة، ومن المعرفة واليقين.. وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام، وتعمره الوساوس والشكوك، ويستبد به الأسى والشقاء. ثم يروح بتخبط في ظلماء طاخية، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب! وصرخات القلوب التي حرمت هذا الزاد، وحرمت هذا الأنس، وحرمت هذا النور، صرخات موجعة في جميع العصور «1» .. هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين. فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة، فقد لا تحس هذه اللهفة ولا يؤرقها الشوق إلى المعرفة.. ومن ثم تمضي
__________
(1) يقول عمر الخيام:
أحس في نفسي دبيب الفناء ... ولم أصب في العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولم ... يتح لفكري حل لغز القضاء
تروح أيامي ولا تغتدي ... كما تهب الريح في الفدفد
وما طويت النفس هما على ... يومين: أمس المنقضي والغد(1/342)
في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع. وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش، وتنشر الفساد في الأرض.. ثم تمضي ملعونة من الله ملعونة من الناس! والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة- ولو غرقت في الرغد المادي- خاوية- ولو تراكم فيها الإنتاج- قلقة- ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي- وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان! والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، ويعرفون أنهم صائرون إليه، فيطلبون مغفرته من التقصير:
«وَقالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، غُفْرانَكَ رَبَّنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .
ويتجلى في هذه الكلمات أثر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. يتجلى في السمع والطاعة، السمع لكل ما جاءهم من عند الله، والطاعة لكل ما أمر به الله. فهو إفراد الله بالسيادة كما ذكرنا من قبل، والتلقي منه في كل أمر. فلا إسلام بلا طاعة لأمر الله، وإنفاذ لنهجه في الحياة. ولا إيمان حيث يعرض الناس عن أمر الله في الكبيرة والصغيرة من شؤون حياتهم أو حيث لا ينفذون شريعته، أو حيث يتلقون تصوراتهم عن الخلق والسلوك والاجتماع والاقتصاد والسياسة من مصدر غير مصدره. فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ومع السمع والطاعة.. الشعور بالتقصير والعجز عن توفية آلاء الله حق شكرها وفرائض الله حق أدائها.
والالتجاء إلى رحمة الله لتتدارك تقصيرهم وعجزهم بسماحتها:
«غُفْرانَكَ رَبَّنا» ..
ولكن طلب الغفران إنما يجيء بعد تقديم الاستسلام وإعلان السمع والطاعة ابتداء بلا عناد أو نكران..
وإنما يعقبه كذلك اليقين بأن المصير إلى الله. المصير إليه في الدنيا والآخرة. المصير إليه في كل أمر وكل
غد بظهر الغيب واليوم لي ... وكم يخيب الظن في المقبل
ولست بالغافل حتى أرى ... جمال دنياي ولا أجتلي
سمعت في حلمي صوتا أصاب ... ما فتق النوم كمام الشباب
أفق فإن النوم صنو الردى ... واشرب فمثواك فراش التراب
سأنتحي الموت حثيث الورود ... ويمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا منى خاطري ... فغاية الأيام طول الهجود
ويقول الجامعة بن داود في «العهد القديم» :
باطل الأباطيل. الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي ودور يجيء. والأرض قائمة إلى الأبد. الشمس تشرق والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب، وتدور إلى الشمال. تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة. كل الكلام يقصر، ولا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل. العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلى من السمع. ما كان فهو يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع. فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له: انظر، هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين. والآخرون أيضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم..» .(1/343)
عمل. فلا ملجأ من الله إلا إليه ولا عاصم من قدره، ولا مرد لقضائه ولا نجوة من عقابه إلا برحمته وغفرانه:
«وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .
وهذا القول يتضمن الإيمان باليوم الآخر- كما رأينا- والإيمان باليوم الآخر هو أحد مقتضيات الإيمان بالله وفق التصور الإسلامي، الذي يقوم على أساس أن الله خلق الإنسان ليستخلفه في الأرض بعهد منه وشرط، يتناول كل صغيرة وكبيرة من نشاطه في هذه الأرض وأنه خلقه واستخلفه ليبتليه في حياته الدنيا، ثم ينال جزاءه بعد نهاية الابتلاء.. فاليوم الآخر والجزاء فيه حتمية من حتميات الإيمان وفق التصور الإسلامي.. وهذا الإيمان على هذا النحو هو الذي يكيف ضمير المسلم وسلوكه، وتقديره للقيم والنتائج في هذه العاجلة. فهو يمضي في طريق الطاعة، وتحقيق الخير، والقيام على الحق والاتجاه إلى البر سواء كانت ثمرة ذلك- في الأرض- راحة لم أم تعباً. كسباً له أم خسارة. نصراً له أم هزيمة. وجداناً له أو حرماناً. حياة له أو استشهاداً.
لأن جزاءه هناك في الدار الآخرة بعد نجاحه في الابتلاء، واجتيازه للامتحان.. لا يزحزحه عن الطاعة والحق والخير والبر أن تقف له الدنيا كلها بالمعارضة والأذى والشر والقتل.. فهو إنما يتعامل مع الله وينفذ عهده وشرطه وينتظر الجزاء هناك! إنها الوحدة الكبرى. طابع العقيدة الإسلامية. ترسمه هذه الآية القصيرة: الإيمان بالله وملائكته. والإيمان بجميع كتبه ورسله، بلا تفريق بين الرسل، والسمع والطاعة، والإنابة إلى الله. واليقين بيوم الحساب.
إنه الإسلام. العقيدة اللائقة بأن تكون ختام العقائد، وآخر الرسالات. العقيدة التي تصور موكب الإيمان الواصب من مبتدى الخليقة إلى منتهاها. وخط الهداية المتصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً. المتدرج بالبشرية في مراقي الصعود. الكاشف لها عن الناموس الواحد بقدر ما تطيق: حتى يجيء الإسلام، فيعلن وحدة الناموس كاملة، ويدع للعقل البشري التفصيل والتطبيق.
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنساناً، لا حيواناً ولا حجراً، ولا ملكاً ولا شيطاناً. تعترف به كما هو، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة.. ثم تحمل الإنسان- بعد ذلك- تبعة اختياره للطريق الذي يختار:
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض وفي ابتلائه في أثناء الخلافة وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف. ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدراً، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه. ومن شأن هذا التصور- فضلاً عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس- أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهمّ همة جديدة للوفاء، ما دام داخلا في مقدوره! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته(1/344)
وإرادته فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه.
ثم الشطر الثاني من هذا التصور:
«لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» .
فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت.. فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه. فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد..
ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها- حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق. وتقف كل إنسان مدافعاً عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد. فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها- وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعوراً وسلوكاً- فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان- إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئاً من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر.. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفرداً وحيداً! ولا خوف من هذه الفردية- في هذا المقام- فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفاً من حق الله في نفسه. فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر.. وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فرداً فيتلقى هنالك جزاءه! وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها.. فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء:
«رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا، وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه.. كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح..
«رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه. وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح. وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم أو الزيغ عن عمد وقصد.. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته.. إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب.. وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما(1/345)
استكرهوا عليه» «1» .
«رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» ..
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم- كما علمهم ربهم في هذا القرآن- بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم. فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم. وفي آية الأنعام: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» «2» .. وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيراً عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة. وحرم عليهم «السَّبْتِ» أن يبتغوا فيه تجارة أو صيداً.. وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالاً كالتي حملها على الذين من قبلهم، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة: «إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» .. فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة، هينة لينة، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة، وقيل للرسول- صلى الله عليه وسلم- «وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» .
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه.. هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر. عبودية العبد للعبد. ممثلة في تشريع العبد للعبد. وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه.. فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده، وتلقي الشريعة منه وحده.
وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد! إن العبودية لله وحده- متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده- هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري. الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة. ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار.
ودعاء المؤمنين: «وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق.
«رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» ..
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام. فالمؤمنون لا ينوون نكولاً عن تكليف الله أياً كان. ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون. كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه.. وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم.. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير. ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف.
وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير.
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور:
«وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا» .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان. فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء. ومن
__________
(1) رواه الطبراني وغيره.
(2) سورة الأنعام آية 146.(1/346)
رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران.. عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» .. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته» «1» .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن: عمل بكل ما في الوسع. وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز.. ورجاء- بعد ذلك- في الله لا ينقطع. وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح.
وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» .. يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده. إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين:
«أَنْتَ مَوْلانا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» ..
إنه الختام الذي يلخص السورة. ويلخص العقيدة. ويلخص تضور المؤمنين، وحالهم مع ربهم في كل حين..
__________
(1) أخرجه البخاري.(1/347)
(3) سورة آل عمران مدنيّة وآياتها مائتان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة. هو روحها وباعثها. وهو قوامها وكيانها. وهو حارسها وراعيها.
وهو بيانها وترجمانها. وهو دستورها ومنهجها. وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة- كما يستمد منه الدعاة- وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق..
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن. طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة «الإنسان» بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه- مع هذا- يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ويتنزل القرآن(1/348)
حينئذ ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة: مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءهما كذلك..
أجل.. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ونتمثلها في بشريتها الحقيقية، وفي حياتها الواقعية، وفي مشكلاتها الإنسانية ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة. وهي تعثر وتنهض. وتحيد وتستقيم. وتضعف وتقاوم. وتتألم وتحتمل. وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة، وفي صبر ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى. وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا. وسنحس أنه معنا اليوم وغدا. وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهوّمة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته. الكون كتاب الله المنظور. والقرآن كتاب الله المقروء. وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع كما أن كليهما كائن ليعمل.. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه. الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها، والقمر والأرض، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني..
والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية، وما يزال هو هو. فالإنسان ما يزال هو هو كذلك. ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان- فيمن خاطبهم الله به. خطاب لا يتغير، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات «1» .. والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا، بما أنه خطاب الله الأخير وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا: هذا نجم قديم «رجعي؟» يحسن أن يستبدل به نجم جديد «تقدمي!» أو أن هذا «الإنسان» مخلوق قديم «رجعي» يحسن أن يستبدل به كائن آخر «تقدمي» لعمارة هذه الأرض!!! إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن. خطاب الله الأخير للإنسان.
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد «غزوة بدر» - في السنة الثانية
__________
(1) يراجع كتاب معركة التقاليد لمحمد قطب. «دار الشروق» .(1/349)
من الهجرة- إلى ما بعد «غزوة أحد» في السنة الثالثة. وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية. وفعل القرآن- إلى جانب الأحداث- في هذه الحياة، وتفاعله معها في شتى الجوانب.
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة. مع استبطان السرائر والضمائر، وما يدب فيها من الخواطر، وما يشتجر فيها من المشاعر، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها. ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له- كما تراءت لي- شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية، بسماتها الظاهرة على الوجوه، ومشاعرها المستكنة في الضمائر. ومن حولها أعداؤها يتربصون بها، ويبيتون لها، ويلقون بينها بالفرية والشبهة، ويتحاقدون عليها، ويجمعون لها، ويلقونها في الميدان، وينهزمون أمامها- في أحد- ثم يكرون عليها فيوقعون بها.. وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة.. والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس، ويبطل الفرية والشبهة، ويثبت القلوب والاقدام، ويوجه الأرواح والأفكار، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور..
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان، وقيد الظروف والملابسات، تواجه النفس البشرية، وتواجه الجماعة المسلمة- اليوم وغدا- وتواجه الإنسانية كلها، وكأنها تتنزل اللحظة لها، وتخاطبها في شأنها الحاضر، وتواجهها في واقعها الراهن. ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة.. بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور.
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان. وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل. وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون.. ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور..
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض «سورة البقرة» «1» .
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش. وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة.. ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه- صلى الله عليه وسلم- وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم وأن ينضم- منافقا- للجماعة المسلمة، وهو يقول: «هذا أمر قد توجه» .. أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يردّه عنها راد!
__________
(1) ص 27- ص 35 من الجزء الأول.(1/350)
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة- أو تمت وأفرخت، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام- وأصبحت مجموعة من الرجال، ومن ذوي المكانة فيهم، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام، والانضمام إلى المجتمع المسلم، بينما في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين وتتربص بهم الدوائر وتتلمس الثغرات في الصف وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم، ليظهروا كوامن صدورهم، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم! وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين، وعلى نبي الإسلام- عليه الصلاة والسلام- مثل ما يجد المنافقون بل أشد. وقد هدّدهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين «الْأُمِّيِّينَ» من العرب في المدينة وسدّ عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج، بعد ما أصبحوا بنعمة الله إخوانا، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا.
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين، ونشر الشبهات والشكوك، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء! وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر.. على الرغم مما كان بين اليهود والنبي- صلى الله عليه وسلم- من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة.
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد- صلى الله عليه وسلم- ومعسكر المدينة، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا.
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة. غير متناسق تماما. فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد. والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه.
كان للمنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أبي- مكانتهم في المجتمع، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها. ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف، مؤثرة في مقاديره. (كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة) .
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها. ولم يتبين عداؤهم سافرا. ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة. وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به. وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي- صلى الله عليه وسلم- أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع، وإغلاظه في هذا للرسول- صلى الله عليه وسلم-) .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل. فقد(1/351)
خرج ذلك العدد القليل من المسلمين، غير مزودين بعدة ولا عتاد- إلا اليسير- فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم. ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر.
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله. ندرك اليوم طرفا من حكمته. ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها. بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة، لتأخذ بعد ذلك طريقها.
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم- من هذا النصر- أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره. وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق! أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين! غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس، وتكوين الصفوف، وإعداد العدة، واتباع المنهج، والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان.. وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في «غزوة أحد» على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء.
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء- على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه- وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم.. كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته- صلى الله عليه وسلم- الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين! ويسبق استعراض «غزوة أحد» وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1- 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات. فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة. وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها.
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه. وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب.
وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود.
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بين(1/352)
العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها.. وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها، ويتحفزون من حولها، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل. وفي أولها زعزعة العقيدة! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها.. إنهم هم هم: الملحدون المنكرون، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية!!! ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك والأهداف هي الأهداف. ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة، ومرجع هذه الأمة- اليوم وغدا- كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى. وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ويخدع نفسه أو يخدع الأمة، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم! ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة، ممثلا في أمثال هذه النصوص:
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ... » ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ؟» ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ... ؟» ..
«وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ..» ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟» ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» ..
«وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ! ..» ..
«وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ! وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ- وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ- وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ..
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ» ..
«قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟» .
«ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» ..
«إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» ..(1/353)
وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب.. إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها. كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك، ونثر الشبهات وتدبير المناورات! كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها، ومنها قام وجودها، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين. ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما- أن هذه الأمة لا تؤتي إلا من هذا المدخل ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده.
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة.
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة. وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة، لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها، ملتزمة بمنهجها، مدركة لكيد أعدائها.. ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور! وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة، والتشكيك فيها، والتوهين من عراها، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة. ولكن لنفس الغاية القديمة: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ!!!» ..
فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة! لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا.. كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية.
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين، ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة، وأهدافهم الخطرة، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين، لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم..
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود. فيبين لها هزال أعدائها، وهوانهم على الله، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء. كما يبين لها أن الله معها، وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك. وأنه سيأخذ الكفار (وهو تعبير عنا عن اليهود) بالعذاب والنكال كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب.
وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ» ..
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ»(1/354)
فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب. قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار» ..
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» ..
«قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
«لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» ..
«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» ..
«أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ... » ..
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ. لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور:
أولها: ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها، وعمق الكيد وتنوع أساليبه، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها.
وثانيها: ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب.
وثالثها: هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة. من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة(1/355)
وأصحابها في الأرض كلها وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها. ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين! أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد. وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية. وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق. إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع، والخواطر والمشاعر، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد.
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة. فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته- في مجال المعركة والحديد ساخن! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض. مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة. ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية.
وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة..
ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع (من الظلال) فلنرجئ الحديث عنه إلى هذا الجزء (إن شاء الله) ..
ونمضي إلى ختام السورة- بعد فصل غزوة أحد- فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون (كتاب الله المنظور) وإيحاءاته للقلوب المؤمنة.. ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ... » ..
وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه. وخشوع القلب وتقواه.
ثم تجيء الاستجابة من الله- سبحانه- فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله:
«فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ... » .. وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها.
ثم يذكر أهل الكتاب- الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول- ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم. فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا ... » .
وتختم السورة بدعوة المسلمين- بإيمانهم- إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .. وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا..(1/356)
ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها، تتناثر نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد..
أول هذه الخطوط بيان معنى «الدِّينَ» ومعنى «الْإِسْلامُ» .. فليس الدين- كما يحدده الله- سبحانه- ويريده ويرضاه- هو كل اعتقاد في الله.. إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه- سبحانه- صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية.
وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء لا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى.
ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو «الإسلام» وهو في هذه الحالة: الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد.. الإسلام.. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يتلقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل.. كل في زمانه.. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء.
ويتكئ سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ..
نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» .. «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا..» .. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. «قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ..» .. «قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..
«قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ، آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. «قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .. «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ؟» .. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» .. وغيرها كثير..
فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق.. ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل:
«وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا- وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ- رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. «الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» .. «قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنا»(1/357)
«آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» .. «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» .
«وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» .. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ! فَقِنا عَذابَ النَّارِ. رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» ..
وغيرها كثير..
والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون منهجه في الحياة.. وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة، وهذه نماذج من هذا الخط العريض:
«لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ- إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً- وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قُلْ. إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ... » إلخ.. «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا ... » إلخ.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ... » إلخ.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» .. «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» .. وغيرها كثير..
وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة، في تقرير التصور الإسلامي، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه.(1/358)
والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء.. لقد نزلت في معمعان المعركة. معركة العقيدة، ومعركة الميدان. المعركة في داخل النفوس، والمعركة في واقع الحياة.. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب، من الحركة والتأثير والإيحاء..
فلنمض إذن لنواجه نصوص السورة في سياقها الحي القوي الأخاذ الجميل..(1/359)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)(1/360)
إذا أخذنا بالروايات التي تقول: إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن، ومناظرته للرسول- صلى الله عليه وسلم- في أمر عيسى عليه السلام، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة. لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم «عام الوفود» حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها- وفيما وراءها كذلك- جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي- صلى الله عليه وسلم- تخطب وده، أو تعرض التعاهد معه، أو تستجلي حقيقة أمره.
ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات، وطريقة علاجها له، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة.. ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت.. نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة.
ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ «1» .
على أن هذه النصوص- كما قلنا في التمهيد للسورة- تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم.. هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام- وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها- والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً.
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور. ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع- وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام.
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات.
وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب! وبيان لحال المؤمنين
__________
(1) يذكر الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه القيم: (سيرة الرسول: صورة مقتبسة من القرآن الكريم) أنه «يستفاد من الروايات أن هذا الوفد قد قدم إلى المدينة في الربع الأول من الهجرة» ولا أدري إلى أي الروايات استند في تحديد هذا التاريخ. فكل الروايات التي رجعت إليها تحدد العام التاسع أو لا تذكر إلا قصة وفد نجران مع بقية الوفود (ومعروف أن عام الوفود هو العام التاسع) .
نعم ذكر ابن كثير في التفسير احتمال أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ولم يقل علام استند في هذا الاحتمال، ولم يحدد رواية عن السلف يستند إليها في هذا الاحتمال.
وعلى أية حال. فإن احتمال نزول هذه الآيات في وفد نجران متعلق باحتمال أن الوفد قدم قبل الحديبية. فإذا صح هذا صح ذلك.
أما إذا اعتمدنا الروايات الكثيرة عن توقيت قدوم وفد نجران عام الوفود في السنة التاسعة، فإننا نجد أنفسنا مضطرين للفصل بين هذه الآيات والمناسبة التي تذكر الروايات أنها نزلت فيها.(1/362)
مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله. وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه: فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك! «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» ...
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» .
«شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ- وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ- قائِماً بِالْقِسْطِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..
«إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ. بَغْياً بَيْنَهُمْ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» ..
كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود. وذلك في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .. فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود! وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... » إلخ. فالغالب أن المقصود به هم اليهود. وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً. فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود، فنهوا عن ذلك كله، وحذروا هذا التحذير العنيف.
سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين. فكلهم سماهم «الْكافِرِينَ» ! وظاهر أن قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ... » إلخ. تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود. وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لما أصاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً، قالوا: يا محمد: لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى في ذلك: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ..- إلى قوله: - «فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- أي ببدر- وَأُخْرى كافِرَةٌ» .. (أخرجه أبو داود) .
كذلك يبدو من التلقين الموجه للرسول- صلى الله عليه وسلم- في آية: «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ- وَمَنِ اتَّبَعَنِ- وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» .. أنه وإن كان هذا التلقين في صدد مناقشة حاضرة، إلا أنه تلقين عام شامل، ليواجه به النبي- صلى الله عليه وسلم- كل المخالفين له في العقيدة.
وظاهر من قوله تعالى: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حتى ذلك الحين لم يكن مأموراً بقتال أهل الكتاب، ولا بأخذ الجزية منهم، مما يرجح ما ذهبنا إليه من نزول هذه الآيات في وقت مبكر.(1/363)
وهكذا نرى من طبيعة النصوص أنها مواجهة عامة غير مقيدة بمناسبة واحدة، هي مناسبة وفد نجران. وقد تكون هذه إحدى المناسبات التي نزلت هذه النصوص لمواجهتها. وهي المناسبات الكثيرة المكررة في الصراع بين الإسلام وخصومه المتعددين في الجزيرة.. وبخاصة اليهود في المدينة..
ثم يتضمن هذا الدرس الأول إيضاحات قوية لأسس التصور الإسلامي من ناحية العقيدة، وإلى جانبها إيضاحات قوية كذلك في طبيعة هذه العقيدة وآثارها في الحياة الواقعية. هذه الآثار الملازمة للإيمان بها.
فهي عقيدة التوحيد لله. ومن ثم تجعل الدين هو الإسلام لله. ولا دين سواه.. الإسلام بمعنى الاستسلام والطاعة والاتباع. الاستسلام لأمره، والطاعة لشرعه، والاتباع لرسوله ومنهجه. فمن لم يستسلم ويطع ويتبع فليس بمسلم، ومن ثم فليس بصاحب دين يرضاه الله. فالله لا يرضى إلا الإسلام. والإسلام- كما قلنا- الاستسلام والطاعة والاتباع.. ومن ثم يرد التعجيب والتشهير بأهل الكتاب الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. ويعتبر الإعراض عن تحكيم كتاب الله علامة الكفر التي تنفي دعوى الإيمان. الإيمان بالله على الإطلاق! والمقطع الثاني في هذا الدرس يدور كله حول هذه الحقيقة الكبيرة..
فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة:
1- «ألم» ..
هذه الأحرف المقطعة: ألفْ. لام. ميم. نختار في تفسيرها- على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة: «إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله ... إلخ» «1» ..
وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور- على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه «الإشارة» في شتى السور. ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... إلخ» ..
فأما هنا في سورة «آل عمران» فتبدو مناسبة أخرى لهذه «الإشارة» .. هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو. وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب- المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة.
2- «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ»
__________
(1) ص 14- 15 الجزء الأول.(1/364)
من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام.
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله- وما يعلم تأويله إلا الله- والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا- وما يذكر إلا أولو الألباب- ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد» ..
هكذا تبدأ السورة في مواجهة أهل الكتاب المنكرين لرسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- وهم بحكم معرفتهم بالنبوات والرسالات والكتب المنزلة والوحي من الله، كانوا أولى الناس بأن يكونوا أول المصدقين المسلمين.
لو أن الأمر أمر اقتناع بحجة ودليل! هكذا تبدأ السورة في مواجهتهم بهذا الشوط القاطع، الفاصل في أكبر الشبهات التي تحيك في صدورهم، أو التي يتعمدون نثرها في صدور المسلمين تعمداً. والكاشف لمداخل هذه الشبهات في القلوب ومساربها.
والمحدد لموقف المؤمنين الحقيقيين من آيات الله وموقف أهل الزيغ والانحراف! والمصور لحال المؤمنين من ربهم والتجائهم إليه، وتضرعهم له، ومعرفتهم بصفاته تعالى:
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ..
وهذا التوحيد الخالص الناصع هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد، سواء منها عقائد الملحدين والمشركين، وعقائد أهل الكتاب المنحرفين: يهوداً أو نصارى. على اختلاف مللهم ونحلهم جميعاً. كما أنه هو مفرق الطريق بين حياة المسلم وحياة سائر أهل العقائد في الأرض. فالعقيدة هنا تحدد منهج الحياة ونظامها تحديداً كاملاً دقيقاً.
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. فلا شريك له في الألوهية.. «الْحَيُّ» .. الذي يتصف بحقيقة الحياة الذاتية المطلقة من كل قيد فلا شبيه له في صفته.. «الْقَيُّومُ» .. الذي به تقوم كل حياة وبه يقوم كل وجود والذي يقوم كذلك على كل حياة وعلى كل وجود. فلا قيام لحياة في هذا الكون ولا وجود إلا به سبحانه.
وهذا مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. ومفرق الطريق في الحياة والسلوك.
مفرق الطريق في التصور والاعتقاد. بين تفرد الله- سبحانه- بصفة الألوهية وذلك الركام من التصورات الجاهلية: سواء في ذلك تصورات المشركين- وقتها في الجزيرة- وتصورات اليهود والنصارى- وبخاصة تصورات النصارى.
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم كانوا يقولون: عزيز ابن الله. كما أن الانحراف الذي سجله ما يعتبره اليهود اليوم «الكتاب المقدس» يتضمن شيئاً كهذا. كما جاء في سفر التكوين: الإصحاح السادس «1» .
__________
(1) «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم» .(1/365)